النوادر الأولى

نوادر الوزراء والأمراء

ابن مقلة والواشي

وشى حاسد بابن مقلة الوزير الكاتب المتفرد في أمانته، وادعى أنه غدر الملك في بعض الأمور، فأمر الملك بقطع يده، فلما فعل به هذا الأمر لزم بيته، وانصرفت عنه الأصدقاء والمحبون، ولم يأتهِ أحد إلى نصف النهار، فتبين للملك أن الكلام عليه باطل، فأمر بقتل الذي وشى بابن مقلة وردَّه إلى ما كان عليه، فلما رأى إخوانه أن نعمته عادت لهُ عادوا يهنئونه وأقبلوا يعتذرون، فأنشد:

تحالف الناس والزمانُ
فحيث كان الزمان كانوا
عاداني الدهر نصف يوم
فانكشف الناس لي وبانوا

ومكث يكتب بيده اليسرى بقية عمره.

أبو بكر وأبو العباس بن صارة

اجتمع الوزير أبو بكر وأبو العباس بن صارة في يوم جلاد ذهب برقه، وأذاب ورق ورقه، والأرض قد ضحكت لتعبيس السماء، واهتزت وربت عند نزول الماء؛ فقال ابن صارة:

هذي البسيطة كاعب أبرادها
حلل الربيع وحليها النوارُ

فقال أبو بكر:

فكأن هذا الجو فيها عاشق
قد شفهُ التعذيب والأضرار

فقال ابن صارة:

وإذا شكا فالبرق قلب خافق
وإذا بكى فدموعه الأمطارُ

فقال أبو بكر:

من أجل ذلة ذا وعزة هذه
يبكي الغمام وتضحك الأزهارُ

الفضل بن مروان وابن فراس الشاعر

كان الفضل بن مروان وزير المعتصم ظالمًا غاشمًا متبجحًا بالظلم متجبرًا متكبرًا، وكان المعتصم يقول: الفضل بن مروان أسخط الله وأرضاني؛ فسلطني الله عليه. دخل عليه الهيثم بن فراس الشاعر متظلمًا من بعض عماله، فصرف وجهه عنه، ولوى عطفه؛ فخرج من عنده وهو ينشد:

تجبرت يا فضل بن مروان فانتظر
فقبلك كان الفضل والفضل والفضلُ
ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم
أبادهم التغيير والموت والقتلُ
فإن تكُ قد أصبحت في الناس ظالمًا
ستودي كما أُودي الثلاثة من قبلُ

فلما سمع الفضل أبياته قال: ما الذي عنى بقوله؟ فقيل: إنهُ أراد الفضل بن يحيى، والفضل بن سهل، والفضل بن الربيع. فتغير وجهه، ولم يلبث إلا أيامًا يسيرة حتى قبض عليه.

جعفر البرمكي وأبو نواس

بنى جعفر بن يحيى البرمكي دارًا وتأنق فيها، وانتقل إليها، فدخل عليه أبو نواس مع من دخل إليه من الشعراء لتهنئته، فأنشد:

أدارَ البلى إن الخشوع لبادي
عليكِ وإني لم أخنك ودادي
فمعذرة مني إليك بأن ترى
رهينة أرواح وصوت غوادي
ولا أدرأ الضراء عنك بحيلة
فما أنا منها قائل بسعادي
فإن كنت مهجور الفتاة فما رمت
يد الهجر عن قوس المنون فوادي
فإن كنت قد بدلت بؤسًا بنعمة
فقد بدلت عيني قذى برقادِ

وختمها بقوله:

سلام على الدنيا إذا ما فقدتم
بني برمك من رائحين وغاد

فتطير جعفر لها وأظهر الوجوم، ثم قال: نعيت إلينا أنفسنا يا أبا نواس. فلم تكن إلا مدة يسيرة حتى أوقع بهم الرشيد.

