الفصل الأول

الموازنة بين الشعراء

(١) المنهج العام

لا نظنُّ كبيرَ فائدة في أن نتمهَّل في الحديث عن المراحل الأولى في الموازنة كما ظهرَت في تاريخ النقد العربي، وإنما نُجمل القول فيها، مشيرين إلى أنها كانت في أول أمرها أحكامًا جزئية خاليةً من كل تعليل، وأن الأهواء وخواطرَ الساعة ومناسَبات القول كانت من مصادرها، وأنها لم تستقرَّ إلا بتراخي الزمن، بل إن استقرارها لم يكن يومًا نهائيًّا إلا في المسائل الكلية، وأما التفاصيل فظلَّت موضعَ اختلاف بين الأدباء والنُّقاد والعلماء؛ كانوا يفضلون هذا الشاعرَ على ذاك، إلى أن انتهَوا إلى فكرة للطبقات، فأنفَقوا تقريبًا على بعضها، ووضعوا امرَأَ القيس وزُهيرًا والأعشى والنابغة في الطبقة الأولى بين الجاهليِّين، والفرزدقَ وجريرًا والأخطل في الطبقة الأولى من الإسلاميين، ثم اختلفوا في الطبقات التالية، كما نشاهد في طبقات ابن سلَّام وغيرها من كتب الأدب، بل لقد اختلفوا في المفاضلة بين شعراء الطبقة الأولى أنفسِهم وشعراء الطبقات التالية، وكانت مقاييسُ ابن سلام — كما رأينا — الجودةَ والكثرة وتعدُّدَ الأغراض. وجاء ابنُ قتيبة فحاول أن يُفرق بين الشعر حسَب لفظه ومعناه، أو حسَب الطبع والصناعة، وما إلى ذلك مما تحدَّثنا عنه بإسهابٍ في الجزء الأول.

ظهرت الموازنة إذن كمُفاضلة، ثم طبقات تقوم على مقاييسَ فنية، أو وفقًا للأهواء وعصَبيات العشائر. وهذا النوع من النقد لا طائلَ تحته؛ لأن الأحكام فيه مقتضَبة غيرُ مفصَّلة ولا صادرةٍ عن مناهجَ مستقيمة، وهو يدلُّ على روحٍ بدائية ساذجة هي روح البداوة، البعيدة طبعًا عن الروح العلمية كلَّ البعد.

وأما الموازنة التي نريد أن ندرسها هنا؛ فهي الموازنة المنهجية، وتلك لا نجدها إلا عند الآمديِّ الذي كتب فيها كتابًا نعتبره — كما قلنا — من أهم ما خلَّف العرب من تراث.

وأول ما نَلفت إليه النظرَ هو أن هذا الناقد العظيم كان مقيدًا بموضوع موازنته نفسها، وبطبيعة شعر أبي تمام والبحتري.

وهذان الشاعران يُمثلان في الشعر العربي ما يمكن أن نُسمِّيَه بالكلاسيكية الجديدة Neo classique، والناظر في شعرهما يجد أنهما لم يَعْدُوَا تناول المعاني الشعرية القديمة؛ يحاولان صياغتَهما صياغة جديدة.

ليس إذن ثمة علاقةٌ واضحة بين حياة هذين الرجلين وبين شِعرَيهما، كتلك التي نجدها مثلًا بين حياة أبي نُواس وشعره، أو بين حياة المتنبي وأبي العلاء وشعرهما، وكلُّ ما هناك هو أننا نرى اختلافًا بين شعر هذين الشاعرين تبعًا لطبيعة كلٍّ منهما الفنيةِ ومذهبه في الشعر. وأما موضوعات شعرهما فواحدة.

ولذلك لم تكن الموازنة بينهما ممكنةً إلا في الناحية الفنية. وأما محاولة تفسير معانيهما بحياةِ كلٍّ منهما والمؤثرات التي أثَّرَت فيهما، أو تحويلهما لمادة شعرهما وَفقًا لطبائعهما، فتلك أشياءُ لم يكن لدراستها محل.

موازنة الآمدي إذن موازنةٌ فنية. وللناقد عذره؛ لأن موضوع حديثه لم يكن يحتمل المنهجَ التاريخي أو المنهج النفسي. ومع ذلك فقد استطاع الناقدُ أن يجعل لموازنته قيمةً حقيقية؛ وذلك بأمرين:
  • (١)

    أنه لم يَقصُرها على أبي تمامٍ والبحتري، بل أحاط بكل معنًى عرَضَ له عند الشعراء المختلفين، فإذا تكلم عن التسليم على الديار مثلًا لم يورد ما قاله الشاعران فحسب، وإنما يورد ما قاله غيرهما، ويُقارن بين الجميع، حتى لتعتبر موازنته موسوعةً في المعاني الشعرية التي تناولها شعراء العرب في كافة العصور.

  • (٢)

    أنه لا يقف فيها عند مجرَّد المفاضلة بين الشاعرَين، بل يتعدَّاها إلى إيضاحِ خصائصِ كلٍّ منهما وما انفرد به دون صاحبه أو دون غيره من الشعراء.

