كلمةُ المؤلِّف

إن كان هذا الكتاب لا يُعدُّ تاريخًا بالمعنى الجامع لكل أشراط التاريخ، فهو — على الأقل — معرضُ حوادث صحيحة غيرت وجه الشرق، وراعت قلب الغرب، حاولتُ — ولا أدري هل أنا مفلحٌ — أن أوقف المطالع على أسبابها وتفاصيلها ونتائجها على نمطٍ يتمثل به الأحوالَ التي دارت بتلك الحوادث العظمى، فيتأثر بمؤثراتها، ويدهش بمدهشاتها، ويعتبرُ بعبرها وتقلباتها، وكأني بالقارئ عند مطالعة هذا الكتاب يسمع من خلال سطوره قصفات المدافع وصفير الرصاص وأنين الجرحى وعويل الألوف من الشيوخ والنسوة والأطفال الأبرياء الذين جنت عليهم همجية البشر في هذا القرن العشرين المُلقَّب بقرن النور والمدنية، ثم يرى ما أتته تلك الدول العظمى — التي يجب أن تكون قدوةً جميلةً للدنيا — من التقلب والتلون والمخاتلة والمخادعة ونكث العهد، ونبذ الوعد.

أما إخواني العثمانيون فلا أشك أنهم يفرغون من مطالعة هذا الكتاب ونفوسهم ثائرة ودماؤهم فائرة بما يقفون عليه من تفصيل المصائب التي نابت دولتنا العلية في الحرب الأولى، ثم يرون بعض العزاء في ابتسام الحظ للسياسة العثمانية إبَّان الحرب الثانية، ونجاح الوزارة السعيدية في استرجاع شطرٍ مما خسرناه في الحرب الأولى.

على أن ذاك النجاح الذي أعاد نور «الهلال» إلى أدرنه ومعظم تراقيه، لا يلأم كل الصدع ولا يمحو جلَّ الأسف على شطرٍ كبيرٍ من تركيا الأوروبية، تلك البلاد التي كان ثمنها عظيمًا من الدماء والدموع والمُهج الغالية، ولا مندوحة معهُ للعثماني عن البحث في أسباب تلك المصائب ليعتبر بها. فما هي تلك الأسباب؟ هل ذهب الدهر بمزايا الجندي العثماني الذي وصل أجداده إلى أبواب فينا وكتبوا تاريخ مجدهم بالسيوف قبل الأقلام ولفُّوا من كبد السماء هلالًا، ونشروه علمًا يتلألأ؟ كلا، فإن الذين حدثتهم من كبار الضباط وموظفي الهلال الأحمر الذين شهدوا بعيونهم ذاك الجندي، وجميع المراسلين الحربيين الذين شاطروه البرد القارس والشقاء المضني يقولون إن الجندي العثماني المنظم هو هو، يموت بردًا في مركز الحراسة، وتنطوي أحشاؤه على الطوى فلا يشكو ولا يثور، ولو حصل كل يوم على قطعة من الخبز الجاف ما وهنت بجسمانه قدمٌ ولا نكص أمام عدو. فما هو السبب إذن؟ قف بنا نوضحه بكلمة حرة.

ما الحربُ التي تنكبُ إحدى الأمم نكبة فاتكة إلا السبب الطارئ، فواجبٌ على من يريد الحقيقة أن يبحث فيما وراء ذاك السبب الطارئ عن سبب أصلي عام كما قال مونتسكيو. والسبب العام الذي أدمى قلوب المسلمين قبل المسيحيين والموسويين في السلطنة هو ظاهرٌ في الأقوال والأحاديث التي نطق بها أقطاب الدولة أنفسهم، وفي أقوال المراسلين السياسيين والحربيين على اختلاف النزعات، وفي حالة كل فرع من فروع الإدارة عسكريةً كانت أو ملكية، وأعني به الفساد المتفاقم أصاب معظم أهل المناصب، فقتل في نفوسهم روح الواجب الوطني، ونال سائر الموظفين فرماهم بالجشع والطمع، وناب كبار الجيش فأنمى فيهم روح التحاسد والتنابذ، وأضعف روح التعاضد والتضامن، حتى عم الخلل وكثرت العلل، وإنَّ الأمة والحكومة لعلى تلك الحال إذا بالاتحاد البلقاني واقفٌ مستوفزٌ ويدهُ على مقبض السيف.

