نتائج الحرب من الوجهة السياسية

أرتنا مقدمات الصلح التي أمضيت في لندرا أن النتيجة المادية لتلك الحرب المشئومة هي خسارة الدولة العلية لمعظم أملاكها في تركيا أوروبا، فبقي أن نبحث في النتائج السياسية التي أسفرت عنها، وهي قسمان داخلي وخارجي، وإليك ما نراه جديرًا بالذكر من القسم الداخلي: كان من نتائج الحرب في أنحاء السلطنة كلها أن الأمة هالها ما ظهر من الخلل في إدارة الجيش الذي كانت تحسبه قويًّا سليمًا قادرًا على صد كل عدو مفاجئ، ثم التفتت إلى بلادها فوجدت طلائع الخراب تهددها من كل باب، ومما زادها خوفًا وهولًا أن الجرائد الأوروبية الكبرى أخذت تنشر الفصول السابغة عن قرب اضمحلال الدولة العثمانية — صانها الله — فهبَّ عند ذاك طلاب الإصلاح ينادون بالإسراع، واتفقوا كلهم على تعميمه في أقصر ما يمكن من الوقت، لكنهم اختلفوا في الطرق المؤدية إليه، فمن الجمعيات التي أُسست للسعي في سبيله «الجمعية البيروتية الإصلاحية»، وهي مؤلفة من المسلمين والمسيحيين وجامعة لنخبة من الوجهاء والكُتَّاب، ومنها «جمعية اللامركزية» في مصر وأركانها من أفاضل المسلمين والمسيحيين العثمانيين، واسمها يدل على غرضها، وفروعها كثيرة الآن في سوريا والعراق وسائر بلاد العرب وأميركا، ومنها الجمعيات الأرمنية، وأخص مطالبها إجراء الإصلاح تحت مراقبة الدول العظمى.

واجتمع في شهر يونيو سنة ١٩١٣ مؤتمر عربي في العاصمة الفرنساوية حضره مندوبون من قبل «اللامركزيين»، وسافر وفدٌ من «الإصلاحيين» البيروتيين إلى تلك العاصمة أيضًا للسعي في سبيل الإصلاح، فانتقد عليهم جماعة من أنصار الحكومة الاتحادية ذاك السعي في البلاد الخارجية قبل أن تفرغ الدولة العلية من حل مشاكلها.

على أن طلاب الإصلاح ردُّوا ذاك الانتقاد بقولهم: «إن اجتماعنا في بلاد الدولة غير ممكن لشدة ما تُظهره الحكومة من الضغط، وليس يضر عثمانيتنا أننا اجتمعنا في بلادٍ أجنبية، فقد كان رجال تركيا الفتاة أنفسهم يجتمعون مثلنا أيام كانت الحكومة السابقة تحول دون اجتماعهم تحت سماء عثمانية، ثم نحن لا نوقظ فتنة على الحكومة العثمانية بل نريد حملها على الاتفاق معنا على الإصلاح الذي كثرت به الوعود الماضية، ولم يُنجز منها وعدٌ واحد.»

واتفق في ذاك الوقت أن سليمان أفندي البستاني كان في العاصمة الفرنساوية، وأن الأمير سعيد باشا حليم الذي ارتقى إلى منصب الصدارة بعد مقتل شوكت باشا رغب إليه أن يكون وزيرًا للتجارة والزراعة، فاغتنم البستاني تلك الفرصة وباحث مندوبي المؤتمر العربي ومندوبي بيروت، ثم أبلغ مطالبهم إلى الحكومة العثمانية، وأظهر لها وجوب الاتفاق معهم على الإصلاح إرضاءً للأمة العربية الكريمة، فأرسلت الوزارة الاتحادية مندوبين من قبلها فاتفقا مع رجال المؤتمر على إجراء الإصلاح، فكان لعمل الوزارة السعيدية أثر جميل في النفوس، وقالوا: إنها إذا أنجزت ما وعدت، وجب أن يُسطر لها التاريخ أجمل صحيفة؛ لأنها تفتح وقتئذ عهدًا جديدًا لاتفاق العنصرين العظيمين اللذين لا تعيش السلطنة إلا بتضامنهما واتفاقهما.