يكشف لنا الآمديُّ إذن عن خصائصِ كل شاعر، ويُبين عمَّا خالف فيه غيرَه من الشعراء، ولكنه لا يُفسر سبب ما يُلاحظه، وإنما يكتفي بأن يناقشه من الناحية الشعرية أو الإنسانية. وذلك ما يمكننا فهمُه إذا ذكرنا أن المعانيَ التي عالجها هذان الشاعران لم تكن لها علاقةٌ مباشرة بحياتهما؛ ومن ثَم لم يكن من الممكن أن نردَّها إلى نوع حياة كل شاعر لنُعلل الفروق، وإن كان لهذا التفاوت معنًى أو لتلك الخصائص دلالة، فإنما تأتيها عن طريقٍ غير مباشر؛ طريق اتصال الأسلوب بنفسيةِ صاحبه وتعبيره عنها. ولنضرب لذلك أمثلةً توضح هذه الحقائق الهامة.

يتحدث الناقد «عمَّا لاقاه في سؤال الديار، واستعجامها عن الجواب، والبكاء عليها، فيورد لأبي تمام:

من سجايا الطُّلولِ ألَّا تُجيبَا
فصوابٌ من مُقلةٍ أن تَصُوبَا
فاسألَنْها واجعل بُكاك جوابًا
تجدِ الشوق سائلًا ومُجيبَا»

ثم يقول: وقوله «فاسألنْها واجعل بُكاك جوابًا»؛ لأنه قد قال: «مِن سجاياها ألا تُجيبا»، فليكن بكاك الجواب؛ لأنها لو أجابت أجابت بما يُبكيك، أو لأنها لما لم تُجِب علمت أن مَن كان يُجيب قد رحل عنها فأوجب ذلك بُكاك. وقوله: «تجد الشوق سائلًا ومجيبًا»؛ أي إنك وقفتَ على الدار وسألتَها لشدة شوقك إلى مَن كان بها، ثم بكيتَ شوقًا أيضًا إليهم، فكان الشوق سببًا للسؤال وسببًا للبكاء، وهذه فلسفةٌ حسَنة، ومذهبٌ من مذاهب أبي تمام، ليس على مذاهب الشعراء ولا طريقتهم.»

وإذن، فالناقد يُبصِّرنا بأن هذا المعنى من ابتكارات أبي تمام، ولكنه طبعًا لا يُفسر عثورَه به ولا اختياره له، وإنما هو توليدٌ شعري ومذهب فني انفرَد به. ولو أنك حاولتَ أن تردَّ ذلك إلى حقيقةٍ نفسية لضربتَ في غيرِ مضرب؛ لأن الأمر كلَّه أمرُ صناعة تقليدية، وأبو تمام لم يُسلم على الديار ولم يقف بها ويبكِ عليها لأن شيئًا من ذلك قد حدث فعلًا في حياته؛ وإنما فعل ذلك القدماءُ وجاء هو فسلك سبيلَهم. ونحن بعدُ لا ننكر أنه هو أو غيره من المقلدين قد يكون صادقَ الحزن. ولكَم من مرةٍ يحمل المرء حزنه على موضوعٍ لا علاقة له بمصدرِ ذلك الحزن، وإنما هو نقلٌ للقيم، والتماس مَنافذ للنفس، ولكن ذلك تأويلٌ وافتراض لا سبيل إلى الجزم به.

ويستمرُّ الناقد في حديثه فيُقارن أبا تمام في ذلك بالبحتريِّ قائلًا: ولم يسلك البحتريُّ هذه الطريق، بل جرى في هذا الباب على مذاهب الناس فقال:

فلم يَدْرِ رسمُ الدار كيف يُجيبنا
ولا نحن من فرطِ البكا كيف نسألُ

ثم يحكم بينهما فيقول: «وقول أبي تمام وإن كان فيه دقةٌ وصنعة، فهذا عندي أولى بالجودة، وأحلى في النفس، وأنوَطُ بالقلب، وأشبهُ بمذاهب الشعراء.»

وهذا هو منهج ناقدنا؛ يدلُّنا على عمود الشعر؛ أي على ما جرت عليه عادةُ الشعراء كلما كانت عادةً مقررة، ثم يُبصرنا بما أخذ به كلُّ شاعر في داخل ذلك المعنى، فإن وافق التقاليد دلَّ على ذلك، وإن خرج عنها بصَّرَنا بذلك، ثم يحكم على تجديد المجدِّد، وأساس حكمه هو الذَّوق والإحساس الإنساني المباشر. وهو هنا يحسُّ بما في جمال قول البحتري من أنه قد اختنق بالبكاء، فلم يستطع أن يسأل الطلَل، كما لم يدْرِ الطللُ كيف يجيب، ويفضل هذا النحو النفسي على إغراب أبي تمام الذي يجعل من الشوق سائلًا ومجيبًا، والسؤال والجواب كلها بكاءً في بكاء. ونحن بمقارنة أسلوب الرجلين في معالجة المعنى الواحد، نستطيع أن نلمح سهولةَ طبع البحتري ورقته، وطبيعته الشعرية، ونزعته الإنسانية المباشرة، فنُقارنها بتوليد أبي تمام العقلي، وإبعاده في المعنى إبعادًا يَشغلنا عن الإحساس المؤثِّر القريب.

ويتحدث الناقد عن وصف النساء المفارقات (مخطوط، لوحة ٨١ من الكتاب الثامن)، فيستنبط مذهبَ كلِّ من الشاعرَين، ويُقارنه بمذهب الشعراء الآخرين.

