الفصل الخامس

بعض النتائج الخلقية لما يجري به العرف من انحطاط المرأة وحرمانها

إذعان المرأة ورياؤها – البغاء – تجارة الرقيق الأبيض – «الرفيق»

عاملان رئيسيان هما اللذان يحدِّدان اليوم نوع الحياة التي تحياها المرأة في أرجاء هذا العالم المتغيِّر الذي نعيش فيه، أما أولهما فآليٌّ يقع في الرقي الاقتصادي وما يستتبعه من زوال الأعمال المضنية، وبخاصة ما كان منها يتطلب الكدح العنيف، وإخراج كثير من أهم الأعمال التي كانت فيما مضى نسوية لا تحتمل الجدل، من حدود الدار، لتُؤَدَّى في محالَّ عامة. ولقد عمل هذا الجانب الآليُّ على مساواة الجنسين في شئون الاقتصاد، وحرَّر المرأة من حياةٍ كانت تتضمن انحطاطها دون منزلة الرجل، ولم يَعُد بينهما من الفوارق الجسمية إلا قدْرٌ هو في طريقه إلى أن يكون اختلافًا أفقيًّا؛ أعني وجوهًا من الاختلاف بين الأفراد، وليست هي بالفوارق الرأسية التي تقتضي أن يُوضع النساء جميعًا دون الرجال جميعًا أو العكس.

ولكنا نرى من جهة أخرى كدسًا هائلًا من التقاليد لا يزال قوي الأثر يحفز الرجل أن يتولى أعمال السيادة ذوات التبعة، ويغري المرأة بالإذعان والإفادة ما استطاعت من خضوعها القديم، بدل الإلحاح في بلوغ النتائج المنطقية التي تنتج من الظروف الجديدة؛ إذ قد تبيَّنت أن في مقدورها أن تظفر بمعظم المزايا التقليدية التي اكتسبتها فيما مضى بانصرافها إلى الأمومة ورعاية الدار، مع أنها في حقيقة الأمر قد ألقت عن كاهلها أغلب العبء الذي كانت تعانيه بسبب انصرافها ذاك، ووجدت أن ذلك أيسر وأقرب إلى القبول؛ لأنها في مجال العمل وحياة المهن، سرعان ما تنزو الكبرياء في صدور الرجال الذين تخالطهم بحكم عملها، فتكون حربًا عليها، وبهذا تتعقَّد في وجهها الأمور كلما أرادت أن تضع نفسها موضع المساواة أو التنافس إزاء الرجل، حتى إنه ليصبح أشق على المرأة أن تتشبه بالرجال في أعمالهم من أن تكون هي الرجل وتؤدي ما يعمله الرجل (على فرض بقاء سائر الظروف كما هي)؛ أما انسحابها من ميدان العمل لتستمتع بمزايا النساء دون أن تؤدي عمل النساء، فيُكسِبها امتيازات، كامتيازات «الفرسان»، بغير مبرر موجب.

إن التقليد القديم يُخيِّل للناس أن من حق الرجل، بل من واجبه — حتى لو كان عاجزًا من الوجهة الاقتصادية — أن يظفر بامرأةٍ تكون له خاصة، وتخضع لسلطانه، وإنه لشعور بلغ من ذيوعه بين الرجال حدًّا بعيدًا، وتستطيع أن تتبيَّن فيه تحزُّبًا جنسيًّا يشبه تحزُّب الطبقات، يجمع الرجال جميعًا على رأي واحد؛ وهنالك إلى جانب هذا مقاومة نفسية واسعة النطاق يبديها الرجال والنساء على السواء، يهاجمون بها المساواة الاقتصادية التي تسير التغييرات المادية نحو إنتاجها؛ فالمرأة التي تعمل لتكسب قوتها لا تصادف حسن المعاملة لا من الرجال ولا من النساء؛ من ذلك أن الهيئات البلدية في إنجلترا تلجأ عادة إلى فصل الطبيبات من أعمالهن إذا تزوجن، حتى ولو كن يُدِرْن عيادات تتصل بوظائف الأمومة، أما الطبيب الرجل فله أن يتزوج، ويتزوج مرة أخرى بعد وفاة زوجته بأجل قصير، دون أن يكون وراءه هيئة بلدية يعنيها أن تعلم من أمره شيئًا.

