استهلال
إن ملاحظة السجون مهمة دقيقة وحساسة يمكن أداؤها بطرق عدة، ويمكن أيضًا المبالغة في أدائها. فيلعب بعض ملاحظي السجون دور مأمور السجن الهاوي الذي يسيطر عليه هوس الأمن والإدارة والمخاوف المتعلقة بالاحتجاز. ويميل هؤلاء الملاحظون إلى التحدث على نحو متشائم عن عصابات السجون وتهريب المخدرات وأعمال الشغب وشيكة الحدوث، وينظرون إلى السجون على أنها معاقل محاصرة تهدف لحماية الأمن العام. وعلى النقيض، نجد المتطرفين في آرائهم ينظرون إلى السجون على أنها استثناءات عابرة سنتخلص منها عاجلًا أو آجلًا؛ مع أن احتمالات حدوث ذلك تكاد تكون منعدمة بالتأكيد. وعلى النقيض من هذين الفريقين، نجد تيري كوبرز ناقدًا بنَّاءً للسجون يتسم بالإخلاص والمثابرة دون كلل أو تعب. تيري مؤمن بالعمل الإنساني ويسعى للحد من البؤس والتخفيف من المعاناة التي يشعر بأنها تعسفية ولا مبرر لها، بالإضافة إلى أثرها المدمر من الناحية الوظيفية والشخصية.
ودور السجون في الإصلاح ينطوي على مسئوليات لا يمكن تجاهلها من الناحية الأخلاقية. فثمة فارق بين عدم سعي السجون لإصلاح الجناة (وهو الهدف الذي لم يعد يُسعَى إلى تحقيقه حاليًّا) وعدم منح السجناء احتياجاتهم الأساسية، وعدم حماية الضعفاء منهم، وفرض القيود بلا داعٍ وعلى نحو مذلٍّ على السجناء العاقلين أو الذين يعانون من اضطرابات عقلية بسيطة؛ مما يدفعهم إلى الجنون.
هل يحدث ذلك بالفعل؟ هل يمكن أن يحدث حقًّا؟ يبذل كوبرز جهدًا هائلًا في توثيق أمثلة توضح أن الصحة العقلية للسجناء تأثرت سلبًا نتيجة للإهمال والقسوة والأخطاء العلاجية. وفي محاولته توضيح هذا الأمر، يسلط كوبرز الضوء على حالات تعرضت لذلك بأسلوب سرد قصصي مؤثر للغاية. والقصص التي يعرضها كوبرز تعكس مدى المهارة التي ساعدت في الحصول عليها. فمن الصعب استخلاص قصص شخصية في السجون حيث يجب عدم التعبير عن المشاعر ومعاملة الغرباء بتحفظ وحذر. واستخلاص قصص حياتية تعكس معاناة ويأسًا مثل تلك المذكورة في هذا الكتاب أمر صعب للغاية.
وقد ساعد كوبرز في هذا الشأن مؤهلاته الجيدة بوصفه مناصرًا ذا مبادئ لحقوق السجناء. فقد ساهمت شهادته في قاعات المحاكم في اتخاذ قرارات قضائية وإجراء تسويات خارج المحاكم حسَّنت من مصير المدانين في وقتٍ (أغلب الظن أنه صار الآن شيئًا من الماضي) أدت مقاضاة السجون فيه إلى إصلاحات ملموسة في المؤسسات العقابية. وبوصفه شاهدًا خبيرًا في القضايا المتعلقة بالسجون، تمتع كوبرز بحرية دخول السجون والتواصل مع الأشخاص بداخلها دون قيود؛ الأمر الذي لا يحظى به سوى عدد قليل للغاية من الأفراد خارج السجون. وهو يتمتع كذلك بالمصداقية التي لا يحظى بها سوى عدد قليل للغاية أيضًا ممن هم خارج السجون. وإذا جمعنا هذه المزايا، مع حدس متمرس وقدرة هائلة على التعاطف، فستكون النتيجة متوقعة؛ وهي أن يعكس عمله وجهة نظر تحررية وجريئة لا تقبل المساومة، وموقفًا إنسانيًّا حازمًا.
