نزهة في الليل

ساد الوجوم الشياطين الستة … وعندما حضر عم «سرور» بعد لحظات يمسك في يده بضعة مفاتيح ابتسموا له ابتسامة اعتذار … فلم تعد هناك حاجة لها … وقال «أحمد»: هل هذه مفاتيح مكتب «كريم»؟

سرور: نعم.

أحمد: للأسف لم يَعُد لها فائدة، لقد غادر الرجال الثلاثة الذين كنا نتعقبهم بيروت عائدين إلى فرنسا … وأرسل رقم «صفر» تقريرًا يطلب فيه الكف عن متابعة الموضوع كله.

توقَّع الشياطين أن يبدو الضيق على «سرور»، ولكنه بدلًا من ذلك ابتسم قائلًا: قد يعودون!

أحمد: بالطبع … قد يعودون!

سرور: إذن ما المانع أن تقوموا بنزهة ليلية إلى مكتب «كريم» على الأقل ستعرفون نوع النشاط غير العلني الذي يقوم به … وقد تستفيدون منه في المستقبل.

أحمد: معك كل الحق.

وتناول «أحمد» مجموعة المفاتيح وقال «سرور»: واحد منها يفتح المكتب بالتأكيد؛ فقد تعاملت مع هذا النوع من الأقفال من قبل، وأعتقد أنكم لن تجدوا مشكلة في فتح الباب والعودة بجهاز التسجيل الصغير … وحتى لو لم يكن عليه شيء ذو أهمية فلا بدَّ أن نستعيد الجهاز الصغير … فهو من أحدث الأنواع وأكثرها دقة.

أحمد: سنقوم بالنزهة الليلية يا عم «سرور» … وشكرًا لك.

قالت «إلهام»: في هذه الحالة لا بدَّ أن نُرسل تقريرًا إلى رقم «صفر» بما سنفعله، فقد يحدث شيء غير متوقَّع.

أحمد: بالطبع … أرسلي له تقريرًا مفصلًا عن كل ما فعلنا … وعن ضرورة استعادة جهاز التسجيل الصغير.

وقضى الشياطين بقية النهار في عمل روتيني. وكان «بو عمير» قد كتب كل الكلمات التي سمعها في مكتب «كريم»، ليرى مدى مطابقتها لما سيجدُه في جهاز التسجيل كامتحان لقدرته على الاستماع إلى الأحاديث الهامسة.

في الثانية عشرة ليلًا، غادر «بو عمير» و«أحمد» المقر السري. كانا يَرتديان ملابس سوداء وأحذية من المطاط، وتسلَّحا بمسدسين كاتمَين للصوت، ولم ينسيا بالطبع سلسلة المفاتيح التي أعدها «سرور». واستقلا سيارة سريعة من السيارات الحديثة التي زوَّدهم بها رقم «صفر» مؤخرًا، ثم اتخذا طريقهما إلى بناية دعبور.

تولى «بو عمير» قيادة السيارة لأنه يعرف الطريق … ومرَّا بالبناية مرة دون أن يتوقفا أمامهما. كان ذلك للاستطلاع. وقال «أحمد» الذي كان في الجانب الذي تقع به العمارة: لا شيء مريب. سنقف بالسيارة بعيدًا ثم نتسلل إلى العمارة.

بو عمير: هل الباب مفتوح؟

أحمد: نعم … وقد لاحظت أن هناك اسم نادٍ ليلي في أعلى العمارة … وهذا يعني أن لا أحد سيسألنا عندما ندخل.

تركا السيارة على مبعدة ثم نزلا، واقتربا من العمارة وهما يتضاحكان. وعندما دخلا وجدا البواب يجلس على مكتبه بعيدًا، وقد انهمك في إصلاح شيء في يده. فلم يَلتفِت إليهما … وسرعان ما كانا يستقلان المصعد، ولحسن الحظ لم يكن فيه غيرهما. وسرعان ما أخذ يرتفع إلى الطابق الخامس.

