الفصل الخامس

هل يود الأثرياء المحدثون أن يظل الفقراء على فقرهم

يجمُل بنا في هذا الموضع أن نناقش عبارةً وردت في كتابٍ نُشر حديثًا في مسائل النقد، وأعني به كتاب الأستاذ «سودي» وعنوانه «المال والإنسان»؛ وإنه لحادث له دلالته في هذا العصر أن شخصًا ممتازًا في علم الطبيعة كالأستاذ سودي، الذي بلغ شأنه في هذا العلم أن ظفر بجائزة نوبل عام ١٩٢١م، تجذبه الحاجة الملحة لبحث موضوع النقد إلى دقائق الأمور المالية، فبحثها من ناحية فريدة في طرافتها وقوَّتها، وله من قبلُ هذا بحوث نشرها، فأصدر كتاب Cartesian Economics عام ١٩٢٢م، ثم أصدر كتاب «الثروة الحقيقية والدَّيْن» عام ١٩٢٦م، كما نشر كتاب «تحطيم عصر علمي» وبرهن بما كتبه في موسوعة الأعلام على أنه «مشغوف بالشئون الاقتصادية التي نشأت بعد طوفان الحرب»؛ ونحن بغير شك نرحِّب بهذا الزعيم الذي يحاول أن يضع الاقتصاد السياسي العتيق في متحف الحفائر، ويصطنع في نقده أسلوبًا عنيف الثورة يبعث القارئ على التفكير، وهو ليس ظاهرة في ذلك، بل يُعَدُّ طليعةً تمهِّد لما بعدها؛ فإن غرفة الموسر ومكتب سمسار الأسهم وحجرة لجنة الإدارة سيغزوها نفرٌ متزايد من الباحثين الذين يمتازون بشدة الذكاء وقوة الشك، والذين يقاومون الخداع والغموض، ويصوغون آراءهم في عباراتٍ لا تعرف الرياء، مثل: «ما قبل الطوفان» و«المتجسسون الخائنون» وما إلى ذلك، في جرأة عجيبة؛ وهم معتزمون ألا ينكصوا على أعقابهم قبل أن يعلموا ما يريدون أن يعلموه.

ونستطيع أن نتخيَّل الأستاذ سودي ينوب عن علم الطبيعة فيقول: «إنا معشر العلماء قد محونا شقاء العمل، ولكن الناس لا يزالون يشقون، وخلقْنا وفرةَ الإنتاج ولكن الفاقة لا تزال جاثمة في كل مكان، فما الذي يحول بيننا وبين الناس؟» ثم يقول في حدة: «ليت شعري ماذا تريدون يا لصوص المال؟» فإن لم تكن هذه العبارات من قوله فهي لسان حاله.

ولكنا لا نبحث هنا في نفسيته، إنما نبحث النتيجة التي يعلنها وهي جد خطيرة، وإن يكن قد عدَّها نتيجة فرعية إلا أنها أساسية في الواقع، وفيما يلي عبارته التي قالها هذا الصدد، والتي نقصد الآن إلى بحثها؛ فهي تقرير جريء لما تنطوي عليه الإنسانية المزدهرة من شرور، وهو يزعم أن الكثرة الغالبة من أصحاب النشاط إنما تعيش للقوة وتنشد الغلبة على إخوانهم من بني الإنسان، وهاك عبارته:

إن من بين أغراض العلم أن يجعل بعض الناس أغنى جدًّا من بعضهم الآخر، وللعلم غرض ثانٍ يخالف هذا أشد الخلاف، وذلك أنه يحاول بدهائه أن يدك نظام المجتمع البشري السائد، وأن يخلص الناس جميعًا من غائلة الفاقة الفاتكة؛ فبين الناس كثيرون نَبُهَ شأنهم وماتت ضمائرهم، بل قُل ذلك عن معظم الأقوياء الناجحين في المجتمع؛ فلا يبعُد على هؤلاء أن يُؤْثِروا حياةً تنعدم فيها المدنية على حياة تجلب لهم الغم ولا تعمل على إسعادهم؛ وقد اشتم بعضهم بوادر الخطر؛ فبعد أن كان أصحاب الفن والجمال هم الذين يناهضون وحدهم النزعة الآلية المتزايدة في هذا العصر، وإن تكن مناهضة بغير جدوى، ارتدت الموجة وعمل العلم على فقر الأغنياء فقرًا نسبيًّا بأن زاد في ثروة الفقير، فبات من الجائز أن تصادف فكرة مقاومة الآلات وهجرها والعودة إلى العمل اليدوي واستخدام الرقيق أشياعًا بين أرباب النفوذ الذين كانوا أبعد الناس عن تأييد هذه الحركة.