•••
إن الموضوعين اللذين يتناولهما كوبرز في هذا الكتاب — وهما الاضطرابات العقلية التي تتولد «داخل» السجون، وتلك التي تزيدها السجون حدة فيصاب السجين بالجنون — أمران منفصلان، لكنهما يشتركان في فكرتهما المحورية. وعلى نطاق ضيق، يهتم كوبرز ببحث مدى ملاءمة العلاج المقدم إلى المصابين بأمراض عقلية؛ وعلى نطاق أوسع يطرح تساؤلات عن مدى سلامة ظروف وممارسات معينة في السجون. وكلا الاهتمامين يدعوان إلى التركيز على نماذج تؤثر فيها الممارسات غير المقبولة في السجون تأثيرًا سلبيًّا على الاتزان العقلي للضعفاء الذين يكون تشبثهم بالواقع هشًّا أو متقلقلًا.
وأكثر المسائل ذات الصلة هنا هي مسألة السجون ذات الإجراءات الأمنية المشددة أو فائقة التشديد التي تُنشأ بأعداد هائلة في جميع أنحاء الولايات المتحدة. وهذه القلاع المعدنية القاسية يروَّج لها على أنها أحدث ما تم التوصل إليه فيما يتعلق بالمؤسسات العقابية. فيصفها رعاتها بأنها تمثل أحدث التقنيات (التي من المفترض أنها ميزة بديهية)، وأنها منخفضة التكاليف في إدارتها (وهل من شيء أفضل من ذلك؟) وتؤدي وظيفة مهمة للغاية باستيعابها أكثر السجناء المثيرين للمتاعب الذين يصعب التعامل معهم في أي نظام. ومثل معظم ملاحظي السجون الآخرين، يحيط بي حاليًّا العديد من وحدات السجون ذات الإجراءات الأمنية فائقة التشديد التي لا تزال في مرحلة الإنشاء. ويقول مسئولون حكوميون: إن هذه الوحدات مُصمَّمة «لاستيعاب السجناء الذين يعتدون على موظفي السجون ويخلُّون بالنظام في مؤسساتنا»، والغرض هنا هو «إبعاد «السجناء» عن مناطق الحبس العامة.»
وبالوضع في الاعتبار هذا التركيز على عزل السجناء المخلين بالنظام عن الآخرين، يقل الاهتمام بالوجهة التي سيُرسَل إليها هؤلاء السجناء، والظروف في السجون ذات الإجراءات الأمنية فائقة التشديد، والمصير الذي ينتظر السجناء الذين يُرسَلون إلى هذه السجون. يعترف المسئولون بالطبع أن الظروف التي يوجد فيها هؤلاء السجناء صعبة، والبيئة المحيطة بهم قاسية. ويذكرون — بشيء من الفخر — أن الحبس يعني الاحتجاز المطلق وعدم مغادرة السجناء لزنزاناتهم إلَّا لممارسة التمارين الرياضية. ويشيرون إلى أنه لا يوجد تواصل في السجون ذات الإجراءات الأمنية فائقة التشديد — ليس هناك تفاعل إنساني على الأقل — بين السجناء والحرَّاس.
ما لا توضحه هذه التصريحات هو مدى الحرمان الحسي الذي ينطوي عليه العزل المشدد. فمثلما يشير كوبرز، يتضمن هذا العزل قضاء أشهر — وأعوام في بعض الأحيان — في زنزانة رمادية كئيبة تحتوي على مرحاض ودش (معطل غالبًا) وحوض وسرير خفيف نقال، مع إمكانية دخول قفص صغير مسيَّج بالأسلاك مدة ساعة كل يوم. ويُدفَع الطعام البارد عبر فتحة في الباب، وتصدر الأوامر بصوت عالٍ غليظ من سماعات مشوهة الصوت. يمر الوقت بصعوبة وبطء في هذه الأجواء، وإن كانت بعض السجون ذات الإجراءات الأمنية «التقدمية» فائقة التشديد تقدم مواد تعليمية من أجل التعلم الذاتي عبر فتحات الأبواب أو من خلال عرضها على تليفزيون مبرمج مسبقًا. وفي بعض الأحيان فإن إطلاق السراح المبكر من العزل يأتي نتيجة لسلوك نموذجي؛ أي بعد شهور أو أعوام من السكون.
