ثمن المجْد

لم يكن من طبيعتها الزهو والمباهاة، ولكنها تشعر الليلة بين لِداتها وصواحبها أنها قد بلغت مرتبة من حقها أن تُزهى بها وتفتخر، إنها الليلة خطيبة «سامي»، وهذا خاتم الخطبة في إصبعها يزهو ويتألق شعاعه، وأيُّ صواحبها لم تعرف سامي أو تسمع به، وإنه من الشهرة وذيوع الصيت حديثُ كلِّ فتًى ونجوى كل فتاة.

وراحت «رشيدة» تخطر بين رفيقاتها تتقبَّل التهاني وتوزع الابتسامات مغتبطة سعيدة، لا تكاد تستقر على مقعد من خفة الفرح ونشوة المسرة …

… ثم انفضَّ السامر وخلت رشيدة إلى نفسها تحلم بما كان وبما سيكون وتتهيأ لليوم السعيد المنتظر.

فتى في ربيع العمر، لم يفتنه الشباب ولم يُبطره الغنى، تطلَّع إلى أمل بعيد فمضى يشق الطريقَ إليه في عزم وقوة، وبلغ، وبرز اسمه في الطليعة من أدباء الجيل ولم يزل في أول الطريق، وذاع اسمه كما ينفذ شعاع الصبح فتكتحل كلُّ عين من نوره ويصحو كل نعسان، وشدتِ القماريُّ بأغانيه في الرياض، وهتفت به العذارى في خلواتهن، وتغنَّى الفتيان …

ودق الجرس ذات مساء في دار رشيدة وجاء سامي يخطبها … وتوافد لداتها وصواحبها يهنئنها ويتمنين لها الأماني …

وراحت تتخيَّل نفسها إلى جانبه يمشيان ذراعًا إلى ذراع تحدثه ويُصغي إليها والناس تهتف باسمها واسمه، والعيون تتبعهما حيث يتنقَّلَان من روض إلى روض في طريق مفروش بالزهر، والأصابع تشير إليهما في همس …

ولذَّها الحلم السعيد فطارت بغير جناح تحلِّق في أودية المنى سَكرى.

وتتابعتْ على عينيها صور، وأفاقت من سكرتها مذعورةً لصورة عَرضتْ، وتخيلته في بعض لياليه يحفُّ به فتياتٌ يسألنه فيجيب، وفي عيونهن معانٍ وفي عينيه مثلها؛ وهل يمكن أن تخلو حياةُ فنانٍ نابهٍ من مثل ذلك؟ هكذا سألت نفسها فلذعتها الغيرة وما رأتْ بعينين ولا سمعت بأذنين، ومضت تُسائل نفسها: أتُراه — وهو مَن هو — لم يَفتح قلبه لفتاةٍ قبلها ولن يفتحه؟ فكيف؟ ومن أين لها وإن اسمه لحديثٌ على الشفاه ونجوى في القلوب …؟ أم تُراه يَفي لها ويُخلص لها الحبَّ فلا يغلبها على قلبه أحد …؟!

وابيضَّت ذؤابة الليل وما تزال أحلام اليقظة تراوح بين جنبيها في الفراش!

ومضتْ ليالٍ، وأنستْ رشيدة إلى فتاها وأنسَ بها، وتتابع اللقاء بينهما في الحلم حينًا وفي اليقظة، وتكاشفا نَفسًا لنفس، فاطمأنَّت وزال ما كان يساورها مِن همٍّ، واسترسلت في أحلام السعادة وأوهام المجد، وهي تُحصي ما بقي من أيامها حتى يكون لها.

وجاء اليوم الموعود وزُفَّت رشيدةُ إلى سامي …

«يا هناها!»

تلك كانت أغنية كلِّ صواحبها، أتُراها كانت تستمع إليهن مغنيات؟

أما هو فكان من شأنه في شُغل عما يتحدث به الناس. لقد وجد الاستقرار والراحة منذ وجد رشيدة، فانصرف إلى غايته دائبًا لا يشغله من شئون الحياة والأحياء إلا فنه والأملُ الذي يتطلع إليه من بعيد.

