الفصل الثاني

عبقرية الدَّاعي

اتفقت أحوال العالم إذن على انتظار رسالة …

واتفقت أحوال محمد على ترشيحه لتلك الرسالة …

وكان من الممكن أن تتفق أحوال العالم وأحوال محمد، ولا تتفق معها الوسائل التي تؤدَّى بها رسالته على أحسن الوجوه.

كان من الممكن أن ينتظر العالم الرسول، ثم لا يظهر الرسول.

وكان من الممكن أن يظهر الرسول في البيت الصالح وفي البيئة الصالحة، ثم لا تتهيأ له الصفات التي يتم بها أداء الرسالة.

ولكن الذي اتفق في رسالة محمد قد كان أعجب أعاجيب الاتفاق، وكان المعجزة التي تفوق المعجزات؛ لأنها مع ضخامتها، وتعدد أجزائها، وتوافق تلك الأجزاء جميعها، مما يقبله العقل قبولًا سائغًا بغير عنت ولا استكراه …

فكان محمد مستكملًا للصفات التي لا غنى عنها في إنجاح كل رسالة عظيمة من رسالات التاريخ.

كانت له فصاحة اللسان واللغة …

وكانت له القدرة على تأليف القلوب وجمع الثقة …

وكانت له قوة الإيمان بدعوته وغَيرته البالغة على نجاحها …

وهذه صفات للرسول غير أحوال الرسول … ولكنها هي التي عليها المدار في تبليغ الرسالة، ولو اتفقت فيما عداها جميع الأحوال.

الفصاحة

فالفصاحة صفة تجتمع للكلام، ولهيئة النطق بالكلام، ولموضوع الكلام … فيكون الكلام فصيحًا، وهيئة النطق به غير فصيحة، أو يكون الكلام والنطق به فصيحين، ثم لا تجتمع لموضوعه صفة الفصاحة السارية في الأسماع والقلوب.

أما فصاحة محمد؛ فقد تكاملت له في كلامه، وفي هيئة نطقه بكلامه، وفي موضوع كلامه …

فكان أعرب العرب، كما قال عليه السلام: «أنا قرشي واستُرضعت في بني سعد بن بكر.»

فله من اللسان العربي أفصحه بهذه النشأة القرشية البدوية الخالصة … وهذه هي فصاحة الكلام.

ولكن الرجل قد يكون عربيًّا قرشيًّا مسترضعًا في بني سعد، ويكون نطقه بعد ذلك غير سليم، أو يكون صوته غير محبوب، أو يكون ترتيبه لكلماته غير مأنوس … فيتاح له الكلام الجميل ثم يعوزه النطق الجميل.

أما محمد فقد كان جمال فصاحته في نطقه، كجمال فصاحته في كلامه، وخير من وصفَه بذلك عائشة — رضي الله عنها — حيث قالت: «ما كان رسول الله يسرد كسردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بيِّن فَصْلٍ، يحفظه من جلس إليه.»

واتفقت الروايات على تنزيه نطقه من عيوب الحروف ومخارجها، وقدرته على إيقاعها في أحسن مواقعها … فهو صاحب كلام سليم في نطق سليم …

ولكن الرجل قد يكون عربيًّا قرشيًّا مسترضعًا في بني سعد، ويكون سليمًا في كلامه سليمًا في نطقه … ثم لا يقول شيئًا يستحق أن يستمع إليه السامع في موضوعه.

فهذا أيضًا قد تنزَّه عنه الرسول في فصاحته السائغة من شتى نواحيها … فما من حديث له حفظه لنا الرواة الثقات إلا وهو دليل صادق على أنه قد أوتي حقًّا «جوامع الكلم»، ورزق من فصاحة الموضوع كِفَاء ما رزق من فصاحة اللسان وفصاحة الكلام.

الوسامة والثقة

وكانت له مع الفصاحة صباحة ودماثة تحببانه إلى كل من رآه، وتجمعان إليه قلوب من عاشروه، وهي صفة لم يختلف فيها صديق ولا عدو، ولم ينقل عن أحد من أقطاب الدنيا أنه بلغ بهذه الصفة مثل ما بلغه محمد بين الضعفاء والأقوياء على السواء.

