زحف الجيش الروماني إلى بلغاريا

تقدم أن رومانيا طلبت من بلغاريا مكافأة لها على التزامها الحياد مدة الحرب الأولى بين العثمانيين والبلقانيين، فأبت بلغاريا أن تجيبها إلى طلبها وتراخت العلاقات بينهما حتى خيف من الحرب، ولكنها لم تنشب حينئذ لسوء طالع الدولة العلية؛ لأن الدول وفي مقدمتها روسيا ألحت على رومانيا في وجوب قبول التحكيم فقبلته مُكرهة، واجتمع مجلس دولي في بطرسبرج فحكم باعطاء مدينة سلستريا لرومانيا.

على أن هذا الحكم لم يُرضِ الحكومة الرومانية؛ لأنها كانت تطمع في شطر كبير من دوبروجا حيث يقيم عدد كبير من الرومانيين والعثمانيين.

ولما عبس وجه السياسة بين بلغاريا وبين الصرب واليونان وأخذت تتوالى بين الفريقين حوادث العدوان، أبلغت رومانيا حكومة البلغار أنها لا تلزم جانب الحياد إذا نشبت حربٌ ثانية في البلقان وهكذا كان. فإن الحكومة الرومانية أمرت بتعبئة جيشها بعد قيام الحرب، وأرسلت بلاغًا إلى حكومة البلغار ذكَّرتها فيه بالبلاغ الأول وسكوت الحكومة البلغارية عليه، وانتقدت هجوم الجنود البلغارية على الصربيين واليونانيين قبل إعلان الحرب، وختمت بإعلانها أن الأمر صدر إلى الجيش الروماني باجتياز حدود البلغار.

فلما رأت الحكومة البلغارية أن جيشها مدحور أمام الصربيين واليونانيين وأن الجيش الروماني الذي يمكن إبلاغه إلى ٦٠٠ ألف رجل عمد إلى دخول أرضها، وأن العثمانيين كانوا وقتئذ زاحفين إلى تراقيه، تولاها شيءٌ من الذهول واليأس فأكثرت من الاستغاثة بالقيصر، وكتب الملك فردينان إلى الملك كارلو في طلب المعونة، والتمست ملكة البلغار من ملكة رومانيا أن تتوسط لأمتها.

غير أن الجيش الروماني بقي زاحفًا حتى اقترب من صوفيا عاصمة بلغاريا وضيق عليها المنافذ، فأصبح البلغاريون محصورين من جميع الأنحاء، فالصربيون والجبليون من جهة، واليونانيون من جهة، والرومانيون يحتلون طريق عاصمتهم، والعثمانيون يطوون بلاد تراقيه ويرفعون فيها الراية العثمانية بدلًا من الراية البلغارية.

فلما بلغ الضيق بالبلغار إلى ذاك الحد تركوا العناد والخيلاء، ثم اشتد إلحاح الدول على المنصورين بوجوب المفاوضة في شأن الصلح، ولانت رومانيا بعض اللين فاقترحت تقرير هدنة للمفاوضة الابتدائية، فقبلتها حكومات الصرب والجبل الأسود واليونان، وقد أكدت رومانيا التي كانت صاحبة الكلمة الأولى والقدح المعلَّى أنها لا تريد سحق بلغاريا بل هي ترمي إلى غرضين؛ أولهما: تعديل حدودها كما يجب لمصلحتها، والثاني: حفظ التوازن بين قوات الدول البلقانية. ولا غرو فإن رومانيا لا يمكنها أن تنام ناعمة البال إذا كانت ترى بجانبها بلغاريا قوية طامعة مبغضة.

(١) معاهدة الصلح في بوخارست

ما تقرر عقد الهدنة عملًا برغبة الدول الكبرى ورومانيا، حتى أخذ مندوبو المتحاربين يفدون إلى العاصمة الرومانية، فوصل مندوبو البلغار في ٢٧ يوليو١ وقابلوا رئيس الوزارة الرومانية، ثم قدم مندوبو الصرب واليونان والجبل الأسود في ٢٩ منه، وقابلوا رئيس وزارة رومانيا أيضًا، ونحو الساعة الرابعة بعد ظهر ٣٠ يوليو عُقدت الجلسة التمهيدية لتقديم المندوبين بعضهم لبعض، فألقى الرئيس الروماني خطبة وجيزة أفصح بها عن أمله في نجاح المؤتمر، وإبرام معاهدة مبنية على التوازن العدل، ثم اقترح «لمصلحة الإنسانية» عقد هدنة لا تزيد مدتها عن خمسة أيام، فوقف الموسيو فنزيلوس رئيس الوزارة اليونانية وكبير مندوبي اليونان، فشكر بالأصالة عن نفسه والنيابة عن زملائه مندوبي المتحالفين ما رأوه من حسن الاستقبال وإكرام الوفادة في رومانيا، وتمنى نجاح المؤتمر وإبرام اتفاق مبني على «التوازن العدل» (أعاد كلمة رئيس الوزارة الرومانية بحروفها)، ثم وافق على هدنة خمسة أيام، وتلاه الموسيو تونتشيف المندوب البلغاري الأول وقال: إن مندوبي بلغاريا قدموا وهم يرغبون رغبة خالصة في عقد الصلح وأمل أن يتم عقده بين الخصمين على قاعدة ثابتة راسخة.