ولا يقتصر الأمر في منع المرأة من العمل على حسدٍ يكره أن يرى دَخْلَيْن يندفقان في أسرة واحدة؛ لأن أحدًا لا يعنيه كم دخلًا يكسب الرجل، وكم يرث وكم يأتيه عن طريق زواجه؛ إنما الأمر الذي لا يكاد يصادف القبول من أحد هو أن يكون للمرأة المكتملة حق في تدبير حياتها الشخصية تدبيرًا حرًّا كما هي الحال مع الرجل؛ لذلك ترى الناس لا ينتظرون من المرأة إلا أن تنكمش في دائرةٍ أضيقَ من مجال الرجل، بل إنهم لا يقفون عند هذا الحد، إنما تجاوزه فئات كثيرة من الناس فيشعرون أن من حقهم إرغام المرأة على هذه الحياة المتوارية إرغامًا، مع أن تحريم العمل الخارجي على المتزوجات وحبسهن في دُورهن، مضران بالأسرة لأنهما يؤديان إلى مزيج من القلق وركود الذهن عند المرأة، كما يسيء إلى سمعة النساء في ميدان العمل؛ فالنساء متهمات في دوائر العمل باضطراب عواطفهن، وبأنهن يأتين إلى أعمالهن «مزودات بمشاعرهن فيمزجنها بالعمل الذي يؤدينه»، وبأنهن يعوزهن الطموح وشمول الفكر وعمق النظر؛ وهذه العوامل التقليدية التي كنا نتحدث عنها قد ضاعف من قوَّتها أسباب مالية؛ فرغم كل هذا الحديث الذي تجري به الألسنة في تحرير المرأة، ورغم ما اجتيز من خطوات فسيحة في سبيل تلك الحرية المشروعة، فلا تزال كثرة النساء الساحقة في العالم قاصرة من الوجهة الاقتصادية؛ فليس لهن من المال شيء قط، بل إن مئات الملايين منهن لا يجوز لهن أن يملكن مالًا أو عقارًا غير ما يُزَيِّنَّ أنفسهن به من حلي؛ فالزوج في ما يربو على نصف العالم له حق الرقابة على مِلْك زوجته، ولا يقتصر هذا على البلاد المتأخرة في شوط الحضارة، بل تراه كذلك في فرنسا وسويسرا والبلجيك وإسبانيا وولاية فلوريدا ومقاطعة كويبك، أما في البلاد التي تجيز للزوجة مِلْكًا، فإن العرف، والعقيدة التي يؤمن بها الناس إيمانًا قويًّا بأن الرجل أمسُّ حاجة إلى المال من المرأة، ينعرجان بهذا الملك في الوراثة فيصبانه في أيدي الابن الفتى دون الفتاة؛ وحتى إن أُجيز للمرأة في بعض الأقطار أن تحتفظ بمالها، فالأرجح أن يظل مالًا مربوطًا بحيث لا يُسمح لها أن تستثمر رأس مالها؛ ولقد مر بنا أن العاملات منهن يتقاضين أجورًا أقل مما يتقاضى الرجال العاملون ولو تشابه العمل. إذن فالنساء، باعتبارهن جنسًا، فقيراتٌ، إذا ما نظرنا إليهن من وجهة مالهن الخاص.

