شروح: الكتاب الثالث

بعد أن قدَّم كوبرنيكوس العرفان والتقدير المستحقَّيْن لهيبارخوس، الذي كان قد اكتشف أن السنة التي تعرف بأنها الفترة الزمنية التي يستغرقها نجم معين لإكمال دورة سنوية تتجاوز في مدتها السنة التي تُعرَّف بأنها إكمال دورة سنوية من اعتدالين وانقلابين، يذكر أن النجوم الثابتة ثابتة فقط بعضها بالنسبة لبعض، فقد تحركت حتى الآن باتجاه الشرق حتى إن المواضع الاثني عشر للمسار الكسوفي لم تعد تقابل الأبراج الاثني عشر لدائرة البروج، وهي التي سُميت الأبراج باسمها. أمامك حالة مبادرة! ألا يستدعي ذلك التشكيك في علم التنجيم ذاته؟ يا لك من مسكين يا تيبيريوس! يا مَن صمَّمت مخططات الأبراج كي تعرف بها خطط الأعداء! دعونا أيضًا نعبِّر عن مواساتنا لشعوب ما بين النهرين الذين حسبوا — استنادًا إلى موقع برج الميزان، وليس من واقع الكمية المنتجة في هذا الموسم — أسعار القمح التي يجب البيع بها!

ويتابع كوبرنيكوس بقوله: «فضلًا عن ذلك، فقد عُثِر على حركة غير منتظمة.» هل يمكن أن تكون كرة النجوم الثابتة تتقدم للأمام محدثة ارتجاجات طفيفة غامضة؟ «لقد صار رأس البرج المسمَّى بالحَمَل أبعد بمقدار يزيد على ثلاثة أضعاف المسافة بينه وبين الاعتدال الربيعي، التي تبلغ ثماني درجات.»

يعلق كوبرنيكوس في واحدة من محاولاته القليلة للمزاح قائلًا: «سعيًا وراء هدف من تلك الحقائق، فكَّر البعض في وجود فلك تاسع، وفكَّر آخرون في فلك عاشر: لقد ظنوا أنه من الممكن تفسير تلك الحقائق عن طريق تلك الأفلاك؛ غير أنها عجزت عن تحقيق ما قد وعدوا به. وقد بدأ فلك حادي عشر يظهر إلى النور فعلًا …»

ما من شكٍّ أنه هو نفسه كان سيذعن مرغمًا ويضيف فلكًا أو اثنين لو اضطر إلى ذلك، ولكن أي «حركة غير منتظمة» مزعومة، لن تحقِّق النصر مطلقًا على نيكولاس كوبرنيكوس، المدافع عن الإيمان!

إن الكتاب الثالث من «عن دورات الأجرام السماوية» لجديرٌ بالذكر؛ لمحاولاته العبقرية لعقلنة الحركات غير المنتظمة ظاهريًّا للمبادرة ولميل المسار الكسوفي؛ كما أنه يقارن بين المخططات المتنوعة لحساب أيامنا وسنواتنا الأرضية، بجانب الاستنتاجات الخاصة به، التي من الواضح أنها تهدف إلى تحسين مستوى التقويم الميلادي: ونتيجة للتعقيد الذي طرأ على المبادرة نتيجة «للحركة غير المنتظمة»، فإن السنة حسبما تُحسب من اعتدال إلى اعتدال يجب أن تتباين. إنه يناقش ملاحظات بطليموس وآخرين، بما فيهم هو نفسه، على أمل التوصل إلى الطول الفعلي للعام الواحد؛ ويحدد بطريقة منطقية أن «تكافؤ السنة الشمسية يقاس على نحو أصوب من خلال كرة النجوم الثابتة، مثلما أثبته ثابت بن قرة لأول مرة.» ويضيف كوبرنيكوس ٢٨ ثانية إلى طول السنة، التي وفقًا لحساب ثابت، بلغت ٣٦٥ يومًا و٦ ساعات و٩ دقائق و١٢ ثانية. وبهذا يكون كوبرنيكوس أبعد بقدر طفيف عن حساب ثابت من حسابنا البالغ ٩٫٥ ثوانٍ، لكنه مع ذلك كان حسابًا دقيقًا على نحو مبهر.

ولكن أهم شيء أن الكتاب الثالث جدير بأن نشير إليه لمزجه على نحو مميز بين القديم والجديد: أرض غير مركزية، لكن مع شمس شبه مركزية في كون له حدود ذي دوائر تامة الاستدارة.