ولما مضت خمسة أيام ولم يتم الاتفاق بين المندوبين على تحديد الأراضي التي ستكون نصيب كل دولة بلقانية من تركيا أوروبا، طلب رئيس الوزارة الرومانية تجديد الهدنة ثلاثة أيام، وكانت مسألة ثغر قَوَلَه أهم العقبات، فدولة اليونان كانت تريدها بدعوى أن معظم أهلها من اليونان، وبلغاريا كانت تصر على طلبها بحجة أنها لازمة لنجاحها الاقتصادي، وكانت النمسا وروسيا تؤيدان بلغاريا، وفرنسا وألمانيا تميلان إلى إدخالها في حصة اليونان، وقامت بين الجرائد الفرنساوية والجرائد الروسية مناقشة في هذا الموضوع، حتى خُيِّل لكثيرين أن قوَله ستضعف أساس المحالفة الروسية الفرنساوية، وبعد مدٍّ وجزرٍ وافق مندوبو البلغار على إعطاء قوَله لليونان، ولا سيما بعد ما أفهمهم الموسيو ماجورسكو أن توقيع المعاهدة أمر واجب في أقرب وقت، وإلا اضطرت الحكومة الرومانية إلى إصدار الأمر إلى جيشها بدخول صوفيا.

ولقد ظهر أن مندوبي البلغار كانوا يحاولون أن يحدثوا شقاقًا بين مندوبي المتحالفين ورومانيا، وظنوا أن التعجيل بموافقتهم على مطالب رومانيا يُسهل لهم سبيل فصلها عن أعدائهم، فقد روى مندوب التان الخاص الذي نعتمد عليه في هذا التفصيل أنهم لم يكتفوا بمحاولة فصل رومانيا عن أعدائهم بل أرادوا خدع مندوبي هؤلاء الأعداء أنفسهم. قال: إن الموسيو تونتشيف كبير مندوبي البلغار زار الموسيو باشيتش كبير مندوبي الصرب، والموسيو فنزيلوس كبير مندوبي اليونان قبل الاتفاق، فذكر للأول جامعة الجنسية الصقلبية ووجوب اتفاق الصرب والبلغار على مقاومة تيار اليونان، وحادث الثاني في مسألة قوَله وأكد له أن البلاد التي تنالها بلغاريا شرقي مقدونيا لا يمكنها أن تستغنى عن هذا الثغر، فأجابه الموسيو فنزيلوس بأن النمسا تكتفي بتريستا … فطلب إليه حينئذ المندوب البلغاري أن يفكر في الأمر، وقال له: إن بلغاريا تُؤْثر أن يكون بلغار ومقدونيا تحت الحكم اليوناني؛ لأنها تفضله على الحكم الصربي. ثم قابل الموسيو تونتشيف في اليوم التالي بعض رجال الوزارة الرومانية، وأكد لهم أن بلغاريا ستوافق على كل مطالبهم بشرط أن لا تدع دولتهم أعداء بلغاريا يقضون عليها …

دسَّ المندوب البلغاري دسيسته وهو يظن أنه أتى من البراعة ما يعجز بسمرك، غير أن وزراء رومانيا ومندوبي المتحالفين ما لبثوا أن اجتمعوا فقص كل واحد منهم ما جرى له مع المندوب البلغاري فزادتهم تلك الدسيسة تضامنًا، ولما أفهم البلغاريون رومانيا أنهم قبلوا جميع مطالبها أظهرت ارتياحها إلى تسليمهم، ولكنها أبت إلا الثبات على تضامنها مع اليونان والصرب، وأفهمت المندوبين البلغاريين ما صحت عليه عزيمتها في هذا الشأن، وكان من أقوى الدلائل على احتفاظها بذاك التضامن أنها لما رأت البلغار يريدون المحاولة والمخاتلة بعد تسليمهم بمطالبها، لم تنكص عن تهديدهم بدخول عاصمتهم كما تقدم.

