الفصل السادس

النقد المنهجي حول المتنبي

الوَساطة واليتيمة

(١) كتاب الوساطة بين المتنبِّي وخصومه للجُرجاني

يقول الثعالبيُّ في اليتيمة (ج٣، ص٢٣٩): «ولما عمل الصاحبُ رسالتَه المعروفةَ في إظهار مَساوئ المتنبي، عمل القاضي أبو الحسن كتابَ الوساطة بين المتنبي وخصومه في شعره، فأحسنَ وأبدع وأطال، وأصاب شاكلةَ الصواب، واستولى على الأمَدِ في فصل الخِطاب، وأعرب عن تبحُّره في الأدب وعلم العرب، وتمكُّنه من جودة الحفظ وقوة النقد، فسار الكتابُ سَير الرياح، وطار في البلاد بغيرِ جَناح.»

(١-١) حياته وكتبُه

وأبو الحسن مؤلفُ هذا الكتاب الهام هو عليُّ بن عبد العزيز بن الحسن بن علي بن إسماعيل الجُرجاني. وُلد في جُرْجان سنة ٢٩٠ﻫ، «وكان في صِباه خلف الخضر في قطع عرض الأرض، وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرها، واقتبَس من أنواع العلوم والآداب ما صار به في العلوم عَلمًا، وفي الكلام عالمًا، ثم عرَّج على حضرة الصاحب، وألقى بها عصا المسافر، فاشتدَّ اختصاصُه به، وحلَّ منه محلًّا بعيدًا في رِفعته، قريبًا في أسرته. وسيَّر فيه قصائدَ أخلصَت على قصد، وفرائدَ أتت من فَرْد، وما منها إلا صَوْب العقل وذَوْب الفضل، وتقلَّد قضاء جُرجان من يده. ثم تصرَّفَت به أحوالٌ في حياة الصاحب وبعد وفاته، بين الولاية والعطلة، وأفضى مَحله إلى قضاء القُضاة، فلم يعزله عنه إلا موتُه رحمه الله.» مات بالريِّ سنة ٣٩٢ﻫ، وحُمل تابوته إلى جُرجان فدُفن بها في حفلٍ مهيب.

وللقاضي عدةُ تصانيف غير «الوساطة»، منها تفسير القرآن المجيد، وكتاب «تهذيب التاريخ»، كما جاء في طبقات الشافعية أنه صنَّف كتابًا في «الوكالة» فيه أربعةُ آلاف مسألة، ولكن هذه الكتب لسوء الحظِّ مفقودة، وكل ما نعلمه عنها هو ما أوردَه صاحب اليتيمة؛ إذ قال (ج٣، ص٣٤٣) عن «تهذيب التاريخ»: «إنه تاريخٌ في بلاغة الألفاظ، وصحَّة الروايات، وحُسن التصرُّف في الانتقادات.» ويورد الثعالبيُّ فصلَين من هذا الكتاب كأنموذجٍ لتأليف الجُرجاني في التاريخ، ولكنه لم يُوفَّق في الاختيار؛ إذ جاء الفصلان من خُطَّة الكتاب كما هو واضح. ومن الفصلَين نعلمُ أن المؤلِّفَ قد قصد من كتابه إلى غايتين؛ أولاهما: دينية، وهي أن يُبين ما ينطق به تاريخُ النبي من مجد، والثانية: دنيوية، وهي أن يترك بفِناء الصاحب «مَن يَخلُفه في تجديد ذِكره بحضرته.»

(١-٢) روح القضاء في كتاب الجرجاني

هذا مُجملُ ما نعرفه عن الجُرجاني ومؤلَّفاته، وهو شيءٌ قليل، ولكنه مع ذلك يُمكِّننا من فَهْم منهج هذا القاضي الفقيهِ المؤرِّخ في النقد الأدبي.

علي بن عبد العزيز الجرجاني في نقده قاضٍ فقيهٌ كما هو مؤرخٌ أديب.

وروحُ القضاء واضحةٌ في كتاب الوساطة، واضحةٌ في المنهج، وواضحةٌ في الأسلوب.

روح القضاء هي العدلُ والتواضع والتثبُّت، روحٌ قريبةُ النسب إلى الرُّوح العِلمية، بل نحن لا نرى بين الروحَين فرقًا؛ فهما مِن مَعدِنٍ واحد، كما أنَّ مظاهرهما واحدة.

وما نفتح كتابَ هذا القاضي العادل حتى نجدَه يرفض أن يؤدِّيَ التنافسُ بين الناس إلى التحاسُد الذي يُفسد الأحكام، وهو يرى في ذلك البلاء على الأدب والعلم؛ «لأن العلوم لم تزَلْ — أيَّدك الله — لأهلها أنسابًا تتَناصرُ بها، والآداب لأبنائها أرحامًا تتواصلُ عليها. وأدنى الشِّرك في نسَبٍ جِوار، وأولُ حقوق الجار الامتعاضُ له، والمحاماةُ دونه، وما مَن حفظ دمَه أن يُسفَك بأولى ممَّن رعى حريمَه أن يُهتَك، ولا حرمة أَولى بالعناية وأحقَّ بالحماية، وأجدرَ أن يبذل الكريمُ دونها عِرضَه، ويَمتهن في إعزازها مالَه ونفسَه، مِن حُرمة العلم الذي هو رَونقُ وجهِه، ووقايةُ قدْرِه، ومَنارُ اسمه، ومَطيةُ ذِكره، وبحسَبِ عِظَم مزيَّتِه وعُلو مرتبتِه يعظمُ التشارُك فيه، وكما تجبُ حياطته تجبُ حياطةُ المتصلِ به ومنه وبسببِه، وما عقوقُ الوالدِ البَر، وقطيعةُ الأخ المشفِق بأشنعَ ذِكرًا، ولا أقبحَ رسمًا، من عقوقِ مَن ناسبَك إلى أكرمِ آبائك، وشارَكَك في أفخرِ أنسابك، وقاسمَك في أزينِ أوصافك، ومَتَّ إليك بما هو حظُّك من الشرف، وذريعتُك إلى الفخر. وكما ليس مِن شرط صلةِ رحمك أن تَحيف لها على الحق، أو تميلَ في نصرها عن القصد، فكذلك ليس مِن حُكم مراعاة الآداب أن تعدل لأجله عن الإنصاف، أو تخرج في بابه إلى الإسراف، بل تتصرَّف على حُكم العدل كيف صرَّفَك، وتقفُ على رَسمِه كيف وقَفَك، فتُنصِف تارةً وتعتذر أخرى، وتجعل الإقرار بالحق عليك شاهدًا لك إذا أنكرت، وتُقيم الاستسلام للحجة إذا قامت محتجًّا عنك إذا خالفت، فإنه لا حال أشد استعطافًا للقلوب المنحرفة، وأكثر استمالةً للنفوس المشمئزَّة من توقُّفك عند الشبهة إذا عرَضَت، واسترسالك للحُجة إذا قهَرَت، والحكم على نفسك إذا تحقَّقَت الدعوى عليها، وتنبيه خَصمِك على مَكامن حِيَلك إذا ذهَب عنها.

ومتى عُرِفتَ بذلك صار قولك برهانًا مُسلَّمًا، ورأيك دليلًا قاطعًا، واتَّهم خَصمُك ما عَلِمه وتيقَّنَه، وشكَّ فيما حفظه وأتقنَه، وارتاب بشهوده وإن عدَّلَتهم المحنة، وجَبُن عن إظهار حُججِه وإن لم تكن فيها عثرة، وتحامتك الخواطر فلم تُقدم عليك إلا بعد الثقة، وهابتك الألسُن فلم تَعرِض لك إلا في الفرَطِ والنُّدْرة» (الوساطة، ص١٢، ١٣، طبعة صبيح). فهذا كما ترى رجلٌ يُقدِّس العلم، ويرى فيه نُبلَ الإنسان، ويدعو إلى البُعد به عن الهوى والتعصُّب، وهو يقول بالمحاجَّة النزيهة التي تُذعن للحُجة تقيمها.

(١-٣) حذَرُ العلماء في نقدِه

ورجلٌ تلك روحه ليس بغريبٍ أن يَصدُر في بحثه عن حذَرِ العلماء وحرصِهم على اليقين، ونُفورهم من كلِّ تعميم، وقَصْر أحكامهم على ما يعرفونه معرفةً يقينية. وفي كتابه صفحاتٌ لا يستطيع العلماءُ المعاصرون أن يكتبوا خيرًا منها. انظر مثلًا وهو يردُّ على مَن انتقد مطالعَ المتنبي بأنَّ للشاعر مطالعَ أخرى جيدةً تشفع للرديئة؛ إذ يورد لتلك الابتداءات الجميلة عدةَ أمثلة، ثم يقول (الوساطة، ص١٤٣، طبعة صبيح): «وأمثال ذلك إنْ طلبتَه هداك إلى موضعه، وإذا التمستَه دلَّك على نفسه. وهذه أفرادُ أبيات، منها أمثالٌ سائرة، ومنها معانٍ مُستوفاة. لم نجد في أخَواتها وجاراتِ جنبها ما يصلح لمصاحبتها. ولعلَّ أكثرَها أو مُعظمَ ما أثبت منها. وكثيرًا مما ذُكر في درَجِ ما تقدَّمَها من اللُّمَع المختارة؛ مختارةُ المعاني، مفترعةُ المذاهب.١ وليس لك أن تُلزِمَني تمييزَ ذلك وإفرادَه، والتنبيهَ عليه بأعبائه، كما فعل كثيرٌ ممن استهدَف للألسُن ولم يحترز من جِناية التهجُّم، فقال: معنًى فريدٌ وبيتٌ بديع، ولم يسبق فلانٌ إلى كذا أو انفرد فلانٌ بذا؛ لأني لم أدَّعِ الإحاطةَ بشعر الأوائل والأواخر، بل لم أزعم أني نصفته سماعًا وقراءة، فدَع الحفظَ والرِّواية. ولعل المعنى الذي أَسِمُه بهذه السِّمة والبيتَ الذي أُضيفه إلى هذه الجملة، في صدر ديوان لم أتصفَّحْه أو تصفَّحتُه ولم أعثر بذلك السطرِ منه، أو عَساني أن أكون رويتُه ثم نسيته، أو حفظتُه لكني أغفلتُ وجْهَ الأخذِ منه وطريقةَ الاحتذاء به، وإنما أجسر في الوقتِ بعد الوقت، فأُقدِم على هذا الحكم انقيادًا للظن، واستنامةً إلى ما يَغلِب على النفس، فأما اليقين والثقة والعلمُ والإحاطة، فمَعاذَ الله أن أدَّعِيَه، ولو ادَّعيتُه لوجب ألَّا تقبَله مع عِلمك بكثرة الشعراء، واختلافِ الحظوظ، وخمولِ أكثرِ ما قيل، وضياع جلِّ ما نُقِل. وأظنُّك قد سمعتَ وانتهى إليك أن البُحتريَّ أسقطَ خَمسمائة شاعرٍ في عصره، فما يؤمِّنُني من وقوع بعضِ أشعارهم إلى غيري، وما يُدريني ما فيها، وهل هذا المستغرَب المستحسَن مَقولٌ عنها ومقتبَسٌ منها أم لا، وهؤلاء المحْدَثون قد شارَكونا في الدار والبلد، وجاوَرونا في العصر، فكيف بمن بَعُد عهدُه، وتقدَّم زمانه، وتناسخَت الأمم بيننا وبينه؟!» هذه لغةٌ نادرةُ المثال عند المؤلفين من قُدماء العرب. أين هي مثلًا من لغةِ رجلٍ كالصولي، أو قُدامة، أو أبي هلال، أو ابنِ الأثير، أو غيرهم من المُدِلِّين المعجَبين المسرِفين في الثقة بأنفسهم؟ هذه لغةُ عالِمٍ ثبت متواضع حَذِر دقيق، لغةٌ جديدة بين النقاد، لغةُ رجل اتَّسعَت معرفته فأدرك حدودَها.

وهو لذلك ينفر من تبجُّح الصولي وغرورِه، ويسخر منه فيقول (ص٣٦٤) عند كلامه عن السرقات: «زعم الصوليُّ أن قولَ البحتري:

عليَّ نَحْت القوافي من مَقاطعِها
وما عليَّ إذا لم تَفهم البقرُ

مأخوذٌ من قول أبي تمام:

لا يَدْهَمنَّك من دَهْمائهِمْ نَفَرُ
فإنَّ جُلَّهمُ بل كلُّهمْ بقَرُ

هذا مع اتِّساعه في الدعاوى وتَحقُّقِه عند نفسه بنقدِ الشعر، وادِّعائه أن أحدًا لم يسبقه إلى هذا العلم، وأنه طريقٌ لم تُسلَك قبله، وبابٌ لم يزَل مُستغلقًا حتى افتتَحه، كأنْ لم يعلم أن العقلاء منذ كانوا يُسمُّون البليد الغبيَّ حمارًا أو بقرة، وإذا استبعَدوا ذِهن مخاطَبٍ واستخفُّوا فِطنةَ منازِع قالوا: هذا ثورٌ وتيس، حتى شاع ذلك على أفواه العامة وألسُن النساء والصِّبيان، وكيف يدَّعي في هذا السَّرَق؟ ومَن جعل بعضَ الناس أولى به من بعض وهُم فيه شرعٌ واحد؟ وأيُّ ذهن يغيب عنه ذلك حتى يفتقرَ إلى الاعتمادِ فيه على غيره، والاستمدادِ ممَّن تقدَّم قبله؟ وإنما يصحُّ في مِثل هذا الأخذُ إذا أُضيفت إليه صَنعةُ لفظ، أو وُصِل بزيادةِ معنًى؛ كبيتِ البُحتري، فإنه لم يرضَ أن يقول: القومُ بهائم، كما قال أبو تمام، حتى قال: «عليَّ نحتُ القوافي من مَقاطعها»؛ أي عليَّ أن أُجيد وأُبدِع وأتأنَّق في شعري، وما عليَّ إفهامُ البقر.»

هذه الروح الجميلة الحبيبة إلى النفس لم يكن بُدٌّ من أن تظهرَ في أسلوب رجلٍ يرى أن أسلوب الرجل هو الرجل نفسُه، فيقول: «إن القوم يختلفون في الأسلوب، وتتباين فيه أحوالُهم، فيرقُّ شعر أحدِهم ويَصلُب شِعر الآخَر، ويسهل لفظُ أحدهم، ويتوعَّر منطق غيره، وإنما ذلك بحسَب اختلاف الطبائع، وتركيبِ الخلق، فإن سلامة اللفظ تتبع سلامةَ الطبع، ودماثةُ الكلام بقدرِ دماثة الخِلْقة، وأنت تجد ذلك ظاهرًا في أهل عصرك وأبناء زمانك، وترى الجافيَ الجلفَ منهم كزَّ الألفاظ، مُعقَّد الكلام، وَعْر الخطاب، حتى إنك ربما وجدتَ ألفاظه في صوته ونَغْمته، وفي جَرْسه ولهجته.»

(١-٤) لغة الفقه في نقده

وهو رجلٌ تُطالعنا روحُه العادلة المتواضعة المثبتة في كلِّ ما كتَب، وهو بعدُ قد اشتغل بالقضاء طولَ حياته، فأُشرِبَت نفسُه لغةَ الفقه التشريعيِّ فضلًا عن روحه ونزعته. ولقد نراه يُورد أمثالَ المتنبي مجموعةً في عدة صفحات (ص١٣٧–١٤٣) ومن بينها ما يعجب به في غيرِ تحفُّظ، كما أنَّ منها ما يسوقه حِرصًا على الاستقصاء ما أمكَنه ذلك، ثم يقول: «وقد وفَيْنا لك بما اقتضاه شرطُ الضمان وزِدْنا، وبَرِئنا إليك ممَّا يوجبه عقدُ الكفالة وأفضَلْنا، ولم تكن بُغْيتُنا استيفاءَ الاختيار واستقصاءَ الانتقاد، فيُقالَ: هلَّا ذكَرتَ هذا فهو خيرٌ مما ذكرت، وكيف أغلفتَ ذلك وهو مُقدَّمٌ على ما أثبَتَّ، وإنما دعَوْناك إلى المقاصَّة، وسُمْناك في ابتداءِ خِطابك المحاجَّةَ والمحاكمة، فلَزِمنا طريقةَ العدل فيها، والتقَطْنا من عُروض الديوان أبياتًا لم نذهب — إن شاء الله — في أكثَرِها عن جِهة الإصابة، فإنْ وقع في خلالها البيتُ والبيتان، فلأنَّ الكلام معقودٌ به، والمعنى لا يتمُّ بدون ما يتقدَّمُه، وما يليه مُفتقرٌ إليه، أو لغرضٍ لا تعظم الفائدةُ بذِكْره، ويضيقُ هذا القَدْر من الخطاب عن استقصاءِ شرحه، أو لسهوٍ عارَضَ التمييز، وغفلةٍ لابَسَت الاختيار، وقد جعَلنا لك أن تحذفَ منه ما أحببتَ، وأبَحْنا لك أن تُسقِط ما أردتَ، فإنَّ الذي يفضل نقدُك منه، ويُوافقنا رأيُك عليه، يُنجز وعدَك ويبلغ غايتك، وبقي ما وقعَت الموافقةُ عليه بيننا وبينك، ثم طالِع بقيةَ شعره، وتَصفَّح فضالةَ ديوانه، فتعلم أنَّا لم نقصد استيعابَ عيوبه، وأخذ صفوته ولُبابه، وأن فيما غادَرْنا منه لم نَعرِض له، وما يُمكن فيه مُحاكمتك، ولا تضعف معه مُحاجَّتك. ولعلك إذا رأيت هذا الجدَّ في السعي، والعنف في القول تقول: إنما وقَفتَ موقفَ الحاكم المسدَّد وقد صِرتَ خَصمًا مجادِلًا، وشرَعتَ شُروع القاضي المتوسِّط، ثم أراك حِزبًا مُنازعًا. فإنْ خطَر ذلك ببالك، وحدَّثَتك به نفسُك، فأشعِرْنا الثقةَ بصدقي، وقرِّر عندها إنصافي وعدلي، واعلم أني رسولٌ مُبلِّغ، وسامعٌ مُؤدٍّ، وإني كما أناظرك أناظرُ عنك، وكما أُخاصمك أخاصمُ لك، فإن رأيتَني جاوزتُ لك موضعَ حُجة فرُدَّني إليها، ونبِّهني عليها، فما أبرِّئ نفسي من الغفلة، ولا أدَّعي السلامةَ من الخطأ، والمدَّعي أشدُّ اهتمامًا بما يُحقِّق دَعْواه من التوسُّط، وعناية الخصم بشُهوده أتمُّ من عناية الحاكم.»

والناظرُ في تلك الأقوال لم يزلَّ يُحِس بما في نَغْماتها من تواضُع لم نألَفْه في لغةِ الأدباء، وهي أشبهُ باللغة التي لم نَعُد نسمعُها اليوم إلا من الرُّهبان الذين يُنفقون حياتهم بالأدْيِرة في خدمة العلم، بل قل: إنها لغة القُضاة، خير القضاة. وهذا واضحٌ لا في الروح فحَسْب، بل وفي الأسلوب وطرُق العبارة، فهو قد «وفَى بما اقتضاه شرطُ الضمان، وبَرِئَ ممَّا يوجبه عقدُ الكفالة» وهو يلزم «طريقةَ العدل في المحاكَمة»؛ تلك كلُّها اصطلاحاتٌ قانونية، وهو يعتبر نفسه مُوكَّلًا بالفصل في الخصومة، وهو ينتهج منهجَ القضاة عندما يأخذون بالمُقاصَّة «فيُسقِطون ما على الخَصْم مقابلَ ما له»، وهذا هو منهجه في كلِّ كتاب؛ فهو يُورِدُ عيوبَ المتنبي ثم يُشفعها بمَحاسنه ليعمل المقاصَّة في الجانبَين. والجُرجاني يُعد رجلًا قويَّ النفس، ثابتَ الثقة؛ فهو لا يخشى أن يعترفَ بخطأ، أو أن يُرَدَّ إلى صواب ما دام يقول ما يعتقدُه الحقَّ، وهو بعدُ لا يدَّعي العصمة، ولا يريد أن يرى رأيًا، وإنما يُبصِّر بما يَرى من مواضِع الجودة والضعف، ثم يترك لنا الخيارَ في أن نأخذ برأيه أو نرفُضَه. وهذه هي رُوح العلم أيضًا، ولكن ألم نَقُل فيما سبق إن روح العلم هي روحُ القضاء، وإن مَعدِنَها واحد؟

ولم يقف تأثُّره بتلك الروح عند توجيهِ المنهج، بل امتدَّ إلى النقد التفصيلي؛ فهو يُورِدُ قولَ ابنِ جبَلة:

وما سوَّدَت عِجلًا مَآثرُ عَزمِهمْ
ولكنْ به سادَت على غيرِها عِجلُ

ثم ينتقدُ هذا المعنى فيقول: وهذا معنى سَوءٍ يَقصُر بالممدوح، ويغضُّ من حسَبِه، ويحقرُ من شأن سلفه، وإنما طريقةُ المدح أن يجعل الممدوحَ يَشرُف بآبائه، والآباء تزدادُ شرفًا به، فيجعل لكلٍّ منهم في الفخر حظًّا، وفي المدح نصيبًا. فإذا حصَلَت الحقائق كان النَّصيبان مقسومَين عليهم، بل كان لكلِّ فريق منهم؛ لأن شرف الوالد جزءٌ من ميراثه، ومُنتقلٌ إلى ولده كانتقالِ ماله، فإن روعي وحُرِس ثبَت وازداد، وإنْ أُهمل وأُضيع هلَك وباد، وكذلك شرف الولد يعمُّ القبيلة، وللولد منه القسمُ الأوفر. ولو اقتصر على قوله: به سادت على غيرِها عِجل؛ لوجد العُذرُ إليه مسلكًا، وأمكَن أن يُقال: إنَّ عجلًا تَسُود به وبأفعالها أيضًا، فقد تسود القبيلةُ بخِصال. وقد يجتمع للإنسان وجوهٌ من الشرف كلُّها تُقدِّمه وتُشيد مجدَه وتُسوِّدُه، فكأنه مَفاخرُ عجل التي تَسُود بها، لكنه وعَّر هذه الطريقةَ بقوله: وما سوَّدَت عِجلًا مآثرُ عزمهم، فجعل الرجلَ خارجيًّا بائنًا لا حظَّ له في حسَب آبائه وشرَفِهم، وإنما الجيدُ ما قال زهير:

وما يكُ من خيرٍ أتَوْه فإنَّما
توارَثه آباءُ آبائِهمْ قبْلُ

وجرى أبو الطيب على مِنهاج ابن جبلةَ فقال:

ما بقومي شَرُفتُ بل شَرُفوا بي
وبنَفْسي فخَرتُ لا بجُدودي

فختَم القولَ بأنه لا شرفَ له بآبائه. وهذا هجوٌ صريح، وقد رأيتُ مَن يعتذر له فيزعمُ أنه أراد: ما شَرُفتُ فقط بآبائي؛ أي لي مَفاخرُ غير الأبُوَّة، ولي مناقبُ سوى الحسَب. وبابُ التأويل واسع، والمقاصدُ مُغيَّبة، وإنما يُستشهَد بالظاهر، ويُتَّبع موقعُ اللفظ. فأما قوله: «وبنفسي فخَرتُ لا بجدودي»، فهو صالح؛ لأنه لم ينفِ أن يكون له فيهم وبهم رُتبةٌ في الفخر، لكنه قال: أكتفي في افتخاري عليكم بنفسي فأَفضلُكم ولا أفتقرُ إلى مفاخر.

وإنما يَذكرُ الجدود لهم
مَن نَفروه وأنفَذوا حِيَلَهْ

فالجُرجاني هنا لم يَصدُر عن نزعةِ العرب عامةً في الحرص على مَفاخر الآباء والأجداد، والاعتزاز بها فحسب، بل كشف أيضًا عن نفسيَّته هو ونظرِه إلى القيم المعنويَّة التي يحرصُ عليها ويُفارق بينها. ومن البيِّن في أسلوبه أنه رجلُ تقاليد كما هو رجلُ قضاء، بل لقد عبَّر عمَّا أراد بلُغةِ القُضاة، فرأى في شرَف الوالد جُزءًا من الميراث ينمو بالتعهُّد والصيانة.

الجرجانيُّ إذن قاضٍ عالمٌ في روحه وأسلوبه، وأهمُّ من ذلك أنه قاضٍ في منهجه النقدي. وتلك مسألةٌ لا بدَّ من تفصيلها؛ لأنها تُميزه عن غيره من النقَّاد المجيدين كالآمديِّ مثلًا.

(٢) منهجُه في النقد

(٢-١) قياسُ الأشباه والنظائر

أساسُ منهج الجرجاني في النقد يمكن أن نُلخِّصه في جملةٍ واحدة؛ هي أنه رجلٌ «يقيس الأشباهَ والنظائر»، وعلى هذا الأساس بنى معظمَ «وساطته» بين المتنبي وخصومه؛ فهو يبدأ كتابه بتعزيز الحقيقة التي لمسها بنفسه من تعصُّب الناس للمتنبِّي أو عليه عن هوًى، ويُلاحظ أن خُصوم الشاعر قد عابوه مثلًا بالخطأ؛ فيُحاول أن يُنصف الشاعر فلا يُناقش ما خطَّئُوه فيه، بل يقيسه بأشباهِه ونظائره عند الشعراء المتقدمين. وعنده أنهم لم يَسْلَموا هم أيضًا من الخطأ، فيقول: «ودونَك هذه الدواوينَ الجاهليَّة والإسلامية، فانظر هل تجدُ فيها قصيدةً تَسْلم من بيتٍ أو أكثر لا يُمكن لعائبٍ القدحُ فيه؛ إما في لفظه ونظمه، أو ترتيبه وتقسيمه، أو معناه أو إعرابه؟ ولولا أن أهل الجاهلية جَدُّوا بالتقدم، واعتُقد فيهم أنهم القدوة والأعلام والحجة، لوجدتَ كثيرًا من أشعارهم مَعيبةً مُسترذَلة، ومردودةً مَنفيَّة، ولكن هذا الظن الجميل والاعتقاد الحسَن ستَر عليهم، ونفى الظِّنَّة عنهم، فذهبَت الخواطرُ في الذبِّ عنهم كلَّ مذهب، وقامت بالاحتجاج لهم كلَّ مقام.» ثم يورد أمثلة لما يعتقدُه خطأً عند القدماء، أغلبُه ينحصر في التسكين حيث يجبُ التحريك؛ وَفْقًا لقواعد النحو بعد أن استقرَّت وقُنِّن لها (راجع: الجزء الأول، الفصل الأول، التاريخ الأدبي في الدراسات الحديثة غير النقد الأدبي)، كما أنَّ من بينها ما يراه خطأً في إصابة صفات الأشياء وفسادِ معنًى، وهو يرى: «أن النَّحْويين قد تكلَّفوا من الاحتجاج لهم إذا أمكَن؛ تارةً بطلب التخفيف عند توالي الحركات، ومرةً بالإتْباع والمجاورة، وما شاكَل ذلك من المعاذير المتمحَّلة، وتغيير الرواية إذا ضاقت الحُجة، وتثبيت ما راموه في ذلك من المرامي البعيدة. وارتكَبوا من أجله من المراكب الصعبة، التي يشهد القلبُ أن المحرِّك لها والباعثَ عليها شدةُ إعظام المتقدِّم، والكُلْف بنُصرة ما سبَق إليه الاعتقادُ وألِفَته النفس.» ونحن لا يَعنينا هنا أن نقضيَ فيما اعتبره الجُرجاني أخطاء، وبخاصةٍ النَّحْوي منها؛ فتلك ظواهرُ بالغةُ الأهمية في تاريخ اللغة ووضعِ قواعدها، وأكبرُ الظن أنها لم تُفهَم إلا عندما نأخذ بالمنهج التاريخي في دراسة لُغتِنا؛ فالأمر ليس أمرَ خطأٍ وصواب، وإنما هو أمرُ تطورٍ، خليقٌ لو تتبَّعْنا مراحلَه أن يُزعزع بعضًا من القواعد العامة التي وضعها النُّحاة، عندما دفَعهم المنطقُ إلى تعميم القواعد. أقول: إن هذه المسألة لا سبيل إلى علاجها الآن، فَلْنترُكْها لِنَلفِتَ النظرَ إلى ما نحن بصَددِه من منهج الجرجانيِّ في النقد، فهو كما قلنا لا يُناقش الأخطاء، وإنما يَعتذر لها. الجرجانيُّ مُدافعٌ يَذود عن مُوكِّله، لا ناقدٌ يُناقش ما أُخِذ على الشاعر من أخطاءٍ أو عيوب فنِّية. والفرق هنا لا يحتاج إلى تدليلٍ بينه وبين ناقدٍ أديب كالآمدي: يصبُّ القول على النقد الموضعي، فيقلب المعانيَ، وينظر في الصياغة، ويُفصِّل الأوجُهَ في كل بيت أو معنًى يَعرِض له. والناظر في كتاب الجرجاني لن يجدَ فيه من النقد الموضعي المفصَّل غيرَ الصفحات الأخيرة (من ٣١٥ إلى ٣٦٥، باب ما عابه العلماءُ على شعر المتنبي)، فهو في تلك الصفحات فقط يُشبِه الآمديَّ في «موازنته»، وأما في بقية الكتاب فمنهجُه هو ما ذكَرتُ من «قياس الأشباه والنظائر».