ونتائج هذا الفقر النسبي بعيدة المدى، حتى إنه ليتعذر أن ندرك أين غايتها؛ فمعناه من ناحية أن النساء على وجه الإجمال لم يبلغن من التعليم حدًّا يستطعن معه التصرف بالمال من أي وجه من وجوهه غير الإنفاق، دون أن يهديهن بُعْد النظر إلى ما يؤديه المال من شئون الصناعة والاقتصاد؛ وكل مجلة أو صحيفة تقع في أيديهن، وكل كتاب تقريبًا مما يصادفن، يغريهن بأن يعتبرن أنفسهن منفقات، وأن ينظرن إلى أنفسهن كائنات رشيقة جميلة، أو على الأقل، رقيقة التكوين، وإنه من حقها أن تنفق قدْرًا عظيمًا من المال لصيانة تلك الرشاقة وذلك الجمال وهذه الرقة؛ وعلى ذلك فإن المال إذا ما انصب بين يدي امرأة انصبابًا دافقًا غزيرًا، فالأرجح أن تنقلب إنسانًا لا يدري من أمر المال شيئًا إلا أنه يُنفق في ترفيه حياتها الخاصة وتجميلها — وقد تنفق إلى جانب ذلك إنفاقًا فاترًا في وجوه الإحسان ومؤازرة الفن والموسيقى — وإن ذلك ليعود عليها من إعجاب القوم وشكرهم، ومن ذيوع الصيت على ألسنة الصحف، أكثر مما لو أنفقت المال على نحوٍ مثمر مفيد.

أما النساء اللاتي لا يملكن من المال شيئًا — أو اللاتي لهن منه أقل مما لرجال طبقتهن — فتقوم في وجوههن الحوائل عند كل خطوة من خطوات الطريق؛ وإذا كنا لا نتوقَّع أن يكسب النساء بقدْر ما يجني الرجال، فليس ثمَّت ما يغري بأن ننفق على تعليم الفتيات كما ننفق على تعليم البنين. نعم إن الأبوين العاديين في إنجلترا قد يكونان راغبين في أن يضحيا في تعليم بناتهما بقدْرِ ما يضحيان في تعليم أبنائهما الذكور، ولكن إذا ألزمتهما الحال أن يؤثرا فريقًا دون فريق، فالتفكير السليم يقضي باستثمار المال في تربية البنين دون البنات. ودعك من هذا وانظر في مشكلة رأس المال؛ فالنساء لما مُنِين به عادة من فقر، ليس في مقدورهن أن يبتعن المصانع أو يشاركن في إدارة الأعمال أو يشرين الأوراق المالية والمحال التجارية، بل قُضي عليهن أن يظللن مُسْتَخْدَمات ومساعِدات وكاتمات للسر؛ وإنك لتشاهد هذا حتى في المهن التي فتحت أبوابها للنساء منذ عهد قريب، كالطب مثلًا؛ إذ ترى طوائف الأطباء تتعاقد على إدارة المؤسسات الطبية، وتضم إليها من النساء مَن كمُلت مؤهلاتها، على ألا تكون شريكة من الشركاء، بل يستخدمونها مساعِدَةً لهم وكفى، لتؤدي من العمل ما يكرهون أداءه، وإن النساء ليُنْظَرُ إليهن في مثل هذه الوظائف بصفة عامة أنهن أقل كفاءة من الرجال، وربما عُزي هذا إلى قلة أجورهن من ناحية، وإلى ما في استخدامهن من خطر مغادرتهن العمل عند الزواج، إن كن في سن الشباب، من ناحية أخرى؛ ولقد ينكر مدير العمل بينه وبين نفسه هذا الذي يُنسب إلى النساء من ضعف، ولقد يعترف بأنهن ينجزن عمله كما ينجزه الرجل سواء بسواء، ولكن ذلك لا يمنعه أن يضع المرأة في منزلة أدنى من منزلة الرجل الذي مِن ضَربِها، بوجه عام.