عبد الله بن جعفر والرجل

بينما عبد الله بن جعفر راكب؛ إذ تعرض له رجل في الطريق، فمسك بعنان فرسه، وقال: سألتك بالله أيها الأمير أن تضرب عنقي! فبهت فيه عبد الله، وقال: أمعتوه؟! قال: لا والله. قال: فما الخبر؟ قال: لي خصم ألدُّ قد لزمني وألحَّ وضيق عليَّ وليس لي به طاقة. فقال: ومن خصمك؟! قال: الفقر! فالتفت عبد الله إلى غلامه، وقال: ادفع له ألف دينار. ثم قال له: يا أخا العرب خذها ونحن سائرون، ولكن إذا عاد إليك خصمك متغشمًا فأتنا متظلمًا فإنا منصفوك منه إن شاء الله. قال الأعرابي: والله إن معي من جودك ما أدحض به حجة خصمي بقية عمري. ثم أخذ المال وانصرف.

عبد الله بن جعفر ونصيب الشاعر

وقف الناس يومًا من الأيام على باب عبد الله بن جعفر الطيار، وكان أرباب الحاجات ينتظرون خروجه، فنهضوا إليه، فما طلب أحد حاجة إلا قضاها له، وكان فيمن حضر نصيب الشاعر، فلما نظر إلى ما يسمع منه تقدم إليه، وقبَّل يده، وأنشد:

ألفتَ (نعم) حتى كأنك لم تكن
عرفت من الأشياء شيئًا سوى نعم
وعاديت (لا) حتى كأنك لم تكن
سمعت بلا في سالف الدهر والأمم

فقال له عبد الله: ما حاجتك؟ قال: هذه رواحلي توسقها لي. قال: أنخ أنخ. ثم أوسقها له تمرًا، وأمر له بعشرة آلاف درهم وثياب، فلما انصرف نصيب قال قائل لعبد الله: يا ابن الطيار أتعطي هذا العطاء كله لمثل هذا العبد الأسود؟! فقال: إن كان أسود؛ فإن شِعره لأبيض، وإن كان عبدًا فإن ثناءه لحرٌّ، وهل أعطيناه إلَّا رواحل تمضي، وطعامًا يفنى، وثيابًا تبلى؟! وكان يعتق في غرة كل شهر مائة عبد.

عبد الله بن جعفر وأحد الأنصار

ابتاع عبد الله بن جعفر حائط نخل من رجل أنصاري بمائة ألف درهم، فرأى ابنًا له يبكي، فقال له: ما يبكيك؟! قال: كنت أطلب أنا وأبي أن نموت قبل خروج هذا الحائط من أيدينا، ولقد غرست بعض نخله بيدي. فدعا أباه ورد عليه الصلة، وسوغه المال.

علي بن عيسى وأصحابه

لما نكب علي بن عيسى الوزير لم ينظر ببابه أحدًا من أصحابه وآله وإخوانه الذين كانوا ملازمين له في حال تصرفه واشتغاله، فلما رُدت إليه الوزارة اجتمعوا إليه وعطفوا عليه، وجعل كل منهم يأخذ في السبق للقياه والنظر إلى محياه، فحين رآهم كذلك أنشد:

ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها
فكيفما انقلبت يومًا به انقلبوا
يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت
عليه يومًا بما لا يشتهي وثبوا
لا يحلبون لحي در نعمته
حتى يكون لهم شطر الذي حلبوا

دواء الخمار

سأل حامد بن العباس وزيره علي بن عيسى — وكان في ديوان الوزارة — عن دواء الخمار؛ فأعرض الوزير عن كلامه، وقال: ما أنا وهذه المسأله في مثل هذا المقام؟! فخجل منه حامد، وكان أبو عمه وقاضي القضاة حاضرًا، فتحرك ومكن جلوسه، وتنحنح لإصلاح صوته، ووضع كمًّا على كمٍّ، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا (الحشر: ٧) وقال النبي: «استعينوا على كل صنعة بصالحى أهلها» والأعشى هو إمام هذه الصنعة في الجاهلية، وقد قال:

وكأس شربت على لذة
وأخرى تداويت منها بها

ثم تلاه شاعر العرب مجنون ليلى فقال:

