الفصل السابع

تحول النقد إلى بلاغة

(١) سرُّ الصناعتين لأبي هلالٍ العسكري

رأينا في الفصول السابقة كيف سبق النقدُ التاريخَ الأدبي واتُّخذ أساسًا له، حتى إذا ظهر مذهبُ البديع ووضح لابن المعتز خصائصه؛ قامت المعركةُ حوله. وقد انقسم العلماء والأدباء فريقين: فريقٍ يتعصب له، وفريقٍ يتعصب ضده؛ ممَّا مهَّد السبيل للنقد المنهجي الذي عثرنا به في الموازنة، ثم ظهر المتنبي وشغَل الناس، فقامت عاصفةٌ أخرى انتهت «بالوساطة»، وهاتان الحركتان هما الوحيدتان في تاريخ الأدبي العربي، وبفضلهما تكوَّن النقد. ولقد لاحظنا كذلك أننا بالمرور من الآمديِّ لعلي بن عبد العزيز الجرجاني نجد أن المنهج قد تغيَّر؛ إذ أصبحت النزعة العقلية هي المسيطرة، وإن احتفظ الذوقُ ببعض دوره.

وإلى جانب هذا التيار، رأينا محاولةَ قدامة بن جعفر وضع «علمٍ للشعر» يصدر فيه عن منطقٍ شكليٍّ مجرد، وقلنا إن هذه المحاولة لم تؤثر في النقد الذي ظل عربيًّا خالصًا، اللهم إلا أن يكون ذلك في إمداده بالاصطلاحات الجديدة، وحتى في هذه المسألة لاحظنا أن النقادَ كالآمديِّ وعلي بن عبد العزيز الجرجاني وغيرِهما قد أخذوا بالاصطلاحات التي وضَعها ابن المعتز كلما تعارَض قدامةُ معه.

لم يلقَ إذن كتاب «نقد الشعر» نجاحًا كبيرًا، بل لقد تصدَّى له نقادٌ كالآمدي فألفوا في إيضاحِ ما فيه من خطأ، ومحاربةِ ما قصد إليه من توجيه الأدب نحو الفلسفة النظرية المنطقية. ولكن الزمن سار سيرته، وأخذَت فلسفة اليونان تغلغل شيئًا فشيئًا في البيئات الأدبية، كما أخذ الأدب يتطور نحو الصنعة البديعية، فوُجد مجالٌ واسع لدراسة تلك الأوجه الجديدة والمحسنات المبتكَرة. وقد عزَّزَت تلك الدراسةُ فسادَ الذوق وفقره، وإذا بالنقد ينصرف عن النظر في الموازنة بين الشعراء والوساطة بينهم وبين خُصومهم، إلى تقسيمِ أوجه البديع وشرحِ الطرق البلاغية. وكان علي بن عبد العزيز الجرجاني آخِرَ النقَّاد، والباب الذي يُسلمنا إلى كتب البلاغيين.

وأخيرًا، ظهر أبو هلال العسكري الذي فرَغ من تأليف كتابه «سر الصناعتين» في شهر رمضان سنة أربعٍ وتسعين وثلاثمائة. وكان هذا الكتاب فيما نرى نقطةَ تحولِ النقد إلى بلاغة.

(١-١) إلمام العسكري بما قاله النقادُ السابقون

والذي لم يزلَّ فيه أن أبا هلال كان مُلمًّا بمعظمِ ما قاله النقادُ قبله، وهذا واضحٌ في كتابه؛ فهو مثلًا متأثرٌ بابن قُتيبة في «تمييز الكلام»؛ إذ يأخذ بنظرية اللفظ والمعنى التي عرَضْنا لها فيما سبق، وهو يأخذ عن الآمدي أمثلةً كثيرة لما أخطأ فيه أبو تمام (ص١١٤ وما بعدها، طبعة صبيح)، وعن علي بن عبد العزيز الجرجاني يأخذ الرأيَ القائل بأن لغة الشعر يجب ألا يكون اللفظ فيها «وحشيًّا بدويًّا، ولا مبتذَلًا سوقيًّا» (ص١٤٣، طبعة صبيح)، كما يستعير منه أمثلةً لما ينتقده من شعر المتنبي (ص١١٩ مثلًا).

والذي لم يزل فيه أيضًا هو أن أبا هلال قد أعلن في غيرِ موضع من كتابه نفورَه من مذهب الكلاميِّين، فقال (ص١١): «وليس الغرضُ من هذا الكتاب مذهبَ المتكلمين، وإنما قصدتُ به مقصدَ صُنَّاع الكلام من الشعراء والكتاب.» وقال (ص١٣٩) في باب «كيفية نظم الكلام وفضيلة الشعر وما ينبغي لتأليفه»: «تخط ألفاظ المتكلمين من الجسم والعرَض، والكون والتأليف والجوهر؛ فإن ذلك هجنة.»

ونضيف إلى ذلك أنه عندما يتعارض قدامةُ مع غيره من النقاد العرب الذين اعتمَدوا مصطلحات ابن المعتز وآراءه في البديع، يأخذ العسكريُّ برأي النقاد، ويردُّ رأي قدامة، فيقول مثلًا (ص١٥٦): «وقال قدامة: لا أعرف المعاظلة إلا فاحشَ الاستعارة، مثل قول أوسٍ:

وذاتِ هدمٍ عارٍ نواشرُها
تصمتُ بالماء تَوْلبًا جدعَا

فسمَّى الصبيَّ تولبًا. والتَّولَب ولَدُ الحمار. وقولِ الآخر:

وما رقَدَ الوِلْدانُ حتى رأيتُه
على البِكْر يَمْريهِ بساقٍ وحافرِ

فسمى قدمَ الإنسان حافرًا … وهذا غلطٌ كبير؛ لأن المعاظلة في أصل الكلام إنما هي ركوبُ الشيء بعضِه بعضًا، وسُمي الكلام به إذا لم يُنضد نضَدًا مستويًا، وأُركب بعضُ ألفاظه رقابَ بعض، وتداخَلَت أجزاؤه، تشبيهًا بتعاظل الكلام والجراد على ما ذكرناه. وتسمية القدم بحافرٍ ليست بمداخلة، وإنما هي بُعدٌ في الاستعارة …» إلخ. وإذن فهو يرى أن المعاظلة غيرُ فاحش الاستعارة، وهو يُعطي اللفظ معناه الاشتقاقي. وهذا هو رأي الآمدي (الموازنة، ص١١٨).

وفي (ص٢٩٧) يقول: «قد أجمع الناسُ أن المطابقة في الكلام هي الجمع بين الشيء وضدِّه في جزءٍ من أجزاء الرسالة، أو الخطبة، أو البيت من بيوت القصيدة، مثل الجمع بين البياض والسواد، والليل والنهار، والحرِّ والبرد، وخالفهم قُدامة بن جعفر الكاتب فقال: المطابقة إيرادُ لفظتَين متشابهتين في البناء والصيغة، مختلفتَين في المعنى؛ كقول زيادٍ الأعجم:

ونُبِّيتُهم يستنصرونَ بكاهلٍ
ولِلَّوم فيهم كاهلٌ وسَنامُ

وسمَّى الجنس الأول التكافؤ، وأهل الصناعة يُسمون النوع الذي سمَّاه المطابقةَ التعطُّف …» إلخ. وهذا أيضًا هو رأي الآمدي (الموازنة، ص١١٧) مع فارقٍ بسيط؛ هو أن صاحب الموازنة لم يُشِر إلى «التعطُّف»، وإنما رأى فيه ضربًا من الجناس، والآمديُّ في ذلك يأخذ هو الآخَر برأي ابن المعتز.

