الفصل التاسع

الزوج

حق المرأة

الكلام عن زوج يستدعي الكلام عن مكانة امرأة عند رجل، وعن مكانة النساء عامة عند الرجال عامة.

وإنما تعرف مكانة المرأة التي وصلت إليها بفضل محمد ودينه، متى عرفت مكانة المرأة التي استقرت عليها في الجاهلية، ومكانة المرأة التي استقرت عليها في عصره — وبعد عصره — بين أمم أخرى غير الأمة العربية …

وقياسان اثنان كافيان لبيان الفارق البعيد بين ما كانت عليه المرأة في الجاهلية وما صارت إليه بعد رسالة محمد.

كانت متاعًا يورث ويقسم تقسيم السوائم بين الوارثين، فأصبحت بفضل الإسلام ونبيه صاحبة حق مشروع، ترث وتورث ولا يمنعها الزوج أن تتصرف بمالها وهي في عصمته كما تشاء.

وكانت وصمة تدفن في مهدها فرارًا من عار وجودها، أو عبئًا تدفن في مهدها فرارًا من نفقة طعامها، فأصبحت إنسانًا مرعي الحياة، ينال العقاب من ينالها بمكروه. ولم تكن في البلاد الأخرى بأسعد حظًّا منها في البلاد العربية.

فلا نذكر شرائع الرومان واستعبادها للنساء. ولا نذكر المتنطسين في صدر المسيحية وتسجيلهم عليها النجاسة وتجريدهم إياها من الروح.

وكفى أن نذكر عصر الفروسية الذي قيل فيه إنه عصر المرأة الذهبي بين الأمم الأوروبية، وإن الفرسان كانوا يفدون النساء بالدم والمال …

الفروسية عصر الحصان لا المرأة

فهذا العصر كان كما قال الدارسون له: عصر الحصان، قبل أن يكون عصر المرأة أو عصر «السيدة المفداة».

وقد أجمله جون لانجدون دافيز صاحب «التاريخ الموجز للنساء»١ فقال: «إن عصر الفروسية كان معروفًا بما لحظ فيه من فقدان الشبان على الجملة الاهتمام بالجنس الآخر. ولعلنا نقلل من الدهشة لذلك لو أننا وعينا كلمة الفروسية وذكرنا أنها لم تكن ذات شأن بالسيدات كما كانت ذات شأن بالخيل على خلاف ما يروق الكثيرين أن يذكروه، فقلما بلغ الاهتمام بالمرأة مبلغ الاهتمام بالحصان في عصر الفروسية إلا على اعتبار أنها عنوان ضيعة.»
إلى القارئ محادثة من كتاب أغاني الآداب والتحيات Chanson de Geste يروى فيها أن ابنة أوسيس Auseis جلست في نافذتها ذات يوم فعبر بها فتيان — هما جاران وجربرت — وقال أحدهما: «انظر. انظر يا جربرت: وحق العذراء ما أجملها من فتاة!» فلم يزد صاحبه على أن قال: يا لهذا الجواد من مخلوق جميل! … دون أن يلتفت بوجهه … وعاد صاحبه يقول مرة أخرى: «ما أحسبني رأيت قط فتاة بهذه الملاحة. ما أجمل هاتين العينين السوداوين!» وانطلقا وجربرت يقول له: «ما أحسب أن جوادًا قط يماثل هذا الجواد» وهي حادثة صغيرة ولكنها واضحة الدلالة، إذ قلة الاهتمام تورث الازدراء … والحق أن عصر الفروسية يرينا بعض الشواهد الواضحة على هذا الازدراء … وإليك مثلًا حادثة في الكتاب المتقدم يروى فيها أن الملكة بلانشفلور ذهبت إلى قرينها الملك ببن Pepin تسأله معونة أهل اللورين، فأصغى إليها الملك ثم استشاط غضبًا ولطمها على أنفها بجمع يده فسقطت منه أربع قطرات من الدم وصاحت تقول: «شكرًا لك. إن أرضاك هذا فأعطني من يدك لطمة أخرى حين تشاء.»
ولم تكن هذه حادثة مفردة لأن الكلمات على هذا النحو كثيرًا ما تتكرر كأنها صيغة محفوظة، وكأنما كانت اللطمة بقبضة اليد جزاء كل امرأة جسرت في عهد الفروسية على أن تواجه زوجها بمشورة:

… ومتى كانت المرأة تزف إلى زوجها عفو الساعة وكثيرًا ما تزف إلى رجل لم تره قبل ذاك، إما لتسهيل المحالفات الحربية والمدد العسكري، أو لتسهيل صفقة من صفقات الضياع. ومتى كانت بعد زفافها إلى فارس مجنون بالحرب معطل الذكاء قد يكون في معظم الأحوال من الأميين — عرضة للضرب كلما واجهته بمخالفة — أترى سيدة القصر إذن واجدة لها رحمة أو ملاذًا من حياة الشقاء أو من صحبة قرين ليس لها بأهل؟

وعصر أوروبا الحديث

ولقد تقدم الزمن في الغرب من العصور المظلمة إلى عصور الفروسية إلى ما بعدها من طلائع العصر الحديث ولم تبرح المرأة في منزلة مسفَّة لا تفضل ما كانت عليه في الجاهلية العربية، وقد تفضلها منزلة المرأة في تلك الجاهلية …

ففي سنة ١٧٩٠، بيعت امرأة في أسواق إنجلترا بشلنين لأنها ثقلت بتكاليف معيشتها على الكنيسة التي كانت تؤويها …

وبقيت المرأة إلى سنة ١٨٨٢، محرومة حقها الكامل في ملك العقار وحرية المقاضاة.

وكان تعلُّم المرأة سبة تشمئز منها النساء قبل الرجال، فلما كانت إليصابات بلا كويل تتعلم في جامعة جنيف سنة ١٨٤٩ — وهي أول طبيبة في العالم — كان النسوة المقيمات معها يقاطعنها ويأبين أن يكلمنها، ويزوين ذيولهن من طريقها احتقارًا لها كأنهن متحرزات من نجاسة يتَّقِين مساسها.

ولما اجتهد بعضهم في إقامة معهد يعلم النساء الطب بمدينة فلادلفيا الأمريكية أعلنت الجماعة الطبية بالمدينة أنها تصادر كل طبيب يقبل التعليم بذلك المعهد وتصادر كل من يستشير أولئك الأطباء.

وهكذا تقدم الغرب إلى أوائل عصرنا الحديث ولم تتقدم المرأة فيه تقدمًا يرفعها من مراغة الاستعباد التي استقرت فيها من قبل الجاهلية العربية.

فماذا صنع محمد؟ وماذا صنعت رسالة محمد؟

المرأة في الإسلام

حكم واحد من أحكام القرآن الكريم أعطى المرأة من الحقوق كفاء ما فرض عليها: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ (البقرة: ٢٢٨).

وحكم آخر من أحكامه العالية، أمر المسلم بإحسان معاشرتها ولو مكروهة غير ذات حظوة عند زوجها: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (النساء: ١٩).