تداويت من ليلى بليلى من الهوى
كما يتداوى شارب الخمر بالخمر

وتبعهما على ذلك أبو فراس فقال:

دع عنك لومي فإنَّ اللوم إغراءُ
وداوني بالتي كانت هي الداءُ

فتهلل وجه حامد لذلك، وقال لعلي بن عيسى: ما منعك يا بارد أن تجيب ببعض ما أجاب به قاضي القضاة؟ وقد استظهر في الجواب بقول الله، ثم بقول رسوله، ثم بكلام العرب، ثم بقول المولدين، وبين الفتوى، وأدى المعنى، وخلص من العهدة؟! فكان خجل علي بن عيسى من حامد أعظم من خجل حامد منه.

الحجاج والأعرابي

انفرد الحجاج يومًا عن عسكره فلقي أعرابيًّا، فقال له: يا وجه العرب، كيف الحجاج؟ فقال: ظالم غاشم. قال: هلَّا شكوت إلى عبد الملك بن مروان؟! قال: أظلم وأغشم عليهما لعنة الله! فبينما هو كذلك إذ تلاحقت به عساكره، فعلم الأعرابي أنه الحجاج، فقال الأعرابي: أيها الأمير السر الذي بيني وبينك لا يطلع عليه أحد إلا الله. فتبسم الحجاج وأحسن إليه وانصرف.

الحجاج وآكل الحلوى

حضر أعرابي عند الحجاج فقدَّم الطعام فأكل الناس منه، ثم قدمت الحلوى، فترك الحجاج الأعرابي حتى أكل منها لقمة، ثم قال: من أكل من الحلوى ضربت عنقه، فامتنع الناس من أكلها، وبقي الأعرابي ينظر إلى الحجاج مرةً وإلى الحلوى مرة، ثم قال: أيها الأمير، أوصيك بأولادي خيرًا! ثم اندفع يأكل، فضحك الحجاج حتى استلقى على قفاه، وأمر لهُ بصلة.

المهلب ومالك بن بشير والحجاج

لما هزم المهلب بن أبي صفرة قطري بن الفجاءة — صاحب الأزارقة — بعث إلى مالك بن بشير فقال له: إني موفدك إلى الحجاج، فسِرْ؛ فإنما هو رجل مثلك! وبعث له بجائزة فردها، وقال: إنما الجائزة بعد الاستحقاق، وتوجَّه، فلما دخل على الحجاج قال له: ما اسمك؟ قال: مالك بن بشير. قال: ملك وبشارة! كيف تركت المهلب؟ قال: أدرك ما أمل، وأمن من خاف. قال: كيف هو بجنده؟ قال: والد رءوف. قال: فكيف جنده؟ قال: أولاد بررة. قال: كيف رضاهم عنه؟ قال: وسعهم بالفضل وأقنعهم بالعدل. قال: فكيف تصنعون إذا لقيتم عدوكم؟ قال: نلقاهم بجدنا فنطمع فيهم، ويلقوننا بجدهم فيطمعون فينا. قال: كذلك الجد إذا لقي الجد، فما حال قطري؟ قال: كادنا ببعض ما كدناه. قال: فما منعكم من اتباعه؟ قال: رأينا المقام من ورائه خيرًا من اتباعه. قال: فأخبرني عن ولد المهلب. قال: أعباء القتال بالليل حماة السرح بالنهار. قال: أيهم أفضل؟ قال: ذلك إلى أبيهم! قال: لتقولن. قال: هم كحلقة لا يُعرف طرفاها. قال: أقسمت عليك؛ هل رويت لغيري هذا الكلام؟ قال: ما اطلع عليه غير الله وأنت. فقال الحجاج لجلسائه: فهو والله الكلام المطبوع، لا الكلام المصنوع.

