الفصل الثاني

السرقات

هذه مسألةٌ خطيرة، لا لأنها شغَلَت النقادَ من العرب أكثرَ مما شغلَتهم أيةُ مسألة أخرى فحسب، وخاصة منذ ظهور أبي تمام وقيامِ الخصومة حوله؛ بل لأنها أيضًا تتناول أهمَّ ما تسعى إلى معرفته الدراساتُ الأدبية، ألا وهو أصالةُ كلِّ شاعر أو كاتب، ومبلَغُ دينه نحوَ من سبقه أو عاصَره من الشعراء والكتَّاب.

ونحن لا نريد أن نقف عند الملاحظات الجزئية التي نجدها في كتب الأدب، أمثال «الشعر والشعراء» و«الأغاني»، أو عند ما اتُّهم به الشعراءُ كجريرٍ والفرزدق، أو بشَّارٍ وسَلْمٍ الخاسر، أو أبي تمام ومعاصريه بعضهم لبعض من سرقة؛ فتلك أخبارٌ تاريخية حظُّ النقد فيها ضعيف؛ ولذلك نغادرها إلى النظر في دراسة السرقات دراسةً منهجية. وهنا لن نجد كما وجدنا في مسألة الموازنة كتابًا واحدًا، بل عدة كتب، وإن كان بعضُها قد ضاع فإن لدينا ما يكفي لاستنباط بعضِ المبادئ العامة التي اتُّخذت أساسًا لدراسة تلك المعضلة الشائكة، وبخاصةٍ إذا ذكَرنا أن الكتب التي بين أيدينا الآن كالموازنة والوساطة وغيرهما قد أشارت إلى الكتب المفقودة، فناقشَت ما ورَد فيها من مبادئ.

والذي نظنُّه هو أن دراسة السرقات دراسةً منهجية لم تظهر إلا عندما ظهر أبو تمام؛ وذلك لأمرَين:
  • (١)

    قيام خصومةٍ عنيفة حول هذا الشاعر. ومن الثابت أن مسألة السرقات قد اتخذَت سلاحًا قويًّا للتجريح. ونحن نعلم الآن أنه قد كُتبَت عدة كتب لإخراج سرقات أبي تمام وسرقات البحتري، وكان المؤلِّفون متعصِّبين لأبي تمام ومذهب البديع، أو للبحتريِّ وعمود الشعر؛ أي منقسمين إلى أنصار الحديث وأنصار القديم.

  • (٢)

    ثم لأنه عندما قال أصحابُ أبي تمام: إن شاعرهم قد اخترع مذهبًا جديدًا وأصبح إمامًا فيه، لم يجد خصومُ هذا المذهب سبيلًا إلى ردِّ ذلك الادِّعاء خيرًا من أن يبحثوا للشاعر عن سرقاته؛ ليدلُّوا على أنه لم يُجدد شيئًا، وإنما أخذ عن السابقين ثم بالغَ وأفرَط. وبهذا قد حدَّثنا الآمدي نفسُه عندما قال إنه لم يتتبع سرقات البحتري بنفس الاهتمام الذي تتبَّع به سرقات أبي تمام؛ لأن أحدًا لم يدَّعِ أن البحتريَّ رأسُ مذهبٍ جديد.

وأكبرُ دليل على أن دراسة السرقات دراسةً منهجية قد نشأَت عن تلك الخصومة؛ هو استعمال ذلك اللفظ «سرقات»؛ إذ استعمل النقَّاد المجرَّدون عن الهوى ألفاظًا أخرى؛ «كالأخذ»١ التي نجدُها عند ابن قُتيبة في غيرِ موضع من الشعر والشعراء، و«السلخ»٢ التي استعملها أبو الفرَج في الأغاني. وأما لفظة «سرقات» فقد ذاعت وسط الخصومة حول أبي تمام بين أنصار القديم وأنصار الحديث. وكان أول كتاب أُلِّف بهذا العنوان فيما نعلم كتاب عبد الله بن المعتز «سرقات الشعراء»، ثم تلَت ذلك كتُب، فألَّف أحمد بن أبي طاهر وأحمد بن عمار في سرقات أبي تمام، وكتب أبو الضياء بشرُ بن تميم كتابًا في سرقات البحتري من أبي تمام، كما رأينا أبا علي محمدَ بن العلاء السجستانيَّ يزعم أنه لم يخلص لأبي تمام من معانيه كلِّها إلا ثلاثة، وكذلك كتَب مهلهلُ بن يموت في سرقات أبي نُواس. ولقد تناول الآمديُّ نفسُه تلك المشكلة في «الموازنة»، وفي كتابَيه المفقودَين «الخاص والمشترك» و«في أن الشاعرَين لا تتفق خواطرهما».

وظهر المتنبي وقامت حوله خصومةٌ جديدة، فحاول أعداؤه تجريحَه بإظهار سرقاته أيضًا، وقد سبَق أن أشرنا إلى تأليف الشاعر المصري ابنِ وكيع كتابًا في ذلك، وكذلك كتَب أبو سعيد محمدُ بن أحمد العميدي (المتوفَّى سنة ٤٣٣ﻫ) كتابَه «الإبانة عن سرقات المتنبي لفظًا ومعنًى»، هذا إلى ما نجده في رسالة الصاحب ومناظرة الحاتميِّ وغيرهما من اتهاماتٍ من هذا النوع. ولقد قلنا كذلك إن ابن جنِّي قد كتب كتابًا ليردَّ على ابن وكيع، الذي أجمع النقادُ بما فيهم ابن رشيق على أنه قد تعصَّب على المتنبي تعصبًا مَعيبًا. وإلى جانب هذه الدراسات التي لعبَت فيها الأهواء، تناولت كتبٌ منصفة «كالوساطة» و«اليتيمة» نفس المشكلة.

ولقد كان لنشأة تلك الدراسات وسطَ الخصومات أثرٌ سيئ في توجيهها، فرأيناها تسعى قبل كل شيء إلى تجريح الشعراء؛ ولهذا لم تستقم المبادئ التي اتخذَت فيصلًا فيها، كما أنهم لم يُفرقوا بين السرقة وغيرها.

والواقع أنه من الواجب أن نُميز بين أشياء؛ فهناك:
  • (١)

    الاستيحاء: وهو أن يأتيَ الشاعر أو الكاتب بمعانٍ جديدة تستدعيها مطالعاتُه فيما كتَب الغير.

  • (٢)

    استعارة الهياكل: كأن يأخذ الشاعرُ أو الكاتبُ موضوع قصيدته أو قصته عن أسطورةٍ شعبية أو خبرٍ تاريخي، وينفُثَ الحياةَ في هذا الهيكل حتى ليكاد يخلقه من العدم.

  • (٣)

    التأثُّر: وهو أن يأخذ شاعرٌ أو كاتب بمذهب غيره في الفن أو الأسلوب. ولقد يكون هذا التأثر تتلمذًا، كما قد يكون من غيرِ وعي، وإنما النقد هو الذي يكشف عنه.

