البطالة تهدم شبابنا

تتفشى البطالة في مصر تفشيًا واضحًا يحسه كل فردٍ في الأمة؛ إذ لا تكاد تخلو أسرةٌ راقيةٌ من واحد أو اثنين من الشبان الذين تعلموا وأحرزوا شهادتهم ثم تعطلوا يقضون شبابهم في يأسٍ، ولا نقول في لهو؛ لأن خواء جيوبهم قبل فتور نفوسهم يمنعهم من اللهو.

ولسنا نذكر إلى جنب هؤلاء أولئك العمال العاطلين في المدن وفي الريف؛ فإن عطلتهم طارئة للأزمة الحاضرة، أما عطلة الشبان المتعلمين فهي ليست طارئة، بل هي مقيمة كالداء المتمكن الذي يجد من الوخامة بيئةً صالحةً يعيشُ فيها.

فمنذ سنوات ونحن نرى مئات — بل آلافًا — من الشبان المتعلمين المتعطلين، وكان كثيرٌ منَّا يعزو تعطلهم إلى أنهم لم يتعلموا التعلم الذي يهيئهم للعمل الحر، وأن الروح الاستقلالية عندهم ضعيفة، ونحو ذلك، وليس هناك شك في أن هذا النقد يحتوي على شيء من الصحة، ولكنه ليس العلة الأساسية لتعطل شبابنا وإضاعة حياتهم هباءً كأنهم أصفار في عالم الإنتاج.

إن لنا في هؤلاء الشباب فجيعة كلما تأملنا حالهم. فهم منا بمثابة الآلة الثمينة التي أنفقت النفقات الطائلة على صنعها حتى إذا تَمَّت تُركت للغبار يعلوها والصدأ يأكلها، وهم منا بمثابة الحجر الغشيم نكلِّف أكبر المثَّالين بأن ينحت منه تمثالًا حسنًا حتى إذا تم، وبدا لنا مصقولًا عمدنا إليه فألقيناه في خزانةٍ أو طمسناه في الأرض كأنه لم يكن.

وهذا هو حالنا مع هؤلاء الشبان؛ فقد أنفقنا على تعليمهم وتهذيبهم، وصَقَلْنَا أذهانهم، وثقفنا أجسامهم وعقولهم حتى إذا آن لنا أن نجني منهم ثمرة ما أنفقناه، ونحاسب على الربح الذي حققناه من هذه التكاليف ألفيناه صفرًا لا قيمة له، وهذا إلى شقاء يحسه هؤلاء الشبان عندما يتأملون أنفسهم متعطلين لا ينفعون أنفسهم، ولا ينتفع بهم أحد.

وفي بلادنا آلاف من الحاصلين على شهادة الحقوق والتعليم والطب البيطري والصيدلة والآداب والعلوم، غير عشرات الآلاف من الحاصلين على الكفاءة والبكالوريا والشهادة الابتدائية، وكل هؤلاء يتعطلون ويَذْوُون وهم في أوفق سن من أعمارهم للإنتاج والفائدة.

فما هي العلة الأصلية لهذا التعطل؟ وإلى متى تدوم هذه البطالة التي يشقى بها شباننا؟

ليست العلة الأصلية في التعليم، ولا في ما نظنه من الضعف في الروح الاستقلالية عند شُبَّاننا، وإنما الحقيقة أن شُبَّانَنَا لا يجدون أعمالًا توافقهم؛ لأن هذه الأعمال قد احتكرها الأجانب. فالتجارة والصناعة في أيدي ربع مليون من الأجانب ينتشرون في المدن المصرية من الإسكندرية إلى أسوان، وهم يستخدمون أبناءَهم دون شُبَّاننا، وهؤلاء الأجانب يستولون على المرافق الاقتصادية كالصيرفة والتجارة والسمسرة والصناعات الكبيرة، وهم — كما قلنا — يستخدمون الشُّبَّان الأجانب.

ولنضرب مثلًا على ذلك بنك مصر، وأي بنك أجنبي آخر في القاهرة؛ فإن الموظفين في بنك مصر من الشُّبَّان المصريين الذين يحملون شهادات مختلفة من الابتدائية إلى الكفاءة إلى البكالوريا إلى شهادة الحقوق، بل فيهم من يحمل شهادة دار العلوم والمعلمين العليا، وجميع هؤلاء الشبان من المصريين. ثم انظر إلى بنك أجنبي وابحث فيه عن مصري متعلم فإنك لن تجد واحدًا في المائة.

