مقدمة

كثيرًا ما يُطرح عليَّ السؤال التالي: كيف يمكن لطبيب نفسي مجتمعي أن يصير خبيرًا في شئون السجون؟ والواقع أنني صرت خبيرًا بهذه الأمور بطريق غير مباشر. ففي أواخر الستينيات، عملت رئيسًا لأطباء عيادة بانتشي كارتر المجانية في جنوب لوس أنجلوس؛ وكانت تلك العيادة برنامجًا لخدمة المجتمع تديره حركة الفهود السود. وقد رأيت في التطوع بتلك العيادة فرصةً لتقديم الرعاية الطبية لفئة من الناس كانت ستعاني من حرمان شديد لولاها.

في الثالثة صباحًا يوم الثامن من ديسمبر عام ١٩٦٩، أغارت الشرطة على مكتب حركة الفهود السود في جنوب لوس أنجلوس. وكان رجال الشرطة مسلَّحين بمدافع ثقيلة ودبابة، لكن أعضاء حركة الفهود السود الذين وُجدوا آنذاك داخل المكتب رفضوا تسليم أنفسهم إلا في وجود شهود. فأطلقت قوات الشرطة النيران على نحو متكرر على المكتب حتى ملأت جدرانه الثقوب من أثر الرصاص. واستسلم أعضاء الحركة في النهاية. ومَن أصيب منهم أثناء المعركة المسلحة مع الشرطة نُقِل تحت حراسة مشددة إلى جناح السجناء في مستشفى مقاطعة لوس أنجلوس، وقُيِّدوا في أسرَّتهم بالأصفاد، وهم محاصرون من قِبَل رجال الشرطة.

كنت قد عالجت آنذاك بعض الرجال والسيدات من المجتمع الذي قدمت العيادة الخدمة له؛ فطلبت مني أسرهم زيارة المصابين في مستشفى السجن. ونظرًا لأن القانون يعطي السجناء الحق في زيارة الطبيب الشخصي لهم؛ سُمِح لي برؤية المصابين. لاحظت الحراسة المشددة عليهم، ولاحظت أيضًا ما اعتبرته وحشية لا داعي لها. على سبيل المثال، قُيِّد بعض أعضاء حركة الفهود السود في أسرَّتهم تقييدًا وصل في درجة إحكامه إلى أن الأصفاد مزقت الجلد عند الكاحلين والمعصمين. وفي الوقت نفسه، اتسم رجال الشرطة وأفراد الفريق الطبي بعدم الاكتراث إلى حد بعيد بشكاوى السجناء وما يعانونه من ألم، وكذلك بعدم الاستجابة لطلبات هؤلاء السجناء المتعلقة بالحصول على الرعاية الطبية. وطلب مني أعضاء حركة الفهود السود إبلاغ الصحافة عن هذه الانتهاكات. وتصدرت بالفعل تلك الأخبار العناوين الرئيسية في الصحافة.

وبعد بضعة أعوام، تقدم فرع لوس أنجلوس للاتحاد الأمريكي للحريات المدنية بدعوى قضائية بالنيابة عن السجناء ضد قسم شرطة مقاطعة لوس أنجلوس، يقولون فيها: إن الأحوال المزرية وسوء الرعاية الطبية والنفسية في سجن مقاطعة لوس أنجلوس يشكلان عقوبة قاسية وغير اعتيادية، فيما يُعَد انتهاكًا للتعديل الثامن بالدستور (قضية رذرفورد ضد بيتشيس، عام ١٩٧٧). وتذكَّر المحامي الرئيسي بالقضية تقريري عن المعاملة السيئة التي تعرض لها أفراد حركة الفهود السود في الحبس، وطلب مني أن أكون شاهدًا خبيرًا في القضية. لم يكن لي باعٌ كبير آنذاك في تقييم أحوال السجون، لكنني كنت على دراية كافية بالمجالات المعرفية ذات الصلة، بما في ذلك الأبحاث حول الازدحام المفرط والطريقة التي تصمم بها المؤسسات العقابية وآثارها على المُودعين داخلها. لكنني لم أتعامل مع هذا النوع من القضايا المتعلقة بالسجون من قبل؛ ولذا لزم عليَّ اكتساب خبرة جديدة، فقمت — أولًا — بجولة في السجن والتحدث مع العاملين فيه والسجناء.

