النوادر السابعة

نوادر الخليفة معاوية بن أبي سفيان

وصف ضرار لمعاوية

قال ضرار بن ضمرة: دخلت على معاوية بعد قتل أمير المؤمنين، فقال لي: صف أمير المؤمنين. فقلت: اعفني! فقال: لا بد أن تصفه. فقلت: أما إذا لا بد فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلًا، ويحكم عدلًا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما خشب، وكان فينا كأحدنا؛ يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه بنا لا نكاد نكلمه؛ هيبةً له، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، ولقد رأيته مرة تحت جنح الدجى يتململ تململ َالسليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غرِّى غيري، أبي تعرضت، أم إليﱠ تشوَّقت؟! هيهات هيهات! قد أَبَنْتُكِ ثلاثًا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك يسير، وعيشك حقير، آه آه! من قلة الزاد وبعد السفر، ووحشة الطريق. فبكى معاوية، وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك، فكيف حزنك يا ضرار؟ فقلت: حزن من ذُبح ولدها في حجرها فلا ترفأ عبرتها، ولا يسكن حزنها.

معاوية وعمرو بن العاص وعبد الملك بن مرْوان

دخل عبد الملك بن مروان على معاوية وعنده عمرو بن العاص فسلم ثم جلس، فلم يلبث أن قام، قال معاوية: ما أكرم مروءة هذا الفتى! قال عمرو: إن أخذ بأخلاق أربعة وترك أخلاقًا أربعة: أخذ بأحسن البشر إذا لقي، وبأحسن الحديث إذا حدث، وبأحسن الاستماع إذا حُدث، وبأيسر المؤنة إذا حولف، وترك مشورة من لا يثق بعقله، وترك مجالسة من لا يرجع إلى دينه، وترك مخالطة لئام الناس، وترك من الكلام كل ما يعتذر منه.

معاوية وبكارة الهلالية

دخلت بكارة الهلالية على معاوية يومًا وهو بالمدينة، وكانت قد أسنت وغشي بصرها وضعفت قوتها ترتعش بين خادمين لها، فسلمت وجلست، فرد عليها معاوية السلام، وقال: كيف أنتِ يا خالة؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين. قال: غيَّرَكِ الدهرُ. قالت: كذلك هو ذو غِيَرٍ، من عاش كبر، ومن مات فُقد، فقال عمرو بن العاص: هي والله القائلة يا أمير المؤمنين:

يا زيد دونك فاحتفر من دارنا
سيفًا حسامًا في التراب دفينا
قد كنت أذخره ليوم كريهة
فاليوم أبرزه الزمان مصونا

وقال مروان: هي والله القائلة يا أمير المؤمنين:

أترى ابن هند للخلافة مالكًا
هيهات ذاك وإن أراد بعيدُ
منتك نفسك في الخلاء ضلالةً
أغراك عمرو للشقا وسعيدُ

وقال سعيد بن العاص: وهي والله القائلة:

قد كنت أطمع أن أموت ولا أرى
فوق المنابر من أمية خاطبا
فالله أخر مدتي فتطاولت
حتى رأيت من الزمان عجائبا
في كل يوم للزمان خطيبهم
بين الجميع لآل أحمد عائبا

ثم سكتوا، فقالت: يا معاوية، كلامك غشَّى بصري وقصر حجتي، أنا والله قائلة ما قالوا، وما خفي عليك مني أكثر. فضحك معاوية، وقال: ليس يمنعنا ذلك من برك، اذكري حاجتك. قالت: أما الآن فلا. وانصرفت، فوجه إليها معاوية بجائزة سَنِيَّةٍ.

معاوية والحسن بن علي

خرج معاوية سنة حاجًّا فمر بالمدينة ففرَّق على أهلها أموالًا جزيلة، ولم يحضر الحسن بن علي، فلما حضر قال له معاوية: مرحبًا مرحبًا برجل تركنا حتى نفد ما عندنا وتعرض لنا ببخلنا. فقال الحسن: كيف ينفذ ما عندك وخراج الدنيا يجيء إليك؟! فقال معاوية: قد أمرت لك بمثل ما أمرت به لأهل المدينة وأنا ابن هند. فقال الحسن: قد رددته عليك وأنا ابن فاطمة الزهراء.

