الفصل السابع

التناقض بين وفرة الإنتاج والعوز

الشراء الجمعي

سنلقي نظرة إلى هذا الموضوع من وجهة أخرى، فليس هينًا وليست مشاكله مما يُفَضُّ بميسور الحلول؛ فهنالك عدة مؤثرات تعمل في آنٍ معًا، والحل البسيط المفرد لن يعالج إلا مؤثِّرًا واحدًا منها، فليس الفقراء طبقة ولكنهم شتيت لا يكاد يربط أفراده شيء مشترك سوى ضَعْف قوة الشراء.

فأنت ترى أولًا أثر التنازع على البقاء، وهو طبيعة أزلية عامة؛ إذ كان من جرائه الفشل بمعناه الصحيح، فمن الناس من هم دون المتوسط بشكل قاطع واضح، ورثوا أجسامًا هزيلة، أو عقولًا ضعيفة؛ ومن الشرور البيلجية أن يبقى هؤلاء الضعفاء وينسلوا، وإن كان في العالم ثروة تكفل لهم حياة هانئة فثم دعوة يطَّرد ذيوعها تنادي بوجوب زوال هذه العالة بضبط النسل على وجه من الوجوه، كالتعقيم الذي ثبت إمكانية حدوثه، وليست المشكلة هينة كما قد يتوهم الذين لم يجيدوا دراسة علم الأجناس، ولكن على الرغم من تعقيدها فلا يجوز اليأس من إمكان حلها حلًّا حاسمًا. ويظهر أن الزيادة المطردة في المعارف الجنسية والعلوم والنُّظم الطبية والضبط الصحي كافية لمعالجة هذا الجانب البيلجي من مشكلة الفقراء.

ومما يُلاحظ أنه منذ ظهور المجتمع، لم تنقطع قطُّ تلك الظاهرة التي لازمت وجود الإنسان، وهي أن يكون بين الناس مَن يختطف لنفسه نصيب الأسد، ومعنى ذلك أن التعارض بين مَن يملكون شيئًا ومَن لا يملكون لم ينقطع؛ فبين الفقراء فريق نشأ من امتناع المساواة الاجتماعية الذي كان سائدًا فيما مضى، وهو فريق يمكن حشره في زمرة الضعفاء على وجه الإجمال، ولقد لبث عدة أجيال يقضي حياته المحدودة متصلًا «بالسادة» فورث الضعة، وربما امتزج التقليد بالوراثة في كثير ممن هووا إلى هذه الفئة التي كانت علة فقرها أن لم يكن من الطعام ما يكفي الجميع، فجاءت متأخرة أو دُفِعَتْ جانبًا، فلم تندمج في الحشد المتزاحم حول جفنة الأرز.

