تمهيد

مَن هو يورجن هابرماس؟

يورجن هابرماس واحد من أهم المنظِّرين الاجتماعيين وأوسعِهم انتشارًا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكتاباته النظرية مؤثرة في مَناحٍ عدة من الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. ولا شكَّ أن جميع دارسي علم الاجتماع والفلسفة والسياسة ونظرية القانون والدراسات الثقافية واللغة الإنجليزية واللغة الألمانية والدراسات الأوروبية؛ سيصادفون اسمه في وقت ما. وثمة أسباب عدة للأثر الواسع لأعماله. بدايةً يُعَد هابرماس مُنَظِّرًا متعدد التخصصات؛ فنطاق إحالاته هائل. وهو النقيض التام لما أَطلق عليه عالم الاجتماع ماكس فيبر (١٨٤٦–١٩٢٠) «متخصصًا بلا روح»؛ أي الأكاديمي الذي لا يتخطى أبدًا التخصص الضيق لخبرته الخاصة. ونظرًا لأن أعماله تتجاوز الحدود التخصصية التي يعمل في إطارها أغلبُ الأكاديميين والدارسين، فإن أغلب قرَّائه لم يصادفوا سوى جانب واحد وحسب من أعماله. علاوة على ذلك، عكف هابرماس على الكتابة منذ نحو ٥٠ سنة، وله إنتاج فكري ضخم. وإضافة إلى شهرته كمُنَظِّر اجتماعي وسياسي، فهو واحد من أبرز المفكرين في الشأن العام في أوروبا حاليًّا. فهو عميد اليسار الديمقراطي في ألمانيا ومصْدر إلهامه، ويبادر، اتساقًا مع مبادئ فلسفته، بالتصريح بآرائه النقدية الغزيرة — كمواطن لا كأكاديمي — في الشأنين العامَّين الألماني والأوروبي حول أمور لها أهمية ثقافية وأخلاقية وسياسية عامة.

fig1
شكل ١: يورجن هابرماس.

ولأن الكتاب مقدمة قصيرة، فقد عرضتُ أقل القليل من المعلومات عن حياة هابرماس. وليس السبب في ذلك أن حياته غير مثيرة للاهتمام، على الرغم من أن حياة الأكاديميين نادرًا ما يتأتى عنها سيرة حياتية مؤثرة ومثيرة للاهتمام. السبب أني أعتقد أن الأعمال أهم من الرجل. (مع ذلك، لن أذهب مذهب مارتن هايدجر الذي حين كتب عن الفيلسوف أرسطو، لم يذكر عن حياته سوى أنه «وُلد في وقت كذا، وعمِل ووافته المنية».) تأثرت أعمال هابرماس بالأحداث التاريخية الجِسَام التي عاشها وكانت مُحركة لها، لا سيما نهاية الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥، وانبعاث جمهورية ألمانيا الاتحادية من أطلالها الاقتصادية والاجتماعية، والحرب الباردة، والاحتجاجات الطلابية عام ١٩٦٨، وسقوط جدار برلين عام ١٩٨٩، ونهاية الاتحاد السوفييتي.

وُلِدَ هابرماس بمدينة دوسلدورف عام ١٩٢٩، وترعرع في كنف أسرة ألمانية من الطبقة المتوسطة تأقلمت مع النظام النازي دون انتقاد ودون تأييده تأييدًا فاعلًا. تبلورت آراؤه السياسية الخاصة للمرة الأولى عام ١٩٤٥ عندما كان في السادسة عشرة من عمره. قرب نهاية الحرب، شأنه شأن أغلب المراهقين الألمان الأصحَّاء من عمره، انضم إلى حركة شباب هتلر. وبعد الحرب، عندما شاهد الأفلام التسجيلية عن محرقة اليهود وتتبع وقائع محاكمات نورمبرج، تفتحتْ عيناه على الحقيقة المروعة لمعسكر اعتقال أوشفيتس، والمدى الكامل للكارثة الأخلاقية الجمعية للحقبة النازية.