معاوية ووالداه

قال أبو حازم الأعرج لسليمان بن عبد الملك: إنما السلطان سوق، فما نُفِق عنده حُمِل إليه. ولما قدم معاوية من الشام وكان عمر قد استعمله عليها دخل على أمه هند فقالت له: يا بنيَّ، إنه قلما ولدت حرة مثلك، وقد استعملك هذا الرجل، فاعمل بما وافقه؛ أحببت ذلك أم كرهته. ثم دخل على أبيه أبي سفيان، فقال له: يا بني، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا عنهم، فرفعهم سبقهم وقصَّر بنا تأخرنا، فصرنا أتباعًا وصاروا قادةً، وقد قلدوك جسيمًا من أمرهم؛ فلا تخالفنﱠ أمرهم، فإنك تجري إلى أحد لم تبلغه، ولو قد بلغته لتنبعث فيه. قال معاوية: فعجبت من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ.

معاوية وعمرو بن العاص

قال عمرو: رأيت معاوية في بعض أيامنا بصفين خرج في عدة لم أره خرج في مثلها، فوقف في قلب عسكره، فجعل يلحظ ميمنةً فيرى الخلل؛ فيبدر إليه من ميسرة، ثم يفعل ذلك بميمنة، فتغنيه اللحظة عن الإشارة، فدخله ذهول لما رأى، فقال: يا ابن العاص، كيف ترى هؤلاء وما هم عليه؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، لقد رأيت من يسوس الناس بالدين والدنيا فما رأيت أحدًا أوتي له من طاعة رعيته ما أوتي لك من هؤلاء؟ فقال: أفتدري من يفسد هؤلاء؟ قلت: لا. قال: في يوم واحد. قال: فأكثرت التعجب. قال: إي والله في بعض يوم. قلت: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كذبوا في الوعد والوعيد، وأعطوا على الهوى لا على الغنى فسدَ جميع ما ترى.

الزرقاء ومعاوية بن سفيان

بينما معاوية بن سفيان جالس في ديوانه بعدما آل الأمر إليه واجتمع هو والحاشية تذاكروا حرب صفين، فقال أحدهم: إنه رأى الزرقاء ابنة عدي بن قيس الهمذانية وهي راكبة على ناقة، واقفة بين الصفين تحرض الناس على القتال، ولم ترهب أحدًا من الفريقين! فقال معاوية: أوَهي حية إلى الآن؟! فقيل له: نعم؛ هي مقيمة بالكوفة. فقال: يجب أن نستقدمها إلينا، ثم كتب إلى عامله بالكوفة أن يبعث بها مع ثقة من ذوي محارمها وعدة من فرسان قومها، وأن يمهد لها وطاءً لينًا، ويسترها بستر حصين، ويوسع لها من النفقة، فأرسل إليها فأقرأها الكتاب، فقالت: إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار لي فإني لا آتيه، وإن كان حتمًا فالطاعة أولى. فحملها وأحسن جهازها على ما أُمر به، فلما دخلت على معاوية، قال: مرحبًا وأهلًا، قدمتِ خيرَ قدوم قدمه وافد، كيف حالك؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، مات الرأس، وبتر الذنب، ولم يعد ما ذهب، والدهر ذو غِيَرٍ، من تفكر بصر، والأمر يحدث بعده الأمر. قال لها معاوية: أتحفظين ذلك يومئذ؟ قالت: لا، والله لا أحفظه ولقد نسيته. قال: لكني أحفظه، لله أبوك حين تقولين: «أيها الناس، ارعووا وارجعوا، إنكم قد أصبحتم في فتنة غشيتكم بها جلابيب الظلم، وجازت بكم عن قصد المحبة، فيا لها فتنة عمياء صماء بكماء، لا تسمع لناعقها، ولا تنساق لقائدها، إن المصباح لا يضيء في الشمس، ولا تنير الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد، ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه، أيها الناس، إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبرًا يا معشر المهاجرين على المضض؛ فإنه قد اندمل الشتات، والتأمت كلمة الحق، ودفع العين الظلمة، فلا يجهلنﱠ أحد فيقول: كيف؟ وأنى؟ ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، الآن آن الأوان، خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، ولهذا اليوم ما بعده، والصبر خير في الأمور عواقبًا»، ثم قال لها: والله يا زرقاء؛ لقد أشركت عليًّا في كل دم يسفكه! قالت: أحسن الله مشاركتك، وأدام سلامتك، مثلك من يبشر بخير، ويسرﱡ جليسه. قال: أويسرك ذلك؟ قالت: نعم، والله لقد سررت بالخبر، فأنى لك بتصديق الفعل؟ فضحك، وقال لها: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته، اذكري حاجتك. قالت: يا أمير المؤمنين، آليت على نفسي أن لا أسأل أميرًا أعنت عليه أبدًا. ثم انصرفت، فأرسل لها معاوية جائزتها.

