السر الخطير

قال «جوزيف»: قرب نهاية الحرب العالمية الثانية قرر عدد من زعماء النازي الهرب من ألمانيا بعد أن تحقَّقوا من هزيمتها. وفي الأميرالية الألمانية وهي قيادة القوات البحرية اتفق الأميرال على تهريب خمسة ملايين فرنك ذهب سويسري إلى أمريكا الجنوبية التي لجأ إليها بعد الحرب عدد من زعماء ألمانيا.

وسكت «جوزيف» لحظات ثم قال: ووضع هذا المبلغ في غواصة أبحرت في خط بحري متعرج لتَبتعِد عن أهداف الحلفاء … ولم يكن في الغواصة مَن يعرف حقيقة شحنتها أو هدفها إلا ثلاثة … القائد، وبحاران كنت أنا أحدهما.

دهش «بو عمير» وقال: أنت ألماني إذن؟

جوزيف: نعم … وقد لجأت إلى لبنان منذ نهاية الحرب وعشت تحت اسم مستعار!

بو عمير: ثم ماذا حدث؟

جوزيف: عندما عبرت الغواصة المحيط الأطلسي جنوبًا كان المفروض أن تتجه غربًا … ولكن حدث شيء غيَّر الخطة … فقد اتفق الثلاثة الذين يعرفون السر على ألا تصل الغواصة إلى هدفها … وبدلًا من الانحراف غربًا. انحرفوا بالغواصة شرقًا ناحية المحيط الهندي … واجتمعنا نحن الثلاثة لنُقرِّر أين سنرسو بالغواصة … ولكننا وجدنا أن جميع الموانئ في هذه المنطقة تقع تحت سيطرة الحلفاء … أقصد أمريكا وإنجلترا وفرنسا … وبقية الدول التي كانت تحارب ألمانيا، واتفقنا على خطة شيطانية.

وعاد «جوزيف» للصمت لحظات ثم مضى يقول: اتفقنا على نسف الغواصة قرب الساحل العربي بمن فيها بعد أن نُغادرها نحن!

صاح «هانز»: كلاب … خنازير!

نظر إليه «جوزيف» وقال موجهًا حديثه إلى «بو عمير»: إنني نسيت أن أقدم لك السيد «هانز شميدت». لقد كان أحد المشتركين في تهريب الملايين الخمسة … بل هو في الحقيقة صاحب فكرة إرسال الغواصة إلى أمريكا الجنوبية.

بدأ «بو عمير» يستمتع بالقصة الغريبة، وعاد «جوزيف» إلى قصته المدهشة: وكانت هناك عدة مشاكل … أن نَنسف الغواصة قرب الشاطئ حتى يُمكن انتشال الكنز بعد ذلك … وأن نضع خريطة لمكان الغواصة، فليس من السهل تحديد الأماكن في البحار … وكان رسم خريطة على الورق فكرة خاطئة … فمن المُمكن أن تبتل أو تضيع، أو يستولي عليها غيرنا … وهكذا اتفقنا على رسم الخريطة بالوشم على أجسادنا نحن الثلاثة. وقد قام كلٌّ منَّا برسم جزء من الخريطة على جلد الآخر.

وتذكر «بو عمير» على الفور البحَّار الذي مات في مُستشفى بوسطن. البحَّار الذي فقد ذاكرته ثلاثين سنة متَّصلة … وقال: ذلك البحَّار الذي مات في مستشفى بوسطن منذ نحو أسبوع هل له علاقة؟

قاطعه «جوزيف» قائلًا: بالطبع، إنه واحد من الثلاثة، وقد ظلَّ «هانز» بعد خروجه من المُعتقَل يبحث عنا نحن الثلاثة … وقد استطاع الوصول …

في هذه اللحظة، وقبل أن يكمل «جوزيف» جملته بدأت الطائرة تهتزُّ بشدة … وبدأ الحاضرون جميعًا يفقدون توازنهم … ودون أن يتنبَّه أحد كان الحارس الذي صرعه من قبل قد وقف خلفه … وارتفعت صيحة تَحذير من «جوزيف» … ولكن ذلك كان بعد فوات الأوان، فقد أحاط ذراعيه ﺑ «بو عمير» ليشلَّ حركته … وانطلقت رصاصة من مسدس «بو عمير» رغمًا عنه … أصابت جدار الطائرة … واستجمع «بو عمير» قوته، وضرب الحارس بكوعَيه في بطنه … وسمع الحارس يتأوه … ومال «بو عمير» إلى الأمام وألقى بالرجل أرضًا … ولكن الحارس الآخر كان قد قفز للاشتراك في الصراع … بينما قفز مساعد الطيار على «جوزيف» الذي أطلق رصاصة عليه أصابته في كتفه … ولكنه استطاع الالتحام به.

