النوادر الثامنة

نوادر الخليفة عمر بن عبد العزيز

زياد وعمر بن عبد العزيز

لما دخل زياد على عمر بن عبد العزيز قال: يا زياد، ألا ترى ما ابتليت من أمر الأمة؟! فقال زياد: يا أمير المؤمنين، والله لو أن شعرة منك نطقت ما بلغت كنه ما أنت فيه، فاعمل لنفسك في الخروج مما أنت فيه، يا أمير المؤمنين، كيف حال رجل له خصم ألدُّ؟ قال: سيئ الحال. قال: فإن كان له خصمان ألدَّان؟ قال: أسوأ الحالة. قال: فإن كانوا ثلاثة؟ قال: لا يهنأه عيش. قال: فوالله ما أحد من أمتك إلا وهو خصمك. فبكى عمر حتى تمنيت أن لا أكون قلت له ذلك.

عمر بن عبد العزيز والمؤذن

قال ميمون بن مهران: كنت عند عمر بن عبد العزيز، فقال لآذنه: من بالباب؟ قال: رجل أناخ الآن زعم أنه ابن بلال مؤذن رسول الله فأذن له، فلما دخل قال: حدِّثني. فقال: حدﱠثني أبي أنه سمع النبي يقول: «من ولي شيئًا من أمور الناس ثم حجب عليه حجب الله عنه يوم القيامة»، فقال عمر لحاجبه: الزم بيتك. فما رُئي بعدها على بابه حاجب، وقال: لا شيء أضيع للمملكة، وأهلك للرعية من شدة الحجاب.

بلال وعمر بن عبد العزيز والعلاء

وفد بلال بن أبي بردة على عمر بن عبد العزيز فجعل يدعي الصلاة، فقال عمر: ذلك للتصنع. فقال له العلاء — وكان حاضرًا: أنا آتيك بخبره، فجاءه وهو يصلي فقال له: ما لي عندك إن بعثت أمير المؤمنين على توليتك العراق؟ قال: عمالتي سنة. وكان مبلغه عشرين ألف درهم، فقال: اكتب به خطك. فكتب إليه، فجاء العلاء إلى عمر فأخبره، فقال: أراد أن يغرنا بالله.

عمر بن عبد العزيز وابن عبد الملك

كان عمر بن عبد العزيز واقفًا مع سليمان بن عبد الملك — أيام خلافته — فسمع صوت رعد؛ ففزع سليمان منه، ووضع صدره على مقدم رحله، فقال له عمر: هذا صوت رحمته، فكيف صوت عذابه؟!

عمر بن عبد العزيز والفتى الزاهد

دخل قوم على عمر بن عبد العزيز يعودونه في مرضه وفيهم شاب ذابل ناحل، فقال له عمر: يا فتى، ما بلغ بك ما أرى؟ قال: يا أمير المؤمنين، أمراض وأسقام. قال له عمر: لتصدقني؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، ذقت من حلاوة الدنيا فوجدتها مرة عواقبها، فاستوى عندي حجرها وذهبها، وكأني أنظر إلى عرش ربنا وإلى الناس يساقون إلى الجنة والنار؛ فأظمأت نهاري وأسهرت ليلي، وقليل كل ما أنا فيه في جنب ثواب الله وخوف عقابه.

عمر بن عبد العزيز والغلام

لما استخلف عمر بن عبد العزيز قدم عليه وفود أهل كل بلد، فتقدم إليه وفد أهل الحجاز فاشرأبﱠ منهم غلام للكلام، فقال عمر: يا غلام، ليتكلم من هو أسنُّ منك. فقال الغلام: يا أمير المؤمنين، إنما المرء بأصغريه؛ قلبه، ولسانه، فإذا منح الله عبده لسانًا لافظًا، وقلبًا حافظًا؛ فقد أجاد له الاختيار، ولو أن الأمور بالسن لكان ها هنا من هو أحق بمجلسك منك. فقال عمر: صدقت، تكلم فهذا السحر الحلال. فقال: يا أمير المؤمنين، نحن وفد التهنئة لا وفد الترزئة، ولم يقدمنا إليك رغبة ولا رهبة؛ لأنا قد أمنا في أيامك ما خفنا، وأدركنا ما طلبنا. فسأل عمر عن سن الغلام، فقيل: عشر سنين. فعجب من فصاحته وقوة جنانه.

عمر بن عبد العزيز وخالد بن عبد الله

دخل خالد بن عبد الله المقري على عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة فقال: يا أمير المؤمنين، من تكون الخلافة قد زانته فأنت قد زنتها، ومن تكون شرفته فأنت قد شرفتها، كما قال الشاعر:

وإذا الدر زان حسن وجوه
كان للدر حسن وجهك زينا

فقال عمر: أُعطِيَ صاحبكم مقولًا، ولم يعط معقولًا.

سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز

قال سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز — وقد أعجبه سلطانه: كيف ترى ما نحن فيه؟ فقال عمر: سرور لولا أنه غرور، وحرم لولا أنه عدم، وملك لولا أنه هلك، وحياة لولا أنه موت، ونعيم لولا أنه عذاب أليم! فظهر في وجه سليمان الكآبة من كلام عمر، ولم ينتفع بنفسه بعد ذلك.

مروءة عمر بن عبد العزيز

قام عمر بن عبد العزيز يومًا وأصلح السراج لجلسائه، فقال أحدهم: ألا أمرتني يا أمير المؤمنين، فكنت أكفيك إصلاحه؟ فقال: ليس من المروءة أن يستخدم المرء جليسه، قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر.