  • (٤)

    وأخيرًا هناك السرقات. وهذه لا تُطلق اليوم إلا على أخذِ جُمل أو أفكار أصلية وانتحالها بنصِّها دون الإشارة إلى مأخذها. وهذا قليل الحدوث في العصر الحديث، وبخاصةٍ في البلاد المستنيرة.

لم يُفرق النقاد العرب في دراستهم للسرقات بين كل هذه الأشياء، وإنما راحوا يُرددون أبياتَ الشاعر الذي يريدون تجريحه إلى أبياتٍ تُشبهها شبهًا قريبًا أو بعيدًا في المعنى، أو في اللفظ، أو فيهما معًا، بل لقد افتنُّوا في ذلك فردُّوا الكثيرَ من الشعر إلى جملٍ نثرية من القرآن والحديث وأقوال السابقين واللاحقين من خُطباء وحكماء، واستقصَوا ذلك أبعدَ استقصاءٍ حتى تمحَّلوا في إظهار سرقات مستترةٍ يدَّعونها، ثم يُجهدون أنفسهم في التفنُّن للتدليل عليها، وساعدهم على ذلك خضوعُ الشعر العربي للتقاليد الشعرية المتوارثة، وانحصارُ أغراضه ومعانيه، بل وطرق أدائه.

وفي الحق، إنه وإن يكن العمودُ الفقري لكل دراسة أدبية هو إظهارَ ما عند كل شاعر أو كاتبٍ من أصالة، إلا أن ذلك ليس من اليُسر بحيث افترض نقاد العرب. وإلى اليوم لا نزال حَيارى في تحديدِ ما أتى به كلُّ أديب من جديد لم يُسبَق إليه، ونحن بعدُ خلاصة الثقافات المختلفة التي توارثَتها الإنسانية. وإنه وإن تكن هناك عمليةُ تفاعل تزداد عمقًا كلما ازدادت النفسُ التي تحدث فيها خِصبًا؛ إلا أننا لا يمكننا أن نجزم بأصالةِ ما ينتج عن ذلك التفاعل. وللناقد العظيم جوستاف لانسون في مقاله عن منهج دراسة الأدب فقراتٌ في هذا المعنى يجب أن نتدبرها؛ قال: «نحن نسعى إلى تحديد أصالة الأفراد؛ أي الظواهر الفردية التي لا شبيهَ لها ولا تحديد. ولكنْ مهما يكُن للأفراد من العظَمة والجمال، فإن دراستنا لا يمكن أن تقتصر عليهم؛ وذلك أولًا لأننا لن نعرفهم إذا لم نُرِد أن نعرف غيرهم، فأمعنُ الكُتاب أصالةً إنما هو إلى حدٍّ بعيدٍ راسبٌ من الأجيال السابقة، وبؤرةٌ للتيارات المعاصرة، وثلاثة أرباعه مكوَّن من غير ذاته، فلكي نجده — نجده هو، في نفسه — لا بدَّ أن نفصل عنه كميةً كبيرة من العناصر الغريبة؛ يجب أن نعرف ذلك الماضيَ الممتدَّ فيه، وذلك الحاضرَ الذي تسرَّب إليه، فعندئذٍ نستطيع أن نستخلص أصالته الحقيقية، وأن نقدرها ونُحددها. ومع ذلك فلن نعرفه عند تلك المرحلة إلا معرفةً احتمالية.

ثم إن الخصائص التي تُميز العبقرية الفردية ليست أجملَ ما في تلك العبقرية وأعظمَها لذاتها؛ بل لأنها تحمل في حناياها الحياةَ الجماعية لعصرٍ أو هيئة، وترمز لها؛ أي تُمثلها. ومن ثَم وجب علينا أن نحاول معرفة كل تلك الإنسانية التي أفصحَت عن نفسها خلال كِبار الكتاب؛ كل تلك التضاريس الفكرية أو العاطفية الإنسانية أو القومية التي يُرشدوننا إلى اتجاهاتها وقيمها.

وهكذا نُضطرُّ إلى أن نسير في اتجاهَين متضادَّين؛ نستخلص الأصالة ونوضِّحها في مظهرها الفريد المستقل الموحَّد، ثم ندخل المؤلف الأدبي في سلسلةٍ ونظهر أن الرجل العبقري ناتجٌ لبيئة وممثل لجماعة.»

هذا هو منهجنا اليوم، أو على الأصح منهجُ الدراسة في الآداب الأوروبية، ولكننا نُسارع إلى تقرير حقيقة هامة؛ هي أن كل منهج لا بدَّ خاضعٌ في تكوينه لطبيعة الشيء الذي وُضع لدراسته. والأدب العربي غيرُ الآداب الأوروبية؛ الأدب العربي — كما قلنا — أدبُ جزئيات، ومن ثَم لا يمكن أن نتحدث عن «استعارة الهياكل» مثلًا؛ لأن ذلك إنما يكون في الأعمال الأدبية ذاتِ الوَحدة كقصيدةٍ تُقال عن أسطول أو عن حادثة تاريخية، ونحن لا نجد في الشعر العربي شيئًا كهذا. ولئن قال الشعراء في بعضِ ما وقع في أيامهم من معاركَ أو أحداث، فإن ذلك لم يكن لخلقِ قيمٍ فنِّية أو إنسانية تكتفي بذاتها، وإنما كان لمدحٍ أو هجاء أو ما شاكَل ذلك من أغراض؛ ولهذا كان هدفُهم الأول شيئًا آخَر غيرَ الواقع وتصويره، أو إظهار ما فيه من عناصر إنسانية في ثوبٍ فني، بل لقد تقرأ القصيدة فلا تجد فيها غيرَ صفاتٍ عامة تقليدية أبْلاها الاستعمالُ حتى لم تَعُد تهزُّ أحدًا، وكل هذا طبعًا غير «استعارة الهياكل» التي تستمدُّ عادةً من الماضي. كذلك الأمر في الاستحياء والتأثُّر، فالاستحياء أمرٌ ليس من السهل أن نُدركه في أدبٍ كالأدب العربي قلَّما يُحدثنا أحدٌ من رجاله عن مصدر فكرةٍ تردُ فيه أو تعبير.

نحن نعتمد اليوم في دراستنا لمسألةٍ كهذه على اعترافات الشعراء والكتاب أنفسِهم، اللهم إلا أن يكون الاستيحاء واضحًا قريبَ الإدراك. وأما التأثُّر فإنه وإن يكن نقادُ العرب قد فطنوا إلى شيء من هذا عندما حدَّثونا عن الرواية، وبخاصةٍ عندما تكون من شاعرٍ لشاعر — وإن يكن ناقدٌ كعبد العزيز الجرجاني قد أدرك أن شاعرًا كالمتنبي مثلًا قد صدَر في أوائل شعره عن مذهب أبي تمام — أقول: إنه بالرغم من كل ذلك، فإن هذه الملاحظات ظلَّت موجزة. وهذا أيضًا شيءٌ نفهمه في الشعر العربي الذي لم تتميَّز فيه مدارسُ إلا نادرًا، وفي عصرٍ متأخر، كما حدث عند نشأة مذهب البديع.

