الحرب الثانية بين البلقانيين أنفسهم

أسباب نشوبها

ما أغمدت بلغاريا حسامها بعد لوله بورغاز وجتالجه وأدرنه حتى طغت وبغت وجاشت المطامع الآكلة في صدرها، وساد الحزب العسكري في عاصمتها، فضربت الكبرياء على مقلتيه غشاوة كثيفة من الغرور حتى أصبحت كل أقواله وأفعاله تدل على اعتقاده أن جيوش الصرب واليونان والجبل الأسود لم تعمل عملًا مذكورًا في الحرب الطاحنة التي قامت بين الجيش العثماني والجيوش البلقانية، مع أن الناقدين الحربيين أجمعوا على أن معركة كومانوفو كان أثرها في الجيش العثماني الغربي شبيهًا بأثر معركة لوله بورغاز في الجيش العثماني الشرقي، كما أجمعوا على أن السيادة البحرية التي كانت للأسطول اليوناني ألحقت بالدولة العلية من الأضرار ما يعادل تأثير إحدى المعارك الكبرى التي ساء فيها طالع العثمانيين؛ لأن هذا الأسطول حال دون إرسال ألوف كثيرة من الجنود السورية وغيرها إلى عاصمة الدولة في إبَّان الحرب، كما شرحنا في فصلٍ سابقٍ.

لكن البلغاريين لم ينظروا إلى ذاك كله بل أخذوا يطلبون قسمة ضئزى تهضم حقوق الصربيين واليونانيين معًا، وأول ما طلبوه أن لا يُعدَّل شيءٌ في الاتفاق المتعلق بتقسيم الأراضي بينهم وبين الصرب؛ رجاء أن يكون وادي واردار ومناستر داخلين في حصتهم، فأنكر عليهم الصربيون هذا الطمع وقالوا في اعتراضهم عليه ما جوهره: «إن الاتفاق عُقد بين حكومتي البلغار والصرب قبل الحرب، وقد تضمن أن بلغاريا لا تنكص عن إرسال قوة كبيرة من جيشها لتأييد الجيش الصربي إذا هدده خطرٌ داهمٌ من جانب النمسا، والواقع الذي قضت به الظروف أن الصرب هي التي أرسلت خمسين ألف جندي من صفوة رجالها لمساعدة البلغاريين على فتح أدرنه، بدلًا من أن تتلقى النجدات يوم اسودَّ وجه السياسة بين الصرب والنمسا، وهناك حجة أخرى لا تبقي وجهًا وجيهًا لإصرار البلغار على ذاك الاتفاق، وهو أن حكومتي صوفيا وبلغراد لم تتوقعا يوم كتابة شروطه أن الدول العظمى ستجعل ألبانيا إمارة مستقلة، وستجبر الصربيين على تركها، وستحرمهم من ثغر حربي على الأدرياتيك كما فعلت إجابةً لطلب النمسا. فلو كان في استطاعة الصرب أن تضم إليها جميع البلدان الألبانية التي فتحتها لما عارضت البلغار في إبقاء الاتفاق على حاله.»

غير أن البلغاريين أبوا أن ينزلوا عن طمعهم في مناستر وسائر ما طلبوه بحجة أن خسارتهم كانت أعظم من خسارة غيرهم، فأخذت العلاقات تتراخى يومًا فيومًا بينهم وبين البلغار، وصار كل فريق ينظر إلى الآخر بعين حمراء من الغيظ والحقد.

وكان البلغاريون يصرون من جهة أخرى على طلب سلانيك، ويدَّعون دخولها قبل اليونان ويتقاضون معها قوَله وأراضٍ أخرى من البلدان التي يعدها اليونان مهد وطنيتهم من سالف الزمان، وصرنا نسمع بين حين وآخر أنباء مناوشات بين الجنود اليونانية والجنود البلغارية على الحدود الوقتية التي عينها الفريقان بعد الحرب الأولى، وحدث أن الجنود البلغارية اجتازت غير مرة شقة حرام كانت بين الجيشين هناك، فأوغر البلغار صدور اليونانيين كما أوغروا صدور الصربيين عليهم، إلا أن اليونانيين كانوا يفضلون التحكيم السياسي على تحكيم السيف؛ لأن الأخبار التي وردت أولًا عليهم كانت تدل على أن الجيش البلغاري قوي هائل، كما روى ولي عهد اليونان لمراسل التان الحربي.

