الفصل الثالث

الخصومة بين القدماء والمحدثين

إن في تلك الخصومة ما يدعو إلى النظر؛ فهي لم تكن بين مذهبِ أبي نُواس وبين أنصارِ التقاليد الشعرية. ولو أنها كانت لأَخذَت اتجاهًا غيرَ الذي أخذته، وإنما قامت بين أبي تمام وبين خُصومه، كأنَّ هذا الشاعر قد جدَّد الشعر العربي تجديدًا حقيقيًّا، وكأنه قد خرج على ما عَهِده الجاهليون والأمويُّون من شعر، مع أنه كما قلنا لم يُغير شيئًا في الأصول الفنية للشعر العربي، ولم يخرج إلا على عموده كما يقولون. ومعنى العَمود عندهم — فيما يبدو — هو الصياغة؛ فأغراضه الشعرية هي أغراض القدماء، وطريقةُ بنائه للقصيدة هي طريقة القدماء، ومعاني شعره هي معاني القدماء. إنه كما يقولون في النقد الأوروبي «كلاسيكي جديد».

ولقد سبَق أن شرَحْنا لماذا ظلَّت تقاليدُ الشعر عند العرب مطَّرِدةً رغم ظهور الإسلام، مفسِّرين ذلك بخلوِّ القديم من الوثنية، وعدم صدوره عنها — على الأقل ما وصَلَنا منه — وهو الذي اتُّخِذ نموذجًا يُحتذى.

ولكننا لا نريد بذلك إلى القول بأنه لم يطرأ على الشعر العربي أيُّ تغيير بعد ظهور الإسلام؛ إذ من المعلوم أن الحوادث السياسية والاجتماعية والدينية التي طرأتْ على حياة العرب قد غيَّرَت من روح الشعر وأساليبِه وآفاقِه، فنرى الرفاهيةَ والحرمان من المساهمة في الحياة السياسية العامة يقودان الحجازيِّين إلى غزَلٍ ماجنٍ أو عفيفٍ مختلِف المعاني عمَّا عهده الجاهليُّون، ونرى الشعر السياسيَّ يظهر في العراق، وتتَّخذه الأحزابُ السياسية والفِرقُ الدينية من وسائلِ جهدِها، كما أن تنظيم الدولة السياسيَّ وتركيز السُّلطة قد نَمَّيا المدحَ حتى كاد يُسيطر على غيره من فنون الشعر، وحتى أصبح الشعراءُ يحطُّ من قدرهم ألَّا يُجيدوا المدح والهجاء، كما نراهم يقولون عن ذي الرُّمة.

وجاء العصر العباسي، وانتقلَت الخلافة من دمشق إلى بغداد، فجاور العربُ الفُرسَ، وأخذوا بحضارتهم الناعمة المرهفة، فجدَّت في الشعر فنونٌ لم يألفها الجاهليُّون إلا بمقدار؛ كأشعار المجون والخمر، أو لم يألَفوها أصلًا؛ كالغزَل بالمذكَّر.

(١) لماذا لم تنشأ خصومةٌ حول مذهب أبي نواس؟

ظهر أبو نواس فدعا إلى تجديد الشعر، ومع ذلك لم تَحتدِم الخصومة حول دعوته؛ فهل ذلك لأن النقد لم يكن قد نما بعدُ، ولا وُضِعَت فيه أصولٌ ومؤلَّفات، أم كان لأن تجديده لم يكن بعيدَ المدى فكان نصيبُه الإهمال، أم كان لأنَّ أبا نُواس رغم أنه مولَّدٌ أعجمي كان يُجيد اللغة العربية ويَحذق الكتابة فيها، فجاء شعره عربيًّا أصيلًا لم يخرج في شيء عن عمود الشعر؟ لا ريب أن في كلٍّ من هذه الأسئلة شيئًا من الصحة، ولعل في اجتماعها ما يُساعد على تفسير تلك الظاهرة.

ومع ذلك، فلنستعرضْ في إيجازٍ السَّيرَ العام للحركة الشعرية عند العرب، والطرقَ التي كان من الممكن أن تتطوَّر بواسطتها، لنرى لماذا لم يُنتج مذهبُ أبي نُواس من الخصومات مثلما أنتج مذهبُ أبي تمام.

لقد جاء العصر العباسي وأخذ العرب يَجِدُّون في جمع تراثهم الروحي. وكان من الطبيعي أن ينصرف أولُ جهدهم إلى المحافظة على لُغتهم من العُجْمة التي أخذَت تتسرَّب إليها بعد الفتوحات، وعلى سلامة تلك اللغة يتوقفُ فَهمهم لمصادرِ دينهم، وهو أعزُّ ما يملكون؛ ولذا حرَص علماؤهم على تدوين الشعر القديم يتَّخذونه حُجَّة في تفسير القرآن والحديث. ولم يكن يَشغَلهم إذ ذاك جَمالُ ذلك الشعر قدْرَ ما شغَلَتهم صلاحيتُه للاستشهاد؛ فاتصال الشعر بالدين هو السببُ الأكبر في الانتصار للقديم. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل امتدَّ إلى الشعراء أنفسِهم؛ إذ لم يرَوا بُدًّا — لكي يُروى عنهم شعرهم وينتشر — من أن يُحاكوا الشعر القديم، لا في أسلوبه فحسب، بل وفي بنائه الفني.

ولكننا كما قلنا نُلاحظ أن الحياة كانت قد تغيَّرَت، والجاهلي كان يقول الشعرَ تعبيرًا عن حياته هو، فكيف يستطيع المحدَثُ أن يصل إلى ذلك مع تقيُّده بمحاكاة القدماء في مواضيع القول عندهم؟

الواقع أنه قد كانت هناك عدةُ سبُل للخروج من هذه المشكلة؛ فقد كان القدماء يُمهدون مثلًا لموضوع قصائدهم ببكاء الديار الدَّارِسة، وترديد ذِكرى الحبيبة. وهذا شعورٌ صادَقَ حياةَ البدو الدائمي الرحلة، ولكنَّ المحْدَثين قد استقرُّوا بالمدن وسكَنوا القصور، فهل يبدَءون بوصفِ تلك البيوت العالية؟ وهَبْهُم فعَلوا، هل يستطيعون أن يصلوا من ذلك إلى شيء يُذكَر، والأطلال جديرةٌ بأن تكون موضوعًا للشعر، وهجرُ المنازل والمرور بها بعدَ حينٍ خليقٌ بأن يوقف الشاعرَ ويُحرِّك قلبه ويُذكِّره بالأيام الخوالي؟ ولقد حدَث في عصرنا أنْ قصَد بعضُ الشعراء إلى وصف القطار أو الطائرة بدلًا من الجمَل أو الناقة، فجاء شِعرهم مضحكًا؛ وذلك لأن القاطرة والطائرة آلاتٌ لا شِعر فيها، ولا كذلك الناقةُ أو الجملُ الذي يُصاحبك فتألَفُه وتُحسُّ بآلامه … إلخ.

وللشاعر الفرنسي ألفريد دي فني قصيدةُ «بيت الراعي» يعبر فيها عن هذه المعاني، ويأسَفُ فيها لاختراع وسائلِ المواصلات الحديثة التي حلَّت محل الوسائل القديمة، عندما كان المسافر يسير رويدًا، فيجد الوقت للتأمل في الناس والأشياء تأملًا يحرك الإلهامَ الذي لم نعد نجد له أثرًا وسطَ ما في حياتنا الحديثة من تلك الآلية، التي قد تُفسر الظاهرة التي نُلاحظها اليوم في أوروبا كلِّها؛ ظاهرة قلة الشعر إن لم يكن وشْك انقراضه.

وإذن فهذا الاتجاه لم يكن مُواتيًا، ولو أنه حدث لما عدا أن يكون إحلالًا لديباجةٍ محلَّ أخرى؛ ديباجةٍ نثريةِ الرُّوح محلَّ ديباجةٍ شعرية، وليس هذا بالتجديد الصحيح، وهَبْ أن التغنِّيَ بالخمر أو التغزُّلَ بالمذكَّر كانا خَليقَين بأن يحلَّا محل وصف الديار وذِكرى الحبيبة، فهل من الثابت أن موضوعاتٍ شاذةً كهذه تستطيع أن تُحرِّك كافة النفوس كما كانت تفعل موضوعاتُ القدماء؟ ووصف الخمر قد يُشجينا لجمال الوصف وروعة التصوير، وكذلك الغزَل بالمذكر، ولكنهما بعدُ لا يستطيعان أن يبعَثا في النفوس تلك الأصداءَ الإنسانية الواسعة التي لا بدَّ منها. موضوعات القدماء كانت إذن شِعريةً بطبيعتها، ولكن هل كان العبَّاسيون يستطيعون — رغم تغيُّر حياتهم واختفاء الأطلال مثلًا عن أبصارهم — أن يَصِفوا تلك الديار، ولا يكون شعرهم مجردَ صنعةٍ فنية لا صِدق في نغماته؟

هذا السؤال يُحرك مسألةً عامة في الفن؛ هي: هل الشعر لا يمكن أن يكون صادقًا إلا إذا صدَر عن التجرِبة الذاتية المباشرة؟ يُجيب النظرُ السريع على هذا السؤال بالإيجاب؛ فأنت لا تُجيد وصْفَ الشوق إلا إذا كابَدتَه، أو وصف الخمر إلا إذا شربتَها، وأنت لا تقف على الأطلال إلا إذا مررتَ بها. وبهذا قال أبو نواس، ولكنه قولٌ لا يمكن قَبوله على إطلاقه، وإلا لَوجَب أن يعيش الروائيُّ أو الشاعر ألوانًا من التجارِب لا تتَّسع لها حياة. ونحن وإن كنَّا لا نقول بأن الأدب كله وصفٌ لما نحياه، أو ما نأمُل أن نحياه، أو ما عجزنا عن أن نحياه، إلا أننا ننظرُ في حقيقة الخلق الفني، فنجد أنه كثيرًا ما يكون قدرةً على خلق الواقع بدلًا من الاقتصار على تصويره.