وأباح لها الدين في الجهاد أن تكسب كما يكسب الرجال: لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ (النساء: ٣٢).

ولم يفضل الرجل عليها إلا بما كلفه من واجب كفالتها وإقامة أوَدِها والسهر عليها …

أما محمد فقد جعل خيار المسلمين خيارهم لنسائهم: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وخياركم خياركم لنسائهم.»

وأمر بمداراة ضعفها ونقصها لأن «المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها».

وأوجب على الرجل أن يتجمل لامرأته ويبدو لها في المنظر الذي يروقها، فقال عليه السلام مما قال في هذا المعنى وهو كثير: «اغسلوا ثيابكم وخذوا من شعوركم واستاكوا وتزينوا وتنظفوا، فإن بني إسرائيل لم يكونوا يفعلون ذلك فزنت نساؤهم.»

وأوجب على الرجل إذا خطب امرأة أن يظهرها على عيبه إن كان به عيب مستور: «إذا خطب أحدكم المرأة وهو يخضب بالسواد فليعلمها أنه يخضب» …

وبلغ من رعاية شعورها ومداراة خجلها الذي فطرت عليه أنه أوجب على الرجل أن يمتعها كما تمتعه لأنها لا تطلب لنفسها ما يطلبه الرجل منها: «فإذا جامع أحدكم أهله فليصدقها، ثم إذا قضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها.»

وكان تأديبه المسلمين في هذه الصلة غاية في الكياسة والترفق، فقال مما قال في هذا المعنى: «إذا دخلت ليلًا فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة وتمشط الشعثة … الكيس، الكيس!»

معاملته لزوجاته

وإنما نلخص ما أوجبه النبي على المسلمين عامة في معاملاتهم لزوجاتهم، وهي دون ما أوجبه على نفسه في معاملة زوجاته بكثير.

فكان يشفق أن يرينه غير باسم في وجوههن، ويزورهن جميعًا في الصباح والمساء، وإذا خلا بهن «كأن ألين الناس ضحاكًا بسامًا» كما قالت عائشة رضي الله عنها.

ولم يجعل من هيبة النبوة سدًّا رادعًا بينه وبين نسائه، بل أنساهن برفقه وإيناسه أنهن يخاطبن رسول الله في بعض الأحايين. فكانت منهن من تقول له أمام أبيها: «تكلم ولا تقل إلا حقًّا …» ومن تراجعه أو تغاضبه سحابة نهارها، ومن تبلغ في الاجتراء عليه ما يسمع به رجل كعمر بن الخطاب في شدته، فيعجب له ويهم أن يبطش بابنته حفصة لأنها تجترئ كما يجترئ الزوجات الأخريات. وإذا رأى النبي غضبًا كهذا من جرأة كتلك كف من غضب الأب، وقال له: ما لهذا دعوناك!

وقد كان يتولى خدمة البيت معهن، أو كما قال: «خدمتك زوجتك صدقة …»

وكان يستغفر الله فيما لا يملك من التسوية بين إحداهن وسائرهن وهو ميل قلبه: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك.

ولما أقعده مرض الوفاة أن يزورهن كل يوم كما عودهن، بعث إليهن فتلطف في سؤالهن: «أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟» ليقلن: عند عائشة ويأْذَنَّ له في الإقامة ببيتها. ولو أنه أحل لنفسه أن يقيم حيث أقام وهو مريض لما كان في ذلك من حرج.

حديث الإفك

والمعاملة الطيبة في الزمن الطويل خلق نادر بين الناس، ولكنه في حالة الرضا خلق لا يشق فهمه على كثيرين.

إلا أن الخلق الذي يشق فهمه على الأكثرين هو طيب المعاملة عندما تتعرض الحياة الزوجية لأخطر ما يمسها من خطر وهو المساس بالوفاء. في هذه الخصلة تتسامى الحضارة الحديثة ما تتسامى فلا نخالها تحلم بمعاملة أطيب ولا أكرم من المعاملة التي أثرت عن النبي في قصة عائشة بنت الصديق وهي أحظى نسائه لديه، ونلخصها مما روته بلسانها إذ تقول — رضي الله عنها:
… كان رسول الله إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه، فأيها خرج سهمها خرج بها رسول الله معه. وأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، ثم قفلنا من الغزوة إلى أن دنونا من المدينة، فقمت حين آذنوا بالرحيل فتمشيت حتى جاوزت الجيش وقضيت من شأني، وأقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقدي قد انقطع، فرجعت ألتمسه فحبسني ابتغاؤه. وأقبل إلي الرهط الذي كانوا يرحلون لي٢ فحملوا هودجي وهم يحسبون أني فيه، وكانت النساء إذ ذاك خفافًا لم يهبلن٣ ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه إذ كنت مع ذلك جارية حديثة السن.

ووجدت عقدي فجئت منازل الجيش وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفتقدونني فيرجعون إلي.

فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي قد عرس من وراء الجيش فأدلج٤ فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فعرفني حين رآني، واسترجع فاستيقظت وخمرت وجهي بجلبابي، والله ما يكلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته وركبتها وانطلق يقودها حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا في نحر الظهيرة.٥

فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول …

واشتكيت حين قدمنا المدينة شهرًا والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك.

ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل رسول الله فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ فذاك يريبني، ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع.٦

ثم عدنا فعثرت أم مسطح في مِرْطها، فقال: تعس مسطح!

قلت: بئس ما قلت! أتسبين رجلًا قد شهد بدرًا؟

قالت: أي هنتاه٧ أوَلَم تسمعي ما قال؟

قلت: وماذا قال؟

فأخبرتني بقول أهل الأفك، فازددت مرضًا إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي فدخل علي رسول الله فسلم. ثم قال: كيف تيكم؟ استأذنت أن آتي أبوي: أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي.

قالت أمي: يا بنية هوني عليك. فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها.

قلت: سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم.

ودعا رسول الله علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد يستشيرهما في فراق أهله. فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، وقال لرسول الله: هم أهلك ولا نعلم إلا خيرًا.

وأما علي بن أبي طالب فقال: لم يضيِّق الله عليك، والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك.

فدعا رسول الله بريرة يسألها: هل رأيت من شيء يريبك في عائشة؟

قالت: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرًا قد أغمصه٨ عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن٩ فتأكله.

… وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي …

فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله فسلم، ثم جلس وتشهد، ثم قال: أما بعد يا عائشة فإني قد بلغني عنك كذا وكذا. فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه.

فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله! فقال: والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله.

فقلت لأمي: أجيبي عني. فقالت كذلك، والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله.

قلت — وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن: إني والله قد عرفت أنكم سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به، فإن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لتصدقوني، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلًا إلا كما قال أبو يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.

ثم تحولت فاضطجعت على فراشي.

… فوالله ما رام رسول الله مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله — عز وجل — على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان١٠ من العرق في اليوم الشاتي.

فلما سري عن رسول الله وهو يضحك كان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة! … أما الله فقد برأك.

