الفصل الثالث

مقاييس النقد

لقد حاولنا في بحثنا كلِّه أن نَفصل عن النقد ما ليس منه، فميَّزْنا بينه وبين تاريخ الأدب، ثم قلنا: إن العلوم اللُّغوية المختلفة عند نشأتها كانت تُستخدم كأدوات للنقد، وقد أشرنا إلى نشأة كل علم؛ فالفصاحة رأينا عبد القاهر ينسب الكلامَ عنها إلى الجاحظ، مما نستطيع أن نستنتج معه أن أبا عمرٍو هو واضعُ أسسِها في «البيان والتبيين». والبديع شرحنا كيف أن معناه كان في الأصل «الجديد»، وأنهم سمَّوا بذلك مذهبَ أبي تمام، حتى إذا كتب ابن المعتز كتابه «البديع» ووضح خصائص ذلك المذهب، لم تلبث الخصائص أن أصبحَت فصولًا في علمٍ اسمه «البديع»، وقد تغير معنى اللفظ فأفاد علمًا بعينه، وجاء عبد القاهر فميَّز في أسرار البلاغة بين التشبيه والاستعارة والتمثيل والمجاز اللُّغوي والعقلي من جهة، وبين المحسنات البديعية من جهة أخرى. وقد رأى في الأولى وسائلَ «لبيان» ما نريد العبارةَ عنه، وإذا به يُمهد السبيل لتخصص لفظة «البيان» بعلم بذاته.

وفي «دلائل الإعجاز» حمل على الألفاظ ورأى الإعجاز في طرق النظم التي نُعبر بها عن «المعاني» المختلفة، وإذا بتلك الطرق تكون هي الأخرى «علم المعاني» الذي جعله صاحبُ «الدلائل» جزءًا من النحو حتى فصل فيما بعد. وتعدَّدت الآراء والانتقادات في مطابقة الكلام لمقتضى الحال في الشعر وغير الشعر، وإذا بهم يُخصصون لفظة «البلاغة» بهذا المعنى.

هذه إشاراتٌ تعيننا على فهم الطريقة التي نشأت بها تلك العلوم المختلفة، نشير إليها عرَضًا؛ لأن تكوينها النهائي والفصل بينها وتحديدها على نحوٍ دقيق لم يتمَّ إلا في العصور المتأخرة. وهذا ليس مجالَنا لا من حيث التاريخُ ولا من حيث طبيعةُ تلك العلوم، والذي يَعنينا إنما هو النقد.

ونحن إذ نريد الكلام على مقاييس النقد؛ لا بدَّ من أن نميز بين عدة أشياء: فهناك ما نستطيع أن نُسمِّيَه بالنقد القيمي، وهناك ما يمكن أن نُطلق عليه النقد الوصفي؛ وذلك لأننا قد ننقد قصيدةً أو قصة لنحكم على جودتها أو رداءتها، فيكون نقدنا نقدًا قيميًّا، وقد ننقدها لندلَّ على خصائصها دون أن نحكمَ عليها، فيكون ذلك نقدًا وصفيًّا، وإنه وإن يكن هذان النوعان قد ظهرا دائمًا متلازمَين، حتى لنحسَّ بذلك في الجمل التي سارت في تاريخ الأدب العربي؛ كقولهم: أشعر الناس امرُؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رَهب، والأعشى إذا طَرِب، وزهير إذا رَغِب، وأمثال ذلك، إلا أنه مما لم يزل فيه أن إحدى النزعتين كانت تغلب الأخرى دائمًا. ومن البيِّن أن فكرة المفاضلة بين الشعراء، بل وبين الأبيات هي التي سادت عند العرب منذ أقدم الأزمنة.

عن هذه التفرِقة تنتج نتيجةٌ هامة؛ هي أن النقد الوصفيَّ لا يستخدم مقاييس، وإنما يستخدم مناهج. ومَردُّ تلك المناهج هو المقارنة؛ فأنت تعرف أن ذِكر الطيف في مَطالع القصائد مثلًا من خصائص البحتري بمقارنة مَطالعه بمطالع غيره، وعندما تراه قد انفرد بذلك تحكم بأن هذه خاصيةٌ يتميز بها. وأما النقد القيمي فهو الذي يصطنع المقاييس، وذلك عندما يكون نقدًا معلَّلًا. ولقد سبق لنا أن قلنا إن النقد العربي في أول نشأته كان نقْدَ خواطر، يقوم على الذَّوق أو الهوى، دون احتياطٍ أو استقصاء، أو تفصيلٍ في التعليل. ومع ذلك نستطيع من الناحية الفنية أن نطمئنَّ إلى ما أجمله علي بن عبد العزيز الجرجاني عن مقاييسهم الأولى، عندما قال في «الوساطة»: «وكانت العرب إنما تُفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن بشرف المعنى وصحتِه، وجزالةِ اللفظ واستقامته، وتُسلم السَّبق لمن وصف فأصاب، وشبَّه فقارَب، وبدَهَ فأغزَر، ولمن كثرت أمثاله وشواردُ أبياته، ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة، ولا تحفل بالإبداع والاستعارة إذا حصل لها عمودُ الشعر ونظام القريض.» ومن هذا النصِّ نستطيع أن نحكم على الأقلِّ بأن مقاييس القدماء لم تكن شكلية، ولا كانت أوجهُ البديع قد أفسدَتها.

ونحن كما نُميز بين النقد القيمي والنقد الوصفي، كذلك نحرص على أن نذكر أن النظرياتِ العامةَ في النقد غير النقد الموضوعي. ولقد سبق أن درسنا نظريات ابن سلَّام التي اتخذها فيصلًا في تقسيم الشعراء إلى طبقات، كما درسنا نظريات ابن قُتيبة في اللفظ والمعنى والطبع والصنعة، ووفينا الكلامَ في ذلك حقه، بحيث لا نرى داعيًا إلى إعادة القول فيه، وأما النقد الموضعي فهو — كما قلنا — ذلك الذي يرى المشاكل عند كل بيت يعرض، ثم يُحلل تلك المشاكل وَفقًا لطبيعتها. وهذا هو ما فعله الآمدي دائمًا، ثم علي بن عبد العزيز الجرجاني في الجزء الأخير من كتابه.