كذلك نرى اليوم ضربًا ثالثًا من الفقراء أفقرتهم الصدفة وحدها، وهم الفقراء الذين انحدروا من أصلابٍ لا تقل عن أسلاف أية طبقة أخرى، ومن العسير أن نعتقد بأن الكثرة الغالبة ممن يشتغلون بالأعمال الحقيرة، أو مَن لا يجدون عملًا، أو أن سكان الجهات المقفرة البعيدة عن الأقاليم الراقية في مدنيتها، كلهم أحط أشخاصًا ممن يعملون وينجحون في مراكز النشاط الاقتصادي؛ نعم إن في تلك الفئة ذوي العاهات والضعفاء، ولكن هؤلاء جزء منها ولا تتألف منهم الفئة بأسْرها، وأما سائر الأفراد فقد وُلدوا في ظروف سيئة؛ إذ نشئوا في إقليمٍ يتدهور أو بين صناعة تتقلص، أو أظلتهم حكومة فاسدة في أمة رجعية، أو كان آباؤهم أو أجدادهم في حالةٍ من اليُسر في أوطانهم لم تدفعهم إلى الهجرة إلى أرض جديدة يزدهر فيها الأمل كالتي هيأت اليوم لمهزوميهم وجيرانهم النازحين فرصةً امتنعت عليهم في أوطانهم. هذا إلى أن موضوع التعليم لا يزال أكثر عناصر الحياة اضطرابًا؛ فها هنا أسرة طيبة تحيا في إقليم رجعي لا يطيق أن تقوم على أرضه مدرسة جيدة أو ينهض مصنع حديث، وهنالك ترى أحسن صنوف التعليم والتدريب والعمل مفروضة على أفراد الطبقة الوسطى جميعًا، فكون الرجل في إحدى الجماعات الحديثة أميًّا محدود الأفق عاجزًا عن القيام بأية مهنة جديدة سيئ التغذية، غاضبًا ثائرًا صدوفًا عن الحياة، وكون غيره حسن التعليم متفائلًا مفيدًا، قد لا يتوقف البتة على صفاتهما الموروثة؛ فالعوامل التي رَسمت للرجلين أقدارهما أوسع وأقصى من أن يكون لهما يدٌ في اختيارها، ولئن استطاع الأفذاذ الممتازون أن يتغلبوا على أشد الظروف قتلًا للهمة، فقد دَفعوا على وجه الإجمال ثَمن توفيقهم، ولا تنقض حياتهم القضية العامة التي فرضناها، وهي أن الطبقة المتوسطة الأساسية من بني الإنسان لا تُغَرْبَلُ ولا تُتَّقى فيما يجري من زيادة البطالة في أرجاء العالم كلها، وهذا الضرب من الفقراء — فقراء الاضطراب الاقتصادي — لا يُحْرَمُ قوَّته الشرائية نظرًا لصفات شخصية، ولكن على اعتبار أن الأفراد مجرد وحدات في جماعة، لا تقوم المفاضلة بينهم قط على أساس الاختيار.

وجلي أن من أسباب ذلك — إن لم يكن السبب الوحيد — أن شئون الإنتاج تُدار قبل كل شيء لصالح أصحاب المشروعات وأصحاب الأموال لا من أجل الطبقة الوسطى؛ فالكسب أشد ما يؤثر في الحالة الاقتصادية، وكل اقتصاد في الإنتاج يدعو إلى قلة العمل المطلوب يستتبع بصفة عامة وبنفس النسبة قلة الأجور المدفوعة قلةً تتناسب مع مجموع الدخل، فإذا لم يكن الكسب هو الغاية الأولى، وإذا أُعيد وضع الأمور على هذا الأساس بأن تقل ساعات العمل كل يوم، أو أسابيع العمل كل عام، أو أعوام العمل في مدى الحياة، لما دعا الأمر إلى ما يحدث اليوم من طرد العمال من أعمالهم، ولخلقت الصناعة قوة شرائية جديدة تنشرها في المجتمع كما كان شأنها فيما مضى، بدل أن تمضي في قطف زبدها وتقديمها مُرَكَّزة لصاحب المال وصاحب المشروع.

ولما كانت الثروة المركزة قمينة أن تنسرب في مجارٍ خاصة من الترف والتبديد، عَمَّ شعور راسخ في أرجاء العالم بأنها أقل نفعًا للجماعة من توزيع قوة الإنفاق توزيعًا أوسع نطاقًا، ولا بد أن يكون اقتصاد الإنتاج الذي يؤدي إلى تحديد العمل ضارًّا في نهاية الأمر بالصناعة نفسها؛ لأن معناه في كل الحالات، إذا استثنيت أدوات الترف، إنتاجٌ كثير لمجتمع ضعيف الشراء. والواقع أننا نواجه حالة صناعية لا تنفك تزيد من الإنتاج بفضل اطراد التقدم، غير أنها ما تني في الوقت نفسه تضيق الإقبال على هذا الإنتاج؛ ويلوح أن ذلك هو جوهر المشاكل الاقتصادية الحاضرة؛ ففي العالم من القمح والصلب والفحم والنحاس والمطاط والزيت أكثر مما نتطلب، كما أن لدينا أكثر مما ينبغي أن يكون من السيارات والحواكي وآلات الحياكة والمذاييع، وهنالك إلى جانب هذا حشد من الناس يتزايد، لا هم بذوي العاهات ولا هم أحط من سواهم لنقص طبيعي فيهم، بل هم نفرٌ ساءت ظروفهم بمحض الصدفة، ولا يستطيعون شراء هذا المقدار المتراكم من السلع المخزونة.