يُلخص جورج ديهامل في كتابه «دفاعٌ عن الأدب» قصةً لبيير لويس عُنوانها «الرجل الأرجواني»، وموضوعها فنانٌ إغريقي يأخذ بعَبدٍ ويَكوي صدره بالنار ليراه يتألم، فيستطيع أن يلتقطَ ملامحه المتقلِّصة ويُودِعَها لوحةً زيتية كان يرسمها للشخصية الخرافية؛ شخصية برومتيوس الذي عذَّبته الآلهة لأنه سرَق النار من السماء وأتى بها إلى البشر، وكان عذابه نَسْرًا ضاريًا ينهش كبدَه بالنهار ويتركه ليعودَ فينمو بالليل، وعند الصباح يستأنف النهش. ورسَم الفنان اللوحة، ولكن الشعب علم بتعذيبه لهذا العبد المسكين فثار. وأتت الجموعُ إلى منزل الفنان لتنتقمَ منه، ولكن الفنان أطلَّ على الشعب من النافذة وأراه اللوحة، فنَسي الشعبُ العبدَ المُعذَّب وهلَّل للفن. ومع ذلك، يُعلق ديهامل على تلك القصة بقوله: «ما أفقرَها عبقريةً تلك التي تشعر بالحاجة إلى أن تُثير الألم بالفعل لكي تُصوِّره!»

وفي هذا ما يُلقي كثيرًا من الضوء على مشكلة التقليد وإفادةِ الشعر العربي منه أو عدم إفادته؛ فالأمر ليس أمرَ تقليدٍ أو أمر موضوع يُقال فيه الشعر، وإنما هو أمر الشاعر نفسه؛ فهو إذا كان موهوبًا استطاع أن يصل بقوة خياله إلى أن يخلق في نفسه الجوَّ الشعري الذي يريده، ومتى خلَق هذا الجوَّ استطاع أن ينقل إحساساته إلى أيِّ موضوع، وهذا ما يُسمونه بنقل القيم؛ فهو إذا كان حزينًا استطاع أن يُعبر عن حزنه بوصف أطلالٍ لم يرَها، ويأتي هذا الوصف صادقًا مؤثرًا جميلًا. وعلى العكس من ذلك، قد يرى شاعرٌ آخرُ مئاتٍ من الأطلال يحاول وصفها فلا يصل إلى شيء؛ لأنه غيرُ موهوب، ولأنه لا يملك القدرة على الانفعال، ثم على التعبير عن انفعاله في صيغة شعرية.

وإذن، فدعوة أبي نُواس لم تكن من الناحية الفنية ضرورةً حتمية، وبخاصة وأنها لم تعْدُ أن تكون محاذاةً للشعر القديم. والمحاذاة أخطرُ من التقليد؛ وذلك لأننا كنا نفهم أن يدعوَ إلى نوعٍ جديد من الشعر، وأما أن يحافظ على الهياكل القديمة للقصيدة مستبدلًا ديباجةً بأخرى، وأن يدعوَ إلى الحديث في موضوعات لا تستطيع أن تُحرك نفوسَ الجميع؛ فذلك ما لا يمكن أن يُعتبر خلقًا لشعرٍ جديد.

ولو أننا أضفنا إلى ذلك أن دعوته كانت مَشوبةً بروح الشعوبية والغضِّ من شأن العرب وتقاليد العرب، وأن معظم الأغراض التي طرَقَها كان العرب قد سبقوا إليها، وأن ما لم يسبقوا إليه كان شيئًا تافهًا؛ كالغزل بالمذكر، كما أنه هو نفسُه لم يُساير مذهبَه إلى النهاية، بل كان يعود في مدائحه إلى مذاهب القدماء ترضيةً لممدوحيه وضمانًا لنوالهم. نقول: إننا لو أضفنا كلَّ هذا إلى ما سبق أنْ بسَطْناه عن حقائق الخلق الفني؛ لَفهِمنا أسبابَ إخفاق تلك المحاولة وعدم مُسايرة الشعراء له، فيما عدا بعضَ صغار الأعاجم؛ ومِن ثَم عدم قيام خُصومة قوية حول هذا المذهب على نحوِ ما قامت حول مذهب أبي تمام الذي سننظر فيه الآن.

(٢) مذهب أبي تمامٍ والخصومةُ حوله

قلنا: إن الشعراء كانوا يستطيعون — رغم خُضوعهم لتقليد الشعر الجاهلي — أن يقولوا شعرًا أصيلًا جميلًا صادقًا، وذلك ما واتاهم وحيُ الشعر، وتملَّكوا القدرةَ على خلق الصور والتعبير عن إحساسهم. وأما الموضوعات، فتلك قوالبُ يُصَبُّ فيها الشعر. ولقد كان باستطاعتِهم أن يُشكِّلوا تلك القوالبَ كما يريدون، ولكنهم لسوء الحظ لم يفعلوا، بل حبَسوا أنفسهم في تفاصيلِ الصور والمعاني من وصف للدِّمَن والأثافي والوحش، ومحو الرياح للآثار، وسؤال الدار، واستِعجامها عن الجواب، واستيقاف الصَّحب، والبكاء على الظاعنين وما إلى ذلك، فضيَّقوا على أنفسِهم حتى لم يَعُد أمامهم مجالٌ للتجديد غير «التجويد الفني»، وحتى جاء شِعرهم أدلَّ على المهارة في الصياغة منه على أصالة الطبع والعُمق في الإنسانية. هو إن أردتَ شعرٌ فني.

لم تأتِ المحنة إذن من التقيُّد بالأصول الفنِّية للقصيدة القديمة، ولا من الأخذ في نفس الموضوعات التي أخذ فيها الجاهليُّون والأُمويُّون، وكلها موضوعاتٌ إنسانية شغَلَت الشعراءَ منذ الأزل وستَشغَلُهم إلى الأبد، وإنما أتتهم من تقيُّدِهم بالتفاصيل.

وفي هذا ما يُفسر نزعةَ أبي تمام إلى التجديد في الصياغة، واتخاذه من البديع مذهبًا بما يجرُّ إليه مذهبٌ كهذا من التكلُّف والإحالة والإسراف والإغراب في المعاني المألوفة. وكان من نتيجة ذلك أنْ رأينا ابنَ المعتز يؤلِّف كتابًا ليُثبت أن أصحاب البديع لم يأتوا بجديد، وإنما أسرَفوا فيما كان يقعُ عليه القدماء بطبعِهم الأصيل دون صنعةٍ ولا تكلُّف. وبهذا الرأي قال كافة النقاد، فأخذوا يبحثون في الشعر القديم عن أمثالٍ لما قال أبو تمام؛ بعضهم لِيَغُضَّ منه متهمًا إياه إما بالسرقة، وإما بإفساد التراث الموروث، والبعض الآخر ليُشيد به مدَّعيًا أنه قد بذَّ القدماءَ في معانيهم، وفي العبارة عن تلك المعاني، مع تسليم الكلِّ بأنه لم يخرج عن الدائرة التقليدية.

ونظر النُّقاد فرأَوا البحتريَّ يأتي بالشعر السهل دون أن يُكِدَّ خاطرَه في مخالفة عمود الشعر، فتعصَّب له أنصارُ القديم. وكان هذا عنصرًا قويًّا في تلك الخصومة العنيفة التي وصَلتْنا عنها أصداءُ عديدة.

