صحافة الثورة العراقية سنة ١٩٢٠

مجلة اللسان

إن المجاهدين العراقيين من أصحاب العقيدة في القضية القومية وتوجيهها نحو استقلال العرب لم يثنِهم إمساك السلطة الاحتلالية البريطانية عن الإذن بإصدار صحف سياسية يومية، فداوروا بعد أن وقعت معاهدة الصلح في باريس في خلق أداة تعينهم على ذيوع فكرتهم وتعليم الرأي العام في بلاد الرافدَين فلسفة النهضة العربية، فحصلوا على امتياز بمجلة شهرية صدرت في تموز سنة ١٩١٩ لتكون في مظهرها مجلة «تاريخية اجتماعية علمية أدبية مصورة»، ولكنَّها في حقيقتها تخدم النهضة السياسية بأسلوب علمي أدبي، وجعلوا اسمها «اللسان» رمزًا «للسان العرب» التي كانت تنشر في إستانبول، ومحررها هو نفسه أحمد عزة الأعظمي، وإن خلا غلافها من اسمه واكتفى بأن اتخذ اسمَيْ صديقين له تسترًا عن أعين حكومة الاحتلال، فجعل صاحبها «علي رضا الغزالي» ومديرها المسئول «أنطون لوقا»، فكانت أول صحيفة أهلية من صحف الدعوة للنهوض، ومواصلة المطالبة بحقوق الأمة في الحياة والمجد، قالت في عددها الأول بعنوان «أمل وبيان»:
إن من ينظر في أحوال المجتمع العراقي الاجتماعية والأدبية، ويفكر فيما آل إليه أمره، لا بدَّ وأن تضطرب حواسه ويضيع صوابه، كيف لا وقد أصاب العراق في السنين الأخيرة أمراض كثيرة ينوء بحملها؛ ضعف في الأخلاق، خلل في النظام، فساد في التربية، فوضى في الاجتماع … فغاية «اللسان» التي ترمي إليها ترتيل محاسن المدنية العربية التي لعبت بها يد الأهوال منذ قرون على مسامع أبناء العراق الأعزاء، وتذكيرهم بما كان لأمتهم من المكانة السامية بين الأمم والمنزلة العليا من التمدن.١

وقد واصلت هذه الصحيفة الدعوة العربية ونشرت ما يحرك المشاعر ويثبت الرشد إلى تدهور الحال، منتهزة كل فرصة حتى الفرص الأدبية، فعندما نشرت مجلة «الهلال» سينية أحمد شوقي «الأندلسية» جعلتها مجلة «اللسان» افتتاحية، علقت عليها بما يلهب العواطف الوطنية.

وكانت إدارة المجلة ندوة يلتقي فيها العاملون في الجماعات السياسية الوطنية والعائدون من الثورة العربية، والراجعون من المنافي والسجون ومواطن التشريد البعيدة، وظلَّت تنشر ما يزيد على العام حتى إذا قررت الأحزاب السرية إصدار جريدة يومية وحصلت على امتيازها سكت «اللسان» وسافر مُنْشِئُوه إلى بعض أقطار العروبة.

جريدة العقاب

في خلال الحرب العالمية الأولى انقسم المنتمون إلى «حزب العهد» السري الذي أسسه شباب العرب في الآستانة إلى شطرين؛ يعمل أحدهما لتحرير سورية، ويجاهد الآخر لتحرير العراق، وقد كان مركز «حزب العهد العراقي» دمشق وأسس له فروعًا في أنحاء العراق، وأنشط هذه الفروع فرع الموصل، فطفق من أول إنشائه يهيمن على جريدة «العقاب»، وهي الصحيفة التي أنشأها الأحرار العراقيون في سورية ويحررها أسعد داغر، وكان مكي الشربتي عاملًا قويًّا فيها، فأصبحت لسان حال هذا الحزب، واهتمت فروع الحزب في بلاد الرافدَين بنشرها في أرجاء القطر العراقي، فترسل كميات كبيرة منها إلى المثقفين في الرافدَين وزعماء القبائل.

•••

ويظهر أن السياسة البريطانية في العراق لم تكن قد استقرت بعد على خطة واضحة بشأن الصحافة، بينما كانت رغبات الشعب ملحة في طلب الحرية للصحافة، فعندما اشتدت الحركة التي أولدت ثورة سنة ١٩٢٠ كانت «حرية الصحافة» مطلبًا أساسيًّا في مطالب الشعب الثائر؛ ففي أعنف المظاهرات التي سبقت تلك الثورة انتخب المتظاهرون وفدًا من وجوهه إلى الحاكم العام الإنكليزي، وجمع الوفد صفوة أحرار بغداد والكاظمية قابلوا الحاكم العام في مكتبه يوم ٢ حزيران (يونيو) سنة ١٩٢٠، وقدموا إليه «مذكرة بمطالب الشعب»، فكان «المطلب الثاني منها»:

منح الحرية للمطبوعات ليتمكن الشعب من الإفصاح عن رغائبه وأفكاره.

وبعد أن اندلع لهيب الثورة نشر الشيخ حبيب الخيزران رئيس قبائل العزة كتابًا مفتوحًا إلى الممثل البريطاني الذي أوفدته حكومته للتفاهم مع الثوار، بسط فيه مطالب الأمة جازمًا بأن إعطاء الأمة هذه الأمور يكون السبب الوحيد لحل المشاكل حلًّا مُرضيًا — على حد تعبيره — فكانت «النقطة الخامسة» من هذه المطالب:

إعطاء الأهالي حرية الاجتماع والصحافة …

وفي وسط هذا المعمعان السياسي، والثورة متقدة، تذيع الصحيفة التي تنطق بلسان الأحزاب الوطنية «مطالب الأمة السبعة» وفي رأس قائمة هذه المطالب:

إطلاق حرية الصحافة وتطبيق قانون المطبوعات العثماني إلى أن يسن غيره وفقًا لنظامات الاحتلال.