وتهبط الأثمان ويقل الإنتاج، ولكن ذلك لا يحل الإشكال؛ لأنه لا يفعل سوى أن يزيد من عدد العاجزين عن الشراء. ويحدثنا رجال الاقتصاد أنه لو استطاعت معجزة أن تجعل كل فرد يستيقظ من نومه فيرى بين يديه أسهمًا صحيحة تدر له مائة جنيه كل عام لانقلب العالم كله، حينًا من الزمن على الأقل، خليةً منتجة تؤجر على عملها أجرًا عاليًا، ولزال ما ينتابنا اليوم من فقر وإعياء. وتشغل مشكلة رد القوة الشرائية لهؤلاء الفقراء الجدد — هؤلاء الفقراء المحدثين الذين أوجدهم الاضطراب الاقتصادي — عددًا عظيمًا من جبابرة العقول العبقرية، ولكن نتائج أبحاثهم يعوزها الإجماع والتثبت، على أنهم متفقون جميعًا في الفكرة العامة.

وتؤكد إحدى المدارس الفكرية أن الإنتاج الذي يضع الكسب نُصب عينه هو أسُّ البلاء، وإنه لكذلك بالإضافة إلى أسباب أخرى؛ وتلك هي الفكرة الأساسية للمذهب الاشتراكي. ولكن القضاء على الإنتاج الذي يعمل للكسب لا يمكن أن يتم بين طرفة عين وانتباهتها؛ لأن الحياة الاقتصادية الحديثة كلها قائمة على هذا الإنتاج الكسبي، وأما المجهودات المشروعة التي تبذلها الروسيا السوفييتية لإنشاء حياة صناعية على أسس جديدة بضربة واحدة ثورية سريعة، فلا تفعل سوى عرضها للمشاكل المعقدة التي يقتضيها مثل هذا العمل؛ فطبقة الزرَّاع كلها على اختلاف درجاتها مجمعة على مقاومتها، مع أن هذه الطبقة ما تزال هي السائدة في النوع البشري، وكذلك لا تُرْضي هذه الأسس فريق المغامرين، وهو أقل عددًا من طبقة الزرَّاع، ولكنه أكثر منهم نشاطًا وأشد تأثيرًا. ولقد بيَّنا كيف نستطيع أن نخفِّف كثيرًا من وطأة التقلب الذي يطرأ على مشروعات الأعمال إذا أخضعنا تدريجًا مالية الأعمال لرقابة علمية، ولكن ذلك الإخضاع بطيء كثير التعقيد، وهو يُفسِح لنا الأمل للخمسين عامًا المقبلة أكثر مما يفسحه للغد القريب، ولن تنقطع إبَّان ذلك إضافة عدد جديد إلى المتعطلين.

ومن وسائل العلاج المؤقتة تحديد ساعات العمل، وتخفيف الضغط عن سوق العمل من كلا طرفيه، بمنح المعاشات للكهول ورفع سن مغادرة الدراسة، وزيادة الأجور زيادة مقصودة على غرار ما يصنع فورد، بحيث نرفعها فوق مستوى التنافس، بل إن هذه الوسائل العلاجية لأدوم من أن تكون مؤقتة، فيستطيع العمال الذين يزاولون أعمالهم أن يبتكروا حاجات جديدة إذا ما ارتفع مستوى عيشهم؛ وهذا قد يستخدم عددًا من المتعطلين فيعملون في صناعات جديدة ويصبحون بدورهم شارين، وبذلك يعود الطلب إلى الزيادة، ولكن مثل هذا التدبير لا يكفي وحده لوقف ما يجري اليوم من قصر الصناعات المنظمة الدقيقة على عدد من العمال يتناقص، ولكنه يزداد كفاءة فيزداد أجرًا، وفضلًا عن ذلك فإن روح التنافس الدوري التقليدية تقوم في وجه تطبيق هذه التدابير تطبيقًا قويًّا رغبة في تقليل ساعات العمل وسَحب الأيفاع والكهول من ميدان العمل؛ إذ كثيرًا ما يُحْتَجُّ بمثل هذا الاعتراض المميت: «هذا التصرُّف من شأنه أن يضعفنا أمام المنتجين الأجانب». ومما حَدَّ تقدُّم العمال في إنجلترا حالة العمال في الهند ومصر والصين؛ إذ ليس هنالك حتى اليوم سلطة عالمية تهيمن على ظروف العمل باعتباره مشكلة واحدة تشمل أرجاء العالم كله.