قال لي أمي: قومي إليه.

قلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي … وكان أبو بكر ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره … فأقسم ألا ينفق عليه شيئًا أبدًا. فأنزل الله عز وجل: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ … إلى قوله: أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ (النور: ٢٢).

فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، ورجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه.

•••

تلك هي القصة التي عرفت بقصة الإفك كما روتها لنا السيدة عائشة — رضي الله عنها. وهي مسبار صادق يسبر لنا أغوار المروءة والرفق في معاملة النبي لزوجاته حيث لا رفق ولا مروءة عند الأكثرين. فليس النبي هنا في حالة من حالات الرضا التي تسلس الطباع ولا تستغرب معها المودة وطول الأناة، ولكنه في حالة من تلك الحالات التي تثير الحمية وتثير الحب وتثير النقمة وتثير في النفس البشرية كل ساكنة تدعو إلى طيب المعاملة، فلم يكن في هذه الحالة إلا كرمًا خالصًا بما سلك في أمر نفسه وفي أمر أهله وفي أمر دينه، ولم يدع لحالم من حالمي الحضارة الحديثة مرتقى يتطلع إليه في جميع هذه الغايات.

سمع النبي حديثًا يلاك بين المنافقين، ويسري إلى المسلمين، بل إلى خاصة ذويه الأقربين؛ حديثًا يسمعه رجل كعلي بن أبي طالب في بره وكرم نحيزته؛ فلا يرى بعده حرجًا من الطلاق والنساء كثيرات.

سمع النبي ذلك الحديث المريب فلم يقبله بغير بينة، ولم يرفضه بغير بينة، وكان عليه أن يعود زوجه المريضة أو يجفوها إلى حين. فعادها وبه من الرفق والإنصاف ما يأبى عليه أن يفاتحها في مرضها بما يخامر نفسه الكريمة، وبه من الموجدة والترقب ما أبى عليه أن يقابلها بما كان يقابلها به والنفس صافية كل الصفاء، وظل يسأل عنها سؤال متعتب ينتظر أن تشفى، وأن تأتيه البينة؛ فيشتد كل الشدة أو يرحم كل الرحمة، ولا يعجله لغط الناس أن يأخذ في هذا الموقف الأليم بما توجبه الحمية وما توجبه المروءة في آن.

وسأل من ينبغي أن يسأل: عليًّا وأسامة وهما بمقام ولديه، وبريرة الجارية التي تعرف عائشة وتخلص لسيدها كما تخلص لسيدتها، وضرة لعائشة تنافسها وتكاد أن تضارعها في حظوتها لديه: زينب بنت جحش التي كانت أسرع من يقول لو علمت شيئًا يقال، فاستعاذت بالله وقالت: «أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرًا.»

واتصل الحديث بعائشة فاستأذنته في زيارة أهلها، وآن له أن يفاتحها وقد وصل النبأ إلى سمعها ولم يئن له قبل ذلك وهو كاظم ما في فؤاده قادر على كتمانه مخافة أن يؤذيها بغير حق وهي تشكو سقامها.

فاتحها لتبرئ نفسها أو تستغفر الله.

وغضبت غضب البريء المشكوك فيه، وإنها لبريئة في نظر كل منصف يفهم أن امرأة كعائشة لا تعرض نفسها لهذه الريبة أمام جيش، وفي وضح النهار، ولغير ضرورة، ومع رجل من المسلمين يتقي ما يتقيه المسلم في هذا المقام من غضب النبي وغضب المسلمين وغضب الله، فتلك خلة تترفع عنها من هي أقل من عائشة منبتًا ومنزلة وخلقًا وأنفة، فكيف بها في مكانها المعلوم.

إلا أن النبي أراد لها البراءة أمام الخلق عامة وأمام نفسه المحبة، حذرًا أن تكون تبرئته إياها عن محبة وضعف لا عن تبين واستيثاق، فلما قضى كل حق وانتهى به الاستيثاق إلى الثقة كان قد وفى الكرم والحمية والإنصاف والرحمة أجمعين.

نعم وفي الرحمة حتى باللاغطين المتعجلين الذين أبدءوا وأعادوا في ذلك الحديث المريب. وما أحد أرحم ممن يرحم المفترين على سمعة أهله وهناءة بيته وأمان سربه، ولا يعذر الناس أحدًا كما يعذرون نبيًّا مطاعًا ينال في عرضه فينال بالعقاب العدل من استحقوه.

سماحة الكريم

ولقد علمنا من رواية السيدة عائشة كما علمنا من روايات شتى أن عبد الله بن أبي بن سلول كان أكبر اللاغطين بحديث الإفك عن سوء نية وكيد مبيت للنبي ودينه، وكان هذا الرجل — كما تقدم في بعض فصول هذا الكتاب — بغيضًا إلى المسلمين متهمًا عندهم يتوجسون منه، ويسمونه رأس المنافقين، ولا يكفون عن طلب دمه واستئذان النبي في قتله فما ضرَّ النبي لو خلى بين المسلمين وبينه يحاسبونه على فريته ويحاسبونه على كيده وينتقمون لعرض النبي منه ليأمنوا شره ويجعلوه عبرة لغيره؟

وإذا قيل إن عبد الله بن أبي كان من أصحاب العصبية التي يحسب حسابها وتتقى بوادرها، فماذا يقال في مسطح وهو مكفول أبي بكر وصنيعته الذي يأكل من ماله؟ ما الذي أنجاه من السخط والعقاب وكفل له دوام البر والمعونة لولا سماحة النبي وسماحة أبي بكر وسماحة القرآن.

على أن العصبية التي كان عبد الله بن أبي يلوذ بها لم تكن لتحميه عقاب النبي لو أراده بعقاب ولو كان أصرم عقاب، فما من عصبية هي أقرب إلى رحم الرجل وأولى بالذود عنه من ولده المشهور ببره. وقد أسلفنا أن ولد عبد الله قد تطوع لقتله يوم قيل له إن النبي يهدر دمه ويقضي بموته …

إنما هي سماحة الكريم …

إنما هي السماحة التي شملت مسطحًا كما شملت كبير المنافقين، وخرجت من حديث الإفك كله بالعفو عن جميع المسيئين مخلصين في الرأي وغير مخلصين، وهي التي سبرت غورًا في قصة هذا الحديث فتكشفت عن أطيب معاملة للزوجات في أحرج الحالات، وتلك هي المعاملة الطيبة في مثلها الأعلى، معاملة لا تتبدل بعد أيام وشهور بل تطول مدى السنين، وتطول مدى السنين مع نساء مختلفات لا مع امرأة واحدة، وتطول في جميع الحالات ومنها حالة الألم البالغ، ولا تنحصر في حالة الرضا والطمأنينة، وأقل من ذلك أمنية يتمناها الحالمون بالوئام بين الأزواج في العصر الذي وصفوه بعصر المرأة، لفرط ما أطنب فيه المطنبون من إكبار شأنها والدعوة إلى إنصافها.