بذل الشعب كثيرًا في ميدان ثورته سنة ١٩٢٠ التي اعتبرها حربًا استقلالية مقدسة، كما قرر الباحثون في أحوال العراق، حتى من الأجانب أنفسهم، نظير فيليب آيرلند الأمريكي في كتابه الثمين «العراق، درس في التطور السياسي»، وهو من خير ما كتب عن بلادنا في النهضة الحديثة. وقد تذرع الشعب بشتى الوسائل لإنجاح الثورة وتحقيق الأهداف العليا التي قصدت إليها من إظهار شخصيته شعبًا حيًّا أبيًّا، فكانت الصحافة من هذه الوسائل ولا غَرْوَ فقد فطن العراقيون إلى هذه الآلة الفعالة في كفاحهم السياسي قبل هذه المرحلة، فاستعانوا بها في بعث الحركة القومية قبل الحرب العالمية الأولى — كما رأينا في المحاضرات السابقة — يوم وقفوا في وجه السلطنة العثمانية مطالبين بالتحرر من الحكم التركي. هكذا كانت لنا صحافة ثورة سنة ١٩٢٠، ولهذه الصحافة تاريخ وضيء على قصره بليغ في مراميه ومدلولاته.

جريدة الاستقلال في بغداد

قرر فرع «حزب العهد» العراقي بالاشتراك مع بقية الأحزاب الوطنية السرية وهم يتدابرون الخطط للثورة على المحتل الغاصب — بريطانية — إصدار جريدة تتابع حركة الإيقاظ، وألحُّوا على حكومة الاحتلال في طلب الإذن للجريدة باسم «الاستقلال» فمنحتهم امتيازها بعد تردد ومماطلة. وقد أخذ الامتياز باسم أحد أعضاء الحزب «عبد الغفور البدري» من الضباط السابقين المشتغلين بالقضية العربية.

برزت جريدة الاستقلال في ٢٨ أيلول (سبتمبر) سنة ١٩٢٠ وقد رسم على صدرها أنها «جريدة يومية عربية حرة»، ولكنها بسبب ندرة الورق ومصاعب الطباعة جُعلت أسبوعية مؤقتة، وإننا لندرك نزعتها القومية الواسعة الشمول من اسمها، فهي تعمل لما يهم العرب عامة والعراقيين خاصة.

وقد بسطت الجريدة سياستها في عددها الأول، فقالت بعد تمهيد طويل في قيمة الجرائد الحرة والصحف الوطنية بالقياس إلى غيرها:

الاستقلال منشور وطني حر يخدم أفكار العرب عامة والعراقيين خاصة يدافع عما يدافعون ويطلب ما يطلبون، ولا يبالي إذا انزعج منه الخائنون، ولا ينتسب إلا إلى الوطنية الصادقة، ولا يتكلم إلا بما يُطابق أفكار الشعب، خطته الاعتدال والتبسط في حالتي العسر واليسر، واجتناب الشتم والقدح والذم وغيره من النقائص التي تشين الصحافة وتعيبها، كما أنه سيبذل قصارى جهده في تقويم المعوج وإصلاح الفاسد، فيقابل الاقتراح النافع بكل ارتياح ويصغي لنداء الوطنيين بملء أذنيه، ويقرع طنبوبه لمن يستصرخه لنصرة الأمة ضالته مسماه «أي الاستقلال» وأمنية الشعب هي غاية ما يتمناه، ثابت في عزيمته مثابر على مسلكه لا يقعقع له بالشنان ولا تزلزل أركانه الأراجيف.

تولى تحير «الاستقلال» قاسم العلوي، كما كتب فيه الكثيرون من رجال الأحزاب الوطنية غفلًا من التواقيع، وساهم في كتابته بأسمائهم محمد مهدي البصير من مشهوري خطباء الثورة التي نحن بصددها، وسلمان الشيخ داود.

وأعظم ما صرفت إليه الجريدة جهدها المقال الافتتاحي، وكان العهد عهد مقالات فكان في الغالب يعالج القضية العراقية ويطالب بفسحٍ لمجال الحرية، ويبرهن على استعداد الشعب للاستقلال. وقد عُنيت الجريدة بمشروع الحكومة العراقية المؤقتة التي كونتها سلطة الاحتلال البريطانية تخلصًا من أزمة الثورة، وتمهيدًا لتأسيس دولة العراق.

ناصرت «الاستقلال» أول ما ظهرت سياسة البيت الهاشمي في النهضة، وعضدت حركة الملك فيصل في دفاعه عن سورية وبقية بلاد العرب، وكتبت تعليقات تؤيد ثبات هذا الزعيم في موقفه.