أخذ أبو هلالٍ إذن عن النقاد الأدباء ونفرٍ من مذهب الكلاميِّين، وفضَّل ابن المعتز ومَن اعتمد آراءه على قدامة عندما تعارضوا، وفي هذا ما يوهم أن الرجلَ قد ظلَّ ناقدًا أدبيًّا، وأنه قد سار على نهجِ أولئك الأدباء الكبار أمثال الآمديِّ وعلي بن عبد العزيز الجرجاني، ولكن هذا — لسوء الحظ — ليس صحيحًا. وإذا كان العسكريُّ قد رفض أن يأخذ ببعضِ تعاريفِ قدامة، فإنه قد أخذ عنه كلَّ ما عدا ذلك، حتى ليُخيل إلينا أنه لم يرفض إلا مُحاكاةً للسابقين الذين أجمَعوا على خطأ صاحب «نقد الشعر» في تحديده للمعاظلة والطباق وما شاكلَ ذلك.

(١-٢) منهجه التقريري

أبو هلالٍ استمرارٌ لقدامة، بل بعثٌ له، وذلك واضح في كتابه كلِّه؛ واضح في منهجه التقريري، وفي غايته التعليمية. ولولا هذا الرجل لماتت مدرسة «نقد الشعر» موتًا نهائيًّا. وقد كان من سوء الطالَع أن استطاع صاحبُ الصناعتين بما له من درايةٍ بالأدب العربي شعره ونثره، أن يُفصل آراء قدامة ويُعززها بالأمثلة، بل وأن يُضيف إلى تقاسيم صاحب «النقد» وأمثاله تقاسيمَ جديدة، وأن يفخر بذلك فيقول (ص٢٥٨) عن البديع: «وقد شرحتُ في هذا الباب فنونَه، وأوضحتُ طرقه، وزدتُ على ما أورده المتقدمون ستةَ أنواع: التشطير والمحاورة، والتطريز والمضاعف، والاستشهاد والتلطُّف. وشذَّبتُ على ذلك فضلَ تشذيب، وهذَّبتُه زيادةَ تهذيب.» وبذلك أوصل المؤلفُ أوجه البديع إلى خمسةٍ وثلاثين وجهًا.

وهذه التقاسيم قد لا تكون ضارةً في ذاتها. ولكن الملاحظ أنها لم تلبث أن جفَّفَت ينابيعَ الأدب، وخرجَت به إلى الصنعة العقيمة؛ إذ أخذ الأدباءُ والشعراء يستخدمون تلك الأوجُه ليُحلُّوا بها أسلوبهم، وكانت النتيجة أن ضاع مِن الأدب كلُّ إحساس أو فكرٍ أو فنٍّ صحيح، وغلبَت اللفظية والتكلفُ حتى أماتت الأدب، وظلت تلك الكارثة مستمرةً إلى أن ظهرَت نهضتُنا الحديثة، فاستطعنا بفضل تأثرنا بالأدب الغربي أن نرفع من وقرها، وإن كنَّا لا نزال إلى اليوم ندرس البلاغة، ولَربما كنَّا في ذلك الشَّعبَ الوحيد في بلاد العالم المتحضر كلِّه.

(١-٣) منهج العسكري منهجٌ تقريري

ومن أخصِّ وسائل هذا المنهج الاعتمادُ على التعاريف والتقاسيم. انظر إليه مثلًا وهو يقول عن المعاني (ص٦٩): «والمعاني على ضربَين: ضربٌ يبتدعه صاحبُ الصناعة من غير أن يكون له إمامٌ يقتدي به فيه، أو رسومٌ قائمة في أمثلةٍ مماثلة يعمل عليها، وهذا ضربٌ ربما يقع عليه عند الخطوب الحادثة، ويُتنبَّه له عند الأمور الطارئة. والآخَر ما يحتذيه على مثالٍ تقدَّم، ورسمٍ فرَط.» وهذا كلامٌ مبتذَلٌ لا جِدَّة فيه، ولا دافعَ إليه غير الحرص على التقاسيم. وأعجبُ من ذلك ألا يكتفيَ العسكري بما درَجَت عليه العربُ في أساليبها يُحصيه ويُبوبه، بل يخترع أمثلةً سخيفة مفتعلة ليُجاريَ تقاسيمَه المنطقية إلى النهاية، فيقول في نفس الموضع: «والمعاني منها ما هو مستقيمٌ حسن، نحو قولك: قد رأيتُ زيدًا، ومنها ما هو مستقيمٌ قبيح، نحو قولك: قد زيدًا رأيت، ومنها ما هو مستقيم النظم، وهو كذب؛ مثل قولك: حملتُ الجبل، وشربتُ ماءَ البحر، ومنها ما هو مُحال؛ كقولك: آتيك أمس، وأتيتُك غدًا. وكلُّ محالٍ فاسد، وليس كلُّ فاسد محالًا، ألا ترى قولك: قام زيد، فاسد وليس بمُحال، والمحال لا يجوز كونُه البتة كقولك: الدنيا في بيضة، وأما قولك: حملتُ الجبل وأشباهه فكذب، وليس بمُحالٍ إن جاز أن يَزيد الله في قدرتك فتحملَه، ويجوز أن يكون الكلام الواحد كذبًا محالًا، وهو قولك: رأيتُ قائمًا قاعدًا، ومررتُ بيقظانَ نائم. فتصل كذبًا بمحال، فصار الذي هو الكذبُ هو المحالَ بالجمع بينهما، وإن كان لكلِّ واحد منهما معنًى على حياله، وذاك لما عقَد بعضَها ببعض حتى صار كلامًا واحدًا. ومنها الغلط، وهو أن تقول: ضربني زيد، وأنت تريد: ضربتُ زيدًا، فغلطت، فإن تعمَّدتَ ذلك كان كذبًا.» وأمثال ذلك من الكلام الرقيع الذي طغى خلال القرون الوسطى. وأين هذا من نقدِ الآمديِّ أو علي بن عبد العزيز الجرجاني اللذَين تناوَلا ما قاله الشعراءُ فعلًا بالدَّرْس والنقدِ والموازنة، دون أن يتسكَّعا هذا التسكُّع المنطقي السقيم.

ويا ليت الأمر قد وقف عند حدِّ افتراض التراكيب الخيالية ولم يَعْدُه إلى معاني الشعر ذاتها! فإن أبا هلال قد عاد إلى قُدامة ليأخذ عنه قواعدَ في كل غرضٍ من أغراض الشعر، يحاول أن يغلَّ بها الشعراء، ويحصر ميادينَ قولهم، فيقول في المدح (ص٩٥): «ومن عيوب المديح عدولُ المادح عن الفضائل التي تختصُّ بالنفس من العقل والعفة، والعدل والشجاعة، إلى ما يليق بأوصاف الجسم من الحُسن والبهاء والزينة، كما قال قيس الرقيَّات في عبد الملك بن مروان:

يأتلقُ التاج فوق مَفرِقهِ
على جَبينٍ كأنه الذهبُ

فغضب عبد الملك وقال: قد قلتَ في مصعب:

إنما مصعبٌ شهابٌ من الله
تجلَّت عن وجهِه الظَّلماءُ

فأعطيتَه المدح بكشفِ الغُمم وجلاء الظُّلَم، وأعطيتَني من المدح ما لا فخر فيه، وهو اعتدال التاج فوق جبيني الذي هو كالذهب في النضارة.» وهذا هو رأيُ قدامة بنصِّه ومثالِه. وقد سبق أن رأينا الآمديَّ يُسفِّه هذا الرأي، ومع ذلك يُؤثِر العسكريُّ سخفَ هذا الأعجمي على ذَوق الآمدي الصادق، ونظراته الشعرية الجميلة، فيقول عن الهجاء (ص١٠١): «والهجاء أيضًا إذا لم يكن مختارًا، والاختيار أن يُنسَب المهجوُّ إلى اللؤم والبخل والشَّرَه وما شابه ذلك … وليس بالمختار في الهجاء أن ينسبه إلى قبحِ الوجه، وصِغَر الحجم، وضآلة الجسم.» وهذا كلامٌ نقله أيضًا عن قدامة، وفيه ما يدلُّ على أن العسكريَّ وأستاذه لم يفهما شيئًا عن روح الهجاء العربي، الذي كثيرًا ما يعتمد على الصور الجسمية لإثارة الضحك أو السخرية من المهجو. وفي هذا تظهر عادةً مهارةُ الشاعر الفنية.