ولكن تهديد البلغار لليونان صار يشتد يومًا فيومًا حتى اقتنعت الحكومة اليونانية والحكومة الصربية بأن الاحتراس والاحتياط واجبان، فعقدتا محالفة حربية في شهر مايو سنة ١٩١٣، وأصدرتا الأوامر إلى جيوشهما بالوقوف على قدم الحذر والأهبة.

وكانت الدول ولا سيما روسيا تحاول في خلال تلك الظروف أن تمنع نشوب الحرب بين الحلفاء، وتحضهم على قبول التحكيم، فوافقوا على الرضا به كقاعدة، ولكن بلغاريا أبت إلا أن يكون الاتفاق السابق بينها وبين الصرب أساسًا للتحكيم، وطلبت حكومة الصرب أساسًا آخر له، ولما رأى قيصر الروس هذا التراوح بين الصقالبة، ورأى من وجه أخص أن بلغاريا التي أظهرت إبان الحرب الأولى أنها تحترم إرادة روسيا أخذت تتذبذب وتجنح إلى النمسا، ظهرت دلائل الغضب على روسيا من أقوالها الرسمية والشبيهة بالرسمية، وأرسل القيصر إلى ملكي الصرب والبلغار كتابًا قال فيه:

لما بلغني أن رؤساء حكومات البلقان سيجتمعون في سلانيك وأنه يمكن اجتماعهم أيضًا في بطرسبرج لحل المشاكل بين دولهم، فرحت فرحًا شديدًا لأني حسبت هذا المسعى دليلًا على رغبة الأمم البلقانية في الاتفاق على وجه حِبي، وتوثيق روابط التحالف الذي أسفر حتى اليوم عن أجمل النتائج.

ولكني علمت مع الحزن الشديد أن ذاك العزم لم يدخل حتى الآن سبيل التنفيذ، وأن الدول البلقانية تستعد على ما يظهر لإسعار حرب «أخوية»، حرب تُسوِّد وجه المجد الذي أحرزوه بالتضامن.

فبناءً على الحق الذي لي والواجب الذي عليَّ أوجه الكلام إلى جلالتكم في هذا الوقت العصيب، فإن الأمتين الصربية والبلغارية فوضتا إلى روسيا في معاهدتهما أن تحل ما يمكن حدوثه بينهما من المشاكل عند تنفيذ تلك المعاهدة، فأطلب إلى جلالتكم أن تحافظوا على عهدكم وأن تُنيطوا بروسيا حل الخلاف القائم بين بلغاريا وصربيا.

ثم ختم القيصر كتابه بأن روسيا تحفظ لنفسها حرية العمل، وأن الأمة التي تبدأ بإعلان الحرب على الأخرى تكون مسئولة أمام الصقالبة …

على أن هذا الكتاب القيصري برغم ما ينطوي عليه من التهديد والسخط لم يُجد نفعًا ولم يحبس طمعًا بل أحدث استياءً في نفس النمسا؛ لأنها لا تريد أن تسمع تلك اللهجة من القيصر، وفي نفس الحزب البلغاري المعارض للنفوذ الروسي (وهو المعروف بحزب ستمبولوف). ولما قوي تيار الأفكار الحربية في صوفيا سقطت وزارة جيشوف الذي كان ميَّالًا إلى السلم، وأصبحت الحرب لا مناص منها ولا مندوحة عنها، ولا سيما بعد أن تفتحت الجروح القديمة وتنبهت الضغائن الكامنة على إثر الحوادث، فتذكر الصربيون فشلهم في الحرب التي نشبت بينهم وبين البلغار منذ أعوام، وتذكر اليونانيون الفظائع التي أحدثتها العصابات البلغارية في القرى اليونانية بمقدونيا سحابة عشر سنوات، فهاجتهم كما هاجت أعمال العصابات اليونانية في القرى البلغارية دماء البلغاريين.

فالطمع والحقد القديم كانا إذن يدفعان البلقانيين إلى الحرب، وكفى بهما عاملين عظيمين.

(١) القتال بين البلغاريين والصربيين

(١-١) غدر البلغاريين١

أدخل الغرور على البلغاريين أن عددًا قليلًا من جنودهم يمكنه أن يقهر عددًا جمًّا من الصربيين واليونانيين، وقام في أذهانهم أن ساعة تأليف بلغاريا الكبرى أصبحت قريبة، فأصدر قوادهم الأوامر إلى الجنود البلغارية المرابطة أمام الجنود الصربية بأن تتقدم منذ ٣٠ يونيو، فزحفت على طول خطها وطردت مقدمات الجيش الصربي واحتلت مواقعها، وأجمع المراسلون الذين يعتدُّ بأقوالهم على أن وزراء البلغار وكبار قوادهم ظنوا أن طرد الصربيين من مواقعهم يجعل بين يدي الحكومة البلغارية ضمانات تنفعها في مؤتمر بطرسبرج إن تم عقده، كما ظنوا أن هذا العمل سهل على الجيش الذي فتح أدرنه.

