البحث عن الستة

في الصباح جلس الشياطين الستة في قاعة الاجتماعات … وأمامهم ملف تقارير العملية «تسالي»، كما أطلقوا عليها من باب التسلية … ووضع «أحمد» الورقة الصغيرة التي كتبها، ثم قال: سأُلخِّص لكم مرةً أخرى تقارير رقم «صفر» عن عملية «تسالي» كما سمَّيناها … ثم أشرح لكم ماذا تعني الورقة التي حصلت عليها من مكتب «كريم». فقد تابعت العملية مع «عثمان» و«إلهام» و«بو عمير» فقط، وأعتقد أنها تحتاج إلى جهودنا جميعًا.

وأمسك «أحمد» الملف وأخذ يلخص بسرعة: تُوفِّي بحار مجهول الشخصية في بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية بعد أن ظل ثلاثين عامًا متصلة فاقدَ الذاكرة، ودون أن يتعرف عليه أحد. بعد وفاته ونشر صورته بهذه المناسبة ظهر شخص يُدعى «هنتر سميث» وطلب استلام جثمان الميت. ولكن لم يكن ما أبداه من أسباب كافيًا، فرُفض طلبه. وحاول هذا الشخص أو أحد أعوانه سرقة الجثمان … ولم يستطع. وصل هذا الشخص إلى ألمانيا مُتسميًا باسم «هانز شميدث»، ثم ظهر في بيروت ومعه رجلان آخران.

طلب منا رقم «صفر» متابعته … اتضح أنه يتعامل مع مكتب علاقات عامة يملكه شخص يُدعى «كريم» … وقد زار «بو عمير» و«سرور» مكتب «كريم» ووضعا جهاز تسجيل للاستماع إلى مكالماته … وقد أعدنا هذا الجهاز بعد مغامرة بسيطة … ومنه يتضح أن «هانز» يطلب من «كريم» البحث عن شخص معين … وأن «كريم» يُجنِّد عددًا من موظفيه لهذا الغرض.

سكت «أحمد» لحظات ثم مضى يقول: طلب منا رقم «صفر» إيقاف العملية بعد أن سافر الرجال الثلاثة إلى باريس … وقد كان رقم «صفر» يعتبر العملية من البداية مجرَّد مران أو تسلية … ولهذا سميناها عملية «تسالي».

وتنفس «أحمد» بعمق ثم قال: ولكن عندنا من الأسباب كما يتضح من أحاديث «كريم» التليفونية أن «هانز» سيعود. وأن وراء العملية شيئًا هامًّا يستحق أن نستمر من أجله في متابعة مجهودنا.

أمسك «أحمد» بالورقة التي أخذها من مكتب «كريم» ثم بدأ يقول: في هذه الورقة ستة عناوين لأشخاص يقوم «كريم» بالتحرِّي عنهم، ومناقشتهم لا ندري في أي شيء. وقد شطب «كريم» اسمَين بالقلم الأحمر دليلٌ على أنهما مستبعدان من التحري … أقصد أنه تحرى عنهما ولم يعثر عندهما على المعلومات المطلوبة … ولكن هذا لن يمنعنا من التحدث إليهما … حتى نعرف على الأقل ماذا يُريد «كريم».

وأمسك «أحمد» بقلمه وقال: سأُملي الأسماء والعناوين … وعلى كل واحد منكم أن يأخذ اسمًا وعنوانًا واحدًا … وسنبحث بعد ذلك كيف نقدم أنفسنا لهؤلاء الأشخاص.

أملى «أحمد» كل واحد من الشياطين اسمًا وعنوانًا … ثم وضع القلم وقال: والآن ما هي اقتراحاتكم حتى نقدم أنفسنا إلى هؤلاء الستة؟!

ساد صمت قصير ثم قالت «إلهام»: أعتقد أن أحسن صفة هي صفة الصحفي، ولنتَّفق على موضوعٍ ما … أو عدة موضوعات ونذهب للمناقشة على أساسه، ثم أثناء الحديث يمكن استدراج المتحدث لنحصل منه على المعلومات اللازمة.