ونتيجة هذا كله أنه بينما تَهِنُ الروابط التقليدية بين الرجال والنساء، فإن العلائق الجديدة التي يذيعها المذيعون في قوة لتحل محل القديمة، لا تساير الحقيقة الاقتصادية الواقعة؛ فلا يزال الزواج واعتماد النساء على الرجال يغريان المرأة إغراء شديدًا بما يتيحان لها من مزايا مالية واجتماعية؛ فلو استثنيت من النساء مَن ورثْن الغنى، لوجدت التظرُّف وأناقة الثياب ورشاقة الحركات أقرب جدًّا إلى أن تحقِّق للمرأة التوفيق في الحياة من الطموح والعلم والذكاء؛ إذ النساء يشتهين أن يكن أمهاتٍ وربات للمنازل، كما يشتهين مغازلة الرجال إياهن، والسياحة، وضروب اللهو، وأسباب التزين، والسبيل الوحيدة التي يبلغن بها هذه الأماني هي الرجال الذين يُؤثِرون عادة أن يهيئوا لهن هذا، لأسبابٍ تتصل بأشخاصهم وعواطفهم. وإذن فالأرجح أن تكون النساء المتحررات في هذا العصر على شيء من التناقض؛ فهن يُقدِّرن الحرية ويطالبن بالمساواة، ولكن إن لم يضحين بكل جوانب الحياة الأخرى من أجل هذه الحرية وتلك المساواة، فما ينبغي أن يصطنعن لأنفسهن هذا التساوي إلا إذا ظفرن بما يشتهين بجدهن، وإلا لكان ذلك إجحافًا بالرجل الذي يجمع للمرأة ما تريد، كما كان إجحافًا بالمرأة أن يُقال فيها ما نُسب إليها من صفات. وليس عجيبًا أن يَكثُر اللغط حول ما يصل الجنسين من صلات، وأن يعلن الفريقان كثيرًا من المقت والعداء؛ ولكن ذلك لم يستتبع زيادة في شقاء الحياة الجنسية، بل إنه ليلوح على النقيض من ذلك أنه لم تنحصر دائرة الشقاء الجنسي في عصرٍ بمثل ما انحصرت فيه اليوم.

ومن الجائز أن يقل انحطاطُ المرأة اقتصاديًّا عن الرجل، ولستُ أريدُ بذلك أن يزيد مجموع ما يتقاضى النساء من أجور؛ فقد لا يكون ذلك بسبب مَن ينقطعن عن الكسْب بعد الزواج، ولكني أقصد أن ترتفع منزلة المرأة اقتصاديًّا، وأن نُفسِح أمامها مجال الفرص. ولقد يكون أعسر علينا أن نبحث كيف تتخلص المرأة المتزوجة من هذا الاعتماد على الرجل اعتمادًا يكاد يكون تامًّا؛ فالوالدون يزدادون نفورًا شيئًا فشيئًا من دفْع المهور عن بناتهن حتى في البلاد التي تدفعهم فيها الظروف الاجتماعية دفْعًا إلى تقديمها، ويقترح ذوو الرأي أن يقوم مقام المهور علاوات في الأجور نظير الأمومة، أو مقابل الأبناء، وهنالك سُبل عِدة تيسِّر دفع تلك الزيادة المقترحة؛ فقد تتعهَّد بها الدولة، أو قد يُفرَض دفْعها على المصنع الذي يعمل فيه الزوج، ولكن الأخذ بهذا الرأي يتطلب أولًا تنظيمًا قوميًّا دقيقًا بالغ الدقة. ومهما يكن من أمرها فهي تفيد النساء — إذ قد يتحول قدْر كبير من الثروة من الرجال إلى النساء — ولن تعود الأم معتمدة في حياتها كل الاعتماد على زوجها، وسيهون على الفتاة العاملة غير المتزوجة أن تؤيد مذهب الأجور المتساوية إن تساوى العمل؛ ونكاد نجزم بأن تلك العلاوات ستستتبع قلة في أجور العزاب من الرجال، والأرجح أن تنشر ذلك المبدأ الخطر الذي ينادي بتوزيع المال بين أفراد الشعب، ثم يتعذر أن تفرض الرقابة على طرق إنفاقه.