وهو يرى من قواعد النسيب «أن التجلُّد من العاشق مذموم» (ص١١١)، وأن الناسب ينبغي «أن يُظهر الرغبة في الحب، وألَّا يُظهر التبرُّم به» (ص١٢٥)، كما ينبغي «أن يكون في النسيب دليلُ التدلُّه والتحيُّز» (ص١٣٥)، وأما أن يقول الناسب ما يجده من تدلُّهٍ أو ثورة، ومن رغبةٍ في الحب أو ألم لاستشعاره، ومن استرسالٍ أو كبتٍ، فذلك ما لا يُجيزه العسكري ولا يُجيزه قدامة. وكذلك الأمر في الوصف؛ إذ «ينبغي أن تعرف أن أجودَ الوصف ما يستوعب أكثرَ معاني الموصوف، حتى كأنه يُصور الموصوف لك فتراه نُصب عينَيك.» ويختتم العسكريُّ ذلك الفصلَ الذي عنوانه «في التنبيه على خطأ المعاني وصوابها؛ ليتبع مَن يريد العمل برَسْمنا مواقعَ الصواب فيترسَّمها، ويقف على مواقع الخطأ فيتجنَّبها»، يختتمه بقوله (ص١٢٥ و١٢٦): «ولما كانت أغراض الشعر كثيرة، ومعانيه متشعِّبة جملة لا يبلغها الإحصاء، كان من الوجه أن نذكر ما هو أكثرُ استعمالها، وهو المدح والهجاء، والوصف والنسيب، والمراثي والفخر. وقد ذكرتُ قبل هذا المديحَ والهجاء، وما ينبغي استعمالُه فيهما، ثم ذكرتُ الآن الوصف والنسيب، وتركتُ المراثيَ والفخر لأنهما داخلان في المديح؛ وذلك أن الفخر هو مدحُك نفسك بالطهارة والعفاف، والحلم والعلم والحسَب، وما يجري مَجرى ذلك، والمرثيَّة مديحُ الميت، والفرق بينها وبين المديح أن تقول: كان كذا وكذا، وتقول في المديح: هو كذا وكذا، وأنت كذا، فينبغي أن تتوخَّى في المرثيَّة مما تتوخَّى في المديح، إلا أنك إذا أردتَ أن تذكر الميتَ بالجود والشجاعة تقول: مات الجُود وهلكَت الشجاعة، ولا تقول: كان فلان جَوادًا شجاعًا، فإن ذلك باردٌ غير مستحسَن. فهذه جملةٌ إذا تدبَّرَها صانعُ الكلام استغنى بها عن غيرها.» وما نظنُّنا في حاجةٍ إلى أن نعود فنُظهر ما في هذه الآراء من سخف. وقد سبق أن وضَّحنا ذلك عند الكلام على قدامة، وأبو هلال لم يُعِدْ هنا ترديدَ أقوال صاحب «نقد الشعر».

ثم هل نحن في حاجةٍ إلى إظهار الروح التعليمية عند العسكري، وفي عنوانِ فصلٍ كالذي أشرنا إليه ما لا حاجة معه إلى بيان أنه قصد من كتابه إلى دعوة الشعراء والكتاب أن يتَّبعوا مواقعَ الصواب، ويتجنَّبوا مواقع الخطأ؟

ونحن بعدُ لا نُنكر أن النقاد الأدباء قد تحدَّثوا عن الخطأ والصواب عند أبي تمام والبحتريِّ والمتنبي، بل وعند الجاهليِّين والأمويين وغيرِهم. ومع ذلك فنحن الآن أمام ظاهرةٍ مخالفةٍ كلَّ المخالفة لما رأيناه عند الآمدي والجرجاني وغيرِهما ممَّن تحدثنا عنهم فيما سبق. ولْنُفصل هذا الفارق العظيم بين المنهجين: منهج النقد ومنهج البلاغة؛ لأنه أوضحُ دليل على ذلك التحول الذي عقَدْنا هذا الفصل للتدليل عليه.

الآمديُّ والجرجاني يتخذان من تقاليد العرب مقياسًا للخطأ والصواب في الشعر. وهذه بلا ريب نظرةٌ تقليدية تُضيق على الشعراء مجالَ القول، وتُلزمهم بالتقليد بمعاني السابقين، وبذلك تمنع كلَّ تجديد، بل قد تمنع كلَّ صدق، وتخرج بالشعر كلِّه إلى تجديد الصياغة فحسب. ومع ذلك، فهما لم يفعلا ما فعَله قدامةُ وأبو هلال من بعدِه عندما أرادا أن يُملِيَا على الشعراء طريقةَ معالجة موضوعاتهم، وأن يُحددا لهم المعانيَ التي يُنشِد فيها الشاعرُ شعره، ومن ثَم رأيناهما يُقرران أن المدح مثلًا لا يجوز أن يكون بغير الصفات النفسية، بل ويحصران تلك الصفات في العقل والعفة، والعدل والشجاعة، ثم يحرمان المدحَ بجمال الوجه أو الجسم. وهما يقصران الهجاءَ أيضًا على الصفات المعنوية، وما أشبهَ ذلك من سخافاتٍ لا تمتُّ إلى منهج صاحبَي الموازنة والوساطة بسبب.

ولْنأخذ لذلك أمثلة:

من الهِيفِ لو أنَّ الخَلاخيلَ صُوِّرَت
لها وُشُحًا جالتْ عليها الخَلاخلُ

فيقول: «وهذا الذي وصفَه أبو تمام ضد ما نطقَت به العرب، وهو أقبحُ ما وُصِفَت به النساء؛ لأن مِن شأن الخلاخيل والبرين أن توصف بأنها تعضُّ في الأعضاد والسواعد، وتضيق في السُّوق، فإذا جعل خلاخيلها وشُحًا تجول عليها فقد أخطأ الوصف؛ لأنه لا يجوز أن يكون الخلخالُ الذي من شأنه أن يعضَّ بالساق وشاحًا على جسدها … ومن عادة العرب أنها لا تكاد تذكر الهيف على الكَشْح ودقَّة الخَصْر، إلا إذا ذكرَت معه من الأعضاء ما يستحبُّ فيه الامتلاء والرِّيُّ والغِلَظ؛ كما قال ذو الرُّمة:

عَجْزاءُ ممكورةٌ خُمْصانةٌ قَلِقٌ
منها الوِشاحُ وتمَّ الجسمُ والقصَبُ

وكما قال أيضًا:

أنَاةٌ تَلُوثُ المِرْطَ منها بدِعْصةٍ
رُكَامٍ وتَجتابُ الوِشاحَ فيَقْلَقُ

وكما قال:

ترى خَلْقَها نصفًا قناةً قويمةً
ونصفًا نَقًا يرتجُّ أو يتمَرْمرُ

وكما قال الشَّنْفرَى:

فدقَّت وجلَّت واسبكرَّت وأكملَت
فلو جُنَّ إنسانٌ من الحُسن جنَّتِ

أي: دقَّ منها ما ينبغي أن يَدِق، وجلَّ منها ما ينبغي أن يجلَّ، فهذا هو تمامُ الوصف.»

وإذن فالآمديُّ لا يطلب إلى الشاعر أن يتقيَّد بطرقِ الأداء التقليدية فحسب، بل وأن يَصدُر في وصفه لا عن امرأةٍ بعينها، ولكن عن مثال المرأة كما تصوَّرَها الشعراء السابقون؛ ولهذا لا يكتفي بنقدِ استعمال الخلاخيل كوشاح، بل يُضيف أن الوصف لا يكمل إلا إذا جمَع الشاعر إلى نُحول الخصر امتلاءَ الأعضاء التي يستجبُّ فيها الرِّي والغِلَظ. وكان من نتيجة أمثالِ هذا النقد أن الشعراء لم يُصوِّروا الواقع، بل صوَّروا مُثُلًا عُليا عربية، وصوَّروها بصفاتٍ حُصِرَت حصرًا شلَّ الابتكار. وبالرغم من كل ذلك لم يفعل الآمديُّ ما فعله قدامةُ وأبو هلال؛ وذلك لأن صاحب الموازنة يأخذ مقاييسَه عمَّا قاله العربُ فعلًا، وهو لا يُنحِّي منه شيئًا، بينما صاحبا «نقد الشعر» و«الصناعتين» لا يُريدان أن يَقبلا ما قاله الشعراءُ مثلًا في المدح بوصف جمالِ الوجه، أو في الهجاء بقُبحه، ويأبَيان إلا أن يَزيدا مجالَ الشعر ضِيقًا وقواعدَه تحكمًا.