ولذلك نراه إذا فرَغ من مسألة الأخطاء، وأخذ في مناقشة المسألة الهامة التي تعتبر مفصل الخصومة، وأعني بها تفاوُتَ الشاعر جودةً ورَداءة، ثم اختلافه عن شعر السابقين، لم يتخلَّ الناقدُ عن منهجه، وإن يكن قد وسَّع منه فأضاف إلى القياس النظرةَ التاريخية. وهنا تكمل شخصية الجرجانيِّ الذي مهَّدنا للحديث عنه بأنه لم يكن قاضيًا عالمًا فحسب، بل مؤرخًا أيضًا. ولقد استطاع هذا الرجلُ بنَفاذِ بصيرته، ونظرتِه التاريخية الشاملة أن يُخطِّط تطوُّر الشعر العربي، وأن يُفسر المفارَقاتِ الموجودةَ فيه.

(٢-٢) رأيه في الخلق الفني

وللجُرجاني في ذلك صفحاتٌ عظيمة، بحيث نرى من واجبنا أن نُثبِتَها هنا قبل أن نأخذ في مناقَشتِها واستخلاصِ ما بها من مبادئ، قال (ص٢١ وما بعدها): «أنا أقول — أيَّدَك الله: إن الشعر علمٌ من علوم العرب، يشترك فيه الطبعُ والرِّواية والذكاء، ثم تكون الدُّربة مادةً له، وقوةً لكل واحدٍ من أسبابه، فمَن اجتمعَت له هذه الخِصالُ فهو المحسن المبرَّز، وبقدرِ نصيبه منها تكون مرتبتُه من الإحسان، ولستُ أَفصِلُ في هذه القضية بين القديم والمحدَث، والجاهليِّ والمخضرم، والأعرابيِّ والمولَّد، إلا أنني أرى حاجةَ المحْدَث إلى الرواية أمَسَّ، وأجدُه إلى كثرة الحفظ أفقرَ، فإذا استكشفتُ عن هذه الحالة وجدتُ سببَها والعلةَ فيها أن المطبوع الذكيَّ لا يمكنه تناولُ ألفاظ العرب إلا رِواية، ولا طريقَ للرواية إلا السمع. ومِلَاكُ الرواية الحفظ، وقد كانت العرب تَروي وتحفظ، ويُعرَف بعضُها بروايةِ شعر بعض، كما قيل: إن زهيرًا كان راويةَ أوس، وإن الحُطيئة راويةُ زهير، وإن أبا ذؤيب راويةُ ساعدةَ بنِ جُوَيرية؛ فبلغ هؤلاء في الشعر حيث تراهم. وكان عُبيد راويةَ الأعشى، ولم تُسمَع له كلمةٌ تامَّة، كما لم يُسمع لِحُسين راويةِ جرير، ومحمد بن سهل راويةِ الكُمَيت، والسائب راويةِ كُثَيِّر؛ غير أنها كانت بالطبع أشدَّ ثقة، وإليه أكثرَ استئناسًا. وأنت تعلم أن العرب مشتركةٌ في اللغة واللسان، وأنها سواءٌ في المنطق والعبارة، وإنما تَفضُل القبيلةُ أختَها بشيء من الفصاحة، ثم قد نجد الرجلَ منها شاعرًا مُفلِقًا، وابنَ عمِّه وجارَ جنابِه ولصيقَ طِنْبِه بكيًّا مُفحمًا، ونجد فيها الشاعرَ أشعرَ من الشاعر، والخطيبَ أبلغَ من الخطيب، فهل ذلك إلا من جهة الطبع والذكاء، وحِدَّة القريحة والفطنة؟! وهذه أمورٌ عامة في جنس البشر لا تخصيصَ لها بالأعصار، ولا يتصف بها دهر دون دهر.»

وهو في هذه الفقرة يَعرِض للخَلْق الفني، فيرجعه إلى الطبع والذكاء والدُّرْبة والرواية. وقد فَطِن إلى أن الرواية عند العرب بمثابة التَّلْمذة؛ فمِن الشعراء مَن تتلمذ لغيره بأن صار راويةً له، فبَرَّز في الشعر سائرًا على نهج أستاذه؛ حتى لَتتكون أحيانًا مدارسُ بعينها كتلك التي قامت على أَوْس بن حجر وزُهير والحُطَيئة. وقد أخذ هؤلاء الثلاثة بعضُهم عن بعض، وحدَّثنا عن ذلك القدماء، فاستطاع ناقدٌ حديث كالدكتور طه حسين أن يستنبط الخصائصَ الفنية التي تُميز تلك المدرسة، وأن يردَّها إلى تثقيفِ الشعر، ثم إلى الاعتماد على الخيال الحسِّي، وفصَّل في ذلك القولَ في كتابه عن الشعر الجاهلي.

الجرجاني يُلاحظ بعد ذلك ملاحظةً مُسلَّمًا بها هي تفاوُت الناس في القدرة على الشعر والفصاحة، حتى ولو اتَّحدَت قبائلهم بل وبيوتهم.

(٢-٣) تطوُّر الشعر ولغته

وإذ تقرَّرَت هذه الحقائقُ العامة عن طبيعة الخَلْق الفنِّي ومُلابساته، ينتقل الناقدُ إلى استعراضٍ عام لتطورِ الشعر العربي ولغته، فيُقرر (ص٢٣): «كانت العرب ومَن تبعها من السلف تجري على عادةٍ في تفخيم اللفظ وجمال المنطق لم تَألَفْ غيرَه، ولا آنسَها سِواه. وكان الشعر أحدَ أقسام منطقها، ومن حقِّه أن يختصَّ بفضلِ تهذيب، ويُفرَد بزيادةِ عناية، فإذا اجتمعَت تلك العادة والطبيعة، وانضاف إليهما التعمُّلُ والصنعة، خرَج كما تراه فجًّا جَزْلًا قويًّا متينًا. ومِن شأن البداوة أن تُحدِث بعضَ التوعر؛ ولأجله قال النبيُّ : «مَن بدا جفا.» وكان شِعرُ عدي، وهو جاهلي، أسلسَ من شعرِ الفرزدق، ورجَزِ رؤبة، وهما آهِلان؛ لملازمة عديٍّ الحاضرةَ، وإيطانِه الريف، وبُعدِه عن جَلافة البدو وجَفاءِ الأعراب. وترى رقَّة الشعر أكثرَ ما تأتيك من قِبَل العاشق المتيَّم، والغزَل المتهالك، فإن اتفقَت لك الدماثة والصَّبابة وانصرافُ الطبع إلى الغزَل، فقد جُمِعَت لك الرقةُ من أطرافها.

فلما ضرَب الإسلام بجِرَانِه، واتسعَت ممالك العرب، وكثرَت الحواضر، ونزعَت البوادي إلى القرية، وفشا التأدُّب والتظرُّف؛ اختار الناس من الكلام ألينَه وأسهله، وعمَدوا إلى كل شيء ذي أسماءٍ كثيرة، فاختاروا أحسنَها سمعًا، وألطفَها من القلب موقعًا، وإلى ما للعرب فيه لُغاتٌ، فاقتصروا على أسلَسِها وأشرفِها. كما رأيتهم يختصرون «الطويل»، فإنهم وجَدوا للعرب فيه نحوًا من ستِّين لفظةً أكثرُها نشعٌ شنع؛ كالفشط والفيطنط، والعشنو والجشرب، والشوقب والسهلب، والشؤذب، والطاط والطوط، والقاق والقوق، فنبَذوا جميعَ ذلك وترَكوه، واكتفَوْا «بالطويل» لِخفَّته على اللسان، وقلةِ نُبوِّ السمع عنه.

وتجاوزوا الحدَّ في طلب التسهيل حتى تسَمَّحوا ببعض اللحن، وحتى خالطَتهم الركاكة والعُجمة، وأعانهم على ذلك لينُ الحضارة، وسهولةُ طِباع الأخلاق، فانتقلَت العادة، وتغيَّر الرسم، وانتسَخَت هذه السُّنة، واحتذَوْا بشعرهم هذا المثالَ وترقَّقوا ما أمكَن، وكسَوْا معانيَهم ألطفَ ما سنح من الألفاظ، وصارت إذا قيست بذلك الكلام الأول تبيَّن فيها اللِّين فيُظن ضعفًا، فإذا أُفرد عاد ذلك اللِّين صفاءً ورونقًا، وصار ما تخيَّلتَه ضعفًا: رشاقةً ولطفًا. فإذا رام أحدُهم الإغرابَ والاقتداء بمن مضى من القدماء، لم يتمكَّن مِن بعض ما يرويه إلا بأشدِّ تكلُّف وأتمِّ تصنُّع؛ ومع التكلُّف المقت، وللنفس عن التصنُّع نُفرة، وفي مُفارقة الطبع قلةُ الحلاوة، وذَهاب الرونق، وإخلاق الديباجة. وربما كان ذلك سببًا لطمس المحاسن، كالذي تجده كثيرًا في شِعر أبي تمام، فإنه حاول مِن بين المحدَثين الاقتداءَ بالأوائل في كثيرٍ من ألفاظه، فحصل منه توعيرُ اللفظ، وتبجَّح في غيرِ موضع من شعره، فقال:

فكأنما هي في السَّماع جَنادلٌ
وكأنما هي في القلوبِ كواكبُ

فتعسَّف ما أمكَن، وتغلغَل في التصعب كيف قدَر، ثم لم يرضَ بذلك حتى أضاف إليه طلبَ البديع، فتحمَّله من كلِّ وجه، وتوصَّل إليه بكلِّ سبب، ولم يرضَ بهاتين الخَلَّتَين حتى اجتلب المعانيَ الغامضة، وقصَد الأغراضَ الخفية، فاحتمل فيها كلَّ غثٍّ ثقيل، وأرصد لها الأفكارَ بكل سبيل، فصار هذا الجنسُ من شعره إذا قرَع السمع لم يصل إلى القلب إلا بعدَ إتعاب الفكر، وكدِّ الخاطر، والحمل على القريحة، فإن ظفر فمِن بعد العناء والمشقَّة، وحين حسَره الإعياء، وأوهن قوتَه الكَلال. وتلك حالٌ لا تهشُّ فيها النفسُ للاستماع بحسَن، أو الالتذاذ بمُستظرَف. وهذه جريرة التكلُّف. ولستُ أقول هذا غضًّا من أبي تمام، ولا تهجينًا لشعره، ولا عصبيةً عليه لغيره، فكيف وأنا أومنُ بتفضيله وتقديمه، وأنتحلُ موالاتَه وتعظيمه، وأراه قِبلةَ أصحاب المعاني وقدوةَ أهل البديع! لكن ما سمعتَني أشترطُه في صدر هذه الرسالة أنه يحظر إلا اتِّباع الحق، وتحرِّي العدل، والحكم به لي أو عليَّ. وما عدَوتُ في هذا الفصل قضيةَ أبي تمام ولا خرَجتُ عن شرطه.» ثم يأخذ في إيرادِ بعض ما عِيبَ من شعرِ أبي تمام، وهو يفعل ذلك تمهيدًا لالتماس العذر لأبي الطيِّب فيما سقَط فيه بعضُ شعره من تكلُّفٍ وإسراف، والجرجانيُّ نفسُه قد فطن إلى أن المتنبيَ قد تتلمذ لأبي تمامٍ في صدر حياته.

وبالنظر في النصِّ السابق، نُلاحظ أن الناقدَ لم يقتصر على استعراض تطورِ ملَكة الشعر ولُغتِه، وسَيرها من البداوة إلى التحضُّر، ومن الوعورة إلى السهولة حتى كان مذهبُ البديع، فحاول أن «يطرز على ثوبٍ خلَق»، وأخذ يُغرِب في صياغة المعاني القديمة المعروفة؛ أقول: إن الناقد لم يفعل هذا فحسب، بل أخذ ذوقُه الأدبي الخاص يظهر رغمًا منه، وهو يُخبرنا أنه لا يَصدر في هذا الذَّوق عن هوًى، ولا ينحرف فيه عن العدل، وإنما هي الحقيقةُ كما يراها … وهنا يُلحَق الجرجانيُّ كأديبٍ ناقدٍ بالآمدي؛ فكلاهما يُفضل الشعرَ المطبوع على الصناعة، وإن يكن الآمديُّ أميلَ من الجرجاني إلى إعزازِ القديم، وتحكيمه في الشعر الحديث. ولْنفصِّل ذلك.

(٣) ذَوقه الأدبي

يقول الجرجانيُّ عن لغة الشعر: «ومتى سمعتَني أختار للمُحدَث هذا الاختيار، وأبعثه على التطبُّع، وأُحسِّن له التسهيل؛ فلا تظنَّ أني أريد بالسَّمحِ السهلِ الضعيفَ الرَّكيك، ولا باللطيفِ الرشيقِ الخُنَثَ المؤنَّث، بل أريد اللفظَ الأوسط؛ ما ارتفع عن الساقط السُّوقي، وانحطَّ عن البدويِّ الوحشي، وما جاوز سَفْسفةَ نصرٍ ونُظرائه، ولم يبلغ تعجرُفَ هِمْيان بن قُحافة وأضرابِه. نعم، ولا آمرُك بإجراء أنواع الشعر كلِّه مجرًى واحدًا، ولا أن تذهب بجميعِه مذهبَ بعضِه، بل أرى لك أن تقسم الألفاظ على رُتَب المعاني، فلا يكون غزلُك كافتخارك، ولا مديحُك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبكائك، ولا هزلُك بمنزلِ جِدِّك، ولا تعريضُك مثلَ تصريحك، بل تُرتب كلامَك مرتبتَه، وتُوفِّيه حقَّه، فتُلطف إذا تغزَّلت، وتُفخِّم إذا افتخَرت، وتصرف للمديح تصرُّفَ مواقعه؛ فإن المدحَ بالشجاعة والبأسِ يتميَّز عن المدحِ باللباقة والظُّرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصفِ المجلس والمُدام؛ فلكلِّ واحد من الأمرين نهجٌ هو أملَكُ به، وطريقٌ لا يشاركه الآخرُ فيه.

وليس ما رسمتُه لك في هذا الباب بمقصورٍ على الشعر دون الكتابة، ولا بمختصٍّ بالنظم دون النثر، بل يجب أن يكون كتابُك في الفتح أو الوعيدِ خلافَ كتابك في التشوُّق والتهنئة واقتضاء المواصلة، وخطابُك إذا حذَّرتَ وزجرتَ أفخمَ منه إذا وعدتَ ومنَّيت. فأما الهجوُ فأبلغه ما جرى مجرى الهَزْل والتهافُت، وما اعترض بين التصريح والتعريض، وما قَرُبَت معانيه، وسَهُل حفظه، وأسرَع عُلوقه بالقلب، ولُصوقه بالنفس، فأما القذف والإفحاش فسِبابٌ محض، وليس للشاعر فيه إلا إقامةُ الوزن وتصحيحُ القافية.

وإذا أردتَ أن تعرف موقعَ اللفظ الرشيق من القلب، وعِظمَ غَنائه في تحسين الشعر؛ فتصفَّحْ شعر جريرٍ وذي الرُّمة في القدماء، والبُحتريِّ في المتأخرين، وتتبَّعْ نسيبَ متيَّمي العرب ومُتغزلي أهل الحجاز، كعُمرَ وكُثيِّرٍ وجميلٍ ونَصيبٍ وأضرابِهم، وقِسْهم بمن هو أجودُ منهم شعرًا، وأفصحُ لفظًا وسَبْكًا، ثم انظر واحكُم وأنصِف، ودَعْني من قولك: هل زاد على كذا، وهل قال إلا ما قاله فلان؛ فإن روعة اللفظ تسبقُ بك إلى الحكم، وإنما تُفْضي إلى المعنى عند التفتيشِ والكشف. ومِلاكُ الأمر في هذا الباب خاصةً تركُ التكلُّف، ورفضُ التعمُّل، والاسترسالُ للطبع، وتجنبُ الحمل عليه، والعنفِ به. ولستُ أعني بهذا كلَّ طبع، بل المهذَّبَ الذي قد صقَله الأدب، وشحذته الرواية، وحلَّتْه الفطنة، وأُلهم الفصلَ بين الرديء والجيد، وتصور أمثلة الحسَن والقبيح.

ومتى أردتَ أن تعرف ذلك عيانًا، وتستثبِتَه مُواجهة، فتعرفَ فرْقَ ما بين المصنوع والمطبوع، وفصْلَ ما بين السَّمْح المنقاد والغَصْب المستكرَه؛ فاعمِدْ إلى شعر البحتري، ودَعْ ما يصدرُ به الاختيار، ويُعد في أولِ مراتب الجودة، ويتبين فيه أثرُ الاحتفال، وعليك بما قاله عن عفوِ خاطره، وأولِ فكرته» (ص٣١ و٣٢).

ومن هذا النصِّ نستطيع أن نستنتجَ اللغةَ التي يُفضلها الجرجانيُّ في الشعر؛ فهي تلك التي تسمو عن السوقيِّ ولا تصل إلى الوحشي. وهذا هو المستوى العامُّ وإن تكن ثَمة مفارقاتٌ تظهر في تلك اللغة العامة؛ تبعًا لنوع الموضوع الذي يُعالجه الشاعرُ أو الكاتب. وفي اختيار الجرجانيِّ للبحتري وجريرٍ وذي الرُّمة ومُتغزِّلي أهل الحجاز؛ ما يدلُّ على سلامةِ ذَوق هذا الناقدِ ودقته، فهو يعجب بروعة اللفظ كما يعجب بصِدق الطبع، ويمقتُ التكلُّف والصنعةَ الثقيلة حتى لَيُخرِج من شِعر البحتري نفسِه كلَّ ما فيه «أثرُ الاحتفال».

(٣-١) بين الجرجانيِّ والآمدي

ونحن بعدُ نُحسُّ أن الجرجانيَّ أقربُ إلى محبة السهولة الرَّصينة من الآمدي، ولقد رأينا صاحبَ الموازنة يرفض قولَ أبي تمام: «لا أنت أنت ولا الزمانُ زمان»؛ بحُجَّة أن «أنت أنت» من كلام العوام، ويُردف ذلك باستنادِه إلى قاعدةِ «أن اللغة لا يُقاس عليها»، وأنه إذا كان الشاعر الأموي قد قال: «ولا العقيقُ عقيق» وأمثالَ ذلك، «فليس للمُحدَث أن يقول: لا أنتَ أنت». وهذا نقدٌ ما نظنُّ رجلًا كالجرجانيِّ يُقِرُّه عليه. الجرجاني أكثرُ تسامحًا من الآمدي، بل قل: إنه أقربُ إلى نزعة المحْدَثين من الآمدي، ولعلَّ لِما بينهما من زمنٍ يقرب من ربعِ قرن تأثيرُه في هذا التفاوت.

ومع ذلك فالجرجانيُّ والآمدي متفقان في حكمِهما على جوهر الشعر ذاتِه، ولقد سبق أن رأينا الآمديَّ ينفر مما تكلَّفه أصحابُ البديع، بل ويُسخفه في عنف، وكذلك يفعل الجرجانيُّ مع ملاحظةِ ما بين الرجلين من اختلافٍ في الطبع؛ فالآمدي أديبُ الذَّوق، حارُّ النفس، سريع الانفعال، يتعصب ككلِّ أديب لما يراه جميلًا، ويثور ضدَّ ما يبدو له قبيحًا، ولَكَم من مرةٍ رأيناه يتَّهم أبا تمام بالحمق والسخف، بل ويجزم بذلك في أقوى لفظ! ونحن لا نستطيع أن ننسى قولَه عن زعيم مذهب البديع أنه قد أتى بالحمق أجمَعِه عندما قال: «ملطومة بالورد». وتلك لغةٌ لا يعرفها الجرجاني القاضي المتَّزن، الهادئُ النفس، السمحُ الطبع، الرَّحب الصدر.

الجرجانيُّ كالآمدي، يُفضل الشعرَ المطبوع، ولكنه لا يتعصَّب له. انظر إليه يوردُ لهذا النوع من الشعر مثلًا قصيدةَ البحتري التي مطلعها:

أُلام على هواكِ وليس عدلًا
إذا أحببتُ مِثلَكِ أن أُلاما

حتى إذا انتهى من إيرادها قال (ص٣٢): «ثم انظر هل تجد معنًى مبتذلًا، ولفظًا مشتهرًا مستعملًا؟ وهل ترى صنعةً وإبداعًا أو تدقيقًا أو إغرابًا؟ ثم تأمَّل كيف تجد نفسَك عند إنشاده، وتفقَّدْ ما يتداخلُك من الارتياح، ويستخفُّك من الطرَب إذا سمعتَه، وتذكر صَبْوة إن كانت لك تراها ممثلةً لضميرك، ومصورة تلقاء ناظرِك.»

(٣-٢) الجرجاني ناقدٌ إنساني

وهنا نجد جماعَ مقاييس الجودة عند الجرجاني، وهي الخلوُّ من الابتذال قدْرَ البُعد عن الصنعة والإغراب، ثم التأثير في نفس السامع وهزُّها. وهذا لا يكون إلا بما في الشعر من عناصرَ إنسانيةٍ صادقة تجعلنا نُشارك قائله في إحساسه، ونعود إلى أنفسنا فنجد لشِعره صدًى فيها. وهذا اتجاهٌ نفسي في النقد قلَّ أن تجدَ له مثيلًا عند النقَّاد الآخرين. الجرجاني هنا ليس ناقدًا فنيًّا، بل ناقدٌ إنساني، وفي الحق إن صفة الإنسانية واضحةٌ عند هذا الناقد في الكثير من اتجاهاته، وإلى تلك الإنسانيةِ نستطيع أن نردَّ الكثيرَ من آرائه في النقد، وهو في ذلك يختلف عن الآمديِّ الذي يغلب عليه النقدُ الفني الخالص، نقد الصياغة والمعاني في ذاتها، وفي علاقاتها بطرقِ أدائها. ولعلَّ للآمدي في ذلك عُذرَه؛ فهو قد تناول بالدَّرس شاعرَين ثارت الخصومةُ حولهما بسبب اختلافهما في طرق الصياغة فحسب، وهما معًا يُمثلان الكلاسيكيةَ الحديثة، بينما الجرجاني لم يتقيَّد بقيدٍ كهذا؛ فالمتنبي لم يختصم فيه الناسُ من أجل مذهبٍ فني، وإنما اختصموا في الرجل وطبعِه وفنه الأصيل الذي لم يَجْرِ على مذهبٍ بعينه، ولا اصطنع وسائلَ خاصة.

وإذا جاز لنا إذن أن نُسمِّيَ الآمديَّ ناقدًا فنانًا، استطعنا أن نصفَ الجرجانيَّ بأنه ناقدٌ إنساني. ولعل تلك الصفة أوضحُ ما تكون في حرصه على أن يكسب مُناظرَه؛ فهو لا يُبدي رأيه فحسب، بل ولا يكتفي بأن يُعلِّله كما يفعل الآمدي، بل يسلك إلى إيمانِ مَن يُحاجُّه كلَّ السبل؛ ولهذا تراه لا يكتفي بالقصيدة السابقة التي أوردَها للبحتري كمثَلٍ للشعر السهل الجميل في رصانة، بل يستدركُ مخاطبًا القارئَ: «فإن قلت: هذا نسيب، والنفس تهشُّ له، والقلب يعلق به، والهوى يُسرع إليه، فأنشَد له في المديح:
بلَوْنا ضرايبَ مَن قد نرى
فما إن وجدنا لِفتحٍ ضَريبَا»
(ص٢٢)

ويورد الناقدُ تلك القصيدةَ الجميلة التي قالها البحتريُّ في مدح الفتح بن خاقان، حتى انتهى منها لم يقف في مُحاجَّته عند ذلك الحدِّ أيضًا، بل عاد إلى القارئ يُمعن في محاولتِه كسْبَه فيقول: «وإنما أحلتُك على البحتري؛ لأنه أقربُ بنا عهدًا، ونحن به أشدُّ أنسًا، وكلامه أليقُ بطباعنا، وأشبهُ بعاداتنا، وإنما تألف النفسُ ما جانسَها، وتقبلُ الأقربَ فالأقرب إليها، فإن شئتَ أن تعرف ذلك في شعر غيره كما عرَفتَه في شعره، وأن تعتبر القديمَ كاعتبار المولَّد، فأنشد قولَ جرير:

ألا أيها الوادي الذي ضمَّ سيلُه
إلينا نوى ظَمْياء حُيِّيتَ واديَا»

ويُنشد تلك القصيدة التي تُعتبر بحقٍّ من عيون الشعر العربي حتى نهايتها. ونحن وإن كنا غيرَ غافلين عمَّا في طبيعة التأليف من حِيَلٍ يستعين بها كلُّ مؤلف على ربطِ أجزاء كلامه بعضِها ببعض، إلا أننا لا نرى في طريقة عرضِ الجرجاني لآرائه مجردَ حيلٍ في التأليف، بل دلائل على طبعه ومنهجه واتجاهِ نفسه.

(٣-٣) الجرجاني والبديع

وناقدُنا بعد كل ذلك لا يريد أن يُمْلي على قارئه آراءَه، وهو رجلٌ لا يعرف التعصُّب، حتى ولا تعصب الأدباء لما يرَونه جميلًا — تعصُّب الآمدي مثلًا — وإنما يُفسح المجالَ لكل ذوق، ويحاول مخلصًا أن يوضِّح ما في بعض الشعر المصنوع من جودة؛ وذلك طبعًا دون أن يتخلَّى عن ذوقه الخالص وعمَّا يُفضله من شعر. وهنا يظهر لنا ذوقه الدفين، ذوقه اللصيق بقلبه إلى جوارِ ذوقه العقلي. وثَمة صفحةٌ من كتابه تكشف لنا عن كل ذلك؛ فقال (ص٣٧): «وقد تغزَّل أبو تمام فقال:

دعني وشُربَ الهوى يا شاربَ الكاسِ
فإنَّني للذي حُسِّيتُه حاسي
لا يوحِشنَّك ما استَسْمجتَ من سقَمي
فإنَّ منزله من أحسنِ الناسِ
مِن قطعِ أوصاله توصيلُ مهلكتي
ووصلِ ألحاظه تقطيعُ أنفاسي
متى أعيش بتأميلِ الرَّجاء إذا
ما كان قطعُ رجائي في يدَيْ باسي

فلم يخلُ بيتٌ منها من معنًى بديع وصفةٍ لطيفة: طابَق وجانَس، واستعارَ فأحسن، وهي معدودةٌ من المختار من غزَله — وحقَّ لها — فقد جمَعَت على قِصَرِها فنونًا في الحُسن، وأصنافًا من البديع، ثم فيها من الإحكام والمتانة والقوة ما تراه، ولكن ما أظنك تجد له من صورة الطرب وارتياحِ النفس ما تجدُه لقول بعضِ الأعراب:

أقولُ لصاحبي والعِيسُ تَهْوِي
بنا بين المُنيفةِ فالضِّمَارِ
تمتَّعْ من شَميمِ عَرارِ نجْدٍ
فما بعد العشيَّةِ مِن عَرارِ
ألَا يا حبَّذا نفَحاتُ نجدٍ
وريَّا روضِه غِبَّ القِطارِ
وعيشِك إذ يَحُلُّ القومُ نجدًا
وأنت على زمانِك غيرُ زارِ
شهورٌ ينقضينَ وما شعَرْنا
بأنصافٍ لهنَّ ولا سِرارِ
فأمَّا ليلُهنَّ فخيرُ ليلٍ
وأقصرُ ما يكون من النهارِ

فهو كما تراه بعيدٌ عن الصنعة، فارغُ الألفاظ، سهلُ المأخذ، قريب التناول. وكانت العرب إنما تُفاضل بين الشعراء في الجودة والحُسن بشرَفِ المعنى وصحَّته، وجَزالة اللفظ واستقامتِه، وتُسلم السبق فيه لمن وصَف فأصاب، وشبَّه فقارب، وبدَهَ فأغزَر، ولمن كثرَت سوائرُ أمثاله، وشواردُ أبياته. ولم تكن تعبأُ بالتجنيس والمطابقة، ولا تحفل بالإبداع والاستعارة؛ إذا حصَل لها عمودُ الشعر ونظامُ القريض. وقد كان يقع ذلك في خلالِ قصائدها، ويتَّفق لها في البيت بعد البيت على غيرِ تعمُّدٍ وقصد. فلما أفضى الشعرُ إلى المحْدَثين ورأَوا مواقعَ تلك الأبيات من الغرابة والحسن، وتميُّزَها عن أخَواتها في الرشاقة واللطف؛ تكلَّفوا الاحتذاءَ عليها، فسمَّوه البديع؛ فمِن محسنٍ ومسيء، ومحمودٍ ومذموم، ومقتصِدٍ ومُفْرِط.» وهنا يأخذ الجرجانيُّ في إيراد أمثلةٍ للاستعارة الحسنة والقبيحة، وللتجنيس المطلَق والتجنيس المستوفى، وللتجنيس الناقص والتجنيس المضاف، ثم للتصحيف والتقسيم. وبذلك تنتهي المقدمة (ص٤٩)، فيأخذ المؤلف في الحديث عن المتنبي.