غير أن الصربيين لم يكونوا غافلين بل أرصدوا قوة عظيمة من جيشهم وراء الخط الأول للقتال، وما بلغهم اعتداء البلغاريين في ليل ٢٩-٣٠ يونيو حتى أرسلوا النجدات القوية إلى جنودهم، وما جاء ظهر أول يوليو حتى استردوا جميع المواقع التي احتلها البلغاريون، إلا ما فقدوه من جهة الميمنة فإن الجنود البلغارية بقيت ناجحة هناك، ولكن هذا النجاح الجزئي لم يعوض البلغار ما فقدوه على طول الخط ولم يلبثوا أن شعروا بحرج موقفهم، ثم تقدم الجيش الصربي الأول واجتاز زيتوفسكا في ٣ يوليو، ثم احتل كوشانه في ٥ منه، وقسم جيش الجنرال كوفاتشيف البلغاري قسمين، ولما تم هذا النجاح للجيش الصربي الأول التفت القائد العام إلى تحسين حالة الجيش الصربي الثالث بدلًا من أن يواصل الزحف إلى حدود البلغار ويحصرها مع الجيش اليوناني، فانتفع البلغاريون من هذا الاحتراس الذي أبداه القائد الصربي العام، وتقهقروا من وادي سترومجه (ستروميتزا)، وقد انتقد بعض الكُتَّاب الحربيين على القائد المشار إليه أنه أضاع فرصتين كان يمكنه فيهما أن يفتك بالبلغار لو واصل الزحف بعد النصر.

ولكن مكاتب التان يعتذر عنه بأن هناك سببين حملاه على ذاك الاحتراس؛ أولهما: أن إرسال معظم قواته للتلاحم مع البلغاريين في جهة واحدة يجعل من الصعب إرسال النجدات إلى النقط الضعيفة عند اقتضاء الحال، والثاني: أن الحكومة الرومانية قامت من جهة أخرى تعبئ جيشها لتقذف به على بلغاريا، ثم أن الجيش العثماني أخذ من جهة ثالثة يستعد للزحف من بولاير وجتالجه إلى تراقيه كما سترى، واليونان كانوا يزحفون إلى جانب الجيش الصربي؛ أمام هذا الموقف الصعب الذي وقعت فيه بلغاريا لم يجد القائد الصربي حاجة ماسة إلى الإسراع وإلحاق الخسائر بجيشه، ولا سيما أن المعارك الأولى التي جرت كانت من أشد الوقعات هولًا وفتكًا؛ خسر فيها الصربيون نحو ثلاثين ألف رجل بين قتيل وجريح، وخسر البلغاريون أكثر من هذا العدد. فقال القائد في نفسه: إن الزمان يشتغل لنا، ثم أخذ يتحصن أمام البلغاريين على مسافة طويلة بدلًا من أن يهاجمهم، وصار البلغاريون يتحصنون أيضًا أمام الصربيين وتمكنوا من الوقوف عند كستنديل.

وبينما كان الصربيون على تلك الحال ينتظرون وصول اليونان إلى الجهات التي على مستوى مواقعهم التي تحصنوا فيها، تمكنت يد السياسة من عقد الهدنة التي تلتها معاهدة الصلح، فبقي الجيش الصربي والاثنا عشر ألفًا من رجال الجبل الأسود الذين كانوا معه محتفظين بمواقعهم حتى صدر أمرٌ بصرف الجيش البلغاري.

