مقدمة

منذ سنتين وقبل أن أترك الجامعة المصرية للاشتغال بالمسائل العامة؛ كانت وزارة المعارف المصرية عندئذٍ قد فكَّرَت في ترجمة كتابٍ نفيس يُعالج مناهج البحث في العلوم المختلفة؛ هو كتاب De la methode des scinces المؤلَّفُ من جزأَين، يقع كلٌّ منهما في نحوِ خَمسِمائة صفحةٍ من الحجم المتوسط، نشَرهما في باريس بيتُ النشر الشهير «فليكس ألكان».

وأُلِّفت بالفعل لجنةٌ من أساتذة الجامعة — كان كاتبُ هذه السطور من بين أعضائها — وتوزَّعَت اللجنة أبوابَ الكتاب، كلٌّ حسَب اختصاصه، ولكنني لم أدرِ إلى اليوم ماذا أنجز زملائي، بل لا أعلم هل ابتدَءوا العمل أم لا.

وهذا الكتاب يُعتبر فريدًا في بابه، لا لأن مناهج البحث في العلوم لم يسبق التأليف فيها، ولكن لأنَّ له ميزةً جسيمة على ما يُكتب عادةً في هذا الموضوع الهام.

ومناهج البحث إنما يتناولها عادةً الفلاسفة؛ إذ يُفرِدون لها في مؤلفاتهم بابًا أو جزءًا باسم Methodologie، وفيه يتناولون الأسسَ الفلسفية لكل منهج في كل علم بعد الفراغ من تحليلهم لعمليات التفكير العامة. وإنه وإن تكن لتلك الأبحاث قيمتُها إلا أنها في الغالب قيمةٌ نظرية؛ وذلك لأن كاتبيها فلاسفةٌ لم يتخصَّصوا في تلك العلوم المختلفة التي يتحدثون عن مناهجها. ولما كانت الممارسة الشخصية شيئًا لا غنًى عنه لتسديد الفكر النظري وإحكام مأخذه على الواقع، فإن كتابتهم يمكن القولُ عنها بأنها ثقافةٌ عقلية، ورياضةٌ للفكر أكثرَ منها قيادةً عَملية وتوجيهًا لخُطى البحث.

وعلى العكس من ذلك الكتاب الذي نتحدث عنه، فقد طلب ناشرُه إلى أكبر العلماء في فرنسا أن يكتب كلٌّ منهم فصلًا عن منهج البحث في العلم الذي تخصَّص فيه، وأفنى حياته في الكشف عن حقائقه، حتى أصبح يتحدث في علمه وكأنه يروي ذكرياتٍ خاصة.

ويكفينا أن نُشير من بين هؤلاء العلماء إلى أسماء خالدة؛ كأسماء «دور كايم» في علم الاجتماع، و«مونو» في علم التاريخ، و«ريبو» في علم النفس، و«سالمون ريناخ» في علم الآثار، وأخيرًا «لانسون» في الأدب، و«ماييه» في علم اللغة. وهذان الأخيران هما العالمان اللذان كان لنا شرفُ ترجمة بحَثيهما وتقديمهما إلى القراء العرب في هذا الكتاب.

أما «لانسون» فأستاذٌ للأدب الفرنسي، تخرَّجَت على يديه أجيالٌ من الأدباء والباحثين الذين يُكوِّنون اليوم في فرنسا مدرسةً عظيمة الخطر؛ لأنها تجمع بين الاتجاه الفلسفي في النقد والدقة العلمية في البحث، حتى ليأتي ما يكتبه أفرادُ هذه المدرسة مزيجًا قويًّا من التفكير والمعرفة الصحيحة. وُلد هذا الأستاذ الكبير في مدينة أولينا سنة ١٨٥٧، ومات سنة ١٩٣٤، وإنه وإن يكن معروفًا قبل كل شيء بكتابه الضخم عن تاريخ الآداب الفرنسية منذ نشأتها إلى القرن العشرين، إلا أنه لم يُقدم على تأليف هذا الكتاب، ولم يجمع دفَّتَي الأدب الفرنسي في مجلد، إلا بعد أن تناول بالبحث المنفرد كثيرًا من المؤلفين أمثال بوسويه وبوالو وكورناي وفولتير، كما تناول طائفةً من تيارات الأدب وفنونه، وكان آخرُ ما كتب مجلَّدَه القديم عن المثل الأعلى الفرنسي في الأدب منذ عصر النهضة إلى الثورة الفرنسية، كما أن كتابه عن فن النثر يُعتبر فتحًا جديدًا في تحليل عناصر الصياغة، وموسيقى الإيقاع في النثر، الذي يظنُّ عامة الناس أنه يخلو من الوزن بعد أن انفرَد به الشعر.