وإذن فقد كان من الطبيعي في شعرٍ جزئي غلَب عليه التقليدُ أن يتوفر النقادُ على دراسة المعاني التفصيلية يردُّونها إلى مآخِذها. وهنا تظهر الصعوبةُ في تطبيق ما قاله «لانسون» عن الأصالة؛ لأننا قد نجد في الشعر الجاهلي أو الأموي مثلًا ذلك «الحاضر الذي تسرَّب إليه»، أو «الماضي الممتد فيه»، كما قد نجد علاقةً بين شعر الشاعر وحياته، كما هو الحال في شعر أبي نُوَاس والمتنبي وأبي العلاء، أو شعر الصعاليك؛ أولئك الشعراء الكبار أمثال الشنفَرى وتأبَّط شرًّا وعُروة بن الوَرد. وقد نجد العلاقة مع شيءٍ كثير من الحذر في شعر الغزَليِّين. وأما شعرٌ كشعر أبي تمام والبحتري الذي نُسميه بالكلاسيكي الجديد، فمن البيِّن أن العلاقة فيه واهية، وإنما هي معانٍ تقليديةٌ يصوغونها صياغةً جديدة، والذي حدث هو أن مسألة السرقات لم تنشط إلا حولهما؛ ولهذا جاء البحثُ عن أصالتهما بحثًا لا يكاد يُتصوَّر، وإن تُصُوِّر لم يكن من السهل إدراكُه.

كان من الطبيعي إذن أن تتخذ مسألةُ السرقات الوجهةَ التي اتخذَتها، وأن لا تجد آراؤنا الحديثة ومناهجنا ومفارقاتنا لها محلًّا. ونحن لهذه الأسباب لا نريد أن نَبسُط القولَ في علاج مشكلة الأصالة والأخذ علاجًا تقريريًّا عامًّا، بل نحصر القولَ في المجال التاريخي الذي قيَّدَته طبيعةُ الأدب العربي ذاتها.

ونحن عندما نحاول دراسةَ السرقات عند نقَّاد العرب لا نرى نفعًا في التمهُّل عند الكتب التي وُضِعت في ذلك صادرةً عن هوًى. ولقد حكم الزمن نفسُه عليها فأغرقَها، بحيث لا نعلم عنها اليوم إلا ما أوردَه النقَّاد المنصفون أمثال الآمديِّ وعلي بن عبد العزيز الجرجاني عند مناقشتهم لما ورَد فيها من تحامُل. والذي نريد أن نصل إليه هو معرفة المبادئ المنهجية التي وُضِعَت للفصل في هذه المسألة الهامة.

ولننظر مثلًا إلى ما فعَله أبو الضياء بِشرُ بن تميم في إخراجه لسرقات البُحتري من معاني أبي تمام؛ فالآمدي يُحدثنا عنه (الموازنة، ص١٢٩) فيقول: إنه «قد استقصى ذلك استقصاءً بالَغ فيه حتى تجاوَز إلى ما ليس بمسروق.» «وإنه لم يقنع بالمسروق الذي يشهد التأمُّل الصحيح بصحته، حتى تعدى ذلك إلى الكثير، وإلى أن أدخل في بابٍ ما ليس منه، بعد أن قدَّم مقدمة افتتح بها كلامه وقال: ينبغي لمن نظر في هذا الكتاب أن لا يعجل بأن يقول ما هذا مأخوذٌ من هذا حتى يتأمَّل المعنى دون اللفظ، ويُعمِل الفكر فيما خفي، وإنما السرَقُ في الشعر ما نُقِل معناه دون لفظه، وبعد آخذُه في أخذه» (ص١٣٩).

وإذن فالآمديُّ لا يُقر أبا الضياء على كل ما أخرجه، وأبو الضياء يريد أن يبحث عن السرقات في المعاني، وعنده — فيما يظهر — أن الصياغة ليست هي التي تُخصص المعانيَ بشاعر بعينه؛ ولهذا لم يرَ من الضروريِّ أخْذَ الصياغة لنقول بالسرقة، بل يكفي اتحادُ المعنى، ولربما كفى تشابهه تشابهًا قريبًا أو بعيدًا. وهذا مبدأٌ ظالم، بل غيرُ صحيح، كما رأينا فيما سبق، وكما سنرى عمَّا قريب.

وأبو الضياء يُسرف في مذهبه، ويدَّعي أنه يستطيع أن يفطن إلى السرقات الخفية. وأما الغير «فمن الناس مَن يبعد ذهنه إلا عن مثلِ بيت امرِئ القيس وطَرفة حين لم يختلفا إلا في القافية، فقال أحدهما: «وتجمَّلِ»، وقال الآخرُ: «وتجلَّدِ»٣ وفي الناس طبقةٌ أخرى يحتاجون إلى دليلٍ من اللفظ مع المعنى، وطبقةٌ يكون الغامض عندهم بمنزلة الظاهر وهم قليل» (ص١٣٩). وعند الآمديِّ أن أبا الضياء قد جعل هذه المقدمةَ توطئةً لما اعتمَده من الإطالة والحشد، وأن يقبل منه كلَّ ما يورده، ولم يستعمل ممَّا وصَّى به من التأمُّل وإعمال الفكر شيئًا.

ثم يقول: «ولو فعل ذلك لرجَوتُ أن يُوفَّق لطريق الصواب، فيعلم أنَّما السرَق هو في البديع المخترَع الذي يختصُّ به شاعر، لا في المعاني المشتركة بين الناس، والتي هي جاريةٌ في عاداتهم، ومستعمَلةٌ في أمثالهم ومُحاوراتهم، مما ترتفع الظِّنة فيه عن الذي يُورده أن يُقال: أخذه عن غيره.»

ومن الغريب أن أبا الضياء الذي يرى «أن السرق في الشعر ما أُخذ معناه دون لفظه، قد أتى — فيما يقول الآمديُّ — بضربٍ آخَر ادَّعى فيه أيضًا السرَق والمعاني مختلفة، وليس فيه إلا اتفاقُ ألفاظٍ ليس مثلُها ممَّا يحتاج واحدٌ أن يأخذه من آخَر؛ إذ كانت الألفاظ مباحةً غيرَ محظورة» (ص١٤٠).

وإذن فأبو الضياء يقول بالسرَق لمجردِ اتفاقٍ في المعنى أو اتحادٍ في اللفظ، حتى ولو كان المعنى عامًّا مشتركًا، وكان اللفظ مباحًا سائرًا. وهذا دليلُ الهوى أو التمحُّل أو الرغبةِ في إظهار علمٍ باطل.