(٣) القديم والحديث

الخصومة بين أنصار القديم وأنصار الحديث لم تحتدم إذن إلا حول أبي تمام. ونحن نقصد بذلك الخصومةَ الفنية التي أثارت حركةَ النقد في القرن الرابع. وأما تعصب اللُّغويِّين للشعر الجاهلي، وعدمُ أخذِهم بغيره، فهذه مسألةٌ لم تكن تقوم على النقد الأدبي؛ إذ من الواضح أن رجلًا كأبي عَمرِو بن العلاء لم يكن يُفضل الشعرَ الجاهليَّ لأسباب فنية؛ من صدقِ إحساس أو جودةِ عبارة أو غيرِ ذلك مما يَعنينا الآن، وإنما لمجردِ سبقِه كما يقول ابن قُتيبة: «كان أبو عمرِو بنُ العلاء يقول: لقد كَثُر هذا المُحدَث وحَسُن حتى لقد همَمتُ بروايته.» والمُحدَث في قوله هذا هو شعرُ الفرزدَق وجريرٍ وأمثالِهما، كما كان يقول: «لو أدرَك الأخطلُ يومًا واحدًا من الجاهلية ما قدَّمتُ عليه أحدًا.» ويقول ابنُ رشيق:١ «هذا مذهبُ أبي عمرٍو وأصحابه كالأصمعيِّ وابن الأعرابي، أعني أن كلَّ واحد منهم يذهب في أهل عصره هذا المذهبَ ويُقدِّم مَن قبلهم. وليس ذلك بشيء إلا لحاجتِهم في الشعر إلى الشاهد، وقلةِ ثقتهم بما يأتي به المولَّدون، ثم صارت لجاجة». وهم يرْوُون عن ابن الأعرابي وقد أنشد شعرًا لأبي تمام: «إن كان هذا شعرًا فما قالته العربُ باطل.»٢ ومع ذلك، يروي الصولي في نفس المرجع عن رجلٍ اسمه أبو عُمر بن أبي الحسن الطُّوسي أنه قال: «وجَّه بي أبي إلى ابنِ الأعرابي لأقرأ عليه أشعارًا، وكنتُ معجبًا بشِعر أبي تمام؛ فقرأتُ عليه من أشعار هُذيل، ثم قرأتُ أرجوزةَ أبي تمام على أنها لبعض شعراءِ هذيل:
وعاذلٍ عذَلتُه في عذْلِه
فظنَّ أني جاهلٌ مِن جهلِه
حتى أتممتُها، فقال: اكتب لي هذه، فكتبتُها له، ثم قلت: أحسَنةٌ هي؟ قال: ما سمعتُ بأحسنَ منها، قلت: إنها لأبي تمام، فقال: خَرْق خَرق.»٣ ونحن وإن كنا قَليلي الثقة بأقوال الصولي التي يَغلِب عليها الغرورُ والإسراف، وبخاصةٍ لأنه قد أورَد هذه القصةَ كمَثلٍ لتعصُّب العلماء كما يقول؛ إننا رغم ذلك نقبل دلالتها؛ لأنها تتمشَّى مع كل ما ورَد عن اللُّغويين من تَحزُّبهم للقديم لقِدَمه، ورفضهم الحديث لحداثته.

(٤) تهمة الكفر والخصومة حول أبي تمام

وكما نطرح التعصُّب للقديم كسببٍ لتلك الخصومة الفنية، كذلك من الواجب أن نُهمل ما يرويه الصوليُّ من أن «قومًا قد ادَّعَوا على أبي تمام الكُفر، بل حَقَّقوه، وجعَلوا ذلك سببًا للطعن على شِعره وتقبيح حسَنِه.»٤ وعلى هذه التهمة يردُّ الصولي نفسُه بقوله: «وما ظننتُ أن كفرًا يَنقصُ من شعر، ولا أن إيمانًا يَزيد فيه.» وكتبُ النقد التي بأيدينا لا تحمل أيَّ صدًى لهذه التهمة التي لم نجدها إلا عند الصولي، الذي يريد أن ينتصرَ لأبي تمام بكلِّ الوسائل، وأن يجرح خُصومه بكافة السُّبل. وإذا كان الصولي يروي أن أحمدَ بن طاهر قال له: دخلتُ على أبي تمام وهو يعمل شعرًا، وبين يدَيه شعر أبي نُواس ومُسلم، فقلت: ما هذا؟ قال: اللات والعُزى، وأنا أعبدهما من دون الله منذ ثلاثين سنة.٥ فمن الراجح ألا يخرج معنى هذه القصة عما نعرفه من أخذِ أبي تمامٍ عن أبي نُواس ومسلمٍ في المذهب الشعري وإعجابِه بهما.

تهمة الكفر لم تؤثر إذن في الحكم على شِعر أبي تمام من الناحية الفنية، وإنما أثَّرتْ — فيما يبدو — في حياته.

قال الصولي: «وقال قومٌ هو حبيب بن تدوس النَّصراني فغير فصار أوسًا.» ونحن عندما ننظر في الشعر الذي هُجي به أبو تمام نجده يدور دائمًا حول اتِّهامه في نَسَبِه، فمُخلَّد بن بكارٍ الموصليُّ يقول:

أنت عِندي عرَبيُّ الـ
أصلِ ما فيك كَلامُ
عربيٌّ عربيٌّ
أجئيٌّ ما تُرامُ
أنا ما ذنبيَ إن خا
لَفَني فيك الأنامُ
وأتَتْ منك سَجايا
نبَطيَّاتٌ لِئامُ
ثم قالوا جاسميٌّ
مِن بني الأنباطِ خامُ
كذَبوا ما أنت إلَّا
عربيٌّ ما تُضامُ
أنت عندي عربيٌّ
عربيٌّ والسلامُ
وكان أبو تمَّام لا يُجيب هاجيًا له، وقد سُئل يومًا أن يردَّ على الموصليِّ فقال: «إن جوابي يرفع منه، وأَستدِرُّ به سَبَّه، وإذا أمسكتُ عنه سكَنَت شَقْشقتُه، وما في فضلٍ عن مدحِ مَن أجتديه.»٦ وفي هذا ما قد يُشعر بأن أبا تمامٍ قد كانت فيه مواضعُ ضعفٍ لعلَّ منها نسَبُه.
ويقول شاعرٌ آخر في هجائه:٧
واذكُرْ حبيبَ ابن أوشونا ودعوتَهُ
فإنَّ طيًّا إذا سُمُّوا به جَزِعوا
لو أنَّ عبْدَ مَنافٍ في أَرُومتِهمْ
تَقبَّلوك لَما ضَرُّوا ولا نفَعوا

وإذن فأبو تمامٍ كان يُتَّهم بأنه نبَطيٌّ، وأنه وُلِد لأبٍ نَصراني. ولَربما كان في ذلك ما يُفسر اتهامَه بالكفر، ولكن هذه التهمة كما قلنا لم تَرِد في كتب النُّقاد الذين ناقَشوا شِعره ودرَسوه، وإذن فهي ليست ذاتَ أثر في النقد الفني المنهجي الذي يُهمُّنا في هذا البحث.

(٥) مَزاعم الصولي عن صعوبة شِعر أبي تمام والخصومة حوله

وكذلك نُسقِط من الخصومة ما يدَّعيه الصوليُّ عندما يقول في رسالته إلى أبي الليث مُزاحِم بنِ فاتِك، الذي وضَع له «أخبار أبي تمام»: «فإنك جاريتَني آخِرَ عهد التِقائنا فيما أفَضْنا فيه من العلوم؛ أمْرَ أبي تمامٍ حبيبِ بن أوسٍ الطائيِّ، وعَجِبتَ من افتراق آخِر الناس فيه، حتى ترى أكثرَهم والمتقدِّمَ في علم الشعر وتمييزِ الكلام منهم، والكاملَ من أهلِ النَّظْم والنثر فيهم يُوفِّيه حقَّه في المدح، ويُعطيه موضعَه من الرتبة، ثم يَكبُر بإحسانه في عينه، ويَقْوى بإبداعه في نفسه حتى يُلحِقَه بعضُهم بمن يتقدَّمه، ويُفرِط بعضٌ فيجعله نسيجَ وَحْدِه وسابقًا لا مُساويَ له. وترى بعد ذلك قومًا يَعيبونه ويَطعنون في كثيرٍ من شِعره، ويُسنِدون ذلك إلى بعض العلماء، ويقولونه بالتقليد والادِّعاء؛ إذ لم يصحَّ فيه دليل ولا أجابَتهم إليه حُجَّة. ورأيتَ مع ذلك الصِّنفين جميعًا، وما يتضمن أحدٌ منهم القيامَ بشعره والتبيينَ لمراده، بل لا يَجسُر على إنشادِ قصيدةٍ واحدة له؛ إذ كانت تهجم — لا بدَّ به — على خَبَر لم يَرْوِه، ومَثَلٍ لم يسمعه، ومعنًى لم يَعرِف مِثلَه.»

وإذن فلم يكن يَقْوى على إنشادِ قصائده غيرُ الصولي؛ لأنه هو العليمُ بكلِّ خبر، الفهيمُ لكلِّ معنًى، كما لم يكن لأحدٍ غِنًى عنه ليُمكن الاحتجاجُ لأبي تمام أو عليه، وتلك هي روحُ الصولي الثقيلة في كتابه «أخبار أبي تمام». وفي هذا ما يَدْعونا إلى الاحتياط في قَبول أقواله؛ لأن الغرور قد أفسَد عليه أمره، ومِن ثم كنَّا أمْيلَ إلى ألا نُعلِّق قيمةً كبيرة على تحمسه لأبي تمام، وقدحِه في خصومه.

