أسباب الحرب البلقانية

من رام أن يقف على حقيقة تلك الحرب الهائلة ويُدرك أثرها العظيم في الشرق والغرب يلزمه أن يعرف أسبابها وحوادثها ونتائجها، وإنَّا بادئون بذكر تلك الأسباب واحدًا فواحدًا مع الإيجاز، ومعتمدون على نخبة من أقطاب السياسة وصفوة المؤرخين والباحثين في المسألة الشرقية، فإن الحرب البلقانية ليست إلا مشهدًا كبيرًا فاجعًا من رواية تلك المسألة التي تعددت فيها الفصول وأدمت مشاهدها العيون.

(١) السبب الأول

يخلق بنا أن نحسب رأس الأسباب ما انطوت عليه الضلوع وغَلت به الصدور من الحقد القديم والضغينة الكامنة بين الأتراك والأمم الأربع المتحالفة، فإن كل أمة منها جعلت تربية الحقد في صدور أبنائها على دولة آل عثمان فرضًا مقدسًا وآية من آيات الوطنية، فإذا ورد ذكر التركي على أحد أساتذتها جعله عنوانًا للظلم، ومثلًا للقسوة، وعدوًا أبديًّا يجب على كل فرد أن يرضع بغضه مع حليب أمه.

انظر إلى اليونانيين تجد الأساتذة والوالدين والوالدات وكل عجوز بالية يرددون ذكر مجدهم القديم، ويعدون التركي مغتصبًا لأرضهم هدَّامًا لدولتهم، هضَّامًا لحقوقهم، ويمزجون ما يحويه تاريخهم من الحقائق الجارحة بخرافات وحكايات نظمها لهم أساتذتهم وشعراؤهم؛ ليُرَبُّوا فيهم كراهة التركي، ويحملوهم على التفكير المستمر في استرجاع ما وقع في قبضته من ملكهم القديم، ويجعلوا طلب الثأر نصب أعينهم إلى أن يأتي وقته. ثم تراهم يهتمون اهتمامًا خاصًّا بأخبار أبطالهم والمنظومات الحماسية لشعرائهم القدماء، وفي طليعتهم هوميروس صاحب الإليالذة الخالدة، ويرددون على الأخص من الحوادث الغابرة قصة يُسمونها حكاية علي باشا في يانيا، فيعزون إليه من الفظائع والأهوال ما يُشيب الطفل في مهده ويُزعج الميت في لحده، وهم يجعلون فيها القطرة بحرًا والصفر سفرًا ويرتبونها كما يشاء الخيال؛ إذ لا يهمهم منها إلا أن تجئ في شكلٍ يُبكي النساء والأطفال ويُثير قلوب الرجال، قال كاتب فرنساوي كبير: «يمكننا أن نقول ولا نخشى الخطأ إن حكاية يانيا حضَّت الأمة اليونانية على الجهد الذي بذلته في الحرب الأخيرة حضًّا كبيرًا وأثرت فيها تأثيرًا شديدًا، فإنك تجد كل قرية وكل دسكرة في الجزر اليونانية تأخذها الرعدة من تذكار يانيا، وترى النساء ينقلن تلك الحكاية إلى أولادهن ويذكرن ما أتته بعض اليونانيات من الأعمال في مجال القتال. وما من أثر أبقى في النفوس وأقوى في القلوب من حكايات وطنية تعيدها الأم وهي جاثية أمام سرير ولدها.»

وأضف إلى حوادث التاريخ القديم والمتوسط حادث الفشل الكبير الذي حلَّ بهم في حرب سنة ١٨٩٧، فإنهم لبثوا بعدها يتطلعون إلى الثأر واستقدموا جماعة من الضباط الفرنسوييُّن، فنظموا لهم جيشهم وجددوا مدافعهم، وكان يزيدهم حقدًا على حقدٍ أن الحكومة العثمانية ظلت واقفة لدى الحكومة اليونانية ويدها على مقبض السيف؛ لتوقع الرعب في قلبها وتمنعها من ضم جزيرة كريت إلى أملاكها، وكانت جرائد الأستانة تنذر اليونان في كل يوم بالزحف على أثينا إذا قبلوا المندوبين الكريتيين في البرلمان اليوناني كما طلب أهل تلك الجزيرة. وإنا لنرى رأي كبير من العثمانيين في هذا الشأن؛ وهو أن الحكومة العثمانية لم تتبع سياسة الحكمة بإذلالها اليونان تكرارًا بعد أن قهرتهم في ساحة القتال، فإنها لو سارت معهم على منهج المجاملة منذ شعرت بالشر المضمر في قلوب الصرب والبلغار، لكان في وسعها أن تحول دون انضمامهم إلى التحالف البلقاني، ولكن شاء سوء الطالع أن تكون جميع الظروف مفضيةً إلى تفاقم ذاك الحقد القديم بدلًا من تخفيفه وتلطيفه.