تعدد الزوجات

هنا يعرض لنا الكلام عن تعدد زوجات النبي، وهو الهدف الثاني الذي يرميه المشهرون بالإسلام، فيكثرون من رميه كلما تكلموا عن أخلاق محمد عليه السلام وذكروا منها ما يزعمونه منافيًا لشمائل النبوة، مخالفًا لما ينبغي أن يتصف به هداة الأرواح …

السيف والمرأة! …

كأنهم يريدون أن يجمعوا على النبي بين الاستسلام للغضب والاستسلام للهوى، وكلاهما بعيد من صفات الأنبياء.

أما السيف فقد أسلفنا الكلام فيه.

أما المرأة فالظنة فيها أضعف من الظنة في السيف على ما نراه، لأن الاستسلام للشهوة آخر شيء يخطر على بال الرجل المحقق — مسلمًا كان أو غير مسلم — حين يبحث في تعدد زوجات النبي، وفيما يدل عليه ذلك التعدد، وفيما اقتضاه.

قال لنا بعض المستشرقين إن تسع زوجات لدليل على فرط الميول الجنسية …

قلنا إنك لا تصف السيد المسيح بأنه قاصر الجنسية Undersexed لأنه لم يتزوج قط، فلا ينبغي أن تصف محمدًا بأنه مفرط الجنسية Oversexed لأنه جمع بين تسع نساء.

ونحن قبل كل شيء لا نرى ضيرًا على الرجل العظيم أن يحب المرأة ويشعر بمتعتها. هذا سواء الفطرة لا عيب فيه، وما من فطرة هي أعمق في طبائع الأحياء عامة من فطرة الجنسين والتقاء الذكر والأنثى، فهي الغريزة التي تلهم الحي في كل طبقة من طبقات الحياة ما لا تلهمه غريزة أخرى. أرأيت إلى السمك وهو يعبر الماء الملح في موسمه المعلوم فيطوي ألوفًا من الفراسخ ليصل إلى فرجة نهر عذب يجدد فيها نسله ثم يعود أدراجه؟ … أرأيت إلى العصفور وهو يبتني عشه ويعود من هجرته إلى وطنه؟ أرأيت إلى الزهر وهو يتفتح ليغري الطير والنحل بنقل لقاحه؟ أرأيت إلى سنة الحياة في كل طبقة من طبقات الأحياء؟ ما هي سنَّتُها إن لم تكن هي سنة الألفة بين الجنسين؟ وأين يكون سواء الفطرة إن لم يكن على هذا السواء؟

فحب المرأة لا معابة فيه …

هذا هو سواء الفطرة لا مراء …

وإنما المعابة أن يطغى هذا الحب حتى يخرج عن سوائه، وحتى يشغل المرء عن غرضه، وحتى يكلفه شططًا في طلابه، فهو عند ذلك مسخ للفطرة المستقيمة يعاب كما يعاب الجور في جميع الطباع …

فمن الذي يعلم ما صنع النبي في حياته ثم يقع في روعه أن المرأة شغلته عن عمل كبير أو عن عمل صغير؟

مَنْ مِنْ بناة التاريخ قد بنى في حياته وبعد مماته تاريخًا أعظم من تاريخ الدعوة المحمدية والدول الإسلامية؟

ومن ذا الذي يقول إن هذا عمل رجل مشغول؟

عم شغلته المرأة؟ ومن ذا تفرغ لعظيم من المسعى فبلغ فيه شأو محمد في مسعاه؟

فإن كانت عظمة الرجل قد أتاحت له أن يعطي الدعوة حقها ويعطي المرأة حقها فالعظمة رجحان وليست بنقص، وهذا الاستيفاء السليم كمال وليس بعيب. ورسالة محمد إذن هي الرسالة التي يتلقاها أناس خلقوا للحياة، ولم يخلقوا نابذين لها ولا منبوذين منها. فليست شريعة هؤلاء بالشريعة المطلوبة فيما يخاطب به عامة الناس في عامة العصور.

وأعجب شيء أن يقال عن النبي إنه استسلم للذات الحس؛ وقد أوشك أن يطلق نساءه أو يخيرهن في الطلاق لأنهن طلبن إليه المزيد من النفقة وهو لا يستطيعها.

فقد شَكَوْن — على فخرهن بالانتماء إليه — أنهن لا يجدن نصيبهن من النفقة والزينة، واجتمعت كلمتهن على الشكوى، واشتددن فيها حتى وجم النبي وهم بتسريحهن، أو تخييرهن بين الصبر على معيشتهن والتسريح.

وذهب إليه أبو بكر يومًا «يستأذن عليه فوجد الناس جلوسًا لا يؤذن لأحد منهم ثم دخل أبو بكر وعمر من بعده، فوجدا النبي جالسًا وحوله نساؤه واجمًا ساكنًا. فأراد أبو بكر أن يقول شيئًا يسري عنه، فقال: «يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة! سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها» فضحك رسول الله وقال: «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة! … فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، ويقولان: «تسألن رسول الله ما ليس عنده؟»

فقلن: «والله لا نسأل رسول الله شيئًا أبدًا ليس عنده» ثم اعتزلهن الرسول شهرًا أو تسعة وعشرين يومًا، فنزلت بعدها الآية التي فيها التخيير وهي: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (الأحزاب: ٢٨، ٢٩).

فبدأ الرسول بعائشة فقال لها: «يا عائشة! … إني أريد أن أعرض عليك أمرًا أحب ألا تتعجلي فيه حتى تستشيري أبويك …»

قالت: «وما هو يا رسول الله؟» فتلا عليها الآية …

قالت: «أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ … بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة …» ثم خير نساءه كله فأجبن كما أجابت عائشة، وقنعن بما هن فيه من معيشة كان كثير من زوجات المسلمين يظفرن بما هو أنعم منها.

علام يدل هذا؟

نساء محمد يشكون قلة النفقة والزينة، ولو شاء لأغدق عليهن النعمة وأغرقهن في الحرير والذهب وأطايب الملذات.

أهذا فعل رجل يستسلم للذَّات حسِّه؟

أما كان يسيرًا عليه أن يفرض لنفسه ولأهله من الأنفال والغنائم ما يرضيهن ولا يغضب المسلمين، وهم موقنون أن إرادة الرسول من إرادة الله؟ …

وماذا كلفه الاحتفاظ بالنساء حتى يقال إنه كان يفرط في ميله إلى النساء؟

هل كلفه أن يخالف ما يحمد من سننه أو يخالف ما يحمد من سيرته أو يترخص فيما يرضاه أتباعه ولا ينكرونه عليه؟

لم يكلفه شيئًا من ذلك، ولم يشغله عن جليل أعماله وصغيرها، ولم نر هنا رجلًا تغلبه لذات الحس كما يزعم المشهرون، بل رأينا رجلًا يغلب تلك الملذات في طعامه ومعيشته وفي ميله إلى نسائه، فيحفظها بما يملك منها ولا يأذن لها أن تسومه ضريبة مفروضة عليه، ولو كانت هذه الضريبة بسطة في العيش قد ينالها أصغر المسلمين، ولا شك في قدرة النبي عليها لو أراد.