والأمر عند علي بن عبد العزيز الجرجاني مثلُه عند الآمدي، فهو الآخَر يُحصي طرق وصفِ العرب للسلاح والخيل، ويعتذر عن المتنبي ضد خصومه، مستندًا إلى تقاليد الشعراء السابقين، فيوردُ البيت (ص٢٣٨):

تخطُّ فيها العوالي ليس تَنفذُها
كأنَّ كلَّ سِنانٍ فوقها قَلمُ
ويُخطِّئ مَن انتقد المتنبيَ بأنه قد وصف دِرع عدوه بالحصانة، ويوضح كيف أن وصف درعِ العدو بالحصانة هجاء؛ لأن الرجل الشجاع هو من يَلقى خَصمَه «غيرَ لابسِ جُنة»، كما قال الأعشى. ويَقيس الجرجانيُّ وصف الدرع بوصف الخيل التي يمتدح الشعراءُ سرعتها، «فيكون ذلك هجوًا إن كانت الخيلُ خيلَ الأعداء الذين ولَّوا الأدبار، ويكون فخرًا إن كانت الخيلُ خيل الشاعر وقبيلتِه عندما يُغِيرون على أعدائهم، بل لقد يعتذر الشاعرُ عن إدراك الخَصم بظلع الفرَس، كما قال طارقٌ التَّغلِبي:١
فأدرَك إبقاءَ العَرادةِ ظَلْعُها
وقد ترَكَتني من حَزِيمةَ إصبَعَا
ونادى مُنادي القومِ أنْ قد أتيتمُ
وقد شَرِبَت ماءَ المَزادةِ أجمعَا

وأما سلمةُ بن الخرشب، فيُذكر أن عامرَ بن الطفيل قد نجا هاربًا بسرعةِ فرسه، وذلك في قوله:

نجَوتُ بنصلِ السيف لا غِمدَ فوقَهُ
وسرجٍ على ظَهْر الحمالة مائرِ
فأثْنِ عليها بالذي هي أهلُه
ولا تَكْفُرنْها لا فلاحَ لكافرِ
فلو أنَّها تجري على الأرض أدركَت
ولكنها تهفو بتمثالِ طائرِ

… إلخ.»

ويجمع الناقدُ تلك التقاليدَ في قوله: «للعرب في وصف السلاح والخيل مذهبان، فإذا وصَف شاعرُهم خيلَ قومه، وأداةَ رهطه، وسلاحَ عشيرته، وما ادَّخره هو من عتادٍ واقتناه من رِباط، فإنما يريد أننا أهلُ حروب ومَغارات، ولنا النَّجدة والمنَعة، وفينا العزُّ والقهر، ولنا الغلَبة والفضل، وإذا وصف بذلك عدوَّه ومُحاربه، فإنما يطلب الغضَّ منه والنعي عليه. وليس يفعل ذلك إلا وقد حاد ذلك العدوُّ عنه في ملتقًى، أو حاجزه في معترك، أو دعاه إلى البِراز فلم يُجِبه، أو أجابه فلم يثبت له، فهو إذا وصف سلاحه فإنما يقول له: إنك هربتَ وأنت شاكي السلاح، تامُّ الآلة، حديد السيف، ماضي السِّنان، فهو أثلمُ لعرضك، وأدلُّ على عجزك، وأبلغُ في ذمِّك، وإذا وصف فرسَه فإنما يعتذر من بقائه بعد لقائه، ومن خَلاصه بعد تورُّطِه، ويريد أن الفرس نجَّته وأطلقَته، وأنها منَّت عليه وأنقذَته، فهو طليقُها وأسيرُ مَنِّها ورقيقها، كما قال: لا تَكفرَنْها فلا فلاحَ لكافر. فهذا أيضًا تشريعٌ للشعراء، ولكنه صادرٌ عن استقراءٍ لما جرى عليه العربُ في كلامهم، وهو بلا ريب غيرُ منهج قدامة وأبي هلال اللذَين يريدان ألَّا يتوخى في المرثية مثلًا إلا ما يتوخى في المدح.

منهج الآمدي والجُرجاني إذن يقوم على ملاحظةِ ما درَج عليه الشعراء، واتخاذِه مقياسًا للدَّرْس والحكم، وأما قدامةُ وأبو هلال فمنهجُهما منهجٌ عقلي يصدر عن آراءَ سابقةٍ في أغراض الشعر ومعانيه ووسائله. وهذا هو أحدُ الفوارق الجوهرية التي تُميز النقدَ عن البلاغة؛ النقد يدرس ما قيل فعلًا، بينما البلاغة تضع قواعدَ تُحاول أن تُخضع لها الشعراء، وأن تُحكمها فيهم.

ونحن بعدُ نذهب إلى أبعدَ من ذلك؛ إذ نرى أن مذهب قُدامة والعسكريِّ يختلف عن مذهب ابن المعتز في البديع، بل وعن مذهبِ أرسطو نفسه؛ فابن المعتز عندما حاوَل أن يستخلص مميزات مذهب البديع، وأن ينتقد بعضَ ما في أوجُهه من عيوب، لم يُعِد استقراءَ ما سبق إليه الشعراءُ القدماء، وما أخذه عنهم المحْدَثون. وهذا غيرُ منهج العسكريِّ الذي يريد أن يقسم الكلامَ إلى كذبٍ ومُحال وفاسد، فيتبرع بأن يضع لكل نوع أمثلةً لم يُسمَع مثلُها من أحدٍ في زمانه، ولا في الأزمنة السابقة عليه، بل ولا اللاحقة، وإنما هي — كما قلنا — فروضٌ منطقية عقيمة، وأرسطو كذلك عندما حاول وضْعَ أصولٍ للشعر والخَطابة، رجع إلى الخطباء والشعراء يستقرئ ما درَجوا عليه، ثم صاغه في مبادئَ نظرية، ولو أن قدامة والعسكريَّ سلَكا نفس المسلك لرأَيا من الشعراء مَن قال:

أيَّتها النفسُ أجْمِلي جزَعَا
إن الذي تحذَرين قد وقَعَا

أو:

يُذكِّرُني طلوعُ الشمسِ صخرًا
وأذكرُه لكلِّ غروبِ شمسِ

بل لقد قال المتنبي في نفس القرن الذي عاش فيه العسكري:

طوَى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ
فَزِعتُ منه بآمالي إلى الكذبِ
أرى العراقَ طويلَ الليل مذ نُعِيَت
فكيف حالُ فتى الفتيان في حلَبِ؟
يظنُّ أن فؤادي غيرُ ملتهبٍ
وأنَّ دمع جُفوني غيرُ مُنسكبِ

إلى غير ذلك ممَّا هو أمعنُ في الرثاء وألصقُ بمعناه من المدح ﺑ «كان».

التقنين ليس خطرًا على معاني الشعر وأغراضِه والابتكار فيه فحسب، بل إنه لَكذلك أيضًا عندما يتناول طرقَ البيان ذاتَها. ولنضرِبْ لذلك مثلًا ببابٍ من خير أبواب الصناعتَين، وهو التشبيه (ص٢٢٦ وما بعدها).