•••

وإذا رجعنا إلى تاريخ البلغاريين وجدنا أن الحقد ينمو في قلوبهم منذ سنة ١٣٩٣؛ أي السنة التي سقطت فيها الدولة البلغارية في قبضة تركيا، وإذا أراد القارئ أن يعرف مبلغ بُغضهم للتركي — وكل موظف عثماني هو تركي عندهم — فحسبه أن يقرأ شيئًا مما يلقونه على أولادهم أو يسمع ما يقوله الشيوخ والعجائز منهم. ذكر لي صديقي حقي بك العظم أنه زار صوفيا عاصمة البلغار منذ بضعة أعوام، وذهب يومًا مع نسيب له (كان معتمدًا عثمانيًّا ساميًّا) في مركبة الوكالة العثمانية إلى بعض أحياء المدينة، وبينما كانا مارين أمام بيت إحدى العجائز، خرجت وبيدها قِدْر من الأقذار المختلفة وقذفت به على طربوشيهما وملابسهما العثمانية.

وليس يدلنا على اعتنائهم الشديد بتربية الحقد على الأتراك وزيادة النفور منهم مثل أمر مأثور: وهو أنهم تركوا محلةً صغيرة في عاصمتهم على أسوأ حال لتكون عبرة لكل بلغاري، فيتذكر على الدوام ما كانت عليه بلادهم في عهد الحكم التركي، والواقع أن تاريخ البلغار (منذ سقوط دولتهم سنة ١٣٩٣ إلى سنة ١٨٧٧) كان تاريخ ذل وهوان، فإنهم كانوا أرقاء تلعب الأكف التركية في رقابهم، وإذا شكوا حكمت السيوف في هاماتهم ولبثوا سنوات عديدة على أثر سقوط ملكهم يحسبون الأتراك من محتد أشرف من محتدهم حتى صحت فيهم حكمة القائل: «إن الاستعباد يُفقد الشعوب نصف فضيلة الرجولية.»

على أنهم كانوا مثل كل شعب مغلوب على أمره وله تاريخ قديم، يذكرون استقلالهم الذي تغلغل في طيات الزمان ويحنون إليه وهم في زوايا بيوتهم، ويشكون بصوت خافت من حكامهم. ولبثوا على تلك الحال من الجبن والمسكنة حتى سنحت الفرصة لانفجار حقدهم الكامن قبيْل معاهدة برلين، وكانت عوامل إيقاظهم ثلاثة؛ أولها: أن ولاة أمورهم غلوا أشد غلو في الضغط عليهم فكانت نتيجة هذا الضغط انفجار ذاك الحقد، والثاني: أن روسيا العدوة القديمة لتركيا كانت تحضهم وتَعِدْهُم بالعون والمدد، والثالث: أن تحريرهم من قيد الكنيسة اليونانية أنشأ فيهم روح الاستقلال.

بقيت تلك العوامل الثلاثة تعدَّ نفوسهم للثورة وتزيد حقدهم المتأجج حتى هبُّوا ينفضون عنهم غبار الذل العتيق، ولما ثارت البوسنة والهرسك سنة ١٨٧٥ رأى ذوو الإقدام منهم أن الفرصة كانت موافقة للثورة وشفاء النفوس من الضغينة.