وما قدم السر برسي كوكس مندوبًا ساميًا لبريطانيا في العراق ومبعوثًا خاصًّا لتنفيذ سياستها الجديدة في بلاد الرافدَين حتى هرع إليه مدير صحيفة الاستقلال، وحصل على حديث سياسي منه، وفي ذلك الحديث بيان واضح عن السياسة التي اختطها السر برسي لمعالجة الوضع العراقي قال:

إن بالإمكان عقد الاجتماعات السلمية، وإصدار الصحف بعد الحصول على إذن الحاكم العسكري — البريطاني — وأنه يود إخماد الثورة بالتفاهم، وسيأتي وقت بعد انعقاد المجلس التأسيسي وقيام حكومة العراق الدائمة التي تنشئ الجيش الوطني يتسنى فيه سحب معظم القوات البريطانية لتحل محلها القوات الوطنية. وقد رحب بكل وفد يتوسط بين زعماء الثورة والحكومة الإنكليزية ويسعى لإخماد نار الحركة.

وقد جاهدت «الاستقلال» في شرح أسباب الثورة، وهي مشتعلة الأوار، وتحليل عوامل الاستياء والنقمة من حكومة الاحتلال، ومما تذرعت به شعر حماسي تنشر أبياته يوميًّا، وهو من نظم محمد مهدي البصير، وطالبت الحكومة المحتلة بحرية الصحافة وكتبت في فوائد الأحزاب، وتولت تنفيذ ما ورد على ألسنة بعض الرجال البريطانيين في مجلس العموم وغيره، ومزقت أراجيف بعض صحف الخارج عن العراق التي شاءت أن تشوه جهاده الوطني.

وكان المرء يحس وهو في إدارة هذه الجريدة أنه مؤسسة شعبية وطنية ونادٍ سياسي مكتظ بالمكافحين، حركة نشيطة يشترك فيها جماعات من الأهلين من طبقات الشعب، هذا يتبرع بالمال وذاك يكتب وآخرون يتبرعون بتسيير إدارة الجريدة، وذلك يبدي الأفكار ويوجه، وتلفُّ الجميع حماسة جارفة، ويجب ألا ننسى أن العمل الصحافي لم يكن معروفًا في بلادنا في تلك الأيام على الطريقة الفنية الحديثة، وكان كل ما في الجريدة وإدارتها يرمز إلى هدف الاستقلال العربي، حتى إن «لافتة» الجريدة على باب الإدارة كتبت بالألوان المربعة «الأبيض والأسود والأخضر والأحمر»، وهي ألوان العلم العربي الذي حمل إبان الثورة في الحجاز، قبل أن يرفرف في سماء السواد علم عراقي.

وهناك حقيقة يحسن تسجيلها: أن صدر حكومة الاحتلال الإنجليزية كان رحبًا إزاء ما تكتبه جريدة الاستقلال، فأفسحت مجالًا لا بأس به من حرية الصحافة مما لم نجده بعد ذلك مراعًى دائمًا في عهد الاستقلال.

ومن آيات خدمة هذه الصحيفة مقالاتها في التسامح والإخاء بين أهل العراق على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وتوثيقها عرى الاتحاد الوطني بينهم.

ولم تكن الجريدة تُهمل الناحيتين الأدبية والاجتماعية، إلا أن الصفة السياسية كانت الغالبة حتى على القصائد التي تنشرها.

وأسلوب الكتابة فيها متين، ولكنه غير مقسم بالجدة في التعبير العصري في غالبه، كما أن مواد الجريدة الأخرى وأخبارها الخارجية كانت كلها مفرغة في قالب المعارضة ووصف الحركات الثورية وإرهاق الاستعمار لبعض أقطار الشرق.

كل أولئك أثر في إقبال القراء على جريدة الاستقلال بعد أن وجدوها تعبر عن إحساسهم وتفيض بآرائهم وتنطق بأمانيهم.

فلما كان يوم ٩ شباط (فبراير) سنة ١٩٢١. وقد عاد بعض المنفيين الوطنيين إلى بغداد صدر عدد خاص من «الاستقلال» يحمل التهنئة للأمة بعودة رجال الجهاد، ويؤكد إعلان البرنامج السياسي للكفاح بعناوين كبيرة وحروف ضخمة بارزة في صدر الصحيفة وهذا نصه:
نهنئ الأمة العراقية بقدوم منفيينا الكرام، ونطلب إرجاع جميع المنفيين بلا استثناء، كما أننا نواصل الطلب في تنفيذ سائر المواد السبع وهي:
  • (١)

    إطلاق حرية الصحافة وتطبيق قانون المطبوعات العثماني إلى أن يسن غيره وفقًا لنظامات الاحتلال.

  • (٢)

    إطلاق حرية الاجتماعات وتشكيل أندية سياسية رسمية.

  • (٣)

    إصدار العفو العام الخالي من كل قيد وشرط عن جميع المجرمين السياسيين وإطلاق سراح المسجونين.

  • (٤)

    إرجاع المبعدين والمنفيين والسماح للمشتتين بالرجوع إلى أوطانهم.

  • (٥)

    رفع الإدارة العرفية العسكرية والأحكام الكيفية التي أناخت على الشعب العراقي منذ الاحتلال حتى الآن؛ لتتمكن الأمة من التفاهم مع السلطات بكل حرية واطمئنان.

  • (٦)

    رفع المحاكم العسكرية والقضاة العسكريين والقوانين التي رتبت أخيرًا، وتطبيق القوانين الجزائية والحقوقية السابقة «بمقتضى نظامات الاحتلال أيضًا.»

  • (٧)

    الإسراع في الانتخاب الحر وتشكيل المؤتمر العام من دون مداخلة رجال الاحتلال، وبدون أي تضييق على أفكار الأهالي بخصوص الانتخابات، هذا ما طلبه الشعب العراقي وسيواصل الطلب بكل إلحاح؛ لأنه يعتقد أنه لا يمكن أي مفاوضة تؤدي إلى التفاهم ما لم تُنفذ هذه المواد السبع.