فتح «أحمد» الباب ونظر حوله … كان الطابق مكوَّنًا من أربع شقق … إحداها شقة مكتب «كريم» … وأشار ﻟ «بو عمير» واتجها سريعًا إلى الباب، وسرعان ما كان «أحمد» يُجرِّب مجموعة المفاتيح التي زودهما بها «سرور» … بينما كان «بو عمير» يضع يده على مكان المسدس في جيبه، ويحمي «أحمد» من أي هجوم مُفاجئ.

سمع «بو عمير» تكَّة القفل، وأدرك أن الباب قد فُتح … فتسلَّل داخلًا خلف «أحمد» ووجهه إلى الممر حتى لا يُفاجئهما أحد، ثم أغلق الباب خلفه.

أخرجا بطاريتهما … وانطلق الشعاعان يُبدِّدان الظلام، وأشار «بو عمير» إلى مكتب «كريم»، وسرعان ما كانا يدفعان الباب في حذر، خوفًا من أيِّ مفاجأة، أدار «أحمد» شعاع البطارية في اتجاه المكتب ثم همس ﻟ «بو عمير»: ما رأيك في تفتيش المكتب؟ إنها فرصة … فقد نجد شيئًا أفضل مما سنجده في شريط التسجيل!

ووافق «بو عمير» … ووضعا إحدى البطاريتَين على المكتب … وأمسك «بو عمير» بالأخرى وأخذ «أحمد» بأصابع مدربة يُفتِّش الملفات والأوراق … وانقضى بعض الوقت قبل أن يتوقف عند أحد الملفات ثم يُقلب أوراقه بسرعة … ويهمس ﻟ «بو عمير» مرةً أخرى: أظن أن في هذا الملف ما يُهمنا.

وأخذ «أحمد» يقرأ أوراق الملف سريعًا، ثم مدَّ يده فأمسك بقلم من على مكتب «كريم» وورقة ثم أخذ يدون سريعًا بعض المعلومات. وأعاد وضع الملف مكانه ثم انحنى ومد يده تحت المكتب خلف القائم وبدأ يبحث عن جهاز التسجيل الصغير الذي وضعه «سرور». ولكنَّ يده لم تعثر عليه. وقال «أحمد»: شيء غريب! جهاز التسجيل الذي وضعه «سرور» غير موجود!

بو عمير: غير معقول، هل تتصور أن يكون «كريم» قد عثر عليه؟

أحمد: من يدري؟!

بو عمير: سأبحث بنفسي.

وتمدَّد «بو عمير» على أرض الغرفة، ثم زحف تحت المكتب، وأطلق شعاعًا من الضوء من بطاريته … واستطاع أن يرى الجهاز الذي لا يَزيد حجمه عن قطعة من النقود المعدنية.

قال «بو عمير» وهو ينسحب عائدًا من تحت المكتب: لقد وجدته … إنه حقًّا صغير جدًّا، ولم يكن في إمكانك أن تعثر عليه وأنت جالس.

أحمد: لقد أثبت «سرور» أنه لم ينسَ ماضيه كرجل مخابرات سابق.

بو عمير: الواقع إنه مثَّل دوره جيدًا … ومن المؤكد أن «كريم» الآن يبحث جاهدًا عن مكتب لنا في إحدى دول الخليج.

ضحك «أحمد» وهو يقول: وإذا عثر على هذا المكتب، واتصل بكما، فماذا ستقولان له؟

قال «بو عمير»: ما أسهل أن تقول إن المكان لا يُعجبنا … أو أننا لن ننفذ المشروع … إن ما يهم «كريم» هو ما سيأخذه من أموال … وقد دفعنا له مقدم أتعاب … مُغرٍ!

أحمد: أرجو أن نجد على شريط التسجيل شيئًا!

بو عمير: وحتى لو وجدنا … لقد طلب منَّا رقم «صفر» أن نعتبر الموضوع مُنتهيًا.

أحمد: لقد ضقنا ذرعًا بهذا الكسل. وسأرحب بالاشتراك في أي مغامرة حتى ولو كان ذلك بمجرد المران أو التسلية.

بو عمير: من يدري؟! هيا بنا.

أحمد: لنلقِ نظرة أخيرة على المكتب حتى نتركه كما دخلناه، ونضمن أن «كريم» لن يشك في شيء.