على أنهم لم يكتفوا بالخروج على الحكومة بل ارتكبوا جناية ذبح المسلمين في بعض القرى، ولم تكن ثورتهم وقتئذ عامة؛ لأن قسمًا كبيرًا منهم كان لا يزال خائفًا من سادته الأتراك، وما ترامى خبر فتنتهم إلى الباب العالي حتى عقد العزيمة على تأديبهم وكان التأديب واجبًا، إلا أنه أخطأ الطريقة المُثلى فأطلق عليهم ألوفًا من الجنود غير المنظمة، بدلًا من أن يُسيِّر إليهم جنودًا نظامية تحت إمرة قائد عاقل يضع اللين في محله والشدة في موضعها، وروى قنصلا فرنسا وإنكلترا في تقاريرهما الرسمية: «إن عدد الذين ذبحتهم تلك الجنود من رجال ونساء وأطفال يبلغ ما بين ١٥ و٢٠ ألف نفس.»

فكان لذاك الحادث صدى عظيم في أوروبا، وهبَّ غلادستون فألقى خُطَبه الشهيرة عن تركيا والأتراك، وأنسى الأوروبيين أن البلغاريين فتكوا هم أيضًا بالمسلمين الآمنين، ولا غرو فإن الحادث الأكبر يُنسي الحادث الأصغر، وهناك سبب آخر وهو أن شعور كل فئة بنكبات أهل دينها أشد من شعورها بإرزاء الآخرين، وهذا طبيعي تجده عند جميع الأمم والملل، ولا يتغير ما دام الإنسان إنسانًا، وقليلٌ هم لسوء طالع الإنسانية أولئك الذين يضعون الحق فوق كل شيءٍ.

على أن هذا كله بعض ما جرى بين العدوين، وهو يكفي للدلالة على أن الجيش البلغاري لم يزحف وحده من صوفيا بل زحف هو وحقد خمسمائة سنة …!

•••

وليس حقد الصربيين وأهل الجبل الأسود على الأتراك بأخف من حقد اليونانيين والبلغاريين، فإنهم مثل حلفائهم يُربون في أبنائهم محبة الثأر من تركيا، ولا ينسون انتصار الأتراك عليهم وفتكهم الذريع بهم، ذكر الموسيو «ألبير مالي» الأستاذ الكبير في التاريخ السياسي: أن المؤرخ الصربي «ليوبا كوفاتشفيتش» وقف يرثي ابنه الذي قتل في إحدى معارك الحرب البلقانية فقال: «يا بُنيَّ نم بسلام فقد أوفيت دينك للوطن، وقل لدوشان ولازار بل قل لجميع شهداء قوصوه إن أمتهم ثأرت لقوصوه …» ولقد دلت الحرب على أن الثأر الذي أشار إليه هذا المؤرخ الصربي هو أمنية كل فرد من أمته، وأن الحقد على الأتراك شامل لطبقاتها، قال أيضًا الموسيو «ألبير مالي»: إن معارك قوصوه (التي حدثت من نحو ٥٠٠ سنة) ما زالت تذكر عندهم كما تذكر حوادث حرب السبعين عند الفرنسويين، وما برحوا يرددون تذكار القيصر دوشان والقيصر لازار حتى الآن.

ثم روى الأستاذ نفسه دليلًا على احتفاظ الصربيين بما يضرم الضغينة في قلوبهم على الأتراك قال: إن ألفًا من الصربيين كانوا سنة ١٨٠٩ محصورين في أحد المعاقل على مقربة من مدينة نيش، فرأوا أن الأتراك أوشكوا أن يستولوا على موقعهم عنوةً، فاختاروا أن ينسفوا معقلهم بما كان عندهم من البارود على أن يقعوا أحياءً في أيدي أعدائهم، ثم جاء الأتراك بعد نسفه وفصلوا رءوسهم عن الجثث وجعلوا منها شبه برج. ولما دخل الصربيون مدينة نيش سنة ١٨٧٨ كان ذاك البرج محفوظًا على شكله فرفعوا الجماجم ودفنوها في مقبرة وأبقوا البرج ليراه الأبناء والأحفاد ولقبوه ببرج الجماجم، وأصبح أمره موضوع قصص العجائز والوالدات في البيوت والأساتذة في المدارس.