ونحن وإن كنا لا نقول بأنه كان يمقتُ البديع، إلا أننا لا نظننا نَعْدو الحقَّ إذا جزَمْنا بأن الجرجاني لم يكن يعجب بأوجه البديع إلا إعجابًا عقليًّا، وذلك طبعًا عندما يكون في تلك الأوجُه ما يمكن الإعجابُ به على نحوٍ ما. وأما إعجابه الحقيقي، إعجابه القلبي الذي يَصدُر عن ذَوقه العميق، فهو ذلك الذي أبداه عند الكلام على شعر البحتريِّ وجرير، ثم عن مقطوعةِ ذلك الأعرابي الحارِّ النفحات، الصادقِ الحس.

(٣-٤) الجرجانيُّ بين النقاد

هذه هي الروحُ العامة للجرجاني، وذلك منهجُه؛ فهو قاضٍ عالمٌ مؤرخٌ أديب. وأما آراؤه التي أوردناها في طبيعة الخلق الفني، وتأثُّر ذلك الخلق بالبيئة وبالطبع وبالموضوع، وأما استعراضه لتاريخ الأدب العربي وتطوره؛ فتلك أشياءُ سبق أن عرَضَت لنا عند الكلام على النقاد الآخرين.

فعدم التعصب للقديم لقِدَمه وللحديث لحداثته؛ سبَق إلى القول به ابنُ قتيبة، كما أن سَلَّام الجُمَحي قد سبق أن لاحظ تأثُّر الشعر بالبيئة، وكان من بين الأمثلة التي ضربها لذلك مثَلُ عَديِّ بن زيد، الذي يورده الجرجانيُّ أيضًا. وعن طبيعة الخلق الأدبي أورَد الآمديُّ ما يُشبه رأي صاحبِ الوساطة في كثيرٍ من تفاصيله، فضلًا عن فكرته العامة. وأخيرًا كان لابن المعتز فضلُ السبق إلى البحث عن أصول مذهب البديع، ومقارنته بشعر الأوَّلين، وإيضاح نشأته التاريخية. ولكن هذا لا يمكن أن ينالَ من فضل الجرجاني؛ فالشيء المهمُّ في الناقد ليس آراءه، وإنما هو روحُه ومنهجه، ثم ذَوقه في النقد. ومن هنا يأتي تأثيرُه كما تأتي مكانته في تسلسُل النقاد في التاريخ.

(٣-٥) اتجاهه العِلمي العقلي

والذي نَحرص على إيضاحه هو أن صاحب الوساطة — مع صدق ذَوقه وسَداد أحكامه — قد مهَّد السبيلَ إلى تحوُّلِ النقد إلى بلاغة؛ وذلك لأنه لم يعتمد على النقد الموضعيِّ قدْرَ اعتمادِه على المبادئ العامة التي حاوَل أن يستخلصَها، أو أن يُنمِّيَها إن كان قد سُبق إليها، ثم إن الروح التعليمية قد أخذَت تظهر في كتابه.

ونحن وإن كنا سنُعالج تلك المسألةَ الهامة؛ مسألةَ تحوُّل النقد إلى بلاغةٍ في فصل خاص، إلا أننا نُشير إلى بَدْء ظهورها منذ الآن حتى نرى كيف كان هذا التحولُ طبيعيًّا. ولقد سبق أن تحدثنا عن الآمديِّ مثلًا، فلم نرَه يعدو النقدَ الموضعي، نقد ما أمامه من النصوص إلى إعطاءِ نصائح في الكتابة. وأما الجرجانيُّ فلا يخلو من تلك النزعة التعليمية التي ستزدهر في «الصناعتين». انظر إليه مثلًا وهو يقول (ص٢٩): «يجب أن يكون كتابك في الفتح أو الوعيد خلافَ كتابك في التشويق والتهنئة واقتضاءِ المواصلة، وخطابُك إذا حذَّرتَ وزجَرتَ أفخمَ منه إذا وعدتَ ومنَّيتَ … إلخ.»

ثم إنه عند ظهور الجرجانيِّ كانت أصولُ اللغة قد استقرَّت، وكذلك قواعد العَروض والنحو؛ ولهذا نراه يرجع إلى تلك الأصول والقواعد ليردَّ إليها ما اختلف الناسُ في الحكم عليه من شِعر المتنبي وغيره. ومن المعروف أن أبا الطيب لم يكن يتقيَّد دائمًا بالقواعد، وأنه كما استعمَل ألفاظًا شاذة، كذلك قلَبَ من بناء الكلمات وغيَّر من إعرابها، واستباح لنفسه ما لم يستَبِحْه غيرُه. وإلى هذا يَعرِض الجرجاني، ثم لا يجد لذلك حلًّا إلا بالرجوع إلى القاعدة العامة التي إن أباحت للشاعر ما لا تُبيحه للناثر، فإنها تُقيده بأنْ لا يَعْدو «ردَّ الكلمةِ إلى أصلها، وإلى ما أوجب القياسُ الأعمُّ لها.» فتلك هي القاعدة العامة. وإليك رأيَ المؤلف بنصِّه (ص٣٤٣): «وهذه القضية — قضية الإباحة الشعرية — إن سيقَت على اطِّراد قياسها زال نظامُ الإعراب، وجاز للشاعر أن يقول ما شاء، وأن يتناول ما أراد عن قُرب، فيُثقِّل كلَّ مخفَّف، ويُخفِّف كل مثقَّل، ويحذف ويَزيد، ويُغير الجموع، ويتحكَّم في التصريف، ويتعدى ذلك إلى حركات الإعراب، ويتجاوزه إلى ترتيب الحروف. فإذا كان هذا ممتنعًا محظورًا، ومتعذِّرًا محجورًا، فلا بدَّ من حدٍّ يقف عنده الشاعر، وينتهي إليه الفرقُ بين النظم والنثر، فيزول هذا الأساس الذي مهَّده، والأصلُ الذي قرَّره، ويرجع إلى ما قالت العلماءُ فيه، وما أُجيز للمضطر من التسهُّل، وفضل به النظم من التسامح، وهو أبوابٌ معروفة، ووجوهٌ محصورٌ أكثرُها. ومعظم ما يوجد فيها ردُّ الكلمة إلى أصلها، وإلى ما أوجب القياسُ الأعمُّ لها، مثل صرفِ ما لا ينصرف؛ لأن ترك الصرف لعلةٍ، فأزيلت، وأُلحِق الاسمُ بأصل الأسماء، ومثل قَصْر ما يُمد؛ لأن المدة زيادةٌ عارضة فحُذِفت، ومثل إظهار التضعيف كقوله: «إني أجودُ لأقوامٍ وإن ضَنِنُوا»؛ لأنه الأصل، ونحوِ هذا وشبهه.

وقد يجيء عن العرب شواذُّ لا تُجعل أصولًا، ولا يلزم لها قياس؛ لأن ذلك لو ساغ واستمرَّ لانقلبَت اللغة وانتقضَت الحقائق، وهم إلى الحذفِ فيه أميل، وبالتخفيف أولَع.» ونحن لا نُناقش الأصل والشذوذ؛ فهذه نظرةٌ نظامية قد أثبتَ المنهجُ التاريخي في دراسة اللغات عدمَ صحتها. ومن المعروف الآن أن ما يُعتبر شاذًّا عن القياس — كالمنع من الصرف والمدِّ وأشباهِ ذلك — أصولٌ في اللغة؛ كالصرف والقَصْر، بحيث لا يمكن ردُّ أحدِهما إلى الآخَر. أقول: إننا لا نناقش تلك المسألة اللُّغوية الهامة، وإنما نستخلص من هذه الأقوال جانبًا من منهج الجرجاني؛ هو ردُّ الأشياء إلى قواعدها العامة، وفي هذا ما يُمهد السبيلَ للبلاغة التي لم تلبث أن تكوَّنَت في عدةِ قواعد، كما تكوَّن النحوُ وكما تكوَّن العروضُ من قبلها، وكان في ذلك كارثةٌ على الأدب العربي؛ لما هو معروف من أن للنحو — وقد يكون للعَروض — ما يُبرر صياغتَها في قواعدَ لازمة؛ لتستقيمَ اللغة، وتستقيمَ الأوزان. وأما البلاغة فهذه تتناول مسائلَ تعدو الصحةَ إلى خلقِ الجمال، والجمالُ أدقُّ من أن يخضع إلى قواعدَ جامدة.

ويظهر خطرُ هذا الاتجاه عند الجرجاني في بعض المسائل التي عرَض لها، ولنوضِّح ذلك بما قاله عن استعمال الضمائر بمناسبة النقد الذي وُجِّه إلى قول المتنبي (ص٣٤٠ و٣٤١):

وإني لَمِن قومٍ كأنَّ نفوسَنا
بها أنَفٌ أن تسكُنَ اللحمَ والعَظْمَا

فهو يُناقش هذا البيتَ بقوله: «فقالوا: قطَع الكلام الأولَ قبل استيفاءِ الكلام وإتمام الخبر، وإنما كان يجب أن يقول: كأنَّ نفوسهم؛ لِيَرجع الضميرُ إلى القوم فيتمَّ به الكلام. وهذا من شنيعِ ما وُجد في شعره. وقد اعتذر له بأمورٍ سنذكرها على ما فيها، بمشيئة الله تعالى. زعم بعضُ المحتجِّين عنه أن العرب تحمل الكلامَ على المعنى، فتصرف الضميرَ عن وجهه، وتترك ردَّه مع الحاجة إليه؛ لأن المرادَ بالضمير الثاني هو الأولُ في الحقيقة وإن اختلفَت العلامتان. قالوا: وقد جاء ذلك عن العرب في الأسماء الناقصة التي تتمُّ بصِلاتِها، وهي أحوجُ إلى الضمير الراجع إليها؛ لأنها كالحرف المفرَد، لا يتمُّ إلا بالحروف التي تُضاف إليه. فصِلتُه بما فيه من الضمير كبقية حروف الاسم، فهو أمسُّ حاجةً وأشدُّ افتقارًا إلى ردِّ الضمير إليه، وتكميلِ ذلك النقص به؛ فممَّا جاء في ذلك قولُ المُهلهَل:

وأنا الذي قتَّلتُ بَكْرًا بالقَنا
وترَكتُ تَغلِبَ غيرَ ذاتِ سَنامِ

وإنما وجهُ الكلام: وأنا الذي قتَل. ويكون في قَتَلَ ضميرٌ تقديره: وأنا الذي قتَلَ هو؛ فحمل على المعنى، قالوا: وقد جاء في القرآن العزيز: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا. وليس في الخبر ما يرجع إلى الأول، ولو ردَّ الضمير إلى الأول لقيل: إنا لا نُضيع أجرَهم، ولكنه لما كان مَن أحسنَ عملًا هم المضمَرون الذين في أجرهم، جاز أن ينوب أحدُهما عن الآخر؛ لأن مَن أحسن عملًا هو مَن آمن، ومِثلُ هذا قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ. لما كان معنى المصلِحين معنى الذين يُمسِّكون بالكتاب جاز أن يُقام مقامه، فيعود الذِّكْر إليه في المعنى، فكأنه قال: إنا لا نُضيع أجرهم. وشبيهٌ بهذا قولُ الله تعالى: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ، عدَلَ عن ضميرِ المخاطَب الغائب؛ اعتمادًا على ظهور المعنى. وأنشدوا لعبدِ الله بن قيسِ الرُّقيَّات:

فَتاتانِ أمَّا منهما فشبيهةٌ
هلالًا وأخرى مِنهما تُشبه الشَّمْسَا
فتاتان بالنجمِ السعيد وُلِدتُما
ولم تَلْقيا يومًا هَوانًا ولا نَحسَا

فلم يقل فتاتان وُلِدَتا، وهو حقُّ الكلام، لكنه عدَل إليهما مُخاطبًا، ولم يحفل بتغيير الكنايات والضمائر، فصار قولُه: فتاتان؛ كالمنقطع من الكلام قبل استقلالِه بفائدة، والكلامُ الثاني كالمبتور قبل تمامه، إلا أن يُحمل على ما حملنا عليه بيتَ أبي الطيب. ونحوُ بيتِ ابن قيس الرُّقيات قولُ أبي الطيب:

قومٌ تفرَّسَت المنايا فيكمُ
فرأَتْ لكم في الحربِ صبْرَ كرامِ

كأنَّه قال: أنتم قومٌ هذه حالكم، وقوله:

كريمٌ متى استوهبتَ ما أنت راكبٌ
وقد لَقِحَت حربٌ فإنك باذلُ»
فهذه كلها أمثلةٌ لما يُسمونه اليوم في علم الأساليب «بكسر البناء Rupture de syntaxe»، وهو عبارةٌ عن الخروج على قواعد اللغة التماسًا لجمالِ الأداء وروعتِه، وإنما يُباح هذا لكبار الكتَّاب، بل يُحمَدون من أجله، وهم لا يأتونه عن جهلٍ بالقواعد أو عن غفلةٍ في العبارة، وإنما يقصدون إليه لأغراضٍ لا حصر لها، وإن استطعنا أن نُحسَّها في كل حالةٍ بذاتها … وقد ضرب القرآنُ لذلك أجملَ الأمثلة، ومن بينِها ما أورده الجرجاني، وهي بعدُ لا حصرَ لها في أسلوبِ كِتابنا المعجز. وكان جديرًا بالجرجانيِّ أن يقبل من المتنبي قولَه: «وإني لَمِن قومٍ كأنَّ نفوسَنا»، بل وأن يبحثَ عمَّا في الكسر من جمال، وعمَّا قصَد إليه الشاعرُ من مَرامٍ بخروجه عن القاعدة. ومع ذلك لا يفعل ناقدُنا شيئًا من هذا، بل ويكتفي بالحكم على تلك الظاهرة من ناحية القواعد. وهنا يظهر ما أخذناه على منهجِه من الجُنوح إلى المبادئ العامة والاحتكامِ إليها، سواءٌ أكان ذلك في العَروض، أم في النحو، أم في النقد. الجرجاني رجلُ أصول في كل شيء. وإليك حُكمَه في هذه المشكلة التي أثارها حول الضمائر واستخدامها في كسر البناء:

«وأقول: إن هذه القضية إذا استمرَّت على ظاهرها، واقتُصِر على القدرِ المذكور منها؛ اختلطَت الكناياتُ وتداخلَت الضمائر، ولم ينفصل غائبٌ عن حاضر، ولم يتميَّز مخاطب. وله مواضعُ تختص بالجواز، وأخرى تبعد عنه، وبينهما فصولٌ تدقُّ وتغمض، ولذِكْرها موضعٌ هو أملَكُ بها، وأبياتُ أبي الطيب عندي غيرُ منكَرة في قسم الجواز. وقد بلغ هذا المحتجُّ منه مبلغًا، غير أن أبا الطيب عندي غيرُ معذور بتركِه الأمرَ القوي الصحيح إلى المشكِل الضعيف الواهي لغير ضرورةٍ داعية، ولا حاجةٍ ماسة؛ إذ موقعُ اللفظين من الوزن واحد، ولو قال نفوسهم لأزال الشُّبهة، ودفَع القالة، وأسقط عنه الشَّغب وعناء التعب.»

نعم، إن البيت كان يستقيم لو أنَّ الشاعر قال: «وإني لمن قوم كأنَّ نفوسَهم …» كما يزول ما به من خروجٍ على الضمائر. وفي هذا ما يُرضي الجرجانيَّ ومَن يرى رأيه من التمسُّك باطِّرادِ القواعد. ولكن المتنبيَ غيرُ الجرجاني؛ المتنبي شاعرٌ كبير له طبعُه وروحه، وهو أحرصُ على أن يؤدِّيَ ما في نفسه من أن يحترم القواعد، وهو بعدُ أفطنُ لمصادر الجمال من ناقدِه. المتنبي شاعرٌ، وناقدُه قاضٍ منطقي؛ ولذلك آثَر الشاعر: «وإني لَمن قومٍ كأنَّ نفوسنا»، وكان لهذا الإيثارِ دلالتُه النفسية لنا نحن نُقَّادَ اليوم، فهو يُشعِرُنا بامتلاء الشاعر بنفسِه، وإيثاره للضمير «نا» ضميرِ المتكلم الذي يستحضر قائلَه. الشاعر يَفْخر، وهل أبلَغُ في هذا من الضمير «أنا» و«نحن» و«نا» ويشدُّون أزْرَه، فزاد إحساسُه بشرف الانتماء إليهم، فلم يجد للتعبير عن هذا الإحساس خيرًا من أن يجمع بينهم وبين نفسه في الضمير «نا».

(٣-٦) احتكامُه إلى الذوق

ونخلص من كلِّ ذلك إلى أن الجرجانيَّ رجلُ مبادئ، ولكنا نُسارع فنُقرر أن ذلك لم يمنَعْه من الاحتكام إلى الذَّوق واتخاذِه المرجعَ النهائي لكل نقد، وهو في ذلك يُشبه الآمديَّ أقوى شَبهٍ، بحيث يكون من الظلم أن يظنَّ القارئُ أن هذا الناقدَ العظيم قد أتلف النقد؛ لأننا وجَدْنا في بعض أقواله ما نعتبره تمهيدًا للروح البلاغية؛ روح القواعد والتعليم التي ستظهر في «الصناعتَين». بل إن الجرجانيَّ أقربُ النقاد إلى الروح العربية وعلمِ اللغة العربية. ونحن بعدُ لا نظن أنه كان ذا صلةٍ قوية بالفلسفة اليونانية كما كان الآمدي، الذي رأيناه في بعضِ صفحات «مُوازَنته» يُلخص نظريات اليونان والهند في البلاغة.

الجرجاني عربيُّ الذوق خالِصُه، وإنك لَتقرأ كتابه فلا تكاد تُحسُّ أثرَ الفلسفة في كل ما قال، وهو رجلٌ سليم الفطرة، سديدُ النظر، بصيرٌ بأسرار الشعر، وثَمة في كتابه صفحاتٌ تكاد تَعدِل تلك التي صدَّرْنا بها للكلام على الآمدي، كتبها تمهيدًا للفصل الأخير من «وساطته»، وجعَلها وسيلةً لمناقشة «ما عِيبَ على أبي الطيب من مَعانيه وألفاظه»، ولعل ذلك الفصل مِن خيرِ ما في الكتاب.

قال (ص٣١٠ وما بعدها): «وأنا أعدلُ إلى ذِكر ما رأيتُك تُنكر من معانيه وألفاظِه، وتَعيب من مذاهبه وأغراضه، وتُحيل في ذلك الإنكارِ على حُجةٍ أو شبهة، وتعتمد فيما تَعيبه على بيِّنةٍ أو تهمة؛ إذ كان ما قدَّمتُ حكايتَه عنك، وما عددتَه من مَطاعنك، وأثبتُّه من الأبيات التي استسقطتَها ومِلتَ على هذا الرجل لأجلها، من بابِ ما يُمتحَن بالطبع لا بالفكر، ومن القِسم الذي لا حظَّ فيه لمحاجَّة، ولا طريقَ له إلى المحاكمة، وإنما أقصى ما عند عائبه، وأكثرُ ما يمكن مُعارِضَه أن يقول: فيه جَهامةٌ سلبَته القَبول، وكزازةٌ نفَّرَت عنه النفوس، وهو خالٍ من بهاء الرونق، وحلاوة المنظر، وعُذوبة المَسْمع، ودَماثة النثر، ورَشاقة العرض، قد حمل التعسُّف على ديباجته، واحتكم التعمُّل في طلاوته، وخالف التكلُّف بين أطرافه، وظهرَت فجاجةُ التصنُّع في أعطافه، واستهلك التعقيد معناه، وقيَّد التعويص مُراده. وهذا أمرٌ تستخبره النفوسُ المهذَّبة، وتستشهد عليه الأذهانُ المثقَّفة. وإنما الكلام أصواتٌ محلُّها من الأسماع محلُّ النواظر من الأبصار، وأنت قد ترى الصورةَ تستكمل شرائطَ الحسن، وتستوفي أوصافَ الكمال، وتقف من التمام بكلِّ طريق، ثم تجدُ أخرى دونها في انتظام المحاسن، والتئامِ الخلقة، وتناسُب الأجزاء، وتقابُل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القَبول، وأعلقُ بالنفس، وأسرعُ ممازجةً للقلب، ثم لا تعلم — إن قايستَ واعتبرت، ونظرتَ وفكَّرت — لهذه المزيَّةِ سببًا، ولِما خصصتَ به مُقتضِيًا، ولو قيل لك: كيف صارت هذه الصورةُ وهي مقصرةٌ عن الأولى في الإحكام والصنعة، وفي الترتيب والصِّبغة، فيما يَجمع أوصافَ الكمال، وينتظم أسبابَ الاختيار؛ أحلى وأرشقَ وأحظى وأوقَع، لأقمتَ السائلَ مقام المتعنِّت المتجانف، وردَدتَه ردَّ المستبهِم الجاهل، ولكن أقصى ما في وُسعك، وغاية ما عندك أن تقول: موقعُه في القلب ألطف، وهو بالطبع أليق. ولم تعدم مع هذه الحال مُعارضًا يقول لك: فما عبتَ من هذه الأخرى؟ وأيُّ وجه عدَلَ بك عنها؟ ألم يجتمع لها كيتَ وكيت، وتكامَل فيها ذيه وذيه؟ وهل للطاعن إليها طريق؟ وهل فيها لغامزٍ مَغمز؟ يُحاجُّك بظاهرٍ تُحسُّه النواظر وأنت تُحيله على باطنٍ تُحصله الضمائر. كذلك الكلام منثورُه ومنظومه، ومُجمله ومفصَّله؛ تجد لفؤادك عنه نَبْوة، وترى بينه وبين ضميرِك فجوة، فإن خلَص إليهما فبأنْ قد هُذِّب كلَّ التهذيب، وثُقِّف غايةَ التثقيف، وجهد فيه الفكر، وأُتعِب لأجله الخاطر، حتى احتمى ببراءته عن المعايب، واحتجَز بصحته عن المطاعن، ثم تجد لفؤادك عنه نبوة، وترى بينه وبين ضميرك فجوة، فإن خلص إليهما فبأنْ يسهل ببعض الوسائل إذنه، ويمهد عندهما حاله، فأمَّا بنفسه وجوهره وبمكانه وموقعِه فلا. هذا قولي فيما صُفِّي وخُلِّص، وهُذِّب ونُقِّح، فلم يوجد في معناه خلل، ولا في لفظِه دخَل.

فأما المختلُّ أو الفاسد المضطرب، فله وجهان؛ أحدهما: ظاهرٌ، يشترك في معرفته، ويقلُّ التفاضل في علمه، وهو ما كان اختلالُه وفساده في باب اللحن والخطأ من ناحية الإعراب واللغة. وأظهر من هذا ما عرَض له ذلك من قِبَل الوزنِ والذَّوق؛ فإن العاميَّ قد يُميز بذوقِه الأعاويصَ والأضرُب، ويُفضل بطبعه بين الأجناس والأبحُر، ويظهر له الانكسارُ البيِّن والزحافُ السائغ. والآخرُ غامضٌ يوصَل إلى بعضه بالرِّواية، ويوقَف على بعضه بالدُّربة، ويحتاج في كثيرٍ منه إلى دقةِ الفطنة، وصفاء القريحة، ولطفِ الفكر، وبُعد الغَوص. ومِلاكُ ذلك كلِّه، وتمامُه الجامع له، والزمام عليه: صحةُ الطبع وإدمانُ الرياضة؛ فإنهما أمران ما اجتمعا في شخصٍ فقَصُر في إيصالِ صاحبهما عن غايته، ورضيا له بدون نهايته.

وأقلُّ الناس حظًّا في هذه الصناعة مَن اقتصر في اختياره ونفيه، وفي استجادتِه واستسقاطِه، على سلامة الوزن، وإقامة الإعراب، وأداءِ اللغة، ثم كان همُّه وبُغيته أن يجد لفظًا مُروَّقًا، وكلامًا مزوقًا، قد حُشي تجنيسًا وترصيعًا، وشُحن مطابقةً وبديعًا، أو معنًى غامضًا قد تعمَّق فيه مُستخرِجُه، وتغلغَل إليه مستنبطُه، ثم لا يعبأ باختلاف الترتيب، واضطراب النظم، وسوءِ التأليف، وهلهلةِ النسج، ولا يُقابل بين الألفاظ ومعانيها، ولا يسبر ما بينها من نسَب، ولا يمتحن ما يجتمعان فيه من سبب، ولا يرى اللفظ إلا ما أدَّى المعنى، ولا الكلامَ إلا ما صوَّر له الغرض، ولا الحسَن إلا ما أفاده البديع، ولا الرونق إلا ما كساه التصنيع. وقد حمَلني حبُّ الإفصاح عن هذا المعنى على تكرير القول فيه، وإعادةِ الذكر له، ولو احتمل مقدارُ هذه الرسالة استقصاءه، واتسَع حجمُها للاستيفاء له؛ لاسترسلتُ فيه، ولأشرفت بك على معظمه.»

وفي هذا النص العميق مفارقاتٌ توضح حقيقةَ النقد وأسُسَه؛ فلا بد من الوقوف عنده وتحليله، والنظرِ فيه عن قُرب.

يُفرق الناقد بين أشياء: فهناك المختلُّ والفاسد والمضطرب. وهذا له وجهان:
  • (١)

    ظاهرٌ يعرفه جميع الناس.

  • (٢)

    خفيٌّ لا يُدرَك إلا بالطبع والدُّربة.

وهناك في مقابلة ذلك:
  • (١)

    الشعر السليمُ اللغةِ والإعرابِ والوزن.

  • (٢)

    ما حُشي تجنيسًا وترصيعًا، وشُحن مطابقة وبديعًا، ومعانيَ غامضة. وهو الشعر المصنوع.

  • (٣)

    ما حَسُن تأليفه، وراق نظمُه، وقَوِي نسجه، وقابلت ألفاظُه معانيَه في بهاءِ رونق، وحلاوةِ منظر، وعذوبةِ مَسمع، ودماثةِ نثر، ورشاقة مَعرِض. وهو الشعر المطبوع.

فأما الظاهر الفسادِ فأمره هيِّن، وما كان اختلاله من باب اللحن والخطأ من ناحية الإعراب واللغة والوزن، فإن العاميَّ يستطيع أن يُدرك موضع الفساد فيه، ويدلَّ على مصدر الاختلال. وهذا لا مجال للنقد فيه؛ لأنه مجالُ المعرفة باللغة والعَروض وقوانينِهما. في حينِ أن الخفيَّ الغامض لا يوصَل إليه إلا بالرواية والدُّربة، واستخراجُه يحتاج إلى دقة الفطنة، وصفاءِ القريحة، ولطفِ الفكر، وبُعد الغَوص. ومِلَاكُ ذلك كلِّه صحة الطبع وإدمانُ الرياضة. ولقد سبق أن رأينا الجمحيَّ يُقرر أن للشعر صناعةً كسائر العلوم والصناعات، وكذلك فعل الآمدي عندما قرَّر أن للنقد رجالهَ، وأنه «ليس في وُسع كلِّ واحد أن يجعلك أيها السائل المتعنِّت، والمسترشدُ المتعلم في العلم بصناعته كنفسه، ولا يجد إلى قذف ذلك في نفسه سبيلًا.» وجاء الصاحب فروى أنه لا يستطيع نقد الشعر إلا مَن دُفع في مَضايقِه، وهؤلاء هم الشعراء والأدباء، وأما العلماء واللُّغويون فإنهم يدركون الخطأَ والصواب والصحيحَ والمعتل، وأما البصرُ بمواضع القبح والجمال، وأما تخطِّي استقامة الكلام إلى نقدِ جودته؛ فذلك ليس مِن عملهم. فهذه إذن فكرةٌ أساسية في النقد العربي كلِّه.