فهو في حقيقة الأمر يضيف مجموعة رابعة إلى المجموعات الرئيسية الثلاث التي قسَّمنا إليها أنماط الناس؛ أعني المزارعين والبدو والمتعلمين، أقول إنه أضاف مجموعة رابعة هي الطبقة الجديدة التي تشتغل بالمال؛ فهذا نمط جديد غايته الأولى أن يسود ويبطش بمالِهِ المكسوب.

تُرى كم يصدُق التحليل النفسي الذي بسطناه في هذا الكتاب للصلة التي تربط الجانبين الاجتماعي والاقتصادي؟

أحسبنا مضطرين إلى الاعتراف بأنه ليس في قصة تقدُّم النظام القائم للمال والاقتصاد — كما كشفنا عنه — ما يَرُدُّ التهمة الواضحة التي وجَّهها الأستاذ سودي؛ فقد كان النظام القديم السابق للانقلاب الصناعي والآلي غاية في الإجحاف الصريح، وكان يتذرع في ذلك بعذر جميل، وهو أن المجتمع البشري لا يمكن بقاؤه إلا إذا لبث الناس في حضيضهم، وكان رجل الدين يرضى لنفسه الذلة ويعمل على أن يظل الزارع في وضاعته، فانصرف فيض لذائذ الحياة كلها، كما انصرفت أسباب الكبرياء والعز، إلى السادة والأرستقراط والأمراء، وهم خلفاء البدو الغزاة، فكان لهذه الطبقة الرفيعة أسمى منازل الحياة؛ وسقط بين أيديهم مَن اشتهوا من النساء. ولا يجوز أن نغض النظر عن الدور الذي لعبته النساء طوال العصور الماضية في تاريخ البشر؛ فقد كُنَّ يُتَّخَذْنَ مِنَحًا وجوائز وحوافز، وكُنَّ يرضين بما قُسِم لهن تمام الرضا، فيقبلن الحلي والثياب ويهللن للناهب الظافر، وكانت النساء دائمًا طوال عصور الإجداب يستقبلن في وقارٍ مصطَنع ما يمكن اقتناصه في الحياة من لذة ورفاهة؛ وهكذا كن زينة المجتمع، وعلى هذا أنشأن الشباب، وتَبيَّنَّ في جلاء أن العامل ينبغي أن يظل في منزلته الوضيعة — فلم يكن ثَمَّ ما يدعو أحدًا أن ينادي ببقاء الفقراء في فقرهم؛ لأن ذلك جاء نتيجة طبيعية. وأخذ رجل الدين يجول في معمعان الإنسانية يتوسَّط بين أحزابها، فيغري الثريَّ بالإحسان، ويحمل الفقير على الشكور والاستسلام للقدر، ساعيًا جهد سعيه أن ينزع الأملاك المثمرة من أيدي ملاكها ما استطاع (ولكن هذا السعي اقتصر على رجال الدين الأذكياء، حين لم تَحُل دون مسعاهم القوانين).