وترى مدرسةً فكريةً أخرى تلح في النداء بمذهبٍ معناه من الوجهة العملية توزيع القوة الشرائية بين المتعطلين في صورة مُقَنَّعة من الأشغال العامة، فينبغي أن تُفرض الضرائب على الطبقات الموسرة سواء بالطريق المباشر أو غير المباشر، فتتضخم العملة لنتمكن من تجديد شامل للدُّور كلها، وإعادة تخطيط المدن والريف، وإنشاء الطرق والجسور والمواني والمتنزهات والمدارس والمستشفيات الجديدة، فلن يحاول أحد أن يدبِّر لنفسه كسبًا من هذه الأعمال؛ لأن الكسب هنا للمجتمع كله، وما دمنا قد سلَّمنا بأن المجتمع الحديث يجب أن يعين فقراءه ليبلغ بهم حدًّا معينًا من الرفاهية، فواجبه إذن — هكذا يقولون — أن يهيئ لأكبر عدد ممكن منهم العمل وقوة الشراء بمثل هذه المشروعات العامة العظيمة؛ ولن يقف الأمر عند حد المشروعات نفسها، بل سوف تكون هذه المشروعات بمثابة الحافز لغيرها من الأعمال، وبذلك يزداد مجموع الثروة في المجتمع، وستستتبع القوة الشرائية التي يظفر بها مَن تستخدمهم الدولة على هذا النحو عودة النشاط الصناعي بصفة عامة، فإذا زاد العمل حصرت الدولة نطاق أعمالها، وإذا قَلَّ أضافت الدولة نشاطًا جديدًا فيما تقوم به من أشغال وزينات عامة، تلك هي الخطة التي وضعها فُسْتَرْ وكاتْشِنْجِنْر في كتابهما «سبيل الوفرة» الذي نشرته شركة أمريكية، وستصدم هذه الاقتراحات كلها عقول مَن ورثوا النزعة الفردية المتخلفة من عهد فكتوريا، نعم إنها ستصدم أساطين الاقتصاد صدمة عنيفة، ولكنها ستصادف قبولًا، على أنها نتيجة طبيعية، عند الأنماط الجديدة من رجال الأعمال والمصارف والموظفين العموميين، الذين تربَّوا تربية علمية، والذين يلوح أنهم يزحزحون رجال الأعمال من الطراز العتيق المطبوعين على الشراهة في تحصيل المال، عن تملك زمام أقدارنا الاقتصادية في خطًى وئيدة ثابتة.١

ولسنا ندري حتى اليوم في شيء من التفصيل إلى أي حد سار العالم الذي نعيش فيه في توزيع الطعام والمرافق بين المنتجين المتعطلين، وإلى أي حد سار في توزيع القوة الشرائية فيما يعطيه من معاشات وإعانات، ثم إلى أي حد نركن إلى المشروعات العامة في إنقاذ البطالة، فلا يزال أمامنا جمْع الحقائق وتنظيمها، غير أن ما لدينا من الحقائق اليوم فيه ما يدهش له الكثيرون، ولنتذكر أنه إذا أمكن أن يُقال شيء دفاعًا عن التسلح فذاك أنه يوزع مقدارًا كبيرًا جدًّا من القوة الشرائية بين مهرة العمال والرجال المحنكين الصالحين الذين لولا ذلك للبثوا محرومين من العمل؛ فلو أننا أخذنا بنزع السلاح من العالم فجأة لجاز أن تزيد مشاكل العالم الاقتصادية زيادة عظمى، ما لم تَقُم على الفور مشروعات واسعة لبناء المساكن وإنشاء وسائل النقل وتبديل عنيف في معدات الحياة في المدن. وإن التفكير فيما عسى أن ينجم من نزع السلاح لَعَقَبَةٌ مِن أغمض العقبات التي تحول دون زوال الحروب، وسبب من أسباب كثيرة تجعل الرغبة السلبية في السلام عديمة الجدوى، فلن يقتدر الناس على وقف الاستعداد الحربي إلا إذا نشأت لهم بدل ذلك مشغلة أخرى.