وحسبك من حب الضعفاء إياه أن فتى مستعبدًا يفقد أباه وأسرته — كزيد بن حارثة — ثم يظهر له أبوه بعد طول الغيبة، فيؤثر البقاء مع محمد على الذهاب مع أبيه …

وإن خادم خديجة رضي الله عنها — ونعني به ميسرة — يقدمه ليبشر سيدته بالربح والتوفيق في تجارته، وهو أولى أن ينفُس عليه، وأن يدَّعي لنفسه ما اختصه به من الفضل والتقدم.

وحسبك من حب الأقوياء إياه أنه جمع على محبته أناسًا بينهم من التفاوت في المزاج والخصال ما بين أبي بكر وعمر وعثمان وخالد وأبي عبيدة، وهم جميعًا من عظماء الرجال.

ولكن الرجل قد يكون صبيحًا دمثًا محبوبًا، ولا يكون له من ثقة الناس وائتمانهم إياه نصيب كبير؛ لأن الرجل المحبوب غير الرجل الموثوق به، وإذا اتفقت الخصلتان حينًا فمن الجائز أن تفترقا حينًا آخر؛ لأنهما في عنصر الخصال لا تتلازمان.

أما محمد فقد كان جامعًا للمحبة والثقة كأفضل ما تجمعان، وكان مشهورًا بصدقه وأمانته كاشتهاره بوسامته وحنانه، وشهد له بالصدق والأمانة أعداؤه ومخالفوه، كما شهد بهما أحبابه وموافقوه، وامتلأ هو مِن العلم بمنزلته مِن ثِقَة القوم، فأحبَّ أن يستعين بها على هدايتهم وترغيبهم في دعوته فكان يسألهم: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقونني؟»

فيقولون: «نعم، أنت عندنا غير متهم» … إلا أن الإنسان ينفر مما يصدمه في مألوفاته وموروثاته، ولو صدقه وقام لديه ألف برهان عليه. فلم يكن ما بالقوم أنهم لا يصدقون محمدًا ولا يعلمون فيه الشرف والأمانة، وإنما كان بهم أنهم ينفرون من التصديق كما ينفر المرء من خبر صادق يسوءه فيمن يحب أو فيما يحب، وهو مفتوح العينين ناظر إلى صدق ما يلقى إليه.

الإيمان والغَيرة

ومن المحقق أن هذه الموافقات على كثرتها، وهذه الشمائل على ندرتها، لا تزال تتوقف على صفة أخرى يحتاج إليها الداعي أشد من احتياجه إلى الفصاحة والصباحة … وهي إيمانه بدعوته وغيرته على نجاحها. فقد نجح داعون كثيرون تعوزهم طلاقة اللسان وطلاقة القسمات، ولم ينجح قط داع كبير يعوزه الإيمان بصواب ما يدعو إليه والغَيرة عليه …

وقد قضى محمد عليه السلام شبابه وهو يؤمن بفساد الزمان وضلال الأوثان … وجاوره أناس أقل منه نبلًا في النفس ولطفًا في الحس ونفورًا من الرجس، آمنوا بمثل ما آمن به من فساد عصره وضلال أهله، ومن حاجتهم إلى عبادة غير عبادة الأصنام، وآداب غير آدابهم في تلك الأيام. فإذا جاوزهم في صدق وعيه، وسداد سعيه فقد وافق المعهود فيه، الموروث من جده وأبيه.

ولما آمن برسالته هو، ودعوة ربه إياه إلى القيام بأداء تلك الرسالة، لم يهجم على هذا الإيمان هجوم ساعة ولا هجوم يوم، ولم يتعجل الأمر تعجل من يخدع نفسه قبل أن يخدع غيره، ولكنه تردد حتى استوثق، وجزِع حتى اطمأن. وخطر له في فترة من الوحي أن الله قلاه وأعرض عنه، ولم يأذن له في دعوة الناس إلى دينه، ثم تلقى الطمأنينة من وحي ربه ومن وحي قلبه ومن وحي صحبه. فصدع بما أُمِر، ورضي ضميره بما أوتي من الهداية على النحو الذي رضيت به ضمائر الأنبياء وأصحاب الفطرة الدينية، مع ما بينه وبينهم من فارق في الرتبة والأهبة، وما بين زمانهم وزمانه من فارق في الحاجة إلى الإصلاح.