فلما صدر هذا العدد وكان له تأثيره المدوي في المجتمع والشعب في هزة من عودة المنفيين الأحرار عطلتها السلطة، ولم تتجاوز العدد السادس والأربعين بعد، وهذه مرحلة فذة في تاريخ جريدة «الاستقلال» قامت عليها شهرتها ومنزلتها بعد ذلك، ولم تكتفِ إرادة المحتلين بتعطيل الصحيفة، بل أوقف مديرها وأحد عشر رجلًا آخر بينهم محررها وزملاؤه، وبعد مدة قصيرة أطلق سبعة من هؤلاء الموقوفين ونُفي اثنان منهم، وحكمت المحكمة على الباقين وهم: صاحب الجريدة عبد الغفور البدري بالسجن لمدة سنة ورئيس تحريرها قاسم العلوي بالحبس ستة أشهر ومحمد مهدي البصير من محرريها بالسجن تسعة أشهر، كما قررت المحكمة تعطيل الجريدة سنة كاملة.

وقد عبرت كرترود بيل في رسالتها إلى أبيها المؤرخة في ١٣ شباط (فبراير) سنة ١٩٢١ عن انهماك السلطة الإنكليزية في بغداد ذلك الأسبوع وتعبها في هذا الحدث، واعتبرت القائمين بجريدة «الاستقلال» مهيجين، وروت أن قد حصل نقاش في موضوع تعطيل الجريدة، وارتأى السر برسي كوكس أن تقوم وزارة الداخلية — في الحكومة العراقية المؤقتة — بذلك، وعدت العملية قد نجحت نجاحًا تامًّا.

هذه هي الجريدة البغدادية التي غذت حركة الثورة في العاصمة والمدن الأخرى، وكانت مؤثرة في الأفكار العامة. وهكذا استطاعت الأحزاب الوطنية التي تعمل في الخفاء أن تنجح في مشروعها الصحفي الأول.

جريدة الفرات

أما في ميدان الثورة نفسها، وفي مركز قيادتها النجف الأشرف، فسبق لباقر الشبيبي الكاتب الشاعر ومن الساسة المشتغلين بالقضايا الوطنية والقومية أن أنشأ جريدة باسم «الفرات»، بمعنى أنها تصدر في البقعة التي تتقد فيها الثورة.

وكان القائمون بالثورة ومنظموها أرادوا أن يتوسلوا بالصحافة لبث روح التآلف وتشجيع الثوار ونشر أخبارهم وإرسال النصائح والإرشاد إليهم، كما تقوم صحفهم بنشر مساوئ الاستعمار وأعمال البريطانيين في العراق.

شرعت «الفرات» في أداء واجبها في ١٥ أيلول (سبتمبر) ١٩٢٠ غرة محرم ١٣٣٩ﻫ مطبوعة في إحدى مطابع النجف. أما ورقها فمما سيطرت عليه حكومة الثورة من الطاغية المعدة لطبع الكتب هناك، اعتبرت «الفرات» لسان الثوار تفصح عن آرائهم وتشرح تعاليم الحركة الاستقلالية، ولم تقتصر على آراء رجال السياسة وشيوخ القبائل، بل عدت مجالًا لنشر آراء العلماء المجتهدين من أقطاب الدين وفتاواهم وخطبهم في اليوم الأحمر، وبدت الجريدة بلهجة صارخة وكتبت بدم القلب لا بحبر القلم، وحصرت بحثها في الشئون السياسية وكتابة المقالات الاستفزازية وإذاعة الخطب التي تُلقى في محافل الثورة في القرى، بينها خطب الحاج الشيخ عبد الواحد سكر وغيره من الزعماء.

يُضاف إلى ذلك التعليمات عن القتال والحركات الحربية في ميادين الثورة، ولا سيما حسن معاملة الأسرى والعناية بالجرحى.

وأما أخبار الثورة ووقائعها اليومية في ساحاتها المنوعة فقد خصصت لها «الفرات» ملاحق تنشرها علاوة على أعدادها، وهي الجريدة العراقية الوحيدة التي نشرت «قرار المؤتمر العراقي» المنعقد في دار البلدية في دمشق في ٧ آذار (مارس) سنة ١٩٢٠، ونودي فيه باستقلال العراق — يوم نودي باستقلال سورية وملكية فيصل عليها — وقد أرسل هذا القرار إلى الجريدة مع رسول خاص من الشام، كما حملت خطب الملك فيصل في عاصمته دمشق وبثت رسالة البيت الهاشمي في بعث الأمة بعثًا سياسيًّا منظورًا.

ويلوح أن الجريدة توقفت مدة قصيرة ثم استأنفت الصدور بعددها الخامس وقد جاء فيه:

تعود «الفرات» إلى الصدور بإيجاب من الهيئة العلمية وزعماء النهضة العربية، والأمل أن أولياء الأمور الذين قاموا بنشر هذه الصحيفة الحرة واهتموا بإظهارها وصمموا على استمرار إصدارها سوف يستمرون على القيام بشئونها وضمانة حياتها؛ لتعيش كما تعيش الصحف الراقية ذات المبدأ الصحيح، فيكون لها مكان عالٍ وشأن في العالم رفيع.