وأما عن الشعر الذي لا خطأ فيه، فالجرجانيُّ يرى مُحقًّا أنه ليس من الشعر أو الأدب ذلك النظمُ أو الكلام الذي يقتصر فيه اللفظُ على أداء المعنى وتصوير الغرض. وهذا رأيٌ مفروغ منه اليوم؛ فالأدب فنٌّ جميل، مادته الأوَّلية هي اللغة التي لا تُعتبر بالنسبة إليه وسيلة، كما هو الحال في حياتنا العادية، أو في التعبير عن آرائنا العلمية أو الفلسفية. والذي لم يزل فيه أنه إذا فُقد جمال الأسلوب في الأدب، لم يستطع شيءٌ أن يُعوضه؛ فالإحساس والفكر والخيال لا تستطيع أن تخلق أدبًا حتى تُصاغ صياغةً فنية. والصياغة الفنية غيرُ اللفظية في الأدب، كما أنها غيرُ التكلُّفِ الممقوت. ومَردُّ ذلك كلِّه إلى إحساس الشاعر الفني؛ إذ لا قواعدَ لذلك. وهنا تصدق كلمةُ الموصلي، كما رواها الآمديُّ في الموازنة: «إنَّ من الأشياء أشياءَ تُحيط بها المعرفةُ ولا تؤدِّيها الصفة.» وإذا لم يكن بدٌّ من تحديدٍ عامٍّ للصياغة الفنية التي تُغاير اللفظية، قلنا: إنها تلك التي تستجيب لها النفوس؛ لأنها تُحرك فيها انفعالاتٍ فنيةً أو عاطفية.

والجرجانيُّ بعد ذلك يُفرق بين نوعَين من الجمال في الشعر والأدب؛ أحدهما ظاهرٌ شكلي تخطيطيٌّ سقيم، وهو يَصدُر عن البديع بما فيه من تجنيسٍ وترصيع ومطابقة. وهذا هو — لسوء الحظ — ما غلَب على الشعر العربي المتأخر، منذ أن أُعجب به المُحدَثون في الخصومة التي رأيناها فيما مضى، وهو ما توفَّرَت على دراسته البلاغةُ العربية في معظم أجزائها، فأفسدَت الذَّوق، وردَّت الجمال إلى أوجهٍ بديعية سقيمة. ويا ليتَهم استطاعوا أن يُدركوا ما في بعض تلك الأوجُه من عِلَل، أو ما تحمل من مَعانٍ نفسية؛ ليدلُّوا على الدور الذي تلعبه في الخلق الفني من حيث إنها تربطُ بين الإنسان والأشياء، فتوسِّع من آفاقه، وتُعمق من حياته. وكلُّ همِّهم كان — لسوء الحظ — في التقسيم والتبويب والتخريج، حتى أصبح طالبُ البلاغة يَقْنع بأن يقعَ على اسم الوجه الذي يَعرِض له ويُحلله أو «يُجْريه»، كما يقولون. والناظر في هذا النوع من الشعر لا يستطيع إلا أن يُقِرَّ الجرجانيَّ، والآمديَّ من قبله، على النفور منه، وقد غلبَت عليه الصنعة حتى ضعفَت قيمته الإنسانية الفنية.

وأعمقُ من ذلك في الشاعرية، وأصدقُ وألصق بالقلوب؛ الشعرُ الذي «تُحصِّل جمالَه الصدورُ ولا تُحسُّه النواظر»، ذلك «الذي تُحيط به المعرفةُ ولا تؤديه الصفة.» وإدراك روعةِ مثلِ هذا الشعر هو مجالُ الناقد الممتاز من أمثال الآمديِّ والجرجاني، اللذَين لم يطْغَ فسادُ ذوقِ الكثير من معاصريهم على طبعهم السليم، وذوقهم الصادق، وإن لم يستطيعوا أن يُعلِّلوا إعجابَهم بغير الألفاظ العامة؛ «كبهاء الرونق، وحلاوة المنظر، وعذوبة المسمَع، وكثرة الماء»، أو «الوصول إلى القلب» وما شاكلَ ذلك. وها هو الجرجانيُّ يُشبه الشعر بالصور، ويرى أنَّ منها ما يجتمع له «انتظامُ المحاسن، والتئام الخِلقة، وتقابل الأقسام»، ومع ذلك لا تروق النظرَ ولا تُحرك النفس، بينما تستطيع ذلك صورةٌ أخرى، على قلةِ ما توفَّر لها من إتقانِ الصناعة ومسايرة الأصول الفنية.

وهنا تلوح لنا أسرارٌ، ما أظن أننا سنهتدي يومًا إلى استجلائها كاملة، وإن اهتدينا أحيانًا كثيرةً إلى الكشف عن بعض جوانبها عندما نَعرِض لبيتِ شعر بعينه أو قصيدةٍ بذاتها. والصعوبة بل الاستحالة إنما تأتي عندما نريد التعميم مع اختلافِ نفوس الشعراء ومَناحيهم وطرق احتيالهم في هزِّنا، وإيقاظ الحاسَّة الفنية فينا. وأسلمُ المناهج في ذلك هو ما سبَق أنْ قرَّرناه من وضع المشاكل باستمرار، والدُّربة على وضعها ثم حلِّها. والنقدُ الصحيح ليس إلا هذا، وأما التعميمات وأما مبادئ علم الجمال وعلم النفس وغيرها، فهذه أشياءُ قد تفتح آفاقًا للتفكير، ولكنها لن تستطيعَ أن تُبصِّرنا بجمالٍ موضعي نطمح إلى إدراكه في هذا البيت أو ذلك.

والآن نستطيع أن نفهم كيف أن الجرجانيَّ وإن اعتمد على التفكير والمبادئ، فإنه لم يُغفِل الذوق، بل اتخذه المرجعَ النهائي في كل نقدٍ يطمح إلى إدراكِ مواضع القبح أو الجمال الخفيَّة البعيدة. وهو بذلك يُظهِرنا على الناحية الأدبية التي اجتمعَت في نفسه مع الناحية العقلية الصِّرفة. وهاتان الناحيتان سنجدهما في «وَساطته» بين المتنبِّي وخصومِه، التي نستطيع الآن — وقد فرَغْنا من تحليل روحه ومنهجه وأسلوبه بوجهٍ عام — أن نأخذ فيها.

(٤) كتاب الوساطة

(٤-١) أقسامه

ونحن نستطيع أن نقسم كتاب الجرجاني إلى ثلاثة أقسام:
  • (١)

    القسم الأول (من ١ إلى ٤٩ في طبعة صبيح)، وهو بمثابةِ مقدمةٍ يوضح فيها المؤلفُ منهجه العام في النقد؛ تمهيدًا للدفاع عن المتنبي، فيعرض لأخطاء الجاهليِّين حتى يلتمسَ لشاعره العذر فيما أخطأ فيه، ثم يتناول مشكلة تفاوت شعرِ الشعراء تبعًا لأزمنتهم وبيئتهم وموضوعِ شعرهم، بل وتفاوُتِ شعر الشاعر الواحد واختلافه رداءةً وجودة، كما نرى عند أبي تمام. وهنا يستعرض تاريخَ الشعر العربي وانتهاءه إلى البديع، وأوجُه البديع التي يُفضلها بعد أن أظهَر تفضيله للشعر المطبوع: شعر البحتري وجرير وذي الرمة وغزليي الحجاز.

  • (٢)

    القسم الثاني (من ٤٩ إلى ٣١٠، صبيح). وهنا لا نرى وساطةً بين المتنبي وخصومه، بل دفاعًا عن الشاعر. ومنهجُ الناقد المدافع هنا هو ما فصَّلناه في أول هذا الفصل، منهج مَن يقيس الأشباهَ والنظائر، فإن كان المتنبي قد أخطأ أو أحال أو سرَق، فقد فعل ذلك غيرُه، كما أنَّ له إلى جانب ذلك الشعرَ الجيد المطبوع الأصيل.

  • (٣)

    القسم الثالث (من ٣١٠ إلى ٣٦٥، صبيح)، وهذا هو القسم الذي تصدقُ تسميته بالوساطة؛ وذلك لأن الناقد يتناول فيه ما عِيبَ على أبي الطيب في شعره، وما أخذه عليه العلماءُ من مَآخذ، يُناقشه ويُحلله ويُفصل القولَ فيه. وهذا هو الجزء الذي نجد فيه النقدَ الموضعي الدقيق، وربما كان خيرَ ما في الكتاب.

فأما المقدمة فقد سبَق أن استعرضنا ما فيها؛ إذ كان جلُّ اعتمادِنا عليها في تعليلِ منهج الجرجاني؛ ولذلك لا نعود إليها، وإنما نتناول الآن القسمَين الآخرين الخاصَّين بالمتنبي.

(٥) دفاع الجرجاني عن المتنبي

(٥-١) منهجه في الدفاع

يبدأ المؤلفُ دفاعَه بأن يُحدد الخصوم ويقسمهم قسمين: أولئك الذين لا يرَون فضلًا إلا للمتقدمين؛ جاهليِّين وأُمويِّين. وهؤلاء إذ يرفضون الشعرَ الحديث، كان من الطبيعيِّ أن يَجرحوا المتنبيَ، ويُهجنوا شعره؛ لأنه لاحقٌ بالمحدَثين. ثم أولئك الذين يُسلمون بفضلِ أبي تمام وحزبه، ومع ذلك يُهاجمون المتنبي، وهؤلاء قومٌ مغرِضون أفسد الهوى أحكامَهم، وأتلف الحسدُ نظراتهم.

والمؤلف يرى أن المتعصِّبين للقديم يُسرفون في ذمِّ المحدَثين، ويظلمونهم عندما يرفضون شعرهم بجملته، مع أن هؤلاء المحدَثين أجدرُ بأن يترفَّق في الحكم عليهم، «ولو أنصَف أصحابنا هؤلاء لَوجدوا يسيرهم أحقَّ بالاستكثار، وصغيرَهم أولى بالإكبار؛ لأن أحدَهم يقف محصورًا بين لفظٍ ضُيِّق مجاله، وحُذِف أكثره، وقلَّ عدده، وحظر معظمه، ومعانٍ قد أُخذ عفوُها، وسُبق إلى جيِّدها، فأفكاره تنبثُّ في كل وجه، وخواطره تستفتح كلَّ باب. فإن وافق بعضَ ما قيل أو احتاز منه بأبعدِ طَرْف، قيل: سرق بيتَ فلان وأغارَ على قولِ فلان. ولعل ذلك البيتَ لم يَقْرع قط سمعَه ولا مرَّ بخلَدِه؛ كأنَّ التوارُد عندهم ممتنع، واتفاقَ الهواجس غيرُ ممكن، وإن افترَع معنًى بكرًا، أو افتتح طريقًا مُبهمًا، لم يرضَ منه إلا بأعذبِ لفظ، وأقربِه من القلب، وألذِّه في السمع. فإنْ دعاه حبُّ الإغراب وشهوةُ التنوُّق إلى تزيينِ شعره، وتحسين كلامه، فوشَّحه بشيءٍ من البديع، وحلَّاه ببعض الاستعارة؛ قيل: هذا ظاهر التكلُّف، بيِّن التعسف، ناشفُ الماء، قليلُ الرَّونق، وإن قال ما سمَح به الهاجس، قيل: لفظٌ فارغ، وكلامٌ غسيل. فإحسانه يُتأوَّل، وعُيوبه تُتمَحَّل، وزَلتُه تتضاعف، وعذرُه يُكذَّب.» وهذه الطائفة لا يريد الناقدُ أن يَشغل بها نفسَه ما دام ينظر بين المتنبي وأهل عصره، ولا يوازن بينه وبين القدماء.

«وإنما خَصمُك الألدُّ ومُخالفك المعاند الذي صمَدتَ لمحاكمته، وابتدأتَ بمنازعته ومُحاجَّته، ومَن استحسن رأيك في إنصافِ شاعر ثم ألزمك الحيفَ على غيره، وساعَد على تقديمِ رجلٍ ثم كلَّفك تأخيرَ مثله؛ فهو يُسابقك إلى مدحِ أبي تمام والبحتري، ويُسوِّغ لك تقريظَ ابنِ المعتز وابن الرومي، حتى إذا ذكرتَ أبا الطيب ببعضِ فضائله، وأسمَيتَه في عِداد من يَقصُر عن رتبته، امتعَض امتعاضَ الموتور، ونَفِر نِفارَ المضيم، فغضَّ طرْفَه، وثَنى عِطفَه، وصعَّر خدَّه، وأخذَتْه العزة بالإثم، وكأنما زوَّى بين عينَيه عليك المحاجم» (ص٥٢ و٥٣).

وهذه هي الطائفة التي يُحاجُّها الجرجانيُّ بنوعٍ خاص؛ إذ لا يرى وجهًا لمن يعجب بالمحدَثين ثم يحمل على المتنبي، ومع أننا لا نستطيع أن نحكم على المتنبي إلا بأحدِ أمرين: «فإما أن ندَّعيَ له الصنعة المحضة فنُلحِقَه بأبي تمام ونجعلَه من حزبه، أو ندَّعيَ له فيه شركًا، وفي الطبع حظًّا، فإنْ مِلْنا به نحوَ الصنعة فضْلَ مَيلٍ صيَّرناه في جهةِ مسلم، وإن وفَرْنا قِسطَه من الطبع عدَلْنا به قليلًا نحو البحتري.» والرأي عند الجرجاني «أننا إذا توخينا العدل، وآثرنا الإنصاف؛ قسَمْنا شعره فجعلناه في الصدر الأول تابعًا لأبي تمام، وفيما بعده واسطةً بينه وبين مسلم.» ففيمَ يتحاملُ إذن أنصارُ الحديث على المتنبي، مع أن شعره من نوع الشعر الذي يروقهم، بل من أجوده؟

يحاجُّ الجرجانيُّ هؤلاء الخصومَ فيقول: «وأُقبل عليك أيها الراوي المتعنِّت فأقول لك: خبِّرني عمَّن تُعظمه من أوائل الشعراء، ومَن تفتتح به طبقات المحْدَثين، هل خلَصَ شعرُ أحدهم من شائبة، وصفا من كدرٍ ومَعابة؟ فإن ادَّعيتَ ذلك وجدتَ العِيَان في حَجيجك، والمشاهدةَ في خَصمِك، وعُدنا بك إلى أضعافِ ما صدَّرنا به مُخاطبتَك، واستعرضنا الدواوينَ فأريناك فيها ما يَحول بينك وبين دَعْواك، ويحجزك إن كان بك أدنى مُسكةٍ عن قولك، فإن قلت: قد أعثرُ بالبيت بعد البيت أُنكره، وأجدُ اللفظَ بعد اللفظ لا أستحسنُه، وليس كلُّ معانيهم عندي مرضيَّة، ولا جميعُ مقاصدهم صحيحة مستقيمة، قلنا لك: فأبو الطيب واحدٌ من الجملة، فكيف خُصَّ بالظلم من بينها، ورجل من الجماعة، فلِمَ أُفرد بالحيف دونها؟ فإن قلتَ: كثر زَلَلُـهُ، وقلَّ إحسانه، واتَّسعَت معايبه، وضاقت مَحاسنه، قلنا لك: هذا ديوانُه حاضرًا، وشعرُه موجودًا ممكنًا، هل نستبرئه ونتصفَّحه، ثم لك بكل سيئةٍ عشرُ حسنات، وبكل نقيصة عشرُ فضائل؟ فإذا أكمَلْنا لك ذلك واستوفيتَه، وقادك الاضطرارُ إلى القَبول أو البَهْت، ووقفت بين التسليم والعناد؛ عُدنا بك إلى بقيةِ شعره فحاجَجْناك به، وإلى ما فضَل بعد المقاصَّة فحاكمناك إليه.

وقد نجد كثيرًا من أصحابك ينتحلُ تفضيلَ ابن الرومي، ويغلو في تقديمه. ونحن نستقرئ القصيدةَ من شعره، وهي تُناهز المائة أو تُرْبي أو تُضعِف؛ فلا نعثر فيها إلا بالبيت الذي يروق أو البيتَين، ثم قد تنسلخ قصائدُ منه وهي واقفةٌ تحت ظلها، جاريةٌ على رَسْلِها، لا يحصل منها السامعُ إلا على عددِ القوافي وانتظار الفراغ. وأنت لا تجد لأبي الطيب قصيدةً تخلو من أبياتٍ تُختار، ومعانٍ تُستفاد، وألفاظٍ تروق وتَعذُب، وإبداعٍ يدلُّ على الفطنة والذكاء، وتصرُّفٍ لا يصدر إلا عن غزارةٍ واقتدار.

ولو تأمَّلتَ شعر أبي نُواس حقَّ التأمل ثم وازنتَ بين انحطاطه وارتفاعه، وعددتَ مَنفيَّه ومختارَه؛ لعظمتَ من قدرِ صاحبنا ما صغَّرتَ، ولأكْبَرتَ من شأنه ما استحقَرت، ولعلمتَ أنك لا ترى لقديمٍ ولا لمحدَثٍ شعرًا أعمَّ اختلالًا، وأقبحَ تفاوتًا، وأبينَ اضطرابًا، وأكثرَ سفسفةً، وأشدَّ سقوطًا من شعره. وهذا هو الشيخ المقدَّم والإمام المفضَّل الذي شهد له خلفٌ وأبو عُبيدةَ والأصمعي، وفسَّر ديوانَه ابنُ السِّكِّيت، فهل طمَسَت معايبُه محاسنَه؟ وهل نقَص رَديُّه من قدرِ جيِّده؟» وهذا منهج الدفاع لا النقد، منهجُ «قياس الأشباه والنظائر»؛ فالجرجانيُّ لا يُميز للمتنبي خصائصَ ولا يردُّ هجمات، وإنما يُسلِّم بما عِيب عليه، ثم يلتمس لذلك العذرَ بأن يدعُوَنا إلى المقاصَّة بين جيدِه ورديئه، ثم إلى قياسِه بغيره من الشعراء، ولِكُلِّهم الجيدُ والرديء، بل منهم مَن يغلب رديئُه جيدَه؛ كابن الرُّومي وأبي نُواس.

وهنا نُحس أن الجرجانيَّ لم يكن يُدرك ما في شعر هذين الشاعرَين من جمال، ولا غرابةَ في ذلك؛ فالجرجانيُّ رجلُ أخلاق، رجلُ مبادئ، وذوقُه أقربُ إلى الذَّوق العربي الكلاسيكي منه إلى الذَّوق الذي يستطيع أن يُعجَب بهذين الشاعرين، اللذين ينفردان بين الشعراء العرب بنزعتهما الفنيَّة الخالصة.

(٥-٢) تطبيق المنهج

هذا هو منهج الناقد في الدفاع عن أبي الطيب، وبقية هذا القسم الذي يَشغل الجزء الأكبر من كتابه ليس إلا تنميةً له، وهو يتبع في ذلك سَيْر التاريخ؛ فيبدأ بأبي نُواس، يورِدُ ما يراه جميلًا في شعره، ثم يُعقبه بالسخيف منه والخطأ، سواءٌ من ناحية اللغة أو ناحية الأوزان، حتى يصلَ إلى فساد عقيدته في الشرع، فيستشهدَ لذلك بأبياتٍ واضحةِ الدلالة على الكفر؛ كقوله (ينسبها البعضُ إلى ديك الجن):

أأتركُ لذَّةَ الصهباءِ نقدًا
لِما وعَدوه من لبَنٍ وخمرِ؟
حياةٌ ثم موت ثم بعثٌ
حديثُ خُرافةٍ يا أمَّ عمرِو

وقوله:

فدَعِ المَلام فقد أطعتُ غِوايتي
ونبَذتُ موعظتي وراءَ جِداري
ورأيتُ إيثارَ اللَّذاذة والهوى
وتمتعًا من طِيب هذي الدارِ
أحرى وأحزمَ مِن تَنظُّرِ آجِلٍ
ظنِّي به رجْمٌ من الأخبارِ
إني بعاجلِ ما ترَين مُوكَّلٌ
وسواه إرجافٌ من الآثارِ
ما جاءنا أحدٌ يُخبِّر أنهُ
في جنةٍ مُذْ مات أو في نارِ

وقوله بالدهرية:

يا عاذلي في الدَّهر ذا هُجْرُ
لا قدَرٌ صحَّ ولا جَبْرُ
ما صحَّ عندي مِن جميع الذي
يُذكَر إلا الموتُ والقبرُ
فاشرَبْ على الدهرِ وأيامهِ
فإنما يُهلِكُنا الدهرُ

وهذه أشعارٌ يحقُّ للجرجاني أن يعجب معها ممَّن ينتقص أبا الطيب، ويغضُّ من شعره؛ لأبياتٍ وجدناها تدلُّ على ضعفِ العقيدة وفسادِ المذهب في الديانة؛ كقوله:

يتَرشَّفْن مِن فمي رشَفاتٍ
هنَّ فيهِ أحلى من التوحيدِ

وقولِه:

وأبهرُ آياتِ التهاميِّ أنهُ
أبوك وإحدى ما لكم مِن مَناقبِ

والجرجانيُّ يرى كما رأى الصولي من قبلُ أنه «لو كانت الديانةُ عارًا على الشعر، وكان سوءُ الاعتقاد سببًا لتأخُّر الشاعر؛ لوجَب أن يُمحى اسمُ أبي نواس من الدواوين، ويُحذَف ذِكره إذا عُدَّت الطبقات، ولكان أَوْلاهم بذلك أهلَ الجاهلية ومن تشهدُ الأمةُ عليه بالكفر، ولَوجب أن يكون كعبُ بن زهير وابنُ الزِّبَعْرى وأضرابُهما ممن تناول رسولَ الله وعاب من أصحابه بُكمًا خرسًا، وبِكاءً مفحَمين، ولكنَّ الأمرَين متباينان، والدِّين بمعزلٍ عن الشعر» (ص٦٢). وهذا قولٌ يدهشنا من قاضي القضاة الشافعيِّ الراسخِ القدَمِ في الإسلام، وها نحن اليوم قد لا يستطيع أحدُنا أن يجهر برأيٍ كهذا.

وإذن فما عيب على المتنبي من تفاوتِ شعره ومن فسادِ عقيدته له نظائرُه عند أبي نُواس. ويستمرُّ الناقد في قياس الأشباه والنظائر، فيترك أبا نواس ليتحدثَ عن أبي تمام، مفتتِحًا حديثه بقوله: «ولو لزمت هذا المثال (مثالَ شعر أبي نُواس وما فيه من تفاوُت) لَتظاهرَت عليك الحُجَج، وكثرَت عندك الشواهد، فقَوِيَ في نفسك رأيي واعتقادي، وتصوُّر صِدقي وإصابتي.» ويأخذ في إيراد الجيدِ من شعر أبي تمامٍ ثم السخيفِ قائلًا: إنه لا تكاد تسلمُ قصيدةٌ من شعره من أبياتٍ ضعيفة وأخرى غثَّة، ولا سيما إذا طلب البديعَ وتتبَّعَ العويص. وبالنظر في الأمثلة التي يوردها نجد أنه قد أخذ عن الآمديِّ الكثيرَ منها وإن لم يذكر ذلك، بل قد نراه يردُّ على صاحب الموازنة في تفسيرٍ لمعنى «الأيِّم» التي وردَت في بيت أبي تمام:

حلَّت محلَّ البكرِ من مُعطًى وقد
زُفَّت من المعطي زفافَ الأيِّمِ

وذلك لأن الآمديَّ قد جمع بين الشافعيِّ وأبي تمام في نقدِه للمقابلة بين البِكر والأيِّم (قارن بين الموازنة ص٦٨، والوساطة ص٧٤ وما بعدها)، وهو يردُّ دون أن يورِدَ اسمَ الآمدي، وإنما يصفُه «ببعضِ مَن اعترض على أبي تمام»، وهذا يقطع بأن الجرجانيَّ قد اعتمد على الموازنة في نقدِه لأبي تمام.

ومع ذلك فقد يتَّفق للجرجانيِّ أن ينقد بعضَ أبيات أبي تمام وَفقًا لمنهجه هو؛ المنهج العقلي الذي يخالف منهجَ الآمدي الفني الخالص، وذلك عندما يوردُ مثلًا قولَ الطائي:

ورُحْبَ صدرٍ لوَ انَّ الأرض واسعةٌ
كوُسْعِه لم يَضِقْ عن أهلهِ بلَدُ

إذ ينقد هذا البيتَ بقوله: «وهذا المعنى فاسد؛ لأنه جعل البلادَ إنما تضيق بأهلها لضيق الأرض، وأنها لو اتسعَت اتساعَ صدره لم تَضِق البلاد. ونحن نعلم أن البلاد لم تُخطَّط في الأصل على قدرِ سَعة الأرض وضيقها، وأن الأرض تتَّسعُ لبلاد كثيرة، ولاتِّساع ما فيها من المدن أيضًا وهي على حالها، وإنما تؤسَّس وتمتدُّ على قدرِ الحاجة إليها، فإذا استمر الزمان وكثرت العمارة، وظهر فيها ما يستدعي الناسَ إليها ضاقت، فإنْ جاوَرتها فُسَح وعِراصٌ وَسِعَت، وإلا احتمل بها بعض الضيق، فلو اتسعَت الأرض حتى امتدَّت إلى غيرِ نهاية وأمكنَ ذلك؛ لم تزد البلادُ التي تنشأ فيها على مقاديرها.» وهذا كما ترى نقدٌ منطقي لا علاقة له بحقائقِ الشعر.

وأيًّا ما يكُن الأمر، وسواءٌ أكان نقدُ الجرجاني لأبي تمام نقدًا أصيلًا أم مأخوذًا عن الغير، وسواءٌ أكان موفقًا دائمًا أم لم يكن؛ فإن صاحب الوساطة قد بسَط القولَ فيه، وهو ينصُّ بصريح العبارة على أنه لم ينقده لنفسه، بل تمهيدًا للدفاع عن المتنبي، كما يُعلل اختيارَه لأبي نواس وأبي تمام بأن أحدهما سيدُ المطبوعين، والآخَر إمامُ أهل الصنعة. وإذا كان شعرهما لا يخلو من سقط، وسقطٍ كثير، فكيف يُلام المتنبي لما جاء في بعضِ شعره من عيوب؟!

يقول الجرجانيُّ (ص٧٦) بعد أن فرَغ من نقده لشعر أبي تمامٍ جيدِه ورديئه: «ثم أعود إلى نسَق الكتاب وأكتفي بما قدَّمتُه من هفواتِ أبي تمام، وإن كان ما أغفلتُه أضعافَ ما أثبتُّه؛ إذ البُغْية فيه الاعتذارُ لأبي الطيب، لا النعيُ على أبي تمام، وإنما خصَصتُ أبا نُواس وأبا تمام لأجمعَ لك بين سيدِ المطبوعين وإمام أهلِ الصنعة، وأُرِيَك أن فضلهما لم يَحْمِهما مِن زَلل، وإحسانهما لم يصْفُ مِن كدر، فإن أنصفتَ فلك فيها عبرةٌ ومَقْنَع، وإن لجَجْتَ فما تُغني الآياتُ والنذُر عن قومٍ لا يؤمنون. وقد رأيتُك وفقك الله لما احتفلتَ وتعلمت، وجمعتَ أعوانك واحتشدت، وتصفَّحت هذا الديوانَ حرفًا حرفًا، واستعرضته بيتًا بيتًا، وقلَّبتَه ظهرًا وبطنًا؛ لم تَزِد على أحرفٍ تلقَّفتَها وألفاظٍ تمَحَّلتَها، ادَّعيتَ في بعضها الغلَط واللحن، وفي أخرى الاختلالَ والإحالة، ووصفتَ بعضها بالتعسُّف والغثاثة، وبعضَها بالضعف والركاكة، وبعضَها بالتعدي في الاستعارة. ثم تعدَّيتَ بهذه السمعة إلى جملةِ شعره، فأسقطتَ القصيدةَ من أجل البيت، ونفيتَ الديوان لأجل القصيدة، وعجلتَ بالحكم قبل استيفاء الحجَّة، وأبرمتَ القضاء قبل امتحان الشهادة.» وهنا يأخذ الناقد في إيراد الأبيات التي عِيبَت على أبي الطيب دون أن يُبين ما عيب فيها أو أُخذ عليها، حتى إذا انتهى من سردها أجملَ ما وُجِّه إليه من نقدٍ بقوله (ص٨٢): «وقلت: قد جمَع في هذه الأبيات وفي غيرها مما احتذى به حَذْوَها بين البرد والغثاثةِ والوخامة، فأبعدَ الاستعارة، وعوَّصَ اللفظ، وعقَّدَ الكلام، وأساءَ الترتيب، وبالغَ في التكلف، وزاد على التعمُّق، حتى خرَج إلى السُّخف في بعض، وإلى الإحالة في بعض.» ثم يورد السخيف من شعره، وكل الأبيات التي يختارها لذلك ليست اختيارَه هو، وإنما سبقه إليها خصومُ الشاعر؛ أمثال الصاحبِ والحاتميِّ وغيرِهما.