يوردُ للبحتري قوله:

عَجِلَت إلى فضلِ الخِمار فأثَّرَت
عذَباتُه بمواضع التَّقبيلِ
وتبسَّمَت عند الوداع فأشرقَت
إشراقةً عن عارضٍ مصقولِ
أأخيبُ عندكِ والصِّبا لي شافعٌ
وأُردُّ دونكِ والشبابُ رسولي

وقوله:

إذا ما نهى الناهي فلَجَّ بيَ الهوى
أصاخَت إلى الواشي فلجَّ بها الهَجْرُ
ويومَ تثنَّت للوداع وسلَّمَت
بعينينِ موصولٍ بلَحْظِهما السِّحرُ
توهَّمتُها ألْوى بأجفانها الكَرى
كرى النومِ أو مالت بأعطافِها الخَمرُ

ثم يقول: «فهذا المذهب الذي سلكه البحتريُّ أَولى بالصواب في وصف النساء المفارقات، وأشبهُ بأحوالهن من مذهب أبي تمام في وصفه إياهنَّ بشدة الجزَع والولَه، وبكاء الدم، ولطمِ الوجه، والإشفاء على الهلَكة، وإظهاره التجلُّد وقلة الاحتفال بهن، وذلك قوله:

وقالت أتنسى البدْرَ قلتُ تجلُّدًا
إذ الشمسُ لم تغرب فلا طلَع البدرُ

وقوله:

وما الدمع ثانٍ عَزْمتي ولوَ انَّها
سقى خدَّها من كل عينٍ لها نهرُ»

وينتقد الآمديُّ هذه المعانيَ بقوله: «ولو كان وصَف بهذا زوجته وابنته لكان معذورًا، ولكنه إنما وصف حبائبَه؛ لأنه ذكرهنَّ بالجمال والحسن، والزوجات لا يوصَفن بذلك.» ويقارن بينه وبين عُمر بن أبي ربيعة فيقول: «وما انتهى عمرُ بن أبي ربيعة — معشقًا يَنذر أشرافُ النساء النذورَ في رؤيته ومجالسته — من ذكر صَبْوتِهن به إلى مثلِ هذه الأوصاف ولا قريبٍ منها. وقد عِيب عمرُ بذلك واستُقبِح منه، على أنه قد صدَق في أكثرِ ما قال ولم يكذب، وأتى بالأخبار على وجوهِها، فلم يَقْنع أبو تمام إلا بالزيادة عليه، والتناهي فيما يخرج عن العادة.»

ونحن وإن كنا لا نستطيع أن نَقبل ما يراه الآمديُّ من أن إظهار التولُّه في الغزَل أجْدى بالشعراء من إظهار التجلُّد، وذلك على نحوٍ مطلق؛ لأننا لا نكاد نتصور أن نُخضع الشعرَ لقاعدةٍ غير قاعدة الصدق في العبارة عمَّا تستشعره النفس؛ أقول: إننا إذا كنا لا نستطيع أن نقبل تلك القاعدةَ السقيمة التي أخذ بها العسكريُّ فيما بعد، كما أشرنا سابقًا، إلا أننا نُوافقه كلَّ الموافقة عندما يرى في صدق عمر بن أبي ربيعة عذرًا، وإن كان ذلك — لسوء الحظ — لم يمنعه من التأمينِ على ما رآه غيرُه من عيبٍ في مذهب ذلك الشاعر الغزَلي الكبير.

وفي الحق، إن الآمديَّ لم يغب عنه بُعدُ شعر أبي تمام عن حياته، وصدورُه عن صنعةٍ فنية فحسب، ولناقدنا في ذلك ملاحظةٌ قوية؛ وذلك حيث يورد قوله (المخطوط، لوحة ٨٢ من الكتاب الثامن):

لما استحرَّ الوداعُ المحض وانصرمَت
أواخِرُ الصبر إلا كاظمًا وجِمَا
رأيتُ أحسنَ مرئيٍّ وأقبحَهُ
مستجمِعَين لي التوديعَ والعنمَا

ثم يقول: استحسن إصبعَها واستقبح إشارتها مودِّعة. وهذا خطأٌ منه أن يستقبح إشارتَها إليه بالوداع. أتراه لم يسمع قول جرير:

أتنسى إذا تُودِّعُنا سُليمى
بفرعِ بَشامةٍ سُقِي البَشامُ

فدعا للبَشام بالسُّقيا؛ لأنها ودَّعَته به فسُرَّ بتوديعها، وأبو تمام إنما استحسن إصبعَها واستقبَح إشارتها، فما ظنك بمن استقبح إشارةَ معشوقه إليه عند توديعه؟! ويُفسر الناقد فسادَ ذَوق الشاعر بقوله: «وهذا يدل على أنه ما عرَف شيئًا من هذا ولا شاهَده ولا بُلِي به.» وهذا يُعزز ما سبق أن قلناه من عدم وجود علاقةٍ حقيقية بين تجارِب الشاعر في الحياة وما قال من شعر.

هذا هو منهج الآمديِّ في الموازنة التفصيلية بين الشاعرَين؛ توضيحٌ لمذاهب الشعر العربي، واستنباطٌ لأصالة كلٍّ منهما في كل معنًى عبَّرا عنه، ثم مقارنةُ ما قالاه بما قاله غيرُهما من الشعراء، مع الحكم على تلك الأصالة حكمًا يقوم على الذَّوق والحقائق الإنسانية العامة، وإن لم يخلُ الأمر من تحكُّم، ثم الوقوفُ في تفسير التفاوُت عند النزعة الفنية، دون أيِّ محاولة ليردَّ ذلك إلى الطبيعة النفسية لكل شاعر؛ وذلك لفطنة الناقد إلى أنه لا علاقة بين شعر هذين الشاعرين وتجارِب حياتهما.