نعم، إن الهيئة العلمية لن تنفك عن العناية بأمر الصحافة، وسوف تخلد ذكرًا مجيدًا لها في تاريخ النهضة العراقية بإصدار الفرات. وقد بشرتنا باهتمامها وتصدي القائمين بها من رجال الفضل بتوسيع حجمها وإصدارها مرتين في الأسبوع، وسيكون ذلك في القريب، كما سيطرد تحسينها مع ملاءمة الظروف والأحوال، فالفرات تعود اليوم كما كانت في البدء بتحتيم كبار الأمة.

وكانت الأيدي تتخاطف جريدة الثورة هذه ويقرؤها الناس بلهفة في سائر البلاد، ولا سيما في مسرح الثورة وصفوف المقاتلين، كما أنها كانت ترسل إلى خارج العراق، فتبلغ سُدَّة ملك العرب في الحجاز، جلالة الحسين بن علي فيُعنَى بتتبعها بدقة، وتصل بلاط الملك فيصل في الشام وتنتهي إلى سائر المهتمين بالحركة القومية في سورية وغيرها.

غير أنه بعد أن خفتت الثورة بعض الشيء، وتفرق كثير من زعمائها في أنحاء غير متقاربة، توقفت عن الصدور غير متجاوزة العدد الخامس.

وها أنا أورد مثالًا من منشورات «الفرات»:
إن الوطن الذي ألزم كل فرد منكم بالدفاع عنه يلزمكم أيضًا بأن تراعوا الشروط الآتية:
  • (١)

    يجب على كل رئيس قبيلة أن يُفهِم كافة أفرادها بأن المقصود من هذه النهضة إنما هو طلب الاستقلال التام.

  • (٢)

    أن يهتف للاستقلال كل من في ميادين القتال.

  • (٣)

    يجب تأمين الطرق وحفظ المواصلات بينكم وبين مناطق الثورة في البلاد.

  • (٤)

    يلزم التمسك بالنظام وتدبير الحركات ومنع الاعتداءات، فلا نهب ولا سلب ولا ضغائن قديمة ولا أحقاد.

  • (٥)

    من الواجب بذل الهمة لحفظ الرصاص، فلا يجوز إطلاقه في الهواء بدون فائدة.

  • (٦)

    يجب الاعتناء بالأسرى ضباطًا أو جنودًا إنجليزًا أو هنودًا.

  • (٧)

    يجب إبقاء أدوات التلغراف والتليفون وحفظ الأعمدة، فإن في حفظها منافع عظيمة للأمة، نعم يجب قطع الأسلاك البرقية إلى حدٍّ تنقطع معه مخابرات الحكومة المحتلة.

  • (٨)

    يجب الاهتمام بقلع السكك الحديدية، ولا سيما نسف الجسور والقناطر التي يمر منها القطار.

  • (٩)

    يجب الاحتفاظ بما يقع تحت أيديكم من عربات النقل والسيارات والمراكب.

  • (١٠)

    يجب حفظ المدافع والرشاشات، ولا يجوز تخريب آلاتها وتفريقها مطلقًا؛ لأنها من أكبر وسائط الفوز وأعظم وسائل النصر.

  • (١١)

    يلزم حفظ الذخيرة المغتنمة كالرصاص والقذائف والقنابل وسائر أنواع البارود.

  • (١٢)

    لا تهدموا محلات الحكومة وأبنيتها إلا إذا كانت معقلًا ولا تتلفوا أثاثها لاحتياجكم إليها في المستقبل.

  • (١٣)

    إذا أسقطتم مدينة أو قرية فلا تتركوها منحلة، بل الواجب ترتيب حكومتها المؤقتة.

  • (١٤)

    حافظوا على المستشفيات وكافة أدواتها وأجزائها.

  • (١٥)

    ارفقوا بجرحى خصومكم الساقطين في الحرب، فلا شيء يستحق الرفق والعطف مثل الجريح الذي يُعاني من ألم جراحه ما يدمي القلوب ويبكي العيون.

وهذا مثال مما كتبه باقر الشبيبي في «الفرات» في العدد ٥ المؤرخ في ٣ محرم الحرام سنة ١٣٣٩ﻫ، قال بعد تمهيد يتصل بالجريدة واستئنافها الصدور:

رأي الأمة وكتاب الحاكم العام

وقفنا على صورة كتاب الحاكم العام إلى المقام الروحاني المنتشر في جريدة العراق المؤرخة في ٣٠ آب (أغسطس)/١٧ ذو الحجة سنة ١٣٣٨، وفي منشورات مستقلة وزعتها الطيارات، فشكرنا تودده للمقام العالي، ولما كان مشتملًا على أشياء لا تتفق مع مراده، بل كانت على العكس نقيضًا للغرض الذي أفاض فيه رأينا إيقافه على جلية الأمر، وإطلاعه على رأي الأمة الأخير، فينكشف لعدل الدول من ضلل الناس وطوح بالبلاد والعباد، ثم نسأل الدول بعد ذلك أن تحكم على مسبب المصائب في العراق لينال لعنة العالم المتمدن.

هون عليك يا ممثل الدولة الإنكليزية، إن الأمة التي ناصبتها العداء وحكمت فيها السيف فأرقت دماءها وأزهقت أرواحها عداء محضًا وتحكمًا صِرفًا، بلا خوف من الحق ولا وجل من العدل، ستقف وإياك أمام محكمة التاريخ ليعلم من هو المجرم الذي أتلف النفوس وجنى على البشرية بلا رحمة ولا عطف، فالويل لمن صبغ الأرض بدماء أبرياء.