وليس من غرض هذا الكتاب أن نفيض في شرح الوقائع التاريخية التي أشعلت نار ذاك الحقد، فإنَّا نختم الكلام عن هذا السبب الأول من أسباب الحرب بما تضمنه قانون أصدرته حكومة الجبل الأسود سنة ١٤٨٤ ليكون دليلًا آخر على الحقد القديم في صدور أهل ذاك الجبل أيضًا وهو: «إذا نشبت الحرب بيننا وبين الأتراك فلا يجوز لأحد من أهل الجبل أن يترك ساحة القتال إلا بأمر رئيسه، وكل من يفر أمام الترك يفقد شرفه إلى الأبد، ويصبح محتقرًا منبوذًا من آله، ثم يلبس ثوب امرأة ويُعطى مغزلًا ليشتغل به مع النساء، وتعمد النسوة أنفسهن إلى طرده كما يُطرد الجبان الذي يخون وطنه.»١

وهنا ندع القارئ يفكر في الحالة النفسية التي كان فيها أعداء تركيا يوم ساروا إلى الحرب وهم يأملون النصر.

(٢) السبب الثاني

هو طمع كل دولة من أعداء تركيا في بسطة المُلْك ومنعة الجانب واسترجاع شيء من مجدها القديم، فإن مجد الدولة اليونانية القديم معروف خالد وآثار سلطانها ما زالت بادية في شبه جزيرة البلقان بما نراه من انتشار لغتها ومبانيها وكنائسها، وسقوط الإمبراطورية البيزنطية ترك إلى اليوم حسرة في قلبها، وهي منذ شاءت أوروبا أن تمنحها الاستقلال تصرف قواها إلى استرجاع ما فقدته، وتذكر أبيروس وكريت وجزر الأرخبيل وسائر ما طلع عليه الهلال من البلدان التي كانت تحت سلطانها.

ثم إن دولة البلغار التي صارت إلى الأتراك بحكم السيف منذ سنة ١٣٩٣، كانت على شيء كبير من البطش والقوة، وما برح البلغاريون يعنون عنايةً خاصة بتعليم تاريخها لأبنائهم ولبثوا قرونًا طويلة يحنون إليها في سرهم، حتى كانت الحرب الروسية العثمانية الأخيرة فانتصرت روسيا وأجبرت تركيا على الاعتراف باستقلالهم وجعلت مملكتهم كبيرة واسعة في شبه جزيرة البلقان، على أن مؤتمر برلين الذي عدَّل معاهدة سان استفانو أنقص ما طلبته لهم روسيا في المعاهدة المذكورة. فخرجت بلغاريا صغيرة، ولكن مطامعها كبيرة، ثم أخذت تستعد لأخذ ما حرمتها منه السياسة الدولية.

والصرب من جهة ثالثة تطمع في استرجاع البلدان التي تحسبها مهد عزها ومجدها، فقد كان للصربيين مُلْكٌ مستقلٌ منذ القرن الثالث عشر ثم بقي ينمو نحو قرن ونصف، حتى بلغوا أعلى مرتبة من مراتب عزهم في أواسط القرن الرابع عشر وامتدَّ ملكهم في أيام إمبراطورهم دوشان من البحر الأسود إلى الأدرياتيك ومن نهر الطونة إلى بحر الأرخبيل، ولما كانت سنة ١٣٤٦ تُوِّج دوشان إمبراطور في أوسكوب، وكان الصربيون في تلك السنة ينوون الزحف على الأستانة؛ لأنهم رأوا الإمبراطورية اليونانية أصبحت في دور الشيخوخة والانحلال، ولكن إمبراطورهم دوشان توفي فجأةً فحال موته دون مرامهم.

وكان الأتراك في ذاك الوقت يتجهون نحو شبه جزيرة البلقان ويستولون على بلادها، وما لبثوا أن قهروا الصربيين وأذلوهم.

وإذا تدرجنا من ذاك العهد البعيد إلى عهد مؤتمر برلين وجدنا أن الصربيين كانوا يطمعون في شيءٍ كثيرٍ فخابت آمالهم؛ لأن الدول لم تشأ أن تؤيدهم بقدر ما طلبوا؛ ولأن روسيا نفسها التي أراقوا دماءهم مع دمائها في حرب ١٨٧٧ لم تكن تميل إليهم ميلًا شديدًا لما آنست من غيرتهم الشديدة على استقلالهم ودستورهم وحريتهم، ولا بدعَ فإن حكومة روسيا كانت تكره الدستوريين بالطبع ولا سيما في ذاك الوقت، فاختارت بعد معاهدة سان استفانو أن تُجزل العطاء للبلغاريين الذين ساعدوها أيضًا في الحرب، فتنشأ بلغاريا قوية بدلًا من أن تعزز جانب الصرب.