أما صورة الاتفاق الذي قبلته الحكومة العثمانية فهي:
  • (١)

    يكون التعليم في جميع البلاد العربية باللسان العربي في القسم الابتدائي والإعدادي، ويكون بلسان الأكثرية في القسم العالي.

  • (٢)

    يُشترط أن يكون جميع رؤساء المأمورين ما عدا الولاة عارفين اللغة العربية، أما من عداهم من المأمورين فيعينون في الولاية، وإنما يعين في العاصمة القضاة ورؤساء العدلية الذين يُنصبون بإدارة سنية.

  • (٣)

    الأوقاف الموقوفة للجهات الخيرية المحلية تُترك إدارتها لمجالس الجماعات المحلية.

  • (٤)

    تُترك الأمور النافعة للإدارة المحلية.

  • (٥)

    العسكر يخدمون في البلاد القريبة منهم ولكن العسكر الذي يلزم إرساله إلى اليمن والحجاز يكون على نسبة عادلة من جميع المملكة العثمانية.

  • (٦)

    مقررات المجالس العمومية تكون نافذة على كل حال.

  • (٧)

    يُقبل مبدئيًّا أن يكون في هيئة الوزارة ثلاثة على الأقل من أبناء العرب، وكذلك يؤخذ منهم عدد مثله بصفة مستشارين أو معاونين في النظارات، ويؤخذ اثنان أو ثلاثة منهم في كل مجلس من مجالس شورى الدولة ومحكمة التمييز ودائرة المشيخة وجميع الدوائر، ويؤخذ أربعة أو خمسة على الأقل في مراكز أخرى مختلفة في كل نظارة.

  • (٨)

    يُعين خمسة ولاة على الأقل من أبناء العرب وعشرة متصرفين وتُزال «مغدورية» الذين لم يترقوا أُسوةً بأمثالهم من مأموري الملكية والعدلية والعلمية.

  • (٩)

    يُعين في مجلس الأعيان عدد من أبناء العرب بنسبة اثنين من كل ولاية.

  • (١٠)

    يُستخدم مفتشون اختصاصيون من الأجانب في الدوائر المقتضية في كل ولاية وتعين وظائفهم وصلاحيتهم بنظام مخصوص.

  • (١١)

    يُعطى مقدار من المال لسد عجز الدوائر التي تُترك إدارتها للولايات، فيضاف هذا المقدار إلى ميزانية الولاية ويُعطى غير ذلك نصف رسوم العقارات على أن يُصرف للمعارف.

  • (١٢)

    يُقبل مبدئيًّا أن تكون المعاملات الرسمية في البلاد العربية باللسان العربي، ويُنظر في أمر تنفيذه بالتدريج.

  • (١٣)

    تُوسَّع سلطة المجالس العمومية ويكون نصف المجلس العمومي في بيروت من المسلمين ونصفه من غير المسلمين. ا.ﻫ.

ثم صدر هذا الكتاب والفريقان مهتمان بتنفيذ هذا الاتفاق، والألسنة تلهج بذكر الوزارة السعيدية التي أقدمت عليه.

أما الأرمن فما زالوا حتى الآن يفرغون الجهد للحصول على مطالبهم، ولكن وجه الصعوبة الكبرى إنما هو المراقبة الأجنبية التي يطلبونها بلسان وفد منهم يجول في عواصم أوروبا، ويسعى إلى تحقيق تلك الأمنية برئاسة بوغوص نوبار باشا كبير الأرمن في القطر المصري ونجل نوبار باشا الشهير.

وليس في وسع المؤرخ الذي يقرر الحقائق أن يُنكر هنا حقيقة راهنة هي أن بين طلاب الإصلاح الذين هالتهم نكبة السلطنة، وهبُّوا يطلبون لها الإصلاح بإخلاصٍ ليساعدوها على الخلاص، أناسًا من ذوي الأغراض التي لا تتفق مع المصلحة العثمانية الحيوية لكنهم قليلون لحسن الطالع، وهناك أُناسٌ محبون للدولة راغبون في خلاصها وإصلاحها، إلا أن الحوادث الأليمة التي وقعت أحرجت صدورهم وأضعفت نورهم فشذوا في أحكامهم، واسترسلوا في أوهامهم، حتى رأينا بينهم من طلب الدواء من الداء. أجل إن بينهم من طلب الحكم المطلق، ولعل هذا الفريق الضئيل من الناس ذهبوا هذا المذهب بعد ما نشرته الجرائد من أن السلطان المخلوع قال يوم نقلته الحكومة من سلانيك في إبان الحرب: «إن وقوع حربين وحدوث فشلين للدولة في سنة واحدة لشيء كثير وأمر جليل.» فما انتهى كلام ذاك الطاغية إليهم حتى صعدوا الحسرات قائلين: «آه لو كان عبد الحميد على سرير السلطنة لما أصاب الدولة ذاك الخطب.»