ولما رأى البلغار فشلهم واعتقاد الناس أنهم البادئون بالشر حاولوا أن ينفوا عنهم تهمة الاعتداء، ولكن الصربيين نشروا أوامر صادرة من قوادهم بالهجوم على الجيش الصربي وعينوا المكان والزمان اللذين كتبت فيهما تلك الأوامر، وإليك ما نشرته إدارة المطبوعات الصربية في هذا الشأن:
تشتمل أوراق الآلاي البلغاري الخامس والثلاثين التي أخذتها الجنود الصربية على الصورة الأصلية للأمر الصادر من القائد البلغاري إلى الآلاي الثاني من الفرقة الرابعة، وهي تدل دلالة واضحة على أن البلغاريين عقدوا العزم على مفاجأة الجيش الصربي بجيشهم الرابع كله وهو مؤلف من مائة طابور ومائتي مدفع تحت إمرة الجنرال كوفاتشيف وزير الحربية والقائد العام، ونحن نستخلص من ذاك الأمر العبارات الآتية بنصها:
  • أولًا: غدًا تبتدئ الأعمال الحربية بيننا وبين الصربيين من جهة وبيننا وبين اليونانيين من جهة أخرى ويمتد خط الصربيين أمام آلايكم على طول نهر زلتوفو.
  • ثانيًا: يُبدأ بالهجوم على الأعداء غدًا الساعة الثالثة بعد نصف الليل.
  • ثالثًا: يجب على قسمي الآلاي أن يحضرا الساعة الثالثة بعد نصف الليل إلى جهة نهر زلتوفو بغير أن يُحدثا أقل ضجة وأن يهجما بغتةً على مقدمات الأعداء ويصلا إلى المواقع التي تُعين لهما.

فإذا فكر المرء في الوقت اللازم لوضع خطة هجومية كهذه، ولكتابة الأوامر وإصدارها إلى كبار الضباط، لا يبقى عنده ريب في أن البلغاريين كانوا يضمرون الشر للصربيين واليونانيين وأنهم أخذوا يستعدون من قبلُ، وروت إحدى الجرائد أن الحكومة الصربية صورت بالفوتوغراف شكل ذاك الأمر حتى لا تُبقي مجالًا لتنصُّل البلغاريين من ذنب الاعتداء على الحلفاء.

(٢) القتال بين البلغاريين واليونان

بدأ البلغاريون باعتدائهم على الجنود اليونانية يوم اعتدائهم على الصربيين، فلما أيقن الملك قسطنطين والموسيو فنزيلوس كبير وزرائه أن الحرب واقعة لا مناص منها اتفقا على إصدار الأمر بالزحف ثم أمر الملك بنزع السلاح من ١٢٠٠ جندي بلغاري كانوا في مدينة سلانيك، فسلموا بعد قتال بضع ساعات، وكانت الحرب لم تُعلن رسميًّا حتى ذاك اليوم بين اليونان والبلغار، فاعترضت الحكومة البلغارية على إيقاع الجيش اليوناني في سلانيك بتلك الحامية الصغيرة، والصحيح أن الحرب كانت ناشبةً فعلًا لما سبق من اعتداء البلغاريين على الشقة الحرام.

وما كان اليوم التاسع والعشرون من شهر يونيو حتى هب البلغار إلى الهجوم الشديد من جهة اليونان بينما كانوا يهاجمون الصرب، على أنهم ما لبثوا أن تقهقروا أمام الجيش اليوناني الذي زحف بقيادة الملك قسطنطين كما تقهقروا أمام الصربيين للأسباب التي سنشرحها في الفصل التالي. وأول معركة كبيرة طاحنة حدثت بين الجيشين هي معركة قلقيش (أو كيلكيس) فإن مشاة اليونان حملوا حملات هائلة ومعهم جيش آخر من الحقد على البلغاريين، وكانت هجمتهم٢ على مسافة ٨٠٠ متر تحت نيران البلغاريين الذين كانوا محصنين ممتنعين حتى زحزحوهم عن مواقعهم وأعملوا الحراب في ظهورهم، وقد بلغت خسارة اليونان في تلك المعركة على روايتهم الرسمية نحو عشرة آلاف رجل؛ أي نحو الخسارة التي أصابتهم في مقاتلة العثمانيين في جميع المعارك منذ ١٨ أكتوبر سنة ١٩١٢ إلى أن عُقد مؤتمر لندن الثاني.

وبعد هذا النصر المبين صرف الملك قسطنطين همه إلى مطاردة البلغاريين حتى لا يُبقي لهم وقتًا طويلًا لاستئناف معركة كبيرة أخرى، وحتى يتمكن من وصل جيشه بالجيش الصربي قبل دخول الأرض البلغارية الأصلية، ولم يكن أمامه إلا طريق واحد صالح وهو وادي ستروما من دمير حصار إلى جمعه، فأخذ يتقدم والبلغاريون يتقهقرون أمامه وينسفون الجسور بعد أن يجتازوها فتجددها فرق الهندسة اليونانية بعد المتاعب العظيمة.