مقاييس النقد التي نريد أن نوضحها هنا هي تلك التي استُخدمت في النقد الموضعي. وهذه لا يتحدث عنها النقاد حديثًا نظريًّا ولا يوضحونها، وإنما يصطنعونها؛ لأن المشكلة التي تَعرِض هي التي تُمليها. وفي الحق، إن كل تلك المقاييس إنما تأتي لتعليلِ ذَوق الناقد، وفي خدمة ذلك الذوق — أرَدْنا أم لم نُرد — المصدرُ النهائي لكل أحكامنا الأدبية. وهذه الحقيقة تمنعنا من أن نُدخِل في النقد — بمعناه الصحيح — كتبًا ككِتاب «قواعد الشعر» لعلي بن أبي العباس أحمد بن يحيى، ثعلب (المتوفَّى سنة ٢٩١ﻫ)، وهو ذلك الكتاب الصغير (٢٨ صفحة) الذي رواه أبو عبد الله محمد بن موسى المرزباني، ونُشر في «أعمال مؤتمر المستشرقين» الذي انعقد في استوكهلم سنة ١٨٨٨م عن النسخة الخطية الوحيدة التي وُجدت بالفاتيكان؛ وذلك لأن الناظر في هذا الكتاب لا يجد إلا تقاسيمَ وتعاريفَ كتلك التي عهدها النحْويُّون أمثالُ ثعلب. وأما الذوق الذي ينقد ويلتمس التعليل لما ينقده، فذلك ما لا وجود له في الكتاب. وإليك الدليل: يبدأ الكتاب بقوله: «بسم الله الرحمن الرحيم … قواعد الشعر أربع: أمر ونهي وخبر واستخبار؛ فأما الأول فكقول الحُطَيئة:

أقِلُّوا عليهم لا أبًا لأبيكمُ
من اللوم أو سُدُّوا المكانَ الذي سَدُّوا
أولئك قومٌ إن بنَوْا أحسنوا البِنَا
وإن عاهَدوا أوفَوْا وإن عقَدوا شدُّوا

والنهي كقولِ ليلى الأخيلية:

لا تقرَبنَّ الدهرَ آل مُطرِّفٍ
لا ظالمًا أبدًا ولا مظلومَا
قومٌ رِباطُ الخيل وسْطَ بيوتِهمْ
وأسِنَّةٌ زُرْق يحلنَ نُجومَا

والخبر كقول القطامي:

ثقَّلتنا بحديثٍ ليس يعلمُه
مَن يتَّقين ولا مَكنونُه بادي
فهنَّ يَنبِذْن من قولٍ يصبنَ بهِ
مواضعَ الماء من ذي الغُلَّةِ الصادي

واستخبار كقولِ قيس بن الحطيم:

أنَّى سرَبتِ وكنتِ غيرَ سَروبِ
وتُقرِّبُ الأحلامُ غيرَ قريبِ
ما تَمْنعي يَقْظَى فقد تُؤتِينَهُ
في النومِ غيرَ مُصرَّدٍ محسوبِ»
ثم يقول: «وتتفرَّع هذه الأصولُ إلى مدحٍ وهجاء، ومَراثٍ واعتذار، وتشبيبٍ وتشبيه، واقتصاصِ أخبار.» ويأخذ في إيراد أمثلةٍ لكل غرض من هذه الأغراض، مع استطرادٍ لذكر «محاورة الأضداد» و«المطابق». ونحن لا ندري كيف اتخذ هذا النَّحْويُّ من «الأمر والنهي والخبر والاستخبار» قواعدَ للشعر، ولا كيف تتفرَّع «هذه الأصول» إلى الأغراض التي أورَدها. وبعد أن يتكلم عن عيوب القافية في قسمٍ مضطرب منقطع من المخطوط؛ يقسم الشعر إلى خمسة أقسام:
  • (١)

    المعدل من أبيات الشعر: وهو ما اعتَدل شَطْراه وتكافأَت حاشيتاه، وتمَّ بأيِّهما وقف عليه معناه … وهو أقربُ الأشعار من البلاغة، وأحمدُها عند أهل الرواية، وأشبهُها بالأمثال السائرة؛ كقول زُهَير:

    ومَن يغتربْ يحسَبْ عدوًّا صديقَهُ
    ومن لا يُكرِّمْ نفسَه لا يُكرَّمِ

… إلخ.

  • (٢)

    الأبيات الغُر، واحدها أغَرُّ، وهو ما نجَم من صدر البيت بتمامِ معناه دون عَجُزه. وكان لو طُرِح آخِرُه لأغنى أولُه بوضوح دلالته، وإنما أَلِفْنا هذه الأبياتَ مصلية، وجعلناها بالسوابق لاحقة؛ لملاءمتها إياها ومُمازجتها لها في أوائلها وإن افترقَت عن أواخرها … كقول الخنساء:

    وإنَّ صخرًا لتأتمُّ الهداةُ بهِ
    كأنَّهُ علَمٌ في رأسه نارُ

… إلخ.

  • (٣)

    الأبيات المحجلة: وهي ما نتَج قافية البيت عن عَروضه، وأبان عجُزُه بُغيةَ قائله، وكان كتحجيل الخيل، والنورِ يعقب الليل. وإنما رتَّبنا هذه في الطبقة الثالثة، وجعلناها للمصلية تالية؛ لشبهِها بها، ومقاربتها لها وانتظامها … كقول امرِئ القيس:

    مِن ذِكْر ليلى وأين ليلى
    وخيرُ ما رمتُ لا يُنالُ

… إلخ.