ومضى الصراع على أشده بين «بو عمير» والحارس من جهة، و«جوزيف» و«كريم» من ناحية أخرى، بينما كانت الطائرة تترنح … وكان من الواضح أنها وقعت في مطب جوي عنيف وفقَدت توازنها تمامًا … وبدأ الرجال جميعًا وبينهم «بو عمير» يتدحرجُون على الأرض دون أن يتمكن أيٌّ منهم من القضاء على الآخر … وكان مساعد الطيار الجريح قد ترك المتصارعِين وأسرع إلى الكابينة ثم عاد بعد لحظات وقال: سنَهبط هبوطًا اضطراريًّا في صحراء عُمان … ولن نستطيع الذهاب إلى أبعد من ذلك … أرجوكم اجلسوا في أماكنكم واربطوا الأحزمة؛ فنحن مُعرَّضون جميعًا للموت.

رغم الصراع المميت الدائر فإن كلمات مساعد الطيار أحدثت أثرها، وأسرع كل واحد من الموجودين إلى أقرب كرسي إليه وأخذ يحاول الجلوس، وكانت مهمة بالغة الصعوبة والطائرة تدور حول نفسها، وتَنقلب حتى يتساقط الرجال على أرضها كأنهم مجموعة من اللعب الصغيرة في يد طفل شقي.

استمرَّ ترنُّح الطائرة … ولم يَعُد «بو عمير» يدري ماذا يُمكنه أن يفعل سوى أن يُحاول الجلوس، بينما ذهنه منصرف إلى ما يمكن أن يحدث إذا استطاع الطيار الهبوط بالطائرة سليمة … وفي هذه اللحظة لمسَت الطائرة الأرض في صدمة شديدة طوحت بهم جميعًا في كل مكان. ثم ارتطمت بالأرض تمامًا … ودارت حول نفسها ومالت على أحد جناحيها، ثم انشطرت إلى جزئين … واشتعلت فيها النيران.

عندما أفاق «بو عمير» وجد نفسه في غرفة بيضاء … وأحسَّ بآلام قاسية في أماكن متعدِّدة من جسمه … ولكن سمع بجواره من يُنادي باسمه … ولم يُصدِّق أذنَيه … لا بد أنه واهم وأدار رأسه ونظر … وشاهد وجه «أحمد» يَبتسِم له.

كان ضوء النهار يملأ الغرفة … ورائحة الدواء تملأ الجو … فأدرك أنه في مستشفى وتذكر الطائرة، وسقوطها الشنيع، والانفجار، ودُهش أنه ما زال حيًّا حتى الآن.

ومال «أحمد» عليه وقال: كيف حالك الآن؟

بو عمير: هل أنت متأكِّد أنني حي؟

قال «أحمد» مبتسمًا: هذا ما يقوله الأطباء. فما رأيك؟

بو عمير: لو لم أركَ وأُصدقك لاعتقدت أنني في الآخرة.

أحمد: أهم من هذا أن الأطباء يقولون إنك ستشفى سريعًا. فكل إصاباتك سطحية، وعظامك سليمة.

بو عمير: كيف نُقلتُ إلى هنا؟ وكيف وصلتَ أنت؟

أحمد: ركبتُ الطائرة التي غادرت مطار بيروت في الحادية عشرة لأكون قريبًا منك … فهذه الرحلة السريعة التي اقترحها «كريم» أثارت شكوكي … ولكن بعد أن ركبت الطائرة اكتشفت أنكما لم تكونا بين الركاب … وكان في إمكاني أن أطلب إنزالي من الطائرة حتى ببعض المشاكل … ولكن شيئًا ما دفعني أن أبقى ووصلت إلى عُمان في الثالثة والنصف صباحًا فقد توقفت الطائرة بعض الوقت في الكويت … وعندما نزلت أرض المطار سمعت عن حادث طائرة خاصة سقطت بالقرب من المطار … وأنهم نقلوا المصابين إلى المستشفى … فحضرتُ سريعًا … ولكنهم منعوا دخول الزائرين حتى الصباح … ومنذ نصف ساعة سمحوا لي بالدخول ووصفت شكلك للمُمرضين فأدخلوني هنا؟

بو عمير: وباقي الركاب؟

أحمد: سمعت أن ثلاثة ماتوا … وواحد في حالة خطرة.