يا ممثل الدولة الإنكليزية، ماذا صنعت أمة العراق المظلومة حتى تستحق من ضباط الاحتلال هذا الفتك الذريع والتمثيل الشنيع والهتك الفظيع! أفعال تخجل منها العصور الأولى، وتشمئز من فجايعها قرون الظلمة والظلم، ويل لكم يا ضباط الاحتلال من ظلامة أمة كان جواب مطالبها الشرعية حز الرءوس وتوصيل الأعضاء وحرق الجثث والتمثيل بالنفوس المحترمة، ليت الذين رفعوا مقامكم في العراق لتغرسوا محبتهم في القلوب يشهدون ماذا أنتم تعملون وتقترفون، ليت الذين بعثوكم للحرية والمساواة يشهدون فصلًا واحدًا من المأساة التي قمتم بها بظلمكم وتضليلكم، فالمحنة التي أوجدتموها في العراق سوف تبقى آثارها بالمقام الرفيع.

يا ممثل الحكومة الإنكليزية، أنت بسياستك الرشيدة، بسلوكك العجيب، بحزمك الغريب، بحصافة رأيك، برصانة عقلك، أنت بتدبيرك الحكيم أفسدت على حكومتك سياسة أجيال في الشرق كله لا في العراق وحده، فأنت وحدك المسئول أمام الله وأمام العدل والقانون عن الجرائم التي ارتكبتها في العراق من المظالم التي أنزلتها بالأمة حتى امتلأت فيها دوائر ظلمك وغصت بها زوايا جورك، فأنت وحدك بإظهارك العداء، وبإعلانك سفك الدماء، شوهت محاسن المدنية الإنكليزية، وكتبت لثلاثة ملايين من أبرياء العراق أن تزول ثقتهم من كل بريطاني، وإن كان مثالًا صحيحًا للعفة وطهارة الوجدان، فيا مسبب مصائب العراق، يا سفاح الإنكليز، لقد جنيت على حكومتك الموقرة جناية ما روى التاريخ نظيرها لسفاح قبلك، أهكذا يكون جزاء الذين رفعوا مقعد حكمك وأجلسوك على منصة لست لها وليست لك، هي للسياسي المحنك، للحاكم الرشيد، للمدير القدير، منصة يتربع عليها العدل والإنصاف لا الظلم والاعتساف، فويل لمن أقامك تمثالًا للقسوة والغلظة.

يا ممثل الدولة الإنكليزية، أتعزي المقام الروحاني ومنك الرزية، أتعزيه بقولك إن المقام يستوجب التعزية والتسليه لا التبريك والتهنئة في هذه الأيام التي انتابت العراق وسائر الممالك، فيا حضرة الحاكم العام إن ما نزل بالأمة فمن المصائب التي هيأت أنت أسبابها، فالأمة بريئة وأنت المذنب، ألست الذي سحقت الحقوق ودست القانون فخنقت الأمة بما أعددته من الجيش المجهز بالنار ووسائل الخراب والدمار، فأجهزت به على النساء والأطفال، على الشيوخ والكهول، ولوثت البلاد الطاهرة بالشرور، كل ذلك لأن الأمة أبت أن تعترف بوصايتكم، أبت أن تعيش في ظل حمايتكم؟ وأغرب من ذلك يا حضرة الحاكم أنك نسبت المصائب إلى فقيد الإسلام بقولك: وكان هذا من آراء سلفكم، آل الله. أي الاعتداءات تغفرها لك الأمة؟ أتعزيتك لشيخ الإسلام بما أنزلته من الرزايا على العرب والإسلام؟ أم نسبتك المصائب إلى الفقيد الذي طالما حذرك من الغرور وألفتَك إلى عواقب الأمور، ونبَّهك إلى نتائج الاستهتار في ممانعة الأمة المظلومة، وعدم تمكينها من حقوقها المهضومة، وإعطائها الاستقلال التام، وكم أراك في كتابه الأبيض فجر هذا اليوم الأسود؟

والله يا حضرة الحاكم العام! كيف تطاولت إلى ذلك المقام فتحاملت على عصمته وتجاوزت على كرامته غاضًّا طرفك عما تركته في مهج المسلمين وأحشاء العراقيين من الجروح التي هيهات أن تلتئم، ألم يكفك إذ قتلت نفسه الكريمة بجرائر جيشك وجرائم أفعالك حتى بريت سهام تهمك إلى نزاهته، بهذا تريد أن تمكن صداقتك مع الأمة، أهذه هي السياسة الرشيدة التي تنسب إلى الفقيد مصائب أحدثها عقوقك وغرورك؟ أهذا هو السلوك وأنت مع هذا تقول في كتابك: «إنه — أي الفقيد — عبر في إحدى مفاوضاته أنه يريد الصلح بين الحكومة والملة واجتناب سفك الدماء وإزهاق النفوس.» فما هذا التناقض الغريب؟ نعم إنه طيب مثواه أرادك أن تلين فاستعصمت، وسألك أن تضع حدًّا للظلم والاعتداء بإعطاء الأمة الاستقلال فأغضيت وثابرت على إنزال العقاب والعذاب والأمة ساكتة، وأنت لم تسمع نصائح الفقيد ومواعظه البليغة، فكيف تريد أن تبرر أعمالك؟

ثم بعد ذلك تقول: «إن الحكومة كما هو المعلوم في أقطار العالم قد اعتمدت دائمًا على الأركان الثلاثة وهي الرحمة والعدل والتسامح الديني.» فحبذا هذه الأركان فإنها شعار الدولة الحرة، ولو صح باعتمادك عليها لما فرَّ العراق من وحشيتك وفر أبناؤه من وجه مظالمك، قد تظن بأن حكومتك الموقرة شادت على هذه الدعائم فخامتها، ولكنك هدمتها بمقالع جورك وقسوتك وتعصبك، فويل لكم يا ضباط الاحتلال.