والآن وقد أوضحنا منهجَ الناقد والضروراتِ التي أمْلَت عليه ذلك المنهج، نستطيع أن ننظر في خُطته العامة نظرة شاملة؛ لنرى كيف أدرك موضوعَه وقسم دراسته إلى مراحل.

موازنة الآمديِّ — كما ذكرنا عند الكلام على هذا الناقد — تنقسم إلى أربعة أقسام:
  • (١)

    مُحاجَّة بين خصوم أبي تمام وخصوم البحتري.

  • (٢)

    دراسة الناقد لسرقات كلِّ شاعر منهما.

  • (٣)

    نقده لأخطاءِ ومعايب كلٍّ ثم لمحاسنه.

  • (٤)

    موازنةٌ تفصيلية بين المعاني المختلفة التي تكلَّما عنها.

ونحن نترك بابَي السرقات ونقد المساوئ والمحاسن؛ لأننا سنُفرد للسرقات فصلًا خاصًّا، كما سنتكلم عن المساوئ والمحاسن في فصلِ مقاييس النقد.

أما البابان الآخَران فهما في الواقع موضوع الموازنة، وهما اللذان نريد أن نقف عندهما الآن؛ لأنهما مثالٌ قوي لمنهج الموازنة، كما يمكن أن تكون بين شاعرَين كالبحتريِّ وأبي تمام.

تنقسم تلك الموازنة إذن إلى موضوعين؛ الأول: محاجة نظرية يجمع فيها الناقد حججَ أنصار كلِّ شاعر فيما يُشبه المناظرة. وهذه، فضلُ الناقد فيها محصور، وإن لم يخلُ الحال من توجيهه لطرق المحاجَّة وَفقًا لآرائه عن الشاعرَين. وهذه المناظرة بعدُ ليستْ نقدًا بمعنى اللفظ؛ إذ تغلب عليها روحُ اللَّجاجة والحرص على الانتصار لأحد الشاعرَين بحججٍ كثيرة؛ منها — كما سنرى — ما لا يمتُّ إلى حقائق الشعر بشيء، وإنما هي مسائلُ تاريخية لها قيمتها كوثائق، ولكنها لا تميل الميزان. وأما الموضوع الثاني، وهو الموازنة التفصيلية، فإنه المَيدانُ الذي أظهر فيه الناقدُ مقدرةً وعلمًا وذوقًا واستقصاءً، لا نظير لها في كتب النقد العربي. ولنتحدث الآن عن كل موضوع بمفرده.

(١-١) المحاجة

يقف الناقد من تلك المحاجة موقفَ المحايد، وإن كان ذوقه الخاص يُطالعنا من حينٍ إلى حين. وهذا أمر طبيعي كما قلنا؛ لأننا لا نستطيع أن نتجرَّد من مَيلنا في المسائل الأدبية، وإن ادَّعَينا ذلك كنا مُغالطين أو جاهلين بحقيقة الأدب.

وهو يبدأ فيُقرر أن أصحاب البحتري هم الميَّالون إلى الشعر المطبوع المتمسكون بعمود الشعر، بينما أصحاب أبي تمام هم أهل الصنعة وتوليد المعاني. وأما عن نفسه فهو يرفض أن يُفضل أحدَهما على الآخر تفضيلًا مطلقًا. وبفراغه من وصف طرَفَي الخصومة، يورد مناظرتَهم في إحدى عشرة نقطة؛ نُلخصها قبل أن نأخذ في مناقشتها، والذي يبدأ المناظرةَ هو صاحب أبي تمام يوردُ الحجة، وصاحب البحتري يرد عليها.

  • (١)

    البحتريُّ أخذ عن أبي تمامٍ وتتلمذَ له، ومن معانيه استقى، حتى قيل الطائيُّ الأصغر والطائيُّ الأكبر. واعترف البحتريُّ نفسه بأنَّ جيِّد أبي تمام خيرٌ من جيده، على كثرة جيد أبي تمام.

    يردُّ صاحب البحتري بإيراد بَدْءِ تعارفهما: «ويظهر أن البحتريَّ كان إذ ذاك يقول الشعر الجيد، وإذن فهو لم ينتظر حتى يُعلمه أبو تمام صناعةَ الشعر. وإذا كان البحتري قد استعار بعضَ معاني أبي تمام، فهذا غيرُ منكر؛ لقرب بلدَيهما، وكثرةِ ما كان يطرق سمْعَ البحتري من شعر أبي تمام. ولهذا نظائرُه؛ فكُثيِّر أخذ عن جميل، ومع ذلك يُفضل الناس كُثيِّرًا. ثم إن استواء شعرِ البحتري مزيَّةٌ يفضل بها أبا تمام الذي تفاوَت شعرُه تفاوتًا يقدح في صحةِ طبعه. وتفضيلُ البحتري لجيد أبي تمام على جيده هو ليس إلا تواضعًا يُحمد عليه، لا حجة تُساق ضده.»

  • (٢)

    إن أبا تمام رأسُ مذهب عُرِف به. وهذه فضيلةٌ عَرِي عن مثلها البحتري.