مهلًا أيها القوم، ونظرةً إلى التاريخ منذ سنة ١٨٧٧ إلى اليوم، فإن التفكير القليل بعد التغلب على العواطف يكفي للرجوع عن هذا التمني، ألا ما هي المسألة المقدونية التي امتلأ البلقان من أجلها حديدًا ونارًا ودمًا بريئًا؟ أليست إرثا من العهد الحميدي الذي كانت فيه لفظة الإصلاح مشاكلة للفظة الخيانة؟ بل ما هي مملكة البلغار؟ إن هي إلا ولاية عثمانية قديمة كان سوء الحكم من أسباب فصلها عن السلطنة، ثم تنبَّهت ونحن غافلون وصعدت ونحن نازلون حتى صار لها من الحول والقوة ما يمكنها من تجريد الحسام على سيدتها القديمة؟

وليس هذا الخسران كل ما أصاب الأمة من العهد الحميدي الذي تمناه بعض العثمانيين همسًا، فإن العاقل المفكر يجد فوقه ضررًا أعظم وأقتل، يجد الضرر الهائل الذي أصاب الأخلاق، فجعل نصف العثمانيين في دار الملك وغيرها جواسيس على النصف الآخر، بل جواسيس بعضهم على بعض. وجعل السرقة والرشوة موردًا مألوفًا حلالًا عند الألوف من الموظفين كبارًا وصغارًا، كما جعل الفضيلة والرذيلة متساويتين، وربما عُد صاحب الأولى أحمق، لا يدري كيف يسترزق.

وأضف إلى هذا الفساد العام الجهل المطبق الذي كان أصحاب العهد الحميدي يعدونه من مصلحة الحاكمين، ولا يحسبون الأمة إلا بقرةً حلوبًا يُؤخذ درها وهي تحت النِّير، وليس من نتيجة طبيعية لذاك الفساد وتلك الجهالة إلا الخلل في جميع الدوائر العسكرية والمالية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وتقطيع أسباب الألفة بين العناصر.

فإذا أرادت الأمة العثمانية أن تعرف نعمة الدستور فلتحكم على الحاكمين بأن ينفذوه بندًا بندًا، وعندئذ ترى الفرق كوجه الصبح.

•••

أما القسم الثاني أي النتائج السياسية الخارجية، فقد ذكرنا منها الأثر الذي حدث في العالم الإسلامي، وليس من الحكمة أن يُغفل العثمانيون الأثر الذي حدث أيضًا في أفكار السياسيين الأوروبيين والصحف الشبيهة بالرسمية في الغرب، فمن ذلك أن وزير خارجية فرنسا، وجريدة التان التي تنطق على الغالب بلسان وزارته، وسائر الصحف الفرنساوية الكبرى أخذت تُكبر مصالح فرنسا في سوريا وغيرها، وتقول: إن الجمهورية لا تسمح بحل مسألة آسيا إلا بالاتفاق معها، وسفير ألمانيا في الأستانة ألقى خطبة أمل فيها أن يكون مستقبل تركيا في آسيا، وذكر «أن لألمانيا مصالح عظيمة في آسيا الصغرى»، وجاءت أيام بعد وصول البلغاريين إلى جتالجه سمع فيها العثمانيون اقتراحات تمجها آذانهم إشفاقًا وتخفق منها قلوبهم فَرقًا، فكان بعضهم يقترح تحويل الأستانة إلى إمارة مستقلة، وأناس يتوقعون أن تأخذها روسيا، ثم زادت الأقاويل وتنوع التخمين بعد أن أرسلت الدول المذكرة التي حضت فيها الحكومة العثمانية على قبول شروط الصلح، وألمعت إلى خطرٍ يهدد الأستانة والبلاد العثمانية الأسيوية إذا أصرت الدولة العلية على رفض تلك الشروط.