غير أن معظم النساء لا يلح حتى اليوم إلحاحًا جادًّا دءوبًا في أن يظفر بحقه المشروع، وليست تصر المرأة على منع زوجها من استثمار مالها، اللهم إلا إن كانت من طراز هتي جرين؛ فنساء قليلات هن اللاتي يستمتعن بحرية التصرف في أموالهن كما يتصرف الرجال بمالهم، بغض النظر عن القانون القائم والشعور السائد، فما أسرع ما يُذْعِنَّ؛ إذ ليس في مستطاعهن، كما يقلن «أن يحتملن الصراع» أضف إلى ذلك أنهن لا يُصْرِرْن على تنفيذ رغباتهن وميولهن إصرارًا واضحًا كما يفعل الرجال، فما عليهن إلا أن يَقْرُبْنَ في أذواقهن من أذواق الرجال، تلك هي القصة التي تبسطها الرواية الحديثة والمسرحية الجديدة مرة ومرة ومرة في ألوف الصور، قصة الرجل يرغم المرأة إرغامًا، والمرأة تطغى على ذكائه بذكائها.

ويلوح لي بصفة عامة أن الأدب المعاصر دليل على تغلب دهاء المرأة على تحكم الرجل، ولكنا لا نستبعد أن يكون سلطان الرجل قد ضَؤل في عالم الأدب أمام دهاء المرأة لأنه لا يوحي بقصة أو مأساة، وأن يكون مع ذلك له الغلبة في الحياة الواقعة؛ فالصراع قائم في كثير من حالات الزواج بين الزوجين على أيهما تكون له «اليد العليا» كما يسميها صموئيل بَتْلَرْ في كتابه: The Way of all Flesh، ولعل عدد النساء اللائي خسرن المعركة في الأزمان الماضية أكبر ممن يخسرنها في هذا العصر، بل لعل هذا الصراع كان أعمَّ نشوبًا فيما مضى عنه اليوم، وقد يزول في المستقبل كل ما يدعو إلى مثل هذا العراك القوي الأليم بفضل ما نسلكه من سُبل أهدى في تربية أبنائنا وبناتنا لإعدادهم لحياة الرشد وما ينشأ بينهم من علائق جنسية، وبفضل الوسائل المتزايدة التي نخفِّف بها من العبء الملقى على كلا الفريقين في هذه الحياة الاجتماعية التي ما تزال تزداد اتساعًا، وبفضل الطرق الكثيرة التي تيسَّر بها الإفلات من الزواج.

ولكي يكون هذا الموجز لأوجه النشاط الإنساني كاملًا، وجب أن نضيف إلى الصورة تلك الطائفة من النساء التي تستعصي على الزوال، تلك الطائفة التي تحترف مهنة هي أقدم ما شهد التاريخ من مهن، وأريد بها فئة العاهرات؛ ولقد كانت المواضعات العجيبة التي سادت في عصرِ ما قبل الحرب داعية لجماعة من الكتَّاب ألا يذكروا هذه الحرفة إلا في عبارات من الجزع أسرفوا فيه بعض الإسراف؛ فهي مهنة ازدهرت في كل مكان، وفي كل مكان زعم الأدعياء ألا وجود لها بينهم؛ فقد كانت حرفة منبوذة لا ينبغي أن تجري الألسنة بذكرها، ولا يجوز أن تمسَّها أقلام الباحثين، وفضلًا عن ذلك فإن الظروف الشاذة التي أحاطت بهؤلاء النسوة في كل العصور قد أخضعتهن لشيء من اغتصاب القانون ولاستغلالٍ غير مشروع، ولمَّا لم يكن لهن ما للمرأة من زوجٍ يحميها، فقد لجأن مضطرات إلى ألوان مختلفة من حماية أنفسهن بما لا يجيزه القانون. وهذه الضرورة التي أرغمتهن على مثل هذه الحياة قد أنشأت ضربًا من الرجل أخذ ينظمها ويفيد منها، أما هُنَّ فقد كن أعجز عن التخلص من هذه الظروف السيئة التي أحاطت بهن، لأنهن قد قرَّ في عقولهن بسبب الطريقة التي أعددن ورُبِّين بها أن يُذْعِنَّ للمقاييس التقليدية التي يُقاس بها سلوك النساء.

