معارك العثمانيين والجبليين

عرف المطالع قوة الجبل الأسود من فصلٍ ماضٍ، أما قوة العثمانيين التي قاومت الجيش الجبلي فقد كان معظمها في أشقودره، وإليك بعض الإيضاح.

تعودت نظارة الحربية العثمانية أن تبقي فرقة واحدة بأشقودره في الظروف العادية، ولما تراخت العلاقات بين تركيا والممالك البلقانية، عززت تلك الفرقة بواحدة أخرى من الرديف ثم انضم إليها كثيرٌ من المتطوعين الألبانيين وعدد من جنود الفيلق السادس، ومن فرقة دبرا وهي الجنود التي لم تذهب إلى كومانوفو، وإذا رجعنا إلى آراء الاختصاصيين الحربيين في موقع أشقودره، وجدنا الكولونل بوكابيل وغيره يحكمون بأن الجهة التي عند الطرف الجنوبي من بحيرة أشقودره لا تُعد ذات قيمة حربية عظيمة، أما الجهات الجنوبية والشمالية الشرقية من الموقع فقد كانت محمية بعدة معاقل وحصون، وأما الجهة الغربية فكان يحميها حصن طرابوش الشهير وهو يُشرف على مدينة أشقودره وبحيرتها ويعلوها نحو ٤٠٠ متر، ومسافة مجموع الحصون تبلغ نحو ٢٥ كيلومترًا.

وزد على هذا كله أن الجهة الشمالية عند الحدود الجبلية تشتمل على مراكز محصنة ومحيطة بمدينة توزي من الشمال إلى الجنوب، أما الأهالي فغالبهم في سهول أشقودره من المسلمين، وفي الجهات الشرقية والشمالية الشرقية من الماليسور أي الجبليين، وهم من الألبانيين الكاثوليك وعددهم نحو ثلاثين ألفًا. ولما ثاروا على الباب العالي سنة ١٩١١ اضطر قسم منهم إلى اللياذ بالجبل ولبث هناك حتى نشبت الحرب فأخذوا يقاتلون مع الجبليين.

(١) تقسيم الأعمال الحربية عند الجبليين

تلك هي حالة أشقودره يوم قصدها الجبليون في ٨ أكتوبر وقد زحفوا أقسامًا ثلاثة، فسار الجنرال مارتينوفتش والفرقة الأولى من الجهة الجنوبية الغربية للبحيرة، وتقدم الجنرال فليشو لازاروفتش والفرقة الثانية وبعض الرابعة من الجهة الشمالية الشرقية للبحيرة، وكان غرض هذين القسمين أشقودره نفسها.

وسار الجنرال يانكوفوكوتيش ومعه الفرقة الثالثة وبقية الفرقة الرابعة لمقاتلة الجنود العثمانية النازلة في الجهات الشرقية والجنوبية الشرقية وراء الحدود الجبلية، ونحن نتكلم أولًا عن أعمال هذا الجنرال وجنوده، ثم ننتقل إلى الأعمال الحربية حول بحيرة أشقودره، ثم إلى حصار أشقودره نفسها، فسقوطها في أيدي الجبليين.

•••

كان غرض الجنرال يانكو المذكور أن يزحف إلى إيبك من طريق برانا وبلافا، وأن يقاتل الحاميات العثمانية في شمالي سنجق يني بازار، ويستولي على مواقعها ثم يمد يده إلى القوة الصربية التي تأتي من تلك الجهة، وأن يزحف من إيبك إلى دياكوفا وبريزرند، ومن هناك تذهب القوة التي يمكن الاستغناء عنها إلى جهات أشقودره لنؤيد القوة المحاصرة لها.

ولقد نجح الجنرال يانكو في معاركه؛ لأن القوات العثمانية كانت قليلة، ففي ١٥ أكتوبر احتل المرتفعات القائمة غربي برانا بعد معارك صغيرة ومتاعب كبيرة.

وفي ١٦ منه ترك الباشبزق الألبانيون وعدد من الرديف مواقعهم في روجاي، فلحق بهم الجبليون وأسروا ٢٠٠ رجل وغنموا ثلاثة مدافع.

وفي برانا نفسها وجدوا قوة من العثمانيين فدافعت دفاع الأبطال حتى أحاطوا بها من كل جهة، فسلم معظمها وتركوا لأعدائهم ١٤ مدفعًا و٧٠٠ بندقية، وتمكن الباقون من الخروج بجملة مدافع.

وفي ١٩ أكتوبر احتلوا بلافا بعد معركة شديدة لكنها قصيرة، ومما يُذكر للعثمانيين مع الفخر هنا أن الجبليين رأوا بعد دخولهم بلافا عددًا من جثث الصبيان والنساء والسلاح بأيديهم، وإن قومًا يدافعون عن موطنهم إلى هذا الحد ليصح فيهم قول من قال: «ورُب انكسار يَفضلُ الانتصار.» وفي ٣١ دخل الجنرال يانكو وجنوده مدينة إيبك فلم يجدوا مقاومة.