وأما أنطوان ماييه، فهو عالمٌ لم تقتصر شهرتُه على فرنسا، بل طبَّقَت آفاقَ العالم، ولا نبالغ إذا وصَفنا هذا الرجلَ بأنه ظاهرةٌ بشرية خارقة للمألوف؛ فقد درس وكتب في فقه اللغة ما يَنيف على أربعين لغةً «هندو أوروبية» من الأرمنية إلى الفارسية إلى اللغات الجرمانية واللغات الصقلبية، بل والرومانية، وذلك فضلًا عما كتبه في فلسفة اللغات العمَلية، وبخاصة من الناحية الاجتماعية؛ إذ كان يَعتبر اللغةَ ظاهرةً اجتماعية قبل كل شيء، ولا تزال مؤلفاته مرجعًا للدارسين، وسنجتزئ هنا بذِكر بعضها؛ من مثل «لغات العالم» الذي أشرف على تأليفه مع الأستاذ كوهين، و«اللغات في أوروبا الحديثة»، و«اللهجات الهندو أوروبية»، ثم مؤلفه الراسخ كالطَّود المسمَّى «مقدمة لدراسة اللغات الهندو أوروبية دراسة مقارنة»، وأخيرًا مجموعة أبحاثه التي نشرها تلاميذه، بعد وفاته، في مجلَّدَين بالغَي الفائدة والإيحاء باسم «علم اللسان العام وعلم اللسان التاريخي». أضف إلى ذلك مؤلفاته الخاصةَ عن كلِّ لغة من لغات العالم؛ مثل «بحث في تاريخ اللغة الإغريقية»، و«بحث في تاريخ اللغة اللاتينية»، و«نحو اللغة الفارسية» … إلخ.

وقد وُلد هذا العالم الكبير في سنة ١٨٦٦، وتُوفي عام ١٩٣٦.

وإذا كانت مناهج البحث العَملية موضعَ اهتمام الغربيين بوجهٍ عام، فإننا نحن الشرقيِّين أشدُّ منهم حاجةً إليها لعدة أسباب؛ منها: ما يرجع إلى مِزاجنا القومي، ومنها ما يرجع إلى نُظم التعليم في بلادنا؛ فالشرقيون عاطفيون، كثيرًا ما تنشر مشاعرُ الجذب والنفور على تفكيرهم ضبابًا قد يعمي معالم الحق. وفي كثيرٍ — إن لم يكن في كافة البلاد العربية — لم تستقم بعدُ نظُم التعليم، بحيث تُسفر عن عقلٍ مكون يحتاط في التأكيد ويحرص على ملابسة الواقع، كما أن التحصيل لا يزال طاغيًا فيها على الفهم. وفي هاتين الحقيقتين القاسيتين ما يظهر حاجتنا إلى دراسة المناهج؛ لعلنا نخرج منها بقيادةٍ فكرية ضرورية.

ومناهج البحث ليست قيادةً للفكر فحسب، بل هي أيضًا وقبل كل شيء قيادةٌ أخلاقية؛ لأن روح العلم روحٌ أخلاقية، وكما يخشى على الفرد الذي يُزاول الحياة العملية من الانحراف عن مبادئ الشرف، كذلك يخشى من الخطر نفسِه على من يُزاولون أعمال الفكر، بل ربما كان الخطر أعظمَ هنا؛ لأن وقائع الحياة قد ينبعث منها الجزاء.

أما الفكر فإنه وإن يكن ضررُ الانحراف فيه أقلَّ، وخطرُه أوسعَ انتشارًا، إلا أن الجزاء فيه قد لا يكون سريعًا ولا فعَّالًا ولا أكيدًا؛ لأنه لا يعدو أن يكون فَقْد المؤلِّف ثقةَ القُرَّاء. وتلك مسألة هروب.

والمنهجان اللذان ننشرهما اليوم، فضلًا عن قيادتهما للفكر، وتسديدهما للخُلق العلمي، يفتحان في مادتَي اللغة والأدب أبوابًا للتفكير، بل أبوابًا للبحث لم نطرقها بعدُ لا في دراستنا لتراثنا العربي، ولا في محاولتنا لخلق تراثٍ جديد.

فنحن إلى اليوم لا نزال في دراستنا للأدب العربي لا ندخل فيه غير الشعر والنثر الفني؛ أي الحِكَم والأمثال والمقامات والرسائل، مع أن هذا ليس خيرَ ما في التراث العربي؛ إذ اللفظية طاغيةٌ عليه، ومادة الفكر والإحساس ناضبةٌ فيه، وعلى العكس من ذلك كتابات المؤرِّخين والفلاسفة وعلماء الأخلاق والاجتماع والمتصوِّفين والمتكلمين الذين لا نُدخلهم في تاريخ الأدب، في حينِ لا يخلو مؤلفٌ في تاريخ الآداب الغربية من الوقوف عند أمثالهم وقتلهم بحثًا. وبهذا يخرج دارسُ الأدب في أوروبا بمحصولٍ عقلي وعاطفي يُسلِّحه للحياة، عملية كانت أو نظرية.