وأما الآمدي فلا يريد أن يرى سرَقًا في المعاني المشتركة، وعنده «أن ذلك لا يكون إلا في البديع المخترَع الذي يختصُّ به الشاعر»؛ ومن ثَم فهو لا يرى سرقًا في:
  • (١)
    الاتفاق Coincidence، وهو يورد لذلك عدةَ أمثلة نذكر منها (ص١٤٠) قولَ البحتري:
    جَرى الجودُ مَجرى النوم منهُ فلم يكن
    بغير سَماحٍ أو طِعانٍ بحالمِ

    الذي يرى أبو الضِّياء أنه قد أخذه من قول أبي تمام:

    ويَبيت يحلمُ بالمكارِم والعُلى
    حتى يكون المجدُ جلَّ مَنامهِ

    وأما الآمديُّ فيرى «أن هذا الكلام موجودٌ في عادات الناس، ومعروفٌ في معاني كلامهم، وجارٍ كالمثل على ألسنتهم بأن يقولوا لمن أحبَّ شيئًا أو استكثر منه: فلان لا يحلم إلا بالطعام، وفلان لا يحلم إلا بفلانة من شدة وَجْده بها، وهذا الزنجيُّ ما حُلمه إلا بالنمر. ولا يقال لمن كانت هذه سبيله: سرَق، وإنما يُقال له: اتفاق، فإن كان واحدٌ قد سمع هذا المعنى أو مِثلَه من الآخَر فاحتذاه، فإنما ذكَر معنًى قد عُرِف واستعمله، لا لأنه أخذه أخْذَ سرقة.»

  • (٢)
    التقاليد الشعرية Tradition poetiques: ومن أمثلةِ ذلك قولُ البحتري:
    ومن يكُن فاخرًا بالشِّعر يذكرُ في
    أضعافه فبِكَ الأشعارُ تفتخرُ

    فأبو الضياء يرى أنه قد سرقه من بيت أبي تمام:

    إذا القصائدُ كانت من مدائحِهمْ
    يومًا فأنت لَعَمري من مَدائحِها

    وأما الآمدي فيقول: «إن هذا غلطٌ على البحتري؛ لأن الناس لا يزالون يقولون فلان يَزين الثيابَ ولا تَزينُه، ويجمل الولايةَ ولا تجمله، وفلانة تَزيد في حُسن الحليِّ ولا يَزيد في حُسنها، وفلان تفتخر به الأنسابُ ولا يفتخر بها. وهذا ليس من المعاني التي لا يجوز أن يدَّعيَ أحدٌ من الناس أنه ابتدعها واخترعها أو سُبق إليها. ولا يجوز أن يكون مثلُ هذا إذا اتفق فيه شاعران أن يُقال: إن أحدهما أخَذه عن الآخر.»

    ومن البيِّن أن هذا المثل والأمثلةَ المشابهة التي أوردها الآمديُّ تدخل فيما يمكن أن نُسميَه بالتقاليد الشعرية، أو المعاني المتداوَلة في الشعر العربي.

  • (٣)

    الأقوال السائرة: وهو يورد لذلك عدةَ أمثلة؛ نحو قول البحتري:

    خُلقٌ مُمثلَّةٌ بغيرِ خلائقٍ
    تُرجى وأجسامٌ بلا أرواحِ

    الذي يرى أبو الضياء أنه مسروقٌ من أبي تمام:

    لهم نشَبٌ وليس لهم سَماحٌ
    وأجسامٌ وليس لهم قلوبُ

    وعند الآمدي «أن هذا المعنى أشهرُ من أن يحتاج شاعرٌ أن يأخذه من الآخر، وهم دائمًا يقولون ما فلانٌ إلا شبحٌ من الأشباح، وما هو إلا صورةٌ من حائط، أو جسدٌ فارغ، ونحو هذا القول الشائع المشتهر» (ص١٤٢).

  • (٤)

    اختلاف الغرَض ينفي السرقة، وإن كان جنس المعنيَين واحدًا، فيقول البحتري:

    ما لشيءٍ بَشاشةٌ بعد شيءٍ
    كتَلاقٍ مُواشكٍ بعد بَينِ

    يرى أبو الضياء أنه مأخوذٌ من قول أبي تمام:

    وليست فرحةُ الأَوْبات إلَّا
    لموقوفٍ على ترَحِ الوداعِ

وأما الآمدي فلا يرى هنا إلا معنًى مشتركًا، ثم يضيف أن غرض الشاعرَين مختلف، فيقول: «وغرض كلِّ واحد من هذين الشاعرين في هذين البيتين مخالفٌ لغرض صاحبه؛ لأن أبا تمام ذكر أنه لا يفرح بالقُدوم إلا مَن شَجاه وأحزنه التوديع، وأراد البحتريُّ أنه ليس شيءٌ من المسرَّة والجَذَل إذا جاء في أثرِ شيء ما كالتلاقي بعد التفرُّق، فليس — وإن كان جنس المعنيَين واحدًا — يصحُّ أن يُقال: إن أحدهما أُخذ من الآخر» (ص١٤٣).

«ووجدتُ ابن أبي طاهرٍ خرَّج سرقات أبي تمام فأصاب في بعضها وأخطأ في البعض؛ لأنه خلَط الخاصَّ من المعاني بالمشترك بين الناس ممَّا لا يكون مثلُه مسروقًا.»

ويطبق الآمديُّ مبدأه فيقول (ص٥٠): «ومما نسَبه فيه ابنُ أبي طاهر إلى السرَق وليس بمسروق؛ لأنه مما يشترك فيه الناسُ من المعاني والجريِ على ألسنتهم، ومنه ما نسَبه إلى السرق والمعنيان مختلفان؛ قولُ أبي تمام:

ألم تَمُت يا شقيقَ الجود مذْ زمَنٍ
فقال لي: لم يمُت مَن لم يمت كرَمُهْ

وقال: أخذه من العتَّابي:

ردَّت صنائعُه إليه حياتَهُ
فكأنَّه من نشرِها منشورُ

ومثل هذا لا يُقال له مسروق؛ لأنه قد جرى في عادات الناس إذا مات الرجلُ من أهل الخير والفضل وأُثني عليه بالجميل، أن يقولوا: ما مات مَن خلف مثلَ هذا الثناء، ولا من ذُكر بهذا الذكر. وذلك شائعٌ في كل أمة وفي كل لسان.»

وكذلك الأمر في العبارات الشائعة، فهذه لا سرقة فيها؛ لأن «الألفاظ غيرُ محظورة»، ومن الأمثلة التي يوردها الآمديُّ قول أبي تمام:

إذا عُنِيت بشيءٍ خِلْت أنِّيَ قد
أدركتُه؛ أدركَتْني حِرفةُ الأدبِ٤

وقال: أخَذه من الخُرَيمي:

أدركَتْني بذاك أول دائي
بسجِسْتان حِرفة الآدابِ

وحرفة الأدب لفظةٌ قد اشترك الناسُ فيها، وكثرَت على الأفواه حتى قد سقط أنَّ واحدًا يستمليها من آخَر (ص١٥).

