الزاهدون

الراهب والرجل

مرَّ رجل براهب في صومعته، فقال له: من أنيسك؟ فقال: قلبي. قال: فمن جليسك؟ قال: الصبر. قال: فبأي شيء تقطع وقتك؟ قال: بذكر المساكين الذين في الدنيا. قال: فما رأيت في الدنيا؟ قال: ما رأيت أصدق من الموت. قال له: فما بال الخلق لا يتفكرون فيه؟! قال الراهب: إنما يتفكر الأحياء. وأما الموتى فقد أماتوا أنفسهم قبل الموت بحب الدنيا؛ فهم لا يتفكرون.

بشر الحافي والرجل

قال أحدهم: دخلت على بشر في يوم شديد البرد وقد تعرى من الثياب، فقلت: يا أبا نصر، الناس يزيدون الثياب في مثل هذا اليوم وأنت تنقص؟! فقال: ذكرت الفقراء، وما هم فيه ولم يكن لي ما أؤاسيهم به؛ فأردت أن أرافقهم بنفسي في مقاساة البرد.

بلال ومالك بن دينار

خرج بلال بن أبى بردة في جنازة — وهو أمير على البصرة — فنظر إلى جماعة وقوفًا، فقال: ما هذا؟ قالوا: مالك بن دينار يذكِّر الناس. فقال لوصيف معه: اذهب إلى مالك بن دينار فقل له: يرتفع إلينا إلى القبر. فجاء الوصيف فنادى الرسالة إلى مالك، فصاح به مالك: ما لي إليه حاجة فأجيبه فيها، فإن تكن له حاجة فليجئ إلى حاجة نفسه. فلما وقفوا بينهم قام بلال بمن معه إلى حلقة مالك، فلما دنا منه نزل ونزل من معه، ثم جاء يمشي إلى الحلقة حتى جلس، فلما رآه مالك بن دينار سكت فأطال السكوت، فقال له بلال: يا أبا يحيى، ذكِّرْنا. فقال: ما نسيت شيئًا فأذكرك به! فقال: فحدثنا! فقال: أما هذا فنعم، قدم علينا أمير من قبلك على البصرة، فمات فدفناه في هذه الجبانة، ثم أتينا وإذا بفقير قد مات فدفناه أيضًا إلى جانبه، فوالله ما أدري أيهما كان أكرم على الله سبحانه. فقال بلال: يا أبا يحيى، أتدري ما الذي جرَّأك علينا؟ وما الذي أسكتنا عنك؟ لأنك لم تأكل من دراهمنا شيئًا، أما والله لو أخذت من دراهمنا شيئًا ما اجترأت علينا هذه الجراءة.

الحجاج والرجل

حجَّ الحجاج فنزل بعض المياه بين مكة والمدينة ودعا بالغذاء، وقال لحاجبه: انظر مَن يتغذى معي واسأله عن بعض الأمر. فنظر نحو الجبل، وإذا براعٍ بين التلال نائمًا، فضربه برجله، وقال له: ائت الأمير. فأتاه، فقال له الحجاج: اغسل يدك وتغدَّ معي. فقال: دعاني من هو خير منك فأجبته. قال: ومن هو؟ قال: الله تعالى؛ دعاني إلى الصيام فصمت. قال: في هذا الحر الشديد؟! قال: نعم، صمت ليوم هو أشد منه حرًّا. قال: فأفطر وصم غدًا. قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد! قال: ليس ذلك إلي! قال: فكيف تسألني عاجلًا بآجل لا تقدر عليه؟! قال: لأنه طيب. قال: لم تطيبه أنت ولا الطباخ، ولكن طيبته العافية.