الكتاب الثالث، الأجزاء ١–٣: متغيرات نجم السنبلة

من الأمثلة المثيرة للسخط على تلك الفكرة الأخيرة — وهو ما يشكل جزءًا رئيسيًّا من المبرر الذي يجعلني أصطحبك في جولة خلال تلك الموجزات سريعًا قدر استطاعتي — ذلك المتعلق بالأسلوب الذي يحاول كوبرنيكوس به الوصول إلى النقطة التي يود طرحها. إننا معتادون في أيامنا هذه على العرض الواضح المباشر للمعلومات. ويسعى كوبرنيكوس لرسم طريقه عبر الكون، غير أنه لم يكن يعنون أشكاله التوضيحية إلا بالحروف الأبجدية، وكانت مفاتيحها مطمورة دون ترتيب في الفقرات، مع عبارات مبهمة أقل أهمية نُثِرَت فوقها كالغبار، حتى إننا كي نفهم رسمًا تخطيطيًّا ما نضطر في بعض الأحيان لخوض نضال في أنحاء الفقرة المصاحبة ست مرات. ولعل هذا هو السبب وراء أن يحظى كوبرنيكوس بالإشادة التالية من واحد من بني جلدته: «لقد عرف كيف يشرح الأسباب الخفية للظواهر على أساس من مبادئ جديرة بالإعجاب.»

وعندما يغفل الرسم التوضيحي، غالبًا ما تصير الحال أسوأ.

تأمَّل مثلًا مناقشته لمبادرة نجم «السنبلة». في محاولة منه لمعاونة القارئ، يربط كوبرنيكوس بين الطريقة التي غيَّر بها هذا النجم ذو اللون الأبيض المشوب بالزرقة — الذي صنَّفه المنجمون على أنه نجم «تناسلي ومتقلب» يقع على خط الاستواء السماوي في برج العذراء — موقعه على مدى قرون منذ وفاة الإسكندر الأكبر. إن أشكاله عبارة عن رموز كثيرة جدًّا تصيبك بالجنون من ثمار التفاح والبرتقال. وهو يشير في بعض الأحيان لتغيرات تطرأ على الاستطالة الزاوية لنجم السنبلة؛ وفي أحيان أخرى يعطينا خط طول النجم ودائرة عرضه. لا عليك. «من ثم، فإنه في سنة ١٥٢٥ ميلاديًّا، وفي العام الذي أعقب السنة الكبيسة في التقويم الروماني، وبعد ١٨٤٩ سنة مصرية من وفاة الإسكندر الأكبر، نحن» ويُقصد بالطبع كوبرنيكوس، «كنا نسجِّل مشاهداتنا لنجم السنبلة الذي يذكر اسمه كثيرًا، عند فراونبورج، في بروسيا.» وجدنا أن ميله الزاوي قد تغيَّر بمقدار أربع دقائق قوسية منذ مشاهدة بطلنا السابقة قبل عشرة أعوام؛ وتغيَّر بعده عن برج العذراء بمقدار سبع دقائق قوسية خلال ذات الفترة الزمنية. ويكاد لا يكون هناك أهمية تذكر، على ما يبدو، لهذا الأمر (تذكَّر عبارته «لو أنني تمكنت من إجراء حساباتي بحيث تتفق نتائجها مع الحقيقة في نطاق خطأ لا يزيد على عشر درجات، لوجب عليَّ أن أطير فرحًا مثلما فعل فيثاغورس»). إذن دعونا نتفكر في فاصل زمني أطول: عندما رصد بطليموس نجم السنبلة، كان الميل الزاوي للنجم لا يزيد على نصف درجة إذا ما قورن بميلٍ زاوي مقداره ٤٠ ٨ عام ١٥٢٥.

الآن وبعد أن أُبلغنا بكل هذا، كيف نحسب معدل مبادرة السنبلة؟ إن حسِّي السليم يطرح عليَّ ما يلي: اطرح قيمة الميل الزاوي لبطليموس من قيمة كوبرنيكوس، ثم اقسم الفارق على ١٤٢٣، وهو عدد السنين التي مرَّت بين واقعتَي الرصد. سوف تحصل على الناتج؛ وهو ٠٫٠٠٥٧. هذا يمثِّل نحو نصف درجة في القرن الواحد. هل فهمتُ مقصد كوبرنيكوس؟ من الواضح أنني لم أفهم؛ إذ إنه يستنتج أن الاعتدالات والانقلابات تحركت شرقًا بنحو درجة واحدة لكل قرن من الزمان في عصر بطليموس، ودرجة واحدة لكل واحد وسبعين عامًا بعدها.