وأما هي فأين …؟ أين أحلامها التي كانت تداعبها في اليقظة وتلمُّ بها في المنام؟

هذا عام مضى منذ دخل سامي في حياتها وشاركته في داره، فماذا تحقق من أمانيها وماذا بقي؟ وماذا يُجدي عليها صيته ومجده وشهرته وإنها لحبيسةُ الدار لا تتحدَّث إلى أحد ولا يتحدث إليها أحد، وزوجها الذي خلق لها دنيا عريضةً من الأوهام والأماني حبيسٌ في غرفته مُكبٌّ على أوراقه ودفاتره؟

هذه الصحف التي تتحدث عنه، وهذه الكُتب التي تصدر باسمه، وتلك الجماعات التي تقوم لمذهبه وتدعو دعوته … كلُّ هذه وهمٌ وخداع وتلبيس على الحقيقة. لقد حسبتْ يومًا أنها ستكون أسعدَ زوجة فيمن تعرف من صواحبها؛ لأن هذه الأوهام المكتوبة كانت تُخيل لها وتخدعها عن الحقيقة. أما اليوم فوا أسفا! لقد عرفتْ ما كانت تنكر، وأدركتْ ماذا تدفع من هناءتها الزوجية ثمنًا لذلك المجد الذي كان يتخايل لعينيها شعاعه!

إنه ليحبها وإنها … ماذا؟ نعم، لقد كانت تحبه يومًا، ما في ذلك شك؛ أما اليوم … آه! ليتها تستطيع أن تقول …! بل ليتها تستطيع أن تعرف …!

إنها لتحس في بعض الأحايين أنها تكرهه، شوقًا إليه … ما أعجب هذا الإحساس الذي يطرأ عليها حينًا بعد حين فإذا هي منه في غمرة من الشك والقلق لا تدري معها أهي تحبه أم تبغضه …!

ليتها تستطيع أن تعرف ما الحب وما البغض! أهما معنيان متناقضان أم اسمان لمعنى …؟

وليتها تعرف ما الحقيقة! أهي شيء واحد أم شيئان، ولونٌ واحدٌ أم ألوان؟

إنه هو هو، وإنها هي هي؛ لم يتغير شيءٌ منها ولم يتغير شيء منه، ولم يزل هو كلَّ شيء في حياتها ولم تزل؛ فما بال تلك الأشياء التي كانت تحببه إليها يومًا هي هي التي تبغِّضه إليها اليوم؟

إن الباطل الصراح أحبُّ إلى النفس من الحقيقة المتلونة!

واحتوَشتها الأفكارُ فلم تعرف ماذا تأخذ منها وماذا تدع، فأطرقتْ وأرسلت عينيها؛ وكان سامي في غرفته يكتب قصة الشاعر الذي يهتف منذ الدهر القديم:

تمنيتُ من حبي «عُليةَ» أننا
على رَمثٍ في البحر ليس لنا وَفرُ
على دائمٍ لا يَعبر الفلكُ مَوجهُ
ومِن دوننا الأهوالُ واللجج الخضرُ
فنقضيَ همَّ النفس في غيرِ رِقبةٍ
ويُغرقَ مَنْ نخشى نميمته البحرُ!

وكانت «علية» — فيما كتب سامي من قصتها وقصة صاحبها الشاعر — تشارك صاحبها في أمنيته، فهي ترجو أن يلتقيا منفردين على فلك في البحر المائج، ليس معهما وفر من مالٍ أو من زاد، ليقضيا همَّ النفس بعيدين عن أعين الرقباء والسعاة بالنميمة … والتقى العاشقان على ما تمنيا، منفردين على رَمثٍ في البحر ليس لهما وفر، فلما حال الموج بينهما وبين الناس، وأحسا حاجةَ الحي إلى أسباب الحياة، أنشدتْ «عليةُ» صاحبها شعرًا من شعرها تتمنى فيه لو ضمها وحبيبها قصر، وأظلتهما الخمائلُ الخضر، وكان لها وله وفر، ولا عليها بعد ذلك أن يَبغتهما الرقباءُ أو يسعى بهما سُعاةُ الشر …!

… وفرغ سامي من قصته بعد هَدأة من الليل، فبسط أوراقه تحت عينيه والمصباح وراح يقرأ، وأعجبه ما صَنع، فهتف: «رشيدة، تعالي اسمعي!»