دَرَسَ هابرماس الفلسفة في شبابه في جوتنجن وزيوريخ وبون. ولم يكن راديكاليًّا. في الفترة بين عامي ١٩٤٩ و١٩٥٣، انغمس في دراسة أعمال مارتن هايدجر. ولكن سرعان ما نفض عنه أفكاره؛ ليس بسبب عضويته في الحزب النازي ومناصرته للنازيين على الملأ بقدر ما كان بسبب تملصه من الحقيقة لاحقًا ورفْضِه الاعتذار عن أفعاله، والإقرار بها، وتجاوُزها. في عام ١٩٤٩، تأسست الحكومة الأولى لجمهورية ألمانيا الاتحادية بقيادة كونراد أديناور المحافظ. وكانت علاقة هابرماس بهايدجر في شبابه — تلك العلاقة التي بدأت بحماس مفعم بالأمل وسرعان ما تحولت إلى شعور بخيبة الأمل والخيانة — دالَّةً على طبيعة علاقته بنظام أديناور بأسره؛ فقد مثَّلتْ، في رأيه، رفضًا جمعيًّا ومدروسًا للإقرار بالماضي والانفصال عنه.

fig2
شكل ٢: مارتن هايدجر؛ انشغل هابرماس عندما كان طالبًا بأعمال هايدجر. ولاحقًا انهال نقدًا على صمته حيال عضويته في الحزب النازي.

في عام ١٩٥٤، حصل هابرماس على درجة دكتوراه بأطروحة عن الفيلسوف الألماني المثالي فريدريش شيلينج. والتفت بعد ذلك إلى أعمال هربرت ماركوزه والأعمال المبكرة لكارل ماركس، وبعدها بعامين أمسى أول مساعد أبحاث للفيلسوف تيودور في أدورنو بمعهد البحث الاجتماعي في فرانكفورت. تأثر هابرماس بخبرة أساتذته في فرانكفورت، تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، وكلاهما من أصول يهودية ألمانية، وكلاهما حمل شعورًا متناقضًا — ولأسباب مفهومة — بالانتماء للتراث الألماني. ومنهما تعلم هابرماس كيف يتفهَّم تقاليده الألمانية الخاصة من مسافة نقدية، الأمر الذي أتاح له على حد قوله «مواصلة اتباعها بروح ناقدة للذات، ومع شك وبصيرة الرجل الذي خُدع فعلًا ذات مرة» (الاستقلال والتضامن، لقاءات مع يورجن هابرماس). خلال هذه الفترة، أضحت أعمال هابرماس أكثر راديكالية وأكثر تعاطفًا مع ماركس. لم يرُق ذلك لهوركهايمر، مدير المعهد، الذي ضاق ذرعًا بآراء هابرماس الماركسية الصريحة وخَطَّطَ لرحيله عن المعهد. عام ١٩٥٨، غادر هابرماس فرانكفورت قاصدًا جامعة ماربورغ؛ حيث حصل على شهادة التأهيل للأستاذية عام ١٩٦١. وبعدها أصبح أستاذًا للفلسفة في هايدلبرج، وفي ١٩٦٤ عاد ليشغل منصب أستاذ الفلسفة وعلم الاجتماع بجامعة فرانكفورت. وخلال هذه الفترة التي اتسمت بالاضطراب السياسي، اختلف هابرماس مع الطلاب الراديكاليين، الذين كان يتحدث معهم عمومًا حديثًا مؤيدًا، عندما أطلق — على نحو مثير للاستفزاز — وصْف «الفاشية اليسارية» على سياستهم المتمثلة في المواجهة الصريحة مع أشكال السلطات كافةً. وخلال الفترة من عام ١٩٧١ وحتى ١٩٨٣، شغل هابرماس منصب مدير معهد ماكس بلانك في شتارنبيرج. وفي ١٩٨٣، عاد إلى تدريس الفلسفة بجامعة فرانكفورت؛ حيث اكتسب سمعته كمُنَظِّر اجتماعي رائد وصوْتٍ جدير بالاحترام لليسار الديمقراطي في ألمانيا الغربية.

fig3
شكل ٣: كونراد أديناور، المستشار الأول لجمهورية ألمانيا الاتحادية.