يُسلِّم الجرجاني إذن بما في شعر المتنبِّي من عيوب، ولكنه يُردِف ذلك بالروائع من ديوانه، وإذا كانت الأولى تَشغل من كتابه اثنتَي عشرة صفحة (من٧٦ إلى ٨٨)، فإن الثانية تَشغل خمسًا وخمسين (من ٨٨ إلى ١٤٣). وهو يُمهد لإيراد جيدِه بقوله: «فإن توسَّعتَ في الدعاوى فضْلَ توسُّع، ومِلتَ مع الحيف بعضَ الميل حتى تناولتَ طائفةً من المختار فجعلتَه في المنفي، وأخذتَ صدرًا من الجيد فجعلتَه من الرديء؛ فلسنا نُنازعك في هذا الباب، هو بابٌ يَضيق مجالُ الحجَّة فيه، ويصعب وصولُ البرهان إليه، وإنما مَداره على استشهاد القرائح الصافية، والطبائع السليمة التي طالت مُمارستها للشعر فحذَقَت نقده، وأثبتَت عيارَه، وقويَت على تمييزه، وعرَفَت خلاصه، وإنما نُقابل دعواك بإنكار خَصمِك، ونُعارض حُجتك بإلزام مُخالفك، إذا صِرنا إلى ما جعلتَه من باب الغلَط واللحن، ونسبتَه إلى الإجابة والمناقضة.

فأمَّا وأنت تقول هذا غثٌّ مستبرد، وهذا متكلَّفٌ متعسَّف، فإنما تُخبر عن نبوِّ النفس عنه، وقلةِ ارتياح القلب إليه. والشعر لا يُحبَّب إلى النفوس بالنظر والمحاجَّة، ولا يحلى في الصدور بالجدَل والمقايَسة، وإنما يعطفها عليه القولُ والطلاوة، ويُقربه منها الرونقُ والحلاوة. وقد يكون الشيء متقنًا مُحكمًا ولا يكون حلوًا مقبولًا، ويكون جيدًا وثيقًا وإن لم يكن رشيقًا لطيفًا. وقد يجد الصورةَ الحسنة والخِلقة التامة مقليَّةً ممقوتة، وأخرى دونها مُستحلاة مرموقة. ولكل صناعة أهلٌ يُرجع إليهم في خصائصها، ويُستظهَر بمعرفتهم عند اشتباهِ أحوالها.

وما أُنكِر أن يكون كثيرًا مما عددتُه من هذه الأبيات ساقطة عن الاختيار، غير لاحقة بالإحسان، وأنَّ منها ما غلب عليه الضعف، ومنها ما أثَّر فيه التعسُّف، ومنها ما خانه السَّبك فساء ترتيبه، واختلَّ نظمُه، ومنها ما حمل عليه التعمُّق فخرج به إلى الغثاثة والبرد، وإن كان أكثرها لم يأتِ من قِبَل المعنى وشرفه. وكنا نجد لكلِّ واحد منها مثلًا يُحسُّه، وشبيهًا يُعضده ويسدده، ولكن الذي أطالبُك به وألزمك إياه أن لا تستعجل بالسيئة قبل الحسنة، ولا تُقدم السخط على الرحمة، وإن فعلت، فلا تُهمل الإنصافَ جملة، وتخرج عن العدل صفرًا؛ فإن الأديب الفاضل لا يستحسن أن يعقدَ بالعَثرة على الذنبِ اليسير مَن يحمد منه الإحسان الكثير.

وليس من شرائط النَّصَفة أن تنعى على أبي الطيب بيتًا شذَّ وكلمةً ندرَت، وقصيدةً لم يُسعِده فيها طبعُه، ولفظةً قصُرَت عنها عنايتُه، وتنسى محاسنَه وقد ملأَت الأسماع، وروائعه وقد بهرَت، ولا من العدل أن تُؤخِّره للهفوة المفرَدة، ولا تُقدمه للفضائل المجتمِعة، وأن تحطَّه الزلَّة العابرة، ولا تنفعه المناقبُ الباهرة، وكيف أسقطتَه من طبقات الفحول، وأخرجتَه من ديوان المحسِنين لهذه الأبيات التي أنكرتَها، ولم تُسلم له قصَبَ السبق، وخِصال الفضل، وتُعنوِنُ باسمه صحيفةَ الاختيار لقوله …»

(٥-٣) المقارنة

وهنا يأخذ الناقدُ في إيرادِ ما اختار من جيدِ الشاعر بدون تعليقٍ ولا شرح، وإن كان قد لجأ بعضَ الأحيان إلى المقارنة، وإن لم يفصلها ولم يحكم فيها دائمًا؛ فهو يورِدُ مثلًا قصيدةَ المتنبي التي قالها في مِصر ووصَف فيها الحُمَّى التي كانت تعتادُه عندئذٍ:

وزائرتي كأنَّ بها حياءً
فليس تزورُ إلا في الظلامِ

… إلخ.

ثم يقول: «وهذه القصيدة كلُّها مختارة لا يُعلَم لأحدٍ في معناها مثلُها، والأبيات التي وصَف بها الحمى قد اخترَع أكثرَ معانيها، وسهَّل في ألفاظها، فجاءت مطبوعةً مصنوعة. وهذا القسم من الشعر هو المطمَعُ الموئِس، وقد أحسن عبد الصمد بن المعدَّل في قصيدته الرائية التي وصَف فيها الحمَّى، وقصر في الضادية وفي مقاطعَ له في وصفِها، وكأنَّ أبا الطيب قد تنكَّب معانيَه فلم يُلمَّ بشيء منها، قال عبد الصمد:

وبِنْت المَنيَّة تنتابُني
هُدوًّا وتطرقُني سُحْرةْ

فأحسنَ وأجاد وملَّح واتسَع. وأنت إذا قِستَ أبياتَ أبي الطيب بها، على قِصَرها، وقابلتَ اللفظ باللفظ والمعنى بالمعنى، وكنتَ من أهل البصر، وكان لك حظٌّ في النقد؛ تبيَّنتَ الفاضل من المفضول. فأما أنا فأكره أن أبُتَّ حكمًا، أو أفصلَ قضاء، أو أدخل بين هذين الفاضلَين وكلاهما محسنٌ مصيب.» وكذلك يورد للمتنبي قصيدتَه في بدرِ بن عمَّار، وفيها يصفُ الشاعرُ أسدًا لقيه ابنُ عمار فهاجه عن بقرة افترسها، فوثب الأسدُ إلى كفَلِ فرسه فأعجله عن استلال سيفه، فضربه بالسَّوط ودار به الجيش (ص١١٤).

ثم يقول: «ولولا أبياتُ البحتري في هذا المعنى لعدَدتُ هذه من أفراد أبي الطيب، لكنَّ البحتريَّ قال يصف قتل الفتحِ بن خاقان أسدًا عرَض له:
غداةَ لقيتَ الليثَ والليثُ مخْدَرٌ
يُحدِّد نابًا باللقاء ومِخلبَا»
(الأبيات ص١١٥)

ويُعلق الناقد على أبيات البحتريِّ بقوله: «إنه قد استوفى المعنى وأجادَ الصَّنعة ووصَل إلى المراد، وأما أبو الطيب فإنما وصَف خلق الأسد وزئيرَه وجُرأتَه وإقدامه، وكأنما هو مرعوبٌ أو مخدَّر، والفضل له على كل حال، لكن هذا غرضٌ لم يَرُمه، ومذهبٌ لم يَسْلكه.» ومعنى هذا أن الجرجانيَّ يُفضل وصف البحتري؛ إذ إنه قد أجاد وصف المعركة، وأظهر ممدوحَه بمظهر الشجاع الذي غلَب الأسد على أمره. وأما أبو الطيب فقد وصف خَلْق الأسد وزئيرَه وجُرأته وإقدامه دون أن يصف المعركة، أو أن يُظهر شجاعةَ ممدوحه، وهو بعدُ يعتذر عن المتنبي بأنه لم يقصد إلى وصفِ المعركة. والواقع أنه لم تكن هناك معركة، وإنما ضرَب ابنُ عمار الأسدَ بسَوطه فارتدَّ عن كفَلِ الحصان، ثم دار الجيش بالأسد وقتَله الجُند، ومع ذلك فقد استطاع المتنبي أن يتخذَ من تلك الواقعة سبيلًا للمدح الرائع حيث قال:

أمُعفِّر الليثِ الهِزَبْر بسَوطهِ
لمن ادَّخرتَ الصارمَ المصقولَا؟

وما أظن قولَ الشاعر:

قبضَت منيَّتُه يدَيه وعُنْقَهُ
فكأنَّما صادَفْته مغلولَا

يستطيع أن يذهب بما في البيت الأول من مدح، ثم ما حيلةُ الشاعر وقد قيَّدَته الوقائع؛ أيخترع معركةً لم تكن حتى يتجنَّب «فكأنما صادفته مغلولًا»؟

وأما وصف البحتري، فوصفٌ لمعركةٍ حامية، وفيها قوله الرائع:

فأحجمَ لَمَّا لم يجد فيه مَطمعًا
وأقدَم لما لم يجد عنه مَهربَا
حملتَ عليه السيفَ لا عزمُك انثَنى
ولا يدُك ارتدَّت ولا حدُّه نبَا

وهذان البيتان هما — فيما نُرجح — مصدرُ تفضيل الجرجاني للبحتري، وإن لم يُفصح هو عن ذلك، بل أجمل القول.

ولقد جاء أساسُ المقارنة عند الجرجاني — فيما يبدو لنا — مُسرفَ الضيق؛ فهو لا ينظر إلى القصيدتين إلا من ناحية الممدوح، وبلوغِ الشاعر في ذلك إلى ما يريد أو عدمِ بلوغه، مع أنَّ في القصيدتين أبياتًا تصفُ الأسد في ذاته، وكان الأصحُّ أن يعقد الناقدُ موازنةً بين تلك الأوصاف. ولو أنه فعل لظننَّاه يُفضل أبياتَ المتنبي الذي أجاد الوصفَ إذ قال:

يطَأُ الثَّرى مُترفقًا من تِيههِ
فكأنَّه آسٍ يَجُسُّ عليلَا

وما نظنُّ أنه باستطاعةِ شاعرٍ أو ناثر أن يصفَ تِيه الأسد، ومِشيته المدلَّة المترفِّقة المستوثقة بأحسنَ من هذا الوصف. وقد جاء تشبيهه بالآسي الذي يجسُّ عليلًا؛ موضحًا لما أراد العبارةَ عنه، معززًا له، موحيًا به أروعَ إيحاء.

ثم:

قَصُرَت مَخافتَه الخُطى فكأنَّما
ركب الكميُّ جوَادَه مَشكولَا

فهل ترى وصفًا لهيبة ذلك الأسد وإيحائه بالخوف أبلغَ من أن تَقصُر دونه الخُطى، ويسير إليه الكميُّ ثانيًا عِنانَ جَوادِه، فيُقدِمُ الجوادُ وكأنه مقيَّد الأرجُل.

وأما البحتريُّ فدونك قصيدتَه؛ فإنك لن تجد فيها شيئًا يُشبه هذا الوصفَ الرائع، وإنما تجد المدحَ الجيد، وتغليبَ ذلك المدح على الوصف.

إلى شيءٍ من هذا لم يفطن الجرجاني؛ لتقيدِه بالغرض الذي قيلت فيه القصيدتان، وتحققِه أو عدم تحقُّقِه. وأما النقد الفني، نقد الشعر لذاته وما فيه من جمالِ الوصف ودقَّتِه وقوته، فذلك ما لم يلتفت إليه ولا تمهَّل في مناقشته.

ويستمرُّ ناقدنا في سردِ ما يختاره للمتنبي دون أيِّ تعليق أو شرح، كما قلنا، حتى ينتهيَ إلى «حسن التخلُّص والخروج» عنده، فيورد لذلك عدةَ أمثلة يرى أنها وإن لم تكن حسَنةً مختارة، فليست من المستهجَن الساقط (ص٣٢)، ويُردف ذلك بإيراد مطالعه التي عِيبت، ثم مَطالعه الجيدة؛ لتشفعَ هذه لتلك. وهنا يتمهَّل قليلًا ليردَّ على ما اتُّهم به المتنبي من أخذِ مطالعه الجيدة عن الشعراء السابقين، ويتحرَّج الجرجاني من أن يفصل في تلك الدعوى، معترفًا في تواضعٍ — يُحمَد له — أنه لم يُحِط بكل ما قالت العرب قبل المتنبي، وأنه لا يستطيع أن يجزم في مسألةٍ كالأخذ عن الغير؛ لما تستلزمه من الإحاطة والحذر، والشعر قد ضاع أكثرُه، وما بقي لا سبيل إلى استيعابه كلِّه، «وهل يمكن مع هذه الأحوال إحصاءُ المقرر المتوسِّع، فضلًا عن المقلِّ المتطرِّف، أفتستجيز لي على ما تراه أن أتسرَّع ولا أتحرَّز، وأعجلَ ولا أتثبَّت؟ كلا، بل أفضِّل لك بين المراتب والمقاوم، وأعزل لك المقدَّم عن المؤخَّر، وأميِّز ما يقرب عندي من الإبداع عمَّا أشهد عليه بالأخذ، فإن ألحقتُ به المأخوذَ المسترَق، فلبعضِ الأغراض المتقدمة، أو لزيادةٍ فيه مستحسَنة، فأسلَم من تورُّط المسترسل، ولا أقف موقفَ المتكلِّف.» وهنا يأخذ في إيراد الأمثال التي جاءت في شعر المتنبي، يوردها في صمتٍ حتى إذا انتهى اعتذر عمَّا يمكن أن يكون بينها من شعرٍ رديء ساق إليه سهوٌ عارَضَ التمييز، أو غفلةٌ لابسَت الاختيار، وهو يترك للقارئ الحريةَ في أن يحذف من بينِها ما يريد؛ لأن ما يبقى كافٍ لنحكمَ للشاعر بالتبريز في الجودة.

والذي لم يزلَّ فيه أن احتفاظ الجرجاني بالأمثال إلى آخِر ما يورد من جيد شعر المتنبي؛ دليلٌ على أنه كان يرى في تلك الأمثال موضعَ أصالة الشاعر. وهذه ناحيةٌ من شاعريَّته التفَت إليها القدماء، ووضع عنها الحاتميُّ رسالته كما رأينا. وإلى اليوم ما يزال الناسُ يردِّدون تلك الأبياتَ التي لاقَت من الانتشار والشهرة ما لم يَلْقه ما قال الشاعرُ نفسه في الأغراض الأخرى.

ونحن إذا ذكرنا كيف أسرَف نقادُ ذلك العهدِ في استخدام السرقات كوسيلةٍ لتجريح الشعراء؛ أدرَكْنا أن دفاع الجرجاني عن الشاعر لم يكن يستطيع أن يغفل مسألةً هامة كهذه. ولقد سبق أن رأينا الحاتميَّ يتَّهم أبا الطيب في مُناظرته الشهيرة بأنه لم يخلص له إلا الغثُّ الرديء، وأما الجيد فقد سرقه عن غيره، وولج ذلك الباب كثيرون غير الحاتمي، وكان ابنُ وكيع الشاعرُ المصري — فيما يظهر — من أشدِّ الناس إسرافًا في ذلك.

لم يكن إذن للجرجانيِّ بدٌّ من الكلام في السرقات، ولقد تكلم فأطال حتى شغَل في ذلك مائةً وخمسًا وستِّين صفحةً من كتابه (من ص١٤٤ إلى ٣٠٩).

وهو يبدأ كلامه لا بما يُشبه دعوى الحاتميِّ التي أشرنا إليها، فيقول عن خَصمِه: «ورأيتُك وأصحابَك أنحيتم في مُنازعة خَصمِكم على ادِّعاء السرق، فقال قائلُكم: ما يَسلَم له بيت، ولا يَخلُص من مَعانيه معنًى، أو ما هو إلا ليثٌ مُغير، وسارقٌ مختلس، وقلت: إنما عمد إلى شعرِ أبي تمام فغيَّر ألفاظه وأبدَل نَظْمه، فأما المعاني فهي تلك بأعيانها، أو ما سرقه من غيرها، فإن اعتمد على قريحته، وحصَل على فكره وخاطره؛ جاء بمثل قوله:

إن كان لا يُدْعى الفَتى إلا كذا
رَجُلًا فسَمِّ الناسَ طرًّا إصبَعَا

… إلخ» (ص١٤٥).

«فهذا مقدارُ اختراعه، وهذه طريقةُ ابتداعه، فإن زاد عليه وتجاوزَه قليلًا اضطُرَّ إلى تعقيد اللفظ، وفساد الترتيب، واضطراب النَّسج، فصار خيرُه لا يفي بشرِّه، وجُرمه يزيد على عُذره، ثم لم يظفر فيه بمعنًى شريف، وإنما هو الإفراط والإغراق، والمبالغة والإحالة … وإنما تجد له المعنى الذي لم يسبقه الشعراءُ إليه إذا دفق، فخرج عن رَسْم الشعر إلى طريق الفلسفة، فقال:

ولَجُدت حتى كدتَ تبخل حائلًا
للمنتهى ومن السرور بُكاءُ

… إلخ» (ص١٤٧).

(٥-٤) الجرجاني والسرقات

ثم يقول مُعلقًا على هذه الدعاوى، ومُمهدًا للكلام على السرقات (ص١٤٧ وما بعدها): «وقد أنصَفْناك في الاستيفاء لك، والتبليغِ عنك، ولسنا نُنكر كثيرًا مما قلتَه، ولا نردُّ اليسير ممَّا ادعيته، غير أنَّ لخصمك حُججًا تقابل حُججَك، ومقالًا لا يقصر عن مقالك، وزعم خَصمُك أنك وأصحابَك وكثيرًا منكم لا يعرف عن الذَّوق إلا اسمه، فإنْ تجاوزَه حصَل على ظاهره، ووقف عند أوائله، فإن استثبتَ فيه وكشف عنه؛ وُجد عاريًا من معرفةٍ واضحة، فضلًا عن غامضه، وبعيدًا من جليِّه قبل الوصول إلى مشكِله. وهذا بابٌ لا ينهض به إلا الناقدُ البصير والعالم المبرَّز. وليس كلُّ من تعرَّض له أدركَه، ولا كلُّ من أدركه استوفاه واستكمله.

ولستَ تعدُّ من جهابذة الكلام ونقاد الشعر حتى تُميز بين أصنافه وأقسامه، وتُحيط علمًا برُتَبه ومنازله، فتفصل بين السرق والغصب، وبين الإعارة والاختلاس، وتَعرف الإلمامَ من الملاحقة، وتُفرق بين المشترك الذي لا يجوز ادعاءُ السرق فيه، والمبتذَل الذي ليس أحدٌ أولى به، وبين المتخصِّص الذي حازه المبتدئُ فملَكَه، وأحياه السابقُ فاقتطعه، فصار المعتدي مختلسًا سارقًا، والمشاركُ له محتذيًا تابعًا. وتعرف اللفظ الذي يجوز أن يُقال فيه: أخَذ ونقل، والكلمة التي يصحُّ أن يُقال فيها: هي لفلانٍ دون فلان، فمتى نظرتَ فرأيت أن تشبيه الحُسن بالشمس والبَدْر، والجوَاد بالغيث والبحر، والبليدِ البطيء بالحجَر والحمار، والشجاعِ الماضي بالسيف والنار، والصبِّ المستهام بالمخبول في حيرته، والسليم في سهره، والسقيم في أنينه وتألُّمه؛ أمورٌ متقرِّرة في النفوس، متصوَّرةٌ للعقول، يشترك فيها الناطقُ والأبكم، والفصيحُ والأعجم، والشاعرُ والمفحَم؛ حكمتَ بأن السرقة عنها منفيَّة، والأخذ بالاتباع مستحيلٌ ممتنع. وفصَلتَ بين ما يُشبه هذا ويُباينُه، وما يلحق به وما يتميز عنه، ثم اعتبرتَ ما يصحُّ فيه الاختراعُ والابتداع، فوجدتَ منه مستفيضًا متداوَلًا متناقلًا لا يُعد في عصرنا مسروقًا، ولا يُحسَب مأخوذًا، وإن كان الأصل فيه لمن انفرد به، وأوَّله للذي سبَق إليه، كتشبيه الطلَل المُحِيل بالخطِّ الدارس، وبالمُرْد النَّهج، والوَشْم في المِعصَم، والظُّعُن المتحمِّلة بالنَّخل، وعلائقها بأعذاق البُسْر، والفحل بالفَدَن المَشِيد، والظَّليم المهيج بأحقبَ يسوق أُتنَه، وكوصف الحَمول وموَرَان الآل بها، وذم الغراب والصُّرَد، والسانح والبارح، وسؤال المنزل عن أهله، والتفجُّع لمن استبدل بعد ساكنه، ولوم النفس على بكاء الدار، واستعطافِ العقل، واستبطاءِ الصبر، وتحسينِه تارةً وتقبيحه أخرى، وتشبيه الفرَس باللَّقْوة، والظبي بشهاب قُذُف، والعُقابِ بالدَّلو التي خانها الرِّشاء، وكوصف الغيث بالعموم والتطبيق، واقتلاع الدَّوح، وتفريق الوَحْش، وتشبيه دَفْعه بعَطِّ المزاد وحلِّ العَزَالي، ووصفِ البرق بخطف الأبصار وسرعة اللمح، وأنه كالقبَس من النار، وكالحريق المتضرِّم، وكمصباح الراهب.

ولم أُرِد هذه بأعيانها دون غيرها، ولم أورِدْها إلا دليلًا على أمثالها، فإذا اعتبرتَها تصنَّفَت لك صِنفَين: إما مشترك عامُّ الشركة، لا ينفرد أحدٌ منهم بسهم لا يُساهم عليه، ولا يختصُّ بقسم لا يُنازع فيه، فإنَّ حسن الشمس والقمر، ومَضاء السيف، وبَلادة الحمار، وجود الغَيث، وحيرة المخبول ونحو ذلك؛ مقرَّرٌ في البداية، وهو مركبٌ في النفس تركيبَ الخِلقة. وصِنفٌ سبق المتقدمُ إليه ففاز به، ثم تُدُووِل بعده فكثر واستُعمل، فصار كالأول في الجِلاء والاستشهاد، والاستفاضةِ على ألسُن الشعراء، فحمى نفسَه عن السَّرَق، وأزال عن صاحبه مذمَّة الأخذ. كما يُشاهَد ذلك في تمثُّل الطَّلَل بالكتاب والبُرْد، والفتاة بالغزال في جِيدها وعينَيها، والمهَاة في حُسنها وصَفائها … ولو سمعتَ قائلًا يقول: إن فلانًا الشاعرَ أخذ عن فلانٍ قوله: لا مرحبًا بالشَّيب، وحبَّذا الشباب! وكيف لو عاد، ويا أسفَى لفراق الأحبة! وما لَذاذات العيش بعدهم، وفاضت عيني صبابةً لذكرهم؛ لحَكمتَ بجهله ولم تشكَّ في غفلته.»

وإذن فالجرجاني يرى أنه من السخف أن تتَّهم شاعرًا بسرقةِ معنًى مما يُسميه «العام المشترك»، أو الأصيل الذي شاع حتى لحق بذلك العامِّ المشترك. ومُحاجَّة الناقد على هذا النحو تبدو واضحةَ الصحة، ولكننا في الحق لا نُسلم له بكل ما قال، بل هو نفسُه لا يُسلم به في الصفحات التالية من كتابه؛ وذلك لأن المهم في الشعر ليس معناه وإنما صياغته. وفي الصياغة تكون السرقةُ عادةً مهما كان المعنى مشتركًا أو مُبتذَلًا. وقد سبق أن عالجنا هذه المشكلةَ عند الكلام على آراءِ ابن قُتيبة في اللفظ والمعنى. وأوضحُ مثلٍ للمعنى المبتذَل الذي تجعله الصياغةُ مِلكًا لقائله هو قول الأعشى عن وقت الظهيرة: «وقد انتعَلَت المَطيُّ ظلالَها»، وقولُ آخَر عن هُزال الناقة من كثرة السَّير: «يقتاتُ شحمَ سَنامها الرَّحْلُ»، وأمثالُ ذلك مما يتميَّز به الشعرُ الجيد.

إلى مثلِ هذا الاعتراف يُخيَّل إلينا أن الجرجاني قد فطن بحسِّه الأدبي الصادق؛ ومن ثم قال: «وقد يكون في هذا الباب ما تتَّسع له أمةٌ وتضيق عنه أخرى، ويسبق إليه قومٌ دون قوم؛ لعادةٍ أو عهد، أو مشاهدةٍ أو مِراس؛ كتشبيه العرب الفتاةَ الحسناء بتَرِيكةِ النعامة، ولعلَّ من الأمم مَن لم يرَها، وحُمرةَ الخدود بالوردِ والتفاح، وكثيرٌ من الأعراب مَن لم يعرفها، وكأوصافِ الفلاة وفي الناس من لم يُصْحِر، وسَيرَ الإبل وكثيرٌ منهم مَن لم يركب. وقد يتفاضل مُتنازعو هذه المعاني — بحسَب مراتبهم من العلم — بصنعةِ الشعر، فتشتركُ الجماعة في الشيء المتداوَل، وينفرد أحدُهم بلفظةٍ تُستعذَب، أو ترتيبٍ يُستحسَن، أو تأكيدٍ يوضَع موضِعَه، أو زيادةٍ اهتدى لها دون غيره، فيُريك المشتركَ المبتذَل في صورة المبتدَع» (ص١٥٠).

«كما قال لَبيد:

وجَلا السُّيولُ عن الطُّلولِ كأنَّها
زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أقلامُها

فأدَّى إليك المعنى الذي تَداولته الشعراء، وقال امرُؤ القيس:

لِمَن طَللٌ أبصَرتُه فشَجَاني
كخَطِّ زَبُورٍ في عَسيبِ يَماني

وقال حاتمٌ:

أتعرفُ أطلالًا ونؤيًا مهدَّمَا
كخَطِّك في رَقٍّ كِتابًا مُنَمنَمَا؟

وقال الهذليُّ:

عرَفتُ الدِّيار كرَسْم الكتا
بِ يَزْبُره الكاتبُ الحِمْيَري

وأمثال ذلك ممَّا لا يُحصى كثرةً ولا يَخفى شهرة. وبين بيتِ لَبيدٍ وبينها ما تراه من الفضل، وله عليها ما تُشاهده من الزيادة والشِّف … إلخ.» ممَّا قد نعرض له عند الكلام على السرقات.

وكما يدعو الجرجانيُّ إلى عدم الإفراط في ادِّعاء السرقة؛ كذلك يَدْعونا إلى عدم التفريط فيقول (ص١٥٥): «ولم يبقَ عليك إلا أن تحترسَ من التفريط كما احترستَ من الإفراط. فلا تكن كمَن يرى السرَق لا يتمُّ إلا باجتماع اللفظ والمعنى، ونقلِ البيت جملةً والمصراعِ تامًّا.» «وأولُ ما يلزمُك في هذا الباب ألا تَقصُر السرقةَ على ما ظهر ودعا إلى نفسه دون ما كمَنَ ونضَح عن صاحبه، وألا يكون همُّك في تتبُّع الأبيات المتشابهةِ والمعاني المتناسخة طلبَ الألفاظ والظواهرِ دون الأغراض والمقاصد، وأن تكمل ذلك حتى تعرفَ في تناسُب قول لبيد:

وما المالُ والأَهْلونَ إلا ودائعٌ
ولا بدَّ يومًا أن تُردَّ الودائعُ

وقولِ الأزدي:

إنَّما نعمةُ قومٍ متعةٌ
وحياةُ المرءِ ثوبٌ مُستعار

وإن كان هذا ذكر الحياة، وذلك المال والولد، وكان أحدهما جُعل وديعة والآخَر عاريَّة.» وأمثال ذلك ممَّا نرى أن الجرجانيَّ قد وقع معه في الإفراط خوفًا من التفريط.