وماذا يجدي عليه رضا الناس إذا لم ترضَ رشيدة؟ ولكن رشيدة كانت مطوية على نفسها في الفراش تبكي، ودنا منها، فجففت دموعها واعتلتْ؛ وجلس على حافة الفراش محزونًا أسوان يسألها عن علتها، وما كانت علتها شيئًا غيره.

وطوى أوراقه صامتًا، وأوى إلى الفراش منكسرًا ذليلًا، وأصبح كما يصبح كل يوم، وكما أمسى، وأصبحتْ كما أمست!

وجاءتها صديقتها «سعاد» لزيارتها، وما زارتها في بيت زوجها قط، وخلت رشيدة إلى صديقة صباها تحدثها وتستمع إليها، وخلا سامي إلى نفسه يعمل …

وقالت سعاد: «وإني لأسمع عنك وأعرف، فيسُرني هناؤك، وإنك لحقيقةٌ بما نلتِ من السعادة بزوجك!»

وابتسمت رشيدةُ وسكتتْ.

ونهضت الزائرةُ فشيَّعتها صديقتها على ميعاد.

وذهبت رشيدة لترد الزيارة لصاحبتها، ولقيتها سعادُ في غلائلَ وشفوفٍ وجلوة عروس، وأحسنت استقبالها، ثم ودعتها لحظةً لتخرج إلى زوجها فتسرَّ إليه حديثًا، وعادت، وأحستْ رشيدةُ أن صديقتها في شُغل، فأوجزتْ، وسألتها: «أرجو ألا يكون في زيارتي ما يشغلك عن شيء!»

فابتسمت سعاد وأجابت: «ليس شيئًا ذا بال؛ كنا عَلى أن نشهد معًا رواية جديدة في السينما، فطلبتُ إليه أن يذهب وحده إذا أراد؛ لقد كنت في السينما أمس، وأمس الأول …!»

وغمغمت رشيدةُ بكلام لا يبين، ثم أطرقتْ. أتُراها كانت تحدِّث نفسها أم تحدث مُضيفتها؟ وماذا كان في نفسها من حديث؟

وخففتْ فنهضتْ وفي قلبها حسرة، وفي صدرها غيرة، وفي رأسها فكر!

وقالت سعاد لزوجها وقد ذهبت رشيدة: «هي زوجة سامي!»

واستطردت فخورًا: «إنها صديقتي منذ الطفولة. ألست تعرف سامي …؟ قُل لي: لماذا لا تحاول أنت شيئًا مما يحاوله؟ لقد بلغ مبلغًا بعيدًا، إن له جاهًا وشفاعة … إنني ورشيدة صديقتان، لم نفترق منذ كنا، حتى تزوجتْ، وخطبها على غفلة …!»

… وأدارتْ رشيدةُ مفتاح المذياع وجلست مرتفقة إليه تنتظر دقة الساعة. إن زوجها هناك، وستستمع إلى حديثه بعد لحظات، وما بها شوقٌ إلى أن تستمع إليه، لولا أن صوته في المذياع يردها لحظات إلى ماضيها، أيامَ كانت في بيت أبيها مُسماةً عليه، تلك أيامٌ خَلت، وكان صَوته في تلك الأيام يَلذها ويبعث فيها نشوة … أوه! أين هذه اليقظة من ذلك الحلم؟ أَكُتِب عليها ألا ترى السعادة إلا طيفًا في المنام أو حلمًا في اليقظة!

وتسرحت رشيدة في أوهامها وأحلامها؛ وذكرت ماضيها وحاضرها؛ وتسلسلت خواطرها حلقة بعد حلقة، بعضها ذكريات وبعضها أماني، وتكاثفت أمام عينيها ضبابة دكناء، وتراءى لها من خلل الضبابة أشباح وصور، ورأت نفسها جالسة إلى سامي يحدثها وتحدثه … وكأنما أحس سامي من رشيدة فتورًا وانقباضًا فأهمه ما أحس، وراح يحاول أن يُصلح ما بينه وبينها، وعطف عليها يسألها في رقة عما بها، وانفجرت رشيدة غاضبة باكية، وكشفت الحجاب، ونفضت عليه ما تكظم من الغيظ منذ عام، وطأطأ رأسه يوازن ويقدِّر ويحكم، وبدت له الحقيقة سافرة وانكشف غطاؤها، وآثرها بالرضا فألقى إليها معاذيره.

