تمهيد

استعرضنا في الجزء الأول من هذا الكتاب تاريخَ نشأة النقد المنهجي عند العرب، ووصلنا به إلى أن تحوَّل إلى بلاغة أو فقهٍ لُغوي، وأنه وإن يكن بحثنا بحثًا تاريخيًّا نقصد منه إلى تعرُّفِ أصول ذلك النشاط الأدبي، وكيفيةِ تكوُّنه مرحلةً بعد أخرى، إلا أننا نرى من موجبات الاستقصاء أن ننظر نظرةً تقريرية في الموضوعات التي تناولها ذلك النقد، وفي المقاييس التي أخذ بها؛ لنرى النتائجَ النهائية التي وصلوا إليها، ثم نُناقش تلك النتائج فنُقدر ما كان لها من أثرٍ على مصائر الأدب العربي، وما بقي لها من قيمةٍ حتى يومنا هذا.

والذي نحرص على إيضاحه هو أننا عندما نُحاول أن ندرُسَ النقد العربي دراسةً تقريرية لن نخرج لذلك عن المجال التاريخي، بل سنظلُّ مقيَّدين بآراء النقَّاد الذين عرَضنا لهم فيما سبق؛ نَبسُطها ونُناقشها. وإذن فلن نُغير في هذا الجزء شيئًا من منهجنا، وإنما نحاول هنا أن نستعرض تاريخَ مسائل النقد، بعد أن استعرضنا في الجزء السابق تاريخَ النقاد ومناهجَهم.

وتنتج عن ذلك نتيجةٌ هامة؛ هي أننا عندما نتحدث عن الموازنة بين الشعراء، أو عن مشكلة السرقات أو مقاييس النقد، لن نتناولَ تلك المسائلَ الخطيرة في ذاتها، وإلا انفصل جُزءَا هذا البحث، ولم تَعُد هناك رابطة بينهما.

والواقع أن الموضوعات التي شغَلَت عناية النقاد العرب لا تزال إلى اليوم موضوعَ بحث الأدباء والنقاد في عالمنا الحاضر في كافة البلاد، وإن يكن هناك تغييرٌ فهو في المناهج لا الأهداف.

فنحن اليوم مثلًا نتناول بالدرس المقارن أسطورةً أو شخصية روائية، أو فكرةً أدبية وإحساسًا بشريًّا، أو مذهبًا في الصياغة، ويكون في عملنا هذا ما يُشبه الموازنة. ندرس مثلًا أسطورةَ برومثيوس عند هزيودس وأسكيلوس وشلي وجيته وأندريه جيد؛ لنرى كيف استخدم كلٌّ منهم نفس الأسطورة وحوَّر فيها حتى حمَلها على أداء المعاني والإحساسات التي يريد أداءها، ونحن نتتبع شخصيةً روائية كشخصية «أوليس» عند هوميروس وسوفوكليس ودانتي ودي بللي وتنيسون؛ لنرى كيف تطورَت تلك الشخصية تبعًا لطبيعة الشاعر الذي صوَّرها، والحقائقِ النفسية التي نفَثها فيها. ولقد ندرس التغنيَ بما في الأطلال من شعرٍ فنتناوله في أوروبا منذ ظهوره في أواخر القرن الثامنَ عشر وخلال القرن التاسع عشر؛ لنتبين كيف توجَّه إليه الشعراءُ بعد أن كشَف علماء الآثار عن هركيولانم وعلى مدينة بومبي بإيطاليا، وكيف أولع الرومانتيكيون بهذا التغنِّي عندما رأَوا في الأطلال صورًا لنفوسهم المضناة. ولكَم من كتابٍ كُتب عن جمال الطبيعة! يُقارن فيه مؤلفه بين مواقف الشعراء من ذلك الجمال، فيجد من بينهم مَن يعجب به، ويرى فيه عزاءً عن كل محنة، بينما لا يرى آخَرون في الطبيعة كلِّها إلا ما يؤلم البشر ويُذكرهم بفَنائهم؛ فالجبال والغابات والأنهار والأودية ستظل أبدَ السنين. وأما نحن فكائناتٌ فانية عابرة لا تَزيدنا مشاهدُ الطبيعة إلا إحساسًا بحقارتنا وبؤسِنا. وأخيرًا نستطيع أن نقارن مذهبًا فنيًّا كالرمزية بمذهبٍ آخر كالواقعية، أو نتتبَّع نفس المذهب في مراحلِ نموه، ويكون عملنا في كل ما سبق داخلًا فيما نُسميه اليوم بالأدب المقارن. ولكن هذا وإن شابهَ الموازنة عند العرب إلى حدٍّ ما، إلا أنه يخالفها — كما قلنا — في المنهج والأهداف.