أبو عقال وأبو هارون

كان أبو عقال علوان بن الحسن من أبناء الملوك، وكان ذا نعمة وملك، فزهد في الدنيا، وتاب إلى ربه ورجع عن ذلك رجوعًا فارق معه نظراءه؛ فرفض المال والأهل، وهاجر البناء والوطن، وبلغ من العبادة مبلغًا أربى فيه على المجتهدين، ثم انقطع إلى بعض السواحل فصحب رجلًا يكنى أبا هارون الأندلسي منقطعًا مبتهلًا إلى الله تعالى، فرأى منه كبير اجتهاد في العمل، فبينما أبو عقال يسهد ليلة وأبو هارون نائم؛ إذ غالبه النوم، فقال لنفسه: يا نفس، هذا عابد جليل القدر ينام الليل كله فلو أرحت نفسي! فاستلقى قليلًا؛ فرأى في منامه شخصًا، فتلا عليه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (الجاثية: ٢١) إلى آخر الآية، فاستيقظ فزعًا، وعلم أنه المراد، فأيقظ أبا هارون، وقال له: سألتك بالله؛ هل أتيتَ كبيرةً قط؟ قال: لا يا ابن أخي ولا صغيرة عن تعمد! فقال أبو عقال: لهذا تنام أنت، ولا يصلح لمثلي إلا الكر والاجتهاد. ثم انقطع إلى العبادة ومات وهو ساجد في صلاته.

ابن المعلم الهاشمي

قال عبد الله بن المعلم: خرجنا من المدينة حجاجًا، فلما كنا بالرويثة نزلنا، فوقف بنا رجل عليه ثياب رثة ليس له منظر وهيئة، فقال: من يبغي خادمًا؟ من يبغي ساقيًا؟ فقلت: دونك هذه القربة. فأخذها فانطلق، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى أقبل وقد امتلأ أثوابه طينًا فوضعها كالمسرور الضاحك، ثم قال: لكم غير هذا؟ قلنا: لا. وأطعمناه قرصًا باردًا، فأخذه وحمد الله تعالى وشكره، ثم اعتزل وقعد فأكله أكل جائع، فأدركتني عليه الشفقة؛ فقمت إليه بطعام طيب كثير، فقلت له: قد علمت أنه لم يقع منك القرص بموقع فدونك هذا الطعام. فنظر في وجهي وتبسم، وقال: يا عبد الله، إنما هي فورة جوع فما أبالي بأي شيء رددتها. فرجعت عنه، فقال لي رجل إلى جنبي: أتعرفه؟ قلت: لا. قال: إنه من بني هاشم من ولد العباس بن عبد المطلب كان يسكن البصرة، فتاب، فخرج منها متفقدًا، فما عُرف له أثر ولا وقف له على خبر. فأعجبني قوله، ثم اجتمعت به وآنسته، وقلت له: هل لك أن تعادلني؛ فإن معي فضلًا من راحلتي؟ فجزاني خيرًا، وقال: لو أردت هذا لكان لي معَدًّا. ثم آنس إليَّ فجعل يحدثني، فقال: أنا رجل من ولد العباس، كنت أسكن البصرة، وكنت ذا كبر شديد وبذخ، وإني أمرت خادمي أن يحشو فراشًا لي من حرير ومخدة بورد نثر، ففعل، وإني لنائم وإذا بقمع وردة قد أغفلته عين الخادم، فقمت إليه وأوجعته ضربًا، ثم عدت إلى مضجعي بعد إخراج القمع من المخدة، فأتاني آتٍ في منامي في صورة فظيعة فهزني، وقال: أفق من غشيتك، أبصر من حيرتك! ثم أنشأ يقول:

يا خد إنك إن توسد لينًا
وسدت بعد الموت صم الجندل
فامهد لنفسك ساعدًا تسعد به
فلتندمن غدًا إذا لم تفعلِ

فانتبهت فزعًا، فخرجت من ساعتي هاربًا إلى ربي.