  • (٤)

    الأبيات الموضحة: وهي ما استقلَّت أجزاؤها، وتعاضدَت فُصولها، وكثرَت فقرُها، واعتدلَت فصولها، فهي كالخيل الموضحة، والفصوص المجزعة، والبرود المحبرة، ليس يحتاج واضعُها إلى «لو كان فيها سوى ما فيها …» كقول امرئ القيس:

    مِكَرٍّ مِفرٍّ مُقبلٍ مُدبر معًا
    كجُلمودِ صخرٍ حطَّه السيلُ من عَلِ

    وقول الخنساء:

    المجدُ حُلَّتُه والجودُ عِلَّتهُ
    والصدقُ حَوزتُه إنْ قِرْنُه هابا

… إلخ.

  • (٥)

    الأبيات المرجلة: التي يَكمُل معنى كلِّ بيت منها بتمامه، ولا ينفصل الكلام منه ببعضٍ يَحسُن الوقوف عليه غير قافيته، فهو أبعدُها من عمود البلاغة، وأذمُّها عند أهل الرواية؛ إذ كان فَهمُ الابتداء مقرونًا بآخِره، وصدرُه مَنوطًا بعَجُزه، فلو طُرِحت قافية البيت وجبَت استحالته ونُسب إلى التخليط قائلُه … كقولِ جَرير:

    لو كنتُ أعلم أنَّ آخِرَ عهدِكمْ
    يومُ الرحيل فعَلتُ ما لم أفعَلِ

    وقول الخنساء تَرثي صخرًا:

    يُهين النفوسَ وهَوْن النفو
    سِ يومَ الكريهة أبقى لها

وهذا التقسيم كما ترى ليس تقسيمَ ناقدٍ، بل تقسيمٌ نَحْوي أساسه تمامُ المعنى، فأجوَدُ الشعر عنده وخيرُ أقسامه هو ما أفاد كلُّ شطر منه معنًى تامًّا، ويليه ذلك النوعُ الذي يتمُّ معناه بتمام الشطر الأول، والثالث ما يُنبئ صدرُه عن عجُزه، وهذا النوع سبق أن رأينا ابنَ قُتيبة يدلُّ عليه ويتخذه دليلًا على الجودة، والرابع ما حمل عدةَ معانٍ مُقسَّمة، والخامس ما لا يتمُّ معناه إلا بتمام البيت.

وكما أن قواعد الشعر لا علاقة لها بالأمر والنهي والخبرِ والاستخبار، التي هي ظواهرُ لغوية؛ كذلك الأمر في هذا التقسيم الذي يرى الجودةَ فيما لا يستتبعُها ضرورة. وكلُّها بعدُ تقاسيمُ غير جامعة ولا مانعة، كما أنها لا تمسُّ عناصر الشعر الفنيةَ في شيء؛ ولهذا إن كان لهذا الكتاب قيمة، فإنها تأتيه كوثيقةٍ تاريخية تدلُّنا على محاولات النحْويين في دراسة الشعر ووضعِ قواعدَ له. ولقد سبق أن رأينا النقاد والشعراء يُنكرون على هؤلاء مقدرتهم على النقد؛ لأنهم ليسوا من رجاله، وإنما يستطيع نقدَ الشعر «مَن دُفع إلى مضايقه».

ثم إن الاصطلاحات التي يحاول ثعلب تحديدها هنا كالمعدل والأعز والمحجل والموضح والمرجل؛ اصطلاحاتٌ مُتمحَّلة، لا نرى علاقةً بين معناها الاشتقاقيِّ والمعنى الاصطلاحي الذي يريد المؤلفُ أن يُلصقه بها إلصاقًا، ولعل هذا هو السبب في أنها لم تلقَ نجاحًا.

نُخرِج إذن أمثالَ هذا الكتاب من النقد القائم على الذوق المعلَّل، ونَقصُر الكلامَ على مقاييس النقد الموضعي، نحاول استخراجها من تضاعيف أقوال النقاد.

ولكنَّا نُبادر إلى تقريرِ احتياط آخر يَزيد موضوعَنا حصرًا؛ وذلك أننا نقصد بالنقد الموضعي ما كُتب في نقد الشعر لِذاته، وما كتبه نقادٌ مختصون ألَّفوا كتبهم لهذه الغاية. وأما نقدُ الشعر للاستدلال من ذلك على إعجاز القرآن مثلًا عن طريق الدليل العكسي؛ فذلك نقدٌ لا غَناء فيه ولا استقامةَ لمقاييسه.

هذا التحفُّظ يُخرج نقد القاضي أبي بكرٍ الباقلَّاني (المتوفَّى سنة ٤٠٣ﻫ) في كتابه «إعجاز القرآن»؛ حيث يتناول المؤلفُ الشعر بالنقد ليجرحه، فيظهر بذلك أن القرآن أبلغُ وأفصح وأبدع منه. وتلك هي الخُطة العامة للباقلاني الذي لا يُدلل على إعجاز القرآن في ذاته قدْرَ تدليله على ذلك بتسخيفِ ما عداه من قول.

ولدينا في كتاب الباقلَّاني نقدٌ لقصيدتين اختار الأولى لكبير الجاهليِّين؛ وهو امرُؤ القيس، واختار الثانية لخيرِ المحْدَثين في نظره؛ وهو البُحتري. فقصيدةُ امرئ القيس هي معلقته:

قِفا نبكِ من ذِكْرى حبيبٍ ومنزلِ
بسِقْطِ اللِّوى بين الدَّخُولِ فحَومَلِ

وقصيدةُ البحتريِّ هي:

أهلًا بذلكم الخيالِ المُقبلِ
فعَل الذي تَهْواه أو لم يَفعلِ

والناظر في هذا النقد يرى التمحُّل والفَهاهة وتكلُّفَ العيب، مع عجزٍ عن إدراك جمال الشعر، ونزوعٍ إلى الإعجاب بالبديع وانتقادِ خُلوِّ الشعر منه.