ولما وصلت الجنود اليونانية إلى مضيق قرسنا تفاقمت عليها المصاعب واضطر المشاة إلى الصعود على قمم الجبال التي على جانبي المضيق ليضطروا البلغاريين إلى تركها. فأفلحوا بعد احتمال العناء الكبير من وعورة الطريق ونيران البلغار. وليس يهم القارئ أن نصف كل معركة ومناوشة، فحسبنا أن نقول له على وجه الجملة إن اليونانيين قاتلوا أعداءهم أكثر من عشرين دفعة في مدة زحفهم من سلانيك إلى جمعه بالا وهناك نشبت معركة عظيمة خسر فيها الفريقان خسارة كبيرة، وقرر الملحقون العسكريون أن أحد جناحي الجيش اليوناني أصيب فيها بالفشل وأن الهدنة التي طلبتها حينئذ رومانيا جاءته في وقتها، وقال الموسيو رينيه بيو بعد عقد الصلح في بوخارست: «يمكننا اليوم أن نذكر أمرًا لم يكن في وسعنا أن نبوح به في وقته؛ وهو أن الملك قسطنطين لم يكن تحت إمرته إلا خمسة وثمانون ألف رجل من المشاة، وكانت مهمته صعبة محفوفة بالخطر؛ لأنه كان يريد أن يمنع عدوه من ضم أطرافه وجمع قواه وأن يضربه ويقهره قبل أن يستريح فاضطر للوصول إلى هذا الغرض أن يطلب من جنوده أكبر جهد ينهك القوى. وكان معظم فرقه بلا احتياطي يؤيده عند الضرورة، ولشدة تعب الجيش اليوناني عزم أركان حربه على الوقوف مدة من الزمن لتتمكن البطاريات من ضم أطرافها ويذوق المشاة راحة لم يكن بدٌّ منها ولا غنى عنها؛ فجاءتهم الهدنة بها. وأجمعت الروايات اليونانية نفسها على أن خسارة اليونان كلها بلغت أكثر من أربعين ألف رجل بين قتيل وجريح، وأن أقل من ربع تلك الخسارة الكبرى لحقت بالجيش اليوناني في الحرب الأولى وثلاثة الأرباع الباقية في محاربتهم للبلغاريين.»

وأجمع المراسلون الحربيون على أن اندفاع اليونان وتفانيهم في قتال البلغار كان من جملة الأسباب الكبرى في زيادة خسائرهم إلى ذاك الحد؛ فهم من قديم الزمان يكرهون البلغاري وكثيرون منهم يفضلون التركي عليه، ثم اشتد عندهم هذا الشعور بعد الفظائع التي ارتكبتها الجنود البلغارية أيام فشلها ونكوصها. وكان ولاة الأمور وفي مقدمتهم الملك قسطنطين يفرغون جهدًا عظيمًا في إثارة خواطرهم وتوطيد قوتهم المعنوية، وهاك أنموذجًا من خطب صاحب التاج اليوناني، وهو ما قاله قبل معركة قلقيش الكبرى:

لا يفوتني أنه منذ عهد الملك كودوروس إلى عهد الملك باليولوغ لم يمت من ملوك اليونان الذين تولوا قيادة الجيوش ملك واحد على سريره وتحت سقف قصره، واعلموا أن المعركة التي سنخوض معمعانها غدًا لهي من أعظم المعارك شأنًا وخطرًا، فأنا أفكر والقلب حزين في أني لن أرى بعدها عددًا منكم، وليس في وسعي أن أصافح كل فرد على حدة، فأكتفي بأن أقول أيها الضباط كونوا على الدوام في مقدمة جنودكم (وهنا التفت إلى ولي العهد وقال له) وأنت كن دائمًا في مقدمة فرقتك.

فأجابه كثير من الضباط هاتفين «إلى الملتقى في العالم الثاني.» وقد دل الإحصاء أخيرًا على أن عدد القتلى من الضباط كان كبيرًا.

وأكد لنا وجيهٌ يوناني أن ضابطًا من أنسبائه كتب إليه من ساحة الحرب أن الموسيو فنزيلوس رئيس الوزارة اليونانية اتفق مع ملك اليونان على توزيع كراسة جامعة لأهم ما ارتكبه البلغاريون في القرى اليونانية من هتك الأعراض وإحراق البيوت والفتك بالأطفال والأبرياء، فكان لهذا العمل تأثير ساحر في نفوس الجنود وغلت صدورهم غلي المرجل حقدًا وسخطًا على البلغاريين حتى إن عشرات منهم انتزعوا بأسنانهم خدود بعض الجنود البلغارية في إبان القتال.