على أني لست أرى — برغم ما جرى — أنه يقوم في سبيل الدولة العلية حائلٌ طبيعيٌّ يمنعها من النهوض، فكما نهضت ألمانيا مُعفَّرة الوجه من بين أقدام الفاتح الكرسكي العظيم وصعدت إلى المقام الأسمى بين الدول العسكرية والتجارية والصناعية، وكما نهضت فرنسا مهشمةَ الأعضاء ملطخة الجبين بالدم والتراب من بين سنابك ذوي الخوذات اللامعة منذ ثلاثٍ وأربعين سنة، كذلك تنهض الدولة العلية بإذن الله، على شرط أن تعتبر وتستفيد من المصائب التي حلَّت بها كما استفادت تانك الأمتان العظيمتان.

إني لا أجهل الفروق التي بيننا وبين تينك الأمتين من حيث التنافر في العناصر والتباين في الأديان والاختلاف في درجات المدنية بين الممالك العثمانية، على أن الإصلاح مستطاعٌ إذا جعل ولاة الأمور ذاك المُلك العظيم أقسامًا متحدة تحت «الهلال» العزيز، وعدَّلوا نظام كل قسم بما ينطبق على أخلاقه وعاداته ودرجته من الحضارة فيرضى ابن اليمن وابن الحجاز وابن سوريا وابن الأناضول، وتبقى عاصمة الخلافة والسلطنة واسطة العقد وصاحبة الأمر والنهي في الجيش والسياسة الخارجية وسائر الشئون العامة، فلا يكون لكل قسم إلا جانبٌ معين من دخله وسلطةٌ محدودةٌ تكفيه للنهوض بالعلم والتربية وسائر شئونه الخاصة.

وهناك أمرٌ راهنٌ لدينا؛ وهو أن الأمة العثمانية لم تفقد شجاعتها. وكل أمة متحلية بفضيلة الشجاعة يمكنها أن تنهض وتعلو لأن الشجاعة روح تنعش النفوس وتنهض بالعزائم، فحسبُ ولاة الأمور أن يحولوا قوة تلك الروح الشريفة إلى المشروعات النافعة فتصبح مع ذكاء الأمة ثروة أدبية عظيمة.

وأما الثروة المادية وهي أحد الأركان العظمى، فتجدها في قلوب الممالك الباقية للدولة العلية في آسيا، وهي من أغنى بقاع الله. ومساحتها (ما عدا الولايات الممتازة) مليون و١٥٦ ألف ميل مربع؛ أي نحو ضعف مساحة فرنسا التي تبلغ ٢٠٤٠٩١ ميلًا، مع مساحة ألمانيا وهي ٢٠٨٧٣٨ ميلًا، ومساحة إنكلترا وهي ١٢١١١٥ ميلًا، ومساحة إيطاليا ١١٤٤٠٩ أميال.

وأما موارد الزراعة والمعادن فأترك الكلام فيها لكبيرنا أستاذي سليمان أفندي البستاني وزير الزراعة في هذا الوقت، فإنه زار العراق منذ سنوات وضربها مثلًا لثروة الأرض العثمانية، فقال:١

دونك الخطة العراقية فهي مع شمولها بلاد ما بين النهرين تمتد مما يلي ديار بكر جنوبًا إلى خليج العجم شمالًا، ومن حدود بلاد إيران شرقًا إلى حدود سوريا غربًا، وتشمل ولايات الموصل وبغداد والبصرة وقسمًا من ولاية ديار بكر، وهي بمساحتها تزيد عن مساحة فرنسا، وبخصب تربتها لا يفوقها قطر في العالم، تخترقها مجاري أنهرٍ من أعظم الأنهار، ففيها دجلة والفرات وفيها الزاب الأعلى والزاب الأدنى وذيالة، وفيها شط العرب مُلتقى الأنهر، ذلك البحر الفياض المغني بمده وجزره عن وسائل الإرواء.

ذلك قطر قامت فيه بعواصمها أعظم دول العالم في العهد القديم من البابليين إلى الآشوريين، إلى السلوقيين خلفاء الإسكندر، إلى الفرس، إلى فخر دول الإسلام دولة العباسيين.