وهذه هي حالنا أيضًا في المتاجر. ففي القطر المصري نحو عشرة آلاف متجر كبير يشتغل فيها أكثر من خمسين ألف شاب أجنبي فرنسي وإنجليزي وإيطالي ويوناني، وقد لا يبلغ عدد المصريين — من غير الخدم — الذين يعملون في هذه المتاجر أكثر من مائة.

وهذه المتاجر والمصارف والمصانع في أوروبا تستوعب حمَلة الشهادات، ولكنها في بلادنا أجنبية، وهي تستخدم الشبان الأجانب، وقد لا يصح أن نلومها على ذلك …

ومن هنا عطلة شُبَّاننا المتعلمين بينما الشباب الأجانب لا يتعطلون. فإننا ما زلنا أمة تشتغل بالزراعة، وتقصر مجهودها عليها إلى حدٍّ كبير.

ومن تكليف الناس ضد طباعهم أن نطلب من الشاب المتعلم أن يترك المدينة، ويعمد إلى الريف فيسكنه ويزرع الأرض. فإن التجارب دلَّتنا على أنه لا يستطيع أن يزرعها بأحسن مما يزرعها الفلاح الذي لم يتعلم.

فلو كانت الصيرفة والتجارة والصناعات الكبيرة في أيدينا لوجد شُبَّاننا المتعلمون عملًا صالحًا فيها كما وجدوا في بنك مصر.

فهذه إذن هي الحقيقة، ولن يكون علاجها بأن ننعى على شُبَّاننا ضعف استقلالهم، ونقول بسوء التعليم؛ لأن العلة الحقيقية تنحصر — أو تكاد تنحصر — في أن الأعمال الحرة (غير الزراعة) هي الآن كلها — أو معظمها — في أيدي الأجانب، وهم يُفضلون أبناءهم على أبنائنا، وهم بذلك أغنياء ونحن فقراء، وشُبَّانهم يزدادون ثروة وصحة وعلمًا، وشباننا يزدادون فقرًا ويأسًا وسخطًا.

وليس من المحتَّم على حامل شهادة الحقوق أن يتعطل إذا لم يشتغل بالقضاء أو المحاماة، وهو يرضى بأن يعمل كاتبًا مسئولًا في مكتب تجاري للسمسرة أو القومسيونجية أو البقالة أو الصيرفة، ولكنه لا يجد، وهو لا يجد لأن له زميلًا أجنبيًّا قد استولى على هذا العمل، وقُل مِثْل ذلك في سائر حمَلة الشهادات. فإنهم عاطلون الآن، وسيتعطلون في المستقبل ما دامت الصناعة والتجارة في غير أيدينا. فهل من علاج لهذه الحالة؟

العلاج واضح، وهو أن نجعل الصناعة والتجارة والصيرفة في أيدينا فنشجع الموجود منها الآن، ونُقبل عليه، وندعو له بأموالنا وقلوبنا، وننشئ الجديد منها، ثم يجب ألا يبرح أذهاننا أن هناك أعمالًا حرة خفيفة قليلة التكاليف كإنشاء الفنادق والمطاعم والقهوات وبيع أصناف البقالة والخضراوات وما إلى ذلك، فيجب على شُبَّاننا أن يُقبلوا عليها.

إن شُبَّاننا عاطلون؛ لأني أنا وأنت وأهلي وأهلك ما زلنا نعمد إلى الأجنبي نشتري منه حاجاتنا بينما نحن نرى أن الشبان الذين يستخدمهم عنده أجانب، وبينما نحن نرى أن في أهلي وأهلك شبَّانًا عاطلين. فلنعالج العطل في بلادنا بأن نُقبل على مصنوعاتنا فنشتريها، وأن نُكبر من شأن التاجر المصري فنجعل معاملته دينًا نؤمن به ولا ننزل عنه.

فإذا عاملناه واتسعت تجارته أو راجت صناعته فإنه لن يستخدم سوى شباننا هؤلاء الذين نراهم الآن عاطلين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