وإذن فنظرية الآمدي في السرقات هي أن السرَق لا يكون إلا «في البديع المخترع الذي يختصُّ به الشاعر»، وأنه لا سرقة في:
  • (١)

    العام المشترك من المعاني.

  • (٢)

    الألفاظ المباحة الشائعة.

هذا هو اتجاهه العام، ولكنه في الواقع لم يُحدد ولا حاولَ أن يضع مقاييسَ دقيقة، ومنهجه في هذه المسألة هو منهجه في غيرها، أعني منهجًا موضعيًّا؛ إذ لكل حالة حكمها، والأمر عنده لا يَعْدو من الناحية النظرية حدودَ التوجيه العام، الآمديُّ يضع باستمرار المشاكل ويحلها وفقًا لطبيعة المشكلة التي تعرض.

ونحن إذا نظرنا في طبيعةِ ما يُسميه صاحبُ الموازنة ﺑ «العام المشترك» لم نستطع أن نطمئنَّ إلى هذا المقياس المجمل؛ لأنه إلى جانب العام المشترك نجد شيئين قد فطن لهما نقادُ العرب اللاحقون أنفسُهم؛ وهما:
  • (١)

    عامٌّ مشترك يُعبر عنه الشاعر تعبيرًا أصيلًا فيتملَّكه، وقد سبق أن ضربنا لذلك مثلًا بقول الأعشى: «وقد انتعَلَت المطيُّ ظلالها»؛ تعبيرًا عن المعنى العامِّ المشترك، بل المبتذَل: «جاء وقت الظهيرة»؛ إذ إن تصوير الأعشى له قد خصَّصه بحيث يمكن أن نقولَ بالسرق إذا أخذه عنه شاعرٌ آخَر. ولقد فطن أبو هلالٍ العسكري إلى هذه الحقيقة فقال: إن العبرة بالكِساء الذي يكسو به الشاعرُ أو الكاتبُ معناه؛ ومن ثم اتخذ من الصياغة دليلَ السرق. وهذا مقياسٌ يتمشَّى مع نظرية العسكري العامة التي تهتمُّ بالألفاظ. ومع ذلك، فنظرته هنا نظرةٌ صائبة كما سبق أن وضَّحنا. وجاء عبد القاهر فوضَّح هذا التحفُّظَ الذي نأخذه على الآمدي أتمَّ إيضاح؛ حيث قال في أسرار البلاغة (ص٢٧٧): «واعلم أن المشترك العامَّ والظاهر الجلي، والذي قلت: إن التفاضل لا يدخله والتفاوت لا يصحُّ فيه، إنما يكون كذلك ما كان صريحًا ظاهرًا لم تلحَقْه صنعة، وساذَجًا لم يعمل فيه نقش، فإذا ركب عليه معنًى، ووصل به لطيفة، ودخل إليه من باب الكناية والتعريض، والرمز والتلويح، فقد صار بما غُيِّر من طريقته، واستُؤنف من صورته، واستُجِد له من المعرض، وكُسِي من ذلك التعرُّض؛ داخلًا في قبيل الخاص الذي يُملَك بالفكرة والتعمُّل، ويُتوصَّل إليه بالتدبُّر والتأمُّل، وذلك كقولهم وهم يريدون التشبيه: «سلَبْن الظِّباءُ العيون … إلخ.» ومن البيِّن أن «سلَبن الظباءُ العيون» ليس إلا تعبيرًا أصيلًا عن تشبيه عيونَهن بعيون الظباء. وقد خصَّصت تلك الصياغة هذا المعنى العامَّ المشترك بقائله.»

  • (٢)

    ثم إنه إلى جانب «العام المشترك»، نجد «الخاص الذي شاع حتى أصبح في حكم العام المشترك»، وهذا على عكس النوع السابق لا يكون فيه سرق. وإلى هذا فطن علي بن عبد العزيز الجرجاني كما رأينا، وأنزل تشبيهَهم الحُسن بالشمس والبدر، والجُودَ بالغَيث والبحر … إلخ؛ منزلةَ تشبيههم الطلَل المُحِيل بالخطِّ الدارس، وبالبرَد النهُج والوشم في المعصم … إلخ، من حيث إن السرق لم يعد يُتصوَّر في كليهما.

وعلى هذا النحو، نرى النظرية قد أخذَت تَكمُل شيئًا فشيئًا، ونُحكم أصولها التي نستطيع أن نُجمِلها الآن في المبادئ الآتية:
  • (١)

    لا سرقة في المعنى العام ولا في الخاص الذي أصبح كالعام المشترك لكثرة شيوعه.

  • (٢)

    لا سرَق في الألفاظ المباحة المتداوَلة، وإنما يكون السرق في اللفظ المستعمل استعمالًا أصيلًا؛ كاستعمال لفظة «طي» في البيتين اللذَين ورَد ذكرُهما عند علي بن عبد العزيز الجرجاني، وذكرناهما عند الكلام عنه (ص٢٨٧).

ثم إن هؤلاء النقَّاد المدقِّقين لم يقفوا عند هذه المفارقات، بل دلُّوا على أن العامَّ المشترك قد يُستجاد من شاعرٍ دون شاعر، فقال علي بن عبد العزيز الجرجاني: «قد تشترك الجماعةُ في الشيء المتداوَل، وينفرد أحدهم بلفظةٍ تُستعذب، أو ترتيبٍ يُستحسن، أو تأكيدٍ يوضع موضعه، أو زيادةٍ اهتدى لها دون غيره، فيُريك المشترَك المبتذَل في صورة المبتدَع المخترع.» وهنا نُحسُّ أن الناقد قد أدرك أن المعنى الساذَج المبتذَل قد يُعبَّر عنه تعبيرًا لا إبداع فيه، تعبيرًا ساذَجًا مباشرًا، ومع ذلك يروقنا لعناصره الشعرية، وسحر ألفاظه، أو موسيقاه، أو طريقةِ نظمه ووسائل أدائه.