رؤبة وأبو مسلم صاحب الدعوة

قال رؤبة: قدمت على أبي مسلم صاحب الدعوة فناداني: يا رؤبة. فنوديت له من كل مكان: يا رؤبة. فأجبت:

لبيك إذا دعوتني لبيكا
أحمد ربًّا ساقني إليكا
الحمد والنعمة في يديكا

قال: في يدي الله — عز وجل — قلت: وأنت لما نعمت حمدت. ثم استأذنته في الإنشاد، فأذن لي، فأنشدته:

ما زال يأتي الملك من أقطاره
وعن يمينه وعن يساره
مشمرًا لا يصطلي بناره
حتى أقر الملك في قراره

فقال: إنك أتيتنا وقد خف المال واستنفده الإنفاق، وقد أمرنا لك بجائزة، وهي تافهة يسيرة، ومنك العود، وعلينا المعول، والدهر هادئ مستتب، فلا تلقَ بجنبك إلَّا شره. قال: فقلت: الذي أفادني الأمير من كلامه أحب إلي من الذي أفادني من ماله.

أبو دهان وسعد بن مسلم

وفد أبو دهان على سعد بن مسلم ووقف ببابه، فحجبه حينًا ثم أذن له، فمثل بين يديه وقال: إن هذا الأمر الذي صار إليك وفي يديك قد كان في يدي غيرك فأمسى — والله — حديثًا، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، فتحبب إلى عباد الله بحب البشر وتسهيل الحجاب ولين الجانب، فإن حب عباد الله موصول بحب الله، وبغضهم موصول ببغض الله؛ لأنهم شهداء الله على خلقه، ورقباؤه على من اعوج عن سبيله.

ابن حمران وأبو الفضل الجوهري

لما هجم ابن حمران على مصر في أيام المستنصر بالله وأحرق داره بالزيت وتخطف عسكره، اجتمع الناس إلى أبي الفضل الجوهري الواعظ، فشكوا حالهم إليه؛ فكتب إلى المستنصر: «إن كنت خالقًا فارحم خلقك، وإن كنت مخلوقًا فخف خالقك والسلام»، فرفع ذلك عنهم.

إحسان محمد بن حميد الطويسي إلى عدوه

حكي عن محمد بن حميد الطويسي أنه كان يومًا على غذائه وإذا بضجة عظيمة على الباب، فرفع رأسه، وقال لغلمانه: ما هذه الضجة؟! من كان عند الباب فليدخل؟ فخرج الغلام وعاد، وقال: يا مولاي، إن فلانًا أخذ وجيء به موثقًا بالحديد، والغلمان والشرط ينتظرون أمرك فيه. فرفع يده عن الطعام سرورًا بأخذه، فقال رجل ممن حضر عنده: الحمد لله الذي أمكنك من عدوك، فسبب لك أن تسقي الأرض من دمه! وقال آخر: بل يصلب حيًّا ويعذب حتى يموت! وتكلم كل أحد بما وفق له، وهو ساكت مطرق، ثم رفع رأسه، وقال: يا غلام، فك عنه وثاقه، وادخله إلينا مكرمًا! فلم يكن بأسرعَ مما امتثل أمره وأدخل إليه رجلًا لا دم فيه، فلما رآه هش له، ورفع مجلسه، وأمر بتجديد الطعام، وجعل يبسطه ويملقه، حتى انتهى الطعام، ثم أمر له بكسوة حسنة، وصلة جميلة، وأمر برده إلى أهله مكرمًا، ولم يعاتبه بحرف واحد على جفائه، ثم التفت إلى جلسائه، وقال لهم: إن أفضل الأصحاب من حضَّ الصاحب على المكارم، ونهاه عن ارتكاب المآثم، وحسن له أن يجازي الإحسان بضعفه، والإساءه عمن أساء إليه بصفحه، إنا إذا جازينا من أساء إلينا بمثل ما أساء فأين موضع الشكر عما أتيح من الظفر؟! إنه ينبغى لمن يحضر مجالس الملوك أن يمسك إلا عن قول سديد وأمر رشيد؛ فإن ذلك أدوم للنعمة، وأجمع للألفة، إن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (الأحزاب: ٧٠-٧١).