وعنده أن هؤلاء الخصومَ طائفتان؛ يقول عن الأولى: «أما ما حكي عن بعض العلماء في اجتناب شِعره وعيبه — ولا أُسمي منهم أحدًا؛ لصِيانتي لأهل العلم جميعًا، وإبقائي عليهم، وحِياطتي لهم — فلا نُنكر أن يقع ذلك منهم؛ لأن أشعار الأوائل قد ذُلِّلَت لهم، وكَثُرَت لها روايتُهم، ووجَدوا أئمةً قد ماشَوْها لهم ورَاضُوا معانيَها، ويَقرءونها سالكين سبيلَ غيرهم في تفاسيرها، واستجادةِ جيِّدها، وعيبِ رديئها. وألفاظُ القدماء وإن تفاضَلَت فإنها تتشابه، وبعضها آخذٌ برِقاب بعض، فيستدلُّون مما عرَفوه منها على ما أنكَروه، ويَقْوَون على صعبِها بما ذلَّلوه. ولم يجدوا في شِعر المحْدَثين منذ عهد بشارٍ أئمةً كأئمَّتهم، ولا رُواةً كرُواتهم الذين تجتمع فيهم شرائطُهم، ولم يعرفوا ما كان يَضبطه ويقوم به، وقصَّروا فيه؛ فجهلوه فعادَوه.»٨ وعذرُ الجهل من السهل أن نرميَ به مَن نريد، وهو بعدُ دليلُ غرورٍ وإفلاسٍ في المُحاجَّة. والذي لم يزل فيه أن هؤلاء العلماءَ لم يكونوا في حاجةٍ إلى الصوليِّ ليشرحَ لهم شعر أبي تمام، أو على الأقل كان منهم مَن ليس في حاجةٍ إلى مِثل هذا الشرح. ولئن كان الصوليُّ هو أولَ مَن شرح ديوان أبي تمام، فقد خلَفَه في ذلك مَن شرحه — فيما يظهر — خيرًا من شرحه؛ كالمرزوقيِّ وأبي العَلاء المعري وابن المستوفي والخطيب التبريزي الذين لا تزال شروحُهم مخطوطة. وأخيرًا لدينا الآمدي الذي يشرح وينقد شعر أبي تمام شرحًا أصيلًا، ونقدًا بالِغَ الدقَّة والصواب، دون حاجةٍ إلى الصولي أو رجوعٍ إليه إلا نادرًا، مع أن الصولي سابقٌ عليه (تُوفي الصولي سنة ٣٣٦ﻫ، والآمدي سنة ٣٧١ﻫ). وإذن فعنصر الجهل يجب أيضًا أن يُحذف من الخصومة.
ولقد وجدتُ في رسالة الأستاذ عبده عزام التي قدَّمَها للماجستير عن «الشرح والرواية في شعر أبي تمام»، عند حديثه عن شرح الصولي لديوان أبي تمام٩ مثَلَين يُصحح فيهما ابنُ المستوفي والمرزوقيُّ أخطاءً واضحةً للصولي، وفيهما ما يدلُّ على سُقم فَهمِه وتفاهةِ شرحه.

قال الصولي عند شرحه للبيت:

فسَقاه مِسكَ الطَّل كافورَ الصَّبا
وانْحلَّ فيهِ خيطُ كلِّ سماءِ

«طِيب الصَّبا يجمع الغَيم ويجلب الطَّل، فاستعار المِسك والكافورَ لطِيبهما واختلافهما في شدة الحرارة. ولا أعرف في وصف المطر أحسنَ من قوله هذا، وتشبيهه المطر بخيوطٍ متصلة من السماء إلى الأرض.»

فقال ابن المستوفي ردًّا عليه: «ولا معنى لقول الصولي: «وتشبيهه المطر بخيوط متصلة من السماء إلى الأرض.» وإنما أراد أبو تمام حُسن الاستعارة، فجعل لكلِّ مطر خيطًا معقودًا، ثم جعَله مُنحلًّا فيه، يعني سقاه كلَّ مطر، كما يُقال: حلَّ السحابُ عِزَالَيه. والعزلاهُ فمُ المزادة السُّفلى، وإنما تكون مشدودةً بخيط … وهذا توهُّم من الصولي.»

وقال في شرحِه للبيت:

حتى ترَكتَ عَمود الشركِ مُنقعِرًا
ولم تُعرِّجْ على الأوتادِ والطنُبِ

«ويقول: حطَطتَ عمود الشرك فألصقتَه بالعفر، وهو وجه الأرض. وهذه استعارة. ولم تُعرِّج على الأوتاد والطنُب، يقول: سافرتَ بارزًا لم تَكْنن بالخيام، وقيل: إن المعنى لم تلتفت إلى الغَنائم.»

فقال المرزوقي — وأورَدَ ما قاله الصولي: «هذا لفظُه. ما أظن صَحِبَه التوفيقُ في هذا التفسير، ولا أدري كيف استجاز من طريقِ العُرف والعادة أن يكون المعتصمُ مضى من مقرِّه غازيًا عَمُّورية ولم يكنن بالخيام! ومرادُ أبي تمام في هذا: أنك من بيتِ الشرك قصدتَ عَمودَه وما كان قِوامَه، فزَعْزتَه ونزَعتَه ولم تعطف على جوانبِه وما أخذ أخذه دونه؛ وذلك أن العمود إذا نُزع من البيت المضروبِ هُدِم ولم يَثبُت، ولو قُطع كثيرٌ من أطنابه أو قُلِع عدةٌ من أوتاده لكان لا يسقط، وكذلك يريد أبو تمام أنك قصدتَ قصَبة الكفر دون الرَّساتيق، وأثَّرت في المعظَم منه دون الأتباع والأذناب. وهذا ظاهر.»١٠

(٦) التماسُ الشهرة والخصومة حول أبي تمام

ويقول الصوليُّ عن الطائفة الأخرى: «فأما الصِّنف الثاني ممن يَعيب أبا تمام، فمَن يجعل ذلك سببًا لنَباهةٍ واستجلابًا لمعرفة؛ إذ كان ساقطًا خاملًا فألَّفَ في الطعن عليه كُتبًا، واستعدى عليه قومًا ليُعرَف بخلاف الناس، وليجري له ذِكْر النقصِ؛ إذ لم يقع له حظٌّ في الزيادة، ومكسبٌ بالخطأ؛ إذ حرَمه من جهة الصواب، وقد قيل: «خالِف تُذكر».» فهذا أيضًا عنصرٌ يتبرع به الصولي تمهيدًا لإظهار عِلمه ونباهةِ ذِكره، ومن الواجب أن نُسقِطَه كذلك.

•••

ونحن إذ نُهمل التعصب للقديم لقِدَمه، والتحزُّبَ ضد أبي تمام لأصلِه النصرانيِّ الذي لا نستطيع أن نجزم فيه بشيء، كما نُهمل الانصراف عن شِعره لصعوبته، ومحاولات الغضِّ من قدره التماسًا للشهرة؛ نستطيع أن نرى الخصومة في عناصرها الحقيقية.

(٧) عناصر الخصومة الحقيقية

في كتاب الصولي جِماعُ الرأي عند أنصار المحْدَثين، وهو شيخهم؛ لأن تعصُّبه لأبي تمَّام وانتصارَه لمذهبه لا حدَّ له، وهو يقول (ص١٧): «إن المتأخِّرين إنما يَجْرون بريح المتقدِّمين، ويصبُّون على قَوالبهم، ويستمدُّون بلُبابهم، وينتجعون كلامهم، وقلَّما أخَذ أحدٌ منهم معنًى من متقدمٍ إلا أجاده، وقد وجَدْنا منِ شعر هؤلاء معانيَ لم يتكلَّم القُدماء بها، ومعانيَ أُومِئ إليها فأتى بها هؤلاء وأحسَنوا فيها. وشعرهم مع ذلك أشبهُ بالزمان، والناس له أكثرُ استعمالًا في مجالسهم وكتبهم وتمثُّلهم ومَطالبهم.» وهذا يؤيد ما سبق أنْ قرَّرناه من أن الخصومة كانت دائرةً حول تجديد المحْدَثين لمعاني القدماء، وإصابتهم في ذلك أو إخفاقهم. وفي الأمثلة التي يوردها الصوليُّ أكبرُ إيضاح لهذه الحقيقة؛ فهو يقول مثلًا: «وقد استحسن الناسُ — أعزك الله — لامرِئ القيس تشبيهَ شيئَين بشيئين في بيتٍ واحد.» قالوا: لا يَقدر أحدٌ بعده على أن يأتيَ بمثله، وهو قوله في وصفِ عُقَاب:

كأنَّ قُلوبَ الطَّير رَطْبًا ويابسًا
لدى وَكْرِها العُنَّابُ والحشَفُ البالي

ولقد أحسنَ فيه وأجمَل، فقال بشار:

كأنَّ مُثارَ النَّقْع فوق رءوسِنا
وأسيافنا ليلٌ تَهاوَى كَواكِبُهْ

وهذا أعمى أكمَهُ لم يرَ هذا بعينه قط، فشبَّه حَدْسًا فأحسنَ وأجمل، وشبَّه شيئَين بشيئَين في بيت.

واستحسَنوا قول النابغةِ يعتذرُ إلى النعمان:

فإنَّك كاللَّيلِ الذي هو مُدْرِكي
وإنْ خِلْتُ أنَّ المنْتأَى عنك واسِعُ
خَطاطيفُ حُجْنٍ في حِبالٍ مَتينةٍ
تُمَدُّ بها أيدٍ إليك نَوازعُ

فقال سَلْمٌ الخاسرُ يعتذر إلى المهديِّ في أبيات:

إني أعوذُ بخير الناسِ كُلِّهمُ
وأنت ذاك بما تأتي وتجتنبُ
وأنت كالدَّهر مبثوثًا حَبائلُهُ
والدهرُ لا مَلْجأٌ منهُ ولا هرَبُ
ولو ملَكتُ عِنانَ الرِّيح أصْرفُهُ
في كلِّ ناحيةٍ ما فاتَك الطلَبُ

وهذا البيت من قول الفرزدقِ للحجَّاج:

ولو حمَلَتْني الرِّيحُ ثم طلَبتَني
لكنتُ كشيءٍ أدرَكتْه المقادرُ

فجعَل حِيال «وإنَّك كالليل»: «وأنتَ كالدَّهر»، وجعل حِيال «خَطاطيف حُجْن»: «ولو ملَكتُ عِنان الرِّيح» وأحسَن. على أن ابنَ جبلة قد مدَح — بمِثل معنى النابعة — حُمَيدًا فقال:

وما لِامرِئٍ حاوَلْتَه عنك مَهربٌ
ولو رفَعتْه في السماءِ المَطالعُ
بلى هاربٌ لا يَهْتدي لمكانِه
ظَلامٌ ولا ضوءٌ من الصُّبح ساطعُ

فلابن جبلةَ أنه زاد في المعنى وأشبَعَه، وعليه أنه جاء به في بيتَين، والنابغة جاء به في بيت، وله السَّبق.