يرى المؤلفُ «أن أجوَد التشبيه ما يقعُ على أربعة أوجه:
  • (١)
    أحدها: إخراجُ ما لا تقع عليه الحاسَّة، وهو قول الله عزَّ وجلَّ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً. فأخرَج ما لا يُحسُّ إلى ما يُحس، والمعنى الذي يجمعهما بطلانُ المتوهَّم مع شدةِ الحاجة وعِظَم الفاقة … إلخ.
  • (٢)
    والوجه الآخر: إخراجُ ما لم تجرِ به العادة إلى ما جرَت به العادة، ومن هذا قولُه تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ، إلى قوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ؛ هو بيانُ ما جرت به العادة إلى ما لم تجرِ به … إلخ.
  • (٣)
    والوجه الثالث: إخراجُ ما لا يُعرف بالبديهة إلى ما يُعرف بها؛ من هذا قوله عزَّ وجلَّ: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؛ قد أخرج ما لا يُعلم بالبديهة إلى ما يُعلم بها، والجامع بين الأمرين العِظَم، والفائدة فيه التشويقُ إلى الجنة بحُسن الصفة … إلخ.
  • (٤)
    والوجه الرابع: ما لا قوةَ له في الصفة على ما له قوةٌ فيها؛ كقوله عزَّ وجلَّ: وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، والجامع بين الأمرين العِظم، والفائدة البيانُ عن القدرة في تسخير الأجسام العِظام في أعظمِ ما يكون من ماء، وعلى هذا الوجه أكثرُ تشبيهات القرآن، وهي الغاية في الجودة، والنهايةُ في الحسن.»

ويكون من نتيجة هذا الحصرِ التحكُّميِّ أن يرى المؤلفُ أنه «قد جاء في أشعار المحدَثين تشبيهُ ما يرى العيان بما يُنال بالفكر وهو رديء، وإن كان بعض الناس يستحسنه لما فيه من اللطافة والدِّقة.» ويورد العسكريُّ من بين الأمثلة التي يختارها لتلك التشبيهات — التي لا تجري وَفْق قواعده، بل تُشبه الحسيَّ بالمعنوي — هذين البيتَين:

ونَدْمانًا سقيتُ الراحَ صِرفًا
وأُفْق الليل مرتفعُ السُّجوفِ
صفَتْ وصفَتْ زجاجتُها عليها
كمعنًى دقَّ في ذهنٍ لطيفِ

وأبو هلالٍ يرى أنهما رديئان ولا يستصوبُ مَن يصفُهما بالحسن، وعنده أن الطريقة المسلوكة في التشبيه، والنَّهج القاصد في التمثيل عند القُدماء والمحْدَثين هما تشبيهُ الجواد بالبحر والمطر، والشجاع بالأسد، والحسن بالشمس والقمر، والسهم الماضي بالسيف، وعالي الرتبة بالنجم، والحليم الرَّزين بالجبل … إلخ، من هذه التشبيهات المبتذَلة التي فشَت في الأدب العربي كداءٍ عُضال.

هذا هو خطر التقنين في مسائل الجمال وخلقِه، وتلك روحٌ إن صحَّت في النحو أو العَروض أو غيرِهما من العلوم التي تحكم اللغةَ أو الشعر من ناحية الصحة؛ فإنها لا يمكن أن تمتدَّ إلى الفن دون أن تقتله، ويَزيدها خطرًا صدورُها عن رجلٍ سقيم الذَّوق كالعسكري.

(١-٤) العسكري ومشكلة السرقات

ومن غريب الأمر أن أبا هلالٍ عندما يترك المسائلَ البلاغية ليتحدَّث في المشاكل الأدبية الخالصة كمشكلة السرقات؛ تستقيم أحكامه. ولعل ذلك لأنه لم يتأثَّر فيها بأحدٍ من مَناطقة البيان أمثالِ قدامة، الذين لم يتحدَّثوا عن هذه المشاكل. وكلُّ من سبَقه إليها كانوا عادةً إما أدباءَ أفسد الهوى أحكامَهم، أو نقادًا منصفين أوضَحوا سُبل الأخذ، وحاولوا أن يضَعوا للحكم فيها قواعدَ عادلة صائبة.

والذي يدهشنا هو أن نرى العسكريَّ يضع لهذه المشكلة أصدقَ حل، فيقول (ص١٨٩): «إن المعانيَ مشتركةٌ بين العقلاء، فربما وقع المعنى الجيدُ للسوقيِّ والنبطي والزنجي، وإنما تتفاضل الناسُ في الألفاظ ورصفِها وتأليفها ونظمِها، وقد يقع متأخرٌ على معنًى سبَقه إليه المتقدمُ من غير أن يُلِمَّ به، ولكن كما وقع للأول وقَع للآخِر.» ومعنى هذا أنه يميل إلى رفضِ القول بالسرقة في المعاني، وإلى أن يحصر ذلك في الصياغة وطُرق الأداء التي تُخصص المعنى العامَّ بشاعرٍ بعينه. وهو يعود في موضعٍ آخر فيؤكد هذا الرأيَ بقوله (ص٢١٨): «والمعنى إنما يحسن بكسوته، أخبرنا بعضُ أصحابنا قال: قيل للشعبي: إنَّا إذا سمعنا الحديثَ منك نسمعه بخلافِ ما نسمعه من غيرك؟ فقال: إني أجده عاريًا فأكسوه من غيرِ أن أزيدَ فيه حرفًا؛ أي من غيرِ أن أزيد في معناه شيئًا … كما سُئل أبو عمرِو بنُ العلاء عن الشاعرَين يتَّفقان في لفظٍ واحد ومعنًى واحد، فقال: عقول رجالٍ توافَت على ألسنتها.» ويبني العسكريُّ على هذا الرأي نتائجَ مستقيمة، فيقسم الأخذَ إلى أخذٍ حسن وأخذٍ قبيح؛ والأخذ الحسن هو أن تأخذ المعنى فتكسُوَه بألفاظٍ من عندك فيُصبح مِلكًا لك، والأخذ القبيح أن «تعمد إلى المعنى فتتناوله بلفظه كلِّه أو أكثره، أو تُخرِجه في مَعرِضٍ مستهجَن.» وإذن فمقياس السرقة عنده هو الصياغة. وهذه فيما نرى أصدقُ نظرة.

ونخلص من كلِّ ما سبق بأن أبا هلال، وإن يكن قد أخذ عن النقَّاد بعض آرائهم، فإن روحه ومنهجه هما روحُ البلاغيِّين ومنهجهم، وبخاصةٍ قدامة بن جعفر في كتابه «نقد الشعر». ولقد كان في هذا سببُ فساد الكثير من أحكامه؛ بدليل أنه في مسألةٍ أدبية صِرفة كمسألة السرقات قد وُفِّق إلى خيرِ فَيصل.

وإذن فكتاب «الصناعتين» هو نقطةُ تحوُّل النقد إلى بلاغة، وفي طريقة تأليف هذا الكتاب وموضوعاته — فضلًا عن روحه ومنهجه — أوضحُ دليلٍ على ذلك.

يبدأ المؤلف في الباب الأول بالإبانة عن موضوع البلاغة لغةً وحَدًّا، وفي الباب الثاني يتكلَّم عن المعاني ويشرع لها، وفي الثالث عن الألفاظ وقواعد التأليف بينها، وفي الرابع يُقنن لحُسن النظم وجودة الرَّصف، وفي الخامس يتحدث عن الإيجاز والإطناب، وفي السادس عن حُسن الأخذ وحلِّ المنظوم (السرقات)، وفي السابع عن التشبيه، وفي الثامن عن السَّجع والازدواج، وفي التاسع عن أوجُه البديع الخمسة والثلاثين، وفي العاشر عن مبادئ الكلام ومَقاطعه والخروج.

وهذه أبواب البلاغة التقليديةُ في الشعر والنثر. وأوضحُ ما يكون فسادُ ذوق أبي هلال في عنايته المفرِطة ببابَي «السجع والازدواج»، و«أوجُه البديع»، ثم أحكامه فيها؛ مما يدلُّ على أن الرجل كان من المعجَبين بمذهب الصنعة الذي أفسد الأدبَ العربي في عصوره المتأخرة، كما سبق أن أوضحنا.