عثمان: رأي معقول جدًّا!

وهز بقية الشياطين رءوسهم علامة الموافقة … وقالت «زبيدة»: سأقول ﻟ «سرور» أن يجهز لنا بطاقات صحفية. فقد نتعرَّض لمشكلة إذا ثبت أننا لسنا صحفيين.

أحمد: معقول جدًّا … الساعة الآن التاسعة. سنَعقد اجتماعًا آخر في السادسة من مساء اليوم لنرى ماذا تمَّ.

كان العنوان الذي حصلت عليه «زبيدة» باسم «جوزيف سليم» … ويسكن في فيلَّا بالجبل قرب خلدة على ساحل البحر جنوبي بيروت … فاختارت إحدى السيارات الجديدة التي زوَّدها بهم رقم «صفر» والتي تتجاوز سرعتها ٢٥٠ ميلًا في الساعة … وبعد أن أخذت بطاقتها الصحفية انطلقت مسرعةً إلى المكان، وفي حقيبتها مسدس صغير سريع الطلقات.

بعد حوالي ساعة ونصف كانت توقف سيارتها قريبًا من الفيلَّا القديمة. ونظرت في المرآة مرة أخرى فقد صفَّفت شعرها بطريقة خاصة، ووضعت نظارة ملونة على عينيها … وحملت نوتة وقلمًا لتبدو في مظهر الصحفية … وكان الموضوع الذي اختارته للحديث مع الرجل فيه هو كيفية الاستفادة من شاطئ البحر في المنطقة لإقامة سلسلة من أكشاك التصييف … وقد أعدَّت في ذهنها عددًا من الأسئلة البسيطة، والتي يُمكن عن طريقها الوصول إلى أكبر قدر من المعلومات عن الرجل.

دقَّت الجرس فسمعَت نباح كلب قوي خلف الباب … وانتظرت فترة ثمَّ سمعت صوت أقدام مُتثاقلة تَقترِب. وفُتحَت كوَّة صغيرة وأطلَّ وجه سيدة عجوز على رأسها هالة من الشعر الأبيض. وقالت السيدة: أهلًا … هل هناك خدمة أؤدِّيها لك؟

زبيدة: هل هذا منزل الأستاذ «جوزيف سليم»؟

السيدة: نعم يا بُنيتي … هل هناك شيء؟

زبيدة: خدمة بسيطة جدًّا … إنني صحفية، أقوم بعمل تحقيق عن الساحل في هذه المنطقة … وأريد رأي الأستاذ في الموضوع.

بدا التردُّد قليلًا على وجه السيدة العجوز، ولكنه في النهاية فتحت الباب وهي تَصيح بالكلب: ابتعد يا كوكو!

أخذ الكلب يزُوم و«زبيدة» تخطو داخل الفيلَّا الأنيقة. وسبقتها السيدة إلى قاعة هادئة تطلُّ على البحر. وقالت السيدة: تفضلي حتى أخبر «جوزيف» … إنه مُتعَب قليلًا … فأرجو أن يوافق على مقابلتك.

شملت «زبيدة» المكان بنظرة فاحصة … كان الأثاث قديمًا ولكنَّه ثمين … وكل شيء يدلُّ على أسرة على قدر من الثراء والذوق الفني … ولاحظت أن هناك لوحات كثيرة كلها بريشة واحدة … وفكرت أنها من رسم صاحب الدار أو زوجته.

بعد فترة طويلة ظهرت السيدة تَحمل بعض المشروبات الباردة … وقالت: سيأتي «جوزيف» بعد لحظات … إنه يرتدي ثيابه.

أحست «زبيدة» بألفة مع السيدة العجوز فابتسمت قائلة: هل ما زال الأستاذ «جوزيف» يرسم؟

ابتسمت السيدة مندهشة وقالت: هل تعرفين أنه رسَّام؟

أشارت «زبيدة» إلى اللوحات وقالت: إنه رسَّام ممتاز … وقد فكرت أنك أنت الرسامة، ولكن الموضوعات والخطوط والألوان تليق برجل أكثر.

السيدة: إنك ذكية جدًّا يا بنيتي!