ولقد كان من نتائج التقدُّم الصناعي الحديث الذي يرتبط باختراع الآلات بأوثق الروابط، والذي جاء نتيجة الحرية الفكرية في عهد «الإصلاح»، أن تبدَّل العالم المجدب إلى عالم فيه وفرة تكفي الجميع، ولكنها وفرة موجودة بالقوة (لا بالفعل)، غير أن ذلك التحول لم تلازمه حالة فكرية تمهِّد للموقف الجديد، فقام بناؤه على الأساس الفكري القديم، وتفرَّعت الطبقات المشتغلة به من الطبقات الأولى التي امتد وجودها على الزمن، فأما طبقات المتعلمين فقد خلقت الفرص خلقًا دون أن تستثمرها بنفسها. وعلى ذلك بدأ الفصل الجديد من المأساة البشرية بمنظر الخطف والتكديس، ولم يكن ثَمَّ ما يبرِّر هذا البدء، ولكن ذلك ما حدث؛ فورِث أصحاب المشروعات الصناعية خصائص الزارع القديم من حيث حبسه للمال وكنزه إياه وتقتيره وكثرة عمله، وكان المغامرون الماليون أسبق منهم إلى ذلك، ثم امتزج الفريقان، فريق أصحاب المشروعات وفريق المغامرين الماليين، أحدهما بالآخر فتكوَّن منهما «الأثرياء المحدثون» كما عرفناهم في الفصل الأول من هذا البحث، وهؤلاء هم الذين مازجوا «الأثرياء الأقدمين» بل احتلوا مكانهم إلى حد كبير، في نفوذهم ومطالبتهم بحق التبجيل والاحترام، وهكذا اصطنع الأثرياء المحدثون تقاليد الأقدمين، وحاكوهم في الزهو والظهور، وابتياع وسائل الترف الباذخ للنساء واجتذاب قلوب الغانيات، واحتقار عامة الناس، والغيرة من كل ضروب التنافس والمباراة والمقارنة بينهم وبين العامة — نقلوا عنهم هذا كله واعتبروه أمرًا طبيعيًّا لا شذوذ فيه، وماذا يملأ صحف البِدْع اليوم في صفحاتها الكثيرة التي تُخصَّص للإعلان عن وسائل الترف غير رسوم الأغنياء يتظاهرون فيها بانتصارهم ليظفروا من الناس بالإعجاب، ويثيروا في أنفسهم الحسد، ويحرِّكوا الحفيظة في طبقات العمال بصفة خاصة!

فالحق الصراح أن الموسرين في العصر الحديث لا يحسون رغبة قوية في أن تحسن حال الفقراء — ما دام فقرهم لا يجعل منهم طبقة خطرة — وإلى هذا الحد نتفق مع الأستاذ سودي؛ فلا شك أنهم مستعدون أن يقابلوا آلام الناس بشجاعة باسمة، بل مستعدون أن يجيبوا حسدهم بشيء من التظاهر الذي يزيد من ثورة الحسد زيادة يجاوز معها مجرد المقاومة، ولكن هل تكمن حقًّا إرادة قوية وراء هذه النتائج البارزة التي نجمت عن النظام المالي الكئيب القائم اليوم؟ ها هنا نخالف الأستاذ سودي، ولنسلِّم بأنه لا يُرجى من أغنياء العصر الحديث أن يعاونوا في إصلاح شئون الحياة الإنسانية من حيث نُظُم النقد والمال، ولْنعترف أنهم سيجاوزون ذلك فيقفون في سبيل ذلك الإصلاح سدًّا منيعًا، وأنهم سيؤيدون، بل هم اليوم يؤيدون الحركات الرجعية الجامدة على اختلاف ضروبها تأييدًا أحمق، وأنهم سيؤازرون المَلَكية هنا والعصبية الوطنية والدينية هنالك، لا لشيء إلا لينعموا بالألقاب وليظفروا لأنفسهم بالأمن، وليهيئوا الأسباب لحفلات التتويج التي يحضرونها، وليبسطوا رعايتهم أينما استطاعوا، كل ذلك حق، فلا يرجى منهم أن يكونوا أكثر من جماعة خاملة تستهلك وتقاوم؛ ولكن أمرًا آخر يسترعي النظر وهو: هل ينتظر أن يعلنوا حربًا منظمة منتجة لمقاومة التقدم المطرد في سبيل حكومة اقتصادية واحدة تسيطر على العالم كله وتقوم على أساس نظري صحيح؟

هنا نتفق في النتيجة مع الأستاذ سودي وغيره؛ فإن عقله الصافي الجبار ليروعه أن يرى الأرزاء التي تهد العالم هدًّا، وأن يشهد صنوف الذل والإجحاف، مع يقينه أن في مُكْنة هذا العالم نفسه أن يكون نشيطًا سعيدًا، وهو يرى أن النية المخلصة لخدمة المجتمع واجبة، فطبيعي أن يثور ويصول في حدة من الغضب؛ ولكنه يجهل بعض حقائق الحياة؛ فلم يبلغ علمه بالبيلجية وعلم النفس وفلسفة الحياة من الرصانة — إن صح هذا التعبير — مبلغ علمه بالطبيعة (الفيزيقا)؛ فهو يرى أن منظر العالم يثير النفس لأنه يتألف من كائنات عاقلة تتصرف بما يناقض العقل، وتسلك في الحياة مسلكًا مشينًا؛ ولكن الناس في حقيقة الأمر لم يبلغوا إلى اليوم أن يكونوا كائنات جد عاقلة، وهم لا يسلمون بأن إخلاص النية نحو المجتمع واجب عليهم، ولا يظنون أن خدمته ضرورة لازمة؛ فليُعِدِ الأستاذ سودي نظره إلى العالم ككل واحد، كما نحاول أن نفعل في هذا الكتاب، ولينظر إليه باعتباره جنسًا يتألف من نحو ألف وتسعمائة مليون من الأنفس انحدروا من أسلافٍ يشبهون القردة ويقربون من الوحشية والأنانية، ولم يبلغوا بعدُ من التهذيب حدًّا بعيدًا، ولكنهم سائرون في سبيل التهذيب سيرًا وئيدًا، وأنهم يشقُّون طريقهم في تعثر وبطء إلى المعرفة والعقل والتعاون الكامل؛ فإن فعل ذلك فلن يرى الحالة أسخف مما يراها الآن، ولكنه سيزداد فهمًا لعوائق التقدُّم التي يحاول تذليلها، وسيدرك وسائل العلاج التي ينبغي أن تكون حقيقة منا بالثقة.

