قيمة الصناعة

لكي يعرف القارئ الفرق بين الأمم الصناعية والأمم الزراعية يجب عليه أن يتأمل هذه المقابلات الصغيرة:
  • (١)

    نحن نبيع الآن قنطار الصوف بمبلغ يتراوح بين ١٢٠ و١٤٠ قرشًا، ونشتري قماش البذلة من الصوف التي لا يزيد وزنها على خمسة أرطال بنحو ثلاثة جنيهات، وهذا الفرق بين ثمن الصوف الخام وثمن القماش تربحه الأمم الصناعية.

  • (٢)

    نحن نبيع قنطار القطن الآن بثمن يتراوح بين جنيهين وثلاثة، ونشتري القطنية التي لا يزيد وزنها على ثلاثة أرطال أو أربعة بنحو ثلاثة جنيهات، والفرق بين ثمن القطن الخام وثمن القطنية تربحه الأمم الصناعية.

  • (٣)

    نحن نبيع جلد الثور بنحو عشرين قرشًا، ونشتري الحذاء بنحو مائة قرش، والفرق بين ثمن الجلد وثمن الحذاء تربحه الأمم الصناعية.

هذه أمثلةٌ ثلاثة تدل القارئ على أن الأمة التي لا تُمارس الصناعة، وإنما تقتصر على الزراعة، يجب أن تبقى فقيرة؛ لأنها تبيع حاصلاتها الخامة بأبخس الأثمان، وتبيعها بالقناطير، بينما الأمم الصناعية تبيعها بالأرطال وبأغلى الأثمان.

ثم لنترك هذه المقابلة، ولننظر في السيادة والتفوق لمن هما في العالم؟ هل هما للأمم الصناعية أم للأمم الزراعية؟ فهنا إذن مقابلة أخرى.

بريطانيا أمة صناعية وهي تستعمر الهند الأمة الزراعية، وفرنسا أمة صناعية وهي تستعمر تونس والجزائر ومراكش وجميعها أقطار زراعية، وأوروبا قارة صناعية على وجه العموم وهي تستعمر أفريقيا وآسيا على وجه العموم. فمن هنا يتبين أن القوة والسيادة للأمم الصناعية.

ثم انظر في مقابلة ثالثة؛ أيُّ الأمم أرقى في ميدان الحضارة والاختراع والثقافة والعلوم والآداب؟ هل هي الأمم الصناعية أم الأمم الزراعية؟

إن نظرة سريعة إلى خارطة العالم تدلنا على أن الأمم الصناعية هي التي تحمل علم التقدم الإنساني في جميع الميادين، فهي التي تكتشف وتخترع، وهي التي تقود الإنسانية نحو المثل العليا الجديدة، وليس هذا غريبًا؛ فإن الزراعة لا تتسع للاختراع والاكتشاف كما تتسع لهما الصناعة، والذهن البشري يجد في الصناعة مجالًا للاختراع لا يجد مثله في الزراعة، والصانع أمام الآلة يجد في نفسه الجراءة على التنقيح فيها والسيطرة عليها، بينما الزارع يجد نفسه عاجزًا أمام النبات؛ لأنه ينمو بقوةٍ خارجة عنه. فالصناعة توحي إلى الإنسان القدرة والقوة بينما الزراعة توهم العجز والاستسلام.

ثم أذكر القوة الحربية أليست هي ثمرة الصناعة؟ وهل يمكن أمة زراعية أن تصنع الديناميت والطيارات والغازات الخانقة والمدافع والقنابل؟

ثم أذكر بعد ذلك أمل المستقبل ورجاء الإنسانية في أن تتخلص من الجهد والكد، أليس كلُّ ذلك معلَّقًا بالاختراع والصناعة حتى يقوم الحديد والنار مقام الذراع الإنسانية؟

ونحن جميعًا نفخر باليابان، ونقول: إنها أمة شرقية نجحت وارتقت، ولكن هل ننسى أن نجاحها وارتقاءها لم يكن له من سببٍ سوى أنها أقبلت على الصناعة؟

فإذا كنت مصريًّا وطنيًّا فاذكر الصناعة، وعلق عليها رجاء الأمة في الاستقلال الاقتصادي، وإذا كنت إنسانيًّا فاذكر الصناعة، وعلِّق عليها رجاء الإنسان في أن يتخلص من الكد المرهق للمعاش بأن يجعل الآلات تقوم بهذا الكد دونه، وليس عليه عندئذ سوى الإشراف عليها، وإذا كنت تشك في أن القوة والعظمة والكرامة والعلم والثقافة إنما هي ثمرة الصناعة، فاذكر اليابان التي كانت أمة مطموسة لا يدري بها العالم قبل خمسين سنة، فإذا بها تنهض شمسًا مشرقةً بالصناعة، وبالصناعة فقط.

إن السبيل لكي نثرى ونرقى ونتخلص من الاستعمار الاقتصادي والحربي والأخلاقي هو الإقبال على الصناعات نتعلَّمها ونحض عليها، ونجعل من الصَّانع المصري رجلًا نحبه ونحترمه، ونُؤْثِر مصنوعاته على المصنوعات الأجنبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