وهذه الأمثلة تستحقُّ أن نقفَ عندها، وأن نُحلِّلها لِنلمَس موضعَ الخصومة بأيدينا؛ فهي كلُّها من أجوَدِ القديم وأجودِ الحديث، ومع ذلك فهناك فرقٌ واضح في مَعدِن الشعر بكلٍّ منها. ولقد كان من الطبيعيِّ أن يُفضِّل رجلٌ سطحيُّ الذَّوق كالصولي الحديثَ على القديم، وإنْ رأى — في سَذاجة — تخلفًا من الشاعر اللاحق أن يقول في بيتين ما قاله السابقُ في بيت واحد.

لِننظرْ في تشبيه امرِئ القيس وتشبيهِ بشَّار؛ لنرى كيف أنَّ امرَأ القيس لم يذهَب بعيدًا، وإنما طلب إلى حواسِّه المألوفة وإلى حياته الراهنة أن تأتيَه بهذا التشبيه الصادق القريب؛ تشبيهِ قلوب الطير التي افترَسَتها العُقَابُ بالعُنَّابِ والحشَفِ البالي: العُناب للقلوب الرَّطْبة، والحشَف للجافَّة، ثم ننظرْ في تشبيه بشارٍ التمثيلي، كما يقولون، فنراه يُشبِّه النَّقْع وقد انعقَد فوق الرءوس، والسيوفُ تضرب، بالليل تتهاوى كواكبُه، وبشَّارٌ لم يرَ الليلَ تتهاوى كواكبُه ولا رآه حتى المبصِرون؛ فهو تشبيهٌ بعيدٌ ليست له في النفس صورةٌ ما، ونحن لا نكاد نتصوَّر ليلًا تسقط نجومُه فيُشبه ذلك معركة ترتفع فيها السيوفُ ثم تسقط مُبرِقةً وسط النقع المُثار، ولا كذلك تشبيهُ امرِئ القيس. وهذا هو موضوع الخصومة؛ فأنصارُ القديم يرَون بحقٍّ أن الشعراء الجاهليِّين كانوا أصدقَ شعرًا، وأقربَ إلى المألوف من المحْدَثين الذين يُغْرِبون ويَبْعدون بنا عن مُعطَيات الحواسِّ المباشرة التي هي مادة الشعر، وسبيلُه إلى إثارة الصور في نفوس السامعين، وبعثِ الأصداء المُلازمة للواقع.

والأمر في المثل الثاني أوضح؛ فالنابغة لم يذهب بعيدًا لِيَدلَّ على قدرة النعمان، بل نظر إلى الليل الذي يُدركنا جميعًا أينما كنَّا فشبَّهه به، فجاء تشبيهًا صادقًا قريبًا قويًّا، وهو يُحس بظلام الليل وما فيه من هولٍ يُعبر عما في نفسه من خوفٍ فوق تعبيره عن سَطْوة النعمان، وهو يعود فيُجسِّم وقوعَه المحتوم في يدِ الملك الذي أوعده، وقد نظر حوله فرأى الدَّلْو معلقةً بالخطاطيفِ الحُجْن لا تستطيع منها إفلاتًا، وما على الماتح إلا أن يَجذبها إليه لتأتيَه، فخفَّت قريحتُه الأصيلة إلى تشبيهِ موقفه من النعمان بهذه الدلو. وتلك صورةٌ حسِّية واضحة مألوفة لكلِّ عربي، وهي بسبب الألفة قويةِ الدلالة مثيرةٌ لكثيرٍ من المعاني والإحساسات. ويأتي الفرزدق، وهو يُمثل مرحلةً وسطًا بين الجاهليِّين والمحْدَثين، فيُعبر عن خوفه من الحجَّاج بفرضٍ بعيد التحقيق «ولو حمَلَتْني الريح.» وهذا طبعًا أضعفُ من قول النابغة: «فإنَّك كالليل الذي هو مُدرِكي.» وكلُّ فرض أضعفُ من التقرير، كما أن إدراك المقادير ليس فيه مِن الشاعرية ما في الليل، وليس له في النفس ذلك المعنى المُحَسُّ الذي نُدركه جميعًا بتَجارِبنا اليومية عندما تُحيط بنا ظلمةُ الليل. الليل شيء حِسي مباشر، وأما المقادير فمَعنًى مجرَّدٌ بعيد، ومع هذا فبيت الفرزدق لا يزال قريبًا. وأما الخاسر فقد أمعَن في التجريد فاستبدل الليلَ بالدهر، والليل شيء نعرفه جميعًا، وأما الدهر فشيء مجردٌ غامض لا يُثير في نفوسنا شيئًا محددًا، وكذلك استبداله «خطاطيف حجن» ﺑ «ولو ملَكتُ عِنان الريح.» فهذا فرضٌ لا يمكن أن ينهض «للخطاطيف» التي يعرفها السامع، ويرى صورتَها، ويُدرك دلالتها.

وعلى هذا النحو نرى الفارقَ بين المذهبين: مذهب القدماء العريق في حقيقة الشعر من حيث إنه يُصاغ من مُعطَيات الحواسِّ المباشرة بعيدًا عن التجريد والإغراب، ومذهب المحْدَثين الذين يُسرِفون ويقتسرون ويضربون في عالم المجرَّدات. وفي أبيات عليِّ بن جبلة أكبرُ تعزيزٍ لما نقول. لقد ذهَبَت مُبالغتُه بصِدق إحساسه.

ولقد قال دِعْبل عن أبي تمام: «لم يكن أبو تمام شاعرًا، إنما كان خطيبًا، وشعره بالكلام أشبهُ منه بالشعر.» ولكنَّ دِعْبلًا كان يُحيل عليه، ولم يُدخِله في كتابه «كتاب الشعراء» (الصولي، ص٢٢٤). وللآمدي في الجزء المخطوط من موازنته حكمٌ على البحتريِّ وأبي تمام، يورِدُه بعد أنْ ذكَر ما قالاه في وصف الديار وساكنيها:

«وأقول الآن في الموازنة بينهما: إن أهل الصَّنْعة يُفضلون كلَّ ما قاله أبو تمام على أكثرِ ما قاله البحتريُّ في هذا الباب، ويقولون: إن أبا تمام استقصى الوصفَ في نُعوت الوصف وأحسَنَ وأجاد. وقد لَعَمْري كان ذلك، مع ما فيه من الإساءات والألفاظ الرديئة التي ذكَرتُها. والمطبوعون وأهلُ البلاغة لا يكون الفضلُ عندهم من جهة استقصاء المعاني والإغراقِ في الوصف، وإنما يكون الفضل عندهم في الإلمام بالمعاني وأخذ العفوِ منها، كما كانت الأوائلُ تقول، مع جودة السَّبْك وقُرب المأتى. والقول في هذه قولُهم، وإليه أذهب، إلا أني أجعلُهما في هذا الباب مُتكافئَين؛ لكثرةِ إحسان أبي تمام.»

وفي هذه الأقوال ما يدلُّ على ذَوق أنصار القديم ومَنْحاهم في تفضيلِ الشعر؛ فهم يَكرهون النَّغْمة الخِطابية والصياغة النثرية، كما يَنفرون من الإغراق والصَّنعة المسرِفة التي عُرِفَت بالبديع. ومن غريب الأمر أن يرى رجلٌ من أنصار الحديث، كالصولي، في تَعمُّل المعاني والصياغةِ فضلًا للشاعر، فيقول عن أبي تمام (ص٥٣): «وليس أحدٌ من الشعراء — أعزَّك الله — يُعمل المعانيَ ويخترعها ويتَّكئ على نفسه فيها أكثرَ من أبي تمام، ومتى أخَذ معنًى زاد عليه، ووشَّحه ببديعِه، وأتمَّ معناه؛ فكان أحقَّ به» (ص٥٣). مع أن هذا إن دلَّ على شيء فهو يدل على ما قاله كاتبُ الحسَن بن رجاء: «قدم أبو تمام مادحًا للحسنِ بن رجاء، فرأيتُ رجلًا عِلْمُه وعقلُه فوق شِعره» (ص١٦٧).