نعم إن فعل ذلك قَلَّ ضجره وكثُر إصلاحه، واستطاع أن يرسم لنا منهاجًا أوضح، واقتصد في نكاته الساخرة التي يرسلها على حساب الناس جميعًا؛ فهو يستنكر أن يكون الأغنياء عبئًا وعاملًا مربكًا، أولئك الأغنياء الذين يعوقون سَير التقدم بحياتهم، ولا يكتفون بحياة الخمول والترف التي يستمتعون بها بفضل الفروض الباهظة التي يفرضونها على المجتمع، ويستنكر نظامنا المصرفي كذلك، وهذا الاستنكار منه جد مفيد؛ لأنه يشير إلى مواضع الإصلاح، ولكنه يرى إلى جانب هذا تآمرًا مدبَّرًا من الأغنياء نحو الفقراء أكثر مما انكشف لنا في هذا البحث؛ فهو يرى تآمرًا ما نسميه نحن بالغرائز والتقاليد، وهو يظن أصحاب المشروعات والسُّراة أعداء للمجتمع، ولكنا رأينا ما يبرِّر افتراضنا بأنهم أصبحوا وسيصبحون أقل عداوة للمجتمع شيئًا فشيئًا، وهو لا يسلِّم بأن كثيرًا منهم آليون في عملهم بحيث نستطيع أن نوجِّه عملهم الآليَّ وجهاتٍ مختلفة، وأن بينهم فئة صالحة لا تقل عنه رغبة في أداء ما يريد أن يؤديه الأغنياء، وهو لا يدرك أن ما تعانيه الإنسانية اليوم من حقوق باهظة غير معقولة — كحق حيازة المالكين الأفراد على الموارد الطبيعية الذي يكاد يعم العالم كله — يجوز أن يكون خطوة لازمة لتقدم الإنسان، كما كان الرق والخرافات البدائية إحدى الخطوات في هذه السبيل، وأنها قد تكون اليوم على أشدها وسيسهل انحصارها في دائرة ضيقة حتى تمَّحي؛ فهو يظن مثلًا أن الصراع القائم لإيقاف التوسع المأمول في شئون الناس من أجل عيار الذهب إنما يُعزى إلى تآمر فئة قوية معتدية قادرة، ولكنه في رأينا راجع إلى اجتماع الخوف والعادة والخمول التقليدي؛ فهذه كلها التقت لقاءً أعمى. ويُهيب الأستاذ سودي ثائرًا بالحكومات أن تسلب السُّراة على الفور كل صنوف الامتيازات التي تعينهم على كسب المال، ولكنه إذ يرسل هذه الصيحة إلى الحكومات يعود فيتذكر ماهية تلك الحكومات، فهي حين يلجأ إليها إنما يلجأ إلى الديمقراطية. وإذن فرأي الصحف اليومية ينهض نهوضًا مخيفًا ليحول بينه وبين الخلاص المأمول؛ لأن تصرُّف الجماهير لا يفلح في العلاج، وهنا نراه ثائرًا غاضبًا ولكنا نلمس عطفًا قويًّا في غضبته، غير أن العطف لا يغني عن الإصلاح شيئًا، فينبغي له أن يكبح جماح نفسه.