ثمة مخاوف مرتبطة بدخول أي سجن، حتى لو كنت مهنيًّا تقوم بجولة بأمر من المحكمة. هل هناك نوع من الأمان؟ إن فكرة قضاء عدد كبير من الساعات مع السجناء تثير في النفس قدرًا من الخوف؛ ومن ثمَّ، لم أنم جيدًا في الليلة التي سبقت أول جولة لي في سجن مقاطعة لوس أنجلوس.

لا أزال أتذكر تلك الجولة الأولى. فاحت رائحة الكلوركس والبول من «قفص المخمورين» الذي ضمَّ ستة أو ثمانية رجال أُلقي القبض عليهم الليلة السابقة لليلة التي تجولت فيها. كانت هناك أيضًا «أقفاص تَحفُّظ» قضى فيها الأشخاص المقبوض عليهم من غير المخمورين ليلتهم، مع عدم الاهتمام بالتمييز بين الجاني والضحية. وكانت هناك كذلك «الغرف المطاطية»، وهي زنزانات فردية يبلغ كل من عرضها وعمقها نحو ستة أقدام، ومبطنة الحوائط والأرضية. وقد كانت البطانة قديمة وخشنة ومهترئة في مواضع كثيرة، حيث ظهر الإسمنت أو المعدن الموجود تحتها. خلت تلك الزنزانات المطاطية من النوافذ فيما عدا فتحة صغيرة في الباب. لم يكن هناك أيضًا أي أثاث بها، وكانت هناك حفرة في وسط الأرضية تُستخدَم كمرحاض، مع وجود زر التحكم في تصريف المرحاض خارج الزنزانة. كان بالإمكان سماع الرجال المحبوسين داخل الزنزانات — الذين كان بعضهم عراة — وهم يصرخون ويطرقون بقوة على الأبواب الصلبة المتينة. فسر لي أحد الضباط الأمر بأن العديد من أولئك الرجال خطيرون، والبقية لديهم ميول انتحارية.

أما أقفاص التحفظ، فقد اشتملت على رجال سبق لهم دخول الحبس ويعلمون كيف ينجون داخله، إلى جانب آخرين لم يسبق لهم دخوله ويشعرون بالذعر من التعرض لأي اعتداء. وبالسير في أروقة السجن، سمعت على نحو مستمر صوت خشخشة أبواب وأوامر تصدر بصوت مرتفع، إلى جانب دوي صراخ بين الحين والآخر. وبدا لي أن الضباط كانوا يعاملون السجناء جميعًا باحتقار وعدم اهتمام، كما لو كانوا يعتقدون أن أي سجين يطلب منهم أي شيء إنما يفعل ذلك لخداعهم فحسب.

كانت قصص السجناء مثيرة للمشاعر؛ فأثناء سيري بجوار الزنزانات وغرف التجمع، برفقة كلٍّ من موظفي السجن والمحامين، اقترب مني العديد من السجناء وسألوني عن هويتي وعما أفعله في ذلك المكان. وعندما أوضحت لهم أنني طبيب نفسي أتولى مهمة الخبير في دعوى قضائية جماعية رفعها بعض السجناء، أخذوا يتحدثون إليَّ عن مشكلاتهم ويطلبون مني المساعدة. فأخبرني أحد الرجال بأن الحراس يضربونه، بينما قال آخر إنه قد تعرض للاغتصاب وبحاجة إلى رعاية نفسية. وبكى رجل ثالث وهو يخبرني بأن زوجته وابنته قد توقفتا عن زيارته، وأنه يشعر بالقلق من أن تكونا قد تعرضتا لمشكلة ما، أو أن تكون زوجته تواعد رجلًا آخر. وسألني إن كان بإمكاني الاتصال بابنته والتأكد من أنها بخير. أخبرني رجل رابع أيضًا أنه قد أودِع المستشفى عدة مرات لأسباب مرضية نفسية، وسألني إن كان بإمكاني إجراء فحص نفسي له لتحديد إن كان هناك أساس يمكنه الاستناد إليه في التذرُّع بنقص الأهلية في محاكمته القادمة، في حين أوضح لي سجين خامس أنه سيُطلَق سراحه قريبًا ويرغب في المجيء إليَّ للتحدث معي بشأن ما يراوده من أفكار انتحارية.

بدت تلك القصص نابعة من القلب وقابلة للتصديق. بل إنها، في الواقع، كانت مؤثرة للغاية؛ ما جعلني أشعر بالذنب لاضطراري رفض معظم طلبات أولئك السجناء. وبعد كل جولة من جولاتي المتعددة في ذلك السجن، انتابني مزيج من مشاعر الحزن والارتياح في الوقت نفسه؛ الحزن لأنه ما كان بيدي الكثير لأفعله من أجل تخفيف الآلام التي عبَّر عنها أولئك الرجال، والارتياح لفراغي من عبء الاستماع إلى المآسي التي كانوا يروونها لي، على الأقل في ذلك اليوم.