ومع ذلك، فالذي لم يزلَّ فيه أنَّ أبا تمام قد هزَّ العقولَ في عصره، وأثار مِن حوله ضجةً كبيرة؛ إذ خرَج على مألوف العرب في الصياغة، وفي التماس المعاني التي تُعبر عمَّا يريد قولَه، وفي هذا يقول الآمديُّ (ص٥٥): «وجَدتُهم يَنْعُون عليه كثرةَ غلَطِه وإحالتِه، وأغاليطه في المعاني والألفاظ، وتأمَّلتُ الأسبابَ التي أدَّتْه إلى ذلك، فإذا هي ما رواه أبو عبد الله محمدُ بن داود بن الجرَّاح في كتابه «الورقة»، عن محمد بن القاسم بن مهرويه، عن حُذيفةَ بنِ أحمد، أنَّ أبا تمام يُريد البديعَ فيخرج إلى المحال. وهذا نحوُ ما قاله أبو العباس عبدُ الله بن المعتزِّ بالله في كتابه الذي ذكَر فيه البديع. وكذلك ما رواه محمدُ بن داود، عن محمدِ بن القاسم بن مَهْرويه، عن أبيه، أن أول من أفسَد الشِّعر مسلمُ بن الوليد، وأن أبا تمام تَبِعه فسلَك في البديع مذهبَه فتحيَّر فيه. كأنهم يريدون إسرافه في طلب الطِّباق والتجنيس والاستعارات، وإسرافَه في التماس هذه الأبواب وتوشيحِ شِعره بها، حتى صار كثيرٌ مما أتى من معانٍ لا يُعرَف ولا يُعلم غرَضُه فيها، إلا مع الكَدِّ والفِكر وطُول التأمُّل، ومنه ما لا يُعرَف معناه إلا بالظنِّ والحَدْس. ولو كان أخَذَ عفْوَ هذه الأشياء، ولم يوغِل فيها، ولم يُجاذب الألفاظ والمعانيَ مُجاذَبة، ويقتسِرْها مُكارهة، وتناوَل ما يسمح به الخاطر، وهو بجَمَامِه غير متعبٍ ولا مكدود، وأورَد من الاستعارات ما قَرُب في حُسنٍ ولم يفحش، واقتصَر من القول على ما كان محذوًّا حذْوَ الشعراء المحسِنين — لِيَسلَم من هذه الأشياء التي تهجن الشعرَ وتُذهِب ماءه ورونقَه، ولعلَّ ذلك أن يكون ثُلث شعرِه أو أكثرَ منه — لَظننتُه كان يتقدَّم عند أهلِ العلم بالشعر أكثرَ الشعراء المتأخِّرين، وكان قليلُه حينئذٍ يقومُ مقام كثيرِ غيرِه؛ لما فيه من لطيفِ المعاني ومُستغرَب الألفاظ، ولكنْ شَرِهَ إلى إيراد كلِّ ما جاش به خاطرُه ولجْلَجَه فِكرُه، فخلَط الجيد بالرديء، والعين النادرَ بالرَّذْل الساقط، والصوابَ بالخطأ. وأفرط المتعصبون في تفضيله، وقدَّموه على مَن هو فوقه من أجلِ جيده، وسامَحوه في رديئه، وتجاوَزوا له عن خطئه، وتأوَّلوا له التأويلَ البعيد فيه، وقابَل المنحرفون عنه إفراطًا فبخَسوه حقَّه، واطَّرَحوا إحسانَه، ونعَوْا سيئاته، وقدَّموا عليه مَن هو دونه، وتجاوَز ذلك بعضُهم إلى القدح في الجيد من شعره، وطعَنَ فيما لا يُطعَن عليه، واحتجَّ بما لا تقوم حجَّةٌ به، ولم يَقنع بذلك مذاكرةً ولا قولًا حتى ألَّف في ذلك كتابًا، وهو أبو العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمار القُطْربُّلي المعروفُ بالفريد، ثم ما علمتُه وضَع يده من غلطِه وخُطته إلا على أبياتٍ يسيرة، ولم يُقِم على ذلك الحجَّة، ولم يهتدِ لشرح العلة، ولم يتجاوَزْ فيما نعاه بعدَها عليه الأبياتَ التي تتضمَّنُ بُعد الاستعارة وهجينَ اللفظ. وقد بيَّنتُ خطَأَه فيما أنكرَ من الصواب في «جزء مفرد»، إنْ أحبَّ القارئ أن يجعله من جملة هذا الكتاب، ويَصِلَه بأجزائه، فعَل ذلك إن شاء الله تعالى» (ص٥٥ و٥٦).

ولو أننا أضَفْنا إلى ذلك ما أخذ فيه النقَّاد عندئذٍ من الموازنة بين أبي تمام والبحتري، ومن التأليف في سَرِقات كلٍّ منهما لكَمُلَت عناصر المعركة.

(٨) مظاهر الخصومة

أراد إذن أبو تمام البديعَ فخرَج إلى المحال، فعابه قومٌ وأيَّده آخَرون، وحَمِيَت المناقشة حول مذهبه في مجالس الأدب وبين النقَّاد، ولم يقف الأمر عند حدِّ المناقشات، بل تعدَّاه إلى التأليف، فكتب القُطربُّلي كتابًا في أخطاء أبي تمام، كما تناوله ابنُ المعتز في كتاب «البديع»، وابنُ الجرَّاح في كتاب «الورقة». وهذا إلى ما لم نسمع عنه من مؤلَّفات أخرى. وقد ضاع كتاب القُطرُبُّليِّ وكتابُ الجرَّاح، وألَّف أبو بكرٍ الصولي «أخبار أبي تمام»، وفيه يتعصبُ للشاعر ويُناضل عن مذهبه. وعاد المرزوقي سنة ٤٢١ﻫ إلى هذه الخصومة، فكتب «الانتصار من ظلمة أبي تمام»، ولكن الكتاب مفقود. كما كتب كتابًا آخَر عن «معاني شِعر أبي تمام»، وهو مفقودٌ أيضًا. وأخيرًا كتاب «الأبيات المفردة»، الذي لدينا منه نسخةٌ مخطوطة بمكتبة الآستانة. وفي مكتبة الجامعة المصرية صورةٌ فوتوغرافية منه (٢٤٠٨).

ونظر النقاد إلى شعر البُحتري وسهولتِه وجرَيانه على عمود الشعر، فقارَنوه بأبي تمام، وكثرَت في ذلك الأقوالُ والحُجج. وقد اقتصر كلُّ فريق — فيما يبدو — على الأحكام العامة. إلى أن وضع الآمدي، شيخُ النقاد، كتابَه العظيم في المُوازَنة بين الطائيَّينِ، الذي لا يقتصر فيه على إيراد حُججِ كلِّ فريق، بل يأخذ في دراسة الشاعرَين والمقارنة بينهما وَفْق منهجٍ تفصيلي لا مثيل له في كتب النقد عند العرب.

وكذلك مسألة السرقات؛ فقد أُلِّفتْ فيها كتبٌ اعتمَد عليها الآمديُّ في موازنتِه، وأورد لنا أسماءَ مؤلِّفيها، فهو يقول (ص٥٧): «وجدتُ ابن أبي طاهرٍ (أحمد بن أبي طاهر طَيْفور المتوفَّى سنة ٢٨٠ﻫ) أخرج سَرِقات أبي تمَّام فأصاب في بعضها وأخطأ في البعضِ الآخر؛ لأنه خلَط الخاصَّ من المعاني بالمشترك بين الناس.» وفي موضعٍ آخَر: «وحكى عبد الله داود بن الجراح في كتابه أنَّ ابن أبي طاهرٍ أعلمه أنه أخرج أيضًا سرقات البُحتري، ومن بينِها سرقاتُه من أبي تمام.» وذكر ياقوت في معجم الأدباء (ج٣، ص٩١، ط رفاعي) كتابًا لابن أبي طاهرٍ باسم «سرقات البُحتري من أبي تمام»، مما قد يُفيد أن ابن أبي طاهر ألَّف كتابَين؛ أحدهما عن سرقات أبي تمام خاصة، كما يمكن أن تكون بعضُ هذه السرقات قد وردَت كفصولٍ في الكتاب الآخَر لابن أبي طاهرٍ عن «سرقات الشعراء عامَّة» (ياقوت، ج٣، ص٦٠، ط رفاعي).

ويُحدِّثنا الآمديُّ في موضعَين من الموازنة عن كتابٍ لأبي الضياء بِشر بن تميم في «سرقات البُحتري من أبي تمام»، وهو كتابٌ مفقود كذلك.

نحن نعرف لأبي العلاء المعرِّي «ذِكرى حبيب» ثم «عبَث الوليد»، كما يذكر ابن النَّديم (الفهرست، ص٢٤١، ط مصطفى محمد) اسم كتاب الخالديَّين صاحبَي «المختار من شعر بشار» عن «أخبار أبي تمام ومحاسن شعره».

ولو أننا أضفنا إلى كلِّ هذه الكتب ما وُضع على شعره من شروحٍ للصولي والمرزوقي وأبي العلاء وابنِ المستوفي والخطيب التَّبْريزي وغيرِهم؛ لأدركنا مدى الدراسات التي أثارَها هذا الشاعر.

ونحن الآن لا تَعنينا تلك الشروح؛ لأنها وإن لم تخْلُ من نقدٍ فهي ليست كتبَ نقد، وإنما هي ترمي إلى تقريبِ شِعر أبي تمام إلى فَهْم القراء. والنقدُ مرحلةٌ تلي الفهم.

وأما الكتب الأخرى، فقد ضاع معظمُها كما قلنا، وإن كان الآمديُّ قد نقل إلينا منها جانبًا هامًّا، ودلَّنا على موضوعها ومنهجِها. وذلك ما سوف نراه فيما بعدُ.

وأهمُّ ما بقي لدينا هو كتابا الصوليِّ والآمدي.

(٩) الصولي والآمدي

ونحن لا نريد أن نُدخِل الآمديَّ في تلك الخصومة بين القُدماء والمحدَثين؛ وذلك لأنه قد تناولَها كحكم، وصدَر عن روحٍ عادلة ومنهجٍ صحيح. والعدلُ في الأدب ليس معناه إهمالَ الذَّوق الشخصي، وعدمَ الحكم على الرديء برَداءته والجيدِ بجودته، وإنما معناه الخلوُّ من التعصب الذي لا يقوم على حُجةٍ فنِّية، ولا ينظر إلى الأشياء نظرةً فاحصة مستقصِية.