رجل الجد والرصانة

وهكذا نبحث عن الرجل الذي توهمه المشهرون من مؤرخي أوروبا فلا نرى إلا صورة من أعجب الصور التي تقع في وهم واهم.

نرى رجلًا كان يستطيع أن يعيش كما يعيش الملوك ويقنع مع هذا بمعيشة الفقراء، ثم يقال إنه رجل غلبته لذات حسه!

ونرى رجلًا تألَّبَت عليه نساؤه لأنه لا يعطيهن الزينة التي يتحلَّين بها لعينه، ثم يقال إنه رجل غلبته لذات حسه! …

ونرى رجلًا آثر معيشة الكفاف والقناعة على إرضاء نسائه بالتوسعة التي كانت في وسعه، ثم يقال إنه رجل غلبته لذات حسه! …

ذلك كلام لو شاء المشهرون أن يرسلوه كلامًا مضحكًا مستغربًا لأفلحوا فيما قالوه أحسن فلاح. أو لعله أقبح فلاح! …

ويزيد في غرابته أن الرجل الذي توهموه ذلك التوهم لم يكن مجهولًا قبل زواجه ولا بعد زواجه فتخبط فيه الظنون ذلك الخبط الذريع.

فمحمد كان معروفًا بين الشباب قبل قيامه بالدعوة الدينية كأشهر ما يعرف فتى من قريش وأهل مكة.

كان معروفًا من صباه إلى كهولته فلم يعرف عنه أنه استسلم للذات الحس في ريعان صباه، ولم يسمع عنه أنه لها كما يلهو الفتيان حين كانت الجاهلية تبيح ما لا يباح، بل عرف بالطهر والأمانة واشتهر بالجد والرصانة، وقام بالدعوة بعدها فلم يقل أحد من شانئيه والناعين عليه والمنقبين وراءه عن أهون الهنات: تعالوا يا قوم فانظروا هذا الفتى الذي كان من شأنه مع النساء كيت وكيت يدعوكم اليوم إلى الطهارة والعفة ونبذ الشهوات … كلا … لم يقل أحد هذا قط من شانئيه وهم عديد لا يحصى ولو كان لقوله موضع لجرى على لسان ألف قائل.

ولمَّا بنى بأولى زوجاته — خديجة — لم تكن لذَّات الحس هي التي سيطرت على هذا الزواج؛ لأنه بنى بها وهي في نحو الأربعين وهو في نحو الخامسة والعشرين، ونيف على الخمسين، وأوتي الفتح المبين وليس له من زوجة غيرها، ولا من رغبة في الزواج بأخرى.

ولم يكن وفاؤه لها بقية حياته وفاء للذات حس أو ذكرى متاع جميل لأنه فضلها على عائشة في صباها وهي أحب نسائه إليه، وكانت عائشة تغار منها في قبرها فلم يكتمها قط أنه يفضلها عليها.

قالت له مرة: هل كانت إلا عجوزًا بدلك الله خيرًا منها، فقال له مغضبًا: «لا والله ما أبدلني الله خيرًا منها … آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء.»

فلهذا أحب خديجة، ووفى لها وفضلها ولم يمح ذكراها من نفسه قط من أعقبتها من الزوجات الفتيات وفاء قلب، وليست لذات حس ولا ذكرى متاع جميل.

أسباب تعدد زوجاته

ولو كانت لذات الحس هي التي سيطرت على زواج النبي بعد وفاة خديجة لكان الأحجى بإرضاء هذه الملذات أن يجمع النبي إليه تسعًا من الفتيات الأبكار اللائي اشتهرن بفتنة الجمال في مكة والمدينة والجزيرة العربية، فيسرعن إليه راضيات فخورات، وأولياء أمورهن أرضى منهن وأفخر بهذه المصاهرة التي لا تعلوها مصاهرة.

لكنه لم يتزوج بكرًا قط غير عائشة — رضي الله عنها — ولم يكن زواجه بها مقصودًا في بداية الأمر حتى رغبته فيه خولة بنت حكيم التي عرضت عليه الزواج بعد وفاة خديجة.

قالت عائشة — رضي الله عنها: «لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون للنبي: «أي رسول الله! ألا تتزوج؟»

قال: «من؟»

قالت: «إن شئت بكرًا وإن شئت ثيبًا؟» …

قال: «فمن البكر؟» …

قالت: «بنت أحب الناس إليك عائشة بنت أبي بكر» …

قال: «فمن الثيب؟» …

قالت: «سودة بنت زمعة؛ آمنت بك واتبعتك».»

ثم كانت سودة هي أولى النساء التي بنى بهن بعد وفاة خديجة، وكان زوجها الأول — ابن عمها — قد توفي بعد رجوعه من الهجرة إلى الحبشة، وكانت هي من أسبق النساء إلى الإسلام، فآمنت وهجرت أهلها ونجا بها زوجها إلى الحبشة فرارًا من إعنات المشركين له ولها، فلما مات لم يبق لها إلا أن تعود إلى أهلها فتصبأ وتؤذى، أو تتزوج بغير كفؤ أو بكفؤ لا يريدها. فضمها النبي إليه حماية لها وتأليفًا لأعدائه من آلِهَا وكان غير هذا الزواج أولى به لو نظر إلى لذَّات حس ومال إلى متاع.

وكانت للنبي زوجة أخرى وسمت بالوضاءة والفتاء، وهي زينب بنت جحش ابنة عمته عليه السلام التي زوجها زيد بن حارثة بأمره وعلى غير رضا منها، لأنها أنفت — وهي ما هي في الحسب والقرابة من رسول الله — أن يتزوجها غلام عتيق.

هذه أيضًا لم يكن «لِلذَّات الحس» المزعومة سلطانٌ في بِناء النبي بها بعد تطليق زيد إياها وتعذر التوفيق بينهما، ولو كان للذات الحس سلطان في هذا الزواج لكان أيسر شيء على النبي أن يتزوجها ابتداء ولا يروضها على قبول زيد وهي تأباه، فقد كانت ابنة عمته يراها من طفولته ولا يفاجئه من حسنها شيء كان يجهله يوم عرض عليها زيدًا، وشدد عليها في قبوله. فلما تجافى الزوجان وتكررت شكوى زيد من إعراضها عنه وترفعها عليه وإغلاظها القول له كان زواج النبي بها «حلًّا لمشكلة» بيتية بين ربيب في منزلة الابن وابنة عمة أطاعته في زواج لم يقرن بالتوفيق.

أما سائر زوجاته عليه السلام فما من واحدة منهن — رضي الله عنهن — إلا كان لزواجه بها سبب من المصلحة العامة أو من المروءة والنخوة دون ما يهذر به المرجفون من لذات الحس المزعومة.