فما من عجب إذن أن يكون محمد صاحب دعوة …

وما من عجب أن تتجه دعوته حيث اتجهت، وأن تبلغ من وجهتها الغاية التي بلغت، وإنما العجب ممن يغفلون عن هذه الحقيقة، أو يتغافلون عنها لهوًى في الأفئدة، فيُشْبِهون اليوم أولئك الجاهلين الذين أصروا أمس على الكفر به، وحجبوا بأيديهم نوره عامدين …

نجاح الدعوة

ما من حركة كبرى في التاريخ تتضح للفهم إن لم يكن نجاح الدعوة المحمدية مفهومًا بأسبابه الواضحة المستقيمة التي لا عوج في تأويلها، وما من شيء غير الغرض الأعوج يذهل صاحبه عن هذه الأسباب الطبيعية البينة، ثم يخيل إليه أن الدعوة الإسلامية كانت فضولًا غير مطلوب في هذه الدنيا، وأن نجاحها مصطنع لا سبب له غير الوعيد والوعود، أو غير الإرهاب بالسيف والإغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين.

أي إرهاب وأي سيف؟!

إن الرجل حين يقاتل من حوله إنما يقاتلهم بالمئات والألوف … وقد كان المئات والألوف الذين دخلوا في الدين الجديد يتعرضون لسيوف المشركين ولا يُعرِّضون أحدًا لسيوفهم، وكانوا يلقون عنتًا ولا يصيبون أحدًا بعنت، وكانوا يَخرجون من ديارهم لِياذًا بأنفسهم وأبنائهم من كيد الكائدين، ونقمة الناقمين، ولا يُخرجون أحدًا من داره.

فهم لم يسلموا على حد السيف خوفًا من النبي الأعزل المفرد بين قومه الغاضبين عليه، بل أسلموا على الرغم من سيوف المشركين ووعيد الأقوياء المتحكمين … ولما تكاثروا وتناصروا حملوا السيف؛ ليدفعوا الأذى ويُبطلوا الإرهاب والوعيد، ولم يحملوه ليبدأوا واحدًا بعدوان أو يستطيلوا على الناس بالسلطان.

فلم تكن حرب من الحروب النبوية كلها حرب هجوم، ولم تكن كلها إلا حروب دفاع وامتناع.

أما الإغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين، فلو كان هو باعثًا للإيمان، لكان أحرى الناس أن يستجيب إلى الدعوة المحمدية؛ هم فسقة المشركين وفجرتهم وأصحاب الترف والثروة فيهم، ولكان طغاة قريش هم أسبق الناس إلى استدامة الحياة واستبقاء النعمة. فإن حياة النعيم بعد الموت محببة إلى المنعمين تحبيبها إلى المحرومين، بل لعلها أشهى إلى الأولين وأدنى، ولعلهم أحرص عليها وأحنى، لأن الحرمان بعد التذوق والاستمراء أصعب من حرمان من لم يذق ولم يتغير عليه حال.

•••

لم يكن أبو لهب أزهد في اللذة من عمر …

ولم يكن السابقون إلى محمد أرغب في النعيم من المتخلفين عنه، ولكننا ننظر إلى السابقين وننظر إلى المتخلفين، فنرى فارقًا واحدًا بينهم أظهر من كل فارق. ذلك هو الفارق بين الأخيار والأشرار، وبين الرحماء المنصفين والظَّلَمة المُتَصلِّفِين، وبين من يعقلون ويصغون إلى القول الحق، ومن يستكبرون ولا يُصغون إلى قول.

ذلك هو الفارق الواضح بين من سبقوا ومن تخلفوا، وليس هو الفارق بين طالب لذة وزاهد فيها، أو بين مخدوع في النعيم وغير مخدوع.

ولعلنا لا نستبين هذه الحقيقة من مثال واحد كما نستبينها من مثال عمر — رضي الله عنه — في إسلامه … فقصته في ذلك نموذج لتلبية الدعوة المحمدية، ينفي كل كلام يقال عن الوعيد والإغراء وأثرهما في إقناع الأقوياء أو الضعفاء.

قال ابن إسحاق: «… خرج عمر يومًا متوشحًا بسيفه، يريد رسول الله ورهطًا من أصحابه … قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين بين رجال ونساء، ومع رسول الله عمه حمزة بن عبد المطلب، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق، وعلي بن أبي طالب، في رجال من المسلمين — رضي الله عنهم — ممن كان أقام مع رسول الله بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له: «من تريد يا عمر؟ …»

فقال: «أريد محمدًا هذا الصابئ الذي فرَّق أمر قريش، وسفَّه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله.»

فقال نعيم: «والله قد غرتك نفسك يا عمر! … أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟ … أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيمَ أمرهم؟»

قال: «وأي أهل بيتي؟»

قال: «خَتَنُك وابن عمك سعيد بن عمرو! … وأختك فاطمة بنت الخطاب … فقد والله أسلما، وتابعا محمدًا على دينه، فعليك بهما».»