وفي الحق، إن الجرجاني في هذا الموضع لم يستطع أن يُفلِت مما تورَّط فيه غيرُه من إظهارِ المهارة الكاذبة في تتبُّع سرقاتٍ موهومة، والكشفِ عنها كشفًا لا يدلُّ إلا على أنهم يحفظون الكثيرَ من الشعر في الفنون المختلفة. ونضرب لذلك مثلًا قولَه (ص١٦٣ وما بعدها): «ولا يغرَّك من البيتين المتشابهَين أن يكون أحدُهما نَسيبًا والآخرُ مديحًا، وأن يكون هذا هجاءً وذلك افتخارًا؛ فإن الشاعر الحاذق إذ عَلق المعنى المختلَس عدَل به من نوعه وصفته، وعن وزنِه ونَظْمه، وعن رَويِّه وقافيته. فإذا مرَّ بالغبي الغُفْل وجدَهما أجنبيَّين متباعدَين، وإذا تأمَّلَهما الفطنُ الذكي عرَف قرابةَ ما بينهما، والصلةَ التي تجمعهما؛ قال كُثيِّر:

أريدُ لِأنسى ذِكرَها فكأنَّما
تُمثَّل لي ليلى بكلِّ سبيلِ

وقال أبو نُواس:

ملكٌ تصوَّر في القلوب مثالُه
فكأنَّه لم يخلُ منه مكانُ

فلم يشكَّ عالمٌ في أن أحدَهما من الآخَر، وإن كان الأولُ نَسيبًا والثاني مديحًا.» ولكن الفرق واضحٌ بين البيتين؛ فالأول حقيقةٌ نفسية حارَّة، بينما الثاني معنًى عقليٌّ متكلَّف. فكُثيِّرٌ لانشغاله الدائم بصاحبته لا يستطيع أن ينساها كأنما هي أمامه دائمًا، بينما أبو نُواس يفترض قضيةً ثم يبني عليها نتيجة؛ فهو يُعبر عن حبِّ الناس لممدوحه بأنَّ مثاله مُصوَّر في القلوب، فلذلك كأنه في كل مكان؛ لأن الناس منتشرون في كل مكان، فمن الإسراف إذن تقريرُ السرقة بين البيتين.

ومن غريب الأمر أن الجرجانيَّ نفسه لم يغفل عن وجوب الحذر في هذا الباب، ولكنه لا يكاد يصلُ إلى التطبيق حتى ينسى الحذَر ويتورَّط فيما تورَّط فيه غيره، والسليم عند الجرجاني هو دائمًا مبادئُ منهجه. ومن تلك المبادئ قولُه (ص١٦): «وهذا بابٌ يحتاج إلى إنعام الفكر، وشدةِ البحث، وحُسن النظر، والتحرُّز من الإقدام قبل التَّبَيُّن، والحكم إلا بعد الثقة. وقد يَغمض حتى يَخفى، وقد يذهبُ منه الواضح الجليُّ على مَن لم يكن مُرتاضًا بالصناعة، متدربًا بالنقد. وقد تحملُ العصبيةُ فيه العالمَ على دفع العِيان وجَحْدِ المشاهَدة، فلا يَزيد على التعرُّض للفضيحة، والاشتهار بالجسور والتحامُل. ومتى طالعتَ ما أخرجه أحمدُ بن أبي طاهر وأحمد بن عمار من سرقاتِ أبي تمَّام، وما تتبَّعه بِشرُ بن يحيى على البُحتري، ومُهلهلُ بن يموتَ على أبي نُواس؛ عرَفتَ قُبح آثارِ الهوى، وازداد الإنصافُ في عينك حُسنًا.» وهو يورد أمثلةً لما عدَّه المهلهلُ بن يموتَ مسروقًا في شعر أبي نُواس، بسبب استعمال ألفاظٍ استعملها غيرُه من قبلُ استعمالًا مشابهًا. والجرجاني يرفض أن يُسميَ أمثال ذلك سرقة؛ لأن: «الألفاظ منقولةٌ متداوَلة، وإنما يُدَّعى ذلك في اللفظ المستعار أو الموضوع؛ كقول أبي نواس:

إليك أبا العبَّاس من بينِ مَن مشى
عليها امتطَينا الحضرميَّ الملسَّنَا

إذ زعم المهلهلُ أنه مأخوذٌ من قول كُثيِّر:

لهم أزُرٌ حُمْر الحواشي يَطَوْنها
بأقدامهم في الحضرميِّ الملسَّنِ

والحضرميُّ الملسَّن أشهرُ عند العرب من أن يفتقرَ إلى قولِ كُثيرٍ أو غيرِه، وإنما هو صنفٌ من نعالهم كان مُستحسَنًا عندهم، فما ذِكرُ أبي نُواس له من السرقة المعروفة في شيء. ثم لو ذكَر بعضُ شعرائنا اليمانيَ المخصَّر والكنانيَّ المطبق، ثم وجدناه في شعر غيرِه أكنَّا نقول: إنه مأخوذ منه؟ أو كنا نعدُّه سرقة؟ وليس بين البيتين اتصالٌ ولا تناسبٌ إلا في هذه اللفظة؛ لأن كُثيِّرًا مدح قومًا فوصفَهم بالمرح والنَّعْمة والخُيَلاء، وذكر سُبوغ أُزُرهم، وأنهم يطَئونها بنعالهم الحضرمية الملسَّنة هَوانًا بها، وقصَد أبو نُواس معنًى آخَر، فذكر أنه قصَد ممدوحه ماشيًا وامتطى نعلَه الحضرمية الملسنة، فما أرى بينها غير ما ذكرت.»

وإذن فالجرجاني يرفض أن يرى سرقةً في الألفاظ والاصطلاحات المشتركة العامة، كما رفض أن يراها في المعاني المشتركة العامة؛ لأن الألفاظ منقولةٌ متداوَلة، وإنما يُدَّعى ذلك في اللفظ المستعار أو الموضوع؛ كقول أبي نواس:

طوى الموتُ ما بيني وبين محمدٍ
وليس لما تَطوي المنيةُ ناشرُ

وقول البَطينِ البجَليِّ:

طَوى الموتُ ما بيني وبين أحبَّةٍ
بهِمْ كنتُ أُعطي ما أشاءُ وأمنعُ

وكقوله: «سقَتْه كفُّ الليل أكؤُسَ الكَرى.»

وقول الآخَر:

سقاه الكَرى كأسَ النُّعاسِ فرأسُه
لِدِين الكَرى في آخِر الليلِ ساجدُ

… إلخ» (ص١٦١ وما بعدها).

بذا يفرغ الجرجانيُّ من تقرير منهجه العامِّ في دراسة السرقات معانيَ وألفاظًا، ثم ينتقل إلى سرقات المتنبِّي بنوعٍ خاص، فيُمهد لذلك بتلخيصِ ما قاله من قبل، واستعراضِ تاريخ السرقات في جملةِ أسطر فيقول (ص١٧٠): «والسرَق — أيدك الله — داءٌ قديم، وعيبٌ عتيق، وما زال الشاعر يستعين بخاطرِ الآخَر، ويستمدُّ من قريحته، ويعتمد على معناه ولفظِه، وكان أكثرُه ظاهرًا كالتوارُد الذي صدَّرنا بذِكره الكلام، وإن تجاوَز ذلك قليلًا في الغموض لم يكن فيه اختلافُ الألفاظ، ثم تسبَّب المحدَثون إلى إخفائه بالنقل والتأكيد، والتعريض في حالٍ والتصريح في أخرى، والاحتجاج والتعليل، فصار أحدهم إذا أخذ معنًى أضاف إليه من هذه الأمور ما لا يَقصُر معه عن اختراعه وإبداعِ مِثله، وقد ادَّعى جريرٌ على الفرزدق، فقال:

سيعلم مَن يكونُ أبوه فينا
ومَن عُرِفَت قصائدُه اجتلابَا

وادَّعى الفرزدق على جرير فقال:

إنَّ استراقَك يا جريرُ قصائدي
مِثلُ ادِّعاك سوى أبيك تنَقُّلُ

ومتى أنصفتَ علمتَ أن أهل عصرنا ثم العصرِ الذي بعدنا أقربُ فيه إلى المعذرة، وأبعدُ من المذمة؛ لأن مَن تقدَّمَنا قد استغرق المعانيَ وسبَق إليها، وأتى على معظمِها، وإنما يحصل على بقايا؛ إما أن تكون تُرِكَت رغبةً عنها واستهانةً بها، أو لبُعد مطلبها، واعتياص مَرامها، وتعذُّرِ الوصول إليها. ومتى أجهَد أحدُنا نفسه، وأعمَل فِكره، وأتعَب خاطرَه وذهنه في تحصيلِ معنًى يظنُّه غريبًا مبتدَعًا، ونظْمِ بيتٍ يحسبه فردًا مخترعًا، ثم تصفَّح عنه الدواوين؛ لم يُخطِئه أن يجدَه بعينِه أو يجدَ له مثالًا من جنسه؛ ولهذا السبب أحظُر على نفسي، ولا أرى لغيري، بتَّ الحكمِ على شاعرٍ بالسرقة. وقد أحسن أحمدُ بن أبي طاهر في مُحاجَّة البحتري لما ادَّعى عليه السرَق قولَه:

والشِّعرُ ظهرُ طريقٍ أنت راكبُهُ
فمِنه مُنشعِبٌ أو غيرُ مُنشعبِ
وربما ضمَّ بين الرَّكْب منهجُه
وألصَق الطُّنُبَ العالي على الطنُبِ

إلا أني وجدتُ في شعره معانيَ كثيرةً أجدها لغيره، وحكمتُ بأن فيها مأخوذًا لا أُثبته بعينه، ومسروقًا لا يتميَّز من غيره. وإنما أقول: قال فلان كذا، وقد سبقَه إليه فلانٌ فقال كذا، فأغتنم به فضيلةَ الصدق، وأسلمُ من اقتحام التهوُّر. وهذا ما ادُّعي على أبي الطيِّب فيه بالسرقة، وما أُضيف إليه ممَّا عثرت به.» ويسرد الجرجانيُّ أبياتَ أبي الطيب وما شابهها من شِعر السابقين؛ وذلك فيما يَنيف على مائةٍ وثلاثين صفحة (من ١٧١ إلى ٣٠٩). وقد أسرف في ذلك أيَّما إسراف، وكأنه قد نسي كلَّ مبادئه ولم يَعُد له إلا إظهارُ المعرفة بالشعر، والقدرةِ على ردِّ بعضه لبعض. وهو لا يكتفي برد بعضِ أبيات الشاعر إلى أبياتِ مَن سبقه من الشعراء، بل يردُّ بعضًا آخر إلى جملٍ نثرية؛ لما بينها من شَبهٍ في المعنى؛ من ذلك قوله (ص٣٧٦): «حُكي عن بعض الحكماء أنه سُئل عن أسوأ الناس حالًا فقال: مَن قوِيَت شهوتُه، وبعدَت همتُه، واتسعَت معرفته، وضاقت مقدرتُه، قال أبو الطيب:

وأتعَبُ خلقِ الله مَن زاد همُّه
وقصَّر عمَّا تشتهي النفسُ وجْدُه»

وهذا أشبهُ ما يكون بما ورَد في الرسالة الحاتمية.

وفي موضعٍ آخَر يورد قولَ النبي (ص٣٧٦): «لقد نُصِرتُ بالرعب.» ثم يُعدد أبياتَ المتنبي وغيرِ المتنبي التي تُعبر عن معنًى يُقارب هذا؛ كقول أبي الطيب:

بعَثوا الرعب في قلوب الأعادي
فكأنَّ القتال قبل التلاقي

وقولِه:

لو لم يُزاحِفْهم لزاحفَهم لهُ
ما في صدورِهمُ من الأوجالِ

وأمثالِ ذلك.

وأخيرًا يختتم الجرجاني هذه القوائمَ بقوله: «وقد أتينا على ما حضرَنا في هذا الكتاب، ونُبنا عنك في جمعه، واستحضارِ لفظه، وتصفُّح الدواوين، ولقاء العلماء فيه، وبيَّضنا أوراقًا لِما لعله شذَّ عنا من غريبه، وما عسانا نظفر على مرور الأوقات به. ما نأبى أن يكون عندك أو عند أحدِ أصحابك فيه زياداتٌ لم نعثر بها، أو لطائفُ لم نفطن إليها. وإن كنتَ على ثقةٍ من علمك وبصيرةٍ بما عندك، وعرَفت من طرق السرَق ووجوه النقل ما يسوغ فيه حُكمك، ويعدل فيه شهادتك، فلا بأس أن تُلحِق به ما أصبتَه، وأن تُضيف إليه ما وجدته، بعد أن تتجنبَ الحيف وتتنكَّب الجَور، وتعلم أن وراءك من النقاد مَن يعتبر عليك نقدك، ومَن لا يستسلم للعصبية استسلامك.»

بذا ينتهي الدفاع عن المتنبي. وهو كما نرى أشبهُ بالدفاع القضائي منه بالنقد، وقوامه — كما لاحظنا — قياسُ الأشباه والنظائر، أو اعتمادٌ على المقاصة. فإن يكن المتنبي قد قال شعرًا رديئًا فقد قال مِثلَه سيدُ المطبوعين وسيدُ أهل الصنعة، وإن يكن قد اتُّهم بفساد العقيدة، فقد بلغ في ذلك الجاهليُّون وكعبُ بن زهير وابنُ الزِّبَعْرى، بل وأبو نُواس، ما لم يبلغ إلى مثلِه أبو الطيب، والشعر بعدُ غيرُ الدين. وإن تكن للمتنبي مخارجُ أو ابتداءاتٌ رديئة، فله الجيدة، ومن الواجب أن نُعمل المقاصة بين النوعين. وأما السرقات فالجرجانيُّ بعد أن بسَط فيها كثيرًا من المبادئ السليمة لم يأخذ بها، بل اكتفى بأن استبعد اللفظ، ثم راح يجمع كلَّ ما قيل مشابهًا لمعاني الشاعر، سواءٌ في ذلك الشعر والنثر، دون أن يدلَّ على أخذٍ أو يرفض دعوى في هذا السبيل، حتى جاء هذا الجزء الخاص بالسرقات خاليًا من كل درس أو تحقيق أو تطبيق للمبادئ، وإن يكن لصاحبه فيه فضل، فهو فضل الجمع لا أكثر ولا أقل.

وأما القسم الثالث من كتابه، فهو — كما قلنا — خيرُ ما كتب؛ وذلك لما فيه من مناقشاتٍ تفصيلية ونقدٍ موضعي دقيق، وهو جديرٌ بأن يُسمى الوساطة بين المتنبي وخصومه. ولنأخذ الآن في دراسته وتحليله.

(٦) مناقشة الجرجاني لما عابه النُّقادُ على المتنبي

قبل أن يبدأ المؤلفُ مناقشتَه يُحدِّد — كما اعتاد — موضعَ الخصومة ومنهج حلِّها. ولقد سبق أن أوردنا ذلك النصَّ الهام الذي يُصدر به هذا القسم، والذي حلَّلناه فرأينا المؤلفَ يُفرق في عيوب الشعر بين خطأٍ ظاهرٍ يعرفه الجميع، وعيبٍ خفي لا يُدرك إلا بالطبع والدُّربة، كما فرَّق بين شعرٍ مستقيم لا تكفي صحتُه ليحكم بجودته، وشعرٍ واضحِ المحسِّنات البديعية تعجب به الأذواقُ السميكة، ثم الشعر المطبوع الكثير الماء. وهذا يُمتحن بالطبع لا بالفكر، ولا سبيل معه إلى المحاجَّة أو المحاكمة.

ويصل إلى ما عابه النقادُ من شعر أبي الطيب فيقول (ص٣١٣): «وقد تفقدتُ ما أنكَره أصحابُك من هذا الديوان بعد الأبيات التي حالها من امتناع المحاجَّة فيها، وتعذُّر المخاصمة عليها ما وصَفْت، فوجدتُه أصنافًا؛ منها ألفاظ نُسبت إلى اللحن في الإعراب، وادُّعِي فيها الخروج عن اللغة، ومعانٍ وُصفت بالفساد والإحالة والاختلال والتناقض واستهلاك المعنى، وأخرى أنكر منها التقصير عن الغرض، والوقوع دون القصد، وعيب فيها ما عيبه من باب التعقيد والتعويص، واستهلاك المعنى، وغموض المراد، ومن جهة بُعد الاستعارة والإفراط في الصنعة.»

وإذن الجرجاني لن يُناقش إلا ما يمكن مناقشته من العيوب التي أُخذت على بعض أبيات الشاعر، وأما ما تتعذَّر المخاصمةُ فيه ويُمتحن بالطبع دون الفكر فلا سبيل إلى المفاضلة دونه. وانتقاداتُ الخصوم لذلك النوع من الشعر الممتاز ليست إلا وليدةَ الهوى؛ وذلك لأن «العصبية ربما كدَّرَت صفو الطبع، وفلَّت حدَّ الذهن، ولبَّسَت العلم بالشك، وحصَّلَت للمُنصف الميل. ومتى استحكمَت ورسخَت صوَّرَت لك الشيءَ بغير صورته، وحالت بينك وبين تأمُّله، وتخطَّت بك الإحسانَ الظاهر إلى العيب الغامض، وما ملكَت العصبيةُ قلبًا فتركَت فيه للتثبُّت موضعًا، أو أبقت منه للإنصاف نصيبًا.»

والجرجاني بعدُ لم ينسَ منهجه العام، ولعله اضطُرَّ إليه حتى في هذا الباب؛ وذلك لأنه من بين أشعار المتنبي ما لا يمكن الدفاعُ عنه لوضوح عيبه. وهذا ما يُسلم به الجرجاني المنصف، المبغِض للمحاجَّة بالباطل؛ فهو يقول: «وجملة القول في هذه الأبيات وأشباهها: أنه (المتنبي) لو وفَّى فيها التهذيبَ حقَّه، ولم يبخس التثقيفَ شرطه، لانقطعَت عنها ألسنُ العيب، وأفسدت دونها مارق الطعن، ولدخلت في جملة أخواتها، ولجرَت مَجرى أغيارها، ولاستغنت عن تكلفِ البحث والتنقيب، واستغنى خصمك عن تمحُّل الحجج والمعاذير.» ولكن التسليم بعيبِ تلك الأبيات لا يجوز أن يُنزل الشاعرَ عن مرتبته، أو أن يحطَّه دون أقرانه؛ لأننا لم نجد شاعرًا شمل الإحسانُ والإصابة والتنقيحُ والإجادة شِعرَه أجمع، «بل قلَّما تجد ذلك في القصيدة الواحدة والخطبة المفردة، ولا بدَّ لكل صانع من فترة، والخاطر لا تستمرُّ به الأوقات على حال، ولا يدوم في الأحوال على نهج. وقدَّمنا لك في صدر هذه الرسالة من شعر أبي نُواس وأبي تمام وغيرهما ما مهَّدنا به الطريق إلى هذا القول، وأقمنا عَلَمًا يُرجَع إليه في هذا الحكم، وأعلمناك أنه ليس بُغيتنا الشهادة لأبي الطيب بالعصمة، ولا مُرادنا أن نُبرئه من مقارفةِ زَلَّة، وأن غايتنا فيما قصدناه أن نُلحقه بأهلِ طبقته، ولا نُقصِّر به عن رُتبته، وأن نجعله رجلًا من فحول الشعراء، ونمنعك عن إحباط حسناته بسيئاته، ولا نُسوِّغ لك التحامُلَ على تقدمه في الأكثر بتقصيره في الأقل، والغضَّ من عامِّ تبريزه بخاصِّ تعذيره.»

(٦-١) التعقيد والغموض

وهو يبدأ بمناقشة التعقيد والغموض، فيرى أن أبا تمام قد بلغ ما لم يبلغه المتنبي، ومع هذا لم يُسقط ذلك شعره، فيقول (ص٣١٥): «ولو كان التعقيد وغموض المعنى يُسقطان شاعرًا لَوجب أن لا يُرى لأبي تمام بيتٌ واحد؛ فإنا لا نعلم له قصيدةً تسلم من بيتٍ أو بيتين قد وفَرَ من التعقيد حظُّهما، وأُفسِد به لفظُهما؛ ولذلك كثر الاختلاف في معانيه، وصار استخراجها بابًا مفردًا ينتسب إليه طائفةٌ من أهل الأدب، وصارت تتطارحُ في المجالس مطارحةَ أبيات المعاني وألغاز المعنى، وليس في الأرض بيتٌ من أبيات المعاني قديمٌ أو مُحدَث إلا ومعناه غامضٌ مستتر، ولولا ذلك لم تكن إلا كغيرها من الشعر، ولم تُفرَد فيها الكتب المصنَّفة، وتُشغَل باستخراجها الأفكار الفارغة. وأنت لا تجد في شعر أبي الطيب بيتًا يَزيد معناه على هذا الغموض، أو تتعقَّد ألفاظه تعقُّدَ أبيات الفرزدق، فأما ديوان أبي تمام فهو مشحونٌ بهذين القسمين: التعقيد والغموض، ومَن أنصف حجزه حضورُ البينة عن المنازعة» (ص٣١٧).

(٦-٢) الإفراط

ويترك الناقدُ التعقيد والغموض ليتحدَّث عن الإفراط، فيرى (ص٣١٧) أنه «مذهبٌ عام في المحدَثين، وموجودٌ كثير في الأوائل، والناس فيه مختلفون؛ فمُستحسن قابلٌ ومستقبِح رادٌّ، وله رسومٌ متى وقف الشاعر عندها ولم يتجاوز الوصفُ حدَّها، جمع بين القصد والاستيفاء، وسَلِم من النقص والاعتداء، فإذا تجاوزها اتسعَت له الغاية، وأدَّته الحالُ إلى الإحالة. وإنما الإحالة نتيجةُ الإفراط، وشُعبةٌ من الإغراق، والباب واحد، ولكن له درَجٌ ومراتب. فإذا سمع المحدَثُ قول الأول:

ألا إنَّما غادَرتِ يا أمَّ مالكٍ
صدًى أينما تذهَبْ به الريحُ يذهبِ

وقولَ آخَر من المتقدمين:

ولو أنَّ ما أبقيتِ مني مُعلَّقٌ
بعودِ ثمام ما تأوَّد عُودُها

جسَر على أن يقول:

أُسَرُّ إذا نَحِلتُ وذاب جِسمي
لعلَّ الرِّيح تَسْفي بي إليهِ

وسَهل لأبي الطيِّب الطريق فقال:

ولو قَلمٌ أُلقِيتُ في شقِّ رأسهِ
من السُّقْم ما غيَّرتُ مِن خطِّ كاتبِ

وقال:

رُوحٌ تَردَّدُ في مِثل الخِلال إذا
أطارت الرِّيحُ عنه الثوبَ لم يَبِنِ
كفى بجِسْمي نحولًا أنني رجلٌ
لولا مُخاطبتي إياك لم ترَني

وأمثالَ ذلك مما لو قصدنا جمعه لم يُعوِز الاستكثارُ منه، ووجد مَن بعدهم سبيلًا مسلوكًا، وطريقًا موطَّأً، فقصَدوا وجاروا، واقتصَدوا وأسرفوا، وطلب المتأخرُ الزيادة، واشتاق إلى الفضل فتجاوز غايةَ الأول، ولم يقف عند حدِّ المتقدم، فاجتذبه الإفراطُ إلى النقص، وعدَل به الإسرافُ نحو الذم. ولما سمع أبو الطيب قولَ قيسِ بن الحَطيم في الطَّعنة:

ملَكتُ بها كفِّي فأنهَرْتُ فَتْقَها
يرى قائمٌ مِن دونها ما وراءَها

نافسَه فقال:

إذا ما ضرَبتَ القِرْنَ ثم أجزتَني
فكِلْ ذَهَبًا لي مرةً منه بالكَلْمِ

فلم يحفل بسوءِ النظم وهلهلة النَّسج لمَّا حصل له الغرضُ في إنهاء الطعنةِ وتوسيع الجُرح.»

وهذا اعتذارٌ ضعيف؛ لأن بيت المتنبي ليس سيئَ النظم مهلهل النسج فحسب، بل وساقط المعنى مُسفًّا، وليس هناك وجهٌ للمقارنة بين بيت ابنِ الحطيم وبيتِ أبي الطيب السخيف. وأين الجرحُ النافذ حتى لَنرى ما وراءه من الجرح يريد الشاعر أن يَكيل له الممدوحُ فيه الذهب؟!

ومع هذا، فإن الجرجاني قد أدخل في الإفراط المعيب أشياءَ لا تدخل فيه، واعتذر عمَّا لا يوجب الاعتذار. من ذلك قول المتنبي نفسه:

وضاقت الأرض حتى كاد هاربهم
إذا رأى غيرَ شيءٍ ظنَّه رجُلَا

وناقدنا يرى «أن الشاعر لم يكترث في هذا البيت بالإحالة، ولم يستقبح أنْ جعَل غيرَ شيء مرئيًّا لما استوفى عند نفسه الغايةَ ولم يبقَ وراءها مرمًى لشاعر، وشجَّعه على ذلك قولُ أبي تمام:

أفيَّ تَنظِم قولَ الزُّور والفنَدِ
وأنت أنزرُ مِن لا شيء في العددِ

فقال: وقد أجاز هذا أن يكون لا شيء أحدًا. وهذا أن يكون معدودًا.»

والقارئ لم يزلَّ يذكر أن الحاتميَّ في مناظرته قد انتقد بيتَ المتنبي قائلًا: «أفتعلم مرئيًّا يتناوله النظرُ لا يقع عليه اسم شيء، وما أراك نظرتَ إلا إلى قولِ جرير:

ما زلتَ تحسب كلَّ شيء بعدهمْ
خيلًا تكرُّ عليكمُ ورِجالَا

فأحَلْتَ المعنى عن جهته، وعبَّرتَ عنه بغير عبارته.»

وهذا القول قد يُفهم من رجلٍ كالحاتمي أفسَد الهوى أحكامَه، وأما الجرجانيُّ فتسليمه بهذا النقد والتماسُه العذر للبيت يدلُّ على انحرافٍ عن فهم المعنى الصادق في هذا البيت، كما يدلُّ على أنه لم يدرك السخرية المرَّة الكامنة في بيت أبي تمام. ومِثل هذين البيتين لا إفراط فيهما، وهما من عيون الشعر.

وكذلك الأمر في معظم الأبيات التي ساقها الناقدُ كأمثلةٍ للإفراط. ويستطيع القارئُ أن يرجع إليها (٣١٨ إلى ٣٢٣) ليرى أن من بينها ما يُعتبر من أجودِ الشعر، وأن الجرجاني مخطئٌ في تسليمه بعيبها. ولو أن أمرها كان بين يدَي ناقدٍ آخَر كالآمدي؛ لَعرَف كيف يذود عنها بدلًا من التماس أشباهٍ لها ونظائر.

(٦-٣) الاستعارة

وينتقل الناقد إلى الاستعارة فيقول (ص٣٢٣): «أما الاستعارة فهي أحد أعمدة الكلام، وعليها المعوَّل في التوسُّع والتصرف، وبها يتوصل إلى تزيين اللفظ، وتحسين النَّظم والنثر. وقد كانت الشعراء تجري على نهجٍ منها قريبٍ من الاقتصاد، حتى استرسل فيه أبو تمام ومال إلى الرخصةِ فأخرجه إلى التعدي، وتبعه أكثرُ المحْدَثين بعده، فوقَفوا عند مراتبهم من الإحسان والإساءة، والتقصير والإصابة. وهذا مما يُميز بقَبول النفس ونُفورها، وينتقد بسكون القلب ونبوِّه، وربما تمكَّنَت الحجج من إظهار بعضه، واهتدَت إلى الكشف عن صوابه وغلطه.» وإذن فالجرجاني لا يعرف مقياسًا لجودة الاستعارة أو رداءتها، والحكم عنده هو قَبول النفس أو نفورها، والتعليل في هذا الأمر غيرُ مستطاع دائمًا، وهو يُناقش بيتَ المتنبي:

مَسرَّةٌ في قلوب الطِّيب مَفْرِقُها
وحسرةٌ في قلوب البِيض واليَلَبِ

وقوله:

تجمَّعَت في فؤاده هممٌ
مِلْء فؤادِ الزمانِ إحداها

وهذان البيتان قد انتقدهما النقاد، ورأوا أن الاستعارة فيهما «لم تجرِ على شبهٍ قريب ولا بعيد، وإنما تصح الاستعارة وتَحسُن على وجهٍ من المناسبة، وطرفٍ من الشبَه والمقاربة.» وهذا نقدٌ صحيح لا يُدفَع، ومع ذلك يحاول الجرجاني أن يعتذرَ عمَّا في هذين البيتين من سخفٍ وإحالةٍ وإغراب؛ بأن يلتمس لهما النظائر، كقول ابنِ أحمد:

ولَّت عليهِ كلُّ عاصفةٍ
هوجاءَ ليس للُبِّها زَبْرُ

وقول أبي رميلة:

همُ ساعدُ الدهر الذي يُتَّقى بهِ
وما خيرُ كفٍّ لا تنوءُ بساعدِ

وقول الكميت:

ولما رأيتُ الدهر يقلب ظهرَهُ
على بطنِه فِعلَ الممعَّكِ بالرملِ

ويأخذ كعادته في القياس، فيريد أن يُساوي بين سخف أبي الطيب عندما قال: إن مفرق رأسِ أخت سيف الدولة كان مَسرةً في قلوب الطِّيب الذي تتضمَّخ به، كما كان حسرةً في قلوب الخوذات التي حُرِمَت من أن تلبسها الفتاة؛ لأن لبس الخوذات من خصائص الرجال لا النساء؛ أقول: أراد أن يساوي بين هذا الكلام وبين قول الكُمَيت: «إن الدهر قلبَ ظهره على بطنه كالممعَّك.» أو قولِ أبي رميلة: «همُ ساعدُ الدهر.» وقول أبي أحمد: «إن الريح التي تهبُّ دون أن يزجرها لبُّها قد ولهت عليه.» وحُجته في ذلك «أن هؤلاء قد جعَلوا الدهر شخصًا متكامل الأعضاء تامَّ الجوارح، فكيف أنكرتَ على أبي الطيب أنْ جعل له فؤادًا في قوله: تجمَّعت في فؤاده (البيت) وهو لا يرى فارقًا بين مَن جعل للريح لبًّا، ومن جعل للطبيب والبيض قلبًا.»

