تمهيد

ثمَّة إدراكٌ يزداد شيوعًا في جميع أنحاء العالم، وعلى الأخص في الدول النامية، بأن هناك مجموعةً من المشكلات المرتبطة بالثقة، والتحقُّق، ونقْل القيمة يمكن أن تحلها فعليًّا تقنيةُ سلسلة الكتل «البلوك تشين»، لتفتح آفاقًا لا حدود لها من أجل النهوض والتقدُّم.

هذه هي نقطة البداية التي ينطلق منها هذا الكتاب. ولهذا، فهو معنِيٌّ بشدةٍ بالأسواق الناشئة، ولهذا السبب وجدتُه كتابًا شائقًا جدًّا. غير أنه، باصطحابه للقارئ في رحلة — على الأغلب في بعض المناطق الأكثر تحديًا في العالم — إلى حيث يُجرى تطبيق واحدةٍ من التقنيات الأكثر قدرةً على إحداث تحوُّل كبير، يُعد أيضًا مفيدًا بدرجةٍ مذهلة لأي فردٍ يسعى سعيًا حثيثًا إلى فهمِ سبب الحماس الشديد الذي يبديه الناس نحو ما يوصف غالبًا بأنه يزيد قليلًا عن كونه أداةً محاسبية أو جدولَ بيانات معقَّد.

خطوةٌ بخطوة، يشرح المؤلفون بأسلوبٍ واضحٍ المبادئَ الأساسية التي تعمل وفقًا لها سلسلة كتل البتكوين، وكيف تتشابه سلاسلُ الكتل الأخرى مع البتكوين وتختلف عنها، وكيف يتبنى رواد الأعمال في البلدان النامية هذه التقنية سعيًا منهم إلى حل نطاق هائل من المشكلات، بدءًا من تحويل الأموال وحتى الأدوية المغشوشة، وإخضاع قادة الحروب إلى المساءلة وإجراء اختبارٍ للكشف عن الإصابة بفيروس كورونا. كما يسهم عرضُ دراسات حالة من أوغندا وحتى الفلبين ومنغوليا، إلى جانب بعض النماذج المفيدة من البلدان المتقدمة، في التأكيد على التأثير الهائل للمفاهيم التي أثبتت سلسلة كتل البتكوين صحَّتها حتى الآن على العالم النامي.

تتناول هذه النماذج العملية أيضًا التحديات المهمة التي تواجهها سلاسل الكتل، والبتكوين على وجهِ التحديد، مثل نيلِ القبول في صناعات راسخة، والمشكلات المتعلقة بسلامة البيانات ومقاومة الحكومات التي تخشى أن تفقد زمامَ التحكم والسيطرة مع تبني تقنية سلسلة الكتل. كما أن سلسلة الكتل ليست ترياقًا شافيًا لحل جميع المشكلات.

في ضوء مثل هذه المعوِّقات، يستعرض المؤلفون تطورَ المَحافظ الإلكترونية ونُظم الدفع الخاصة بالهواتف المحمولة، ممثلةً في نموذَجي خدمة «إم-بيسا» في كينيا، ومِنصة «وي تشات» في الصين. والأكثر إمتاعًا على الإطلاق أنهم يعرِضون كيف صارت الأسواق الواعدة في أفريقيا، رغم قلة نصيب الفرد من الثروة — أو ربما لهذا السبب نفسه — من ضمن الأسواق الأكثر ابتكارًا في العالم، وكيف أنها نجحت في «تحقيق قفزات نوعية» فيما يتعلق باستخدام أحدث التقنيات.

يُعد الفصل الذي يتناول مسألةَ الثقة فصلًا عميقًا على وجه الخصوص؛ إذ يلقي الضوء على المشكلات التي ظهرت في سجلات المِلكية بوصفها مثالًا مهمًّا. يوضِّح المؤلفون كيفيةَ التقليل من المخاطر المحتملة من خلال قدرة سلسلة الكتل على تبسيط عملية التحقُّق وزيادة الشفافية من أجل بناء الثقة، في حال إدارتها بفاعلية. يستعرض فصلٌ آخرُ إحدى منظمات الإعانة التي تستخدم سلسلةَ الكتل لتوزيع قسائم شراء يمكن استخدامها بوصفها نقودًا إلكترونية، مع توفُّر القدرة على تتبُّع كل مستخدم ومعاملاته بدقةٍ وكفاءة.