أما في الجهات الشمالية من السنجق فقد نجحت أيضًا قوة الجنرال المذكور لضعف الحاميات، على أن حامية بليفلي لبثت تقاوم الجبليين في الشوارع حتى المساء، فخسر الفريقان خسارة عظيمة بالنسبة إلى عددهما. ثم اجتاز ١٢٠٠ جندي عثماني و٧٧ ضابطًا حدود البوسنة بعد أن عجزوا عن المقاومة، فأسرهم النمساويون وأرسلوهم إلى بلاد المجر ليقيموا هناك إلى نهاية الحرب.

وبعد تلك المعارك وصلت قوة صربية فصار بين الصربيين وحلفائهم خط اتصال، ثم زحف الجبليون والصربيون من إيبك إلى دياكو فاحتلوها بعد معركة لم تبقَ أكثر من بضع ساعات، ثم سارت جنود الجنرال الجبلي إلى أشقودره طبقًا للخطة التي رُسمت لها وتبعها جانب من الصربيين، وسار الجانب الآخر قاصدًا درين وأرض المردَة في ألبانيا.

وهناك تمت المهمة التي انتدب لها الجنرال يانكو فوكوتيش في سنجق يني بازار، فلننظر الآن ما جرى حول بحيرة أشقودره، ثم حول أشقودره نفسها.

(٢) حول البحيرة

كانت حامية توزي في الأسبوعين السابقين لإعلان الحرب مؤلفة من نحو ستة طوابير، فما جاء اليوم السابع من أكتوبر حتى بدأت المعارك بينها وبين الماليسور الموالين للجبليين، ثم زحف الجنرال لازاروفيتش في ٩ منه نحو توزي أيضًا، وأطلق الأمير بطرس ابن ملك الجبل أول مدفع عليها والموسيقى تعزف بنشيدهم الوطني.

ثم أخذ الجبليون يتقدمون فاستولوا أولًا على أوائل المرتفعات، ثم مدوا خط هجومهم من الشمال إلى الجنوب، وفي العاشر من أكتوبر استولوا على حصن دتشيتش بعد معركة شديدة استمرت أربع عشرة ساعة وغنموا فيه أربعة مدافع، وفي صباح ١٣ أكتوبر احتلوا فارنيا بعد أن ضربوها بالمدافع سحابة النهار وهجموا عليها تحت جنح الليل، ثم تمكنوا مع الماليسور من قطع خط الرجعة إلى أشقودره على قسم من الجنود العثمانية، وأسروه في ١٤ أكتوبر ودخلوا بلدة هيلم في ١٥ منه. ثم اجتازت فرقتهم الثانية بحيرة أشقودره في أربعة أيام وعسكرت في قوبليق ومنها زحفت إلى جهة أشقودره نفسها لتحصرها.

وبينما كان هذا كله يجري في الجهات الشمالية الشرقية من بحيرة أشقودره كان الجنرال مارتينوفتش ورجاله متجهين نحو طرابوش، فوصلوا إلى جهتها بعد وقعات صغيرة. وفي ١١ نوفمبر تقدم ألفٌ منهم ليلًا إلى حصن طرابوش لمفاجأته، فاهتدى العثمانيون إليهم بالمنيرات الكهربائية وسدَّدوا عليهم المدافع والبنادق، فمزقتهم كل ممزق ولم ينجح منهم إلا مائة رجل.١

(٣) حصار أشقودره وسقوطها

ولما حل هذا الفشل بالجنرال مارتينوفتش وفرقته، قرر أن طرابوش لا تُؤخذ فجأة كما أراد أولًا، وأن الهجوم عليها يجب أن يكون منظمًا بعد الاستعداد، وهنا يجدر بنا أن نصف للقارئ ذاك الموقع ليدرك أهميته الحربية، قال مراسل الجورنال الحربي:

إن طرابوش ربوةٌ علوها ٥٧٦ مترًا، وجانباها محصنان طبقًا للخطة التي وضعها المارشال فوندر غولتز الألماني، وليس فيها أبراج ولا مشارف حربية، بل هناك خنادق ومراصد على مستوى الأرض تجد فيها سبعين مدفعًا كبيرًا ونحو ١٠٠ مدفع من طراز الميتراليوز، وخمسة عشر ألف رجل نحو ثلثهم من الألبانيين المسلمين، ونحو الثلث أيضًا من النظاميين والرديف والباقين من الباشبزق، وجميعهم تحت قيادة أسعد باشا وحسن رضا باشا، أما عدد الجبليين والماليسور الذين كانوا أمامهم فنحو عشرين ألف رجل.

ذلك هو الموقع الذي كان ينشر الرعب ويرسل الموت على خط مستدير يبلغ عشرة كيلومترات من جهة البحيرة والسهل.