أما الرحمة، وَأيْنُها منك يا قساة الرحمة! فضيلة تنحت عن قلوبكم وابتعدت عن ضمائركم، الرحمة إحدى مميزات الإنسانية التي لا تعرفون معناها، هي اسم عندكم ومسماها ليس عندكم، وتشهد على ذلك قلوبكم بالقسوة ونياتكم بطحن العالم، فقد خلقتم من بعضه تاريخًا لشدتكم مكتوبًا بالدماء المراقة «في الرميثة والحمزة» وفي عرائس الفقراء، فكم بيت أوقدتم على من فيه النار فأصبح الرضيع ملتهبًا، والشيخ الفاني بجنب الأعمى وقودًا لنيرانكم، لا يتميزون إلا بعد أن نجمع أوصالهم التي وزعتها سيوفكم؟ وعلى هذا الحال استمرت رحمتكم «في الجربوعية وبابل» حرقًا تستغيث منه النار وقتلًا أظهرتم فيه ضروب التمثيل، أهذي هي الرحمة التي بنيتم عليها دولتكم، وأقمتم عليها سياستكم؟ إذن صفوا لنا قسوتكم حتى نهيئ للعراق على حدوده محلًّا في الجو تجاور به النسور، فإنها أرحم منكم وأرأف! هل نقابل بين رحمتنا ورحمتكم، فهي عندكم تبعيد الأبرياء من العلماء وأولاد الفقراء والزعماء، وتعذيب المنفيين، والأسراء يئنون تحت القيود الثقيلة والأغلال المؤثرة، قيود لا تصبر عليها أعناق الفهود. أما عندنا فلطف بالأسير وَبِرٌّ به، ونظر إلى الأجنبي ملؤه العطف فنتفقد شئونه ونرعى أحواله ونسهر لترويحه ونحرص على حياته، فالأسير عندنا غير أسير، والأجنبي كالوطني نساويه في الحقوق ونواسيه في كل شيء، أخلاق أخذناها من شريعتنا وفضائل تلقيناها من مدنيتنا، فأين مدنيتكم يا أدعياء التمدن ها فانظروا إلى رحمة رجالنا وكبارنا، واقرءوا رسائل علمائنا في الرفق بأسرائكم، والرحمة بمرضاكم، انظروا كيف أوكل المقام الروحاني أمره إلى من لزمه بذلك من المشاهير، فكتب إليه الرسالة الآتية:

بسم الله الرحمن الرحيم

سلام عليك وثناء على إخلاصك، وبعد؛ فغير خفي على نباهتك أن للأسرى في الشريعة الإسلامية مكانة عالية، فالعناية بهم فرض، والتوجه إلى إكرامهم حتم، وإني أوصيك أطال الله حياتك بتعهدهم على الاتصال، وتفقد أحوال صحتهم ومعاشهم، ما داموا وديعة مقدسة وأمانة محترمة، فيلزمك البذل لهم والتوفير عليهم، ويجب تصديك لتحقيق راحتهم أكثر من الأيام الماضية، وإني قوي الأمل بأنك تنشط إلى هذا التكليف؛ لأنه شرعي مدني إنساني، فواظب على الإنفاق عليهم حتى يتعين إلى نفقاتهم مورد خاص؛ فقد اعتمدتك وأوكلت ذلك إلى عهدتك وألزمتك به ولا عذر لك، ودُمْ مؤيدًا.

شيخ الشريعة الأصبهاني

هذا مثال صغير من رحمتنا، فهل أظهرتم لنا شيئًا من رحمتكم؟ نعم كفى باستمراركم على الفتك بالأمة وغصب حقوقها الطبيعية شاهدًا على رحمتكم وصدق لهجتكم.

وأما عدلكم فقد تبيناه منذ تسلمتم أزمة البلاد التي أصبحت تئن من ظلمكم، فيا حضرة الحاكم العام، لقد هدمتم هذا الركن بمقالع من السياسة التي أهلكت الحرث والنسل وأتت على الأخضر واليابس، فتراب كل منطقة يشهد بأنكم سلبتم الحب حتى من منقار الطائر، واستخرجتم المخ من العظم وضاعفتم الخراج أضعافًا على الزراع فأصبحوا يسألون الناس إلحافًا، وأنتم تسألونهم فوق الجهد وتكلفون نفوسهم فوق الوسع، أهذا عدلكم؟ نعم إن السجون والمنافي والديوان العرقي شهود على عدلكم وبراهين على صدقكم، فأين العدل الذي تزعمون؟ أوفيتم بوعد أو ثبتُّم على عهد؟ أين البيانات الرسمية؟ أين القطوع الدولية؟ أين عهود الطائف؟ أين الاستقلال؟ أين الإدارات الوطنية؟ أين منشور «مود» وأين وثائق «مكماهون»؟ أكان من العدل يا حضرة الحاكم أن تكموا الأفواه التي طالبت بالحق وتدفعوا طلاب الاستقلال إلى المنفى؟ عقاب صارم وعذاب دائم وجرائر وجرائم، ثم تريدون الالتئام مع الأمة وأنتم تريدون نفوسها للقتل وأموالها للاغتنام وأعراضها للفتك وأوطانها للاستيلاء، أهذه هي العدالة؟ سلام الله على ظلم الفراعنة.