عبد الواحد بن زيد والمرأة الحكيمة

قال عبد الواحد بن زيد: ذكر لي أن في جوانب الإبلة جارية مجنونة تنطق بالحكمة، فلم أزل أطلبها حتى وجدتها في خرابة جالسة على حجر وعليها جبة صوف وهي محلوقة الرأس، فلما نظرت إليَّ، قالت من غير أن أكلمها: مرحبًا يا عبد الواحد. فقلت لها: رحب الله بك! وعجبت من معرفتها لي ولم ترني قبل ذلك! فقالت: ما الذي جاء بك ها هنا؟ فقلت: جئت لتعظيني. فقالت: وا عجباه لواعظ يوعظ! ثم قالت: يا عبد الواحد، اعلم أن العبد إذا كان في كفائه ثم مال إلى الدنيا سلبه الله حلاوة الزهد، فيظل حيرانَ والهًا، فإن كان له نصيب عند الله عاتبه وحيًا في سره، فقال: عبدي، أردت أن أرفع قدرك عند ملائكتي وحملة عرشي، وأجعلك دليلًا لأوليائي وأهل طاعتي في أرضي؛ فملت إلى عرض من أعراض الدنيا وتركتني، فورثتك بذلك الوحشة بعد الأنس، والذل بعد العز، والفقر بعد الغنى، عبدي، ارجع إلى ما كنت عليه أُرجع لك ما كنت تعرفه من نفسك. ثم تركتني وولت وانصرفت عنها وبقلبي حسرة منها.

الراهب والرجل

صحب رجل راهبًا سبعة أيام؛ ليستفيد منه شيئًا، فوجده مشغولًا عنه بذكر الله تعالى وعن الفكر لا يفتر، فلما كان اليوم السابع، التفت إليه قائلًا: يا هذا، قد علمت ما تريد، حب الدنيا رأس كل خطيئة، والزهد في الدنيا رأس كل خير، والتوفيق نتاج كل خير. قال: فكيف أعرف ذلك؟ قال: كان جدي رجلًا من الحكماء قد شبه الدنيا بسبعة أشياء؛ فشبهها بالماء المالح يغرُّ ولا يروي ويضر ولا ينفع، وبسحاب الصيف يغر ولا ينفع، وبطل الغمام يغر ويخذل، وبزهر الربيع ينضر ثم يصفر فتراه هشيمًا، وبأحلام الهائم يرى السرور في منامه، فإذا استيقظ لم يكن في يده إلا الحسرة، وبالعسل المشوب بالسم الزعاف يلذ ويقتل، فتدبرت هذه الحروف السبعة سبعين سنة، ثم زدت حرفًا واحدًا؛ فشبهتها بالغول التي تهلك من أجابها، وتترك من أعرض عنها، فرأيت جدي في المنام يقول: يا ابن الرشيد، إنك مني وأنا منك، هي والله الغول التي تهلك من أجابها وتترك من أعرض عنها. قلت: فبأي شيء يكون الزهد في الدنيا؟ قال: باليقين، واليقين بالصبر، والصبر بالعين، والعين بالفكر. ثم وقف الراهب، وقال: خذها منا فلا أراك خلفي إلا متجردًا بفعل دون قول. فكان ذلك آخر العهد به.

ملك إسرائيل والرجل

ركب أحد ملوك إسرائيل يومًا في زي عظيم، فشخصت نحوه الناس ينظرون إليه أفواجًا، حتى مرَّ برجل ورأى شيئًا مكبًّا عليه وهو لم يلتفت إليه ولا رفع رأسه، فوقف الملك عليه، وقال: كل الناس ينظرون إليَّ إلا أنت! فقال الرجل: إني رأيت ملكًا مثلك وكان على هذه القرية فمات مع فقير فدفن إلى جنبه في يوم واحد، وكنا نعرفهما في الدنيا بأجسادهما، ثم كنا نعرفهما بقبريهما، ثم نسفت الريح قبريهما وكشف عنهما فاختلطت عظامهما، فلم أعرف الملك من المسكين، فلذلك أقبلت على عملي، وتركت النظر إليك.

النعمان والحكيم

أشرف النعمان يومًا على الخورنق فأعجبه ما أوتي من الملك والسعة ونفوذ الأمر وإقبال الوجوه نحوه، فقال لأصحابه: هل أوتي أحد مثل ما أُوتيت؟ فقال له حكيم: أهذا الذي أُوتيت شيءٌ لم يزل ولا يزال، أم شيء كان لمن كان قبلك زال عنه وصار إليك؟ قال: بل شيءٌ كان لمن قبلي زال عنه وصار إليَّ وسيزول عني! قال: فسررت بشيء تذهب عنك لذته وتبقى تبعته! قال: فأين المهرب؟ قال: إما أن تقيم وتعمل بطاعة الله أو تلبس أمساحًا وتلحق بجبل وتعبد ربك فيه، وتفر عن الناس حتى يأتيك أجلك. قال: فإذا كان ذلك فما لي؟ قال: حياة لا موت فيها، وشباب لا هرم فيه، وصحة لا سقم فيها، وملك لا يبلى. قال: فأي خير فيما يفنى؟ والله لأطلبن عيشًا لا يزول أبدًا، وملكًا جديدًا. فانخلع من ملكه، ولبس الأمساح، وسار في الأرض، وتبعه الحكيم، وجعلا يعبدان الله حتى ماتا.