    لم يخترع أبو تمام شيئًا، وإنما أسرف فيما سبق إليه من أوجُه البديع. ورأس المذهب ليس أبا تمام، بل مُسلم بن الوليد، الذي قيل عنه: إنه أولُ مَن أفسد الشعر، وتبعه في ذلك أبو تمام؛ يطلب البديع فيخرج إلى المحال.

  • (٣)

    لم يُعرض عن أبي تمام إلا مَن لم يفهمه، وأما من فهمه فقد أُعجب به، والعبرة برأي الخواص.

    إن هؤلاء الخواصَّ هم الذين يُرذلون شعر أبي تمام؛ كابن الأعرابي، وأحمد بن يحيى الشَّيباني، ودعبل، وأبي عبد الله محمد بن الجراح، وعبد الله بن المعتز، كما أهمله المبردُ فلم يتحدث عنه في أماليه، مع أنه كان قد مات، ومذهبُ المبرد هو أن يتحدث عن الأموات؛ ولذا لا يُعتبر سكوته عن البحتريِّ كسكوته عن أبي تمام؛ لأن البحتريَّ كان معاصرًا له. ولقد أعلن هو نفسُه عن إعجابه بشعر البحتري، وإن اعتذر عن عدم الحديث عنه في أماليه لمعاصرتِه له.

  • (٤)

    دعبل كان حاسدًا لأبي تمام، وابنُ الأعرابي كان شديدَ التعصب عليه؛ لغرابة مذهبه، ولأنه لم يفهمه.

    ليس الذنبُ ذنبَ ابن الأعرابي، وإنما هو ذنب أبي تمام الذي يُغرِب ويتكلَّف.

  • (٥)

    ليس هذا إغرابًا، وإنما هو تبريزٌ في العلم الذي يظهر في شعره أكثرَ مما يظهر في شعر البحتري.

    الشعر غيرُ العلم، ولم يقل إن العلماء كالأصمعيِّ والكسائي وخلَفِ بن حيان الأحمرِ قد أجادوا الشعر، وإدخالُ أبي تمام للألفاظ الغريبة في الشعر تكلفٌ لا علم فيه.

  • (٦)

    إن أبا تمام قد أتى في شعره بمعانٍ فلسفية وألفاظ غريبة لم يفهمها الأعرابُ فعابوه، حتى إذا فُسِّرَت لهم استحسنوها.

    هذه دعوى تدَّعونها، وإنما أساء شاعرُكم أحيانًا، وأحسن أحيانًا، وإحسانه دون الإساءة.

  • (٧)

    إن للبحتريِّ أيضًا إساءاتِه وأخطاءه.

    ولكن أخطاء أبي تمام أكثر، ونحن لا نُنكر أن القدماء أنفُسَهم قد أخطَئوا، ولكننا لا نعيب شاعرَكم بأخطائه فحسب، بل وبفساد مذهبه الشعري، وإحالته في استعارته، وسوء سَبكِه، ورداءة طبعه، وسخافة لفظه.

  • (٨)

    إن حسنات أبي تمام تشفع لمساوئه، ومن المعلوم أن لكل الشعراء مساوئَهم إلى جانب حسناتهم، فلم تختصُّون أبا تمام بالطعن؟

    لأن سهو القدماء وغلطَهم نادر، وصاحبكم لا ندري مواضعَ زَلَلِـه.

  • (٩)

    إن البحتريَّ قد رثى أبا تمام، وأظهر إعجابه به، ورأى فيه هو ودعبلٌ خيرَ شعراء عصره.

    هذا ليس دليلًا؛ لأن الرجلَين كانا من قبيلةٍ واحدة وكانا متصافيَين، ثم إن العادة جرَت بتقريظ الأموات بأكثرَ مما يستحقونه.

  • (١٠)

    إن جيِّد أبي تمام لا يلحق به.

    إن جودة هذا الجيد لم تظهر إلا لمجاورتها الرديءَ من جميع النواحي، وشعر البحتري مستوٍ؛ ولهذا لم يَبرُز جيده، ومع ذلك فجيده لا حصر له.

  • (١١)

    إن البحتري قد أخذ بمذهب أبي تمام فأغربَ هو الآخر في الاستعارة في غير موضع.

    ادِّعاء الأخذ والسرقة مردود، والكثير مما اتهمتم البحتريَّ بسرقته معانٍ مشتركة لا أصالةَ فيها حتى يُقال بسرقتها، وخير ما قال البحتري هو ما صدر عن طبعه هو.

وبالنظر في هذه الحجج، نجد أنَّ من بينها ما لا موضعَ للمحاجة به؛ كرثاء البحتري لأبي تمام، ومنها ما يقوم على ما لبعض الآراء من وزن، لا لقيمة تلك الآراء في ذاتها، بل لقيمة القائلين بها؛ كآراء دعبل وابن الأعرابي وغيرهما. ومن البيِّن أن العبرة ليست بالرأي أو بقائله، بل بالحُجج التي تدعم ذلك الرأي.

ومع ذلك، فنستطيع أن نستخلص منها حقيقةً هامة، هي تتلمُذ البحتري لأبي تمام وأخذُه عنه، واتفاقه معه في المذهب. وهذه مسألة يُسلِّم بها الفريقان.