بو عمير: ألم تَعرف من هم؟

أحمد: لم أهتمَّ بأحد سواك!

بو عمير: لقد كان ركاب الطائرة ستة غيري … فأين الباقون؟

أحمد: سأسأل وأعود إليك.

غادر «أحمد» الغرفة مسرعًا … وظل «بو عمير» ينظر إلى سقف الغرفة مفكرًا من الذي مات ومن المصاب؟ وأين الباقون؟

عاد «أحمد» سريعًا إلى «بو عمير» وقال: هناك ثلاثة كانت إصابتهم أقل. وقد رفضوا دخول المستشفى وانصرفوا بعد الإسعافات الأولية.

بو عمير: هل عرفت أسماء الموتى؟

أحمد: «كريم» واحد منهم … والباقيان أحدهما في ملابس الطيارين ومصاب بطَلق ناري.

بو عمير: هذا مُساعد الطيار.

أحمد: والثالث يُدعى مارك، ولا أذكر بقية اسمه …

بو عمير: والمصاب؟

أحمد: إنه «جوزيف سليم».

بو عمير: معنى هذا أن الطيار والحارس الثاني و«هانز» هم الذين انصرفوا؟

أحمد: سأبحث هذا كله!

بو عمير: إنك لم تعرف الحكاية حتى الآن.

أحمد: لا.

بو عمير: إنها قصة أشبه ما تكون بالأسطورة.

وأخذ «بو عمير» يروي لأحمد ما سمعه من «جوزيف» … وما حدث للطائرة حتى هبوطها الاضطراري وإصابته.

قال «أحمد» مفكرًا: الاستنتاج الوحيد الذي نخرج به من هذه القصة هو أن نسف الغواصة تم قريبًا من ساحل عمان … فليس هناك سبب آخر يدعُوهم للقدوم إلى هنا إلا هذا السبب.

بو عمير: وكيف سنَبحث عنهم؟

أحمد: ولماذا أبحث؟ إنهم سيأتون إليَّ بأقدامهم.

وفكر «بو عمير» لحظات ثم قال: معك حق. إنهم سيأتون من أجل «جوزيف سليم» … فهو الرجل الثالث الذي يعرف مكان الغواصة المجهولة … ولن يستطيعوا الوصول إليها بدونه.

أحمد: هذا ما أفكر فيه … سوف أتركك لترتاح … ثم أعود إليك مرة أخرى بعد الغداء».

وغادر «أحمد» الغرفة … وعرج إلى الشوارع … كانت الشمس قاسية في ذلك الوقت من النهار وقد خلت شوارع مسقط لهم مدينةً وميناءً في عمان من السائرين … إلا عددًا قليلًا كان يسرع للاحتماء من أشعة الشمس بظلال المحلات والبيوت.

كان «أحمد» يفكر في الساعات القادمة. كيف سيتصرَّف «هانز»؟ إنه لن يستطيع الاقتراب من «جوزيف» إلا في الليل … تمامًا كما فعل مع البحَّار الذي مات في بوسطن … وفكر «أحمد» أيضًا في الاتصال بالسلطات العُمانية … ولكن هل يُمكن أحد أن يُصدق هذه القصة الخرافية، خاصةً وأنه لا يملك أية مستندات أو أدلة على ما يقول؟! … رغم أن كنوز البحار حسب القانون الدولي تخصُّ الدولة التي تقع هذه الكنوز في مياهها الإقليمية … أي قرب الشاطئ … ولكن … هكذا فكر «أحمد» أيضًا … ربما كان مكان الغواصة بعيدًا عن الشاطئ. وفي هذه الحالة فهو ملك مَن يصل إليه … ولا يكون «هانز» ولا عصابته موضوع أي سؤال من أحد.

وفجأة وجد نفسه أمام مكتب برقيات … وقرَّر أن يستدعي عددًا من الشياطين لمساعدته؛ فهو لا يعرف متى يغادر «بو عمير» المستشفى … ولا حجم المعركة المقبلة مع «هانز» وعصابته.

دخل مكتب البرقيات … وأرسل برقية إلى عنوانهم في بيروت … وعندما غادر المكتب واتجه إلى أحد المقاهي ليشرب كوبًا من العصير … أحسَّ فجأةً أنه مُراقَب … فقد لاحظ أن شخصًا ما دخل معه عندما دخل المكتب، ثم غادَره خلفه.

وأدرك أن «هانز» وعصابته يعملون ليل نهار من أجل الملايين الخمسة من الفرنكات الذهبية الراقدة في مكانٍ ما في قاع البحر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