وبعد أن دار شعاع النور في جميع أنحاء الغرفة … قال «أحمد»: أعتقد أن كل شيء على ما يرام … هيا بنا.

وأطلق «بو عمير» شعاعًا يضيء طريقهما في الغرفة حتى لا يصطدما بشيء، وأغلقا الباب خلفهما، ومشيا في الدهليز … واقتربا من الباب الخارجي. ووضَع «أحمد» أذنه على ثقب المفتاح يستمع إلى ما يُمكن أن يكون في الممر بين الشقق الأربع … وفجأةً تراجع إلى الخلف وهمس: أصوات أقدام تقترب!

توقف الاثنان خلف الباب، وبدت أصوات الأقدام واضحة في الصمت، ثم توقفت أمام الباب … وسمع الاثنان مفتاحًا يوضع في الباب … وأسرعا يَجريان، ودخلا مسرعين إلى دورة المياه.

وسمعا صوت أقدام تجتاز الصالة، ثم أُضيء النور في الدهليز … وسمعا صوت رجلين يتحدثان … كانا يقفان قرب باب دورة المياه … وبدا صوتهما واضحًا في الصمت، وكان أحدهما يقول: شيء غريب!

قال الآخر: هل أنت متأكد؟!

الأول: طبعًا … لقد اعتدتُ في الفترة الأخيرة أن أغلق الباب بنفسي … وأنا مُتأكد أنني أدرت المفتاح في الباب مرتين … ولكنه الآن فتح بعد دورة واحدة … فمن الذي فتحه بعدي؟ ومن الذي يُهمه أن يدخل المكتب في غيبتي؟

الثاني: هل تشك في أحد موظفيك؟

الأول: مطلقًا … لقد اخترتهم جميعًا بنفسي … وهم يعملون معي منذ فترة طويلة ولا يمكن لأحدهم أن يخونني.

الثاني: شيء غريب جدًّا! … هل تَحتفِظ بنقود هنا؟

الأول: مبلغ بسيط لا يستحق السرقة … للمصاريف العادية في المكتب.

الثاني: تعال نفتش المكتب.

وأخذت أصوات الأقدام تبتعد عن دورة المياه … وضغط «أحمد» على ذراع «بو عمير» وفهم «بو عمير» على الفور أنها فرصتهما للخروج من المكتب … واقترب «أحمد» من باب دورة المياه ثم أطل برأسه … وفجأة عادت الأقدام مُسرعة … والتقت عينا «أحمد» بعينَي رجلٍ بدت فيهما علامات الدهشة … ولم يكن هناك وقت للتفاهم … ففي قفزتين كان «أحمد» ينقض على الرجل بلكمة أطارته في الهواء، ثم سقط على أحد المقاعد … وفي نفس الوقت كان الرجل الآخر قد خرج من غرفة المكتب … وعرف «أحمد» على الفور أنه «كريم» … في نفس ملابسه البيضاء، وعرقِه المُتصبِّب باستمرار … وكان «كريم» لدهشة «أحمد» يُمسِك بيده مسدسًا صغيرًا لامعًا وجَّهه إلى «أحمد» وقال مُهدِّدًا: لا تتحرك من مكانك، وإلا أطلقت الرصاص!

أخذ «أحمد» يتراجع إلى الخلف حسب خطة وضعها … فقد كان يُريد أن يتيح ﻟ «بو عمير» فرصة للتدخل دون أن يراه «كريم» ويَعرفه … وأخذ «كريم» يرسل تهديداته وهو يتقدم و«أحمد» يتراجع حسب خطته ويتمنى أن يفهمها «بو عمير». وقد فهمها «بو عمير» عندما شاهد من مكمنِه «أحمد» وهو يتراجع حتى تجاوز باب دورة المياه … وشاهد ظهر «كريم» … وتسلَّل على أصابعه وأصبح خلف «كريم» مباشرةً، فأهوى بقبضته على رأسه في ضربة واحدة. ونزل «كريم» على أثرها ساقطًا كشوال الرمل محدثًا دويًّا هائلًا في الصمت.