(٢) بعد أبي هلال عبدُ القاهر الجرجاني

بانتهائنا من أبي هلالٍ ينتهي القرنُ الرابع، كما ننتقل من النقد المنهجي إلى البلاغة التعليمية. والذي يبدو لنا هو أن كتاب الصناعتين يُمثل الأوجَ الذي وصل إليه مذهبُ البديع؛ وذلك لأن مؤلفه من أنصار هذا المذهب، إن لم يكن أكثرَ إسرافًا ممن تشيَّع له فيما سبق. وقد رأيناه يُعدد ويُفصل الأوجُه، كما يورد الأمثلة من نثرِ الصاحب بن عبَّادٍ المسجوعِ السقيم، ومن نثره هو نفسه الذي لا يقلُّ سقمًا عن نثر الصاحب، حتى لَيُمكن اعتباره رأسًا في البديع، بل البلاغة عامة، وإن كان ابن خَلدون يُرجِع إلى السكَّاكيِّ تأسيسَ هذه العلوم.

ومع ذلك، فإن تيار أبي هلال لم ينجح في القرن الخامس نجاحًا يُذكر؛ وذلك لأن الأدب نفسَه لم تطْغَ عليه الصياغة اللفظية والمحسنات البديعية طغيانًا تامًّا. وكان الفضل في إرجاء الكارثة لظهور شاعرٍ فيلسوف لُغوي قوي؛ هو أبو العلاء المعَريُّ (٣٦٣ إلى ٤٤٩ﻫ). لقد كان أبو العلاء رجلًا موهوبًا، فلم تُفسِد الصنعةُ طبعه، بالرغم من لزومه ما لا يلزم، وأخذِه بالفصول والغايات.

(٢-١) عبد القاهر وفلسفته اللغوية

وظهر في القرن الخامس نحْويٌّ مفكر عظيمُ الخطر؛ هو أبو بكرٍ عبدُ القاهر بن عبد الرحمن الجرجانيُّ (المتوفَّى سنة ٤٧١ﻫ)، وكان هذا الرجل سليمَ الذوق، فقاوم تيارَ اللفظية أشدَّ مقاومة، وقال بأن «الألفاظ خدَمُ المعاني» (أسرار البلاغة، ص٥)، ورأى «أن في كلام المتأخرين كلامًا حمَل صاحبَه فرْطُ شغفه بأمورٍ ترجع إلى ما له اسمٌ في البديع، أن ينسى أنه يتكلَّم لِيُفهم، ويقول ليُبين، ويُخيَّل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت، فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء، وأن يوقِعَ السامعَ من طلبه خبْطَ عشواء، وربما طمَس بكثرةِ ما يتكلفه على المعنى وأفسده، كمن يُثقِل العَروس بأصناف الحُليِّ حتى ينالها من ذلك مكروهٌ في نفسها» (أسرار البلاغة، ص٦).

وعنده أن المثل الذي يجب أن يُحتذى ليس أصحابَ السجع، بل أبا عمرٍو الجاحظَ في مقدِّمات كتبه، وهو يُلاحظ «أنك لا تجد تجنيسًا مقبولًا، ولا سجعًا حسنًا، حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساق نحوَه، وحتى تجده لا تبتغي به بديلًا، ولا تجد عنه حِوَلًا. ومن هنا كان أحلى تجنيسٍ تسمعه وأعلاه، وأحقَّه بالحسن وأولاه؛ ما وقع من غيرِ قصدٍ من المتكلم إلى اجتلابه، وتأهُّبٍ لطلبه، أو ما هو لحُسن ملاءمته — وإن كان مطلوبًا — بهذه المنزلة وفي هذه الصورة» (أسرار البلاغة، ص٧)، بل إنه ليذهب إلى أبعدَ من ذلك، فيرى أن الجاحظ قد علق على فصاحة الألفاظ قيمةً تفوق قيمتها الحقيقية؛ وذلك لأنه من السهل أن تتجنَّب الألفاظ الثقيلة، وإنما الشاقُّ هو أن تصل إلى «وضوح الدلالة، وصواب الإشارة، وتصحيح الأقسام، وحُسن الترتيب والنظام والإبداع، في طريقة التشبيه والتمثيل، والإجمال ثم التفصيل، ووضع الفصل والوصل موضِعَهما، وتوفية الحذف والتأكيد والتقديم والتأخير شروطَهما.»

وفي الحق، إن عبد القاهر قد اهتدى في العلوم اللُّغوية كلِّها إلى مذهب لا يمكن أن نُبالغ في أهميته، مذهبٍ يشهد لصاحبه بعبقريةٍ لُغوية منقطعة النظير، وعلى أساس هذا المذهب كوَّن مبادئه في إدراك «دلائل الإعجاز».

مذهب عبد القاهر هو أصحُّ وأحدثُ ما وصل إليه علم اللغة في أوروبا لأيامنا هذه؛ هو مذهب العالِم السويسري الثبت فردناند دي سوسير Ferdinand de Saussure، الذي تُوفي سنة ١٩١٣م. ونحن لا يُهمنا الآن من هذا المذهب الخطير إلا طريقةُ استخدامه كأسٍّ لمنهجٍ لُغوي «فيولوجي» في نقد النصوص.٢
لقد فطن عبد القاهر إلى أن اللغة ليست مجموعةً من الألفاظ، بل مجموعة من العلاقات Systeme de rapports فقال: «اعلم أنَّ هنا أصلًا أنت ترى الناسَ فيه في صورةِ مَن يعرف من جانب، ويُنكر من آخَر، وهو أن الألفاظ المفرَدة التي من أوضاع اللغة لم توضع لتُعرف معانيها في أنفسها، ولكن لأن يُضمَّ بعضُها إلى بعض فيُعرف فيما بينها فوائد. وهذا علمٌ شريف، وأصل عظيم، والدليل على ذلك أنَّا إنْ زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاعُ اللغة إنما وُضعت ليُعرف بها معانيها في أنفسها؛ لأدَّى ذلك إلى ما لا يشك عاقلٌ في استحالته، وهو أن يكونوا قد وضَعوا للأجناس الأسماءَ التي وضعوها لها لتعرفها بها، حتى كأنهم لو لم يكونوا قالوا: فعل ويفعل، لما كنا نعرف الخبرَ في نفسه ومن أصله، ولو لم يكونوا قد قالوا: أفعل، لما كنا نعرف الأمرَ من أصله، ولا نجده في نفوسنا، وحتى لو لم يكونوا قد وصَفوا الحروف لكنا نجهل معانيَها، فلا نعقل نفيًا ولا نهيًا ولا استفهامًا ولا استثناءً. كيف والمواضَعةُ لا تكون ولا تُتصوَّر إلا على معلوم؟ فمُحالٌ أن يوضع اسم أو غيرُ اسم لغيرِ معلوم، ولأن المواضعة كالإشارة، فكما أنك إذا قلتَ خُذ ذاك لم تكن هذه الإشارة لتُعرِّف السامعَ المشارَ إليه في نفسه، ولكن ليعلم أنه المقصود من بين سائر الأشياء التي تراها وتُبصرها. كذلك حكم اللفظ مع ما وُضع له، ومَن هذا الذي يشكُّ أنَّا لم نعرف الرجلَ والفرَس والضرب والقتل إلا من أساميها؟ لو كان ذلك مُساغًا في العقل لكان ينبغي إذا قيل: زيد، أن تعرف المسمَّى بهذا الاسم من غيرِ أن تكون قد شاهدتَه أو ذُكر ذلك بصفة … وإذ قد عرَفتَ هذه الجملة، فاعلم أن معانيَ الكلام كلها معانٍ لا تُتصوَّر إلا فيما بين شيئين. والأصل والأول هو الخبر، وإذا أحكمتَ العلم بهذا المعنى فيه عرَفتَه في الجميع. ومن الثابت في العقول، والقائم في النفوس أنه لا يكون خبرٌ حتى يكونَ مُخبَرٌ به ومخبَرٌ عنه؛ ومن ذلك امتنع أن يكون لك قصدٌ إلى فعلٍ من غير أن تريد إسنادَه إلى شيء، وكنتَ إذا قلتَ «اضرب» لم تستطع أن تريد منه معنًى في نفسك من غير أن تريد الخبرَ به عن شيءٍ مُظهَر أو مقدَّر، وكان لفظُك به — إذا أنت لم تُرد ذلك — وصوتٌ تَصوتُه سواءً» (دلائل الإعجاز، ص٢٨٧ و٢٨٨). في هذا النصِّ البالغ الأهمية، نجد فلسفةَ عبد القاهر اللغويةَ العميقة، وعن هذه الفلسفة صدَرَت كلُّ آرائه في نقد النصوص؛ فهو يرى أن الألفاظ لم توضع لتعيينِ الأشياء المتعيِّنة بذواتِها. وإنما وُضِعت لتُستعمَل في الإخبار عن تلك الأشياء بصفةٍ أو حدَثٍ أو علاقة؛ فنحن لا نقول «زيد» إلا إذا أردنا أن نُخبر عنه بشيء.