آه، الآن تذكَّرت من السياق أنه من المفترض على المرء أن يستخدم الجداول الواردة بالكتاب الثاني لتحويل الميل الزاوي إلى خط طول المسار الكسوفي؛ «إذ إنه خلال ٢٦٦ عامًا مرت بين هيبارخوس وبطليموس، تحرَّك النجم الباسيليقي المنتمي لبرج الأسد من الانقلاب الصيفي بمقدار درجتين وثلثي درجة، بحيث إنه هنا أيضًا، بأخذ الزمن بعين الاعتبار عند المقارنة، وُجدت حالة مبادرة نجمية مقدارها درجة واحدة لكل ١٠٠ عام.»

كالمعتاد كان بطليموس أكثر وضوحًا.

الكتاب الثالث، الجزآن ٣-٤: القطع الناقص المفقود

التغير الذي يبدو غير منتظم في الاعتدالات، يشرحه كوبرنيكوس من خلال «حركتين تبادليَّتين تنتميان بالكامل للأقطاب، مثل الموازين المعلقة» إحداهما تغير الميل القطبي، والأخرى تعمل في الاتجاه المعاكس. «والآن نسمي تلك الحركات «تأرجحات» أو «حركات تأرجحية»؛ لأنها مثل الأجسام المعلقة فوق ذات المسار بين حدَّيْن، تصير أسرع في المنتصف وشديدة البطء عند الأطراف.» واحدة من هاتين يطلق عليها اسم شذوذ الميل الزاوي، والأخرى شذوذ الاعتدالات. «وهكذا فإن هذين التأرجحين المتنافسين أحدهما مع الآخر يجعلان قطبَي الأرض … يُظهران خطوطًا معينة تشبه الحلقة المعدنية الملتوية.»

أسرع عند المنتصف! ولكن ألا يعني ذلك ضمنًا حركة غير منتظمة بمنزلة لعنة ليس بعدها لعنة؟ لا تخَفْ أبدًا! فكوبرنيكوس لن يخون الإيمان. «علينا أن نبين أنه عندما تتنافس الحركتان التوأمان معًا للدائرتين «ز ﺣ د» و«ﺟ و ﻫ»، فإن النقطة القابلة للحركة «ﺣ» تتقدم للخلف وإلى الأمام على امتداد نفس الخط المستقيم «أ ب» في حركة تبادلية.»

في الشكل التوضيحي الأول الذي رسمه، يصير من الواضح أنه في حين لا تتعلق هاتان الحركتان بحركات أخرى أكبر منها، مثلما تفعل أفلاك التدوير، فإنها، بالرغم من ذلك، تحمل شبهًا بأفلاك التدوير في أنها عبارة عن حلول دائرية منتظمة لمشكلة عدم الانتظام البادي.

وفي الشكل الثاني، تدور الدائرة في اتجاه عقارب الساعة، ومركزها واقع على قطر عمق دائرتين متداخلتين، تدوران عكس عقارب الساعة. الدائرة التي تدور مع عقارب الساعة تقابل شذوذ الاعتدالين، وهو أسرع بضعفين من شذوذ الميل الزاوي. كل هذا مفهوم جدًّا.

ويشير كوستلر إلى أن نسخة مخطوطة الكتاب في هذا الجزء الرابع من الكتاب الثالث احتوت على الفقرة الآتية: «إذا كان للدائرتين قطران مختلفان، مع تثبيت بقية الظروف، فإن الحركة الناتجة لن تكون خطًّا مستقيمًا وإنما … ما يسميه الرياضيون «قطعًا ناقصًا».»

(الواقع، حسبما يشير كوستلر، أنه سوف يكون «شكلًا دويريًّا أشبه «بالقطع الناقص».)