وهذا عيبٌ لا نجده عند الآمدي، رغم ما أذاعه عنه المتأخِّرون؛ كياقوت وغيره، مِن تحامُلِه على أبي تمام وانحيازِه إلى البُحتري. والآمديُّ بعد ذلك هو — فيما نرى — أكبرُ ناقدٍ عرَفه الأدبُ العربي، وهو لهذا خَليقٌ بأن يدرس في فصلٍ خاص، وأن لا يُدرَج في الخصومة التي نعالجها الآن.

أما الصولي، فهو في الحقِّ المتعصبُ المغرِض. وإنه وإن يكن في كتابه ما يدلُّ على انحيازه للشِّعر الحديث عن ذَوقٍ فني خاص، فإن الذي يبدو هو أن مناصرتَه لأبي تمام كانت أقربَ إلى اللَّجاجة والإسراف منها إلى النقدِ الموضوعي الدقيق. ويَزيد الحكمَ عليه قسوةً إفراطُه في الغرور والتبجُّح بعلمه، ثم فسادُ ذوقه وصدورُه عن نظرةٍ شكلية يغرُّها البَهرجُ، وتطربٍ للغريب.

(١٠) أخبار أبي تمام

وكتاب الصولي أخبار أبي تمام الذي بين أيدينا كتابٌ إخباري في معظمه؛ فالفصل الأول منه (من ص٥٩–١٤١) عمَّا جاء في تفضيل أبي تمام، وهو عبارةٌ عن جملةِ أحكامٍ ينقلها عن الأدباء الذين تحزَّبوا لأبي تمام أو حكَموا له، وبقية الكتاب سردٌ لأخبار أبي تمام مع خالدِ بن يزيدَ الشيباني، والحسن بن رجاء، والحسن بن وهب … إلخ، مع فصلٍ صغير (من ص٢٤٤–٢٤٩) عمَّا رُوي من مَعايب أبي تمام. وفي كِلا الفصلَين الخاصَّين بتفضيل الشاعر وذِكر معانيه، لا نجد إلا أحكامًا عامة خاليةً من كل نقدٍ موضوعي، وفصلُ المعايب مقتضَبٌ بنوعٍ خاص. وإلى هذا قد قصَد الصولي بلا ريب؛ لتعصُّبه المفرِط لأبي تمام، كما قلنا.

وأما رأيُ الصولي نفسه، ودفاعُه عن أبي تمام، وحُججه في ذلك الدفاع، فنجده في رسالته إلى أبي الليث مُزاحِم بن فاتكٍ الذي ألَّف من أجله كتابَه. والرسالة منشورة كتصديرٍ «للأخبار» (ص١–٥٩).

(١١) تعصُّب الصولي لأبي تمام

لقد سبق أنْ ذكَرنا أن الصولي يرى في خُصوم أبي تمام أحدَ رجلَين: رجل جاهل عجز عن فَهمِه فعابه، ورجل مُعاند ساقط يريد أن يتَّخذ من تجريحه لأبي تمام سبيلًا إلى المجد. وأما أن ينتقد أديبٌ أبا تمام من اعتقادٍ فني أو بصرٍ صحيح بالشعر الجيد؛ فذلك ما لا يقبله الصولي، ولا يستطيع أن يُسيغَه، فهو يقول: «وليتَ أبا تمام مُنِيَ بعيبِ مَن يجلُّ في علم الشعر قدرُه أو يَحسُن به علمه، ولكنه مُني بمَن لا يعرف جيدًا ولا يُنكر رديئًا إلا بالادِّعاء» (ص٣٨).

وإذا سمع بأنَّ أحد النقاد قد عاب على أبي تمامٍ لفظًا أو معنًى كان جوابه: «ولو عرَف هؤلاء ما أنكره الناسُ على الشعراء الحذَّاق من القدماء والمحدَثين لكثُر حتى يقلَّ عندهم ما عابوه على أبي تمام إذا اعتقَدوا الإنصاف ونظَروا بعينه. ومنزلةُ عائب أبي تمام — وهو رأسٌ في الشعر، مبتدئٌ لمذهبٍ سلَكه كلُّ مُحسن بعده، فلم يبلغ فيه حتى قيل مذهب الطائي، وكل حاذقٍ بعده يُنسَب إليه ويقتفي أثرَه — منزلةٌ حقيرة يُصان عن ذكرها الذَّم، ويرتفع عنها الوهد.»

وسبيله إلى الدفاع عن شاعره هو سبيلُ القياس بالقدماء أو السابقين على أبي تمام، قياسًا يدلُّ على فساد ذَوق الصولي، وعدم فطنته للمفارَقات الأدبية الدقيقة، ثم على مباهاةٍ ثقيلة بحِفظه لأشعار السابقين ومعرفتِه بأخبارهم.

والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فهو يقول (ص٣٢): وعابوا قوله وأسقطوه عند أنفسهم:

ما زال يَهْذي بالمواهبِ دائبًا
حتى ظَننَّا أنه محمومُ

فكيف لم يُسقِطوا أبا نُواسٍ بقوله في العباس بن عبد الله بن جعفر:

جُدتَ بالأموال حتى
قيل ما هذا صحيحُ

والمحموم أحسنُ حالًا من المجنون؛ لأن هذا يَبْرأ فيعودُ صحيحًا كما كان، والمجنون قلَّما يتخلَّص. فأبو تمام في تشبيه الإفراط في الإعطاء والبذلِ بإكثار المحموم أعذَرُ من أبي نُواسٍ إذ شبَّهه بفعل المجنون.

فانظر إلى هذا الحِجَاج السخيف، وتلك الموازَنة العقيمة بين المحموم والمجنون. وكِلا البيتَين ثقيلٌ مرذول غيرُ مقبول، وخطأ أبي نُواس في الذوق لا يُصحح خطأَ أبي تمام، وكلاهما يُعدُّ من المحْدَثين الذين لا يَعدِلُهم أنصارُ الشعر القديم بشعراء الجاهلية أو شعراءِ بني أميَّة، وهم قلَّما يستطيعون المعانيَ الإنسانية القريبة الصادقة التي في مدحِ الكرم؛ كقول زُهير:

تَراهُ إذا ما جئتَه مُتهللًا
كأنك تُعطيه الذي أنت سائلُهْ

وأين هذا من تكلفِ أبي نواسٍ وأبي تمام وغيرِهما من المحْدَثين عندما يُسرِفون ويُغربون فلا يأتون بغير السُّخف المصنوع؟ وإن كان أبو نُواس أقلَّ إحالةً وحمقًا من أبي تمام؛ فهو يقول «جُدت بالأموال» بينما يأبى أبو تمام إلا أن يجعل ممدوحَه «يهذي بالمواهب». وهذا أسخفُ الشعر وأشدُّه تكلفًا وسَماجة.

وثَمة مثلٌ آخَر أثار نقاشًا طويلًا:

يقول المؤلف (ص٢٣ وما بعدها): وعابوا قوله:

لا تسقِني ماء الملام فإنَّني
صبٌّ قد استَعْذبتُ ماءَ بكائي

فقالوا: ما معنى ماء الملام، وهم يقولون: كلامٌ كثير الماء، وما أكثرَ ماءَ شعر الأخطل! قال يونُس بن حبيب: ويقولون: ماءُ الصبابة، وماء الهوى: يريد الدمع، قال ذو الرُّمَّة:

أئِنْ ترسَّمْت من خرقاءَ منزلة
ماء الصبابة من عينَيك مسجومُ؟

وقال أيضًا:

أدارًا بحُزوَى هِجتَ للعين عَبرةً
فماء الهوى يَرْفضُّ أو يتَرقرقُ

وقال عبد الصمد وهو مُحسن عند مَن يَطعن على أبي تمام وغيرهم:

أيُّ ماءٍ لماء وجهك يَبْقى
بعد ذلِّ الهوى وذل السؤالِ؟

فصيَّر لماء الوجه ماءً. وقالوا: ماء الشباب، قال أبو العتاهية:

ظبْيٌ عليه من الملاحَة حُلَّةٌ
ماءُ الشباب يجول في وجَناتِه

وهو من قول ابنِ أبي ربيعة:

وَهْي مكنونةٌ تَحيَّر منها
في أديمِ الخَدَّين ماءُ الشبابِ

وقال أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل:

أهْيَف ماءِ الشباب يرعدُ في
خدَّيه لولا أديمُه قطرا!

وأنشد محمدُ بن عبدٍ التميميُّ قال: أنشدَني ابنُ السِّكِّيت:

قد قلتُ إذ ماءُ صِباك يرعشُ
وإذ أهاضيبُ الشبابِ تبغشُ

فما يكون إن استعار أبو تمام من هذا كلِّه حرفًا فجاء به في صدرِ بيته؛ لما قال في آخرِه: «فإنني صَبٌّ قد استَعْذبتُ ماءَ بكائي»، قال في أوله: «لا تسقِني ماءَ المَلام»، قد تَحِمل العربُ اللفظَ على اللفظ فيما لا يستوي معناه؛ قال الله عز وجل: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، والسيئةُ الثانية ليسَت بسيئة؛ لأنها مُجازاة، ولكنه لما قال: «وجزاءُ سيئة» قال: «سيئة»، فحَمل اللفظَ على اللفظ، وكذلك: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ، وكذلك: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ؛ لما قال: بَشِّر هؤلاء بالجنة، قال: بشِّر هؤلاء بالعذاب، والبِشارة إنما تكون في الخير لا في الشر، فحمَل اللفظَ على اللفظ.