عمر بن عبد العزيز والسكارى

قال المدائني: بينما أبرهة بن الصباح الكندي عند عمر بن عبد العزيز وإذا بفتية سكارى لهم جمال وحشمة، فأمر عمر بضربهم، فقال أبرهة: بالله أيها الأمير، لا تفضح هؤلاء بمصرنا. فقال: إني أقيم الحق فيهم وفي غيرهم واحدًا. فقال أبرهة: يا غلام آتني من شرابهم في القدح فناوله قدحًا فشمه وشربه، وقال: أصلح الله الأمير، ما نشرب في بيوتنا على عادتنا إلَّا من هذا. قال: أطلقوهم. فلما خرج أبرهة قيل له: أتشرب الخمر؟! قال: الله يعلم أني ما شربتها قط، ولكن كرهت أن يفضح مثل هؤلاء في بلدة أنا فيها.

عمر بن عبد العزيز والحسن البصري

كتب عمر بن عبد العزيز لما وليَ الخلافة إلى الحسن بن أبي الحسن البصري أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكتب إليه:

اعلم يا أمير المؤمنين، أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائز، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف، والإمام العادل — يا أمير المؤمنين — كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق الذي يرتاد له أطيب المرعى، ويذودها عن مراتع التهلكة، ويحميها من السباع، ويكتنفها من أذى الحر والقرِّ، والإمام العادل — يا أمير المؤمنين — كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغارًا، ويعينهم كبارًا، يكتسب لهم حياته، ويذخر لهم بعد مماته، والإمام العدل — يا أمير المؤمنين — كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها، حملته كرهًا ووضعته كرهًا، وربته طفلًا، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته وتغتم بشكايته، والإمام العدل — يا أمير المؤمنين — وصي اليتامى، وناصر المساكين، يربي صغيرهم، ويحمي كبيرهم، والإمام العدل — يا أمير المؤمنين — كالقلب بين الجوانح؛ تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده، والإمام العدل — يا أمير المؤمنين — هو القائم بين الله وبين عباده، ويسمع كلام الله، ويسمعهم، وينظر إلى الله، ويريهم، وينقاد إلى الله، ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين، فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله؛ فبدد المال وشرد العيال، فأفقر أهله، وفرق ماله، واعلم — يا أمير المؤمنين — أن الله أنزل الحدود؛ ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من بابها؟! وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟! فاذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده، وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه، فتزود له لما بعده من الفزع الأكبر، واعلم يا أمير المؤمنين، أن لك منزلًا غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، يسلمونك في قصره فريدًا وحيدًا، فتزود لهما، يصحبك يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبه وبنيه، واذكر — يا أمير المؤمنين — إذا بعث من في القبور، وحصل ما في الصدور، فالأسرار ظاهرة، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فالآن — يا أمير المؤمنين — وأنت في مهل قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل، لا تحكم — يا أمير المؤمنين — في عباد الله حكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين؛ فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك وأثقالًا مع أثقالك، ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك، لا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غدًا وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين، وقد عنت الوجوه للحي القيوم، إني — يا أمير المؤمنين — وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهى من قبلي فلم آلُك شفقة ونصحًا، فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه، يسقيه الأدوية الكريهة؛ لما يرجو له في ذلك من العافية والصحة، والسلام.

عمر بن عبد العزيز والعجوز١

لما رجع عمر من الشام إلى المدينة انفرد عن الناس؛ ليعرف أخبار رعيته، فمر بعجوز في خباء لها، فقال: ما فعل عمر؟ قالت: قد أقبل من الشام سالمًا. فقال: ما تقولين فيه؟ فقالت: يا هذا، لا جزاه الله عني خيرًا. قال: ولِمَ؟! قالت: لأنه ما أنالني من عطائه منذ ولي أمر المسلمين دينارًا ولا درهمًا. فقال: وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع؟ فقالت: سبحان الله! واللهِ ما ظننت أن أحدًا يلي على الناس ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها! فبكى عمر، فقال: وا عمراه! كل أحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر! ثم قال لها: يا أمة الله، بكم تبيعينني ظلامتك من عمر فإني أرحمه من النار؟ فقالت: لا تهزأ بنا يرحمك الله! فقال عمر: لست أهزأ بك، ولم يزل بها حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين دينارًا، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فوضعت العجوز يدها على رأسها، وقالت: وا سوأتاه! شتمت أمير المؤمنين في وجهه؟! قال لها عمر: لا بأس عليك يرحمك الله. ثم طلب قطعة جلد يكتب فيها، فلم يجد، فقطع من مرقعته، وكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي الخلافة إلى يوم كذا بخمسة وعشرين دينارًا، فما تدعي عليه عند وقوفه في المحشر بين يدي الله تعالى فعمر بريء منه، شهد عليٌّ ذلك وابن مسعود. ثم دفعها إلى ولده، وقال له: إذا أنا مت فاجعلها في كفني ألقى بها ربي.

جرير وعمر بن عبد العزيز

قدم جرير بن الخطفي على عمر بن عبد العزيز عن أهل الحجاز، فاستأذن في الشعر، فقال: ما لي وللشعر يا جرير، إني لفي شغل عنه؟! فقال: يا أمير المؤمنين، إنها رسالة عن أهل الحجاز. فقال: فهاتها إذًا. فقال:

كم من طرير أمير المؤمنين لدى
أهل الحجاز دهاه البؤس والفقرُ
أصابت السنة الشهباء ما ملكت
يمينه فحناه الجهد والكبر
ومن قطيع الحشا عاشت مخبأة
ما كانت الشمس تلقاها ولا القمر
لما جلتها صروف الدهر كارهة
قامت تنادي بأعلى الصوت يا عمر
١  القصة لعمر بن الخطاب وقد نسبت من الكاتب خطأ لعمر بن عبد العزيز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