والواقع أن كِلا الشاعرين «كلاسيكي جديد»، كما أن شعر كلٍّ منهما شعر مصنوع، وليس ثمة فرقٌ بينهما غير أن أحدهما قد أتقن الصنعة وأحكمَها حتى اختفت، وأصبح كلامُه كالمطبوع الصادرِ عن النفس دون قصدٍ إليه، بينما الآخر قد توعَّر وأسرف حتى ظهرَت صناعته وبدا تكلُّفُه. ونحن إذا قصدنا بالطبع الطبْعَ النفسي لا الطبع الفني، لم نستطع أن نصف شعر البحتري به.

وأبلغُ من ذلك أن شعره — حتى من الناحية الفنية — لم يخلُ من قبحٍ وتكلف ورداءة، وإلى هذا فطن النقاد، فالآمديُّ مثلًا يورد قوله:

دَعْ دموعي في ذلك الإشتياقِ
تتناجى بذِكر يوم الفِراقِ

ويُعلق عليه بقوله (المخطوط): «وهذا بيتٌ رديء قد عابه ابنُ المعتز وقال: ما أقبحَ قولَه «ذلك الاشتياق»! وهو لَعمري قبيح، ولا أعرف له مثلَه.»

ثم إنهم قد أحصَوا المعانيَ التي أخذها البحتريُّ عن أبي تمام، وقبل الآمدي منها ما يزيد على المائة بيت. وإن صحَّ ذلك كان فيه دليلُ تأثرِ أحدهما بالآخر. وفي الفصول التي كتبها صاحبُ الموازنة عن أخطاء البحتري، وقُبح استعاراته وطِباقه وجناسه؛ ما يُظهرنا على مبلغ ذلك التأثر؛ إذ نُلاحظ أن العيوب مشتركة بينها.

وإذن فالشاعران متَّحدان في موضوعات شعرهما، وفي طبيعة ذلك الشعر من ناحية عدم علاقته بنفسَيهما، وكلُّ ما بينهما من خلافٍ لا يعدو نوع الصناعة.

هذه هي الحقيقة الوحيدة التي نستخلصها من «المحاجة»، وأما الموازنة التفصيلية ففيها نجد من الحقائق الأدبية والإنسانية ما يُعطي الكتابَ كلَّ قيمة.

(٢) الموازنة

الناظر في هذه الموازنة التي تبدأ في الجزء المطبوع من صفحة ١٧٤، وتستمرُّ في الجزء المخطوط إلى نهايته، يجد أن المؤلف قد تتبَّع فيها ترتيبَ المعاني في القصيدة العربية التقليدية، فقسمها ثلاثة أقسام:
  • (١)

    الديباجة: أعني مَطالعَ القصائد.

  • (٢)

    الخروج: وهو عبارةٌ عن الأبيات التي يربط بها الشاعرُ بين مقدمته وموضوعه التي تكون غالبًا في المدح.

  • (٣)

    معاني المدح: وعند الجزء الأول من تلك المعاني يقف المخطوط.

والناقد لا يكتفي بأن يُجمِل المعانيَ المختلفة التي تردُ في القصائد، بل يُفارق بينها أدقَّ مفارقة وأمْعنَها استقصاءً. وإليك الدليل:

يبدأ بإيراد ما لاقاه في ذكر «الوقوف على الديار» آخذًا في دَرسِه بمذهب المقارنة الذي وضَّحناه فيما سبق، ثم ينتقل إلى «التسليم على الديار، فذِكْر تعفية الدهور والأزمان للديار»، «فتعفية الرياحِ للديار»، «فالبكاء على الديار»، «فسؤال الديار واستعجامها»، ثم «ما يخلف الظاعنين في الدار من الوحش وما يُقارب معناه»، و«ما تُهيجه الديار وتبعثه من جَوى الواقفين بها»، و«الدعاء للدار بالسُّقيا»، و«لوم الأصحاب في الوقوف على الديار». وهو يورد كلَّ ذلك سواءٌ أكانت الأبيات مطالعَ أم أتت بعد المطالع؛ أعني في حشو الديباجة. وينتهي الجزء المطبوع، ولكننا نجده يُتابع نفس التفصيل في المخطوط، فيتحدث عن «ما جاء في ترك البكاء على الديار والنهي عنه»، و«ذكر الفراق والوداع والترحُّل عن الديار والبكاء على الظاعنين»، و«ما ذِكْراه في استيلاء النوى على الأحباب المفارقين»، و«ذكر الأنفاس والحرق والزفرات عند الفراق»، و«زوال الصبر وقلة التجلُّد»، و«ما قالاه في قتل الفراق للمُفارق وسفكِ دمه»، و«ما قالاه في الغزَل وأوصاف النساء ونُعوتهن وشدة الشوق والتذكر والوَجد والغرام»، و«باب نَوح الحمام» و«ما جاء عنهما في طروق الخيال»، و«ما قالاه في الشِّيب والشباب»، و«كره النساء للمَشيب»، «ونزول الشَّيب قبل حينه» و«البكاء على الشباب»، و«الاعتذار عن الشَّيب»، و«مدح الشَّيب والتعزِّي عنه»، و«ذكر الكبر وشكوى الدهر وتغيُّر الحال»، و«ذكر ظلمه واعوجاجه وتعذُّر الرزق على ذَوي الحزم والفهم، وتيسُّره لذوي الجهل والعجز»، وفي «التعزي والصبر والقناعة وما قالاه في ضد ذلك»، وما قالاه «في النهوض لطلب الرزق» و«في الصبر والقناعة»، و«ذم ذَوي الغنى على البخل، وذكر مساعدة الدهر لذوي الجهل وتحامُلِه على أهل الفضل والعقل»، و«ما ذكَرا فيه سرى الليل»، «وباب الشحوب والتغيُّر من الأسفار». وهنا ينتهي الناقد من تفصيل المعاني التي يتواردها الشاعران وغيرهما من الشعراء في مطالع قصائدهم، ثم يأخذ في دراسة المخارج.