سبب سلوِّ أم الهيثم

قيل لأم الهيثم: ما أسرع ما سلوت؟! فقالت: إني فقدت منه سيفًا في مضائه، ورمحًا في استوائه، وبدرًا في بهائه، ولكن قلت:

قدم العهد وأسلاني الزمن
إن في اللحد لمسلى والكفن
وكما تبلى وجوه في الثرى
فكذا يبلى عليهن الحزن

الرجل والمرأة

قال بعضهم: نزلت بامرأة ذات أولاد وثروة، فلما أرادت الارتحال، قالت: لا تنسني إذا وردت هذا الصقع. ثم أتيتها بعد أعوام فوجدتها قد افتقرت وثكلت أولادها وهي ضاحكة مسرورة! فسألتها، فقالت: إني كنت ذات ثروة وجاه، وكانت لي أحزان، فعلمت أن ذلك لقلة الشكر، وأنا اليوم بهذه الحالة أضحك شكرًا لله تعالى على ما أعطاني من الصبر.

زياد والرجل

قال زياد لرجل: أين منزلك؟ قال: وسط البلد. قال: كم لك من ولد؟ قال: تسعة. فقال بعض من حضر: أيها الأمير، إنه يسكن المقابر وله ابن واحد! فقال: أجل داري بين أهل الدنيا والآخرة، ومات لي تسعة فهم لي، وبقي واحد؛ لا أدري؛ أهو لي، أم أنا له؟!

أبو ذر بن عمر يرثي ابنه

لما مات ذر بن عمر قام أبوه على قبره فقال: يا بنيَّ، شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك، فليت شعري ما الذي قلت، وما الذي قيل لك؟ اللهم أنت قد ألزمته طاعتك وطاعتي، فإني قد وهبت له ما قصر فيه من حقي، فهب لي ما قصر فيه من طاعتك، اللهم ما وعدتني من الأجر على مصيبتي به فقد وهبته له، فهب لي من فضلك. ثم قال عند انصرافه: ما علينا بعدك من غضاضة، وما بنا إلى إنسان مع الله حاجة، وقد مضينا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك.

أمير المؤمنين بين مقابر الكوفة

مرَّ أمير المؤمنين بمقابر الكوفة، فقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع، أما الأزواج فقد فرحت، وأما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟! ثم التفت إلى أصحابه، فقال: أما إنهم لو تكلموا لقالوا: «وجدنا خير الزاد التقوى.»

الناسك وأبو نواس

مرَّ ناسك بدار فيها أبو نواس ينشد:

إن في توبتي لفسخًا لجرمي
فاعفُ عني فأنت للعفو أهلُ

فرفع يده وقال: اللهم تب عليه. قال:

لا تؤاخذ بما يقول على السكـ
ـر فتًى ما له لدى الصحو عقلُ

فقال: اللهم أرشدنا. ومضى.

وصف عبد الله الحضرمي للمتصوفين

قيل لأبي عبد الله الحضرمي — وكان يُعرف بالصامت؛ لأنه صمت عشرين سنة: مَن المتصوفون؟ فقال: رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ، فقيل: كيف صفتهم؟ قال: لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ، قيل: فأين محلهم؟ فقال: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ، قيل: زدنا. قال: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا.

فرقد السنجي والحسن

كان فرقد السنجي يلبس المسوح فلقي الحسن، فقال: يا أبا سعيد، ما ألين ثوبك! فقال الحسن: يا فرقد، ليس لين ثيابي يباعدني من الله، ولا خشونتها تقربك منه «إن الله جميل يحب الجمال».