ولننظر في نقده لمعلقة امرئ القيس (من ص٧٢ إلى ٨٦)، فنراه يبتدئ بالمطلع:

قفا نبكِ من ذِكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسِقط اللِّوى بين الدَّخول فحَوملِ
فتُوضِحَ فالمِقْراة لم يعفُ رسمُها
لما نسَجَتها من جَنوبٍ وشمْأَلِ

يقول عنه: «الذين يتعصَّبون له أو يدَّعون له محاسنَ يقولون: هذا من البديع؛ لأنه وقَف واستوقَف، وبكى واستبكى، وذكَر العهود والمنزلَ والحبيب، وتوجَّع واستوجع، كلُّه في بيت واحد، ونحو ذلك، وإنما بينَّا هذا لئلا يقع لك ذَهابنا عن مواضع المحاسن إن كانت، ولا غفلتُنا من مواضع الصناعة إن وُجِدت. تأمَّل، أرشدك الله، وانظر، هداك الله. أنت تعلم أنه ليس في البيتين شيءٌ قد سبق مَيدانه شاعرًا، ولا تقدَّم به صانعًا، وفي لفظه ومعناه خلَل؛ فأولُ ذلك أنه استوقف مَن يبكي لذِكر الحبيب، وذِكْراه لا تقتضي بكاءَ الخلي، وإنما يصحُّ طلب الإسعاد في مثلِ هذا على أن يبكيَ لبكائه، ويرقَّ لصديقه في شدةِ بُرَحائه، فأما أن يبكيَ على حبيبِ صديقه وعشيقِ رفيقه فأمرٌ محال، فإن كان المطلوب وقوفَه وبكاءه أيضًا عاشقًا صحَّ الكلام وفسد المعنى من وجهٍ آخر؛ لأنه من السخف ألا يَغار على حبيبه، وأن يدعوَ غيره إلى التغازُل والتواجُد معه فيه. ثم في البيتين ما لا يفيد من ذِكر هذه المواضع وتسميةِ هذه الأماكن من الدَّخول وحَوْمَل وتُوضِحَ والمِقْراة وسِقْط اللِّوى، وقد كان يكفيه أن يذكر في التعريف بعضَ هذا. وهذا التطويل إن لم يُفِد كان ضربًا من العي.

ثم إن قوله: لم يعفُ رسمها، ذكر الأصمعيُّ من محاسنه أنه باقٍ، فنحن نحزن على مشاهدته، فلو عفَا لاسترَحْنا، وهذا بأن يكون من مساويه أَولى؛ لأنه إن كان صادقَ الودِّ فلا يَزيده عَفاءُ الرُّسوم إلا جِدَّةَ عهد، وشدةَ وَجْد، ثم في هذه الكلمة خلل؛ لأنه عقَّب البيتَ بأن قال: فهل عند رسمٍ دارسٍ من مُعوَّل؛ لأن معنى عفا ودرَس واحد … وقوله: لِمَا نسجَتها، كان ينبغي أن يقول: لِما نسَجها، ولكنه تعسَّف فجعل ما في تأويل التأنُّث؛ لأنها في معنى الريح، والأَولى التذكيرُ دون التأنيث، وضرورة الشعر قد دلَّته على هذا التعسُّف. وقوله: لم يعفُ رسمها، كان الأَولى أن يقول لم يعفُ رسمُه؛ لأنه ذكر المنزل، فإن كان ردَّ ذلك إلى هذه البقاع والأماكن التي المنزل واقعٌ بينها فذلك خلل؛ لأنه إنما يريد صفة المنزل الذي نزله حبيبُه بعَفائه، أو بأنه لم يعفُ دون ما جاوره، وإن أراد بالمنزل الدارَ حتى أنَّث، فذلك أيضًا خلل.»

ونحن نستطيع أن نُجمِل ما عابه الباقلانيُّ على هذين البيتين في أربعة أشياء:
  • (١)

    انتقاده للإسعاد من الناحية النفسية، وهو نقدٌ تافه لا حقيقة له، وهو أقربُ إلى العبَث منه إلى النقد؛ لأن الأمر أمرُ خيالٍ شعري، والذي لم يزل فيه أن الحُزن يُعْدي، ولقد يبكي الصديقان كلٌّ ليلاه في أيِّ مكانٍ وقفا.

  • (٢)

    ذِكر الأمكنة. والباقلاني لا يستطيع أن يُدرك مبلغَ الإيحاء الذي يشعُّ من الأمكنة، وللأمكنة أرواحٌ تَعْلق بالنفوس فتحملها على المحبة، والعرب قومٌ رحَّل موزَّعون بين الأمكنة، ومن يُدرينا لعلَّ كل ذكريات الشاعر كانت بتلك الأمكنة أو نحوها.

  • (٣)

    عدم عَفاء الرسم. ولقد أصاب الأصمعيُّ في ملاحظة أن ذلك أدْعى لِلَّوعة وأمعنُ تشخيصًا. وأما تَمحُّل الباقلاني في شدة الوَجد وعدم حاجته لقيام الرسم، وقوله بتناقض الشاعر؛ فكلامٌ لا قيمة له، والدروس بعدُ غيرُ العفاء ومرحلةٌ إليه.

  • (٤)

    وأخيرًا، الخلل النحوي. وهذا نقدٌ واضح البطلان؛ لاستقامة النحو، بل وجماله.