ذلك هو القطر الذي رغب محمد علي أن يستبدله بمصر وما والاها مما دخل في حيازته من بلاد الدولة العثمانية فلم يفلح.

ذلك هو القطر الذي وقف هيرودوتس أبو التاريخ واجمًا عن وصف تربته وخصبها خوفَ أن تُنسب إليه المغالاة والكذب مهما خفف من الإطراء، ولا غرو فإن جميع الدول التي احتلته كان لها من ورائه الثراء العظيم، وتلك بابل مع زيادة عدد سكانها في إبان عظمتها على خمسة وعشرين مليونًا، وامتلاء خزائنها بالمال من موارد ثروته كان حاصل زراعتها يكفي لمعيشة سكانها ويفيض عن الحاجة فيُصَدَّر مسحونًا إلى سائر البلاد.

وتلك الدولة العباسية العظيمة مع بسط سلطتها على سلطنة لم تكن سلطنة اليونان والرومان بإزائها شيئًا مذكورًا، كان معظم دخلها من السواد وخراجه، وليس السواد إلا قسمًا من هذا القطر.

ثم تطرق إلى المعادن فقال:

إن الفحم الحجري وهو من أعظم أركان الثروة موجود في قسمي أوروبا وآسيا، مما بُذلت بعض الهمة في استخراجه كمعادن هركلي، ومما لا يزال مهملًا كمناجم مندلي في ولاية بغداد، ومعادن الرصاص الفضي تستخرج قليلة من الأوروبية، ومثلها معادن الحمر في الأراضي السنية بسوريا، والنحاس في أرغني بولاية ديار بكر، وفي مواضع كثيرة معادن ظاهرة توشك أن تكون مهملة كل الإهمال، ومنها الذهب والفضة والأنتيمون والزرنيخ والسنباذج والزئبق والمنغنيس والحديد والقار الحجري والسائل والكبريت والبورق ومقالع الرخام على اختلاف أنواعه. وليس ببعيد أن يكون فيها منابع بترول غزيرة، فقد شرع منذ نحو خمس وعشرين سنة باستخراجه من ضواحي الإسكندرونة ثم أُهمل لأسباب غامضة. وأما في ولاية بغداد فوجوده محقق إذ يستعمله أهالي مندلي وجوارها بحالته الطبيعية بلا تصفية، وقد كان مدحت باشا اهتم باستخراجه على الطرق الحديثة، فأنفق مبالغ طائلة على بناء معمل في بعقوبة استجلب له الآلات والمهندسين، وحالما بدت بوارق النجاح غادر مدحت الولاية فأُقفل المعمل ولعبت به أيدي الدمار. وأما المياه المعدنية بجميع أنواعها الحارة والباردة فهي مُتفجرة في مواضع كثيرة لا يكاد يلتفت إليها مع ثبوت مضاهاتها لأحسن الأنواع من أمثالها في أوروبا، وهي كثيرة بعضها في أوروبا كمياه بورصة، وبعضها في آسيا كمياه وادي العمق بولاية حلب.

ومن الغريب أن مياه الحمة في فلسطين التي كان يقصدها عظماء أوروبا للاستشفاء وأنشأ فيها قياصرة الرومان حمامات تدل آثارها على عظمة لا مثيل لها في أشباهها بأوروبا، باتت مهملةً لا ينتابها إلا القليلون من أبناء الجوار ممن لا يطيق الانتقال إلى أوروبا.

وأما الملاحات البرية والبحرية فكثيرة جدًّا وبعضها يُستخرج منه الملح بهمة وعناية فينتج دخلًا غير قليل، ولا عجب بتلك العناية الخاصة فإدارة الديون العمومية هي الرقيبة عليها الحافظة لدخلها. ا.ﻫ.

فإذا عمرت تلك الأراضي الغنية بطبيعتها وكنوزها، وعمرت معها العقول بالتعليم، والأخلاق بالتربية، وعُدِّل النظام في كل جهةٍ طبقًا لأحوالها، وعرف ولاة الأمور كيف يُعالجون السياسة الدولية ريثما يتم الإصلاح، فإن السلطنة تبلغ ما تشاءُ من العمران، وتصبح بإذن الله إنسانَ عين الزمان.

يوسف ف. البستاني
١  رسالة وضعها بعد إعلان الدستور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