ولْنبحث في حقيقة العاهرة بحثًا لا تشوبه العاطفة؛ فقد كان يسود حتى اليوم ظنٌّ بأن العهر لا يكون إلا في النساء، على أن الأمر قد يكون على خلاف ذلك كما سنرى بعد برهة قصيرة. أما عملها في كل العصور فهو أن تبيع زمالة الأنوثة للرجال الذين تلح بهم الحاجة إليها في فترات محدودة، ولطالما أثار هذا رجال الأخلاق الذين يميلون إلى الغلو فيما ينشأ عن وجود العاهرات من آثار فيزيقية، وأما مَن هم أعرفُ من هؤلاء بحقائق الحياة، فيعلمون أن ليس للعاهرة العادية حِذْق خاص أو سحر تنفرد به في أساليب الغزل، وأن عنصر اللذة الجسدية التي تصيبها في اتصالها المتقطع بالرجال، لا يكاد يبلغ عندها من الأهمية مبلغه عند المرأة في حياة الزوجية الدائمة، وحسبك أن تلاحظ المَواطِن التي يغشاها أولئك العاهرات ليتبين لك الجانب الاجتماعي في البغاء؛ فهن يتكاثرن في المرافئ، وقد عُرف ذلك فيهن منذ بدء التاريخ، ويَسِرن حول المحطات التي تقع في ختام الخطوط الحديدية، ويظهرن في الأماكن التي يغشاها رجال الأعمال الذين جاءوا من الريف ليمكثوا في أحد المراكز التجارية وقتًا ما، ويتسكَّعن حيث يحتشد العزاب من الرجال؛ وإلى جانب الرغبة الجسدية التي تدعو الرجال إلى الاتصال بالعاهرات، فقد يضطرهم كذلك إلى هذه الصلة ما يصيبهم من عزلة أو ما يصادفهم من فترات متقطعة يعز فيها الصديق، ولذلك فلا يقتصر الأمر في العاهرات حين يَصْحَبْنَ هؤلاء الرجال الذين استوحش بهم المكان أو تحرجت فيهم الصدور، أن يمضين معهم وكفى، بل تراهن يَسْتَمِعْنَ إلى أحاديثهم، ويرائينهم ويُسَرِّين عنهم أحزانهم؛ فهن يبادلنهم صداقة صحيحة وحبًّا أكيدًا، ومعنى ذلك أنهن فيما يؤدينه من عملٍ لا يقتصرن على جانب الشهوة في الرجل، بل إن ما يبعنه ويقدمنه فيما يبعن للرجال شيء أكثر من الجانب الشهوي؛ إنهن إنما يبعن أنوثة؛ فهن في حقيقة الأمر دليل ناهض على أن عقل الرجل مفطور على الاعتماد على المرأة، أو قُل على اعتماد كل جنس منهما على الجنس الآخر؛ فالعاهرات زوجات مؤقتات.