ولما ثبت للبلغار أنهم أخفقوا سعيًا وأن دسيستهم بلغت منهم وأخطأت أعداءهم لم يبقَ لهم إلا أمل واحد، هو أن تنقح الدول العظمى شروط المعاهدة؛ لأن روسيا والنمسا وإنكلترا أظهرن ميلًا إلى تنقيحها، فوقَّعوا عليها وهم لا يعتقدون أنها نهائية، وإليك ترجمتها:
  • المادة الأولى: يُعقد الصلح بين ملك البلغار وملوك الصرب واليونان والجبل الأسود ورومانيا وورثائهم وحلفائهم.
  • المادة الثانية: تبتدئ الحدود البلغارية الرومانية المعدَّلة (طبقًا للملحق نمرة ٥) من غربي تورتوكاي (توتره قان بالتركية) على نهر الطونة، وينتهي جنوب أكرنة (أقرانية بالتركية) على البحر الأسود. ويجب على بلغاريا أن تهدم الحصون القائمة في روتشوك (روسجق بالتركية)، وسيملا وبالشيكت (بالجق بالتركية) في خلال سنتين على الأكثر، وأن تُؤلف لجنة مختلطة قبل مضي خمسة عشر يومًا لتخطيط الحدود في مواقعها، وتقسيم الأملاك التي يقطعها خط التحديد، وإذا وقع خلاف عُين حكمٌ للفصل فيه.
  • المادة الثالثة: تبتدئ الحدود الصربية البلغارية المعينة (طبقًا للملحق نمرة ٩) من جبل باراتريكا على الحدود القديمة، وتمتد على خط انقسام المياه بين واردار وستروما، ويخرج من هذا الخط أعلى وادي سترومجه فإنه يكون من نصيب الصرب.

    ثم تنتهي الحدود المذكورة عند جبل بيلاسيكا ومنه تتصل بالحدود البلغارية اليونانية، ويجب تأليف لجنة مختلطة لتخطيط الحدود وتقسيم الأملاك، وإذا وقع خلاف؛ يُلجأ إلى التحكيم.

  • المادة الرابعة: تُحل المسائل المتعلقة بالحدود البلغارية الصربية القديمة بموجب اتفاق بين الفريقين المتعاقدين.
  • المادة الخامسة: تبتدئ الحدود البلغارية اليونانية (كما جاء في الملحق نمرة ٩) من أكمة سيلاسينا بلانينا عند الحدود البلغارية الصربية الجديدة، وتنتهي عند مصب نهر مَستا على بحر إيجه، وتؤلَّف لجنة مختلطة كالتي تقدم ذكرها للتحديد، وتعدل بلغاريا منذ اليوم عن كل دعوى تتعلق بجزيرة كريت.
  • المادة السادسة: يبلَّغ التوقيع على معاهدة الصلح إلى المعسكرات العامة، وتبتدئ بلغاريا منذ اليوم التالي للتوقيع بصرف جيشها، أما الجنود البلغارية التي يكون محلها في جهات يحتلها المحاربون الآخرون فترسل إلى جهات أخرى من أراضي بلغاريا، ولا تذهب إلى محلها إلا بعد جلائهم عن المنطقة المُحتلَّة في هذا الوقت.
  • المادة السابعة: يبتدئ الجلاء عن الأراضي البلغارية على أثر تسريح الجيش البلغاري، ويتم هذا الجلاء في خمسة عشر يومًا على الأكثر.
  • المادة الثامنة: يحق لجيوش رومانيا والمتحالفين مدة احتلالهم للأراضي البلغارية أن يأخذوا حوائجهم بعد أن يدفعوا ثمنها، وأن يستخدموا السكك الحديدية لنقل الجنود من غير أن يدفعوا غرامة عنها، أما ولاة الأمور المحليون والمرضى والجرحى فيكونون تحت حماية تلك الجيوش.
  • المادة التاسعة: يعيد كل فريق أسرى الفريق الآخر في أقرب ما يمكن من الوقت، وتقدم الحكومات حساب المصروفات التي اقتضاها أَسرهم.
  • المادة العاشرة: يُصدَّق على هذه المعاهدة بمدينة بوخارست في خلال ١٥ يومًا أو أقل من هذا الزمن إذا أمكن.

    حرر في بوخارست يوم ٢٨ يوليو الموافق ١٠ أغسطس على الحساب الشرقي من سنة ١٩١٣.

تلك هي الشروط الأساسية لمعاهدة بوخارست، وكل من ينظر إلى الخريطة البلقانية يجد أن رومانيا أخذت أرضًا من أخصب أراضي بلغاريا الأصلية، وفصلت عن الأمة البلغارية نحو ٢٨٠ ألف نفس، وأن وادي واردار ومناستر وسائر الأراضي التي كان البلغاريون يريدون حرمان الصرب منها بقيت للصربيين مع أراضٍ أخرى كان في وسع بلغاريا أن تنالها لو تساهلت بعد الحرب الأولى، كما أن سلانيك وقوَله وسرس ومعظم الأراضي المجاورة لها بقيت لليونان، وسترى أن أدرنه وقرق كليسا ومعظم تراقيه عادت ملكًا عثمانيًّا.

أما حلم البلغار بتنقيح الدول العظمى لتلك المعاهدة فقد ذهب كسائر أحلامهم؛ لأن روسيا والنمسا عدلتا عن طلب التنقيح، فاضطرت بلغاريا أن تقبل المعاهدة كما ذكرناها والحقد يغلي في صدر مليكها ووزرائها وقوادها. ولما أصدر مليكها فردينان منشوره إلى الجيش يوم صرفه ختمه بعبارة تدل على ذاك الحقد الشديد وهي: «أيها الجنود أخبروا أولادكم وأحفادكم عن بسالة الجندي البلغاري وأعدوهم لإتمام العمل المجيد الذي بدأتم به …»

١  عن مندوب التان الخاص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