هذا مثالٌ لنقد الباقلاني لامرِئ القيس، وطريقته في نقد البحتري لا تختلف في شيءٍ عن هذه الطريقة، وإن يكن أكثرَ توفيقًا؛ لأن قصيدة البحتري فيها ما يُعاب؛ كضعف الخروج، وابتذالِ المدح، «وأنه لا يهتدي لوصل الكلام ونظامِ بعضه إلى بعض» (ص١٠٨)، ومع ذلك، فتمحُّل الناقد واضح. ولنأخذ لذلك مثالًا نقده لمطلع القصيدة (ص١٠٣ وما بعدها):

أهلًا بذلِكم الخيالِ المقبلِ
فعَل الذي تَهْواه أو لم يفعلِ
برقٌ سَرى في بطن وَجْرة فاهتدَت
بسَناه أعناقُ الرِّكاب الضُّلَّلِ

«البيت الأول في قوله: ذلكم الخيال، ثقلُ روحٍ وتطويلٌ وحشو، وغيره أصلحُ له، وأخفُّ منه قولُ الصَّنَوبري:

أهلًا بذاك الزورِ من زورِ
شمسٌ بدَت في فلَك الدورِ

وعذوبة الشعر تَذهب بزيادة حرفٍ أو نقصانِ حرف فيصير إلى الكزازة، وتعود مَلاحته بذلك ملوحة، وفصاحتُه عيًّا، وبراعته تكلفًا، وسلاسته تعسفًا، ومَلاسته تلوِّيًا وتقعرًا، فهذا فصل. وفيه شيءٌ آخر، وهو أن هذا الخطاب إنما يستقيم مهما خوطب به الخيال حالَ إقباله، فأما أن يحكيَ الحال التي كانت وسلَفَت على هذه العيادة ففيه عُهدة، وفي تركيب الكلام على هذا المعنى عُقدة. وهو لبراعته وحَذْقه في هذه الصَّنعة يعلق نحو هذا الكلام ولا ينظر في عواقبه؛ لأن ملاحة قوله تُغطي على عيون الناظرين فيه نحوَ هذه الأمور. ثم قوله: فعَل الذي تهواه أو لم يفعل؛ ليست بكلمةٍ رشيقة، ولا لفظةٍ ظريفة، وإن كانت كسائر الكلام. فأما بيته الثاني فهو عظيم الموقع في البهجة، وبديعُ المأخذ، حسَنُ الرُّواء، أنيقُ المنظر والمسمع، ويملأ القلبَ والفهم، ويُفرح الخاطر، وتُرى بشاشتُه في العروق.

وكان البحتري يُسمي نحو هذه الأبياتِ عروقَ الذهب. وفي نحوه ما يدلُّ على براعته في الصناعة، وحذقه في البلاغة. ومع هذا كله فيه ما نشرحه من الخلل، مع الدِّيباجة الحسنة، والرونق المليح؛ وذلك أنه جعل الخيالَ كالبرق لإشراقه في سُراه، كما يقول: إنه يسري كنسيم الصَّبا فيطيب ما مرَّ به، كذلك يُضيء ما حوله وينور ما مرَّ به. وهذا غلوٌّ في الصنعة، إلا أن ذكر بطن وجرة حشو، وفي ذِكره خلل؛ لأن النور القليل لا يؤثر في بطون الأرض وما اطمأنَّ منها، بخلاف ما يؤثر في غيره، فلم يكن من سبيله أن يربطَ ذلك ببطن وجرة، وتحديده المكانَ على الحشو أحمدُ من تحديد امرِئ القيس من ذكر سِقط اللِّوى بين الدَّخول فحَومل فتُوضِح فالمقراة؛ لم يَقْنع بذكره حتى حدَّه بأربعةِ حدود، كأنه يريد بيع المنزل فيخشى إن أخلَّ بحدٍّ أن يكون بيعه فاسدًا، أو شرطُه باطلًا. فهذا باب.

ثم إنه يذكر الخيال بخفاء الأثر، ودقة المطلب، ولطف المسلك. وهذا الذي ذكر يُضادُّ هذا الوجه، ويخالف ما يوضع عليه أصل الباب، ولا يجوز أن يُقدر مقدِّرٌ أن البحتري قطع الكلام الأول وابتدأ بذكر برقٍ لمع من ناحية حبيبه من جهةِ بطن وجرة؛ لأن هذا القطع إن كان فعَله كان خارجًا به عن النَّظم المحمود، ولم يكن مُبدعًا، ثم كان لا تكون فيه فائدة؛ لأن كل برق شعل وتكرَّر وقعُ الاهتداء به في الظلام، وكان لا يكون بما نظمه مفيدًا ولا متقدمًا، وهو على ما كان من مقصده، فهو ذو لفظ محمود، ومعنًى مستحَقٍّ غير مقصود، ويُعلم بمثله أنه طلب العبارات وتعليقَ القول بالإشارات. وهذا من جنس الشعر الذي يحلو لفظُه وتقلُّ فوائده؛ كقول القائل:

ولما قضَيْنا من مِنًى كلَّ حاجةٍ
ومسَّح بالأركان مَن هو ماسحُ
وشُدَّت على حُدْبِ المهَارِي رِحالُنا
ولا ينظر الغادي الذي هو رائحُ
أخَذْنا بأطرافِ الأحاديثِ بينَنا
وسالت بأعناقِ المَطِيِّ الأباطحُ
هذه ألفاظٌ بعيدة المطالع، وحُلوة المجاني والمواقع، قليلةُ المعاني والفوائد.» وهنا أيضًا نستطيع أن نُجمِل انتقاداته في:
  • (١)

    ثِقَل الروح في قوله: ذلكم الخيال … إلخ. ونحن لا نحسُّ هنا بما أحسَّه الباقلاني؛ فاللفظةُ لا ثقل فيها، بل إنها جميلة؛ لأن توجيه الخطاب قد أشرك السامعين في إحساس الشاعر.

  • (٢)

    انتقاده لتحديد سرَيان البرق ببطنِ وجرة؛ فهو لا يريد أسماء الأمكنة، مع أن تحديد المكان هنا قد ركَّز القول وأعطى الشعرَ ما يُشبه الواقع، وكأني به قد خرَج بالمبالغة إلى الحقيقة، فنسينا أن هذا البرقَ ليس إلا خيالَ الحبيبة.

  • (٣)

    الغلوُّ في الصنعة؛ لأنه ذكر أن الخيال قد سرى فأضاء كالبرق، ونحن لا نحسُّ بقُبحٍ في هذا الغُلو، بل نراه من معدِنِ الشعر الجميل، الذي إن لم يصدر عن الواقع الخارجي فقد صدر عن واقعٍ نفسي لم يزل فيه.