ولكن العالم لم يُبِحْ قطُّ هذا النظام من الزوجات المؤقتات، وكان أشد ازورارًا من أن يبذل مجهودًا كائنًا ما كان لحمايتهن، وهكذا أُخضع هذا الطراز من روابط الرجال بالنساء — الذي بلغت ضرورته حدًّا لم يستطع معه أي بلد من بلاد الأرض أن يمحوه من أرضه محوًا كاملًا — لكل ضرب ممكن من ضروب الامتهان؛ فهؤلاء نسوة قد احتمل وجودهن المجتمع، ثم زعم أنهن فوق ما يطيق؛ إنهن مُسْتَغَلَّات بما يجيزه من الوسائل: إنهن مضطهدات مُتَّهماتٌ؛ لقد دُفع بهؤلاء النسوة دفعًا إلى حياة مظلمة تهُدُّ نفوسهن هدًّا، حيث يأوي إليهن اللص والمعتدي والناهب والجبان الغليظ القلب فيجعلون حياتهن شرًّا مستطيرًا، وما أسرع ما يصطبغن بلون البيئة المحيطة فيَقبلن مذعنات ما يُقال فيهن من أنهن مجلبات للعار. ولما كان لا يرضيهن أن يُسْلَبْن أصدقاءهن صديقًا بعد صديق، بحيث لا يُبْقَى لهن على أحد، فقد اضطررن إلى استمالة ضرب من أشرار الرجال ينفقن عليهم، وكثيرًا ما يُصَبْن بمسٍّ من جنون. وعلى طول هذه الحياة المضطربة التي تحياها العاهرة يمتد أمام بصرها خطرٌ يتهدد وظلام محدق مما عساه يصيبها من تلك الأوبئة المعدية التي تنفثها حياة الشهوة؛ ألا إن ما يجللهن من عار قد كبُر في أعين الناس، وعظُم عندهم ما يترتب عليهن من خطر، بحيث لا يُقبل على مثل هذه الحياة مختارًا إلا قليل جدًّا من الفتيات والنساء، بل يهوين فيها هُويًّا، ولذلك نشأت حرفة أو تجارة لم تنقطع قط، تجارة أبعدُ ما تكون التجارة عن شرعة القانون، تجارة الرقيق الأبيض، التي تغري الفتيات الساذجات بالسقوط في تلك الحياة مخدوعات بما زُيِّن لهن من حسناتها؛ فترى أصحاب تلك التجارة ينطلقون باحثين عمَّن اعتدى من النساء على النظام الخلقي القائم، بحيث يكن صالحات أن ينخرطن في سلك البغاء، فيسرعون إليهن بالمعونة ثم الاستغلال؛ وطبيعي أن تنشط تجارة الرقيق الأبيض حيث تكون سوق العمل النسوي مضطربة قليلة الأجور.

ولن تُتَاح لنا دراسة هذا العنصر الاجتماعي اللازم في مختلف العصور، وفي شتَّى البلدان في هذا العصر الحاضر، إلا إن أعددنا موسوعة ضخمة نخصُّها بالحديث في العمل والثروة، وعندئذٍ نرى كيف يكون هذا الموضوع قصة متشعبة مضطربة الغايات، تسودها بصفة عامة غباوة التفكير والتعصُّب والغَيرة وغلظة القلب، وسترى أن جوانبها الذميمة الممقوتة تكاد ترجع كلها رجوعًا مباشرًا إلى التقليد الذي يحتِّم خضوع المرأة، وضرورة اعتماد النساء على حُماةٍ أشداء؛ ومن الجائز أنه إذا ما كُتب في الأيام المقبلة لمساواة الرجال والنساء أن تخرج من حيز الرغبات المجردة إلى حيز العمل القانوني، أن يقتصد الناس من تدخلهم في حياة النساء الجنسية الخاصة، وأن تزول تلك الظواهر القاسية الأليمة، ظواهر المرافقة الجنسية المتقطعة التي يضطر إليها النساء اليوم.