الرشيد والبهلول

لما بلغ الرشيد الكوفة قاصدًا الحج خرج أهل الكوفة للنظر إليه وهو في هودج عال، فنادى البهلول: يا هارون، يا هارون، فقال: من المجترئ علينا؟! فقيل: هو البهلول. فرفع السجف فقال البهلول: يا أمير المؤمنين، روي عن عبد الله العامري قال: «رأيت رسول الله سائرًا إلى الحج؛ لا ضرب، ولا طرد، ولا قال: إليك، إليك»، وتواضعك يا أمير المؤمنين في سفرك هذا خير من تكبرك. فبكى الرشيد حتى جرت دموعه على الأرض، وقال: أحسنت يا بهلول، زدنا. فقال: أيما رجل آتاه الله مالًا وجمالًا وسلطانًا فأنفق ماله، وعفَّ جماله، وعدل في سلطانه كتب في ديوان الله من الأبرار. فقال له الرشيد: أحسنت. وأمر له بجائزة، فقال: لا حاجة لي بها، ردها إلى من أخذتها منه! قال: فنجري عليك رزقًا يقوم بك؟ فرفع البهلول طرفه إلى السماء، وقال يا أمير المؤمنين، أنا وأنت عيال الله، فمن المحال أن يذكرك وينساني.

بعض الصلحاء والزاهد

قال بعض الصلحاء: بينا أنا سائر في بعض جبال بيت المقدس؛ إذ هبطت إلى واد هناك، وإذا أنا بصوت عالٍ ولتلك الجبال دوي منه، فاتبعت الصوت، فإذا أنا بروضة فيها شجر ملتف، ورجل قائم يردد هذه الآية: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ (آل عمران: ٣٠)، فوقفت خلفه وهو يردد هذه الآية، ثم صاح صيحة وخرَّ مغشيًّا عليه، فانتظرت إفاقته، فأفاق بعد ساعة وهو يقول: أعوذ بك من أعمال البطالين، وأعوذ بك من أعمال الغافلين، لك خشعت قلوب الخائفين، وفزعت أعمال المقصرين، وذلت قلوب العارفين، ثم نفض يديه، وهو يقول: ما لي وللدنيا؟! وما للدنيا وما لي؟! أين القرون الماضية؟ وأهل الدهور السالفة؟ في التراب يبلون، وعلى مر الدهور يفنون. فناديته: يا عبد الله، أنا منذ اليوم خلفك أنتظر فراغك. قال: وكيف يفرغ من يبادر الأوقات وتبادره؟ كيف يفرغ من ذهبت أيامه وبقيت آثامه؟ ثم قال: أتت وأنا لها، ولكل شدة أتوقع، ثم لها عني ساعة، وقرأ: وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (الزمر: ٤٧)، ثم صاح صيحة أشدﱠ من الأولى، وخرَّ مغشيًّا عليه، فقلت: قد خرجت روحه. فدنوت منه، فإذا هو يضطرب، ثم أفاق وهو يقول: من أنا؟ ما خطئي؟ هب لي إساءتي بفضلك، وجللني بسترك، واعفُ عني بكرم وجهك، إذا وقفت بين يديك. فقلت له: يا سيدي، بالذي ترجوه لنفسك وتثق به إلا كلمتني! فقال: عليك بكلام من ينفعك كلامه، ودع كلام من أوبقته ذنوبه، أنا في هذا الموضع ما شاء الله أجاهد إبليس ويجاهدني، فلم يجد عونًا عليَّ ليخرجني ممَّا أنا فيه، فإليك عني، فقد عطلت لساني، ومالت إلى حديثك شعبة من قلبي، فأنا أعوذ من شرك بمن أرجو أن يعيذَني من سخطه. فقلت في نفسي: هذا وليٌّ من أولياء الله، أخاف أن أشغله عن ربه. ثم تركته ومضيت لوجهي.