وبعد تلك الجولات الأولى القليلة، حدث تغيير ما. كان ذلك التغيير خفيًّا في بادئ الأمر، ثم صار أكثر وضوحًا. فقد توقفت رويدًا رويدًا عن تشتيت انتباهي بعيدًا عن الموضوعات المحددة التي كان يُطلب مني تقييمها (مثل مدى ملاءمة جدول التمرينات الرياضية أو الفترة التي ينتظرها السجين قبل أن يتمكن من الالتقاء بطبيب نفسي) من أجل الاستماع إلى استفسارات السجناء. وبدأت أسرع الخُطى عند مروري بأقفاص التحفظ والغرف المطاطية التي سبق لي رؤيتها. أصبحت لا أتأثر بالضوضاء المحيطة بي وبدأت أدرب نفسي على عدم التأثر بالحزن الجارف خلف القضبان. باختصار، صرت أكثر كفاءة في جولاتي. أدركت أن الهدف من تدريب نفسي على عدم التأثر بذلك هو أن أتكيف مع الوضع وأؤدي مهمتي، وقد منحني هذا فهمًا جديدًا للكيفية التي تبلدت بها مشاعر العاملين في السجون تجاه المحن التي يمر بها السجناء. بيد أنه في وقت لاحق، وبعد أن استحممت وشربت كأسًا من النبيذ، لاحظت تعبيرات الصدمة التي بدت على وجوه أصدقائي عندما حدثتهم عن تجاربي داخل السجن.

•••

حُكم لصالح السجناء في هذه القضية، وصدَّقتْ أخيرًا المحكمةُ العليا للولايات المتحدة على القرار الذي اتخذته المحكمة الأدنى. وكفل قرار التراضي للسجناء عددًا محددًا من الساعات كل أسبوع لأداء التمرينات الرياضية خارج زنزاناتهم، ومستوًى أعلى من الفحص الطبي والنفسي عند دخول السجن لتحديد السجناء ذوي الميول الانتحارية ومَن يعانون من الورم الدموي تحت الجافية (وهو جلطة دموية في المخ) نتيجة لصدمة في الرأس أثناء الاعتقال، بالإضافة إلى تحسين الخدمات الطبية والنفسية بالحبس. وفي الأعوام التالية، قمت بدور الخبير في عِدة دعاوى قضائية جماعية أخرى تتعلق بأحوال خدمات الصحة العقلية وجودتها في سجون المقاطعة. وأثناء جولاتي في السجون خلال هذه القضايا، مررت بالعديد من السيدات والرجال النائمين في منتصف النهار على فُرُش متناثرة على أرضيات غرف التجمع؛ نظرًا لاكتظاظ السجن بالسجناء على نحو يحول دون توفير سرير لكل سجين في زنزانته. وأبصرت أيضًا العديد من المشاهد البائسة، واستمعت إلى الكثير من القصص المحزنة.

بعد الحبس الاحتياطي، يتم إيداع المدانين السجن. طلب مني عدد من المحامين عام ١٩٧٩ تولي دور الخبير في قضية توسان ضد روشين (عام ١٩٨٣)، وهي دعوى قضائية جماعية تعلقت بالأحوال في وحدات الحبس الانفرادي بسجنَي سان كوينتن وفولسوم. ضمَّ هذان السجنان آنذاك أعتى السجناء في كاليفورنيا. (نُقل العديد من أولئك السجناء فيما بعد إلى سجن بيليكان باي عند افتتاح ذلك السجن ذي الإجراءات الأمنية المشددة العالية التقنية في عام ١٩٨٩). وأعتى المجرمين أودِعوا «مركز الإصلاح» السيئ السمعة الذي قُتِل فيه جورج جاكسون في أغسطس عام ١٩٧١. وفي الوقت الذي أجريت فيه جولتي الأولى، كانت هناك سياسة في سجن سان كوينتن تنص على أن جميع الزائرين يجب عليهم الذهاب أولًا إلى مكتب مأمور السجن وتوقيع «اتفاق عدم تحمل مسئولية الرهائن»؛ ويعني ذلك أن السجن لن يتحمل أية مسئولية قانونية عن سلامة الزائر في حال وقوع أي حادث تحفظ على رهائن. أشعرني ذلك بالخوف. بدأت التجول في بنايات الزنزانات الضخمة التي تحتوي كلٌّ منها على أربعة أو خمسة طوابق مكدسة من الزنزانات المطلة على منطقة فسيحة مشتركة. كانت الضوضاء لا تتوقف والقمامة تُلقى. وكان الحراس يسيرون في ممشًى فوق الزنزانات ويراقبون السجناء من أعلى. لقد كنت في سجن ذي إجراءات أمنية مشددة.