فالظاهر إذن أن زيادة الأعمال الإنشائية العامة أو ما تشبه العامة في أنحاء المعمورة كلها شرط لازم لنشر السلام في العالم، وللتحكم في البطالة والفقر وحصرهما في دائرة أضيق، فلا يقف الأمر عند حد «استطاعة» الإنسان أن يرسم لنفسه عالمًا جديدًا وأن يخرجه إلى حيز الواقع، بل إن ذلك «واجب» وإلا سحق الاضطراب السائد حياته وما فيها من دوافع؛ فإما العمل والثروة وإما حلول الكارثة، وهذان وحدهما وجَّها حياته، ولا بد للنظام القائم أن يتحور فيتخذ صورة المشروعات الجمعية المنظمة وإلا اندكت قوائمه، ونحن لا نخبط في هذا القول خبط عشواء، ولكنه نتيجة واضحة مؤكدة للحالة التي بسطناها بين يدي القارئ.

ولقد صاغ أمريكي معروف من رجال الأعمال هذه الآراء التي نقترحها في عبارةٍ يزيد معناها لو تناولناها بالشرح؛ إذ قال: إن النظام القائم الذي يسوده حافز الكسب والذي تواضعنا على تسميته بالنظام الرأسمالي قد تولَّد عنه الإنتاج الكبير، وهو أقدر نُظُم الإنتاج، وعليه أن يحل مشكلة «الاستهلاك الكبير»، ولا تكاد هذه العبارة تحمل في ذاتها معنًى أكثر مما تدل عليه لفظة «التعقل» التي استعملها المرحوم اللورد مِلْشِتْ ليعارض بها فكرة «التوطن»، ولكنا لو أضفنا إليها الفكرة التي تجري مجراها من حيث المعنى؛ أي فكرة الشراء الجمعي للمواد اللازمة للحياة في عصور السلم وعهود الحرب على السواء، لألفيناها خصبة جمة الفائدة باعثة على التفكير، وسنرى فيما بعدُ كيف عمل شراء الأسلحة شراء جمعيًّا في نصف القرن الأخير على زيادة شراء الأسلحة، وليس هنالك سبب ظاهر يمنع أن تُتَّخذ فورًا طريقة شبيهة بهذه في تجارة أدوات العمارة والنقل في نطاق أوسع، حتى نعالج هذا الكساد المربك للحياة الاقتصادية. ولقد كان بناء الكنائس في العصور الوسطى، كما أشرنا فيما سبق، صورة من الشراء الجمعي، وفي مقدورنا أن نحوِّل تجديد الطرق (كما يحدث الآن في بريطانيا العظمى مثلًا) وتجديد نظام النقل كله تجديدًا شاملًا إلى مشروعات جمعية مشتركة. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل نستطيع فضلًا عن هذا أن نتعمد إعادة بناء مدن كاملة، فنمدها بالوسائل الصحية والمرافق العامة الحديثة، وأن نمضي في تجديد الآلات الصناعية العلمية، وأن نخلق كل وسائل الاستثمار في الريف خلقًا جديدًا بحيث يدر محصولًا وصحة وسعادة، فإن كنا نستطيع أن نشيِّد السجون الفخمة والملاجئ من مواردنا المشتركة، فلماذا لا نبني لعامة الناس أحياء فسيحة للسكن حتى نحول دون أن يكونوا من الساخطين المجرمين؟ إذا كنا نهيئ للتأديب وسائل الراحة فلماذا لا نُعِدُّ وسائل الراحة الوقائية؟