فأم سلمة كانت كهلة مسنة يوم خطبها، كما قالت له معتذرة إليه؛ لإعفائه من تكليف نفسه أن يتزوجها جبرًا لخاطرها بعد موت زوجها عبد الله المخزومي من جرح أصابه في غزوة أحد، ولما برح بها الحزن لوفاته واساها رسول الله قائلًا: «سلي الله أن يُؤْجرك في مصيبتك وأن يخلفك خيرًا» …

فقالت: «ومن يكون خيرًا من أبي سلمة؟» فأوجب على نفسه خطبتها لأنها تعلم أنه خير من أبي سلمة، ولأنه يعلم أن أبا بكر وعمر خطباها فترفقت في الاعتذار، وهما أعظم المسلمين قدرًا بعد النبي عليه السلام.

وجويرية بنت الحارث سيِّدِ قومه كانت إحدى السبايا في غزوة بني المصطلق فتزوجها النبي؛ ليعتقها ويحض المسلمين على عتق أسراهم وسباياهم تفريجًا عنهم وتألفًا لقلوبهم، فأسلموا جميعًا وحسن إسلامهم، وخيرها أبوها بين العودة إليه والبقاء في حرم رسول الله فاختارت البقاء في حرم رسول الله.

وحفصة بنت عمر بن الخطاب مات زوجها فعرضها أبوها على أبي بكر فسكت، وعلى عثمان فسكت، وبث عمر أسفه للنبي فلم يكن للنبي عليه السلام أن يضن على وليه وصديقه بالمصاهرة التي شرف بها أبا بكر من قبله، وقال: يتزوج حفصة من هو خير من أبي بكر وعثمان.

ورملة بنت أبي سفيان تركت أباها لتسلم، وتركت وطنها لتهاجر مع زوجها إلى الحبشة، ثم تنصر زوجها وفارقها وهي غريبة هناك بغير عائل، فأرسل النبي إلى النجاشي في طلبها لينقذها من ضياع الغربة وضياع الأهل وضياع القرين. فكانت النجدة الإنسانية باعث هذا الزواج ولم يكن له باعث من المتعة والاستزادة من النساء، وكان للنبي مقصد جليل من وراء هذا الزواج الذي لم يفكر فيه حتى ألجأته النجدة إلى التفكير فيه، وهو أن يصل بينه وبين أبي سفيان بآصرة النسب، عسى أن يهديه ذلك إلى الدين، بما يعطف من قلبه ويرضي من كبريائه.

وكان إعزازُ من ذلوا بعد عزة سنَّةَ النبي عليه السلام في معاملة جميع الناس ولا سيما الناس اللاتي تنكسر قلوبهن في الذل بعد فقد الحماة والأقرباء، ولهذا خيَّر صفية الإسرائيلية سيدة بني قريظة بين أن يلحقها بأهلها وأن يعتقها ويتزوج بها، فاختارت الزواج منه عليه السلام، وآية الآيات في رعاية الشعور الإنساني أنه عليه السلام أنب صفيَّهُ بلالًا لأنه مر بها وبابنة عمها على قتلى اليهود. فقال له مغضبًا: «أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما؟» واحتقرتها زينب فلقبتها يومًا باليهودية، فهجرها شهرًا لا يكلمها ليأخذ بناصر هذه الغريبة ويدفع عنها الضيم.

•••

تنكشف لنا مراجعة الحياة الزوجية لمحمد عليه السلام عن هذه الأسباب وشبيهاتها من دواعي اختياره لنسائه واستجماعه لهذا العدد من الزوجات في حين واحد …

ولا حرج — كما أسلفنا — على رجل قويم الفطرة أن يلتمس المتعة في زواجه.

ولكن الذي حدث فعلًا أن المتعة لم تكن قط مقدمة في الاعتبار عند نظر النبي في اختيار واحدة من زوجاته قبل الدعوة أو بعدها، وفي إبان الشباب أو بعد تجاوز الكهولة.

وآخر صورة يتصورها المنصف هنا هي صورة رجل فرغ للذاته، وجلس ينتقي واحدة بعد واحدة من الحسان على حسب ما يرجوه عندها من متاع. فإنما كان الاختيار كله على حسب حاجتهن إلى الإيواء الشريف أو على حسب المصلحة الكبرى التي تقضي باتصال الرحم بينه وبين سادات العرب وأساطين الجزيرة من أصدقائه وأعدائه، ولا استثناء في هذه الخصلة لزوجة واحدة بين جميع زوجاته حتى التي بنى بها فتاة بكرًا موسومة بالجمال، وهي السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه …

إلا أن المشهرين المتقولين نسوا كل حقيقة من حقائق هذه الحياة الزوجية التي سجلت لنا بأدق تفصيلاتها، ولم يذكروا إلا شيئًا واحدًا حرَّفوه عن معناه ودلالته، ليفتروا على النبي ما طاب لهم أن يفتروه، وذلك أنه جمع في وقت واحد بين تسع زوجات.

نسوا أنه اتسم بالطهر والعفة في شبابه فلم يستبح قط لنفسه ما كان شباب الجاهلية يستبيحونه لأنفسهم من اللهو المطروق لكل طارق، في غير مشقة عندهم ولا معابة.

ونسوا أنه بقي إلى نحو الخامسة والعشرين لم يتعسف في طلب الزواج الحلال وهو ميسر له تيسره لكل فتى وسيم حسيب منظور إليه بين الأسر وبين الفتيات.

ونسوا أنه لما تزوج في تلك السن كان زواجه بسيدة في الأربعين اكتفى بها إلى أن توفيت وهو يجاوز الخمسين.

ونسوا أنه اختار أحسابًا في حاجة إلى التآلف أو الرعاية ولم يختر جمالًا مطلوبًا للمتاع …

ونسوا أن الرجل الذي وصفوه بما وصفوا من تغليب لذات الحس لم يكن يشبع في بعض أيامه من خبز الشعير، ولم يجاوز حياة القناعة قط لإرضاء نسائه وإرضاء نفسه، ولو شاء لما كلفه إرضاء نفسه وإرضاؤهن غير القليل بالقياس إلى ما في يديه.

نسوا كل هذا، وهو ثابت في التاريخ ثبوت عدد النساء اللاتي جمع بينهن عليه السلام … فلماذا نسوه؟

نسوه لأنهم أرادوا أن يعيبوا وأن يتقولوا وأن ينحرفوا عن الحقيقة، وقد كانت رؤية الحقيقة أيسر لهم من الإغضاء عنها، لو أنهم أرادوها وتعمدوا ذكرها ولم يتعمدوا نسيانها.

الوجهة الخلقية

ونستطرد إلى تعدد الزوجات من الوجهة الخلقية أو الأدبية فلا نطيل فيه، لأننا نقصر هذا الكتاب على عبقرية محمد وما له اتصال بجوانب هذه العبقرية في تعدد مناحيها، ولم نرد به أن نتناول حكمة الشريعة الإسلامية في تفصيلها ولا مسوغات الأصول الدينية على اختلافها.

فأوجز ما نقوله في تعدد الزوجات من الوجهة الخلقية أو الأدبية أن النبي عليه السلام لم يجعله حسنة مطلوبة لذاتها أو مباحًا يختاره من يختاره وله مندوحة عنه، وإنما جعله ضرورة يعترف بها الرجل وتعترف بها الأمة في بعض الأحوال لأنها خير من ضرورات، ولن ينكر هذا إلا متعنت يصدم الحقائق ويتجاهل المحسوس الماثل للعيان.