الحجاج وأحد بني تميم

لما ظفر الحجاج بمحمد بن عبد الرحمن بن الأشعث — وكان قد خرج عليه، وخلع عبد الملك بن مروان — فأمر بضرب أعناق الجند الذين ظفر بهم حتى أتى على رجل من بني تميم، فقال: والله أيها الأمير لئن أسأنا في الأدب لما أحسنت في العقوبة. فقال الحجاج: أفٍّ لهذه الجِيَفِ! أما كان فيهم من يحسن مثل هذا؟! وأمر بإطلاق من بقي، وعفا عنهم.

أبو دلامة ومروان بن محمد

خرج مروان بن محمد لمحاربة الضحاك الحروري، فلما التقى الجمعان خرج من أصحاب الضحاك فارس فدعا إلى البراز، فقال مروان: من يخرج إليه وله عشرة آلاف درهم؟ فقال أبو دلامة: أنا. وخرج طمعًا في الجائزة، فرأى رجلًا عظيم الهامة، وعليه فرو قد أصابته السماء فابتل، ولفحته الشمس فيبس حتى صار كالقطة لا يعمل فيها السيف، فلما رآه الفارس جرى إليه وهو يرتجز:

وخارج أخرجه حب الطمعْ
فر من الموت وفي الموت وقعْ
من كان يهوى أهله فلا رجعْ

فخافه أبو دلامة، فلوى جواده هربًا، واتخذ من خوفه في الأرض نفقًا، كما اتخذ الحوت لنجاته في البحر سربًا، فقال مروان: من هذا الفاضح لا أنجاه الله؟ فقال أبو دلامة: فرَّ لا أنجاه الله، خير من قُتِلَ ورحمه الله!

عزيز الدين والمهلب

كان المهلب بن شاهين الشاعر عاملًا بنهر فروه ونهر رجا لعزيز الدين، فظهرت عليه خيانة، فأشخصه وتوعَّده، فلما مثل بين يديه قال:

قل للعزيز أدام ربي عزه
وأناله من خيره مكنونه
إني جنيت ولم يزل جبل الورى
يهبون للخدام ما يجنونه
ولقد جمعتُ من الجنون فنونه
فاجمع من الصفح الجميل فنونه
من كان يرجو عفو من هو فوقه
فليعفُ عن جرم الذي هو دونه

فعفا عنه وأعاده إلى عمله.

السائل وأحد الأمراء

وفد رجل على بعض الأمراء فسأله حاجة فقضاها، ثم سأله أخرى فقضاها، حتى قضى سبع حاجات، فلما خرج من عنده قيل له: ما فعل بك؟ قال: ما أدري! ثم قال:

لكني أخبركم عنه بنادرة
لم يأتها قبله عرب ولا عجمُ
قرأ عليه كتابًا منه كاتبه
إلى أخٍ وجبت منه له نعمُ
حتى إذا ما مضت (لا) في رسالته
قال استمع ثم لا تمض لك الصمم
لا تكتبن بلا فيها إلى أحد
شق الكتاب ومر فليكسر القلم