بيدَ أن الدول العظمى رأت بعد التنافس والتنافر أن تُبقي باب المسألة الأسيوية مقفلًا فسكنت الخواطر واطمأنت القلوب في السلطنة.

•••

ومما يصح إدخاله في نتائج الحرب البلقانية أن الحكومة الألمانية لما رأت النصر يكلل هام البلقانيين، ورأت روسيا وسائر دول الاتفاق الثلاثي تشد أزرهم، قالت: إن توازن القوات الأوروبية أصبح مختلًّا بعد ما أظهرته ممالك البلقان، فقررت أن تسن قانونًا جديدًا يقضي بزيادة الجيش الألماني العامل من ٦٠٠ ألف إلى نحو ٩٠٠ ألف جندي، فما ترامى هذا الخبر إلى فرنسا حتى اضطربت من شرقها إلى الغرب وجنوبها إلى الشمال، وهبت جرائدها تلحُّ في وجوب تعزيز الجيش الفرنساوي العامل؛ لأن قوة الجيش الألماني المُعد للصدمة الأولى ستربو بعد زيادته نحو ٣٥ في المائة عن قوة الجيش الفرنساوي المعدِّ للغرض عينه، ومما زاد الفرنساويين قلقًا وتطيُّرًا أن الحالة المالية في ألمانيا لم تكن تسمح بإثقال عاتق أمتها، ولا سيما بعد أن قامت بمشروعين حربيين في سنتي ١٩١١ و١٩١٢، فتركا عجزًا مذكورًا في الميزانية العامة؛ لذلك كله لم يصدق الفرنساويون أن غرض ألمانيا الوحيد هو حفظ التوازن العسكري بعد ما أبدته الممالك البلقانية من القوة، بل خافوا أن يكون غرض ألمانيا المستور ما نُسب إلى أركان حرب الجيش الألماني من عهد قائدهم الكبير مولتكي، وهو أن تجعل ألمانيا جيشها العامل قادرًا على ضرب الجيش الفرنساوي العامل ضربة سريعة قاضية، فيخترق صفوفه من ثلاث جهات حتى يصل إلى الأنحاء التي يعبأ فيها الاحتياطي فيمزقه قبل تعبئته وحشده.

وبعد مناقشات قوية وحملات قلمية، أعادت فرنسا خدمة ثلاث السنوات في جيشها؛ لأن إعادتها تبلغ جيشها العامل إلى نحو ٧٢٠ ألف رجل.

ثم زادت روسيا جيشها من جهة أخرى وحسَّنت طريقة التعبئة وضاعفت الخطوط الحديدية الحربية في عدة أنحاء، فصار في وسعها أن تعبئ جيشًا جرارًا في عشرين يومًا أو أقل.

ثم قامت النمسا تعزز جيشها أيضًا مجاراةً لحليفتها ألمانيا وحذرًا من دول البلقان التي ظهرت أولًا في مظهر المحترِم لمشيئة روسيا والمحقق لرغباتها.

بيدَ أن الحوادث الآتية ستبرهن لنا على أن البلقانيين وخصوصًا البلغاريين ظهروا قبل فوزهم في مظهر المحترم «لكبيرة الممالك الصقلبية»، ثم أعرضوا عن مشيئتها بعد فوزهم، فقامت الحرب البلقانية الثانية بين الحلفاء أنفسهم كما سنشرحه.١
١  بعد الفراغ من طبع هذا الفصل أصدرت الحكومة العثمانية أوامرها بإصلاحات تشتمل على بعض ما جاء في الاتفاق الذي أكد رجال اللامركزية عقده وإبرامه بين مندوب الحكومة الاتحادية والمؤتمر العربي السوري الذي اجتمع في باريس، أما بقية تلك الإصلاحات فتختلف عما جاء في ذاك الاتفاق، وأهم وجوه الاختلاف؛ الاقتصار على التدريس باللغة العربية في المدارس الإعدادية والمدارس الابتدائية، مع أن المطلوب إقامة المساواة بين اللغتين العربية والتركية، وهناك بعض عبارات مبهمة تحتمل التأويل ويمكن معها التملص، فلهذا عاد الخلاف بين الحكومة واللامركزيين، فنرجو أن يكون هذا الخلاف سحابة صيف …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