ففي حياة محمد الخاصة لا ينكر أحد أن بناءه بنسائه قد كان خيرًا من الإخلاء بينهن وبين التأيُّم والمذلة والرجعة إلى الكفر والضلالة، وكان خيرًا من قطع تلك الآصرة التي وصلت بينه وبين البيوت والعشائر، فكان لها ما كان من فضل في نفع الدين والمتدينين به، وهي ضرورة يلجأ إلى الاعتراف بها كل مسئول عن شئون أمة بل أمم تمارس الحياة الدنيا، وكل إمام عليم بطبائع الناس.

أما الضرورة الاجتماعية العامة فقد اعترفت بها الشرائع المدنية الحديثة جميعًا ثم تحللت منها بإباحة الزنى وعلاج مشكلة الزواج بحل خارج عن نطاق الزواج أو خارج عن نطاق البيت والأسرة. ولو اهتدت هذه الشرائع المدنية إلى حل خير من هذا لجاز لها أن تنكر تعدد الزوجات، وتنكر أنه ضرورة أكرم من ضرورات.

فلا شك أن الجمع بين المرأة العقيم أو المرأة المريضة وبين غيرها أكرم لها وللمجتمع من نبذها في معترك هذه الدنيا الضروس بغير ولد وبغير زوج وبغير عاصم، ثم هو أكرم للزوج نفسه وهو كائن حي يريد أن يصل ما بينه وبين الحياة بذرية صالحة هي الغرض الأكبر من كل زواج، ولولاها لانتقض في المجتمع الإنساني أساس كل زواج.

ولا شك أن الجمع بين المرأة المزهود فيها وبين زوجة أخرى أكرم لها وأصلح من الجمع بينها وبين خليلة أو عدة خليلات.

ولا شك أن تسهيل الزواج وبخاصة في أوقات الحروب التي ينقص فيها الرجال أكرم للمجتمع الإنساني وأصلح من تسهيل العلاقات الأخرى التي لا تنفع النوع ولا تنفع الأخلاق، ولا ترفع مكانة المرأة في عصمة رجل أو في متناول كثير من الرجال.

هذا شيء جائز.

بل هذا شيء أكثر من جائز، لأنه واقع لا محيد عنه ولا حيلة فيه، وغير ملوم من يواجهه بحل أكرم من حلول شتى، بل اللوم عليه أن ينظر في شئون العالم ثم يغمض عينيه عن حقائقه التي تصدم كل عين.

ومن السهل — على من أراد — أن يسوس العالم في خياله بالفضائل التي تروقه وترضيه … وليس من السهل عليه أن يخلق العالم الذي يساس له ويرضى بما ارتضاه وقد علم هذا كل رجل واجهته مشكلة واحدة من المشكلات التي واجهت محمدًا بادئ الرأي على غير مثال سابق يحتذيه، إلا ما ألهمه الله.

رأي نابليون

ماذا صنع نابليون في عصرنا الحديث؟ …

وإنما نضرب المثل بنابليون لأنه حضر انقلابًا في الأطوار والعادات يشبه نشأة الدين في أيام الدعوة المحمدية ونعني به الثورة الفرنسية، وحضر انحدارًا في الأخلاق والآداب يشبه الانحدار الذي أصيب به العرب في أواخر عهد الجاهلية، وأسس دولة، ونظر في سن قانون، وحاول ضروبًا من الإصلاح.

نابليون قد طلق امرأته وأكره أحبار المسيحية على قبول هذا الطلاق، وقد اشتهرت له علاقات بخليلات متعددات، غير الخليلات المجهولات …

ونابليون يقول عن المرأة: «لقد صنعت كل ما وسعني أن أصنع لتحسين حال أولئك المساكين الأبرياء أبناء الزنى. إلا أنك لا تستطيع أن تصنع لهم الشيء الكثير دون مساس بقواعد الزواج. وإلا أحجم الناس عن الزواج إلا القليل.

ولقد كان للرجل في العهد القديم سريات إلى جانب الزوجات، ولم يكن أبناء الزنى محتقرين بين الناس احتقارهم اليوم. إنه لمن المضحك أن يحظر على الرجل الزواج بأكثر من واحدة فتحمل هذه الزوجة الواحدة، وكأن الرجل في أثناء حملها أعزب أو عقيم.

واليوم لا سريات للرجال ولكنهم يعاشرون الخليلات وهن أقدر على التبديد والإفساد.

إنهم في فرنسا يخولون النساء فوق حقهن من التعظيم وإنما الواجب ألا ينظر إليهن كأنهن مساويات للرجال، فما هن في الحقيقة إلا آلات لتخريج الأطفال.

وقد تمردن في إبان الثورة وعقدن الجماعات لأنفسهن، وبدا لهن أن يؤلفن فرقًا منهن في الجيش.

وكان لا بد من صدِّهن، لأن المجتمع الإنساني عرضة للخلل والفوضى إذا ترك النساء حالة الاعتماد على الرجال وهي مكانهن الحق في الحياة. نعم إن المجتمع لوشيك إذن أن يتمزق بددًا بغير انتهاء.

وعلى جنس من الجنسين أن يخضع للآخر لا محالة، فإذا نشبت الحرب بينهما، فلن تكون كحرب الأغنياء والفقراء أو حرب البيض والسود! …

ألا وإن الطلاق لأضر بالمرأة دون مراء. فالرجل الذي يجمع بين زوجات لا يبدو عليه من ذلك أثر كالأثر الذي يبدو على المرأة بعد التزوج بعدة رجال، إنها تضمحل إذن كل الاضمحلال.»

رأي لينين

كذلك اعترف نابليون بالضرورات الزوجية في العصر الحديث. فكيف اعترف بها «لينين» في الثورة الكبرى بعد الثورة الفرنسية؟ …

حل مشكلة الزواج بحل رابطة الزواج، فلا رابطة بين الزوجين أوثق من رابطة الرفيقين في الفندق أو الطريق. وليس أعجب ممن جعل الزواج شريعة ملائكة إلا الذي جعله على هذا النحو شريعة عجماوات.

عقوبة الزوجات

ولا نختم هذا الفصل عن النبي في حياته الزوجية قبل أن نعرض لعقوبة الزوجات في الإسلام، وللعقوبة التي اختارها عليه السلام لأن عقوبة الرجل لامرأته في حالة الغضب كمحاسنته لها في حالة الرضا؛ كلاهما ميزان صادق لمكانتها عنده، ومكانة المرأة عامة في تقديره.

والقرآن ينص على العقوبات السائغة في حالة النشوز وهي العظة، والهجر في المضاجع، والضرب، والتسريح بإحسان: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا (النساء: ٣٤).

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ (البقرة: ٢٣١).

والنبي عليه السلام لم يطلق زوجة من زوجاته دخل بها وعاشرها، ولم يضرب قط واحدة منهن، ولم يرو عنه قط أنه ضرب أو نهر خادمًا فضلًا عن زوجة، بل روي عنه ما ينفي ذلك ممن عاشروه ولازموه.

