تمهيد

منهج البحث «المنهج التقريري والمنهج التاريخي»

ليس مِن شكٍّ في أن تحديد مدلول الاصطلاحات العِلمية يكون جانبًا من بناء العلم ذاتِه.

والناظر إلى المعنى الذي يُقصَد إليه من النقد الأدبي؛ سواءٌ عندنا أو عند الأوروبيين، لا يكاد يتبيَّن حدودَه على وجهٍ دقيق.

وعلةُ ذلك — فيما يظهر — فسادُ المنهج الذي نُحدد به الأشياء، ولقد كان في سيطرة أرسطو على العقل البشري قرونًا طويلة ما ثبَّتَ في النفوس تلك النزعةَ التقريرية، التي تستندُ إلى أصول المنطق، فتتَّخذ من التقسيم أساسًا للمعرفة.

وهذا هو مصدرُ ما يُثار من مشاكل حول النقد.

فلقد تساءل قومٌ عن الفرق بين النقد وبين علوم اللغة المختلفة؛ مِن نحوٍ وبلاغةٍ وعَروض … إلخ؛ وذلك لأنه عندما نشأتْ تلك العلومُ رأينا الناظرين في الأدب العربي، وبخاصةٍ في الشعر، يستخدمونها في فَهْم النصوص، وتعليل أحكامهم فيها.

ولقد تساءل آخَرون عن مَنْحى النقد عندما تَكوَّن ابتداءً من القرن الثالث: أهو عربيُّ النزعة أم إغريقي؟١ ورأَوا فيه تيَّارَين مختلفين: تيار قُدامة بن جعفر الذي حاول وضْعَ «علم للشعر» و«علم للنثر»، يقومان على الفُروق الشكلية التي مكَّن لها أرسطو بمنطقِه في كل ميادين المعرفة. وتيار أدباء العرب الذين صمَدوا لذلك المذهب،٢ فنحَّوْه عن الأدب ونقدِ الأدب، بحيث لم يكن له كَبيرُ أثرٍ لديهم، وإنما أثَرُ قدامة وأثرُ أرسطو «بِخَطابته» و«شعره» و«منطقه» بأكمله في نشأة علوم اللغة، وبخاصةٍ البلاغة، وهذه من أدوات النقد، ولكنها ليست إيَّاه.

فالنقد الأدبي نشأ عربيًّا، وظل عربيًّا صِرفًا؛ وذلك لأن أساس كلِّ نقد هو الذَّوق الشخصي، تَدْعمه ملَكةٌ تَحصُل في النفس بطول ممارسةِ الآثار الأدبية. والنقدُ ليس عِلمًا، ولا يمكن أن يكون علمًا، وإنْ وجَب أن نأخذ فيه برُوح العلم. بل لو فرَضْنا جدَلًا إمكانَ وضعِ علمٍ له؛ لوجب أن يقوم ذلك العلمُ بذاته. ومن المعروف أن العلوم المختلفة لا تنمو وتُثمر إلا بفضلِ استقلال مَناهجها ومبادئها التي تُستقَى من موضوع دراستها.

والذي حدَث عند العرب تاريخيًّا هو أن النقد قد تأثَّر في «منهجه» بالعقلية الجديدة التي كوَّنَتها فلسفةُ اليونان، والتي اتخذَها المعتزلة وعلماءُ الكلام أساسًا لمجادلاتهم في التوحيد والفقه. وهذا يُفسِّر تغيُّرَه من نقدٍ ذَوقي غيرِ مُسبَّب، يقفُ عند الجزئيات، ويقفز إلى تعميماتٍ خاطئة، تجعل من شاعرٍ أشعرَ الناس؛ لبيتٍ قاله، إلى نقدٍ ذوقي مُسبَّب، يُحاول أن يَقصُر أحكامه على الجزئية التي ينظر فيها، فإنْ سعى إلى تعميمٍ لجأ إلى الاستقصاء، واحتاط في الحكم، على نحوِ ما نرى عند الآمديِّ في «موازنته».

وإذن، فمن الخطأ أن ننظر إلى النقد في جُملته، ونصرفَ النظرَ عن مراحله التاريخية، ونرى فيه عِلمًا كاملَ التكوين نُحاول أن نُميِّز بينه وبين علوم اللغة الأخرى، بعد أن تحجَّرَت تلك العلوم؛ لأن في ذلك ما يخلق مشاكلَ باطلة، كما أنه لن يؤدِّيَ إلى نتائجَ يُعتدُّ بها في فَهم حقائق الأشياء فهمًا تاريخيًّا، بل ولا فهمًا تقريريًّا، ومن الثابت أننا لا نستطيع فهم شيءٍ فهمًا صحيحًا بالنظر فيه عند آخرِ مراحله.

ومعنى هذا هو أننا نُفضل الأخذ بالمنهج التاريخي حتى عندما نُحاول أن نضعَ للنقد حَدَّه. وهذا هو المنهج الذي استقرَّ الباحثون على جَدْواه منذ أوائل القرن التاسع عشر إلى اليوم، وبفضله جدَّدَت الإنسانية من معرفتها بتُراثنا الروحي وزادَته خِصبًا.

١  طه حسين: مقدمة «نقد النثر»، لقُدامة بن جعفر.
٢  مقدمة «أدب الكاتب»، لابن قتيبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