يحرص المؤلفون على شرح تقنية سلسلة الكتل بأسلوبٍ يسهُل فهمه على المبتدئين وبعمقٍ كافٍ لفهم التحديات الضخمة التي تواجهها هذه التقنية. كما يُقر الكِتاب بأن اللغة المستخدَمة في وصف تلك التقنيات الناشئة تخضع لتغييرٍ مستمر، مثلما يوضح المؤلفون ما تعنيه «اللامركزية»، و«انعدام الثقة» ومصطلحات أخرى تستخدم كثيرًا لوصف النُّظم المعتمِدة على سلاسل الكتل. ملحوظة: لا تعني تلك الكلمات ما تظن أنها ترمي إليه.

إحدى الأفكار المبتكَرة التي عُرضت على نحوٍ مترابط هي إمكانية وجود سلاسل كتل خاصة يحتاج الوصول إليها إلى إذن، لها آليةُ تحقُّق وإجماع تعتمد على «إثبات حصة الملكية»؛ حيث يُودِع المحققون أموالًا ويستخدمونها كضمان لتأكيد صحة كتلةٍ في سلسلة الكتل، مما يقدم حلًّا وسطًا جيدًا بين السلاسل العامة اللامركزية بالكامل والنُّظم القديمة المركزية. وبالتعرف على طريقة عمل سلاسل الكتل ومَن المتحكم فيها، سنتعرف على العناصر الفاعلة المختلفة فيها: المستخدمين، ومشغلي العُقَد، المُعدِّنين والمطورين — أي، الأشخاص المعنيين بإنشاء البرتوكولات التي تعمل تلك النُّظم وفقًا لها وتحديثها.

يأخذنا هذا الكتاب إلى ما هو أبعد من النظرة الثنائية المثيرة للعملات المشفرة؛ حيث يصبح مناصرو تلك السوق الصاعدة في مواجهة المستثمرين في الذهب والمتشككين الذين ينتقصون من العملة المشفرة بوصفها عملةً لا قيمة لها، ليتطرق إلى استكشافٍ متأنٍّ أكثرَ للعملات المشفرة وخصائصها في مقابل منافسيها المتمثلين في النقود الورقية والإلكترونية. إن أداء العملات المشفرة، حتى الآن، ضعيف بوصفها وسيلةً مقبولة للتبادل، لكنها تتفوق على النقود الورقية في التخزين، وفي أمور أخرى مهمة للغاية للأسواق الناشئة والتي تتمثل في الحماية من التضخم المفرِط، والقيود الرأسمالية، والمخاطر المحتملة لقطاع البنوك التي يتعرض لها الكثير من العملات الورقية. هذا يقودنا نحو الفكرة الرئيسية للكتاب وهي أنه في حال توفير أكبر قدْر ممكن من الإمكانات التي تقدِّمها تقنية سلسلة الكتل، فمن المحتمل أن تصبح أسواق الدول النامية هي المنتفِع الأكبر منها.

إجمالًا، لا يكتفي هذا الكتاب بتقديم رؤية ثاقبة عن التأثير الذي يمكن أن تحدِثه سلسلة الكتل في العالم النامي، وإنما يُعد أيضًا مقدمة لفهم تقنية السجلات الموزعة، وسلسلة الكتل، والعملات المشفرة.

دبي، الإمارات العربية المتحدة
مارك موبيس
مارك موبيس هو الرئيس التنفيذي السابق لمجموعة تيمبلتون إيمرجينج ماركتس جروب، وشريك مؤسِّس في شركة موبيس كابيتال بارتنرز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