ومن غريبِ الأمر أن يأخذ الناقدُ الصادقُ الذوقِ الآمديُّ برأي الصوليِّ في هذا البيت، وإن لم يورِد اسم الصولي، بل نسَب القول إلى «محتجٍّ لأبي تمام»، فيقول (الموازنة، ص١١٣):

«وأما قوله:

لا تَسْقِني ماءَ المَلام … (البيت).

فقد عِيبَ — وليس بعيبٍ عندي — بأنه لما أراد أن يقول قد استعذبتُ ماءَ بكائي جعَل للمَلام ماءً ليُقابِل ما أراد، وإن لم يكن للمَلام ماءٌ على الحقيقة؛ كما قال الله عز وجل: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، ومعلومٌ أن الثانيةَ ليست بسيئة، وإنما هي جزاءٌ على السيئة، وكذلك: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ، والفعلُ الثاني ليس بسخرية. ومِثلُ هذا في الشعر والكلام مُستعمَل، فلما كان مَجْرى العادة أن يقولَ قائل: أغلَظتُ لفلانٍ القولَ وجرَّعتُه منه كأسًا مُرَّة، وسقَيتُه منه أمرَّ من العلقم، وكان الملام ممَّا يُستعمل فيه التجرُّع على الاستعارة؛ جعَل له ماءً على الاستعارة. ومِثلُ هذا كثيرٌ موجود، وقد احتجَّ محتجٌّ لأبي تمام في هذا بقول ذي الرُّمَّة:

أدارًا بِحُزْوَى هِجْت للعينِ عَبرةً
فماء الهوى يَرْفضُّ أو يترَقْرقُ

وقولِ آخَر:

وكأسٍ سَباها التَّجْر من أرضِ بابلٍ
كرِقَّة ماءِ العين في الأعيُنِ النُّجْلِ

وهذا لا يُشبه ماءَ المَلام؛ لأن ماء الملام استعارة، وماء الهوى ليس باستعارة؛ لأنَّ الهوى يُبكي، فتلك الدموع هي ماءُ الهوى على الحقيقة، وكذلك البَيْن يُبكي. فتلك الدموع هي ماءُ البين على الحقيقة، فإن قيل: فإنَّ أبا تمام أبكاه المَلام، والملام قد يُبكي على الحقيقة، قيل: لو أراد أبو تمام ذلك لما قال قد استعذبتُ ماءَ بكائي؛ لأنه لو بكى من المَلام لكان ماءُ الملام هو ماءَ بكاءٍ أيضًا، ولم يكن يستعفي منه.»

ونحن نلاحظ أن الآمديَّ وإن يكن قد قَبِل استعارةَ أبي تمام، كما أخذ فيما يبدو بعضِ حُجَج الصولي، فإنه بعدُ أصدَقُ نظرًا من الصولي وأدقُّ نقدًا؛ فهو يُميز بين الاستعارة والحقيقة، ويُدرك أن «ماء الهوى» غيرُ «ماء الملام»، ولكنَّنا مع ذلك لا ندري كيف نسي هنا مَبْدأه الثابتَ الذي عبَّر عنه في أكثرَ من موضعٍ من الموازنة بقوله: «اللغة لا يُقاس عليها.» ولقد رأيناه يَعيب قولَ أبي تمام نفسَه:

لا أنت أنت ولا الديارُ ديارُ
خَفَّ الهوى وتَولَّت الأوطارُ

لأنَّ قوله: «لا أنت أنت» لفظٌ من ألفاظ أهل الحضَر مستهجَن وليس بجيِّد، لكن قوله: «لا الديار ديار» كلامٌ معروف من كلام العرب، مُستعمَل حسَن؛ أي ليست الديارُ ديارًا كما عَهِدت، مثلما يُقال في الإيجاب: «إذ الناسُ ناسٌ والزمانُ زمان»؛ أي كما عَهِدت (ص٣٨ من المخطوط)، مع أن القياس هنا سليمٌ جميل صادق، والبيت لا غُبار عليه، ومع ذلك نراه يُجيز «ماء الملام» قياسًا على «كأسًا مُرَّة من غليظ الكلام». وهذا قياسٌ لا ينعقد.

ولو أننا راجَعْنا الأمثلةَ التي أوردها الصولي وأحصَينا استعمالاتِ الماء لوجدناها: «ماء الصَّبابة» و«ماء الهَوى» عند ذي الرُّمة، ومعناها في بيتَيْ هذا الشاعرِ العظيم هو «الدموع»، فهو استعمالٌ على سبيل الحقيقة، ثم «أيُّ ماءٍ لماء وجهِك يَبقى»، والماءُ الأول معناه الرَّونَق، وماء الوجه معناه الحياء، كما تقول: «أراق ماءَ وجهِه». وهاتان استعارتان جميلتان. وأخيرًا «ماء الشباب»، ومعناه رونقُه وجماله الذي يتحيَّر في أَديم الخَدَّين، كما يقول عمرُ بن أبي ربيعة في بيته الرائع، وكذلك «ماء الصبا». وفي كل هذه الأمثلة نجد أن الماء قد استُعمل:
  • (١)

    إما على حقيقة المعنى؛ ليدلَّ على الدموع.

  • (٢)

    وإما على سبيل الاستعارة؛ ليدل على شيءٍ جميل كماء الشباب وماء الكلام؛ أي الرونق. ونحن لا نجد في أيِّ استعمال من هذه استعارةً للماء للدلالة على شيءٍ كريه كالمَلام، ونحن بعدُ لا نريد أن نحتجَّ بقول الآمدي: «إن اللُّغة لا يُقاس عليها.» فهذا قولٌ مسرف، ولكننا نطلب على الأقل ألا يكون هناك تنافرٌ بين الشيء المستعار والشيء المُستعار له، فكيف يُعبر عن الشيء المرِّ بالماء العذب حتى ولو استعذَب أبو تمامٍ «ماء بكائه»؟! وأبو تمام لا يتصوَّر من كلِّ ذلك شيئًا، ولا يُحس بشيء، وإنما هي صنعةٌ باطلة، ثم كيف يُقاس ماءُ المَلام بالكأس المرَّة؟ بل كيف يكون للمَلام ماء؟!

واحتجَّ الصوليُّ والآمدي بالآية: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، وبالآية: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ. وقولُهما: إن السيئة الثانية ليست بسيئةٍ بل جَزاء، والسخرية الأخرى ليست سخرية؛ تخريجٌ باطل، القرآنُ في غِنًى عنه، والله جلَّت قدرته ليس في حاجةٍ إلى أن يدافع عنه الفقهاءُ هذا الدفاعَ السخيف؛ فالسيئةُ هي السيئة، والسخريةُ هي السخرية، على الأقل في نظرنا نحن البشر، وأما اعتبارُ الله لها فذلك ما لا شأن لنا به، وليس علينا أن نطمحَ إلى معرفته. وهَبْ أنَّ تفسير الفقهاء صحيح، فهو لا يُبرر «ماء الملام» ولا علاقة له به.

وإنما النقدُ الصحيح هو أن أبا تمام «قد أراد البديعَ فخرَج إلى المُحال»، وقد ذكَر «ماء البكاء» فكان لا بد له وفاءً للبديع، وردًّا للأعجاز على الصُّدور، أو ردًّا للصدور على الأعجاز مِن أن يَذكر «ماء الملام». وهذا سُخفٌ يدلُّ على الإسراف وصَفاقةِ الذَّوق عند أبي تمام وعند ناقِديه.

وهكذا يتَّضح لنا منهجُ الصولي في النقد؛ فهو تعصب، ولَجاجةٌ عقلية، وفسادُ ذَوق، وإسرافٌ في الغرور، والتماسٌ للفرص يُظهر فيها علمَه.

ونحن بعدُ لسنا في حاجةٍ إلى أن نقف عند الصولي وقفةً أطولَ من هذه؛ فقد رأينا منهجه، وكلُّ ما أورده دون ذلك أثناء سردِه لأخبار أبي تمام ليس إلا أحكامًا عامة سنَلقاها عندما نُناقش موضوعاتِ النقد في الجزء الثاني من بحثنا.

وبانتهائنا من الصولي، زعيمِ المتعصبين للحديث، نكون قد ألمَمْنا بتلك الخُصومة القوية التي حرَّكَت النقد، والتي كانت سببًا في تأليف الآمديِّ كتابَه الفريدَ في النقد العربي «الموازَنة بين الطائيَّين»؛ ففيه نجد خُلاصة كلِّ ما أُلِّف في النقد قبل الآمدي، كما نجد منهجًا للنقد ومقدرةً عليه، واستقصاءً للأحكام، وتقيدًا بالموضوع، وقصدًا في التعميمات، وبُعدًا عن التعصُّب. وكل هذه صفاتٌ تجعل من الآمدي زعيمَ النقد العربي الذي لا يُدافَع.

١  العمدة، ج١، ص٧٣.
٢  أخبار أبي تمام، الصولي، ص٢٤٤.
٣  ص١٧٥–١٨٦.
٤  ص١٧٢.
٥  ص١٧٣.
٦  ص٢٤١.
٧  الصولي، ص٢٤٢.
٨  أخبار أبي تمام، ص١٤.
٩  ص٧٥، ٧٧.
١٠  شرح ابن المستوفي، ج١، ص١١٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