وإذن فالمهم في اللغة ليس الألفاظ، بل مجموعةُ الروابط التي نُقيمها بين الأشياء بفضل الأدوات اللُّغوية، وتلك الروابط هي المعاني المختلفة التي نُعبر عنها؛ ومن ثَم كانت أهميتها وما لها من صدارةٍ على الألفاظ. ونحن «إذا نظرنا في ذلك عَلِمنا أن لا محصولَ لها غير أن تعمد إلى اسمٍ فتجعله فاعلًا لفعلٍ أو مفعولًا، أو تعمدُ إلى اسمين فتجعل أحدَهما خبرًا عن الآخَر، أو تُتبع الاسم اسمًا على أن يكون الثاني صفةً للأول، أو تأكيدًا له، أو بدلًا منه، أو تجيء باسمٍ بعد تمام كلامك على أن يكون الثاني صفة، أو حالًا، أو تمييزًا، أو تتوخَّى في كلامٍ هو لإثبات معنًى أن يصير نفيًا أو استفهامًا أو تمنيًا، فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك، أو تريد في فعلَين أن تجعل أحدَهما شرطًا في الآخَر، فتجيء بهما بعد الحرف الموضوع لهذا المعنى، أو بعد اسمٍ من الأسماء التي ضُمِّنَت معنى ذلك الحرف وعلى هذا القياس» (دلائل، ص٢٦).

(٢-٢) منهج النقد اللُّغوي

ونحن عندما نتدبَّر هذه الآراءَ نستطيع أن نفهم كيف أن مقياس النقد عند عبد القاهر هو نظمُ الكلام؛ لأن هذا النظم هو الذي يُقيم الروابط بين الأشياء، تلك الروابط التي لم توضع اللغاتُ إلا للعبارة عنها. «واعلم أنه ليس النظم إلا أن تضعَ كلامك الوضْعَ الذي يقتضيه علمُ النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت» (دلائل، ص٤٨). «هذا هو السبيل، فلستَ بواجدٍ شيئًا يرجع صوابُه إن كان صوابًا، وخطؤه إن كان خطأً إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم؛ إلا وهو معنًى من معاني النحو قد أُصيب به موضعُه، ووُضِع في حقِّه، أو عومل بخلافِ هذه المعاملة، فأزيلَ عن موضعه واستُعمل في غيرِ ما ينبغي له. فلا ترى كلامًا قد وُصف بصحةِ نظم أو فساده، أو وُصف بمزيَّةٍ وفضل فيه، إلا وأنت تجد مرجعَ تلك الصحة وذلك الفساد، وتلك المزيَّةِ وذلك الفضل؛ إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدتَه يدخل في أصلٍ من أصوله، ويتصل ببابٍ من أبوابه» (دلائل، ص٤٩).

وإذن فمنهج هذا المفكر العميق الدقيق هو منهج النقد اللغوي، منهج النحو؛ على أن نفهمَ من النحو أنه العلمُ الذي يبحث في العلاقات التي تُقيمها اللغةُ بين الأشياء.

ولكي نوضح هذه الفكرة؛ دعنا نأخذ مثلًا عن عبد القاهر نفسِه، يقول (ص٥١ من دلائل الإعجاز): «انظر إلى قول إبراهيم بن العباس:

فلو إذْ نبا دهرٌ وأنكَر صاحبٌ
وسُلِّط أعداءٌ وغاب نَصيرُ
تكون على الأهوازِ داري بنَجْوةٍ
ولكنْ مقاديرٌ جرَتْ وأمورُ
وإنِّي لأرجو بعدَ هذا محمدًا
لِأفضلِ ما يُرجى أخٌ ووزيرُ

فإنك ترى ما ترى من الرَّونق والطلاوة، ومن الحُسن والحلاوة، ثم تتفقَّد السبب في ذلك، فتجدُه إنما كان من أجل تقديمِه الظرفَ الذي هو «إذ نبا» على عامله الذي هو «تكون»، ولم يَقُل «كان»، ثم أنْ نكَّر الدهر ولم يقل «فلو إذ نبا الدهر»، ثم أنْ ساق هذا التنكير في جميعِ ما أتى به من بعدِه، ثم أنْ قال «وأنكَر صاحب»، ولم يقل «وأنكرتُ صاحبًا» لا ترى في البيتين الأوَّلين شيئًا غير الذي عددتُه لك يجعله حسَنًا في النظم، وكلُّه من معاني النحو كما ترى. وهكذا السبيل أبدًا في كل حُسن ومزيَّةٍ رأيتَهما قد نُسبا إلى النظم، وفضلٍ وشرف أُحيل فيهما عليه.»

هذا هو منهج عبد القاهر وطريقةُ فَهمه للنحو، ومنه ترى أنه لا يقف بالنحو عند الحُكم في الصحة والخطأ، بل يَعْدوه إلى تعليل الجَودة وعدَمِها، حتى ليُدخل في ذلك أشياءَ استقر فيما بعدُ أن يجعلوها من «المعاني»؛ كمسألة التقديم والتأخير في قوله: «فلو إذ نبا دهرٌ … تكون على الأهواز داري بنَجْوة … إلخ.»

والواقع أن منهج هذا الرجلِ الموهوب مزيجٌ من النحو والمعاني، وهو يرى أن مردَّ كلِّ نقد هو طريقة نظم الكلام، فيقول (دلائل، ص٦١): «وإذ قد عرَفتَ أن مدار أمرِ النظم على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه؛ فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرةٌ ليس لها غايةٌ تقف عندها، وشأنها لا تجد لها ازديادًا بعدها، ثم اعلم أن ليست المزيَّة بواجبةٍ لها في أنفسها، ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تُعرَض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسَب موقع بعضِها من بعض، واستعمال بعضِها مع بعض، وإنما سبيل هذه المعاني سبيلُ الأصباغ التي تعمل منها الصورُ والنقوش، فكما أنك ترى الرجل قد اهتدى في الأصباغ التي عمل منها الصور، والنقش في ثوبه الذي نسَج، إلى ضربٍ من التخيُّر والتدبُّر في أنفُس الأصباغ، وفي مواضعها ومقاديرها، وكيفيةِ مزْجِه لها وترتيبه إياها، إلى ما لم يهتدِ إليه صاحبُه، فجاء نقشُه من أجل ذلك أعجبَ وصورتُه أغرب؛ كذلك حال الكاتب والشاعر في توخِّيهما معانيَ النحو ووجوهَه التي علمتَ أنها محصولُ النظم» (دلائل، ص٦٢).