الأحنف ومعاوية بن أبي سفيان

عدَّدَ معاوية بن أبي سفيان على الأحنف ذنوبًا، فقال: يا أمير المؤمنين، لم ترد الأمور على أعقابها، أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها على عواتقنا، ولئن مددت فترًا من غدر لنمدﱠن باعًا من فتر، ولئن شئت لتصفين كدر قلوبنا بصفو حلمك. قال: فإني أفعل.

معاوية وعبد الله بن عامر

قال معاوية لعبد الله بن عامر: إن لي إليك حاجة. قال: بحاجة أقضيها يا أمير المؤمنين، فسل حاجتك. قال: أريد أن تهب دورك وضياعك بالطائف. قال: قد فعلت. قال: وصلتك برحم فسل حاجتك. قال: حاجتي إليك أن تردها عليﱠ يا أمير المؤمنين. قال: قد فعلت.

معاوية وسودة بنت عمارة

دخلت سودة بنت عمارة الهمدانية على معاوية بعد موت أمير المؤمنين علي، فجعل يؤنبها على تحريضها عليه أيام صفين، وآل أمره إلى أن قال: ما حاجتك؟ فقالت: إن الله مسائلك عن أمرنا، وما افترض عليك من حقنا، ولا زال يعدد علينا من قبلك من يسمو بمكانك، ويبطش بسلطانك، فيحصدنا حصد السنبل، ويسومنا الخسف، ويذيقنا الحتف، هذا بشر بن أرطأة قدم علينا، فقتل رجالنا، وأخذ أموالنا، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فإن عزلته عنا شكرناك وإلا كفرناك، فقال لها معاوية: تهدديني بقومك؟! لقد هممت بأن آمر فينفذ فيك الحكم. فأطرقت سودة ساعة، ثم أنشدت:

صلى الإله على روح تضمنها
قبر فأصبح فيه العزﱡ مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به بدلًا
فصار الحق والإيمان مدفونا

فقال معاوية: من هذا يا سودة؟! قالت: والله هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والله لقد جئته في رجل كان وصيًّا علينا، فجار، فصادفته قائمًا يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته، ثم أقبل عليﱠ بوجهه برفق ورأفة وتعطف، وقال: ألك حاجة؟! قلت: نعم. وأخبرته، فبكى، ثم قال: اللهم أنت الشاهد عليﱠ وعليهم أني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك، ثم أخرج قطعة من جلد، فكتب فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم: قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (الأعراف: ٨٥) فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم من يقبضه منك والسلام»، ثم دفع الرقعة إليﱠ فجئت بها إلى صاحبه، فانصرف عنا معزولًا. فقال معاوية: اكتبوا لها ما تريد، واصرفوها إلى بلادها غير شاكية.

معاوية والأحنف

خطب معاوية يومًا فقال: إن الله تعالى يقول: وَإِن مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (الحجر: ٢١)، فعلامَ تلومونني؟! فقال الأحنف: إنا والله ما نلومك على ما في خزائن الله، ولكن على ما أنزله من خزائنه فجعلته في خزائنك وحُلْتَ بيننا وبينه.

معاوية وعبد الله بن الزبير

كان لعبد الله بن الزبير أرض وكان له فيها عبيد يعملون فيها، وإلى جانبها أرض لمعاوية وفيها أيضًا عبيد يعملون فيها، فدخل عبيد معاوية في أرض عبد الله بن الزبير، فكتب عبد الله كتابًا إلى معاوية يقول له فيه: «أما بعد يا معاوية، فإن عبيدك قد دخلوا أرضي فانههم عن ذلك، وإلا كان لي ولك شأن، والسلام»، فلما وقف معاوية على كتابه وقرأه دَفَعَهُ إلى ولده يزيد، فلما قرأه قال له معاوية: يا بني، ما ترى؟ قال: أرى أن تبعث إليه جيشًا يكون أوله عنده وآخره عندك فيأتوك برأسه! فقال: بل غير ذلك خير منه يا بنيَّ، ثم أخذ ورقة وكتب فيها جواب كتاب عبد الله بن الزبير يقول فيه: «أما بعد؛ فقد وقفت على كتاب ابن الزبير، وساءني ما ساءه، والدنيا بأسرها هينة عندي في جنب رضاه، نزلت عن أرضي لك؛ أضفها إلى أرضك بما فيها من المال والعبيد، والسلام»، فلما وقف عبد الله بن الزبير على كتاب معاوية كتب إليه: «وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، ولا أعدمه الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل، والسلام»، فلما وقف معاوية على كتاب عبد الله بن الزبير وقرأه رمى به إلى ابنه يزيد، فلما قرأه تهلل وجهه وأسفر، فقال له: يا بنيَّ، من عفا ساد، ومن حلم عظم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب، فإذا ابتليت بشيء من هذه الأدواء فداوه بمثل هذا الدواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