قال: «فرجع عمر عامدًا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال: «ما هذه الهينمة التي سمعت؟»

قالا له: «ما سمعت شيئًا! …»

قال: «بلى والله! لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه» … وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت له أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته: «نعم … قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك» فلما رأى عمر ما بأخته من الدم، ندم على ما صنع فارْعَوَى، وقال لأخته: «أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفًا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد» وكان عمر كاتبًا، فلما قال ذلك، قالت له أخته: «إنا نخشاك عليها.»

قال: «لا تخافي» وحلف لها بآلهته لَيرُدَّنَّها إذا قرأها إليها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت له: «يا أخي! … إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر» فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة وفيها «سورة طه» فقرأها فلما قرأ منها صدرًا قال: «ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!» فلما سمع ذلك خباب خرج إليه، فقال له: «يا عمر! والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته وهو يقول: «اللهم أيِّد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب» … فالله الله يا عمر!»

فقال له عند ذلك عمر: «فدلَّني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم»، فقال له خباب: «هو في بيت عند الصفا معه فيه نفر من أصحابه» فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله فنظر من خَلَلِ الباب فرآه متوشحًا السيف، فرجع إلى رسول الله وهو فزع، فقال: «يا رسول الله! … هذا عمر بن الخطاب متوشحًا بالسيف.»

فقال حمزة بن عبد المطلب: «نأذن له … فإن كان جاء يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان يريد شرًّا قتلناه بسيفه.»

فقال رسول الله : «ائذن له!» فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله حتى لقيه بالحجرة فأخذ بِحُجْزته أو بمجمع ردائه، ثم جبذه جبذة شديدة وقال: «ما جاء بك يا بن الخطاب؟ … فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة!»

فقال عمر: «يا رسول الله! … جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله.»

قال: «فكبَّر رسول الله تكبيرة عرف أهل البيت من أصحابه أن عمر قد أسلم.» فتفرق أصحاب رسول الله من مكانهم وقد عزُّوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله، وينتصفون بهما من عدوهم …»»

هذه قصة إسلام عمر بن الخطاب، وهذا موضع ما فيها من الوعيد والإغراء … خرج بالسيف ليقتل محمدًا ولم يخرج عليه أحد من المسلمين بسيف، وقرأ صدرًا من «سورة طه» ليس فيه ذكر للخمر والنعيم وهو: طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ * تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (طه: ١–٧).

فلا جبن إذن، ولا طمع في إسلام عمر بن الخطاب، بل رحمة وإنابة واعتذار …

•••

ولم يكن في إسلام الفقراء الذين هم أقل من عمر ناصرًا، وأضعف منه بأسًا جبن ولا طمع؛ لأنهم تعرضوا بإسلامهم للسيف ولم يخضعوا للسيف حين أسلموا لله ورسوله، وما كفر الذين كفروا لزهد ولا شجاعة؛ فيقال إن الذين سبقوهم إلى الإسلام قد فعلوا ذلك لشغف بلذات الجنة، وجبن عن مواجهة القوة … ولكنهم اختلفوا حيث تطلب طهارة السيرة وصلاح الأمور، فمن كان أقرب إلى هذه الطلبة من غني أو فقير، ومن سيد أو مستعبد فقد أسلم، ومن كان به زيغ عنها فقد أبى … وهذا هو الفيصل القائم بين الفريقين قبل أن يتجرد للإسلام سيف يذود عنه، وبعد أن تجرد له سيف تهابه السيوف، وما يقسم الطائفتين أحد فيضع أبا بكر وعمر وعثمان في جانب اللذة والخوف، ويضع الطغاة من قريش، في جانب العصمة والشجاعة إلا أن يكون به هوى كهوى الكفار من قريش، في الإصرار والإنكار.

•••

إنما نجحت دعوة الإسلام لأنها دعوة طلبتها الدنيا ومهدت لها الحوادث، وقام بها داعٍ تهيَّأ لها بعناية ربه وموافقًا أحواله وصفاته …

فلا حاجة بها إلى خارقة ينكرها العقل، أو إلى علة عوجاء يلتوي بها ذوو الأهواء، فهي أوضح شيء فهمًا لمن أحب أن يفهم، وهي أقوم شيء سبيلًا لمن استقام …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