(٢-٣) الذَّوق عند عبد القاهر

وهذا ينتهي بنا إلى ما نراه اليوم من أن النقد وضعٌ مستمر للمشاكل، وأن لكلِّ جملة أو بيت مشكلتَه التي يجب أن نعرف كيف نراها ونضعها ونحكم فيها. وهذا هو النقد المنهجي الذي تحدَّثنا عنه فيما سبق، وهو خيرُ نقد. ومن البيِّن أن الذوق هو الفيصل الأخير في هذه المسائل الدقيقة. وإلى كل هذه الحقائق فطن عبدُ القاهر بحسِّه الأدبي الرائع فقال (دلائل، ص٢٩٠): «اعلم أنك لن ترى عجبًا أعجبَ من الذي عليه الناسُ في أمر النظم؛ وذلك لأنه ما من أحدٍ له أدنى معرفةٍ إلا وهو يعلم أن ها هنا نظمًا أحسنَ مِن نظم، ثم تراهم إذا أنت أردتَ أن تُبصرهم ذلك، تَسدر أعينُهم، وتضلُّ عنهم أفهامُهم. وسبب ذلك أنهم أول شيء عدموا العلم به نفسه من حيث حسبوه شيئًا غيرَ توخِّي معاني النحو، وجعلوه يكون في الألفاظ دون المعاني، فأنت تلقى الجهدَ حتى تُميلهم عن رأيهم؛ لأنك تُعالج مرضًا مُزمنًا وداءً متمكنًا، ثم إذا أنت قُدتَهم بالخزائم إلى الاعتراف بأنْ لا معنى له غيرَ توخي معاني النحو، عرَض لهم من بعدُ خاطرٌ يدهشهم، حتى يكادوا يعودون إلى رأسِ أمرهم؛ وذلك أنهم يرَوننا ندَّعي المزية والحسن لنظمِ كلام من غير أن يكون فيه من معاني النحو شيءٌ يُتصوَّر أن يتفاضل الناسُ في العلم به، ويرَوننا لا نستطيع أن نضع اليدَ من معاني النحو ووجوهه على شيء، نزعم أنَّ من شأن هذا أن يوجب المزيةَ لكلِّ كلام يكون فيه، بل يروننا ندَّعي المزيةَ لكلِّ ما ندَّعيها له من معاني النحو ووجوهه وفروقه في موضعٍ دون موضع، وفي كلامٍ دون كلام …

والداء في هذا ليس بالهيِّن، ولا هو بحيث إذا رُمتَ العلاج منه وجدتَ الإمكان فيه مع كل أحدٍ مُسعفًا، والسعيَ مُنجِحًا؛ لأن المزايا التي تحتاج أن تُعلمهم مكانها، وتُصور لهم شأنها أمورٌ خفية، ومعانٍ روحانية أنت لا تستطيع أن تُنبه السامعَ لها، وتُحدِث له علمًا بها حتى يكون مهيَّئًا لإدراكها، وتكون فيه طبيعةٌ قابلة لها، ويكون له ذوقٌ وقريحة يجد لهما في نفسه إحساسًا بأنَّ من شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيها المزية على الجملة. ومن إذا تصفَّح الكلام وتدبَّر الشعر فرَّق بين موقع شيء منها وشيء، ومن إذا أنشدتَه قولَ أبي نواس:

رَكْب تساقَوْا على الأكوارِ بينَهمُ
كأسَ الكَرى فانتشى المَسْقيُّ والساقي
كأنَّ أعناقَهمْ والنومُ واضعُها
على المناكبِ لم تَعْمد بأعناقِ

أمن لها وأخذته الأريحية عندها … وأنت تقولُ في محاجَّتك على استشهاد القرائح وسَبْر النفوس وفَلْيِها.» وبهذا يعود عبد القاهر إلى النقَّاد الكبار أمثال: ابنِ سلَّام والآمديِّ وعلي بن عبد العزيز الجرجاني، الذين يرَون في الذوق «واستشهاد القرائح وسَبْر النفوس» المرجعَ النهائي في كل نقدٍ أدبي صحيح.

هذا هو منهج عبد القاهر؛ فلسفةٌ لُغوية ترى في اللغة مجموعةً من العلاقات، ونقدٌ يقوم على تلك الفلسفة فيرى «أن الألفاظ لا تفيد حتى تؤلَّف ضربًا خاصًّا من التأليف، ويُعمَد بها إلى وجهٍ دون وجه من التركيب والترتيب» (أسرار البلاغة، ص٢)؛ ومن ثم فالأساس هو النحو، على أن يشمل النحوُ علم المعاني، وأن يعْدُوَ الصحة اللُّغوية إلى الجودة الفنية. وفي النهاية تحكيمٌ للذوق فيما «تحيط به المعرفة ولا تؤدِّيه الصفة» من إحساسٍ بجمالِ لفظ في موضع خاص، أو فطنةٍ إلى قوة رابطة، أو أداة في جملة، أو بيت شعر دون غيرهما. وأما ما دون ذلك من بديعٍ فعبد القاهر يرفضه، ولا يقبل منه إلا ما يكون فيه تقويةٌ للمعنى أو إيضاح.

ومنهج عبد القاهر هو المنهج المعتبَر اليوم في العالم الغربي. ولقد جددَت الإنسانية معرفتها بتُراثها الروحيِّ منذ أن أخذَت به في أوائل القرن التاسع عشر، والمنهج اللغوي (الفيلولوجي) هو أكثرُ المناهج خِصبًا لا في الأدب فحَسْب، بل وفي كافة العلوم التاريخية.

ولكن — لسوء الحظ — لم يُفهَم منهج عبد القاهر على وجهه، ولا استُغلَّ كما ينبغي، ولقد قامت اليوم في أوروبا نظرياتٌ وأصول على فكرة أن «اللغة مجموعةٌ من العلاقات»، واستُخدِمت تلك الأصولُ في فلسفة اللغات وفي نقد الآداب.

وأما عندنا، فقد غلَب تيارُ البديع تيارَ المعاني عند السكاكيِّ ومَن تلاه، وكانت في ذلك محنةُ الأدب العربي.

المنهج اللُّغوي الذي يضمُّ إلى النحو — كما نفهمه — علمَ التراكيب Syntaxe الذي يشبه ما نسميه اليوم علم المعاني؛ هذا المنهج الذي وضعه عبد القاهر الجرجاني؛ خليقٌ بأن يُجدد فهمنا لتراثنا الأدبي كلِّه. وإذا لم يكن بدٌّ من تدريسِ شيءٍ نُسميه البلاغة، فلتكن بلاغة «دلائل الإعجاز».

إنه لتراثٌ عظيم أن نمتلك في النقد الأدبي المنهجي كتابَين كالموازنة والوساطة، وفي المنهج اللُّغوي كتابًا كالدلائل، نجد فيه أدقَّ نقدٍ موضوعي تطبيقيٍّ وأعمقَه.

وتلا عبدَ القاهر مؤلفون، بل وعاصره مؤلفون؛ كأبي عليٍّ الحسَن بن رشيقٍ القَيروانيِّ (المتوفَّى سنة ٤٦٣ﻫ، أو سنة ٤٥٦ﻫ) صاحب «العُمدة»، الذي جمَع في كتابه الكثيرَ من أخبار الأدب العربي والنقد وعلوم اللغة العربية، دون أن يتَّضح للمؤلف منهجٌ خاص وشخصيةٌ متميزة، ثم ضياءِ الدين أبي الفتح محمد بن الكريم الموصليِّ (المتوفَّى سنة ٦٣٧ﻫ) صاحبِ «المثَل السائر في أدب الكاتب والشاعر»، وهو المعروف بابنِ الأثير، شقيق عزِّ الدين المؤرِّخ المشهور، وفي كتابه تغلب الروحُ البلاغية النظريةُ روحَ التعليمِ والتقنين. ونحن لا يَعنينا في هذا البحث أن نقف عند هؤلاء الكتَّاب؛ لأنهم خارجون عن مجالنا، وإن كنا سنَعرِض ما ذكره ابنُ رشيق وابنُ الأثير في الجزء الثاني من هذا الكتاب، عند الكلام عن موضوعات النقد التي حان الحينُ لأن نأخذ في دَرْسها.

١  ورد في المفضليات للضبي منسوبًا للكَلْحَبةِ العُرَني.
٢  في استطاعتك أن تعود إلى كتاب «في الميزان» للدكتور محمد مندور؛ حيث تجد عدة مقالات عن مذهب عبد القاهر الجرجاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