ذو النون المصري والمرأة الزاهدة

قال ذو النون المصري: خرجت يومًا من وادي كنعان، فلما علوت الوادي إذا بسواد مقبل عليَّ وهو يقول: وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (الزمر: ٤٧) ويبكي، فلما قرب مني السواد إذا بامرأة عليها جب صوف وبيدها ركوة فقالت لي: من أنت؟ غير فزعة مني، فقلت: رجل غريب. فقالت: يا هذا، وهل تجد مع الله غربة؟! فبكيت من قولها، فقالت: ما الذي يبكيك؟! فقلت: وقع الدواء على داء قد قرح فأسرع في نجاحه. قالت: فإن كنت صادقًا فلمَ بكيت؟! قلت: يرحمك الله، الصادق لا يبكي؟! قالت: لا، قلت: ولم ذاك؟! قالت: لأن البكاء راحة للقلب! قال ذو النون: فبقيت والله متعجبًا من قولها.

بعض العارفين والرجل

مرَّ رجل ببعض العارفين وهو يأكل بقلًا وملحًا، فقال: يا عبد الله، أرضيت من الدنيا بهذا؟! فقال العارف: ألا أدلك على من رضي بشر من هذا؟! فقال: نعم. قال: من رضي بالدنيا عوضًا عن الآخرة.

الغزالي وبعض الصلحاء

قال بعض الصلحاء: رأيت الغزالي في البرية وعليه مرقعة وبيده ركوة وعصا، فقلت: أيها الإمام، أليس تدريس العلم ببغدادَ خيرًا من هذا؟! فنظر إلي نظر الازدراء، وقال: لما بزغ بدر السعادة من فلك الإرادة، وجنحت شمس الأصول إلى مغارب الوصول:

تركت هوى سعدى وليلى بمعزل
وعدت إلى مصحوب أول منزلِ
ونادت بي الأشواق مهلًا فهذه
منازل من تهوى رويدك فانزلِ

أبو الشمقمق والرجل

كان أبو الشمقمق الشاعر الظريف المشهور قد لزم بيته لثياب رثة كان يستحي أن يخرج بها إلى الناس، فقال له بعض إخوانه يسليه عما رأى من سوء حاله: أبشر يا أبا الشمقمق؛ فقد روي: أن العارفين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة. فقال له: إن كان ذلك حقًّا فوالله لأكونن غنيًّا بالملابس يوم القيامة.

موعظة حكيم

قال بعض الحكماء: مسكين ابن آدم! لو خاف من النار كما يخاف من الفقر لنجا منهما جميعًا، ولو رغب في الجنة كما يرغب في الدنيا لفاز بهما جميعًا، ولو خاف الله في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعًا.

الربيع بن خيثم وأمه

لما رأت أم الربيع بن خيثم ما يلقى الربيع من البكاء والسهر قالت له: يا بنيَّ، ما بالك؟ لعلك قتلت قتيلًا؟! قال: نعم يا أماه! قالت: ومن هو؛ حتى نطلب من أهله العفو عنك؟! فوالله لو يعلمون ما أنت فيه لرحموك وعَفَوْا عنك! فقال: يا أماه، هي نفسي. فبكت رحمة له.

علي بن أبي طالب ونوف البكالي

قال نوف البكالي: رأيت أمير المؤمنين عليًّا ذات ليلة وقد خرج من فراشه، فنظر إلى النجوم، فقال: يا نوف، أراقد أنت، أم رامق؟ قلت: بل رامق يا أمير المؤمنين. قال: يا نوف، طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطًا، وترابها فراشًا، وماءها طيبًا، والقرآن شعارًا، والدعاء دثارًا، يا نوف، إن داود النبي — عليه السلام — قام في مثل هذه الساعة من الليل، فقال: إنها ساعة لا يدعو فيها عبد إلا استجيب له إلا أن يكون عشَّارًا أو عريفًا أو جاهلًا.

الأعرابية وأهل الميت

حكي أن أعرابية دخلت من البادية فسمعت صراخًا في دار، فقالت: ما هذا؟! فقيل لها: مات لهم إنسان. فقالت: ما أراهم إلَّا من ربهم يستغيثون، وبعطائه يتبرمون، وعن ثوابه يرغبون!

أبو العتاهية والمسترشد

كتب رجل إلى أبي العتاهية فقال:

يا أبا إسحاق إني
واثق منك بودك
فأعني بأبي أنـ
ـت على عيبي برشدك

فأجابه أبو العتاهية:

أطع الله بجهدك
راغبًا أو دون جهدك
أعط مولاك الذي تطـ
ـلب من طاعة عبدك

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