أما خسارة البلغار في قتالهم للصرب واليونان معًا فتربو على ستين ألف رجل. فإذا قدرنا أن خسارتهم في محاربة العثمانيين بلغت تسعين ألفًا في جميع المعارك كان مجموع خسائرهم في الحربين مائة وخمسين ألف رجل لم يذهب منهم أحد إلى ساحة القتال إلا بعد أن شهد له طبيب حكومته بتمام الصحة.

جرى كل ما تقدم في شهر واحد؛ لأن الحرب البلقانية الثانية كانت سريعة مدهشة فلم يكن أحد أن الجيش البلغاري يذوب ذوبان الشمع أمام نيران عدوه، كما أنه لم يكن يظن في الحرب الأولى — إلا القليل — أن الجيش العثماني سيفشل.

(٣) أسباب فشل البلغار في الحرب الثانية

دُهش العالم من سرعة فشل الجيش البلغاري أمام الصربيين واليونانيين بعد أن ترامت شهرته وأكبر الناس قوته. ولكن من يرجع إلى أقوال مراسلي التان الحربيين في الجانبين، ويطلع على الأخبار التي ترد تباعًا، تزول دهشته ويعلم أن الأسباب التي أدت إلى فشل الجيش العثماني الشهير بصبره وعزمه وشجاعته هي التي أفضت إلى فشل الجيش البلغاري.

ورأس تلك الأسباب أن القواد البلغاريين بالغوا كما قدمنا في احتقارهم للصربيين واليونانيين وتوهمهم أن الغلبة مضمونة لدولتهم. ومما يُروى أن المعتمد البلغاري في سلانيك كان يقول ويردد: «إن الجيش اليوناني عدم …» فنشأ عن ذاك الاحتقار أن البلغار لم يأخذوا الأهبة التامة للحرب الثانية، بل أهملوا أمورهم كما أهملها العثمانيون قبل الحرب الأولى.

ومن أسباب فشلهم أن قوادهم وزعوا قواتهم على مسافات طويلة وظنوا أن الاستيلاء على المواقع التي يطمحون إليها سهلٌ هين لشدة غلوهم في احتقار أعدائهم، فكان لفريق القوات البلغارية وطول خطوطها الحربية شؤمًا عليها، فنالها بسببه ما نال الجنود العثمانية التي هاجمت في تراقيه بأمر ناظم باشا قبل أن يتم حشدها ويتم لها العدد والعِدد.

ومنها أن جانبًا كبيرًا من زهرة ضباط البلغار قُتلوا في معارك قرق كليسا ولوله بورغاز وجتالجه، فأصبحوا كالعثمانيين وقت إعلان الحرب الأولى محتاجين أشد احتياج إلى الضباط، ثم نشبت الحرب الثانية وهم على تلك الحال.

ومنها أنهم لم يستعدوا استعدادًا كافيًا لتموين جنودهم قبل زحفها بل كانت إدارتهم العسكرية مختلة كالإدارة العثمانية في أكتوبر سنة ١٩١٢، فلم تأتهم الميرة والذخيرة على النظام الواجب في الحروب الحديثة. وإذا كان جيشهم لم يصبه من الجوع ما أصاب الجيش العثماني على وجه عام، فإن الفضل في ذلك يرجع إلى سرعة نكوصهم وقصر مدة الحرب التي لم تبقَ إلا شهرًا واحدًا.

ومنها أن عددًا كبيرًا من الجنود النظامية المدربة قُتل في محاربة العثمانيين وقام مقامه كثيرٌ من الرديف غير المدرب، وهو لا يصلح للهجوم كما قرر الاختصاصيون.

(٤) فظائع البلغاريين في الحرب الثانية

غَلَت أحقاد البلغاريين في صدورهم من جراء ذاك الفشل الذي أصابهم، فتفجرت غيظًا على أهالي القرى اليونانية، وإذا صدَّقنا جميع الأنباء والشروح التي نشرتها جرائد أوروبا وغيرها، فإن الوحوش الضارية التي يقتلها الجوع لأقل فتكًا وتوحشًا وفظاعةً من البلغاريين، وإليك ما ننقله أولًا عن الموسيو جيسن الكاتب الدينمركي الذي دعاه ملك اليونان للحضور مع الموسيو ألبير ترامبان مراسل الدايلي تلغراف إلى قرية نيجريتا، ليبصرا الفظائع بأعينهما ويأخذا رسوم الضحايا بالفوتوغراف. فإنه بعد التحقيق كتب إلى عدة جرائد ومنها جريدة التان رسالة أكد فيها حدوث الفظائع، وذكر أنه رأى بعينه الجثث العديدة مطروحة على أنقاض نيجريتا، وأن نحو ١٤٠٠ بيت ذهبت طعامًا للنيران التي أضرمتها البلغار، وأن رائحة جثث البشر والحيوانات كانت لا تزال متصاعدة يوم وصوله.

