النوادر الحادية عشرة

نوادر الإمام عمر بن الخطاب، والخليفة المعتصم

عمر بن الخطاب والمرأة

نظر عمر بن الخطاب إلى حسناء وبها ندب في وجهها، فقال: ما هذه الندوب يا حسناء؟! قالت: من طول البكاء على أخويﱠ. قال لها: أخواك في النار. قالت: ذلك أطول لحزني عليهما أني كنت أشفق عليهما من النار، وأنا اليوم أبكي لهما من النار، وأنشدت:

وقائلةٍ والنعش قد فات خطوها
لتدركه يا لهف نفسي على صخرِ
ألا ثكلت أم الذين غدوا به
إلى القبر ماذا يحملون إلى القبرِ

ثم تمثلت بقول الآخر:

أخ طالما سرني ذكره
فقد صرت أشجي إلى ذكرهِ
وقد كنت أغدو إلى قصره
فقد صرت أعدو إلى قبرهِ
وكنت أراني غنيًّا به
عن الناس لو مدَّ في عمرهِ
وكنت إذا جئته زائرًا
فأمري يجوز على أمرهِ

عمر بن الخطاب وأم كلثوم

قال أنس بن مالك: خرج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في ليلة من الليالي في الظلمة يطوف لافتقاد أحوال المسلمين؛ فرأى بيتًا من الشعر مضروبًا لم يكن قد رآه بالأمس، فدنا منه فسمع أنين امرأة، ورأى رجلًا قاعدًا، فدنا منه، وقال له: من الرجل؟ فقال: من أهل البادية، قدمت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله. قال: فما هذا الأنين؟! قال: امرأة تتمخض وقد أخذها الطلق. قال: فهل عندها أحد؟ قال: لا. فانطلق عمر والرجل لا يعرفه فجاء إلى منزله، فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب: هل لكِ في أجر قد ساقه الله إليك؟ فقالت: وما هو؟ قال: امرأة تتمخض وليس عندها أحد. قالت: إن شئت. قال: خذي ما يصلح للمرأة من الخرق والدهن، وجيئيني بقدر وشحم وحبوب. فجاءت، فحمل القدر، ومشت خلفه حتى أتى البيت، فقال: ادخلي إلى المرأة. وجاء حتى قعد إلى الرجل، فقال: هات لي نارًا. ففعل، فجعل عمر ينفخ النار ويضرمها تحت القدر حتى أنضجها، وولدت المرأة، فقالت أم كلثوم: يا أمير المؤمنين، بشر صاحبك بغلام، فلما سمع الرجل قولها: «يا أمير المؤمنين» ارتاع لذلك، وقال: يا أمير المؤمنين؟! وا خجلتاه منك! أهكذا تفعل بنفسك؟! فقال: يا أخا العرب، من ولي شيئًا من أمور الناس ينبغي أن يتطلع على صغير أمرهم وكبيره؛ فإنه مسئول عنه، ومتى غفل عنهم خسر الدنيا والآخرة. ثم قام عمر وأخذ القدر عن النار، وحملها إلى باب البيت، فأخذتها أم كلثوم، وأطعمت المرأة، فلما استقرت وأسكنت، طلعت أم كلثوم، فقال للرجل: قم إلى بيتك، وكل ما بقي في القدر، وفي غدٍ ائتِ إلينا. فلما أصبح جاءه، فجهزه بما أغناه وانصرف.

عمر بن الخطاب والمرأة

كان عمر بن الخطاب يعس المدينة، فمشى حتى أعيا فاتكأ إلى جدار؛ فإذا امرأة تقول لابنة لها صغيرة: قومي إلى ذلك اللبن فامزجيه بالماء. فقالت: يا أماه، أوما علمتِ ما كان من عزم أمير المؤمنين؟ قالت: وما كان من عزمه؟ قالت: إنه أمر مناديه فنادى أن لا يشرب اللبن بالماء، فقالت: امزجيه فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر! فقالت الصبية: والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلا.

عمر بن الخطاب وعمرو بن معدي كرب

سأل عمر بن الخطاب عمرو بن معدي كرب فقال: ما تقول في الرمح؟ قال: أخوك وربما خانك. قال: فالنبل؟ قال: منايا تخطئ وتصيب. قال: فالدرع؟ قال: مشغلة للفارس، متعبة للراجل، وإنها لحصن حصين. قال: فالترس؟ قال: مجن وعليه تدور الدوائر. قال: فالسيف؟ قال عنده: ثكلتك أمك، قال عمر: بل أنت.

رسول قيصر وعمر بن الخطاب

أرسل قيصر رسولًا إلى عمر بن الخطاب؛ لينظر أحواله ويشاهد أفعاله، فلما وصل المدينة سأل أهلها، وقال: أين ملككم؟ فقالوا: ما لنا ملك! بل لنا أمير قد خرج إلى ظاهر المدينة. فخرج الرسول في طلبه؛ فرآه نائمًا في الشمس على الأرض فوق الرمال الحارة وقد وضع درته كالوسادة، والعرق يسقط من جبينه إلى أن بل الأرض، فلما رآه على هذه الحالة وقع الخشوع في قلبه، وقال: رجل يكون جميع الملوك لا يقرُّ لهم قرار في هيبته وتكون هذه حاله، ولكنك يا عمر عدلت؛ فأمنت؛ فنمت، وملكنا يجور؛ فلا جرم إذا ظل ساهرًا خائفًا.

عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص

كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص: إن الله إذا أحب عبدًا حببه إلى خلقه، فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس، واعلم أن ما لك عند الله مثل ما للناس عندك.

عمر بن الخطاب وأحد الزهاد

قام عمر بن الخطاب بالجبانة فإذا هو بأعرابي، فقال: ما تصنع ها هنا يا أعرابي في هذه الديار الموحشة؟ قال: وديعة لي ها هنا يا أمير المؤمنين. قال: وما وديعتك؟ قال: ابن لي دفنته فأنا أخرج إليه كل يوم أندبه؟ قال: فاندبه حتى أسمع! فأنشأ يقول:

يا غائبًا ما يئوب من سفره
عاجله موته على صغره
يا قرة العين كنت لي سكنًا
في طول ليلي نعم وفي قصره
شربت كأسًا أبدل شاربها
لا بدﱠ يومًا له على كبره
يشربها والأنام كلهم
من كان في بدوه وفي حضره
فالحمد لله لا شريك له
الموت في حكمه وفي قدره
قد قسم الموت في العباد فما
يقدر خلق يزيد في عمره

وفاة الإمام عمر

قال ابن عمر: لما حضرت الوفاة والدي عمر غشي عليه، فأخذت رأسه فوضعته في حجري، فقال: ضع رأسي بالأرض؛ لعل الله يرحمني. فمسح خديه بالتراب، وقال: ويلٌ لمن لا يغفر له الله ذنبًا. فقلت: إن حجري والأرض سواء! فقال: ضع رأسي بالأرض كما آمرك، فإذا قضيت فأسرعوا بي إلى حفرتي، وإنما هو خير تقدموني إليه، أو شرٌّ تضعونه عن رقابكم. ثم بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: خبر السماء؛ لا أدري إلى جنة ينطلق بي أو إلى نار؟!

تميم بن جميل والمعتصم

قال أحمد بن أبي داود: ما أتينا رجلًا نزل به الموت فما شغله ذلك ولا أذهله عما كان يحب أن يفعله إلا تميم بن جميل؛ فإنه كان على شاطئ الفرات، وأتى به الرسول إلى باب أمير المؤمنين المعتصم في يوم الموكب حين يجلس للعامة، ودخل عليه، فلما مثل بين يديه دعا بالنطع والسيف فأحضرا، فجعل تميم بن جميل ينظر إليهما ولا يقول شيئًا، وجعل المعتصم يصعد النظر فيه ويصوبه، فكان جسيمًا وسيمًا، ورأى أن يستنطقه؛ لينظر أين جنانه ولسانه من منظره، فقال: يا تميم إن كان لك عذر فأت به، أو حجة فادلها، فقال: أما إذ قد أذن لي أمير المؤمنين فإني أقول: الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعله نسله من سلالة من ماء مهين، يا أمير المؤمنين، إن الذنوب تخرس الألسنة، وتصدع الأفئدة، ولقد عظمت الجريرة، وكبر الذنب، وساء الظن، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بامتنانك وأشبههما بخلافتك. ثم أنشأ يقول:

أرى الموت بين السيف والنطع كامنًا
يلاحظني من حيثما أتلفتُ
وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي
وأي امرئ مما قضى الله يفلت
ومن ذا الذي يدلي بعذر وحجة
وسيف المنايا بين عينيه مصلت
يعز على الأوس بن ثعلب موقف
يسل علي السيف فيه وأسكت
وما جزعي أني أموت وإنني
لأعلمُ أن الموت شيء موقت
ولكن خلفي صبية قد تركتهم
وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أنعى إليهم
وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة
أرد الردى عنهم وإن مت موتوا
فكم قائل لا يبعد الله روحه
وآخر خذلان يسر ويشمت!

قال: فتبسم المعتصم، وقال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل، اذهب فقد عفوت لك الصَّبْوَةَ، وتركتك للصبية.

المعتصم والمغني

ذكر المعتصم جارية كانت غلبت عليه وهو بمصر، ولم يكن يخرج بها معه، فدعا مغنيًا له: فقال له: ويحك! إني ذكرت جارية فأقلقني الشوق إليها، فهات صوتًا يشبه ما ذكرت لك! فأطرق مليًّا ثم غنى:

وددت من الشوق المبرح أنني
أعار جناحيْ طائرٍ فأطير
فما لنعيم لست فيه بشاشة
وما لسرور لست فيه سرور
وإن امرأً في بلدة نصف قلبه
ونصف بأخرى غيرها لصبور

قال: والله ما يجدون ما في نفسي. وأمر له بجائزة، ورحل من ساعته.

المعتصم وعبد الله بن طاهر

كتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في أيام اعتلاله:

أعزز عليَّ بأن أراك عليلًا
أو أن يكون بك السقام نزيلا
فوددت أني مالك لسلامتي
فأعيرها لك بكرة وأصيلا
فتكون تبقى سالمًا بسلامتي
وأكون مما قد عراك بديلا
هذا أخ يشتكي ما تشتكي
وكذا الخليل إذا أحب خليلا

المعتصم وأبو تمام الشاعر

لما أنشد أبو تمام قصيدته في المعتصم التي مطلعها:

السيف أصدق أنباءً من الكتب
في حدِّه الحدُّ بين الجد واللعب

قال له: لقد جلوت عروسك يا أبا تمام، فأحسنت جلاءها. قال: يا أمير المؤمنين، والله لو كانت من الحور العين لكان حسن إصغائك إليها من أوفى مهورها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