أما الجبل الأسود الذي لا تزيد مساحته عن ٩٠٨٠ كيلومترًا مربعًا فهو يطمع في توسيع ملكه منذ عهدٍ بعيدٍ، ولا يرى مجالًا لتوسيعه إلا بأخذ جانب من بلاد الدولة التي كان تاريخها سلسلة حروب دموية بينه وبينها. وأخص ما يطمع فيه أشقودره وما جاورها، وهو يعتمد على مساعدة روسيا التي طالما نفحته بالهدايا الكثيرة وأعطته بعض مطالبه في معاهدة سان استفانو التي ذهبت بها معاهدة برلين، ولعله يعتمد بعض الاعتماد على إيطاليا لأن مَلِكَها صهره.

•••

على أن الطمع الذي جاش في صدور اليونانيين والبلغاريين والصربيين وَلَّد فيما بينهم من الضغائن والأحقاد بعد معاهدة برلين ما كاد يضارع حقدهم القديم على الدولة العلية، وكان معظم التنازع بينهم في الولايات المعروفة باسم مقدونيا.

أخذ كل فريق يعزز قومه هناك وينفق من دمه وماله في سبيل نفوذه الأدبي والسياسي، فانقسم مسيحيو مقدونيا إلى يونانيين وبلغاريين وصربيين وفلاخ، وأخذ كل قسم منهم يتلع عنقه إلى غايته ويؤيد نفوذ دولته التي كانت تحركه وتحرضه، فانتفعت تركيا إلى حدٍّ ما، من ذاك التنازع وأمَّنت اجتماع تلك الأقوام يدًا واحدة، ولكنها كانت مهددة من جهة أخرى بعقارب الدسائس التي سعت إليها من الأمم البلقانية المستقلة، والتي كانت برهانًا دامغًا على طمع تلك الأمم الصغيرة في تركيا أوروبا.

وكان اليونانيون والبلغاريون والصربيون مقتنعين بأن مطامعهم مبنية على حقوقٍ تاريخية وجنسية، ولكن المؤرخين المنصفين يرون أن بناء مطامعهم على التاريخ لا يمكن الاعتداد به؛ لأن مقدونيا وقعت على التوالي تحت سلطان الرومانيين واليونانيين والصربيين والأتراك. ولا يغلو من يقول: إن هذا التنازع الشديد الذي حمل العصابات اليونانية والبلغارية والصربية على ارتكاب أعظم الفظائع، كان من جملة عقبات الإصلاح.

(٣) السبب الثالث

هو السياسة الدولية ولا سيما السياسة الروسية التي تطمح إلى ضفاف البوسفور، وعاصمة البيزنطيين، ومدينة الذهب، والموقع الذي قال فيه نابليون: «إن من يملكه يصبح سيد العالم»، وإليك البيان، قال الأستاذ شوبلييه في تاريخه: «المسألة الشرقية بعد معاهدة برلين» إن روسيا تحسب نفسها وارثة الإمبراطورية البيزنطية، وسياستها لا تتغير لأنها مبنية على الروح المخامرة للشعب الروسي، فإذا كانت الحكومة الروسية تكف إلى أجلٍ عن العمل لبلوغ الغاية التي عينها لها السلف، فإن الأمة الروسية لا تعدل عن طلب تلك الغاية، ولا تلبث أن تدعو حكومتها إلى التقدم نحوها.

ثم قال أيضًا: إن الروسيين يريدون الأستانة، وهم لا يريدونها عاصمة روسيا بل يريدونها عاصمة الاتحاد الصقلبي (السلافي)؛ ليقيم فيها رئيس المذهب الأرثوذكسي ويجمع حوله جميع صقالبة البلقان، غير أنه لما فشلت روسيا في تأليف الجامعة الصقلبية أخذت تبدو لأوروبا في مظهر من عدل عن فتح أية بلاد عثمانية.