ثم روى أنه سأل رجلًا اسمه جورجيوس فلانشوف عما جرى فقال له هذا الرجل بعد أن أقسم بحياة أولاده إنه لا يقول إلا الصدق ولا ينطق بغير الحق: «هربت مع الهاربين لما علمت أن الجنود البلغارية اجتازت الشقة الحرام على بضعة كيلومترات جنوبي المدينة، ولكن هذه الجنود تمكنت من القبض عليَّ وعلى أحد رفاقي ورمت بنا في السجن حيث لقينا رجلًا ثالثًا، فلبثنا في السجن إلى يوم الاثنين ولم يعطنا البلغاريون شيئًا من المأكل والمشرب إلا دفعة واحدة سحابة المدة التي قضيناها، ولما كان يوم الثلاثاء أبصرت من النافذة أن البلغاريين يستعدون لإحراق المنزل الذي كنا فيه، وكان الضباط يصدرون الأوامر للجنود بجلب البترول والهشيم، ثم دخل علينا ضابط وبيده مسدس وتهددنا بالقتل إذا كنا لا ندفع إليه ما حوت جيوبنا، فدفعت إليه اثني عشر دراخمًا، ودفع إليه رفيقي ستة، وقدم الثالث الذي كان معنا اثنين ونصفًا. وبعد خروجه صدر الأمر إلى الجنود بأن تطلق علينا الرصاص من النوافذ، فأطلقوا خمس رصاصات فقتلوا أحدنا وجرحوا الثاني، أما أنا فلم أصب بضرر لأني كنت مختبئًا تحت النافذة. وبعد قليل دخلت الجنود البلغارية فوجدت أن اثنين منا ما برحا في قيد الحياة، فأنحت علينا طعنًا بالحراب حتى قتلت رفيقي وأغمى عليَّ بعد ثلاث طعنات في الفخذ اليمنى. ثم لما عاد إليَّ صوابي شعرت باحتراق في فخذي، فنظرت فإذا الجنود البلغارية قد صبت علينا بترولًا وألهبت النار فأطفأتُها بيدي — وهاك آثار الحريق فيها — ثم فررت من الباب؛ لأن البلغاريين تركوه مفتوحًا، ولجأت إلى اصطبل لم يتناوله لسان النيران، ومن هناك كنت أرى الجنود البلغارية تشعل النار في كل جهة من المدينة، وإني لعلى تلك الحال إذا بانفجارٍ عظيم حدث في المنزل المحترق فهلعت وهربت بالقسر عن جروحي، فرآني بعض الجنود وأطلقوا عليَّ الرصاص فأخطأوني، وما وصلت إلى الربوة القائمة جنوبي المدينة حتى وقعت لا أُبدي حراكًا، ولما أفقت من غيبوبتي وجدتني بين أيدي الجنود اليونانية وهم يعتنون بي كما يعتني الأخ بأخيه. ثم قال بعد هنيهة: «إني فقدت كل ما كنت أملك، وأضعت امرأتي وأولادي، ورأيت جنود البلغار تلطخ عرض أمي بالعار والشنار.»

فبكي الحاضرون لقصته، ثم روى المكاتب فوق ما تقدم أن الذي رآه مع زميله يؤيد رواية جورجيوس المذكور، وأنه زار الغرفة التي سُجن فيها هذا البائس فوجد على أرضها بقايا جثث بشرية. وقدَّر محافظ المدينة أن الذين هلكوا إحراقًا وقتلًا من النساء والأطفال والرجال يبلغون نحو ٤٧٠ نفسًا.

واتصل بجريدة التان أن الأسقف جوستاف ميشيل رأى بعينه كثيرًا من الفظائع التي ارتكبها البلغاريون، ومما رواه أن جماعة منهم دخلوا قرية كوركوت برئاسة رجل اسمه دونسيوف، فجمعوا الرجال الذين كانوا فيها وأدخلوهم إلى المسجد وأغلقوا عليهم الأبواب، ثم جاءوا بالنسوة وربطوهن حول المسجد ليُشاهدن بأعينهن ما يجري، وبعد قليل رموا بثلاث قذائف من الديناميت فقتلت كثيرًا من الرجال على أن المسجد لم يتهدم، فلما رأوا أنه ما زال قائمًا أضرموا فيه النيران فأحرقوا نحو ٧٠٠ رجل، وكانوا كلما رأوا أحدًا يحاول الفرار رموه بالرصاص.

