تقديم للنقد المنهجي

لقد كان موضوعُ هذا الكتاب عند بدءِ التفكير فيه «تيارات النقد العربي في القرن الرابع الهجري»، ولكننا لم نكَدْ نأخذ في جمعِ ما كُتب في ذلك القرن حتى أحسَسْنا بأنه قد كانت هناك لذلك القرن أصولٌ سابقة، كما أنه قد امتدَّت له فروع، ولا غرابةَ في ذلك عند قومٍ كالعرب ثبتَ امتدادُ التقاليد لديهم، وبخاصةٍ في الأدب، حتى ليمكن القولُ بأن كبار الأحداث التي زلزلَت حياتهم الفكريةَ والروحية؛ كالإسلام أولًا، ثم الاتصالِ بالثقافات الأجنبية وبخاصةٍ اليونانية ثانيًا؛ لم تقطع تلك التقاليد.

لاحظَنا إذن أن نقد القرن الرابع قد كانت له أصولٌ كما كانت له فروع، فوسَّعْنا من مجال البحث، ولكن مع حصره في المتخصصين من النقَّاد ومؤرخي الأدب، بحيث لم نقف وقفاتٍ خاصةً عند نقد الشعراء أو المحكمين في أسواق الأدب وما شاكَل ذلك، مما نجده في تضاعيف كتب الأدب والرواية القديمة؛ وذلك لكي نظل في حدود الفكرة الأساسية التي يقوم عليها هذا الكتاب؛ وهي معالجة النقد المنهجي عند العرب.

والذي نقصده بعبارة النقد المنهجي هو ذلك النقد الذي يقوم على منهجٍ تدعمه أسسٌ نظريةٌ أو تطبيقيةٌ عامة، ويتناول بالدَّرس مدارسَ أدبيةً أو شعراءَ أو خُصومات، يُفصِّل القولَ فيها، ويَبسط عناصرها، ويُبصِّر بمواضع الجمال والقُبح فيها.

ولقد اتخذنا مركزًا لهذا البحث الناقدَين الكبيرَين: أبا القاسم الحسنَ بن بِشرِ بن يحيى الآمِديَّ، صاحبَ كتاب «الموازَنة بين الطائيَّينِ»، والقاضيَ أبا الحسن عليَّ بن عبد العزيز بن الحسن بن علي بن إسماعيل الجُرجانيَّ، صاحبَ كتاب «الوَساطة بين المتنبِّي وخصومه»، ولكننا مع ذلك تتبَّعنا موضوعَ بحثنا منذ أول كتابٍ وصَل إلينا في النقد وتاريخ الأدب، وهو كتاب «طبقات الشعراء»، الذي كتَبه ابنُ سَلامٍ الجُمَحيُّ في القرن الثالث الهجري، كما تتبَّعناه إلى أن تحوَّل النقدُ إلى بلاغةٍ على أيدي أبي هلالٍ العسكري مؤلِّف «سِر الصناعتَين» في القرن الخامس، بل وانحدرنا به قرنَين آخَرَين حتى لاقَينا ابن الأثير في «المثَل السائر».

وفي خلال هذه الرحلة الطويلة عَرَض لنا الكثيرُ من أمَّهات المسائل التي لم يكن بدٌّ من إيضاحها؛ لكي نتبينَ معالم الطريق، ونُدرِك تسلسلَ علوم اللغة العربية المختلفة وتاريخَ نشأتها؛ كالبلاغة والبديع والمعاني والبيان، كما عرَضَت جملةٌ من النظريات العامة في الأدب، فضلًا عن عددٍ كبير من المناقشات الموضعية في النقد التطبيقي، فتناولنا كلَّ ذلك بالغربَلة والتمحيص.

وفي الحق، إنَّ في الكتب العربية القديمة كنوزًا نستطيع — إذ عُدنا إليها وتناوَلْناها بعقولنا المثقفة ثقافةً أوروبية حديثة — أن نستخرجَ منها الكثيرَ من الحقائق التي لا تزال قائمةً حتى اليوم، وإن كنَّا حريصين على ألا يُستفاد من دعوتنا إلى تناول التراث القديم بعقولنا الحديثة أي إسراف بإقحامِ ما لم يخطر بعقول أولئك المؤلِّفين القدماء من نظرياتٍ أو آراء، كما أننا حريصون على ألا نجهلَ أو نتجاهل الفروقَ الأساسية الموجودةَ بين الأدب العربي وغيره من الآداب الأوروبية، بما يستتبعه ذلك من تفاوُتٍ كبير في مناهج النقد وموضوعاتِه ووسائله.

وعلى ضوء هذه الحقائق، وفي حدود تلك التحفُّظات؛ تناولنا موضوعَ بحثِنا، مُحاولين أن نستفيدَ من الثقافة الأوروبية في استخراج المكنون، وإيضاح الغامض المجمَل من موضوعاتِ بحثنا، وآمِلين أن نكون قد خرَجنا في النهاية ببعض نتائجَ يمكن الاطمئنانُ إليها.

ولما كنَّا في مجال الأدب ونقده، فإنه لم يكن مَفرٌّ من أن نُفصِّل في الكثير من الخصومات والمجادَلات والمناقشات برأينا الخاص، الذي يستندُ — فضلًا عن الفكر النظريِّ — إلى الطريقة الخاصة لكلِّ باحث في تذوُّق الأدب، ولَسوف يرى القارئُ إيضاحًا لتلك الحقيقة التي لا تُنكر؛ وهي أن الذَّوق لا بدَّ أن يكون من مَراجع الحكم النهائي في الأدب ونقدِه، ما دام يستند إلى أسبابٍ تجعله — في حدود الممكن — وسيلةً مشروعة من وسائل المعرفة التي تصحُّ لدى الغير.

هذا، ولقد كان الموضوعُ حقلًا بِكرًا، فسِرْنا فيه — وَفقًا لما استقرَّ في نفسنا من خطوط — بعد مراجعة المؤلفات المختلفة وإقامة التسلسُل بينها، وإنَّنا لَنرجو أن نكون قد سدَدْنا بتأليفِ هذا الكتاب ثغرةً في تاريخ التراث العربي، ووضَعنا حجرًا متواضعًا في ذلك الصَّرح الذي يجب أن تُقيمه الشعوبُ العربية لحضارتها التليدة، كما نرجو أن يجدَ الأدباءُ ودارسو الأدب ومحبُّوه في تضاعيف بحثنا نوعًا من التوجيه، الذي نعتقد أنه خليقٌ بأن يُبصِّر ببعض الحقائق عن الأدب ونقده، بل وإنشائه؛ وذلك حتى لا تظلَّ السبُل مختلطة، والقيمُ ملتبسة غامضة.

محمد مندور

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