وليس ثَمَّ ما يدعو إلى انتقال ثوري عنيف لنبلغ هذه الحالة الاقتصادية الجديدة؛ فقد جُرِّبت فعلًا فكرة الشراء الجمعي في معاونة المنتجين الخاسرين، وإذن فليست بالفكرة المبتدعة، وهذا نفسه ما حدث في البن البرازيلي والقمح الكندي حين أُلقي على عاتق الجميع خطر الخسارة، الخسارة الحقيقية التي تنجم من السوق المكتظة؛ فهذه أمثلة للشراء الجمعي يُقصد بها إلى إنعاش السوق، فإن لم تكن أمثلة جد موفقة فقد يمكن أن يتم شراء جمعي كهذا لفائدة المجموع، وحينئذٍ لا نتعرض لخطر الخسارة؛ وأما ما يُتَّبع الآن من أساليب الشراء والتوزيع فهو في حقيقة الأمر مرن إلى الدرجة القصوى وقابل لتعديل لا حد له يسير به نحو التقدم، ولكن مثل هذا التعديل يتطلب لإتمامه تغييرًا عظيمًا جدًّا في الروح التي تسود دوائر المال والصناعة، ونهضة عامة في ذكاء المجتمع وقوة فكره، ويكاد ذلك يتضمن بالضرورة بعض التدابير المعينة لتضخم العملة، وهو خطر على الجماعات كلها إلا ما كان منها غاية في حسن التعليم والنظام، وهذا أمر مرهون برفع مستوى التعليم في كل هذه الشئون.

ولا ينبغي للقارئ المبتدئ في أبحاث الاقتصاد الحديث أن يتصور أن في اقتراح استخدام الناس استخدامًا جمعيًّا لإعادة تشييد المدائن وما إليها من المشروعات العظمى شيئًا جديدًا، أو أن فيه ما يخالف الآراء الرجعية؛ وهنا أعود إلى كتاب «بعض العوامل الاقتصادية في الحياة الحديثة» لمؤلفه السير جوزيا ستامب فأراه يقتبس قولًا من الأستاذ «لثابي» ويوافق عليه وهو: «إذا استثنيت بناء أو بناءين في لندن وجدت هذه المدينة بحاجة إلى إعادة البناء من أقصاها إلى أقصاها، ولم يحدثنا كاتب من كتَّاب الاقتصاد حتى اليوم كم ننفق على تجميل المدن، وما إذا كانت المدينة الجميلة بابًا من أبواب الاستثمار أو ضربًا من ضروب الإسراف.» وأنتقل من هذه الصفحة المشرقة التي خطَّها السير جوزيا ستامب إلى صحيفتي اليومية فإذا بي أطالع بها نبأ بأن في بريطانيا العظمى مليوني متعطل، يتقاضى معظمهم إعانة ليعيش عيشة شقية بلا عمل، ثم أشير بعد هذا إلى رسالة من الأستاذ «مايلز ووكر»، وهو أستاذ في الهندسة الكهربائية ومخترع ممتاز، أنشأ مع بعض أصدقائه مشروعًا وهو مشروع معقول جدًّا لو غضضنا النظر عن نفسية المجتمع الذي ينشد الكسب في عمله، مؤداه أن يُستخدم المتعطلون في سد حاجات المتعطلين، ولا نحسب أحدًا يزدري رأيًا رآه مراقب شركة من شركات الخطوط الحديدية الكبرى في إنجلترا، ورآه رجل ظفر بجائزة نوبل في الطبيعة، وذهب إليه الأستاذ مايلز ووكر، نقول إن رأيًا رآه أمثال هؤلاء لا يمكن أن يُعَدَّ سبحًا في عالم الخيال، وأنه نظري؛ لأن هؤلاء جميعًا من رجال الواقع الذين يُعتَد بآرائهم، وهذا تفكيرهم؛ فمن رأي هؤلاء الثقات أن معالجة البطالة وسائر ضروب الفقر ممكنة، وأن ذلك ليس مجرد قول نظري بل هو رأي عملي مستقيم. فإذا أعدنا النظر في مناشط الإنسان لا ينبغي أن نهمل هذا الرأي.

١  يستطيع القارئ المشغوف بهذا الموضوع أن يتوسَّع في هذا الجانب بمطالعة مطبوعات Pollac Foundation وعنوان الدار: Newton 58. Mass., U. S. A.، وقد يجد كذلك أن كتاب ف. هندرسون وعنوانه The Economic Consequences of Power production ملهم وباعث على التفكير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