وذلك هو ما دفعنا إلى الإشارة إليه في هذا الصدد، حتى نرد صيحاته الساخطة لنؤكد الرأي الذي قصدنا إليه ببحثنا هذا؛ فنحن لا نؤمن بأن نسبة كبيرة من أصحاب الأموال تأتمر على أن يظل العالم على فقره؛ فبين الموسرين فئة مضطربة ولكنها شريفة القصد، فئة يحزنها ويسوءُها أن ترى الأمور في وضعها الحالي، وكثيرًا ما يكون أصحاب الأموال من رجال الأعمال الذين لم يتعودوا الطريقة العلمية في تفكيرهم، ولكنهم آخذون في اكتسابها.

ولْنَخْطُ خطوة إلى الأمام لننظر إلى الأغنياء بصفة عامة؛ فَرَأْيُنا أن قِلَّةً من الأغنياء ترغب رغبة واضحة مؤكدة في أن يظل الفقراء على فقرهم، ولكن ليس هذا العدد القليل من الطراز القوي الناجح. وعندنا أن انحطاط المرأة النسبي من عوائق التقدم، غير أن التعليم آخذ في الانتشار حتى بين النساء؛ وأن تغيُّر الحال لا يتوقف على المترفين في المجتمع الذين يأخذون ولا يعطون، نعم لا يتوقف التغير على مَن ينشدون السلطان القوي والغلبة — بل يتوقف على أشخاصٍ من أمثال أديسون وفورد. ويظهر أن الأستاذ سودي، كما يتبين من العبارة التي اقتبسناها لتكون متنًا نعلِّق عليه في هذا الجزء، قد غاب عنه طراز أديسون وفورد من الرجال، كما فاته وجود رجال من أمثاله هو؛ فمن أين جاءته عاطفته الاجتماعية؟ وأنَّى له هذا الغضب؟ ولماذا لا يكون من أشياع الجانب الآخر؛ حقًّا إنه يصدر الكتاب بعد الكتاب ليُحوِّر آراء الناس — أعني يغيِّر أفكارهم وميولهم إزاء هذه الحالة — ومع ذلك فلم يَلُحْ طوال هذا الوقت أنه فكَّر في تلك الفئة العظيمة المتزايدة من الساخطين الذين لا صالح لهم في بقاء الحالة الراهنة، فتصدوا للتربية يعدلون أسسها ليحطموا جمود التقاليد، وهو لا يميل إلى معاونة سائر العاملين في هذا الميدان.

ويرجح أن تكون الطريق المؤدية إلى اقتصاد العالم الجديد الذي يهيئ الخير للناس جميعًا، وَعِرة عسيرة خطرة، ولكن نوابغ العقول ستكون في جانبنا ولن تقف حجر عثرة في طريقنا، وقد نضطر إلى الخوض في مباءات من الغباء وإلى مقاومة المعارضين من السراة الحمقى. أما فكرة تآمر الكثرة الغالبة من أقوى أفراد المجتمع وأثراهم على عرقلة التقدم، فأضغاث أحلام تراءت للأستاذ سودي في بعض حالاته السيئة، ولكنها أضغاثٌ يجب أن نمحوها بالرُّقَى؛ لأنها قد تَفْسَدُ في الذهن وتدعونا إلى العنف والقسوة، في الوقت الذي يجب علينا فيه — إن أردنا أن نخدم الإنسانية خدمة صادقة — أن نتحوط ونحذر في آرائنا في الإصلاح وفيما نلقيه من التهم.

فإن كان الأستاذ سودي مصيبًا فيما ذهب إليه، وإن كنا نحن المخطئين في تفسير الحقائق الجارية كما بسطناها في هذا الكتاب، إن كان حقًّا أن أغلبية القادرين من الأثرياء المعاصرين تنشد القوة والسيطرة فتتعمد إنزال الفقر بالمجتمع الذي ينبغي ألا يعاني الفقر، إن كان ذلك كذلك فالفكرة السائدة في هذا الكتاب باطلة؛ أعني الفكرة القائلة باطراد تكوين مجتمع عالمي اقتصادي يعم خيره الجميع بدل النظام الاجتماعي القائم، وإذن فلا يعود أمامنا في الطريق أمل نرجوه، ولن يقع إلا ما يتنبأ به الماركسيون من حرب تنشب ضد الموسرين والقادرين، ومن بعث اجتماعي وتحطيم لنظام البشرية القائم بأسْره، في ثورة من الغضب والسخط، ثم العودة من جديد إلى تشييد البناء على أساس جديد، وعندئذٍ نقف بين الأنقاض لا يحدونا من الرجاء إلا ما تبقيه ثورة التحطيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