ويشير كوبرز إلى أن السجون ذات الإجراءات الأمنية فائقة التشديد (والبيئات التأديبية بوجه عام) صار يشغلها السجناء المصابون باضطرابات انفعالية؛ نظرًا لأن المرض العقلي يثير عادةً سلوكيات تخالف اللوائح السلوكية بالسجون. وفي بعض الأحيان، ينتج عن ذلك دائرة مفرغة من السلوك الناتج عن أعراض المرض والعقاب؛ فالسجناء المضطربون غير القادرين على التأقلم مع ظروف السجن التقليدية يقل احتمال تكيُّفهم مع الحبس العقابي. وأكثر صور الحبس العقابي تشددًا — مثل العزل بوحدات حراسة فائقة التشديد — يسفر عادةً عن قصور في القدرة على التكيُّف ويؤدي إلى مصير لا يمكن الهروب منه. تتفاقم أعراض المرض العقلي، وتمتلئ السجون بالسجناء الذين ينسحبون من الواقع المؤلم ويُصابون بالهلوسة الشديدة. وما يظهر عليهم من أعراض وخمول وتمتمة غير مفهومة وتململ في النوم وكوابيس توقظهم من النوم، كل هذه أمور من الصعب — إن لم يكن من المستحيل — على الملاحظين العاديين تحديدها، أما الملاحظون الرسميون فهم غير مُرحَّب بهم في مرافق العزل العقابي.
•••
السجون بهذه المواصفات تشتمل على عدد أكبر من اللازم من المصابين باضطرابات خطيرة. الجريمة ليست مهارة، وإنما هي تصرف تلقائي غير منظم وثانوي. هذا فضلًا عن أننا نلقي القبض أيضًا (بفضل الحرب المنتشرة على المخدرات) على الفئات المهمشة التي تعمل على تخدير ذاتها في مجتمعنا المقسَّم إلى طبقات، وهي الفئات التي تعاني من البطالة ولا يمكن توظيفها أيضًا. ويعاني هؤلاء الأشخاص عادةً من مجموعة متنوعة من المشكلات تتضمن غالبًا اضطرابات متعددة متعلقة بتعاطي المخدرات. علاوة على ذلك، فمن الواضح لمعظم الناس خارج فئة الأطباء النفسيين أن الخط الفاصل بين المرض العقلي والسلامة العقلية لا توضحه التشخيصات النفسية الرسمية. ومن ثم، فإن الإقرار بأن سجينًا ما لا يعاني من ذهان واضح الأعراض لا يخبرنا بمدى استقرار السجين أو عدم استقراره، ومدى قدرته على التفاوض في حياته. ومع الوضع في الاعتبار أن السجن بيئة مليئة بالضغوط، فلا عجب إذن أنه كلما زادت الضغوط التي نفرضها، زادت الصعوبات التي يواجهها الكثير من السجناء.
وأخيرًا، فإن المعيار الذي يجعل السجن متحضرًا لا يتعلق بمدى إضرار هذا السجن بالصحة العقلية للسجناء أو عدم الإضرار بها، فهذا مطلب متواضع للغاية من السجون أو أية مؤسسة أخرى تطمح في إدارة الناس أو رعايتهم (بغض النظر عن مدى ما قد يستحقه هؤلاء الناس من استهجان وعقاب). فالمؤسسة الإنسانية المتحضرة يجب أن تكون عادلة وكريمة؛ ولا بد أن تقدم للمقيمين فيها فرصة للتعلم والتطور؛ وأن تعاملهم باحترام وتتيح لهم أي نوع يستحقونه من الثقة أو الصداقة، وأي نوع يحتاجونه من الدعم والرعاية.
ليس هناك الكثير من السجون التي تلبي هذا النوع من المعايير، لكن مثل هذه السجون موجودة في أنحاء العالم. ويومًا ما، بلا شك، سيكتب شخص آخر بعد تيري كوبرز كتابًا بعنوان «الصحة العقلية بالسجون» يوفي فيه هذه السجون حقها؛ بحيث يمكننا الاحتفاء والاقتداء بها.