الحجاج وقتيبة والأسير

أمر الحجاج بقوم ممن خرج عليهم، فأمر بهم فضربت أعناقهم، وأقيمت صلاة المغرب وقد بقي من القوم واحد، فقال لقتيبة بن مسلم: انصرف به معك حتى تغدو به عليَّ. قال قتيبة: فخرجت والرجل معي، فلما كنا ببعض الطريق قال لي: هل لك في خير؟ قلت: وما ذاك؟! قال إني والله ما خرجت على المسلمين ولا استحللت دماءهم، ولكن ابتليت بما ترى، وعندي ودائع وأموال، فهل لك أن تخلي سبيلي وتأذن حتى آتي أهلي وأرد على كل ذي حق حقه، وأوصي، ولك عليَّ أن أرجع حتى أضع يدي في يدك؟! قال قتيبة: فعجبت له، وتضاحكت لقوله، فمضينا هنية ثم أعاد عليَّ القول، وقال: إني أعاهد الله لك على أن أعود إليك. قال قتيبة: فوالله ما ملكت نفسي حتى قلت له: اذهب. فلما توارى عني شخصه أسقط في يدي، فقلت: ماذا صنعت بنفسي؟! وأتيت أهلي مهمومًا مغمومًا، فسألوني عن شأني فأخبرتهم، فقالوا: لقد اجترأت على الحجاج، فبتنا بأطولِ ليلةٍ، فلما كان عند أذان الغداة إذا بالباب يطرق، فخرجت فإذا أنا بالرجل، فقلت: أرجعت؟! قال: سبحان الله! جعلت لك عهد الله عليَّ فأخونك ولا أرجع؟! فقلت: أما والله إن استطعت لأنفعنك، وانطلقت به حتى أجلسته على باب الحجاج، ودخلت، فلما رآني، قال: يا قتيبة أين أسيرك؟ قلت: أصلح الله الأمير، بالباب، وقد اتفق لي معه قصة عجيبة، قال: ما هي؟ فحدثته الحديث، فأذن له فدخل، ثم قال: يا قتيبة، أتحب أن أهبه لك؟ قلت: نعم. قال: هو لك، فانصرف به معك. فلما خرجت به، قلت له: خذ أي طريق شئت، فرفع طرفه إلى السماء، وقال: لك الحمد يا رب. وما كلمني بكلمة ولا قال لي: أحسنت، ولا أسأت! فقلت في نفسي: مجنون والله! فلما كان بعد ثلاثة أيام جاءني، وقال لي: جزاك الله خيرًا، أما والله ما ذهب عني ما صنعت، ولكن كرهت أن أشرك مع حَمْدِ اللهِ حَمْدَ أحدٍ.

أبو العيناء وعيسى بن فرخان

كان عيسى بن فرخان شاه يفد على أبي العيناء في حال وزارته، فلما انصرف عنها لقي أبا العيناء في بعض الطرق فسلم عليه سلامًا خفيفًا، فقال أبو العيناء لغلامه: من هذا؟ قال: أبو موسى. فدنا منه حتى أخذ بعنان بغلته، وقال: لقد كنت أقنع بإيمائك دون بيانك، وبلحظك دون لفظك، فالحمد لله على ما آلت إليه حالك، فلئن كانت أخطأت فيك النعمة لقد أصابت فيك النقمة، ولئن كانت الدنيا أبدت قبائحها بالإقبال عليك لقد أظهرت محاسنها بالإدبار عنك، ولله المنة إذ أغنانا عن الكذب عليك، ونزهنا عن قول الزور فيك، فقد والله أسأت حمل النعمة، وما شكرت حق المنعم. ثم أطلق يده من عنانه، ورجع إلى مكانه، فقيل له: يا أبا عبد الله، لقد بالغت في السب، فما كان الذنب؟! فقال: سألته حاجة أقلَّ من قيمته فردني عنها بأقبحَ من خلقته.

خرقاء وسعد بن أبي وقاص

لما نزل سعد بن أبى وقاص بالقادسية أميرًا عليها، وهزمت الفرس، وقتل رستم أتت خرقاء بنت النعمان بن المنذر في جماعة من قومها وجواريها وهنَّ في زيها، عليهن المسوح والمقطعات السود، مترهبات تطلب صلته، فلما وقفن بين يديه أنكرهنَّ سعد، فقال: أيكنَّ خرقاء؟ قالت: ها أنا ذا. قال: أنت خرقاء؟ قالت: نعم، فما تكرارك في استفهامي؟! ثم قالت: إن الدنيا دار زوال لا تدوم على أهلها انتقالًا، وتعقبهم بعد حال حالًا، كنا ملوك هذا المصر يجيء لنا خراجه، ويطيعنا أهله مدى الإمرة وزمان الدولة، فلما أدبر الأمر صاح بنا صائح الدهر؛ فشق عصانا، وشتت شملنا، وكذلك الدهر يا سعد؛ إنه ليس يأتي قومًا بمسرة إلا ويعقبهم بحسرة، ثم أنشأت تقول:

وبينا نسوس الناس والأمر أمرنا
إذا نحن فيهم سوقة ليس نُعرفُ
فأفٍّ لدنيا لا يدوم نعيمها
تقلب تاراتٍ بنا وتصرفُ