  • (٤)

    أن الخيال لم يأتِ في السر، بل أتى كالبرق. وهذا انتقادٌ تافه؛ لأن البرق لم يرَه غيرُ الشاعر.

  • (٥)

    أن بيتَي البحتري مما حلا لفظُه وقلَّت معانيه وفوائده. وهذا نقدٌ سبق أن سمعناه من ابن قتيبة وناقشناه في مكانه.

وهذه الأمثلة من نقد الباقلاني أردنا أن نُدلِّل بها على أن النقد الذَّوقي المستقيم لم يتوفَّر له، وإنما توفر ذلك لنقاد الشعر المنهجيِّين أمثالِ الآمدي وعلي بن عبد العزيز الجرجاني. وعند هذين نريد الآن أن نوضح المقاييس.

أساس النقد عندهما — كما وضَّحنا — هو الذَّوق المدرَّب، وهو المقياس الأول، ولكن الذوق — كما قلنا — لا يمكن أن يُصبح وسيلةً مشروعة لمعرفةٍ تصحُّ لدى الغير إلا إذا عُلِّل، وهو عندئذٍ ينزل منزلة العلم الموضوعي. والتعليل بعدُ ليس ممكنًا في كل حالة؛ لأن «من الأشياء أشياء تُحيط بها المعرفة ولا تؤدِّيها الصفة»، وهناك «ظاهر تُحسه النواظر، وباطن تُحصِّله الصدور»، وأكثر ما تكون تلك الدقائقُ في مواضع الجمال، فتلك قد نُحسها، وأما أن نُعللها فذلك ما قد لا نستطيعه بغير الألفاظ العامة التي لا تُميز جمالًا عن جمال. وأما التعليق الدقيق الذي نستطيعه، فإنما يكون فيما نراه من قُبح أو ضعف، بَلْه الخطأ.

هذه الحقيقة تُفسر لنا السرَّ في عدم تحديد الألفاظ التي تستعمل في العبارة عن إعجاب النقَّاد، وها هو الآمدي مثلًا يورد قول البحتريِّ في محو الرياح للديار:

أصَبا الأصائلِ إنَّ بَرْقة منشدٌ
تشكو اختلافَك بالهبوبِ السَّرمدِ
لا تَتْبعي عرَصاتِها إنَّ الهوى
مُلقًى على تلك الرُّسوم الهمَّدِ
دمنٌ مَواثلُ كالنجوم فإن عفَتْ
فبأيِّ نَجمٍ في الصَّبابة نهتدي

ثم لا يجد في تعليل إعجابه بهذه الأبيات الجميلة غيرَ قوله: «وقد قرأتُ شعرًا كثيرًا في وصف الرياح وتعفيتها للدار لشعراء الجاهلية والإسلام، فما سمعتُ بأحسنَ من هذا ولا أعرف ولا أبدع.»

ويُعلق على قول أبي تمام:

والنُّؤْيُ أُهمِدَ شَطْرُه فكأنَّهُ
تحت الحوادثِ حاجبٌ مقرونُ

بقوله: «وهذا حسن، ولستُ أعرف للبحتريِّ في مثله شيئًا.»

وكذلك يفعل علي بن عبد العزيز الجرجاني عندما يورد مثلًا قصيدةَ البحتري:

أُلام على هواك وليس عَدْلًا
إذا أحببتُ مِثلَك أن أُلاما
ثم يُعلق عليها بقوله: «ثم انظر هل تجد معنًى مبتذَلًا ولفظًا مُشتهِرًا مستعملًا؟ وهل ترى صنعةً وإبداعًا، أو تدقيقًا أو إغرابًا؟ ثم تأمَّل كيف تجد نفسَك عند إنشاده، وتفقَّدْ ما يتداخلُك من الارتياح، ويستخفُّك من الطرَب إذا سمعتَه، وتذكَّر صَبْوةً إن كانت لك تراها ممثلةً لضميرك ومصوَّرةً تِلقاء ناظرك.» فهذا أيضًا نقدٌ عام وإن كان يرتكز في الواقع على أساسين:
  • (١)

    أساس فني: هو خلوُّ القصيدة من الصنعة المتكلَّفة.

  • (٢)

    أساس نفسي: هو تحريك مشاعرنا وذكرياتنا.

ومع ذلك، فالأساسان عامَّان لا تخصيص فيهما بنوع النَّسْج الفني أو بطبيعة الإحساس المثار ولونِه.

مقاييس الجمال إذن قليلةُ التحديد، ومنها ما لا سبيل إلى إدراكِه؛ كقولهم: «حلاوة اللفظ» و«كثرة الماء والرَّونق» وما إلى ذلك، ولكننا عندما نترك الجمال إلى ما ليس منه، نجد المقاييسَ التي لا تخلو من دقة.

وبالنظر في الموازنة والوساطة، نجد أن الناقدَين متَّفقان على كثيرٍ من المقاييس التي نستطيع أن نُجمِلَها فيما يأتي:
  • (١)

    مقاييسُ شعرية تقليدية: ولقد سبق أن وضَّحنا نشأة تلك المقاييس، وميَّزنا بينها وبين المقاييس البلاغية عند كلامنا على أبي هلال؛ فالآمديُّ ينقد أبا تمام؛ لأنه لم يصف المرأةَ بالصفات التي درَج عليها الشعراءُ القدماء؛ من ضمور الخَصر ورِيِّ الأطراف. وكذلك يفعل علي بن عبد العزيز الجرجاني عندما يُحصي طرقَ وصفِ السلاح عند الشعراء، والغايات التي يرمون إليها من هذا الوصف، وأمثلة ذلك كثيرة (راجع: [تمهيد الجزء الثاني]). وهي بعدُ غير مقاييس قدامة وأبي هلال اللذَين يريدان أن يُمليا على الشعراء معانيَهم، غيرَ مقيَّدَين في هذا الإملاء بالتقاليد الشعرية كلِّها، بل بما يروقهم منها؛ كالمدح بالصفات النفسية دون الصفات الجسمية … إلخ.