لقد كان البغاء فيما مضى قاصرًا معظمه على الإناث، وليس ذلك راجعًا فيما يظهر إلى اختلاف جنسي موروث بين المرأة والرجل كائنًا ما كان، إنما هو فرق في طبيعة العمل الذي اختص به كل فريق؛ فذلك هو الذي يجعل الرجال أمسَّ حاجة إلى رفيقات غير دائمات؛ ففي الأيام السالفة كان النساء أدوم بقاء في عقر الدار من الرجال، وكانت الرقابة على مكثهن في دُورهن أشد منها على الرجال. وإذن فقد كان الرجل، وبخاصة المسافر والبحَّار والتاجر والجندي وطالب العلم، هو الذي دفعته العزلة وضيق النفْس إلى مثل هذه المعاشرة المتقطعة، وقد كان حرًّا في أن يسرِّي عن نفسه ما بها من ضيق. أما طائفة النساء فقد كن يلجأن مضطرات إلى ضروبٍ من التسرية يكتنفها العبوس، أو كن لا يجدن من صنوف التسلية شيئًا؛ أما الآن وقد نشأت أنماط من النساء الأثرياء الأحرار، اللائي يستطعن الرحيل والإفلات من أعين الرقباء، ومن غباء الأخلاق التي تلزمهم بها الجماعة التي يعشْنَ فيها، فإن تشابه الحاجة عند المرأة وعند الرجل سينتج تشابهًا في وسيلة إشباعها، فنكاد نرى اليوم المرأة النصف الخليعة في شيوع الرجل النصف الرقيع؛ وحسبك أن تغشى دُور اللهو في أوروبا وأفريقيا الشمالية لترى الزوجة أو الأرملة الأمريكية المثرية وحيدة تبحث عن سلواها في عشير من الرجال، وتتخيَّر لنفسها «رفيقًا» يراقصها ويحميها ويزاملها ويكون لها في كثير من الحالات محبًّا مأجورًا. لقد كثُر هذا الضرْب من النساء كثرةَ الأمريكيين الذين يزورون أوروبا ولا قصْد لهم غير احتساء الخمر؛ ولكنا لا نَقصُر النساء المرتحلات الثريات على الأمريكيات بحال من الأحوال. ومهما يكن من الأمر ﻓ «الرفيق» هو مقابل العاهرة بكل ما في الكلمة من معانٍ، ولكن لاختلاف التقاليد الجنسية بين الرجال والنساء، لم ينهض إلى اليوم مَن يتعقبه من «شرطة الأخلاق»، ولم يُعْزل في بيتٍ كالذي تُعزَل فيه العاهرة، ولم يُنبَذ من الحياة الاجتماعية، ولم يُسَنَّ من القوانين ما يقف حائلًا في وجهه، وإذن فليس هو بحاجة إلى أن تبسط عليه «جنيف» حمايتها، ولا يجد فيه تاجر الرقيق الأبيض سلعة رابحة.

فإن كان مثل هذا «الرفيق» مستطيعًا أن يُعنى بنفسه، فلا ريب إذن في أن المرأة الرشيدة العادية إذا عُوملت معاملة لائقة باعتبارها مواطنة كغيرها من المواطنين، في مقدورها أن تُعنى بنفسها أيضًا. إن هذا الاختلاف في نظرة العالم إلى العاهر والعاهرة موضوع ممتع جدًّا، وقوي الدلالة على ما أدَّى إليه حرمان المرأة التقليدي على مر العصور، كما يدل على تحوُّل في وجهة نظر العالم إلى الحياة الجنسية الخاصة؛ ولعل عالم المستقبل الذي نتَّجه إليه فيما يبدو، والذي سيفوق هذا العالم القائم حكمةً وتعلُّمًا وصراحة، سيكون في مستطاع النساء فيه أن يحمين أنفسهن، وسيكن أحرارًا يجئن ويذهبن، ويفعلن هذا ويدعن ذاك كما يشأن مثل رجال هذا العصر، وعندئذٍ قد يُحَدُّ ما يسود أوساط العاهرات من حاجةٍ وضيق وعار وكرب، وقد يزول هذا البغاء باعتباره مظهرًا تحتِّمه الحياة الاجتماعية، تلك الوصمة الخالدة التي تَصِم علاقة التراحم بين الجنسين؛ قد يزول ليحل مكانه بديل آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