فقال سعد: قاتل الله عديَّ بن زيد، كأنه ينظر إليها حيث يقول:

إن للدهر صولةً فاحذرنها
لا تبيتنَّ قد أمنت الدهورا
قد يبيت الفتى معافى فيرزا
ولقد كان آمنًا مسرورًا

فبينما هي واقفة بين يدي سعد؛ إذ دخل عمرو بن معدي كرب، وكان زوارًا لأبيها في الجاهلية، فلما نظر إليها قال: أنت خرقاء؟ قالت: نعم. قال: فما دهمك، فأذهب بجودات شيمك؟ أين تتابع نعمتك وسطوة نقمتك؟ فقالت: يا عمرو، إن الدهر عثرات وعبرات تعثر بالملوك وأبنائهم فتفضحهم بعد رفعة، وتفردهم بعد منعة، وتذلهم بعد عز، إن هذا الأمر كنا ننتظره، فلما حل بنا لم ننكره. فأكرمها سعد وأحسن جائزتها، فلما أرادت فراقه قالت: حيِّ أختك بتحيات ملوكنا، لا نزع الله من عبد صالح نعمة إلا جعلك سببًا لردها عليه. ثم خرجت من عنده، فلقيها نساء المدينة فقلن لها: ما فعل بك الأمير؟ قالت: أكرم وجهي، وإنما يكرم الكريمَ كريمٌ.

المتنبي وسيف الدولة

كان المتنبي يأبى شرب الخمر ويكرهه، فألزمه سيف الدولة بن حمدان، فشرب ذات ليلة عنده، فصدرت منه هفوة، وندم لوقته، فقام وانصرف، وبقي لا يحضر مجلسه، فأكثر في طلبه حتى حضر، فأمره بالشرب فامتنع، وأقسم أنه لا يشرب أبدًا خمرًا، وأنشد يقول:

رأيت المدامة قلابةً
تهيج للمرء أشواقهُ
تسيء من المرء تأديبه
ولكن تحسن أخلاقهُ
وبالأمس مت بها موتةً
وهل يشتهي الموت من ذاقهُ؟!

أهل الحجاز والحجاج

مرض الحجاج مرضًا شديدًا، فأرجف أهل الحجاز بموته، فخرج مندملًا من مرضه حتى صعد ذروة المنبر فقال: ألا إن أهل السواق أهل الشقاق والنفاق نفخ الشيطان في عناصرهم، فقالوا: مات الحجاج! وما مات الحجاج، وإن مت فإني والله ما أحب إلَّا الموت، وهل أرجو الخير كله إلَّا بعد الموت؟! وما رأيت الله — علا ذكره وتقدست أسماؤه — رضي بالتخليد لأحد من خلقه إلَّا لأخسهم وأهونهم عليه؛ إبليس، ولقد سأل العبد الصالح ربه، فقال: هب لي ملكًا لا يبقى لأحد من بعدي. ففعل، ثم اضمحل كأنه لم يكن، يا أيها الرجل — وكلكم ذلك الرجل — والله كأني بي وبكم قد صار كل حي منا ميتًا، وكل رطب يابسًا، ونقل كل امرئ في ثياب طاهرة إلى أربع أذرع طولًا في ذراعين عرضًا، وأكلت الأرض شعره، ومصت دمه، ورجع الحبيبان: أهله وولده يقتسمان من ماله، ألا إن الذين يعلمون ما أقول حقًّا. ثم نزل.

الكردي والأمير

حضر بعض مقدمي الأكراد على سماط أمير، وكان على السماط حجلتان مشويتان، فنظر الكردي إليهما وضحك، فسأله الأمير عن ذلك، فقال: قطعت الطريق في عنفوان شبابي على تاجر، فلما أردت قتله تضرع فما أفاد تضرعه، فلما رأى أني قاتله لا محالة التفت إلى حجلتين كانتا في الجبل، فقال: اشهدا عليه أنه قاتلي. فلما رأيت هاتين الحجلتين تذكرت حمقه! فقال الأمير: قد شهدتا! ثم أمر الأمير بضرب عنقه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