ولما انتصرت في حرب ١٨٧٧ عاد أنصار الجامعة الصقلبية في روسيا فجددوا آمالهم وتوهموا أن صقالبة البلقان وصقالبة النمسا سينضمون إلى روسيا، ولكن السياسة الدولية لم تبقِ مجالًا كبيرًا لتلك الآمال بعد معاهدة برلين.

بقيت آمال روسيا تشرق وتغرب، حتى رأت دول البلقان تعقد التحالف على تركيا فأيدتهم، أجل ليس لدينا من البراهين الدامغة ما يدلنا على أن ذاك التحالف هو صنيعة روسيا كما قرأنا في بعض الجرائد الأوروبية، بيد أن الأمر الذي لا جدل فيه هو أن إضعاف تركيا منطبق على مصالح روسيا ومعزز لآمالها القديمة، وأنها رئيسة الصقالبة فلا يمكنها أن تهملهم، ولا يمكنهم أن يخوضوا معمعان حرب هائلة قبل أن يثقوا بأنها لا تخذلهم في الأيام السوداء، وهم يعلمون من جهة أخرى أن الدول التي وضعت معاهدة برلين لم تسهر على حرمتها، بل تركت بلغاريا تخترقها بأخذ الرومللي الشرقية، ثم سمحت للنمسا بأن تضم البوسنة والهرسك إلى أملاكها، فقام في أنفسهم أن الدول إذا كانت لا ترضى بحل تركيا فجأة مخافة أن تقوم مشاكل عظيمة، فإنها لا تأبى أن تُؤكل في أوروبا كالخرشوفة ورقة فورقة. قال المؤرخ شوبلبيه: «إن الدول لا تريد أن تُفني تركيا بصدمة واحدة، ولكنها لم تُعارض حتى الآن في تقسيمها شيئًا فشيئًا، فإن غرض الدول على ما يظهر هو أن تُؤخر سقوطها لا أن تنقذها.»

عرف المتحالفون ذاك كله فأمنوا خسارة أي شبر من أرضهم، وتأكدوا أنهم إذا انتصروا على تركيا كانت غنيمتهم كبيرة، وإذا فشلوا فإن بلادهم تبقى لهم فأقدموا على الحرب بقلوب كبيرة وعزائم شديدة.

ولا يدحض هذا القول أن روسيا والنمسا سعتا بالأصالة عن نفسيهما والنيابة عن سائر الدول العظمى في سبيل منع الحرب، وأنهما نصحتا لحكومات البلقان بوجوب العدول عن العدوان، فإن البلقانيين كانوا يعلمون كنه سياسة الدول ويثقون بأن روسيا — كما قدمنا — لا يمكنها عند الضرورة أن تنبذ تقاليدها أو تعرض عن الرأي العام في إمبراطوريتها، ولقد أصابوا الغرض فإن روسيا لم تحجم عن تجنيد جيشها حين أخذت النمسا تهدد الصرب كما سترى في باب آخر، وأن فرح الشعب الروسي بانتصار البلقانيين بلغ حدًّا قصيًّا. وإذا أراد القارئ دليلًا على شعور الروس، فحسبنا أن نقدم لهم خبرًا ورد ونحن شارعون في طبع هذا الكتاب، وهو أن خبر سقوط أدرنه وصل بطرسبرج والموسيو دانيف مندوب البلغار في مؤتمر لندن جالس في الدوما (مجلس النواب)، فهتف حينئذ نواب الروس هتاف الفرح والابتهاج، وحملوا الموسيو دانيف والمعتمد البلغاري في عاصمة روسيا وأخذوا يُغنون وينشدون.

فكيف تستطيع حكومة روسيا أن تغفل رأي الجمهور الروسي وتلك عواطفه؟!

(٤) السبب الرابع

هو غفلة كبار الدولة العلية وتنازعهم المتواصل على السلطة وإشراب الجيش سم السياسة، مما أفضى إلى الضعف والاضطراب في جميع فروع الإدارة ومنها إدارة الجيش.