ويواصل المعلق حديثه قائلًا: «الحقيقة الغريبة أن كوبرنيكوس توصَّل إلى شكل القطع الناقص الذي هو شكل جميع الأفلاك الكوكبية — توصَّل إليه لأسباب خاطئة ومن خلال استنباط خاطئ — وبفعله هذا، أسقطه على عجل؛ فالفقرة مشطوب عليها …»

الكتاب الثالث، الأجزاء ٥–٢٦: الدوائر اللامتراكزة، أفلاك التدوير وأرض ليست هي مركز الكون

تناقص ميل المسار الكسوفي منذ قياسه لأول مرة على أيدي أسلاف بطليموس. لقد وجد كوبرنيكوس أن دورته الكاملة تستغرق ٣٤٣٤ عامًا، وأن فترة المبادرة للاعتدالات تشكِّل بالضبط نصف هذه المدة؛ أي ١٧١٧ عامًا.

بعدها بأربعة قرون ونصف، يأتي جيكوبسن ليشير إلى أن الميل ليس دقيقًا حسبما عرفه كتاب «عن دورات الأجرام السماوية». لا يهم؛ فقد ثابر كوبرنيكوس، وها هو يصمم جداول المبادرة لنا بخطوط الطول على مدى فترات زمنية سواء أيام أو سنوات مصرية؛ ويفعل نفس الشيء لجوانب الشذوذ في الاعتدالات.

«لنفرض أن المسألة التي أمامنا تتلخَّص في إيجاد الوضع الحقيقي للاعتدال الربيعي بجانب ميل المسار الكسوفي لليوم السادس عشر قبل مجيء غرة شهر مايو من عام ١٥٢٥ ميلاديًّا، ومقدار المسافة الزاوية التي تفصل نجم السنبلة في برج العذراء عن ذات الاعتدال.» لو كان هذا هو نوع المسائل التي تتوق إلى حلها، فإن كوبرنيكوس هو بغيتك.

إنه يحسب ويجدول الدورانات المنتظمة ومتوسطاتها لمركز الأرض. إن مسألة أن تلك الدورانات ليست متمركزة تحديدًا حول الشمس «يمكن فهمها بطريقتين، إما من خلال دائرة لامتراكزة معها؛ أي دائرة ليس مركزها هو مركز الشمس، أو من خلال فلك تدوير على دائرة متجانسة المركز.» ثم يرسم شكلًا لكليهما، في نفس الوقت الذي يقر فيه بأن تحديد أيها يعبر أفضل تعبير عن الحقائق أمر صعب. لحسن الحظ، أن أيًّا من الحالتين سوف تدعمان صحة قول بطليموس من أنه بالنسبة للأرض، مثلما هي الحال بالنسبة للقمر والكواكب الخمسة المعروفة حتى ذلك الحين، «فإن كافة حركاتها التي تبدو في الظاهر غير منتظمة» إنما هي «نتاج متوسطات حركات منتظمة ودائرية (إذ إن تلك الحركات متوائمة مع طبيعة الأشياء العلوية التي لا تعرف التفاوت أو الاضطرابات).»

في صالح كوبرنيكوس — وكذا في صالح بطليموس وأرسطو — علينا أن نذكِّر أنفسنا دومًا بأن كواكب مجموعتنا الشمسية لا تنحرف عن الدوران تام الاستدارة بكل هذا القدر. على سبيل المثال، الكواكب الغازية العملاقة من أمثال كوكبَي المشتري وزحل نادرًا ما تتخطى اللامركزية الفلكية بأكثر من ٠٫١. وأكثرها تخطيًا لذلك هو بلوتو (٠٫٢٥)، الذي لم يكن موجودًا لحسن الحظ في كون كوبرنيكوس. للأسف، فإن عطارد والمريخ كذلك (٠٫٢١ و٠٫٠٩) لا يذعنان للقواعد. لا يهم؛ فتعديل فلكي تدويري أو إعادة توجيه من مؤجِّل كفيلة بإنقاذ ولو حتى «مظهرهما».

لننتقل إلى شئون أقل إرباكًا: بفضل جدول كوبرنيكوس للحيود وعمليات الجمع والطرح، يمكننا الآن حساب الحركة الظاهرية للشمس؛ إذ كُتِبَ على أحد الأعمدة: «عمليات الجمع أو الطرح الناجمة عن دائرة مدارية لامتراكزة أو فلك تدويري أول.» إنه سيبقى بطلميًّا حتى الموت. لكنه بعد ذلك يذكِّرنا لِمَ وجب علينا أن نتذكره بحب: «وهكذا فإن تفسير مظهر الشمس عن طريق حركة الأرض متناغم مع النتائج القديمة والحديثة؛ وهذا التفسير هو أكثر الأشياء المفترض أن تبقى صحيحة في المستقبل.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