وموضع الضعف عند الجرجاني في هذه المحاجَّة هو منهجه الذي يعتمد على المنطق والقياس، وهو يفعل ذلك بالرغم من أنه قد عثر على المقياس الصحيح عندما قال: «إن المميز هنا هو قَبول النفس ونفورها.» والنفس لا تقبل ولا تنفر جريًا وراءَ قياس، والأمثلة التي أوردها لا يمكن أن يُقاس بعضُها على بعض، فوصف الكميت للزمن «بأنه يقلب ظهره على بطنه كالممعَّك» ليس للاستعارة فيه قيمةٌ ذاتية، وإنما يأتيه الجمالُ والقوة والإيحاء من الصور المتحركة التي يُعبر عنها. والاستعارة كغيرها من طرق الأداء يُحكم على جودتها ورداءتها بقدرتها على التصوير، أما قول أبي رميلة: إنهم ساعد الدهر، والدهر كف، وأيُّ كف لا تستطيع شيئًا بغير الساعد الذي يستقلُّ بها؛ فبالرغم مما فيه من بُعدٍ وغرابة، إلا أنه يؤدي ما يريد الشاعرُ أداءه من إشعارنا بقوة الممدوحين. وفي بيت أبي أحمد، ليس السخفُ في وصف الريح بأن لبَّها لا يزجرها، بل تركها تهبُّ هوجاء معصفة — فهذا وصفٌ قوي واستعارة دالَّة — وإنما السخف يأتيه من المبالغة الكاذبة التي نُحِسُّها في ادعاء الشاعر أن الريح المعصفة قد ولهَت على المرثي. وننتهي إلى بيتَي المتنبي فنرى التكلُّف والإحالة والكذب التي جرَّ إليها الحرصُ على المطابقة. ولئن جاز أن تُقبل حسرة البيض واليلَب، فما أظن نفسًا تقبل «مسرة قلب الطِّيب»، ثم أيُّ مبالغة وإسراف ينبو عنهما الذَّوق السليم في قوله: «إن إحدى هِمم ممدوحه ملء فؤاد الزمن.»

(٦-٤) الزلَل في اللغة

وأخيرًا يصل إلى «ما وقع الطعنُ عليه من جهة الإعراب واللُّكْنة في ناحية الزلل في اللغة، وما ألحق بذلك من النقص الظاهر، والإحالة المبينة، والتقصير الفاحش، فلا بدَّ من تعديده والحكم على كلِّ واحد بعينه؛ لاختلاف مأخذِ حُججه، وتشعُّب القول في قَبوله أو ردِّه» (ص٧٣٢). والناقد يخبرنا أنه لن يُناقش من ذلك إلا «ما يقع عليه الاعتراضُ من أهل العلم، وما يجري التنازعُ فيه بين أهل التحصيل والفَهم»، وأما ما «يُشكِل منه على الشادي والمتوسط» فأمر لا تتَّسع لشرحه الصفحات.

وهو يرى أن المعترضين على الشاعر أحدُ رجلين: إما:
  • (١)

    نَحْوي أو لُغوي لا بصر له بصناعة الشعر، فهو يتعرَّض مِن انتقاد المعاني لما يدلُّ على نقصه، ويكشف عن استحكام جهله، كما بلغَني عن بعضهم أنه أنكر قوله:

    تخطُّ فيها العوالي ليس تَنفذُها
    كأنَّ كلَّ سِنانٍ فوقها قلَمُ

فزعم أنه أخطأ في وصفِ درع عدوِّه بالحصانة، وأسنَّة أصحابه بالكَلال، ومن كان هذا قدر معرفته ونهاية علمه، فمناظرته في تصحيح المعاني وإقامة الأغراض عناءٌ لا يُجدي، وتعبٌ لا ينفع، كأنه لم يسمع ما شحَنَت به العربُ أشعارها من وصف ركض المنهزم، وإسراع الهارب، وتقصير الطالب، وقولهم: إن الذي نجَّى فلانًا كرمُ فرسه، والذي ثبَّطني عنه سرعةُ طرْفِه، ولم يعلم أن مذاهب العرب المحمودة عندهم، الممدوحَ بها شجاعتهم: التفضُّل عند اللقاء، وترك التحصُّن في الحرب، وأنهم يرون الاستظهار بالجنَن ضربًا من الجُبن، وكثرة الاحتفال والتأهب دليلًا على الوهن، ولم يسمع قولَ الأعشى:

وإذا تكونُ كتيبةٌ ملمومةٌ
خرساءُ يَخشى الدَّاعرون نِزالَها
كنتَ المقدَّمَ غيرَ لابسِ جُنَّةٍ
بالسيف تضربُ معلمًا أبطالَها
  • (٢)
    أو معنويٌّ مدقِّق لا علم له بالإعراب ولا اتباعَ له في اللغة، فهو يُنكر الشيء الظاهر وينقم الأمر البيِّن، كما فعل بعضُهم في قوله: لأنت أسودُ في عيني من الظُّلَم، فإنه أنكَر أسودَ من الظلم، ولم يعلم أنه قد يتحمَّل هذا الكلامُ وجوهًا يصح عليها، وأن الرجل لم يُرِد أفعَل التي للمبالغة. وكإنكارِ آخرَ قولَه: فالغيث أبخلُ مَن سعى. فزعم أن «مَن» لا تكون إلا لما يعقل. وهذا الاعتراف يدلُّ على تقصيرٍ شديد في العلم بكلام العرب؛ لأن العرب إذا وصفَت الشيء بصفةِ غيره استعارت له ألفاظه، وأجْرَته في العبارة مجراه؛ فمِن ذلك قول الله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ، وقوله: قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. حاكيًا عن السموات والأرض. وقوله: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. وهو كثيرٌ في القرآن وفي الشعر. وتلك الظاهرة التي لم يستطع هؤلاء المعنويُّون فَهمها، والتي يشرحها هنا الجرجاني؛ هي المعروفة في علم الأسلوب بالتشخيص Personnification.

وإذن، فالذين يتَّهمون المتنبيَ بالخطأ، إما لغويٌّ نَحْوي لا خبرة له بالمعاني، وإما رجلٌ خبير بالمعاني ولكنه لا يُجيد معرفة اللغة وقواعدِها، وسبيلُ الجرجانيِّ إلى مُحاجة كلِّ طائفة هو أن يُبصرها بما غاب عنها من معنًى، أو ما أخطأَت فيه من تفسيرِ لفظ أو تطبيقِ قاعدة، وهذه مناقشاتٌ جزئية يستطيع أن يرجع إليها القارئُ في الكتاب، ومن أمثلتها: جمع بوق على بوقات بدلًا من أبواق، والانتقالُ بالضمائر، وهو ما رأينا عند كلامنا على كسر البناء، وتشديد النون في «لدن». وهي مناقشات تدلُّ على سَعة علم الجرجاني وتبحُّره في معرفة المعاني التي أوردها الشعراءُ قدْرَ تمكُّنه من اللغة وقواعدها.

وانتقادنا على الجرجاني في هذه المناقشات هو ما سبق أن قرَّرناه من حرصه على القواعد وردِّ كل شيء إليها، كما فعَل في مسألة «كسر البناء»، وكما فعَل في تحديده «للإباحات في الشعر» بما يكود رد إلى الأصل، فهذه كلها أصولٌ غير مسلَّم بها من كبار الشعراء الموهوبين الذين يُملي عليهم حسُّهم الفنيُّ ما لا يستطيع أن يُدرك سرَّه ناقدُنا، الذي جنَح إلى المنطق — لسوء الحظ — غيرَ مرة.

وإذن فالجرجانيُّ ناقدٌ عالم صاحبُ أصول، ومع ذلك فإن العلم في الأدب لا يمكن أن يستغنيَ عن الذوق، ولا أن يكفي عن الحس، والنقد الأدبي بابٌ تختلط فيه الثقافةُ بصِدق الحدس. وليس أدلَّ على ذلك من مناقشة المؤلف لمعاني التصغير بمناسبة تصغير أبي الطيب «لُيَيْلة» في بيته الذي أثار جميعَ النقاد:

أُحَادٌ أم سُداسٌ في أحادِ
لُيَيلتَنا المنوطةَ بالتنادِ؟

إذ معنى الشطر الأول أن الليلة كانت طويلةً حتى خُيِّل للشاعر أنها لم تكن ليلةً واحدة، بل سبعًا؛ أي: أسبوعًا كاملًا، وإذا كان هذا طولها فكيف يُصغرها فيقول لُيَيلتنا؟ ولقد سُئل المتنبي في ذلك فقال (ص٣٤٩): «هذا تصغير التعظيم.» والعربُ تفعله كثيرًا، قال لَبيد:

وكلُّ أناسٍ سوف تدخل بينهم
دُوَيهِيَةٌ تصفرُّ منها الأناملُ

أراد لُطفَ مدخلها فصغَّرها. وقال الأنصاري: أنا عُذَيقُها المرجَّب، وجُذَيلها المُحكَّك. فصغَّر وهو يريد التعظيم. وقال آخَر:

يا سَلْم أسْقاك البُرَيقُ الوامضُ
والدِّيَمُ الغاديةُ الفُضافِضُ

ويأبى الجرجاني أن يُسلم بردِّ المتنبي، فيروح يتحدث عن التصغير حديثًا لا يَعْدو الأشياءَ المعروفة، أو حديثًا يدلُّ على أنه لم يستطع أن يتشرَّب لطائفَ التعبير، فيقول:

«أما تصغير اللفظ على تكثير المعنى فغيرُ مُنكَر، وهو كثيرٌ في كلام العرب، لكنْ في احتجاج أبي الطيِّب خلل، من قِبَل أن دُوَيهيَة في هذا الموضع تصغيرٌ في المعنى واللفظ، وكذلك جُذَيلها المحكَّك؛ لأن هذا الجُذيل لا يكون إلا لطيفَ الجِرْم، وإنما هو جذمٌ من النخلة تحتكُّ به الإبل، وكلما زاد تحكُّك الإبل به زاد لطفًا وصِغرًا وضئولة، وإنما وجه القول في هذا أن مِن التصغير ما يكون جاريًا على طريق الاستهانة والتحقير، ومنه ما يُراد به الصغر واللطافة، فأنت إذا قلت: جاءني رُجيلٌ لم تُبالِ بصِغر جسمه، وتفاوُت خلقه، وقِصَر قامته، إذا أردتَ تحقير شأنه والإهوانَ به، ومتى أردتَ الإخبار عن ضئولته ودَمامة خلقه لم تُعرج على حاله ولم تفكر في محلِّه. وقد تقول ذلك لملكٍ على هذا الوجه، وتقول للرجل العادي على الوجه الأول، وقد تفعل ذلك وأنت تريد ذمَّه وإن كان قويَّ الخلق عظيم الشأن. وذكر لَبيد الدويهية على لفظ التصغير من باب اللطافة دون النكاية، فقول أبي الطيب لُيَيلتنا خارجٌ مخرج الذمِّ والهجو، ثم قد أزال الالتباسَ وأفصح عن المراد بقوله المنوطةَ بالتناد؛ إذ قد بيَّن أنه لم يُرد قِصَر مدتها.» وفي هذا الكلام خلط، بل وأخطاء.

فهل المتنبي حقيقةً قد أخطأ في تفسيره دويهية بأنها تصغيرٌ للتعظيم، وهل الجُذيل والعُذيق في قول الأنصاري مقصودٌ بهما التصغير في اللفظ والمعنى؟

وأول ما يبدو لبداهة العقول هو أن الجرجاني قد تخبَّط في شرحه معنى الجُذَيل المحكَّك، والذي أوقعه في هذا التخبُّط هو لفظ «المحكَّك»؛ فقد ظن أن المقصود بالجُذيل هنا العود الذي يُنصَب للإبل الجَرْبَى لتحكك به «وكلما زاد تحكُّك الإبل زاد لطفًا وصغرًا وضئولة»، وإذن فالتصغير مقصودٌ بمعناه. ولو أن الجرجانيَّ احتكم إلى ذوقه لشكَّ في استقامة مِثل هذا الشرح. ومن البيِّن أن الإنسان لا يمكن أن يفتخر بأنه كالجُذيل الذي تتحكَّك به الإبل، وإنما معنى الجُذيل هنا ومعنى مُكبَّره هو ما عَظُم من أصول الشجر، وهو معنًى تورده المعاجمُ إلى جانب المعنى الأول. والتحكُّك هنا ليس معناه تحكُّكَ الإبلِ الجربَى، بل تحكك أصول النخل عندما تَقْوى وتشتدُّ فتُزال عنها أصول الأعناق؛ أي تحكَّك. وهذا دليل القوة والصلابة، فالرجل يفخر بأنه العُذيق المرجَّب؛ أي ضم إلى الخوص وحمى بالأشواك، وأنه الجذيل المحكَّك؛ أي الجذع القوي، وإذن فلا وجه هنا (للَّطافة والصِّغر والضُّئولة)، وإنما هو تصغير التعظيم الذي أدركه المتنبي بحسِّه الصادق، ومعرفتِه المستنيرة.

وكذلك الأمر في دُويهية؛ فالتصغير هنا ليس في المعنى واللفظ كما يقول الجرجاني، وإنما هو تصغيرٌ عاطفي فيه من التعظيم والقوة ما ليس في «الداهية»، ولتقريب ما نُحسُّه في هذه اللفظة ليس لنا بدٌّ من أن نَقيس على جُمل التصغير في لغتنا العاميَّة؛ أمثال قولنا: «حتَّة نتفة راجل»؛ «فحتة نتفة» تُعبِّر عن أمثالِ هذا التصغير العاطفي، وهي لم يزل توحي بما يحمل قائلُها للرجل الذي يتحدث عنه من إكبارٍ وإعجابٍ ورهبة، أو غيرها من المشاعر التي يُحددها الموقف ولا يمكن حصرُها، وكذلك الأمر في «لُيَيلتنا»، فهي تحمل نفس التلوين العاطفي الذي يدلُّ على التهويلُ الذي سمَّاه المتنبي تعظيمًا. وأما الذمُّ والهجو فلا نرى لهما هنا معنًى، والشاعر في صدد الحديث عن ليلة الفراق التي تَشيب لهولِها النواصي، والتي طالت حتى حسبها أسبوعًا، بل الدهر كله.

بقي ما يقوله الجرجانيُّ عن معنى التصغير في قولنا: «جاءني رُجَيل»، وأننا نقصد به أحيانًا تصغيرَ جسمه، وأحيانًا انحطاطَ خلقِه. وهذا كلام مبتذَل لا أصالة فيه.

ونخلص من هذه المناقشة إلى أن التصغير لا يُفيد في لغتنا كما لا يفيد في غيرها من اللغات التحقيرَ دائمًا، ولا التلميحَ فحسب، وإنما قد يفيد ضُروبًا لا حصر لها من العواطف التي نُحسُّ أحيانًا بأنها الفخر، وأحيانًا بأنها الهول، وأخرى بأنها الإكبار والتعظيم، وما إلى ذلك.

إلى شيء] من هذا لم يفطن الجرجاني الذي راح يُخطِّئ المتنبيَ وهو المخطئ. ومن الغريب أن نرى ناقدًا حديثًا كالأستاذ عباس العقاد يفترض أن المتنبيَ قد استعمل التصغير دائمًا للتحقير، ثم يرى فيه مظهرًا نفسيًّا لحقيقةٍ معروفة عن أخلاق المتنبي، وهي الكِبر والتعالي، وتقرأ كلامه في «المطالعات» فتأخذك المغالطةُ الدقيقة، مع أنك لو أمعنتَ النظر لوجدتَ أن مُحاجة هذا الناقد الحديث لا تستقيم؛ وذلك لأنه وإن يكن من الثابت أن المتنبيَ كان رجلًا صَلفًا مغرورًا، إلا أن استعماله للتصغير لا علاقة له بهذا الخُلق، والشاعر لا يستعمل التحقير إلا في الهجاء؛ كقوله: «كُوَيفير» و«الخُويدم» و«الأُحيمق» و«الشُّويعر» و«أُهَيل عصره». والتصغير يعدُّ من أدوات الهجاء الفنية، ونحن لا نرى في استخدامه في هذا الغرض أيَّ دليلٍ على الكبر، وإلا لكان الهجاء نفسُه أدلَّ على تلك الصفة.

ثم إن المتنبيَ — كما رأينا — لم يستخدم التصغيرَ دائمًا للتحقير، وهو نفسُه يقول: إنه قد قصَد منه إلى التعظيم في بيته الذي ناقشناه. ولقد كان من مقتضيات المنهج الصحيح أن يُحصي الأستاذ العقاد أولًا كلَّ ما قصد إليه الشاعرُ من التصغير، وأن يُميز بين مراميه منه، وأن يفصل بين ما يجب أن نعتبره مجردَ أداة فنية، وبين ما يمكن أن تكون له دلالةٌ نفسية، ولو أنه فعل ذلك لكان أقربَ إلى الصواب منه عندما يأخذ حقيقةً نفسية معروفة عن المتنبي، ثم يحاول أن يُفسر بها التصغير، فيأتيَ بمغالطةٍ خطرة يصعب إدراكُها؛ لاستنادها إلى صفات خلقية ثابتة عند الشاعر، والمغالطة تعدُّ كامنةً في إيجاد علاقة بين الأمرين. وهو لا يكتفي بالمغالطة، بل يضيف إلى ذلك المصادَرةَ على المطلوب، فيزعم أن كلَّ تصغيرات المتنبي مقصودٌ بها التحقير.

وتُسلمنا تلك الملاحظات إلى تأييدِ ما سبق أن قلناه، وما سبق أن قاله الجرجاني نفسُه وقاله مِن قبله الآمدي، من أن المرجع النهائيَّ في النقد هو الذَّوق، وأنه لازمٌ حتى لتسديد خُطى العلم والمعرفة المقرَّرة. وها هو الجرجاني يعرف تلك الحقيقة، ويملك من المعلومات اللُّغوية والنحوية قدرًا ضخمًا، ثم يأتي إلى التطبيق فتزلُّ قدمه في بعض الأحيان، وإن يكن قد وُفِّق في أحيان أخرى كثيرة فأتى بالردود المفحِمة، أو أظهر من أسرار الأدب ما خفي على غيره.

وبانتهاء الجرجاني من هذا القسم الذي لم يورد إلا بعضَ الأمثلة الدالة على منهجه؛ ينتهي الكتاب.

ومجمل الرأي في هذا الناقد العظيم هو أنه قد أخذ بمنهجٍ قضائي في معظم كتابه، وأن القسم الذي يحتوي على نقدٍ حقيقي؛ أي موضعيٍّ، هو الجزء الأخير، وناقدنا رغم ذلك قد أورد في الجزأَين الأوَّلَين من كتابه الكثيرَ من الحقائق الهامة عن الأدب، وعن تاريخ الأدب العربي، كما كتب عدة صفحات يجدر بنا أن نتدبَّرها.

ونحن بعدُ نضعه في المرتبة الثانية بعد الآمدي؛ وذلك لأن معظم آرائه العامة عن الحقائق الأدبية قد سبقه إليها صاحبُ الموازنة، الذي نظنُّه قد أثَّر في الجرجاني تأثيرًا قويًّا، ثم إن الآمديَّ قد كتب كتابه كلَّه في النقد الموضعي الدقيق المفصَّل، بينما صاحبُ الوساطة يكتفي بالدفاع المنطقي عن شاعره، ويورد له الأشعارَ الجيدة في مقابل الرديئة، ولكنه لا يُبصِّرنا بمواضع الجودة أو الرداءة، حتى إذا انتهى إلى مناقشة خُصوم الشاعر مناقشةً تفصيلية لم يوفَّق دائمًا في نظراته، وأخيرًا نُفضل الآمدي؛ لأن الجرجانيَّ كان أمْيلَ إلى المنطق والقياس منه إلى تحكيم الذوق والحسِّ الفني، وصاحب الموازنة ربما كان مِن أبعد الناس عن هذا الاتجاه. ولقد سبق أن أشرنا إلى تمهيدِ الجرجاني لكتاب «الصناعتين»، الذي نعتبره نقطةَ تحولٍ مدمرة في تاريخ الأدب العربي والنقد العربي.

وأما الصفات التي نُكْبِرها في الجرجاني، فهي صفات العلماء التي تتميَّز بالتواضع والحذر، والنزاهة وعدم التحيُّز، والعدل. وتلك صفاتٌ تعظم بها قيمةُ كلِّ نقد صحيح.

(٧) اليتيمة

(٧-١) صاحب اليتيمة

يقول ابن خلِّكان عن أبي منصورٍ عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبيِّ النَّيسابوريِّ، وصاحبِ يتيمة الدهر: قال ابنُ بسَّام، صاحبُ الذخيرة، في حقه: «كان وقته راعيَ تَلَعات العلم، وجامعَ أشتات النثر والنَّظم، رأسَ المؤلِّفين في زمانه، وإمامَ المصنِّفين بحكم أقرانه. سار ذِكره سَيرَ المثَل، وضُرِبت له آباطُ الإبل، وطلعَت دواوينه في المشارق والمغارب طلوعَ النجم في الغياهب. تواليفُه أشهرُ مواضعَ، وأبهرُ مَطالع، وأكثرُ راويًا لها وجامعًا من أن يستوفيَها حدٌّ أو وصفٌ، أو يوفي حقوقَها نَظْم أو رَصْف.» وذكَر له طرفًا من النثر، وأورَد شيئًا من نظمه.

وله من التواليف: «يتيمة الدَّهر في مَحاسن أهل العصر»، وهو أكبرُ كتبه وأحسنُها وأجمعها، وله أيضًا كتاب فقه اللغة، وسحر البلاغة، وسرُّ البراعة، ومَن غاب عنه المطرب، ومؤنس الوحيد، وشيءٌ كثير جمع فيها أشعارَ الناس ورسائلهم وأخبارهم وأحوالهم، وفيها دلالةٌ على كثرة اطِّلاعه. وكانت ولادته سنة ٣٥٠ﻫ، وتُوفي سنة ٤٣٩ﻫ، والثعالبيُّ نسبةٌ إلى خياطةِ جلودِ الثعالب وعملها؛ قيل له ذلك لأنه كان فَرَّاءً.

وفي الحق، إن الثعالبي حتى في كتبه «فَرَّاء» يَخيط آراءَ غيره بعضَها إلى بعض، فهو جامعٌ أكثرَ منه ناقدًا أو مؤلفًا. وإنما نقف عند اليتيمة؛ لأن صاحبها قد جمَع في فصلٍ طويل (ج١، من ٨٧ إلى ١٦٤) طائفةً من أخبار المتنبي، وما أُخِذ على شعره من مآخذَ أو رُئِي فيه من محاسن. وهذا الفصل هو الذي يُهمنا الآن؛ لأنه يُمثل الرأيَ الوسط في شعر المتنبي، وينقل إلينا مختصرًا لما ثار حوله من انتقادات. والثعالبي رجلٌ ضعيف الشخصية حتى لَنكاد نجزمُ بأنه لا رأي له في شيء، وإنما هي انتقاداتُ الصاحب والحاتمي، وآراءُ علي بن عبد العزيز الجرجانيِّ وغيرِهم، تخيَّر من بينِها ونظَمَها. ومن الواجب أن نُشير إلى أن الكتاب الصغير المعنوَن «أبو الطيب ما له وما عليه»، الذي نشره محمد علي عطية بمصر سنة ١٩١٥، ليس إلا فصلَ اليتيمة هذا، طُبع بمفردِه.

يبدأ المؤلف فصله بقوله: «هذا المتنبي وإن كان كوفيَّ المولد إلا أنه شاميُّ المنشأ، بها تخرَّج ومنها خرَج، نادرةُ الفلك، وواسطةُ عِقد الدهر في صناعة الشعر، ثم هو شاعرُ سيف الدولة المنسوبُ إليه، المشهورُ به؛ إذ هو الذي جذب بضَبْعِه، ورفع من قدره، ونفَّق سِعر شعره، وألقى عليه شعاعَ سعادته حتى سار ذكرُه سَير الشمس والقمر، وسافر كلامه في البدو والحضَر، وكادت الليالي تُنشده والأيامُ تحفظه … فليست اليومَ مجالسُ الدَّرس بأعمرَ بشِعر أبي الطيب من مجالس الأنس، ولا أقلامُ كتاب الرسائل أجرى به من ألسُن الخطباء في المحافل، ولا لحون المغنِّين والقوَّالين أشغلَ به من كتب المؤلفين والمصنفين. وقد أُلِّفت الكتبُ في تفسيره، وحلِّ مُشكِله وعويصه، وكثرَت الدفاتر على ذِكر جيده ورديئه، وتكلم الأفاضلُ في الوساطة بينه وبين خُصومه، والإفصاح عن أبكارِ كلامه وعيونِه، وتفرقوا فِرَقًا في مدحه، والقدح فيه، والنضحِ عنه، والتعصُّب له وعليه، وذلك أولُ دليلٍ دلَّ على وفور فضله، وتقدُّم قَدمِه، وتفرُّده عن أهل زمانه بملْكِ رقاب القوافي، ورقِّ المعاني، فالكامل مَن عُدَّت سقَطاته، والسعيد من حُسِبَت هفَواته، وما زالت الأملاك تُهجَى وتُمدَح.» وإنه وإن يكن الثعالبي قد أبدى إعجابَه بكلِّ مَن تحدث عنهم في اليتيمة، إلا أننا نستطيع أن نثقَ بكلامه عن المتنبي عندما يُحدثنا عمَّا وصل إليه من مجد؛ وذلك لأن الأدلة كثيرةٌ متوافقة على هذه الحقيقة.

منهجه

ويتبع المؤلفُ هذه المقدمة بذِكر خُطته فيقول (ص٧٩): «وأنا موردٌ في هذا الباب ذِكرَ محاسنه ومَقابحه، وما يُرتضى وما يُستهجن من مذاهبه في الشعر وطرائقه، وتفصيل الكلام في نقدِ شعره، والتنبيه على عيونه وعيوبه، والإشارة إلى غُرَره وعُرَره، وترتيب المختار من قلائده وبدائعه، بعد الأخذ بطرَفٍ من طرُق أخباره ومتصرِّفات أحواله، وما تكثر فوائده وتحلو ثمرتُه. ويتميَّز هذا الباب به عن سائر أبواب الكتاب؛ لتميُّزه عن أصحابها بعلوِّ الشأن في شعراء الزمان، والقَبول التام عند أكثر الخاصِّ والعام.»

وبالنظر في ترتيب موضوعاته نجدُه ترتيبًا واضحًا مستقيمًا. والباب يشتمل على سبع مسائل:
  • (١)

    ذِكر ابتداء أمرِه ومولده ونُبَذ عن أخباره (من ٧٨ إلى ٨٧)، وفيها يقصُّ أمر مولد الشاعر وتجوُّله في شمال الشام وخروجه في السماوي واتصاله بسيف الدولة. وهذا القسم لا منهج فيه ولا دقة، وإنما قوامه عدةُ حكايات جزئية وقعَت للشاعر عند أمير حلب، أو في العراق وفارس. والغريبُ أننا لا نجد في هذا القسم ذكرًا لإقامة الشاعر في مصر غيرَ إشارةٍ واحدة هي: «ولما قدم أبو الطيب من مصر إلى بغداد وترفَّع عن مدح المهلبي …» (ص٨٥).