وإنَّ ضعف الخصم كثيرًا ما يولد المطامع عند خصمه، أو يزيدها تفاقمًا إن كانت موجودة كامنة كمطامع البلقانيين العريقة في القدم، كما أن قوة الخصم تؤدي إلى إخفاء المطامع فلا تجيش في الصدور ولا تدفع أصحابها إن كانوا عقلاء إلى حدِّ العدوان، ألا ترى أن فرنسا تطمع في استرجاع الإلزاس واللورين اللتين أخذتهما ألمانيا بعد حرب السبعين، ولكنها لا تحيد عن جادة الحكمة والفطنة؛ لأن ألمانيا ضخمة قوية لا يسهل نزع اللقمة من يدها الفولاذية.

فلو كان أقطاب السياسة العثمانية لم ينقسموا على أنفسهم ولم يدعوا السياسة ترسخ في قلوب الضباط فتصرفهم عن الواجب الوطني المقدس، لما رأت منهم دول البلقان ذاك الضعف الذي هاج طمعها، ولما كانت حُمَّى التنازع تُحدث في رءوسهم مثل دوار، فيذهب عنهم أن جواسيس البلغاريين والصربيين واليونانيين يملأون الأستانة وكل موقع حربي ويبحثون عن كل موضع من مواضع الوهن.

أثبت أولئك الجواسيس لدولهم أن الجيش العثماني يحتاج إلى الضباط، وأن الضباط الموجودين حزبان متنافسان، وأن الخلل ضارب في إدارة الميرة والذخيرة، ثم رأوا من جهة أخرى أن الحرب الطرابلسية زادت الدولة العلية ضعفًا على ضعف — فقالوا: إن الفرصة الحاضرة هي خير الفرص لتحقيق الأمل وشفاء النفس من الحقد والطمع القديمين.

على أن حكوماتهم قامت تراعي دواعي السياسة فادعت أن السبب الذي دعاها إلى تعبئة الجيوش هو رغبتها في كشف الظلامة عن إخوانها المقدونيين المسيحيين، ثم شكت من إهمال المادة الثالثة والعشرين من معاهدة برلين، وهي التي توجب على الباب العالي أن ينفذ النظام الأساسي الذي وضع لجزيرة كريت، ونظامات شبيهة به ومنطبقة على الحاجات المحلية في بلاد تركيا أوروبا، وأن يكلف لجانًا مشتملة على عدد كافٍ من أبناء البلاد لوضع تلك النظامات في كل ولاية عثمانية في أوروبا، ثم يستطلع فيها رأي اللجنة الأوروبية التي ألفت للنظر في شأن الرومللي الشرقية.

تلك هي الحجة التي تذرعت بها حكومات البلقان المتحالفة قبل أن تعلن الحرب بأيام، والحقيقة أنه لو كان المراد من حركة الممالك البلقانية طلب الإصلاح بالمعنى الصحيح، لما دفعت الجفاءَ إلى حد الحرب بينها وبين تركيا، ولكنها رأت نفسها قوية بتحالفها وبالخلل الضارب في الأستانة، فأرادت أن تنفذ اتفاقها السري، وليس تذرعها بمعاهدة برلين إلا ذرًّا للرماد في العيون، قال الموسيو كيدرلن وختر وزير خارجية ألمانيا السابق في حديث شهير تناقلته الجرائد الأوروبية في أوائل أكتوبر الماضي أي الشهر الذي أعلنت فيه الحرب: «إن جميع الحكومات البلقانية تدَّعي أنها تريد الإصلاح لمقدونيا، والحقيقة أنها تطمع في تقسيم أملاك الدولة العثمانية، ولكن يجب عليها أن تعلم بأن الدول العظمى لا يمكنها أن تسمح بتغيير خريطة الأراضي العثمانية في شبه جزيرة البلقان …»

ويجدر بنا أن نعترف هنا بأن حوادث أليمة هاجت عواطف الأمم البلقانية قبل الحرب ولا سيما الأمة البلغارية، غير أنه يجدر بنا أيضًا ألا ننسى أن الحزب الحربي من أولياء الأمور البلقانيين كان يعنى بتهييج تلك العواطف إرادة أن يُعد أفكار الجماهير للحرب المنوية، وأن يبلغ بها إلى حيث يمكنه القول: «إن تيار الرأي العام دفعنا معه، فلا قِبل لنا بالتقهقر»، وعند ذلك يتسني للحكومات البلقانية ما أرادت من اغتنام الفرصة الفريدة.

١  من تاريخ السلطنة العثمانية لجونكيير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