ومن العناوين التي عددناها، نلاحظ مبلغَ دقة المؤلف وتمييزه بين الدقائق. وهو يرى فيما يُسميه جملةً ببكاءِ الديار معانيَ شتى، ثم ينتقل إلى النَّسيب فيُفصل معانيَه كذلك، ويورد كلَّ ما يتصل بتلك المعاني، ويتدرَّج من ذلك إلى شكوى الزمن فذِكْرِ الأسفار. وهنا يصل الشاعر عادةً إلى المديح ويحتال كي يُحسِنَ التخلص. وهذا ما يُنبهنا إليه الآمديُّ فيقول (لوحة ١٨٦):

«ومضت أنواعُ التشبيب كلها. وهذا بابٌ أرسم فيه الأبوابَ التي خرَجا فيها من النسيب إلى المدح.»

ويبدأ المؤلف دراسته للخروج بتبصيرنا بتقاليد الشعراء في هذا السبيل، وما طرأ على تلك التقاليد من تغيُّرات، فيقول: اعلم أنهما جميعًا (البحتريَّ وأبا تمام) تعَمَّلا في بعض قصائدهما النسيب، ووصَلا النسيبَ بالمدح، وأعرَضا في كثيرٍ من أشعارهما عن هذا المعنى، وابتدَآ بالمدح منقطعًا عمَّا قبله. وكلا الوجهين قد فعله شعراءُ الجاهلية والإسلام، وكانوا كثيرًا ما يقولون إذا فرَغوا من النسيب وأرادوا المدح أو غيره من الأغراض: «دَع ذا»، فتجنَّبها المتأخرون واستقبَحوها، وكذلك قولهم «فعد عن ذا»، وهي عندهم أحسن، ويأخذ في إيراد الأمثلة لما جاء منقطعًا؛ كقول أبي تمام:

هنَّ الحَمَامُ فإنْ كسَرتَ عِيافةً
من حائهنَّ فإنهنَّ حِمامُ

إذ خرج بعد ذلك مباشرةً بقوله:

اللهً أكبرُ جاء أكبر مَن جرَتْ
فتبعثرَت في كُنهِه الأوهامُ
ليورد لنفس النوع أربعةَ عشَر مثلًا؛ «فهذا الجنس من الخروج إلى المدح هو الأعمُّ في شعرهما.» ومن هذا نرى أن الناقد يُميز في الشعر العربي كله بين نوعين من الخروج:
  • (١)

    خروجٌ منقطع، وهو أن يترك الشاعرُ المعنى الأخير في ديباجةٍ ليدلف إلى المدح، والقدماءُ كانوا يفعلون ذلك بقولهم «فدَعْ ذا» أو «فعَدِّ عن ذا»، وأما المحدَثون فإنهم يستقبحون هذه الألفاظ، ويُفضلون الانتقالَ بغير رباطٍ واهٍ كهذا.

  • (٢)

    والطريقة الأخرى فيما يُلاحظ الناقد «هي تلك التي يجعلون فيها سببًا يصلُ النسيبَ بالمدح. وهذا السبب على معانٍ شتى؛ منها الخروج بذكر وصف الإبل والمهامِهِ إلى الممدوح. وهذا المعنى عامٌّ كثيرٌ في أشعار الناس؛ فمِن ذلك يقول أبو تمام:

يُعنِّفُني أنْ ضِقتُ ذَرعًا بحبِّهِ
ويَجزعُ أنْ ضاقت عليه خَلاخِلُهْ

ثم يخرج إلى مدح المعتصِم فيقول:

أتَتْك أميرَ المؤمنين وقد أتى
عليها المدى أدْماثُه وجَراوِلُهْ
نصَرْنَ السُّرَى بالوَخْدِ في كل صَحْصحٍ
وبالسُّهُد الموصولِ والنومُ خاذِلُهْ
رواحِلُنا قد بزَّنا الهمُّ أمرَها
إلى أن حَسِبنا أنهنَّ رَواحِلُهْ
إذا خلَع الليلُ النهارَ حَسِبْنَها
بإرْقالِها من كلِّ وجهٍ تُقاتِلُهْ
إلى قطُبِ الدُّنيا الذي لو بفضلِه
مدَحتُ بَني الدُّنيا كَفَتْهم فَضائلُهْ»

ويُورد لذلك عدةَ أمثلة، ثم يقول: «وقد خرَج أبو تمام إلى المدح بوصفِ الخيل أيضًا»، ويضرب الأمثلةَ لذلك، ثم يورد ما وجَده في شعر البحتريِّ «من جعله السفينة بمكان الناقة»، ويختم هذا النوع من الخروج بقوله: «وللبحتريِّ في الخروج إلى المدح بذكر الإبل غيرُ شيء، لو استقصيتُه وأتيتُ بجميعِ ما لأبي تمام فيه لطال الباب. وما تركتُ لهما إلا وسطًا ليس بجيدٍ ولا رديء، ولا خفاءَ بفضل البحتريِّ في سائر ما أوردتُه على أبي تمام».