وكذلك الأمر في السرقات؛ فهناك اليوم دراساتٌ أدبية من أشقِّ ما نعرف، وهي دراسة التأثُّرات: بمن تأثر هذا الشاعر أو ذاك الكاتب، وهناك دراسة المدارس المختلفة وانطواء هذه الجماعة أو تلك تحت مبادئِ مدرسةٍ ما في الشعر أو القصة. وأما مسائل الأخذ عن الغير والسرقة، فالعناية بها اليوم لا تُذكر؛ لأن النقاد المحْدَثين لا يكادون يرَون لها أثرًا عند كبار الأدباء، وهؤلاء هم موضعُ عنايتهم، وإنما الأمر قد يكون أمرَ استيحاءٍ أو استعارةِ هيكل أو فكرة، وكلُّنا يعلم أن الأدب الكلاسيكي كلَّه قائمٌ على موضوعات أو أساطير أو وقائعَ تاريخية أُخِذَت عن اليونان أو اللاتين. وإنه لَمن الحمق مثلًا أن نقول: إن راسين قد سرَق من أربيدس، أو إن شكسبير قد سرق من بلوتارخ … إلخ.

وأما مقاييس النقد، فتلك مسائلُ لا حصر لما كُتب فيها. ولقد رأينا من المذاهب المختلفة ما لا يمكن أن يردَّ إلى أيِّ وحدة؛ فهناك النقد الذَّوقي، والنقد الموضوعي، والنقد الوصفي، والنقد الإنشائي وما إلى ذلك. والعرب بلا ريبٍ قد كانت لهم مقاييسُهم. وهذه هي التي تُهمنا معرفتُها.

وإذن فنحن لن نتكلم عن الموازنة أو السرقات على نحوٍ مطلق، بل مقيَّدون بالنحو الذي عولجَت به عند العرب. والذي يُهمنا أن نَلفت إليه الأنظار هو أن الاتجاه الذي أخذَته تلك الدراسات عند العرب الجاهليِّين والأمويين ومعظم العباسيِّين، بل وإلى أيامنا هذه أحيانًا كثيرة؛ هو الاتجاه القيمي. والموازنة عند نشأِتها كانت مفاضلةً بين شاعرٍ وشاعر، أو بين شعرٍ وآخَر. وهذه كانت — كما أشرنا في الجزء السابق — كلَّ مظاهر النقد، ولكن الزمن سار سيرتَه، وظهر الآمديُّ فوضع للموازنة مناهجَ، وحدَّد لها أهدافًا تدنو بها مما نفهمه اليوم من المقارنات الأدبية. وكذلك الأمر في السرقات؛ فسوف نرى أنها وإن نشأت لتجريح الشعراء إلا أن النقاد لم يلبثوا أن فَطِنوا إلى وجوب التفرقة بين السرقة والاستيحاء والتأثُّر.

والمقاييس هي الأخرى لم تظلَّ كما هي. ولقد رأينا فيما سبق كيف أن منهج النقد تغيَّر بانتقالنا من الآمديِّ إلى علي بن عبد العزيز الجرجاني، بل وحلَّت مقاييسُ البلاغة التعليمية محلَّ مقاييس النقد، إلى أن ظهر عبد القاهر الجرجاني، فأرجع أحكامَه إلى فلسفةٍ لُغوية عظيمة الخطر، وعلى أساس تلك الفلسفة وضع منهجه في النقد.

هذا مجملٌ لتطور موضوعات النقد ومقاييسه، وعلى تفصيلِ ما أجملناه نريد الآن أن نوفِّر القول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