في نوفمبر ١٩٨٩، سقط جدار برلين، وإثر سقوطه رأى هابرماس رأي العين اتحاد ألمانيا. وكان واحدًا ممن وجهوا انتقادًا شديدًا للطريقة التي كانت تَجري بها عملية التوحيد. ففي أوائل التسعينيات، كان اهتمام هابرماس بأعمال الفيلسوف السياسي الأمريكي جون رولز يتزايد يومًا بعد يوم، لا سيما فيما يختص بمفهوم الليبرالية عنده، وكذا بفكرة الديمقراطية الدستورية الأمريكية. وعادة ما يرسم ناقدو هابرماس اليساريون صورة كاريكاتيرية لسيرته المهنية التي بدأها ناقدًا ماركسيًّا للرأسمالية، واختتمها مناصرًا للديمقراطية الأمريكية الليبرالية. وهذا التصور الكاريكاتيري، مع أنه منطقي ظاهريًّا، مُغالٍ في التبسيط ويستند إلى عجز عن فهم تعقيدات إخلاصه لقضايا سياسية وفكرية. فقد كان هابرماس ناقدًا لماركس بقدر ما كان ناقدًا ماركسيًّا، وطالما كانت له تحفظات حيال الرأسمالية والليبرالية. ومع ذلك، فهو يَعتبر تبنِّي ألمانيا الغربية الناجح لتقاليد الديمقراطية الغربية أعظمَ إنجازاتها الثقافية، حتى ولو كان يقيِّم هذه التقاليد على نحو سلبي — كوسيلة «للفكاك من الصلات الخاطئة الممتدة» لثقافته السياسية الشخصية — أكثر منه إيجابيًّا. ولهذا السبب تحديدًا، غالى عالِم الاجتماع الألماني رالف داهرندوف مغالاة شديدة، لدرجة أنه وصفه، بطريقة لا تخلو من السخرية، ﺑ «الحفيد الحقيقي لأديناور» (جمهورية برلين: كتابات حول ألمانيا). في خضم كل هذا التعقيد، ورغم التغيرات الكبيرة في المناخ الفكري والسياسي للخمسين عامًا الماضية، هناك تواصل مدهش في الرؤية الفكرية والسياسية عند هابرماس.

لقد قمتُ برسم الخطوط العريضة للدافع السيكولوجي والأصول البيوجرافية لعلاقة هابرماس المتناقضة بألمانيا وتحفظاته المستمرة حيال فكرة القومية. ولكن، ينبغي أن يتفادى المرء إغواء شخصنة هذه الجوانب من عمله. فمن السهل نسيان أن التعقيدات والتوترات المتأصلة لتاريخ ألمانيا وسياستها حديثًا لا تزال موجودة وحقيقية. ويتجلى ذلك لعامة زائري القبة الزجاجية للبرلمان الألماني المشهور باسم «رايشتاج» في برلين؛ حيث يستطيع المرء أن يتطلع بالخارج إلى بوابة براندنبرج والنُّصُب التذكاري الجديد لمحرقة اليهود، وكذلك يرى مباشرةً قاعة البرلمان بالأسفل.

لا توجد نظرية اجتماعية وسياسية تحوي هذه التعقيدات والتوترات بسلاسة وانسجام وتستغلها استغلالًا سليمًا كنظرية هابرماس. وهذه التعقيدات والتوترات تشكل الأساس لمذهب الكوزموبوليتانية الخاص به، ودعمه للاتحاد الأوروبي، وريبته في القومية ودفاعه عن الوطنية الدستورية، ومذهبه للعمومية الأخلاقية. إن فلسفة هابرماس ألمانية خالصة، وليست محدودة بأي شكل من الأشكال.

fig4
شكل ٤: النصب التذكاري لمحرقة اليهود ببرلين، وتظهر بوابة براندنبرج والقبة الزجاجية الجديدة للرايخستاج في الخلفية.

تقاعد هابرماس من منصبه في فرانكفورت منذ عام ١٩٩٤، وهو يعيش ويؤلف كتاباته في شتارنبيرج، ويُدَرِّس بدوام جزئي في الولايات المتحدة الأمريكية. وما زال اسمه يظهر في الصحف بانتظام، ولا يزال معلِّقًا نشطًا على الأحداث السياسية والثقافية كعادته. ومؤخَّرًا، تناول هابرماس بالكتابة موضوعات متنوعة جدًّا؛ كالأخلاقيات البيولوجية، وتكنولوجيا الجينات، والعراق، والإرهاب، والكوزموبوليتانية، والسياسة الخارجية الأمريكية بعد الحادي عشر من سبتمبر.