بل كان عليه السلام يكره ضرب النساء ويعيبه كما قال: «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد؟ … يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره!»

فما نص القرآن عليه من عقوبة الضرب فإنما نص عليه لعلاج النشوز الذي لا يستقيم بغيره، وقيده المفسرون بشروط تمنع الإيذاء، وتحصره في القدر الذي يستقيم عليه الجزاء.

فغاية ما يفهم من ذكر الضرب بين العقوبات أن بعض النساء يتأدبن به ولا يتأدبن بغيره، وقد يعلم الكثيرون أن هؤلاء النساء لا يكرهنه ولا يسترذلنه، وليس من الضروري أن يكن من أولئك العصبيات المريضات اللائي يشتهين الضرب كما يشتهي بعض المرضى ألوان العذاب.

إنما العقوبة التي آثرها النبي عليه السلام هي الهجر الطويل أو القصير، بعد العظة والعتاب الجميل.

والهجر — ولا سيما الهجر في المضاجع — عقوبة نفسية بالغة وليست كما يسبق إلى بعضهم عقوبة حسية تؤلم المرأة لما يفوتها من سرور ومتعة؛ فإن فوات السرور والمتعة أيامًا، لا يؤلم المرأة هذا الإيلام الذي يجعل الهجر في المضاجع من أصعب العقوبات دون الطلاق.

قال الأستاذ رشيد رضا — رحمه الله — في كتابه نداء للجنس اللطيف: «أما الهجر فهو ضرب من ضروب التأديب لمن تحب زوجها ويشق عليها هجره إياها، ولا يتحقق هذا بهجر المضجع نفسه وهو الفراش، ولا بهجر الحجرة التي يكون فيها الاضطجاع، وإنما يتحقق بالهجر في الفراش نفسه. وتعمد هجر الفراش أو الحجرة زيادة في العقوبة لم يأذن بها الله تعالى وربما يكون سببًا لزيادة الجفوة، وفي الهجر في المضجع نفسه معنى لا يتحقق بهجر المضجع أو البيت الذي هو فيه، لأن الاجتماع في المضجع هو الذي يهيج شعور الزوجة فتسكن نفس كل من الزوجين إلى الآخر ويزول اضطرابها الذي أثارته الحوادث قبل ذلك. فإذا هجر الرجل المرأة وأعرض عنها في هذه الحالة رُجي أن يدعوها ذلك الشعور والسكون النفسي إلى سؤاله عن السبب ويهبط بها من نشز المخالفة إلى صفصف الموافقة وكأني بالقارئ وقد جزم بأن هذا هو المراد، وإن كان مثلي لم يره لأحد من الأموات ولا الأحياء.»

والذي نراه أن الأستاذ رحمه الله قد أخطأه المراد الدقيق من هذه العقوبة النفسية، وأن الحكمة في إيثارها أعمق جدًّا من ظاهر الأمر كما رآه الأستاذ … فأبلغ العقوبات ولا ريب هي العقوبة التي تمس الإنسان في غروره وتشككه في صميم كيانه؛ في المزية التي يعتز بها ويحسبها مناط وجوده وتكوينه …

والمرأة تعلم أنها ضعيفة إلى جانب الرجل، ولكنها لا تأسى لذلك ما علمت أنها فاتنة له وأنها غالبته بفتنتها وقادرة على تعويض ضعفها بما تبعثه فيه من شوق إليه ورغبة فيها.

فليكن له ما شاء من قوة، فلها ما تشاء من سحر وفتنة وعزاؤها الأكبر عن ضعفها أن فتنتها لا تقاوم، وحسبها أنه لا «تقاوم» بديلًا من القوة والضلاعة في الأجساد والعقول …

فإذا قاربت الرجل مضاجعة له وهي في أشد حالاتها إغراء بالفتنة ثم لم يبالها ولم يؤخذ بسحرها فما الذي يقع في وقرها وهي تهجس بما تهجس به في صدرها؟

أفوات سرور؟ أحنين إلى السؤال والمعاتبة؟ كلا … بل يقع في وقرها أن تشك في صميم أنوثتها وأن ترى الرجل في أقدر حالاته جديرًا بهيبتها وإذعانها وأن تشعر بالضعف ثم لا تتعزى بالفتنة ولا بغلبة الرغبة. فهو مالك أمره إلى جانبها وهي إلى جانبه لا تملك شيئًا إلا أن تثوب إلى التسليم، وتفر من هوان سحرها في نظرها قبل فرارها من هوان سحرها في نظر مضاجعها.

فهذا تأديب نفس وليس بتأديب جسد، بل هذا هو الصراع الذي تتجرد فيه الأنثى من كل سلاح، لأنها جربت أمضى سلاح في يديها فارتدت بعده إلى الهزيمة التي لا تكابر نفسها فيها. فإنما تكابر ضعفها حين تلوذ بفتنتها. فإذا لاذت بها فخذلتها فلن يبقى لها ما تلوذ به بعد ذاك.

وهنا حكمة العقوبة البالغة التي لا تقاس بفوات متعة ولا باغتنام فرصة للحديث والمعاتبة.

إنما العقوبة إبطال العصيان، ولن يبطل العصيان بشيء كما يبطل بإحساس العاصي غاية ضعفه وغاية قوة من يعصيه. والهجر في المضاجع هو مثابة الرجوع إلى هذا الإحساس.

•••

على أن عقاب النبي لزوجاته كان من الندرة بحيث لا يذكر لولا ما تعود المسلمون من ذكر كل كبيرة وصغيرة في حياته الخاصة والعامة على السواء، وهذا مع طول العشرة وتعدد الزوجات وكثرة الحوادث الجسام وقلة النسل الذي يصل المقطوع ويرأب المصدوع.

وكان معظم عقابه أشبه بعقاب نبي لمسلمات منه بعقاب زوج لزوجات. وهو في حالتي عقابه وإحسانه إنسان على أكمل ما يكون الإنسان من رحمة وكيس وإنصاف.

وإذا حارت الأدلة في قوام تلك الحياة الزوجية فالدليل الذي لا يحار أن ينقضي نحو أربعين سنة عليها وهي على ذلك الصفاء والولاء الذي لم يعرف مثله في علاقات الرجال والنساء؛ هذه حياة زوجية لا تقوم على الحس والمتعة، ولن تدوم ذلك الدوام لو كان لها قوام غير مودة القلوب وراحة النفوس وحب الخير ومبادلة العطف والتعظيم.

١  Short History of Women By John Langdon Davies.
٢  أي يحملون الرحل على البعير.
٣  يثقلهن اللحم والشحم.
٤  سار آخر الليل.
٥  أي في شدة الحر.
٦  أماكن في خلاء المدينة، يتجمع الناس فيه بمكائد الناس.
٧  كانت تنعى عليها طيبتها وقلة معرفتها بمكائد الناس.
٨  أعيبه.
٩  أي الحيوان الذي يألف البيت.
١٠  الدر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