وأخيرًا، حاول عبد القاهر الجرجاني أن يُحدد تحديدًا فلسفيًّا معنى «العام المشترك» ومعنى «الخاص»، فعقَد لذلك فصلَين في «أسرار البلاغة» (ص٢١٣ و٢٧٤)، وهو يسمِّي النوع الأولَ «عقليًّا»، والثاني «تخييليًّا»؛ فالعقليُّ هو ما كان وليدَ التجارِب اليومية، وهو ما يمكن أن نُسمِّيَه بالحِكمة العمَلية Common places، والثاني هو تلك المعاني التي يُولدها الشعراء دون أن تُلاقيَ حقيقةً أو تُصوِّر واقعًا؛ فالنوع الأول كقوله (ص٣١٥):
لا يَسْلم الشرفُ الرفيعُ من الأذى
حتى يُراقَ على جوانبِه الدمُ

فهو «معنًى معقولٌ لم يزَل العقلاءُ يقضون بصحته، ويرى العارفون بالسياسة الأخذَ بسُنته، وبه جاءت أوامرُ الله سبحانه، وعليه جرَت الأحكام الشرعية والسنن النبوية، وبه استقام لأهل الدين دينُهم، وانتفى عنهم أذى مَن يفتنهم ويضرُّهم … إلخ.» والنوع الثاني كقول أبي تمام (ص٣١٦):

لا تُنكري عطَلَ الكريمِ من الغِنى
فالسيل حربٌ للمكان العالي

«فهذا قد خيَّل إلى السامع أن الكريم إذا كان موصوفًا بالعلوِّ والرِّفعة في قدره، وكان الغِنى كالغيث في حاجةِ الخلق إليه وعِظَم نفعه، وجَب بالقياس أن يَنزل عن الكريم نزولَ ذلك السَّيل عن الطَّود العظيم. ومعلومٌ أنه قياسُ تخييلٍ وإيهام لا تحصيلٍ وإحكام؛ فالعلة في أن السَّيل لا يستقرُّ على الأمكنة العالية أن الماء سيَّال لا يَثبت إلا إذا حصَل في موضعٍ له جوانبُ تدفعه عن الانصباب، وتمنعه عن الانسياب. وليس في الكريم والماء شيءٌ من هذه الخِلال.»

المعنى العقليُّ إذن لا يكون فيه سرق، وإنما يكون ذلك في المعنى التخييلي. وهذه هي تقريبًا التفرِقةُ بين العامِّ المشترك والخاص، صِيغَت صياغةً فلسفية حدَّدَتها.

وإذ تمت النظرية العامة فحدِّد ما يمكن فيه سرَقٌ وما لا يُمكن، فقد أخذوا يقسمون السرقات إلى أنواع، ويحاولون أن يُميزوا بين السرق والغصب والإغارة والاختلاس، وتعرف الإلمام من الملاحظة (الوساطة، ص١٥٨)، والسرقة والاستمداد والاستعارة (أسرار، ص٢٧٤)، وتعدَّدَت الأنواع وحُددت تحديدًا تحكُّميًّا لا غَناء فيه ولا نفع. وقد أحصى ابنُ رشيق (العمدة، ج٢، ص٢٦٥ وما بعدها) تلك الأنواعَ نقلًا عن الحاتمي في «حِلْية المحاضرة»، فقال: «وقد أتى الحاتميُّ في حلية المحاضرة بألقابٍ مُحدَثة تدبَّرتها ليس لها محصولٌ إذا حققت؛ كالاصطراف والاجتلاب والانتحال والاهتدام والإغارة والمرافدة والاستلحاق، وكلُّها قريبٌ قد استُعمل بعضها في مكانِ بعض.»

ويورد ابنُ رشيقٍ تعاريفَ كلِّ تلك الاصطلاحات فيقول: «الاصطرافُ أن يعجب الشاعرُ ببيتٍ من الشعر فيصرفه إلى نفسه، فإنْ صرَفه إليه على جهة المثل فهو اختلابٌ واستلحاق، وإن ادَّعاه جملةً فهو انتحال، ولا يُقال «منتحل» إلا لمن ادَّعى شعرًا لغيره وهو يقول الشعر، وأما إن كان لا يقول الشعر فهو مدَّعٍ غير منتحل، وإن كان الشعر لشاعرٍ أُخذ منه غلَبة، فتلك الإغارة والغصب، فإن أُخذ هبةً فتلك المرافَدة، ويقال الاسترفاد، فإن كانت السرقة فيما دون البيت فذلك هو الاهتدام، ويُسمى أيضًا النَّسخ، فإنْ تساوى المعنَيان دون اللفظ وخفي الأخذ، فذلك النظر والملاحظة، وكذلك إن تضادَّا ودلَّ أحدهما على الآخر، ومنهم من جعل هذا هو الإلمام، فإن حوَّل المعنى من نسيبٍ إلى مدح فذلك الاختلاس، ويُسمى أيضًا نقل المعنى، فإن أخذ بِنْية الكلام فقط فتلك الموازنة، فإن جعل مكان كلِّ لفظة ضدَّها فذلك هو العكس، فإن صح أن الشاعر لم يسمع بقول الآخَر وكانا في عصرٍ واحد فتلك الموارَدة، وإن أُلِّف البيتُ من أبيات قد رُكِّب بعضها من بعض، فذلك هو الالتقاط والتعليق، وبعضهم يُسميه الاجتذاب والتركيب. ومن هذا الباب كشف المعنى والمحدود من الشعر، وسوء الاتباع، وتقصير الأخذ عن المأخوذ منه.» ويورد ابنُ رشيق أمثلةً لكل ذلك يستطيع القارئُ أن يجدها في كتابه. وأما نحن فلا نرى أية فائدةٍ في التمهُّل عندها؛ لأنها لم تُبصِّر بجديد، وإنما هي تقسيماتٌ تتمحَّل للمبادئ التي سبق أن أوضحناها، وهي أشبهُ ما تكون بأوجُه البديع الخمسة والثلاثين التي أوردها العسكري، كما أنها صادرةٌ عن نفس الروح.

هذه التقسيمات هي خلاصة النَّزعة الشكلية في النقد الذي انتهى إلى البلاغة كما رأينا، ونحن نجد عند أبي هلال بذورَها؛ فهو يقول مثلًا (ص١٩١): «وأحد أسباب إخفاء السرَق أن يأخذ معنًى من نظمٍ فيورده في نثر، أو من نثرٍ فيورده في نظم، أو ينقل المعنى المستعمل في صفة خمر فيجعله في مديح، أو مديح فينقله إلى وصف، إلا أنه لا يكمل لهذا إلا المبرَّز والكامل المقدَّم.» وأبو هلال كعادته يتكلم عن «حلِّ المنظوم» (ص٢٠٧) فيقسمه إلى أقسام: «والمحلول من الشعر على أربعة أضرُب: فضربٌ منه يكون بإدخال لفظةٍ بين ألفاظ، وضربٌ ينحلُّ بتأخير لفظةٍ منه وتقديم أخرى فيحسن محلوله ويستقيم، وضربٌ منه ينحلُّ على هذا الوجه ولا يحسن ولا يستقيم، وضربٌ تكسو ما تحمله من المعاني ألفاظٌ من عندك، وهذا أرفع درجاته.»

كل هذه الأبواب — سواءٌ في سرقات الشعراء بعضِهم من بعض، أو في سرقات الكتَّاب الذين يحلُّون في نثرهم أبياتَ الشعراء — لم تتقدم شيئًا بالنظرية العامة التي استخلصنا من أقوال النقاد الكبار أمثال الآمديِّ وعلي بن عبد العزيز الجرجاني وعبد القاهر الجرجاني.