  • (٢)

    عدة أمثلة لما أخَذ الكُتَّاب كالصاحب وغيرِه من معاني المتنبي يحلُّونها ليأتوا بها في نثرهم أو شعرهم، ثم ما أخذه عنه الشعراءُ المعاصرون؛ كأبي الفرَج الببغاء، والسري، وأبي القاسم الزعفراني، وغيرهم من (ص٨٧ إلى ٩٥).

  • (٣)

    سرقات المتنبِّي من غيره، وذلك «سوى ما أورده القاضي أبو الحسن عليُّ بن العزيز في كتاب الوساطة، فشَفى وكفى، وبالغ فأوفى، وسِوى ما مرَّ ويمرُّ في أماكنها من فصول هذا الكتاب» (من ص٩٥ إلى ١٠٠).

  • (٤)

    بعض ما تكرر في شعره من معانيه. وهذا بابٌ لم نجد له مثيلًا عند النُّقاد، وهو عظيم الأهمية لأن تَكرار الشاعر لبعض المعاني قد يدل على امتلائه بها وانشغالِه بأمرها، حتى لنستطيع أن نرى فيها أفكارَه الأساسية (من ص١٠٠ إلى ١٥٠).

  • (٥)

    ما يُنعى على أبي الطيب من معايبِ شعره ومقابحه (من ١٠٥ إلى ١٢٦)، وفيها يتحدث عن قُبح المطالع، وإتباع الفقرةِ الغرَّاء بالكلمة العوراء، واستكراه اللفظ وتعقيد المعنى، وعسف اللغة والإغراب، والخروج على الوزن، واستعمال الغريب الوحشي، والركاكة والسَّفسفة بألفاظ العامة ومعانيهم، وإبعادِ الاستعارة والخروجِ بها عن حدِّها، والاستكثارِ من قول ذا، والإفراط في المبالغة، والخروج إلى الإحالة، وتكرير اللفظ في البيت الواحد، وإساءة الأدب بالأدب، والإيضاح عن ضَعف العقيدة الدينية، والغلط بوضعِ الكلام في غير موضعه، وامتثال ألفاظ المتصوِّفة، والخروج عن طريق الشعر إلى طريق الفلسفة، واستكراه التخلُّص، وقُبح المطالع. وهذه كلها انتقاداتٌ تلَقَّطها الثعالبي عن النقاد الذين تحدثنا عنهم فيما سبق، ففضلُه فيها فضلُ الجامع فحسب.

  • (٦)

    المحاسن والروائع، والبدائع والقلائد، ومنها حُسن المطلع، وحسن الخروج والتخلُّص، والتشبيبُ بالأعرابيات، وحُسن التصرف في سائر الغزل، وحسن التشبيه بغير أداته، والإبداع والتمثيل بما هو جنسُ صناعته، والمدح المُوجَّه، وحسنُ التصرف في مدح سيف الدولة، والإبداع في سائر مدائحه، ومخاطبة الممدوح من الملوك بمِثل مخاطبة المحبوب والصديق، واستعمالُ ألفاظ الغزل والنسيب في أوصاف الحرب والجِد، وحُسن التقسيم، وحسن سياقة الأعداد، وإرسال المثَل في أنصاف الأبيات، وإرسال المثلَين في مِصراعَي البيت الواحد وإرسال المثل، والاستملاء والموعظة وشكوى الدهر وما يجري مجراها، وافتضاضُه أبكارَ المعاني في المراثي، والإيجاعُ في الهجاء، وإبراز المعاني اللطيفة في ألفاظٍ رشيقة، والرمز بالطُّرَف والمُلَح، وحُسن المقطع (ص١٣٦ إلى ١٦٣). ولعل هذا القسم هو خيرُ ما في الباب كلِّه، أو لعل فضل المؤلف فيه أوضح؛ لأن كثيرًا ممَّا ذكره لم تَلْقه عند النقاد السابقين، وإن كان هذا لا يكفي لكي ننسبه إلى الثعالبي؛ لأنه ربما يكون قد أخذه عن نُقادٍ ضاعت كتبهم.

  • (٧)

    وأخيرًا يأتي بذِكر آخِر شعره وأمره في صفحتين (ص١٦٣ و١٦٤). يُحدثنا فيهما عن المرحلة الأخيرة من حياة الشاعر وقتلِه، ثم يختتم بقوله: «هذا، وقد جمَح بي القلمُ في إشباع هذا الباب وتذييله، وتصييره كتابًا برأسه في أخبار أبي الطيِّب، والاختيار من شعره، والتنبيه على مَحاسنه ومساويه. وقد كان بعض الأصدقاء سألني عمل ذلك، وله الآن فيه كفاية، وبه غُنْية.» وهذا — كما نرى — منهجٌ واضح في التأليف، يبدأ ببعض أخبار الشاعر، ثم يورد سرقاتِ الغير منه وسرقاتِه من غيره، ثم ما تكرَّر في شعره من معانٍ، وينتقل إلى ما عِيب على شعره، وما رُئِي فيه من محاسن، ويختتم بآخر أخبار الشاعر وقتله.

ونحن نترك جانبًا ما نقَله من أخبار الشاعر؛ لأنه ليس نقدًا، وكذلك نترك مسألةَ السرقات؛ لأننا قد تكلمنا عنها فيما سبق، وسنتكلم عنها فيما بعدُ، وبذلك لا يتبقى لنا غيرُ ثلاث مسائل نُناقشها مناقشة سريعة؛ وهي:
  • (١)

    تكرير الشاعر لبعض المعاني في أبياته المختلفة.

  • (٢)

    مَساوئ شعره.

  • (٣)

    مَحاسنه.

(٧-٢) المعاني المتكررة في شعر المتنبي

قلنا: إن تَكرار الشاعر لبعض المعاني قد يدلُّ على امتلائه بها وانشغاله بأمرها، حتى لتستطيع أن ترى فيها أفكارَه الأساسية، وإذن فلهذا التَّكرار دلالتُه. ومع ذلك نرى الثعالبيَّ لا يفطن إلى شيءٍ من تلك الدلالة، أو على الأقل لا يشير إلى شيء منها، وإنما يورد الأبياتَ المتحدة المعنى أو المتقاربة في صمت، بحيث لا ندري ماذا يقصد بذلك، بل لا نُحس بحُكمه على هذا التَّكرار: أهو عيبٌ في الشاعر أم حسَنة له؟ وفي هذا تعزيزٌ لما قلنا عن هذا المؤلف من ضعف الشخصية وفقر التفكير.

تَكرار بعض المعاني قد يدلُّ على اهتمام الشاعر بها أو لُصوقها بنفسه، ونحن نحتاط في التعبير «بقد» و«بعض»؛ لأننا ننظر فيما أورده الثعالبي فنرى من بينها معانيَ مشتركةً عامة تصرفَت فيها الشعراء حتى أصبحَت من تقاليد الشعر عند العرب. ومن هذا النوع الكثيرُ من معاني المدح؛ كوصفهم الممدوحَ بالكرم والشجاعة معًا، والمقابلة بين الصفتين.

هو الشجاعُ يعدُّ البخل من جُبُنٍ
وَهْو الجوَاد يعدُّ الجُبْن من بَخَلِ

فهذا معنًى شائعٌ سبَق إليه الشعراءُ في لفظٍ خيرٍ من لفظ المتنبي، فقال أحدهم:

يجود بالنفس إنْ ضنَّ الجوادُ بها
والجودُ بالنفس أقصى غايةِ الجودِ

وقال أبو تمام:

أيقنتُ أنَّ من السماح شجاعةً
تُدْمي وأنَّ من الشجاعةِ جُودَا

وإذن، فلا غرابة في أن يُكرر المتنبي هذا المعنى فيقول في قصيدة أخرى:

فقلتُ إنَّ الفتى شجاعتُه
تُريه في الشحِّ صورةَ الفرَقِ

وكذلك القول بأن الممدوح يجلُّ عن كل وصف، أو أنه عندما برَأ من سقمه بَرَأت الأرض كلها، أو أن كل مدحٍ له لا يوفيه حقَّه، أو أن الناس قد جُمعوا في رجلٍ واحد هو الممدوح؛ فكلُّ هذه المعاني إما مشتركةٌ عامة أو في حكم المشتركة العامة، كما هو الحال بالنسبة لبيت أبي نُوَاس:

ليس على الله بمُستنكَرٍ
أن يجمَع العالمَ في واحدِ

فقد شاع هذا المعنى بين الشعراء حتى أصبح كالمشترك العامِّ سواء؛ ولهذا لم يكن في تكرير المتنبي لكلِّ تلك المعاني أيُّ دلالة.

وإنما يدل التَّكرار على تأصُّل المعاني في الشاعر واتصالها بنفسه عندما تكون معانيه هو، أو العبارة عن حالاته النفسية؛ كقوله:

وأنت المرءُ تُمرِضه الحشايا
لِهمَّتِه وتَشْفيه الحروبُ

فهو يُكرر هذا المعنى؛ لأنه يعبر بذلك عن معنى نفسِه فيقول:

وما في طِبِّه أنِّي جوَادٌ
أضرَّ بجِسمه طولُ الجَمامِ

وكلنا يعلم طبيعةَ هذا الشاعر التي كانت «كأمواج البحر إن تستَرِح تَمُت»؛ ومن ثَم كان من الطبيعي أن يشكوَ الخمول والدَّعَة، وتصبوَ نفسُه إلى المغامرة والحرب. ولكم من مرةٍ أحسَّ الشاعر بالملل، وبخاصة أيام إقامته بمصر! فكان هذا المعنى معنى نفسِه، أو إن شئتَ فقل: إنه يُمثل في نفس الشاعر مثَلًا أعلى يُضنيه فقدانه.

وكذلك قوله:

جرَحَت مجرَّحًا لم يبقَ منهُ
مكانٌ للسيوفِ وللسهامِ

فهذا أيضًا معنًى كان من الطبيعي أن يُكرره الشاعر فيقول:

رماني الدهرُ بالأرزاء حتى
فؤادي في غشاءٍ من نِبالِ
فصِرتُ إذا أصابتني سهامٌ
تكسَّرَت النِّصالُ على النصالِ

نظرة تشاؤم أمْلَتها حياةُ الشاعر وما كان فيها من عجزٍ عن تحقيقِ ما يطمح إليه من ملكٍ وولاية. ولكَم من مرةٍ تُحس بهذا الحزن وذلك التشاؤم في شعره، وبخاصةٍ في شعره الذي قاله في مصر عندما نظر فرأى نفسَه يمدح العبد كافورًا واقفًا، بعد أن كان لا يمدح سيفَ الدولة نفسَه إلا جالسًا! وكل ذلك من أجل أملٍ لم يتحقَّق.

ومن هذه المعاني النفسية أيضًا قوله:

ذلَّ مَن يغبطُ الذليلَ بعيشٍ
رُبَّ عيشٍ أخفُّ منه الحِمامُ

إذ يُكرره فيقول:

عِشْ عزيزًا أو مُتْ وأنت كريمٌ
بين طَعْن القَنا وخَفْقِ البُنودِ

فهذا أيضًا مثلٌ أعلى للمتنبي البدوي الشجاع العزيز النفس، وفي تَكراره له دليلٌ على انشغاله به، ومثل ذلك شَكْواه من الألم الذي يجده ذَوو الطموح لبُعد الشُّقة بين ما يرجون وما يصلون إليه. وهذا ألمٌ قد استشعره أبو الطيب غيرَ مرة حتى لازم نفسه، وكان من الطبيعي أن يرِدَ على لسانه في أكثرَ من موضع؛ قال:

وأتعبُ خلقِ الله مَن زاد همُّه
وقصَّر عمَّا تشتهي النفسُ وجْدُه

ثم قال في موضع آخر:

لحى اللهُ ذي الدنيا مَناخًا لراكبٍ
فكلُّ بعيد الهمِّ فيها معذَّبُ

ولربما استطعنا أن نُلحق بهذا التَّكرار ذي الدلالة النفسية ترديدَه للاعتزاز بالخلق وقَصْر الجمال عليه؛ كقوله:

وما الحُسنُ في وجه الفتى شرفًا له
ولكنَّه في فعله والخلائقِ

وقريبٌ منه قوله:

يحبُّ العاقلون على التصافي
وحبُّ الجاهلين على الوسامِ

ثم قوله في وصف الخيل:

إذا لم تُشاهد غيرَ حُسن شِيَاتِها
وأعضائها فالحُسن عنك مَغيبُ

فهذا أيضًا معنًى ربما كان وثيقَ الصلة بنفسِ المتنبي الذي لم يكن يعتزُّ بغير خُلُقه وشِعره ومواهبه.

وأخيرًا، قد يكون للتَّكرار دلالةٌ فنية؛ فعندما تروق الشاعرَ الصورةُ التي يقع عليها تُعاوده في موضعٍ آخر؛ وذلك كقوله:

إذا ضوءُها لاقى مِن الطير فُرجةً
تَدوَّر فوق البيض مثل الدَّراهمِ

إذ عاد إلى نفس الصورة في بيته:

وألقى الشَّرق منها في ثيابي
دَنانيرًا تفرُّ من البَنانِ

وأخيرًا قد يكون للتَّكرار دلالةٌ تاريخية؛ إذ يُبصرنا بصفةٍ تميز بها أحدُ الممدوحَين فكرَّرها الشاعر في مدائحه المختلفة، وذلك كوصفِ المتنبي لكافور بأنه عِصامي، أو أنه ذكيٌّ نافذ البصيرة.

وإذن فالتَّكرار الذي لا يدل على شيء عندما يتناول معانيَ مشتركة عامة قد يكون عظيمَ الأهمية في تبصيرنا بنفسية الشاعر أو مُثلِه العليا، كما قد يدلُّ على إعجابه ببعض الصور الفنية، وأخيرًا قد يكون وسيلةً لمعرفة بعض صفات الممدوحين الحقيقية.

هذا بعض ما يمكن استنباطه من تَكرار المتنبي لبعض معانيه. وأما الثعالبي فقد جمَع تلك المعانيَ دون أن يدرسها أو أن يوضِّح لجمعها حكمة.

(٧-٣) مساوئ المتنبي ومحاسنه

قلنا: إن المساوئ التي عدَّدها الثعالبي لم يَجدها بنفسه، وإنما تلقَّطها من رسالة الصاحب في الكشف عن مساوئ المتنبي، أو من وساطة الجرجاني، أو من كتب النقد الأخرى. ونحن لا نريد أن نعود إليها بعد أن عرَضْنا لها في فصل «الخصومة»، وورودُها في اليتيمة لا يُفيدنا جديدًا، اللهم إلا أن نستنتجَ أنها كانت في ذلك الحين قد قُبِلَت وسلَّم بها الجميع؛ لأن الثعالبيَّ كما قلنا يُمثل الرأي المتوسط في كل شيء. وهنا يكون لقوله «الخروج عن طريق الشعر إلى طريق الفلسفة» — كإحدى المساوئ — دلالة تاريخية لها قيمتها؛ إذ يشهد بأن الرأي الغالب في ذلك العصر (أواخِر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع) كان لا يزال يَفصل الشعرَ عن الفلسفة، ويرى في الخروج عن «طريق الشعر إلى الفلسفة» عيبًا يحطُّ من قيمة الشعر. ولا يظن القارئ أن ما يعيبه الثعالبي هو استعمال المصطلحات الفلسفية في الشعر فحسب؛ فإنه يعيب أيضًا الأفكار الفلسفية حتى ولو كانت مستقيمةَ الصياغة، عادية الألفاظ؛ كقول المتنبي:

والأسى قبل فُرْقة الروح عجزٌ
والأسى لا يكون بعد الفراقِ

وقوله:

إلْفُ هذا الهواءِ أوقَعَ في الأنـ
ـفُسِ أن الحِمامَ مُرُّ المذاقِ

وأمثال ذلك من المعاني العلائية النغمة. وأما المحاسن فقد جمع فيها الثعالبيُّ بين المحاسن والخصائص، كما خلط بين المعاني وتجويد العبارة عنها؛ ولهذا نراه يتحدث عن الإبداع في المدح إلى جوار «مخاطبة الممدوح بمثل مخاطبة المحبوب»، مع أن الإبداع إن كان من محاسن الشاعر، فإن استعمال لُغة الحب في المدح من خصائصه العظيمة الأهمية في دلالتها على نفسيته، وكذلك نراه يعدُّ «التشبيب بالأعرابيات» من محاسنه، مع أن هذا من معانيه التي تدلُّ على اتجاهٍ خاص في ذوق الشاعر، الذي فضَّل الجمال المطبوع على الجمال المصنوع، والتشبيب بالأعرابيات بعدُ شيءٌ، وتجويد ذلك التشبيبِ شيءٌ آخر.

ونحن لا نريد أن نستعرض كلَّ ما عدَّده الثعالبي؛ فهذا أشبهُ بالنقط التي يضعها المدرسون لطلبة المدارس منه بالنقد المفصَّل المعلل. ومن السهل على القارئ أن يعود إلى ذلك في اليتيمة، وإنما نقف عند ملاحظةٍ واحدة لأهميتها وجِدَّتها، وهي قوله: «إن المتنبيَ يخاطب الممدوح من الملوك بمثلِ مخاطبة المحبوب، ثم استعمال ألفاظ الغزَل والنسيب في أوصاف الحرب والجد.»

يقول الثعالبي عن مخاطبة الممدوح بمِثل مخاطبة المحبوب: إن هذا مذهبٌ تفرَّد به المتنبي، واستكثر من سلوكه؛ اقتدارًا منه وتبحرًا في الألفاظ والمعاني، ورفعًا لنفسه عن درجة الشعراء، وتدريجًا لها إلى مُماثلة الملوك، في مثل قوله لكافور:

وما أنا بالباغي على الحبِّ رِشوةً
ضعيف هوًى يبغي عليه ثوابُ
وما شئتُ إلا أن أدلَّ عواذلي
على أن رأيي في هواكَ صوابُ
وأُعلِمَ قومًا خالَفوني فشَرَّقوا
وغرَّبتُ أنِّي قد ظفرتُ وخابوا
إذا نلتُ منك الوُدَّ فالمالُ هيِّنٌ
وكلُّ الذي فوق التراب ترابُ

وقوله له:

ولو لم تكن في مصرَ ما سِرتُ نحوَها
بقلبِ المَشوقِ المستهام المتيَّمِ

وقوله لابن العميد:

تفضَّلَت الأيامُ بالجمعِ بيننا
فلمَّا حَمِدنا لم تُدِمنا على الحمدِ
فجُدْ لي بقلبٍ إن رحلتَ فإنني
مُخلفُ قلبي عند مَن فضلُه عندي

وقوله لِعَضُد الدولة:

أروحُ وقد ختمتُ على فؤادي
بحبِّك أن يحلَّ به سِواكا
فلو أني استطعتُ حفظتُ طَرْفي
فلم أُبصِرْ به حتى أراكا

وكقوله لسيف الدولة:

ما لي أُكتِّم حبًّا قد بَرى جسَدي
وتدَّعي حُبَّ سيفِ الدولة الأممُ
إن كان يجمعُنا حبٌّ لغُرَّتِه
فليتَ أنَّا بقَدْر الحُب نقتسمُ
يا أعدلَ الناس إلا في مُعاملتي
فيك الخِصامُ وأنت الخَصمُ والحكَمُ
يا مَن يعزُّ علينا أن نُفارقهم
وِجْدانُنا كلَّ شيء بعدَكم عدَمُ

… إلخ (٣٩ وما بعدها).

ويقول عن «استعمال» ألفاظ الغزل والنسيب في أوصاف الحرب والجِد (ص١٤١ وما بعدها): إن هذا أيضًا مذهبٌ لم يُسبَق إليه، وتفرَّد به، وأظهر فيه الحَذْق بحُسن النقل، وأعرَب عن جودة التصرُّف والتلعُّب بالكلام؛ كقوله:

أعلى الممالكِ ما يُبنى على الأسَلِ
والطعنُ عند مُحبِّيهنَّ كالقُبَلِ

وقوله، وهو مِن فرائده:

شجاعٌ كأنَّ الحرب عاشقةٌ لهُ
إذا زارها فدَّتْه بالخيلِ والرَّجْلِ

ويورد المؤلف أمثلةً أخرى غيرَ قريبةِ الدلالة على ما يريد.

هذا ما يقوله صاحبُ اليتيمة، والذي لم يزلَّ فيه أن له فضْلَ ملاحظة الظاهرة ثم فضلَ تعليمها. وفي الأمثلة التي يوردها ما يقطع بصحةِ ما يقول. وأما التعليل فواضحُ النقص؛ وذلك لأنه لا يكفي أن نرى في ذلك مهارةً فنية، ورغبةً من الشاعر في رفع نفسه إلى مرتبة ممدوحه؛ فتلك ظاهرةٌ أعمق في تاريخ الشاعر وطبيعته النفسية ممَّا ظنَّ الثعالبي.

وأول ما نَلفت النظرَ إليه هو ما لاحظه صاحبُ اليتيمة نفسُه من أن استخدام لغة الحبِّ في المدح والحرب مذهبٌ انفرد به المتنبي. وهذا حق؛ لأننا لم نعهد ذلك من شعراء العرب، جاهليِّين كانوا أو إسلاميين، وإذن فتفسيره لا يمكن أن نجدَه إلا في حياة الشاعر وطبيعته النفسية، كما قلنا.

والذي نراه في حياة المتنبي وشعره أنه قد أخلص لسيف الدولة المودَّة، وأنَّ نغمات الحب في مدحه له صادقة، وأن تلك المودة التي دامت تسعَ سنوات قد انتهت بأن جعلَت استخدام لغة الحبِّ في المدح إحدى خصائص الشاعر. ثم إن أبا الطيب كان رجلًا قويَّ الانفعال، سريعَ التأثر، عنيفَ الإحساس. زخَرَت نفسُه ففاضت. ولغة الحب من الناحية النفسية هي منفذُ كلِّ شعور حار.

ومن ثَم جاء مدحه أشبهَ بالغزَل، كما جاء حديثه عن الحرب عشقًا؛ فالطعن كالقُبَل، والحرب «كأنها عاشقة للشجاع». وأخيرًا كان شاعرُنا رجلًا طَموحًا، والطَّموح من طبيعته أن يخلط بين الغايات والوسائل، وإذا اجتمعَت السذاجةُ إلى الطموح كما حدث عند المتنبي، لم يكن غريبًا أن يحبَّ الرجال الذين رأى فيهم وسائلَ إلى غايته، وأن يُسرف في هذا الحب عندما تُخيِّل إليه سذاجتُه أن تلك الغايات المحبوبة قد تحقَّقَت أو أصبحَت في حكم المتحققة.

وأما عن رغبته في أن يرفع نفسه إلى مرتبةِ ممدوحيه بمخاطبته لهم بلغة الحب، فأمرٌ قد يكون صحيحًا في مدحه لكافور وابن العميد وعضد الدولة. وأما مدحُه لسيف الدولة فقد كان مدحًا صادقًا لا تَكلُّف فيه ولا التواء، وهو صادرٌ حقًّا عن قلب الشاعر الذي رأى في أمير حلب رجلًا شهمًا كريمًا. وقد زاده حبًّا له كونُه عربيًّا شجاعًا في زمنٍ غلب فيه الأعاجم، وسيطَروا على العرب في كل مكان، إلا في حلب حيث كان يُرابض سيف الدولة يحمي الثغور ضدَّ الروم، ثم يُخضع القبائل الثائرة، ويُتبع النُّصرة بالعفو ليضمَّهم إلى جانبه في دفاعه المجيد ضد أمراء بيزنطة أعداء العرب جميعًا. ولقد ترك المتنبي أميرَ حلب مُغضبًا، ومكَث في مصر عند أعداء بني حمدان أربعَ سنوات، وعاد الشاعر إلى العراق، ومع ذلك لم يهجُ قط صديقَه ولا عدا في ذكره له حدَّ التعاتُب الذي تفاوَت لينًا وعنفًا بتفاوُت حالات الشاعر النفسية، بل لقد رأيناه يرثي خولةَ رثاءً مؤثرًا يدلُّ على حزنٍ حقيقي ومشاطرةٍ لأخيها في ألمه، ودعاه سيفُ الدولة إلى أن يعود إلى جواره فاعتذر، ومع ذلك لم يكتم فرحَه بخطابِ تلك الدعوة الكريمة التي أتته من صديقه القديم. ولقد عبَّر عن حزنه لفراق ذلك الصديق غيرَ مرة في شعرٍ صادق جميل مؤثر، وبخاصة أثناء إقامته بمصر؛ كقوله:

كفى بك داءً أن ترى الموتَ شافيَا
وحسْبُ المَنايا أن يكُنَّ أمانيَا
حبَبتُك قلبي قبلَ حبِّك مَن نأى
وقد كان غدَّارًا فكُن أنت وافيَا
خُلِقتُ أَلوفًا لو رجعتُ إلى الصِّبا
لفارقتُ شَيبي مُوجَع القلب باكيَا

وقولِه في قصيدة أخرى:

أغالبُ فيك الشوقَ والشوقُ أغلَبُ
وأعجبُ من ذا الهَجْرِ والوَصلُ أعجَبُ
أما تغلطُ الأيامُ فيَّ بأن أرى
بَغيضًا تُنائي أو حبيبًا تُقرِّبُ

وأخيرًا قوله:

أودُّ من الأيام ما لا تودُّه
وأشكو إليها بيننا وهي جُندُه
أبى خُلق الدنيا حبيبًا تُديمهُ
فما طلبي منها حبيبًا تردُّه

وإذن، فقد كان حبُّه لسيف الدولة حبًّا مخلصًا فاضت به نفسُه، وإنما تكلُّف وساقَتْه الدوافع الخفية عند مدحه لغيرِ هذا الأمير العظيم، كما ذكرنا. وهنا تصحُّ أيضًا ملاحظةُ الثعالبي الأخرى عن مقدرة الشاعر الفنية في تصريف المعاني، وإجادة النقل، والتلاعُب بالكلام.

وهذه الملاحظات تحلُّ — بعدُ — الكثيرَ من المشاكل التي نُثيرها اليوم حول الشاعر؛ فلقد رأينا الأستاذ محمود شاكر في كتابه، الذي نشَره عن المتنبي كعددٍ خاص من أعداد المقتطف، يزعم أن المتنبيَ كان يُحب خولة حبَّ رجلٍ لامرأة، وهو يستدل على ذلك بشعر الشاعر، وبالقصيدة التي قالها في رثائها بنوعٍ في الرثاء العادي، وها نحن نرى الثعالبي يُنبهنا إلى استخدام المتنبي للغة الحب لا في رثاء خولةَ فحسب، بل وفي مدح سيف الدولة وكافورٍ وابن العَميد وعَضُد الدولة، فهل كان المتنبي يحبُّ كل هؤلاء أيضًا حبًّا شبه حبِّه لخولة؟ والثعالبي لا يقف عند هذا الحد، بل يُنبهنا فوق ذلك إلى وصف الشاعر للحرب والطعن بلغة العشق، والشاعر لم يكن طبعًا يحبُّ الحرب حبًّا من نوعِ ذلك الحب الذي يزعم الأستاذ شاكر أنه قد وجد بين المتنبي وأخت الأمير.

ثم إن صدور المتنبي عن هذا المذهب في المدح وانفرادَه به يدلُّ على أن الرجل لم يكن شاعرًا مرتزقًا خسيسًا، كما يزعم البعض. والناظر في مدائحه يرى أن شخصية الشاعر لم تخلُ منها قط، وأن مدحه الجيد هو ما قاله في سيف الدولة، وهو مدحٌ أشبه بالحب منه بالتملُّق، وأما مدائحه الأخرى، وبخاصةٍ كافورياته، فخيرُ ما فيها ليس مدْحَ كافور، وإنما هو شعر المتنبي الشخصي، أو إشاراته إلى سيف الدولة.

هذه بعض النتائج التي نستطيع أن نستخلصها من ملاحظات الثعالبي القيِّمة، نكتفي بها وإن كنَّا نظن أن فيها مِفتاحَ فهمِنا لنفسية هذا الشاعر العظيم الذي ملأ الأرض وشغَل الرجال.

وبانتهائنا من الحديث عن «اليتيمة» ننتهي من الحديث عن النقد المنهجي، الذي قدَّم لنا الثعالبيُّ في فصله هذا عن المتنبي نموذجًا له، عندما يختصر ويجمع ويُبوِّب في نقطٍ موجزة وإشارات عابرة.

هذه خاتمة النقد المنهجي، نتركه لنرى كيف طغَت روحُ العلم بعد ذلك عند أبي هلالٍ العسكري، فحولت النقد إلى بلاغة، وعاد بنا إلى منهج قُدامة العقيم، وكان في ذلك الكارثةُ التي لم تقف أضرارُها عند حد، والتي أتلفَت الذَّوق الأدبي، وأماتت الأدب إلى أيامنا هذه.

١  أي إن المتنبيَ قد سُبق إليها، وأنه قد اختارها من بين معاني الشعراء السابقين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