ودون كلمة واحدة، أسرع الصديقان خارجَين؛ فقد خشيا أن يُحدِث صوت سقوط «كريم» ضجة تَلفِت الأنظار … وكان المصعد ما زال مكانه، فقفزا إليه، وسرعان ما كان يحملهما إلى الطابق الأرضي … وبعد لحظات قليلة كانا يجتازان الشارع إلى حيث تركا سيارتهما … فركباها، وقادها «أحمد» في دورة واسعة حول بيروت واضعًا في اعتباره أن يكونا مَتبوعَين لأي سبب.

وبعد أن تأكدا أنهما في مأمن من أي شخص يمكن أن يكون في أثرهما، اتجها إلى المقر السري.

صعدا مسرعين … وكان «عثمان» وحده في انتظارهما … فرويا له بسرعة ما حدث، ثم أخرج «أحمد» جهاز التسجيل من جيبه، وسرعان ما كانوا يستمعون إلى ثلاثة أحاديث تليفونية مسجلة. كان الحديث الأول هو ما سمع «بو عمير» بعض كلماته … وكان نص الحديث يدور بين رجلين. قال الأول: هل أنت متأكد أنك وراء أثر صحيح؟

صوت «كريم»: أرجو ذلك يا سيدي … إنني في انتظار مزيد من التقارير.

الصوت: لقد ضاع وقت طويل منذ أرسلنا لك قبل حضورنا.

كريم: إنني أفعل ما بوسعي يا سيدي … وهناك ستة من رجالي يبحثون، وكلٌّ منهم وراء شخص ربما يكون هو من تبحثون عنه.

الصوت: إنني لا أريد أن أكرر أهمية أن يظلَّ الموضوع سرًّا … لقد دفعنا لك بسخاء من أجل هذا.

كريم: بالطبع يا سيدي!

كان «بو عمير» يُراجع المكالمة على ما سطره وابتسم … لقد استطاع رغم كل شيء أن يلتقط بعض الكلمات.

وكانت المكالمة الثانية بعد الأولى بفترة قصيرة … وكان شخص آخر واضح من لهجته أنه لبناني يتحدَّث إلى «كريم».

قال الرجل: أستاذ «كريم»!

كريم: حمدي، لماذا تأخرت هكذا؟

حمدي: كنت أحاول الحصول على معلومات عن ماضي الرجل، ولكنه ما زال يَرفض.

كريم: يَرفض … لماذا؟

حمدي: إنه غير مُقتنع بالأسباب التي تدعوني إلى هذا الطلب.

كريم: إنك شخصٌ فاشل … ولا أريد أن أسمع أعذارًا، لا بد أن تحصل على المعلومات خلال اليومَين القادمين … حتى لو اضطُررت إلى ضربه.

وسمع الثلاثة صوت سماعة التليفون تُوضع بعنف … ومضت فترة أخرى ثم سمعوا صوت جرس التليفون وصوت «كريم» يرد: هالو.

صوت امرأة: نجلاء.

كريم: أين كنت … كان الرجل يُريد أن يراكِ قبل سفره؟!

نجلاء: ألن يعود؟

كريم: سيعود … ولكن هذا متوقف على جهودنا … بمجرد أن نحصل على معلومات مؤكدة.

نجلاء: أعتقد أنني حصلت على معلومات لا بأس بها من الرجل، وربما كان هو من تبحث عنه رغم أنه يُراوغ.

كريم: عظيم … تعالي فورًا … سأنتظركِ!

ودار الشريط حتى انتهى … ولم تعد هناك مكالمات … وقال «بو عمير»: الأحاديث كلها تدور حول الشخص الذي قال رقم «صفر» إنَّ الرجال الثلاثة يبحثون عنه.

أحمد: تمامًا … وقد حصلت على نسخة من عناوين الرجال الذين يحاول رجال «كريم» الحصول على معلومات منهم أو عنهم.

بو عمير: من الملف؟

أحمد: نعم … من الملف الذي قرأته في مكتب «كريم» ومكتوب عليه حرفين باللغة الإنجليزية. وربما الفرنسية وهما «م. س» ولا أدري ماذا يعنيان.

ابتسم «عثمان» وقال: إن العملية أكبر من تصورنا. إنها ليست عملية للتسلية ولا للمران إنها عملية خطيرة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