ونشرت الفيغارو في ٢٤ يوليو بتوقيع الموسيو جورج بودرون أن هذا المكاتب المعروف والموسيو لابورت مكاتب الألوستراسيون والموسيو لون الذي رافق الجيش اليوناني ومعه قرينته، رأوا شمالي قرية ليفونوفو جثث عدد من أعيان اليونان الذين ساقهم البلغاريون كرهائن من مدينة سرس يوم تقهقرهم عنها مدحورين أمام الجيش اليوناني، فأخذوا الرسوم الفوتوغرافية لتلك الجثث ونشرتها جريدة الألوستراسيون بعد أيام.

وكتب موظف روسي — والروس لا يُتهمون بالتحامل على البلغاريين — فصلًا طويلًا شرح فيه ما سمعه من الأسرى وغيرهم عن فظائع البلغاريين التي يحمى لها أنف أهل النخوة، وتُنزِل مرتكبيها إلى درك الوحوش الضارية.

وأكدت الجرائد اليونانية أن بعض رجال العصابات البلغارية كانوا يقطعون أصابع النساء وآذانهن ليلبسوا الحلي منها، وإن بعض الأصابع البشرية وجدت في جيوبهم مع خواتمها.

وأرسل الموسيو بييرلوتي إلى بعض جرائد لندرا الشهيرة مقالة على أثر تحقيق أجراه بنفسه قال فيها: «إني طفت في جميع أنحاء تراقيه فرأيت أن الفظائع الوحشية التي ارتكبها البلغاريون تفوق كل ما تصورته وتوقعته، فإن تراقيه كلها خضبت بالدماء، وما وقع نظري فيها إلا على جثث أو غربان أو أطلال تدل على القرى التي كانت هناك. وقال لي أناس من الذين نجوا في هالسان: إن البلغاريين اضطروا أسرى الأتراك إلى هدم أعمدة الجوامع بأيديهم وأنذروهم بالقتل طعنًا بالحراب إذا ترددوا في تنفيذ أمرهم، وكانوا يصعدون بضحاياهم إلى أعلى المآذن ويرتكبون معهم فظائع لا يمكن تصديقها، ولقد رأيت بعيني آبارًا مملوءة بجثث النساء والأطفال.»

ثم روى الموسيو لوتي أن البلغاريين كانوا ينوون أن يذبحوا جميع المسلمين في أدرنه، وأن يأمروا الأرمن بذبح اليونانيين، وكان من جملة فظائعهم أنهم قطعوا ذراعي رشيد بك نجل فؤاد باشا المصري وفقأوا عينه.

ولو أردنا أن ننشر لقراء هذا الكتاب جميع ما وقفنا عليه من الرسائل والفصول في وصف الفظائع البلغارية لاحتجنا إلى مجلَّدٍ كبير؛ لأنهم كانوا في الحرب الثانية أولئك الضواري الذين رأيناهم في الحرب الأولى. ولكثرة ما نشره المراسلون من صور الفظائع ألَّفت الحكومة الفرنساوية وفدًا لتحقيق ما نُسب إليهم فزار القرى والبلاد التي وقعت فيها الفظائع وشهد الخراب وذوي العاهات والألوف العديدة من البيوت المحرقة، وقال أحد أعضاء هذا الوفد أن الجنود البلغارية المنظمة ارتكبت من الفظائع مثل ما اقترفته العصابات.

أما الحكومة البلغارية فإنها تنفي عن جيشها تلك الوصمة، ولكننا لم نجد كاتبًا حربيًّا أو واحدًا من المحققين يؤيد قولها، وكل ما هناك أن بعض الكُتاب يرى شيئًا من الغلو فيما يعزى إلى البلغار، على أننا إذا فرضنا أن ثلاثة أرباع ما نسب إليهم تخرُّص وتلفيق، فإن الباقي يكفي لتسويد صحيفتهم التاريخية، واستهجان غريزتهم الوحشية.٣
١  بعد مطالعة ما حققه مراسل التان الحربي الموسيو ريجنالد كان وغيره.
٢  عن الموسيو رينيه بيو مراسل التان الحربي.
٣  أما اليونانيون والصربيون فلم نقرأ أن جنودهم المنظمة ارتكبت أمثال تلك الفظائع التي يندى لها جبين الإنسانية خجلًا، بعكس العصابات اليونانية فإنها كانت من «طراز» البلغار القساة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