ونحن في نقدنا للمؤلفات الأدبية بين أمرين: إما أن ننسخ طائفةً من المعلومات المتناقضة غير المحقَّقة، التي جمَعها الرواة والمتحدِّثون بين دَفَّتي الكتب القديمة، نُعيد كتابتها أو ننقلها كما هي، ثم نُقدمها للطلاب والدارسين فلا يجدون فيها غَناءً ولا لذة، وإما أن نُحاول التجديد فيُسرف بعضها في المدح أو القدح. ويسوق طائفةً من التأكيدات التي لا تستقيم في فكرٍ ولا تستند إلى معرفة. وإما أن نُقحِم على الأدب العلوم والنظريات الأوروبية الحديثة، محاولين أن نُلبسه إياها حتى ولو تمزَّقَت من حورٍ أو ضاقت عنه، فمنا من يأتيه بنظرياته علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التطور حتى يُحمله ما يُطيق وما لا يطيق.

ومنهج الأستاذ لانسون يَقينا هذه الأخطارَ جميعًا، ولو لم يكن له من فضل إلا أنه قد دلَّل على أصالة المنهج الأدبي وتميزه من غيره من المناهج، ومدى الضوء الذي يستطيع أن يستمدَّه من العلوم الأخرى لكَفاه فائدة. انظر اليوم كيف يدعونا إلى أن لا نأخذ من العلوم الرياضية خُططها ومعادلاتها، بل روحها التي هي كما يقال روحٌ أخلاقية بحتة. انظر إليه كيف ينتقد بحقٍّ محاولة الأستاذ الجبار برونتيير عندما طبَّق نظرية التطور على الأدب، التي طبقها من قبله سبنسر على الأخلاق والاجتماع، بعد أن وضع داروين أسسَها العامة في عالم الطبيعيات. انظر إليه كيف يقول: إن الأدب ظلالٌ ومفارقات قد لا تحتويها الألفاظُ بغير الإيماءة الخفيفة والإيحاء البعيد. تأمل كلَّ قضية من قضايا هذا العقل المشرق تجد فيضًا من الضياء الذي ينير لك حقائقَ الأدب، بل حقائق الحياة الإنسانية والتفكير البشري.

واللغة التي هي مستودَعُ تراث الأمم لا نزال نحن بعيدين عن استخراجِ ما في حَناياها من حقائقَ إنسانية عامة، وحقائق خاصة للشعب العربي والعقلية العربية، كما رسبت بها خلال القرون المليئة بالأحداث، حتى ليصحَّ القول بأننا لا نزال نعيش على ما خلفه علماءُ النحو والصرف والبلاغة الأقدمون، وعندما يدَّعي بعضنا التجديد لا يعدو في الحقيقة التطريزَ على ثوبٍ خلَقٍ، حتى أصبحنا أشبهَ بمن يرقص في السلاسل. وكم يذكرني سادتنا الباحثون في اللغة بفقيرٍ يصرف قرشًا إلى مليمات ليُقرقع بها!

لقد تقدَّمَت الدراسات اللغوية في الغرب، وازداد الاهتمام باللهجات الحديثة التي نُسميها عِلمية، ونظن أنها لا تطَّرِد على قاعدة ولا تستندُ إلى نحو، وأخذت الأبحاث تنهض على التاريخ من جهة والمقارنة من جهة أخرى. أما نحن فلا نزال جامدين عند اللغة الفصيحة، ولا تزال أبحاثنا تقوم على المنطق المجرَّد أو التأكيدات المسرفة، ولا تزال مسألة الصحة والخطأ محورَ مجادَلاتنا اللغوية.

والمنهج الذي يُقدمه لنا الأستاذ ماييه خليقٌ بأن يُبدد من العقول كلَّ هذه الأوهام، وأن يفتح للدراسات مجالاتٍ لم تكن تخطر لنا ببال، وقد خطَّط فيه بعد طول مِراس طريقًا كاملًا لتناوُل اللغة منذ عناصرها الصوتية الأولى إلى حقائقها المركبة جُملًا وفقرات.

هذه فكرةٌ عابرة عن النفع الذي نرجوه من نشر هذين المنهجين في العالم العربي، وقد أوضحنا قدر كاتبيهما، وقيمةَ ما كتبا، ووجه الاستفادة منهما لدى القرَّاء العرب، فلم يبقَ إلا أن يُحقق الله ذلك النفع الذي نرجوه.

محمد مندور

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