وكتَب ابن الأثير في المثل السائر فصلًا طويلًا عن السرقات (ص٤٦٦ إلى آخر الكتاب)، ولكنه هو الآخر لم يُناقش المبادئَ مناقشةً مُجدية، بل اعتمد على التقاسيم يُبدع فيها ويدقِّق ويقارن كيفما شاء. ولقد كتب كتابًا خاصًّا بالسرقات٥ ثم عاد في المثل السائر فأكمل تقاسيمَه الشكلية القليلةَ الغَناء (ص٢٦٨)، فقال: «إن علماء البيان قد تكلَّموا في السرقات الشعرية فأكثروا، وكنتُ ألَّفت فيها كتابًا، وقسمتُه ثلاثة أقسام نسخًا وسلخًا ومسخًا. أما النَّسخ فهو أخذُ اللفظ والمعنى برُمَّته من غيرِ زيادة عليه، مأخوذًا ذلك من نَسْخ الكتاب، وأما السَّلخ فهو أخذُ بعض المعنى، مأخوذًا ذلك من سَلْخ الجلد الذي هو بعضُ الجسم المسلوخ، وأما المسخ فهو إحالة المعنى إلى ما دونه، مأخوذًا ذلك من مَسْخ الآدَميِّين قِرَدة. وهنا قسمان آخران أخللتُ بذِكرهما في الكتاب الذي ألَّفته؛ أحدهما أخذُ المعنى مع الزيادة عليه، والآخَرُ عكسُ المعنى إلى ضدِّه. وهذان القسمان ليسا بنسخٍ ولا سلخ ولا مسخ. وكلُّ قسم من هذه الأقسام يتنوَّع ويتفرع وتخرج منه القسمة إلى مسالكَ دقيقة، وقد استأنفتُ ما فاتني من ذلك في هذا الكتاب، والله الموفِّق للصواب.»

ويأخذ المؤلف في ذكر انقسام كل نوع، فيقسم قسمين: يُسمِّي أولهما وقوع الحافر على الحافر، ويضرب لذلك مثلًا ببيتَي امرِئ القيس وطَرفة المشهورَين اللذين لا يختلفان إلا في القافية «تجمَّل» و«تجلَّد»، وهو يرى أن الفرزدق وجريرًا قد أكثرا من هذا في شعرهما، فقال الفرزدق:

أتَعدِلُ أحسابًا لِئامًا حُماتُها
بأحسابنا إنِّي إلى الله راجعُ

وقول جرير:

بأحسابكم إني إلى الله راجعٌ
أتعدل أحسابًا كرامًا حُماتُها

ومن البيِّن أن هذا النوع لا علاقة له بالسرقات؛ فبيتا امرِئ القيس وطرفة لم يزل أنهما لا يمكن أن يُفسَّرا بالسرقة، ومن الواضح أن التفسير الصحيح هو الرِّواية، ونسبة البيت إلى كلٍّ من الشاعرَين وإدخاله في قصيدة كلٍّ منهما بما استتبع ذلك من تغيير القافية.

وأما ما نسَبه إلى جريرٍ والفرزدق من سرقة أحدهما لشعر الآخر، فالأمر فيه أدقُّ وأجملُ من أن يُدركه ابنُ الأثير، وهو أشقُّ من أن ينطويَ تحت أحد تقاسيمه؛ هذا فنٌّ رائع في الهجاء أشبهُ بما يُسمونه في الآداب الأوروبية بالقلب Parodie؛ إذ يأخذ الشاعرُ قولَ الآخر فيُحاكيه أو يُغير منه تغييرًا طفيفًا؛ كالكرة يتقاذفها اللاعبان، أو كالسهم يُغير اتجاهه فيرتدُّ إلى نَحْرِ مُطلِقه.

والنوع الثاني هو الذي يؤخَذ فيه المعنى وأكثرُ اللفظ؛ كقول بعض المتقدمين يمدح مَعبدًا صاحب الغناء:

أجاد سُريجٌ والطُّويسيُّ بعدَهُ
وما قصَباتُ السَّبْقِ إلا لِمَعبدِ

وقال أبو تمام:

مَحاسنُ أصنافِ المغنِّين جَمةٌ
وما قصَباتُ السَّبْق إلا لمعبدِ

أما السلخ فإنه ينقسم إلى اثنَي عشَر ضربًا؛ الأول: أن يؤخذ المعنى ويُستخرَج منه ما يُشبهه ولا يكون هو إيَّاه، والثاني: أن يؤخذ المعنى مجردًا عن اللفظ، والثالث: هو أخذُ المعنى ويسيرٍ من اللفظ، والرابع: أن يؤخذ المعنى ويُعكَس، والخامس: أن يؤخذ بعضُ المعنى، والسادس: أن يؤخذ المعنى فيُزاد عليه معنًى آخَرُ، والسابع: أن يؤخذ المعنى فيُكْسى عبارةً أحسنَ من العبارة الأولى، والثامن: أن يؤخذ المعنى ويُسبَك سَبْكًا موجزًا، والتاسع: أن يكون المعنى عامًّا فيُجعَلَ خاصًّا، أو خاصًّا فيُجعَل عامًّا، والعاشر: هو زيادة البيان مع المساواة في المعنى، والحادي عشر: هو اتحاد الطريق واختلافُ المقصد، وأخيرًا: ما يتواردُ عليه الشعراءُ كأبي عُبادة البحتريِّ وأبي الطيِّب في وصف الأسد.

والمسخ هو قلبُ الصورة الحسنة إلى صورةٍ قبيحة، والقسمة تقتضي — في نظر ابنِ الأثير — أن يُقرَن إليه ضدُّه، وهو قلبُ الصورة القبيحة إلى صورةٍ حسنة. وهو يورد للنوعَين أمثلةً كما أورد لكل الأنواع السابقة، وبذلك تنتهي تقسيماتُ ابن الأثير الستةَ عشر؛ إذ إن النوعَين اللذين سمَّاهما أخْذَ المعنى مع الزيادة عليه، وعكْسَ المعنى إلى ضدِّه — بالرغم من أنه قد خصَّهما بالذكر في أول فصله وأعلن عن رغبته في فصلهما — إلا أنه لم يُفرِدهما بالقول، بل تكلم عنهما في تضاعيف الأقسام السابقة.

والناظرُ في تقاسيم ابن الأثير والأمثلة التي يوردها يحسُّ أنه لم يُعْنَ في شيءٍ بتحقيق وجود السرَقِ أو عدمِ وجوده، وإنما كان همُّه الأول أن يُفارق ويُظهر البراعة في التبويب. وكم بيتٍ يرى فيه سرَقًا مع أنه يُعبر عن معنًى مشترك أو في حكم المشترك، أو يصور تصويرًا مألوفًا أو ينظم ألفاظًا مباحة غيرَ محظورة، وهو وإن يكن قد أورد بعضَ ما أشرنا إليه من آراء النُّقاد السابقين في أول فصله، إلا أنه سرعان ما نسيها وأخذ في تقاسيمه.