وفي هذه اللحظة ظهر «جوزيف» عند السلم الداخلي للفيلا نازلًا. ولاحظت «زبيدة» على الفور أنه يبدو قلقًا، وأنه ينظر إليها كأنما يَنتظِر شخصًا يعرفه.

اقترب في خطوات بطيئة … كان طويل القامة شديد النحافة … ووجهه أشبه بنسر عجوز … ومد ﻟ «زبيدة» يده في تحية فاترة ثم جلس … وقالت «زبيدة» على الفور: آسفون جدًّا لإزعاجك!

قال «جوزيف» بصوت عميق متقطِّع: أنت صحفية؟

زبيدة: نعم … وهذه هي بطاقتي.

أمسك الرجل بالبطاقة وأخرج نظارة عتيقة من جيبه وأخذ يفحصها، ولم تحسَّ «زبيدة» بأيِّ اضطراب … فقد كانت تعلم أن «سرور» يجيد عمله … ورد «جوزيف» لها البطاقة وتنهد … وبدا أكثر إقبالًا عليها … وقالت له على المهمة التي قَدمَت من أجلها.

فكر الرجل لحظات ونظر عبر زجاج الصالة إلى البحر الممتد … ثم قال: بالنسبة لي … ولأكن صريحًا معك … فإنني أود ألا تقام أية مشروعات جديدة في هذا المكان … فمعنى ذلك أن يفقد طابع الهدوء الذي اشتهر به.

قالت «زبيدة»: ولكن المصلحة العامة تقتضي ذلك … فبيروت أصبحت مدينة مزدحمة … والشواطئ لا تتسع للناس … ولا بد من مدِّ العمران شمالًا وجنوبًا …

قال الرجل: وهو يُخرج غليونًا قديمًا من جيبه ويشعله بيد ثابتة: لقد قضيتُ في هذا المكان ثلاثين عامًا من حياتي … وأودُّ أن يظلَّ كما هو.

عندما سمعت «زبيدة» كلمة ثلاثين تذكرت على الفور البحَّار الذي مات في مستشفى بوسطن وسألت نفسها: هل يعني هذا شيئًا. إن ذلك البحَّار المجهول قضى ثلاثين عامًا فاقد الذاكرة … وهذا الرجل قضى في هذا المكان ثلاثين عامًا، فهل يعني هذا شيئًا؟

وأسرعت تقول: وقبل ذلك أين كنت تعيش؟

تبادل الرجل وزوجته النظرات وقال: في دمشق؛ فأنا من أصل سوري.

زبيدة: وماذا كنت تعمل؟

جذب الرجل نفسًا عميقًا من غليونه وقال: في تجارة أدوات الرسم.

وأدارت «زبيدة» وجهها إلى اللوحات وقالت: إنك رسَّام ممتاز! ألم تَعُد ترسم؟

رد الرجل: لا. لقد أصبحت يداي مرتعشتَين. والرسَّام كالجراح لا بد أن تكون يده ثابتة.

وقالت «زبيدة»: وما هي ذكرياتك في هذا المكان الجميل؟

قال الرجل وهو يسبل جفنيه: شيء عجيب هذا الاهتمام بذكرياتي. لقد حضر شخص من قبل وسألني نفس السؤال.

ولاحظت «زبيدة» أنه لا يريد أن يتحدَّث عن ذكرياته فعادت إلى الموضوع الذي حضرت من أجله وأخذا يتحدثان … ثم سألت زوجته عن نفس الموضوع. وأخذت تتظاهَر بأنها تكتب بعض النقاط عن الموضوع ثم قالت فجأة: هل لكما أقارب في أمريكا؟

كان السؤال من وحي خاطرها لم تُعدَّ له. ولكن ما أحدثه من أثر في الزوجين كان أكثر مما توقعت … فقد بدا كأن قنبلة انفجرت في المكان … ولكن الرجل أجاب بحزم: لا. ليس لنا أقارب الآن في أي مكان.

وشكرت «زبيدة» الزوجين قائلة: قد أضطرُّ لزيارة أخرى لكما في وقت آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