وبعد أن أرسل الجبليون ما قدروا على إرساله من مدافع الحصار، أخذوا يهجمون على طرابوش فلم يفلحوا، وكانت الحامية العثمانية تخرج فتقاتل فريقًا من المحاصرين قتالًا مُرًّا ثم تعود. وقد حاول الجبليون أن يهدموا عزيمتها بالوسائل التي استخدمها البلغاريون أولًا مع شكري باشا بطل أدرنه، فأخفقوا سعيًا كما أخفق البلغاريون. قال مراسل الجورنال: إن الملك نقولا رفع العلم الأبيض في ٢٨ أكتوبر، وأرسل مندوبًا إلى قائد العثمانيين ليقول له بالنيابة عنه: «إن مقاومة العثمانيين لجديرة بالإعجاب ولكن جهدكم يذهب أدراج الرياح، إذ لا يمكنكم أن تقاوموا الجوع والزمان، فسلِّموا واعدلوا عن القتال كما فعل إخوانكم في كومانوفو وقرق كليسا.»

فأجاب أسعد باشا: «إن الأمر أمري في القلعة فأنا لا أُسلِّم ما دمت حيًّا … إن طرابوش أنقذت شرف السيف التركي.»

وحدث يومًا أن حيًّا من مدينة أشقودره رفع الراية البيضاء لشدة ما قاسى من هول القنابل، فما كان من أسعد باشا إلا أن وجه نيران طرابوش على ذاك الحي وضرب الذين ارتكبوا هذا العصيان.

فلما رأى الجبليون والصربيون الذين كانوا معهم أن الحامية العثمانية مُصرة على الدفاع أرادوا أن يأخذوها بالجوع والهجمات المتوالية ولكنهم لم يفلحوا، ولبثت الحامية العثمانية تخرج وتقاتل ثم تعود حتى ألحقت بهم خسائر عظيمة. ومما يُذكر خروجها في ٨ و١٠ و١١ من ديسمبر وهجومها على سيروكا وأوبليكا، ثم خروجها في أول يناير و١١ منه. ولم يتمكن الأعداء من وصل حركة الحصار إلا في أوائل شهر فبراير، ثم كفوا في شهر مارس عن الأعمال الحربية؛ لسوء حالة الجو من جهة، ولأن الدول بدأت من جهة أخرى تضغط عليهم لتحملهم على فك حلقة الحصار، بعد أن قرر مؤتمر السفراء أن يضم أشقودره إلى ألبانيا التي أجمعت الدول على منحها الاستقلال كما سترى بعد نهاية كلامنا على الأعمال الحربية. غير أن الجبليين لم يكترثوا أولًا لضغط الدول وما لبثوا أن عادوا إلى الأعمال الحربية، فقررت حينئذ الدول أن ترسل أسطولًا ليقيم مظاهرة ضد الجبل، فسار هذا الأسطول المختلط وهدد الجبل فكان جواب حكومته وملكه «أشقودره أو الموت.» ثم اضطر الصربيون إلى ترك الجبليين حول أشقودره بسبب ضغط الدول، فلبث جيش الجبل وحده هناك حتى سُلمت أشقودره في ٢٣ أبريل، وهذا بعض ما تضمنته رسائل التيمس والتان والديلى تلغراف.

أذاع الجبليون في ٢٥ أبريل أنهم استولوا على أشقودره عنوة بعد أن هجموا عليها ليلًا وقاتلوا حاميتها بالسلاح الأبيض، ولكن الملحق العسكري النمساوي في شتينه عاصمة الجبل أبطل دعواهم، والواقع أن سبب التسليم هو الجوع ونفاد الذخيرة والتعب المضني الذي أصاب الحامية والأهالي، فقد روى مراسل الديلي تلغراف في فينا أنه لما دخل الجبليون المدينة وجدوا أهلها في حالةٍ يُرثى لها من العناء والإعياء، وكان الذين هدم الجوع قواهم وكاد يوردهم مورد التهلكة، يقابلون الجنود الجبلية يوم دخولها ويتوسلون إليها أن تعطيهم ما تسد به الرمق، وقد مات كثيرون من الطبقة الدنيا جوعًا في أواخر أيام الحصار وأصاب الجنون بعض الأهالي، حتى إن أسعد باشا لم يعد يجرأ على السير في الشوارع مخافة أن يلتف حوله الناس ويطلبون منه إما الأكل وإما التسليم. ولقد شاع بعد سقوط المدينة أن أسعد باشا عقد اتفاقًا سريًّا على التسليم، ولكن هذا الخبر لم يثبت حتى الساعة.

أما تأثير سقوط أشقودره فلم يكن عظيمًا أليمًا كتأثير سقوط أدرنه؛ لأن الدول قررت إخراجها من يد تركيا وضمها إلى ألبانيا الجديدة قبل أن تسقط بمدة، وجُلَّ ما يقال: أن طول مدة الدفاع أكسبت حاميتها فخرًا وأنقذت شرف السيف العثماني هناك كما قال أسعد باشا.

على أن الجبليين الذين لبثوا يظنون أن الدول تدعهم في أشقودره، أخطئوا كل الخطأ؛ لأن النمسا ووراءها ألمانيا وإيطاليا، أصرت على إخراجهم منها، ثم أيدتها سائر الدول حفظًا للسلم الأوروبي الذي كادت تتقوض أركانه.

١  الكولونل بوكابيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