وتغيَّر سامي منذ اليوم، فأغلق دار كُتبه وأقبل على زوجته، وفي المساء كانا يمشيان ذراعًا إلى ذراع في الطريق.

وصحبها إلى السينما، وسهرا معًا ليالي في الأوبرا، وتعشَّيَا ذات مساء في مطعم، وراقصها على نغمات الموسيقى في الحديقة العامة، وعاد معها إلى الدار ذات ليلة مخمورًا قُبيل الصباح!

ولم تُنكر رشيدة من أمر صاحبها شيئًا، ولم ينكر سامي شيئًا من أمر نفسه، وعرف منذ الليلة التي هجر فيها دار كُتبه أن في الحياة ألوانًا من المسرات لم يذقها بعدُ وقد أوشك أن ينتهي شبابه، فاشتهى وتمنى. وفاءت رشيدة إلى الرضا بعد نفار وسرَّتها حياتها الجديدة، فمضت تطلب المزيد …

… ورأته يمشي إلى جانبها على ضفاف النيل ذات صباح، حين اعترض سبيلهما سربٌ من الفتيات، وقالت إحداهن وأومأت إلى سامي: أئنه لهو! فأحنى رأسه مبتسمًا وأتبعها عينيه، ورفعت رشيدة رأسها مزهوة، ثم عبست غيرَى مرتابة!

ولم تجد رشيدة من نفسها في المساء رغبة في الخروج؛ فخلَّفها في الدار ومضى وحده، وأشرق الصبح قبل أن يعود، وهمَّت رشيدة أن تتكلم فتركها وما تحدِّث به نفسها ومضى إلى فراشه …

وعرف داره من لم يكن يعرف من المعجبين والمعجبات، فكثر زائروه وزائراته، وراح يقتضي الناس ثمنَ إعجابهم بفنه لذائذَ وشهوات!

وتدحرجت الكرة على المنحدر المائل، واستمرت تهوي … وصار أبغضَ شيء إلى سامي أن يجلس إلى كتابٍ أو يتناول قلمًا ساعةً من ساعات الليل أو من ساعات النهار!

… ورأت رشيدة صديقتها سعاد تسألها ذات يوم: «أين سامي؟ منذ بعيد لم نسمع منه أو نقرأ له …!»

وابتسمت رشيدة وسكتت، كشأنها في يوم مضى، ثم أطرقتْ وعضت على شفتها تحاول أن تحبس زفرة … ونهضت الزائرة، وخلت رشيدة إلى نفسها تبكي، وخيَّلت لها أمانيها أنه هناك، في غرفته، يقرأ أو يكتب، وأنه يوشك أن يفرغ من موضوعه فيهتف بها: «رشيدة، تعالي اسمعي …!» كما كان في ليلة منذ ليال، ولكنه لم يفعل؛ لأنه لم يكن هناك …

وانحدرت على خدها الدمعة التي حبستها طويلًا، فانقشعت عن عينيها الضبابةُ الدكناء، وتلاشت الأشباح والصور التي تتابعت على عينيها برهة من خلل الدموع كأنها صور من الحياة الناطقة، ورَنَّت في أذنيها دقاتُ الساعة: تن. تن. واستيقظت، وكانت لم تزل مرتفقةً إلى المذياع تنتظر أن تسمع صوته … ليردها لحظاتٍ إلى ماضيها …

ورنَّ صوته في مسمعيها آتيًا من بعيد، كأنما يخترق الزمان والمكانَ في وقتٍ معًا، وسمعت صوتًا نديًّا رطبًا يتحدث في وداعة ولين كأن بينه وبين كلِّ قلب وترًا يهتز … ولم يكن يتحدث إليها وحدها، ولكنها وجدت بردَ حديثه على قلبها كأنما يتحدث إليها في خلوة، وإنه مع ذلك لبعيدٌ بعيدٌ لا تناله اليد ولا يمتد إليه النظر، ودمعت عيناها دمعةً أخرى وهتفت فرحانة: «يا سامي، عُدْ إليَّ!»

وكأنما استمع سامي إلى ندائها على البعد البعيد، فرنَّت كلماته في أذنيها كأنها جواب النداء حين قال في ختام حديثه: إلى اللقاء!

والتقيا …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