ولم يقف ابنُ الأثير عند هذا الحدِّ في منهجه، بل تعدَّاه إلى النزعة التعليمية المعهودة، ومن ثَم لا يكتفي بأنواع السرقات، بل يُشير إلى ما يُعتبر منها حسنًا وما يعتبر قبيحًا؛ ليرشد الشعراءَ إلى طريق السرَق وخيرِ تلك الطرق. وهو يبدأ فصله «بأن الفائدة منه أنك تعلم أين تضعُ يدك في أخذ المعاني؛ إذ لا يستغني الآخَرُ عن الاستعارة من الأول، لكن لا ينبغي لك أن تعجل في سَبْك اللفظ على المعنى المسروق، فتُنادي على نفسك بالسرقة؛ فكثيرًا ما رأينا مَن عَجِل في ذلك فعثَر، وتعاطى فيه البديهة فعَقَر. والأصلُ المعتمَد عليه في هذا الباب التوريةُ والاختفاء، بحيث يكون أخفى من سِفَاد الغُراب، وأظرفَ من عَنْقاء مُغربٍ في الإغراب» (٤٦٦ و٤٦٧).

وإذن فصاحب «المثل السائر» يريد أن يُعلم الشعراء السرقةَ وطرقَ إخفائها؛ وذلك لأننا قد صِرنا في القرن السابع إلى حالةٍ لم يَعُد العلم يُقصَد فيها لذاته، بل لفائدته. وكل دراسة لا بدَّ لها من فائدة، ولو كانت تلك الفائدةُ تعلُّمَ السرقة. وأما النظرة العلمية النقدية التي تدرس ما قاله الشعراء والكتَّاب لا لغايةٍ غيرِ الفهم والكشف عن الأسرار، فتلك روحٌ كانت قد ماتت.

ومن هنا نرى مؤلفنا يحكم على نوعٍ من أنواع السرقات، ويدلُّ على مبلغ سهولته وصعوبته لمن يريد أن يرتكبَه، فيقول عن النوع الأول من السَّلخ: «وهذا من أدقِّ السرقات مذهبًا، وأحسنِها صورةً، ولا يأتي إلا قليلًا» (ص٤٧٤)، ويقول عن النوع الثاني: «وذلك مما يصعب جدًّا ولا يكاد يأتي إلا قليلًا»، وعن الثالث: «وذلك من أقبح السرقات وأظهرِها شناعةً على السارق»، وعن الرابع: «وذلك حسَنٌ يكاد يُخرجه حُسنه عن حد السرقة»، ويقول عن السابع: «وهذا هو المحمود الذي يخرج به حُسنُه عن باب السرقة»، وعن الثامن: «إنه من السرقات التي يُسامَح صاحبها»، وأما النوعان الأحدَ عشر والثاني عشر من باب السلخ، فلا علاقة لهما في الواقع بالسرقات، وهما في باب الموازنة والمقارنة أدخَلُ، والمؤلف نفسُه قد أورد للنوع الحادي عشر (اتحادِ الطريق واختلاف المقصد) رثاءَ أبي تمام لولدَين صغيرين:

مجدٌ تأوَّب طارقًا حتى إذا
قلنا أقام الدهرُ أصبح راحلَا

… إلخ.

ومرثيَّةَ أبي الطيب لطفلٍ صغير:

فإن تكُ في قبرٍ فإنَّك في الحَشا
وإن تكُ طفلًا فالأسى ليس بالطِّفلِ

… إلخ.

ثم يأخذ في دراسةِ «ما صنع هذان الشاعران في هذا المقصد الواحد، وكيف هام كلٌّ منهما في وادٍ منه، مع اتفاقِهما في بعض معانيه»، ثم يُخبرنا بأنه «سيُبيِّن ما اتفقا فيه وما اختلفا، وأنه سيذكر الفاضلَ من المفضول.» وهذا ما فعل. ومنه نرى أنْ لا علاقة لهذا النوع بالسرقات، وإنما أدخَله ابنُ الأثير في هذا الباب لأن الشاعرين «قد اتفقا فيه في المقصد أو توارَدا بعضَ المعاني.» وهذا كلُّه لا علاقة له في نظرنا بالسرقة، بل ولا بالتأثر أو الاستيحاء. وأكبرُ دليل على ذلك هو أن المؤلف نفسَه قد استطرد منه إلى ذِكر المفاضلة بين الشعراء، وأورَد في ذلك عدةَ أقوال ينقلها عن علماء الأدب والشعر، أو تجود بها قريحتُه هو. وأما النوع الثاني عشر الذي يُسميه بالتوارد فمِن البيِّن أنه يدخل أيضًا في الموازنة والمفاضلة. والمثل الذي أوردَه هو وصفُ البحتريِّ والمتنبي للأسد. وقد سبق أن تحدثنا في ذلك عند الكلام على علي بن عبد العزيز الجرجاني الذي أورد نفس المقارنة.

وهكذا يتَّضح لنا منهجُ ابن الأثير في دراسة السرقات؛ منهجٌ يقوم على التقاسيم، منهج تعليمي، منهج يخلط بين السرقات والموازنات؛ حرصًا على كثرة الأبواب واستقصائها.

وإذن فنظرية السرقات لم تتقدَّم شيئًا بعد أن وضع الآمديُّ وعلي بن عبد العزيز الجرجاني والعسكري وعبد القاهر أصولها. ولم يكن لابن رشيق وابن الأثير في التقاسيم التي أورَداها أيُّ فضل؛ لأنها لم توضح شيئًا من المبادئ النقدية التي تقوم عليها النظرية.

١  راجِع أمثلةً لذلك في كتاب «تاريخ النقد عند العرب» للمرحوم طه إبراهيم.
٢  راجع أمثلةً لذلك في كتاب «تاريخ النقد عند العرب» للمرحوم طه إبراهيم.
٣  إشارةً إلى البيتين: بيت امرِئ القيس:
وقوفًا بها صَحْبي عليَّ مَطِيَّهم
يقولون لا تَهلِكْ أسًى وتَجمَّلِ
وبيتِ طرفة:
وقوفًا بها صحبي عليَّ مَطيهم
يقولون لا تَهلِكْ أسًى وتجلَّدِ
٤  يُلاحظ أن الآمديَّ قد صحَّح رواية هذا البيت ﺑ «حرفة العرب» بدلًا من «حرفة الأدب» في رواية ابن أبي طاهر، ولكنه مع ذلك يُناقش السرقة المدَّعاة فيه.
٥  لابن الأثير كتاب «الوَشْي المرقوم في حلِّ المنظوم»، طبع بيروت سنة ١٢٨٩ﻫ، ولكن الإشارة هنا لكتابٍ مفقود عن السرقات الشعرية؛ لأن الوَشْي المرقوم لم يتحدث عن نسخٍ أو مَسخ أو سَلخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