خلال شهاداتي بالمحاكم، كنت أُسأل كيف يمكنني الادعاء بمعرفة ما يحدث بالفعل في السجون، مع أني لم أعمل «داخلها» مطلقًا. وأعتقد أنه لهذا السبب تحديدًا — أي عدم عملي من قبل في أية مؤسسة عقابية — كان بإمكاني التحلي ببعض الموضوعية. فالعاملون في السجون يصابون غالبًا بحالة من التبلد تجاه شكاوى السجناء. ويقر بعضهم بالفعل بأنهم يضطرون لتجاهل مناشدات السجناء المُعذِّبة للقلوب طلبًا للمساعدة؛ كي يتمكنوا من مواصلة أيام عملهم وإنجاز المهام التي يعتبرونها أولويات. وعندما كنت أوضح لأحد الأطباء النفسيين بالمؤسسات العقابية أن أحد السجناء الذين التقيت بهم يعاني من حالة إحباط حاد أو استحوذ عليه تمامًا القلق أو الأوهام، يُقال لي في كثير من الأحيان إنه ما من خطب بالسجين، والأمر لا يتعدى كونه تلاعبًا من جانبه للحصول على بعض الاهتمام. فبدأت أتساءل إن كان من الممكن أن أكون بهذه السذاجة، أم أن الموظفين في المؤسسات العقابية قد أصيبوا بتبلد الشعور.

وفي أحد السجون الأمريكية ذات الإجراءات الأمنية المشددة التي تفقدتها، سألت كبير الأطباء النفسيين عن حوادث الاغتصاب. فقال لي: إن الصحافة تضخم من أمر يندر حدوثه في السجون، وإنه ما من مسجون شكا من قبلُ من تعرضه للاغتصاب. وفي الأيام العديدة التي تفقدت فيها ذلك السجن، سمعت عن العشرات من حالات الاغتصاب من ضحايا ومعتدين على حدٍّ سواء. من الوارد أن يكون بعض أولئك الرجال يختلقون تلك القصص، لكنني أشك في ذلك؛ فقد بدوا صادقين للغاية أثناء روايتهم ما حدث، وتقارير الضحايا عن الأعراض التالية للحادث تشابهت كثيرًا مع الأوصاف الموجودة في الكتب العلمية عن اضطراب توتر ما بعد الصدمة؛ لذا، فإن كبير الأطباء النفسيين لم يُظهر قدرًا كافيًا من الثقة على الأرجح للرجال الذين الْتقى بهم كي يخاطروا بإفشاء أسرارهم له.

وفي دعوى قضائية جماعية عن أحوال عموم السجناء في سجن سان كوينتن (قضية ويلسون ضد دوكماجين عام ١٩٨٣)، شهدت بأن الضوضاء في بنايات زنزانات عموم السجناء في سجن سان كوينتن تصم الآذان، واستطردت في شرح الآثار المضرة للضوضاء المستمرة على الصحة العقلية للسجناء. اعترض أحد الأطباء النفسيين بإحدى المؤسسات العقابية على ما قلته مدعيًا أن الرجال قد اعتادوا على تلك الضوضاء ولم تعد تزعجهم. وفي إحدى المرات التي عُلِّقت فيها الجلسات، ذهب القاضي بنفسه في زيارة مفاجئة إلى بناية الزنزانات المعنية، وعاد إلى المحكمة، وأوضح في سجلات القضية أن أي أحد يظن أن مستوى الضوضاء في تلك البناية يمكن تحمله لا بد أن يكون قد تبلد شعوره تجاه ما يعانيه السجناء.

وأعتقد أن القدرة المستمرة على الشعور بالصدمة، أو على الأقل الاكتراث عند توقف الشعور بالصدمة، هو ما يجعل طبيبًا سريريًّا مثلي قادرًا على التحلي بدرجة من الموضوعية. وسوف أعرض للقارئ في هذا الكتاب بعضًا من الحالات والمواقف التي لا تزال تصيبني بالقشعريرة، حتى بعد تفقدي العشرات من السجون. معظم هذه القصص أخبرني بها سجناء، وبعضها قصص منشورة بالفعل كما هو موضح في قسم «التعليقات الختامية» الوارد بنهاية الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