القسم الأكبر من هذا الكتاب مخصص لمناقشة نظرية هابرماس الناضجة، وتحديدًا الأعمال التي ظهرت ما بين عام ١٩٨٠ والوقت الراهن. ولقد قمتُ بتكريس مساحة أقل لكتاباته السياسية العارضة. ولا يحوي الكتاب حُكمًا ضمنيًّا على الأهمية النسبية لحياة هابرماس كمفكر في الشأن العام وسيرته المهنية كأكاديمي؛ كلُّ ما في الأمر أن استيعاب نظريته أصعب بكثير من استيعاب آرائه السياسية وملاحظاته الثقافية التي تستهدف العامة ويمكن أن تستقل بذاتها عن بقية أعماله.

يعتبر هابرماس — على نحو ألماني غير عصري إلى حدٍّ ما اليوم — متعهِّدَ النظريات الكبرى؛ فهو يطرح أسئلة كبرى عن طبيعة المجتمع العصري والمشكلات التي تواجهه ومكانة اللغة والخُلُقية والأخلاقيات والسياسة والقانون فيه. وإجاباته معقدة وواسعة النطاق؛ حيث جمعها بمنتهى الحرص والدقة من معرفته بالعديد من التخصصات المختلفة. علاوة على ذلك، أبرز أعماله مسهبة وموغلة في الجانب الفني إلى أقصى درجة. فهو لا يخاطب المبتدئين بكتاباته، ومطالعة أعماله لأول مرة يمكن أن تكون تجربة محبطة. وبينما ينصبُّ تركيزه على الصورة الكبيرة، كثيرًا ما يترك لمعاونيه وتابعيه مهمة سد الفراغات بالتفاصيل لاحقًا. وأحيانًا ما تسقط أجزاء من الحُجَّة. وفي الوقت نفسه، نراه في حوار متواصل مع ناقديه، وكثيرًا ما يعيد صياغة أفكاره استجابة لهم؛ حيث يُدخل تعديلات طفيفة لا تكون تداعياتها دومًا واضحة. ولهذه الأسباب جمعاء، من السهل على القراء — الذين يفتقرون للصورة الشاملة ولا يعرفون المحوري من الهامشي — أن يصيبهم الارتباك والحيرة. من بين الأهداف التي وُضع من أجلها هذا الكتاب تقديم الصورة الأكثر شمولًا، وذلك عن طريق وضع الأجزاء المختلفة لأعماله في سياق مشروعه الكلي. وتلبيةً لهذا الغرض، سأبدأ برسم تصوُّرٍ عامٍّ لكامل أعمال هابرماس الناضجة. وتنقسم هذه الأعمال إلى خمسة برامج بحثية هي كالتالي:
  • (١)

    النظرية البراجماتية للمعنى.

  • (٢)

    نظرية العقلانية التواصلية.

  • (٣)

    برنامج النظرية الاجتماعية.

  • (٤)

    برنامج أخلاقيات الخطاب.

  • (٥)

    برنامج النظرية الديمقراطية والقانونية، أو النظرية السياسية.

fig5
شكل ٥: إطلالة على البرامج البحثية عند هابرماس.

كل برنامج من هذه البرامج مستقل بذاته نسبيًّا ويسهم في جانب منفصل من جوانب المعرفة. ولكن في الوقت نفسه، كلٌّ منها يرتبط — بشكل أو بآخر — ارتباطًا نظاميًّا بغيره من البرامج.

تُقدم النظرية البراجماتية للمعنى عند هابرماس — إضافة إلى نظرية العقلانية التواصلية — الأفكارَ الإرشادية لنظريته الاجتماعية والأخلاقية والسياسية. وتباعًا، تدعِّم هذه البرامج البحثية الثلاثة كلٌّ منها الآخرَ. وأُسميها برامج بحثية؛ لأن كلًّا منها ما زال قائمًا إلى الآن. وكل برنامج يجيب عن مجموعة مختلفة من الأسئلة بالمزج ما بين أفكار متعمقة من تخصصات ومعارف مختلفة. أُقدم موجزًا مقتضبًا لكل برنامج في الملحق الموجود في نهاية الكتاب. أما في الفصول التالية، فأتناول هذه البرامج بحسب الترتيب الزمني الذي أَنتجها فيه هابرماس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