ويأخذ الناقد في إحصاءِ وسائل الخروج المتصل الأخرى، «فيُحدث عن خروجهما إلى المدح بمخاطبة النساء (لوحة ١٩٧)، ويذكر قسوة الدهر ولينه بفضل الممدوح …» إلخ، وبذلك ينتهي باب الخروج؛ المنقطع منه والمتَّصل. وهو — كما رأينا — لا يكتفي بالموازنة بين ما ورَد عن الشاعرَين في كل نوع، بل يُبصرنا بتقاليد الشعر عامة.

وأخيرًا يصل إلى باب المديح فيضع الخُطةَ بقوله: «أولُ ما أبدأ به من مدائحهما ذِكر السُّؤدد والمجد وعلوِّ القدر، ثم ما يخصُّ الخلفاء من ذِكر دون غيرهم؛ منه ذكر الخلافة وما ينصرف عليه القولُ من معانيها، ذكر الملك والدولة، ذكر ما يخصُّ أهلَ بيت النبوة من المدح دون سواهم من ذِكر طاعتهم، والمحبة لهم، والمعرفة لحقِّهم، ذكر الآلة التي كانت للنبيِّ عليه السلامُ فصارت إليهم، ذكر الآثار بالحرَم، ذكر علوِّ القَدْر وعِظم الفضل، ذكر تأييد الدين وتقويةِ أمره، ذكر الرأفة والرحمة، ذكر إفاضة العدل وإقامة الحق، ذكر سداد الرأي وحُسن السياسة والتدبير والاضطلاع بالأمور والحِلم والعقل، ذكر الجلال والجمال وما إليها والجهارة والهيبة، ذكر كرَم الأخلاق ولينها، ذكر ما ينبغي أن يُمدح به الخلفاء من الجود والكرم، ذكر ما ينبغي من الشجاعة والبأس.» ثم يُفصل القولَ في هذه المعاني، وبانتهائه منها ينتهي المخطوط الذي سبق أن أثبتنا أنه ناقص.

هذا هو التخطيط العامُّ لتلك الموازنة التفصيلية التي لم يُكتَب مثلها في النقد العربي، ومنه نرى منهج المؤلف المستقيم؛ إذ يُتبِع سيرَ القصيدة ديباجةً فخروجًا فمديحًا، وهو في كل جزءٍ من هذه الأجزاء الثلاثة يُفصل المعانيَ ويميز بينها، بحيث لا نظننا كنا مُبالغين في شيءٍ عندما قلنا: إن هذه الموازنة يمكن اعتبارُها موسوعةً في معاني الشعر العربي منقطعةَ النظير.

أما طبيعة تلك الموازنة، فهي في الواقع مزدوجة؛ إذ إنها تفضيليةٌ ووصفية معًا؛ تفضيلية لأن الناقد وإن كان قد رفض في أول كتابه أن يُفاضل بين الشاعرين مفاضلةً مطلقة، إلا أنه يحكم بينهما في كل معنًى عرَضَا له، فيُفضل البحتريَّ أحيانًا ويفضل أبا تمام أحيانًا أخرى، ويرى أنهما متكافئان مراتٍ كثيرة. وهي وصفيةٌ لأن المؤلف لا يقف عند المفاضلة، بل يصفُ خصائصَ كلِّ واحد منهما ويُظهرها. ولقد مرَّت لذلك أمثلةٌ عند كلامنا عن الآمدي، ثم في أوائل هذا الفصل.

والآن لم يبقَ لدينا للإحاطة بالموضوع إلا أن ننظر في الأسس التي يُفاضل بها بين الشاعرَين، ولكن أليست هذه الأسسُ هي بعينها المقاييسَ التي تُستخدم في النقد كله؟ وحيث إننا سنُفرِد فصلًا لتلك المقاييس، فإننا نتركها إلى أن نصل إليها.

هذه موازنة الآمدي وسُبله إليها، وهي — كما يرى — موازنةٌ منهجية في ناحيتَيها المختلفتين: ناحية المفاضَلة وناحية استنباط الخصائص. والمُشاهَد في تاريخ النقد العربي أنها ظلَّت الوحيدةَ من نوعها؛ إذ إن المؤلفين اللاحقين قد اكتفَوا:
  • (١)

    إما أن ينقلوا إلينا آراء السابقين في المفاضلة بين الشعراء. وهذا ما نجده في العُمدة لابن رَشيق.

  • (٢)

    وإما أن يأتوا بموازنةٍ وصْفيَّة عامة، كتلك التي يوردُها ابن الأثير عندما يُوازن بين أبي تمامٍ والبُحتري والمتنبي، ويحدد فيها خصائصَ كلٍّ منهم.

  • (٣)

    وإما أن يضَعوا مقاييسَ للحكم على جودة الشعر ورداءته كما يفعل عبد القاهر الجرجاني.

ولقد سبق أن رأينا علي بن عبد العزيز الجرجاني نفسَه يُقارن بين المتنبي وغيره من الشعراء؛ كما فعل في وصفه للحمَّى ووصفه للأسد، ولكن مقارنته جاءت مقتضَبةً لا غَناء فيها.

موازنة الآمدي إذن فريدةٌ في النقد العربي، ونحن لم نقصد من هذا الفصل إلى إظهارِ كل ما فيها من غنًى، وإنما وضَّحنا موضوعاتها ومناهجها، تاركين للقارئ أن يتمهَّل عند ما فيها من تفاصيل، وهو لا ريب واجدٌ عندئذٍ ثروةً لا حدَّ لقيمتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