  • (٢)

    مقاييسُ لُغوية: ونحن لا نقصد بتلك المقاييس قواعدَ النحو، فهذه لا شأنَ لها بالنقد؛ لأن النقد لا ينظر في الصحة والخطأ كما يفعل النحو، وإنما يَعْدو ذلك إلى الجودة وعدمِها؛ وذلك طبعًا على أن نعطيَ النحو معناه المعروفَ لنا اليوم، لا ذلك المعنى الواسعَ الذي أعطاه إياه عبدُ القاهر الجرجاني عندما جعل علمَ المعاني جزءًا منه. ونستطيع أن نضرب مثالًا لتلك المقاييس القاعدةَ التي عبَّر عنها الآمديُّ غيرَ مرة بقوله: «إن اللغة لا يُقاس عليها.» وقد سبق أن رأينا أن هذا المقياس ضيقٌ ظالم؛ لأنه ينتهي بالناقد إلى أن يعيب أبياتًا جميلة كقول أبي تمام «لا أنت أنت ولا الديارُ ديار»؛ بحجةِ أن هذا من أقوال العوام، وأنه لا يجوز أن نَقيسه بقول البُحتري: «ولا العقيقُ عقيق … إلخ.» ومنها الحكم على الشاعر بعدم الدقة في استعمال ألفاظ اللغة؛ كنقد الآمديِّ لقول أبي تمام:

    قد كنتَ معمورًا بأحسنِ ساكنٍ
    ثاوٍ وأحسَنِ دِمْنةٍ ورُسومِ

    إذ يرى أن الدار لا تُصبح رُسومًا وساكنها لا يزال ثاويًا فيها.

    وانتقاده لقوله:

    حُيِّيتَ مِن طلَلٍ لم يبقَ لي طللًا
    إلا وفيه أسًى ترشيحُه الذكَرُ
    قالوا أتبكي على رسمٍ فقلتُ لهم
    مَن فاته العينُ أدنى شوقِه الأثرُ

    إذ يقول: «الطلَلُ ما شَخَص من آثارِ الديار، والطللُ شخصُ الإنسان وقامته، يقال: ما أحسنَ طللَه! ولا يجوز أن يريد بالطلل جملةَ شخصِه وقامته؛ لأن ذلك يكون مثلَ قولك: ما لزيد جسدٌ إلا وفيه أثر، وما له رأسٌ إلا وفيه شجَّة. وهذا خطأ؛ إذ ليس له إلا رأسٌ واحد وجسد واحد.»

  • (٣)

    مقاييسُ بيانيَّة: وهذه تتعلق بلُباب الشعر؛ لأنها تتناول الاستعاراتِ والتشبيهات التي بفضلها تُصوَّر الصور، والشعر إلى حدٍّ بعيد تصويرٌ ناطق. ولقد شغَلَت الحدود التي تُعرف بها الاستعارات والتشبيهات الجيدة كافة النقاد في كل الآداب. والناظر عند الآمدي الذي كان يعجب بالشعر المطبوع؛ يحسُّ أن مقياس جودة الاستعارة عنده هو القُرب، وعدم الإغراب، وصدق الدلالة، فهو مثلًا ينقد قول أبي تمام:

    وكأنَّ أقْيدةَ النَّوى مصدوعةٌ
    حتى تصدَّع بالفراق فُؤادي

    بقوله: «وما أظنُّ أحدًا انتهى في الجهل والعيِّ واللُّكنة وضيق الحيلة في الاستعارة إلى أن جعَل لصُروف النَّوى قيدًا وأقيدةً مصدوعة غيرَ أبي تمام.»

    وفي الباب الذي عقده الناقدُ لبيان ما عِيبَ من استعارات أبي تمام أمثلةٌ لا تُحصى لهذا النوع من النقد. وقد سبق لنا أن أوردنا نقده ﻟ «أخادع الدهر» ولوصفه لمعشوقته بأنها: «ملطومةٌ بالورد». وأما علي بن عبد العزيز الجرجاني فهو يحاول أن يضعَ مقاييسه وضعًا نظريًّا. ولقد سبق أن قلنا: إنه مهَّد لظهور العسكري؛ ومن ثَم نراه يَقيس جودة الاستعارات بقوله: «أما الاستعارات فهي أحدُ أعمدة الكلام، وعليها المأمولُ في التوسع والتصرُّف، وبها يُتوصَّل إلى تزيين اللفظ وتحسين النظم والنثر، ومنها المستحسَن والمستقبَح، والمقتصِد والمفرِط … وهذا إنما يميز بقَبول النفس ونفورها بسكون القلب ونُبوِّه» (ص٣٢٣). وهنا يعود الذَّوق فيُطالعنا كمرجعٍ نهائي للنقد، ولكن صاحب الوساطة يعود في موضعٍ آخَر فيضع للاستعارة حدًّا يُشبه حدَّ الآمدي فيقول: «إنما تصح الاستعارة وتحسن على وجهٍ من المناسبة، وطرفٍ من الشبه والمقاربة» (ص٣٢٤).

    وكذلك الأمر في التشبيه؛ إذ نرى علي بن عبد العزيز الجرجاني يُفصل القول فيه بمناسبة بيت المتنبي:

    بَليتُ بِلى الأطلالِ إن لم أقِفْ بها
    وقوفَ شحيحٍ ضاع في التُّربِ خاتَمُهْ

    وذلك لأنه يورد ما عابه النقادُ على تشبيه المتنبي وقوفَه على الأطلال بوقوف الشحيح ضاع في التربِ خاتمُه، ثم يحاول أن يُدافع عن الشاعر فيقول: «إن التشبيه والتمثيل قد يقع تارةً بالصورة والصفة، وأخرى بالحال والطريقة، فإذا كان الشاعر وهو يريد إطالةَ وقوفه قد قال: إني أقفُ وقوفَ شحيح ضاع خاتمه، فإنه لم يُرد التسويةَ بين الوقوفَين في القدر والزمان والصورة، وإنما يريد: لأقفنَّ وقوفًا زائدًا على القدر المعتاد خارجًا عن حدِّ الاعتدال، كما أن وقوف الشحيح يَزيد على ما يُعرف في أمثاله وما جرَت به العادةُ في أضرابه.» وهكذا يتَّخذ الناقدُ من التقرير الفلسفي لأهداف التشبيه مِقياسًا لتصحيح ما عِيبَ على المتنبي.

  • (٤)

    مقاييسُ إنسانية: وتلك هي التي ينتزعها النقَّاد من حقائق النفوس، فيقبلون من أقوال الشعراء ما يُماشيها، ويردُّون ما لا يَصدُق عليها. ومن أمثلة ذلك ما عابه الآمديُّ على أبي تمام والبحتريِّ في قول أبي تمام:

    دعا شوقُه يا ناصرَ الشوق دعوةً
    فلَبَّاه طَلُّ الدمعِ يَجري ووابِلُه

    وقولِ البحتري:

    نصَرتُ لها الشوقَ اللَّجوجَ بأدمُعٍ
    تَلاحَقْن في أعقابِ وصْلٍ تصرَّما

    فهو يرى أن الدموع لا تُقوِّي الشوق، بل تَشفي منه، وأمثال ذلك مما نجده في الموازنة والوساطة.

  • (٥)
    مقاييس عقلية: وهذه مَردُّها إلى تَجارِبنا اليومية وملاحظاتنا في الحياة؛ أي إلى ما يُسمونه بالإنجليزية Common Sense، والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها ردَّ الآمديِّ على ما أخذه النقادُ على أبي تمام عندما قال:
    تَعجَّبُ أنْ رأت جسمي نحيفًا
    كأنَّ المجد يُدرَك بالصُّواعِ

    إذ يقول: «وعابه ابنُ عمار وغيره … قالوا: إن الصواع ليس من النَّحالة والجَسامة في شيء، ولو قلت كأنَّ المجد يُدرَك بحرفٍ في معنى الجسامة كنت قد أصبت. وكلُّ من عاب هذا البيتَ عندي غالط، ولِمَ كان الصُّواع ليس عنده من النحافة في شيء؟ وهل تجد القوةَ أبدًا إلا في العَبالة وغِلَظ الألواح؟ وهل الضعف أبدًا إلا في الدقَّة والنحافة؟ وهذا هو الأعمُّ الأكثر، وإلا لِمَ صار الفيلُ يحمل ما لا يحمل الجمل، والجملُ يحمل ما لا يحمل البغل، والبغل يحمل ما لا يحمل الحمار؟ فأراد أبو تمام أن المجد لا يُدرَك بالصواع الذي مَن كان فيه أغلظَ وأعبل كان أولى بالغلبة؛ فهذا هو الأعم الأكثر في هذا الباب. ولستُ أنكر أن تكون القوة قد توجد مع الدقة والنحافة، كما قال بعضهم: «إنا على دقَّتنا صلابُ»، وأن يكون الخدر والرَّخاوة قد يوجدان مع الغِلَظ والعَبالة في بعض الأشياء. فأما الشجاعة والجُرأة فقد توجدان في النحيف الجسم الضعيف، وفي العبل، وهذا إنما يرجع إلى القلب لا إلى الجسم. وقد جعل أبو تمام معناه على الوجه الأعمِّ الأكثر، وقد أحسَن عندي ولم يُسئ.»

    ومن البيِّن أن الآمديَّ لم يستقِ كلَّ تلك الملاحظات إلا من تجارِب الحياة العادية.

    هذا مُجمل مقاييسِ النقد عند هذين الناقدين العظيمين. ونحن لا ندَّعي أننا قد أتينا بها على سبيل الحصر؛ لأن نقدهما — كما قلنا — كان نقدًا موضعيًّا، يضع المشاكلَ باستمرارٍ ويحل تلك المشاكل وفقًا لطبيعتها، وإنما أردنا أن ندلَّ على نوع تلك المقاييس.

    وبمراجعة هذه الأنواع المختلفة نجد أنَّ منها ما يختصُّ بمادة الشعر وهي المقاييس التقليدية، ومنها ما يرجع إلى اللغة، ومنها ما يتناول الصورَ وطرقَ البيان، وأخيرًا منها ما هو نفسيٌّ أو عقلي. وهذه تُناقش الإحساسات والمعاني، وبذلك يكون الناقدان الكبيران قد ألمَّا بكافة العناصر الداخلة في الشعر.

تلك بعضُ مقاييس النقد المنهجي الموضعي، ولكننا رأينا أن ذلك النقد لم يلبث أن حلَّ محلَّه غيرُه بانقضاء الخصومات التي ولَّدَته: ظهر علم البديع بنقده الشكلي، كما ظهرت فلسفةُ عبد العزيز الجرجاني اللغوية.

فأما عن مقاييس البديع فتلك — كما رأينا — لا تكاد تمسُّ جوهر الشعر في شيء؛ لأنها تعتمد على التقاسيم والألفاظ.

وأما فلسفة عبد القاهر فتلك قد وضَعَت أساسًا عامًّا للنقد؛ هو الأساس الوحيد الذي نستطيع أن نطمئنَّ إلى تعميمه في عصرنا الحالي؛ لأنه أساسٌ لُغوي فقهي، وتلك هي أصحُّ نظرةٍ في نقد النصوص. ولقد فرَّع عبد القاهر عن فلسفته مقياسًا عامًّا في النقد؛ هو النظر في نظم الكلام نظرًا يؤدي ما نريد من معانٍ على خيرِ وجهٍ وأجمله.

هذا هو المقياس العام عند عبد القاهر، ولكنه لا يقف عنده، بل يأخذ في تطبيقه تطبيقًا موضعيًّا، فيضع هو الآخَرُ المشاكلَ ثم يحلُّها، وإن تكن هناك وحدةٌ في نقده، فهي في ركونه إلى فلسفته اللغوية العامة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