وأما التسامح الديني أو الدعامة الثالثة التي قام عليها بناء حكومتكم فدعوى كاذبة تشهد عليها المعابد والمساجد وقبور الأئمة المقدسة، ولئن تقادم عهد حادثة النجف، فحادثة مسجد الكوفة غضبة في أول النهضة. أما صيرتم ساحته هدفًا لمقذوفات الطيارات؟ أما خلطتم ترابها بلحوم المترهبين والمترهبات؟ أما داخلتم رءوس الأطفال بصدور الأمهات؟ ألم تمنعوا مجالس المواليد وسائر الشعائر؟ أكان من التسامح في الدين رمي جوامع المسلمين وحصر مجامعهم ومنع أعيادهم ومراسيمهم؟ هل الاستيلاء على الأوقاف الإسلامية تسامح وتساهل؟ إذا كان هذا هو التسامح، إذن ما هي معاني التعصب الأعمى؟ تحية على غلادستون، وثناء على الحروب الصليبية.

يا ممثل الدولة الإنكليزية، إن الأركان التي اعتمدتم عليها لا تقوم عليها بيوت العناكب، فكيف تشيدون على أساسها الواهي دولة لا تدول وحكومة لا تزول؟ لقد أوجبت أركانكم هذه أن يصافحَ العراقيون مدافعكم، ويعانقوا بنادقكم، ويستعرضوا الكتائب من جيشكم، حتى يكتب الله انهدامها ويقيم على أنقاضها دولة عربية قانونها القرآن وشعارها محبة الإنسان.

يا ممثل الدولة الإنكليزية، غريب منك وأنت على كرسي الحكم المؤقت، عجيب منك وأنت ضيف ثقيل على البلاد أن تصف في كتابك شوكة الحكومة البريطانية وثروتها بقولك: «ومن قبل أن تقع الحرب العظمى كان للدولة الإنكليزية التي شعارها المسالمة جيش صغير للدفاع عن نفسها، فلما شرع الألمان والأتراك من تلقاء أنفسهم … إلخ.»

فيا حضرة الحاكم إنا في غنى عن الإسهاب في بيان قوة الحكومة؛ فإنا نعرف ذلك كما تعرفه أنت، نحن لا ننكر عظيم قوتها فإنها أم العَدد والعُدد، وذات الحول والطول والقوة والاستعداد، إنها تستطيع أن تحشد نفس العدد الذي ألفته لقتال أعدائها، وهي أم النقود التي تدلي بها من بحر بعيد العمق، ولكن العراقيين يا أيها الحاكم قد تكاتفوا وتكافلوا وتعاضدوا وتساندوا، وقاموا للدفاع عن حياتهم وتطهير بلادهم، لا يبالون بعَدَدكم، ولا يكترثون بعُدَدكم، تكاتفت نياتهم وتوحدت غاياتهم، لا يتزايلون عن موقف ربضوا فيه كالأسود وثبتوا عليه كالجبال للوصول إلى الغاية وأخذ الاستقلال، فإما للحياة وإما للموت، فالموت سعادة في هذا السبيل، وحياة في الدفاع عن الحق.

يا حضرة الحاكم العام، لقد حشدت حكومتك الجيش الجرار، فحارب عن الحرية ودافع عن المدنية وأنت تريد محو الأمة وإتلاف البلاد، تهدد بالفتح والاستعمار، وتهدد بحشد جديد لإكراه العراقيين أم لتصديق «جئنا محررين لا فاتحين».

ثناء على حريتك وسياستك. أما قولك: «فأهل العراق قبلوا الدولة الإنكليزية وكانوا مسرورين من إبقاء جيوشها في هذه البلاد لما غلبت الأتراك.» فريةٌ على أهل العراق، متى قبلوا بدولتكم وأصبحوا مسرورين من بقاء جيشكم؟ هذه وثائق الانتخاب أدلة واضحة على استيائهم منكم ورفضهم بقاءكم رجالهم وأطفالهم كبارهم وصغارهم، كلهم سواء لا يقبلون بكم ولا يميلون إليكم، وأنت تعرف ذلك حتى من الآحاد الذين اصطنعتهم لخدمتك واستعملتهم لأغراضك، فيا حضرة الحاكم العام، كيف تفتري على أهل العراق؟ ألم تطلع نفسك على رغباتهم التي تقف على تصريحاتهم؟ اذكر موقفك في النجف إذ جئتَ تعمل لتبديل الوثائق الموقعة من السادات والعلماء والأشراف من الرؤساء وسائر الطبقات، ألم يطلبوا فيها جلاءكم عن العراق ليؤلفوا حكومة عربية لا دخل لأجنبي فيها؟ اذكر طوافك في الأنحاء وبماذا قابلك الأعيان والزعماء؟ طالع يا حضرة الحاكم العام صحائف فشلك في العراق، فهل رأيت قبولًا من الأمة أو ميلًا صادقًا إليكم؟ أم تجابهك بالرد؟ أم تقابلك بالتصريح؟ فمن أي القلوب تحققت القبول وفي أي الوجوه طالعت السرور؟ تخرُّصٌ وتلفيق إلى هذا الحد … أهذه هي المدنية؟

وأما قولك: «ولكن لما رأى بعض المفسدين والمغرضين.» فقول مجرد عن الصدق، بعيد عن الحق بيِّن التحامل، واضح العداء، نسألك يا حضرة الحاكم العام بصلاحك المعروف وإصلاحك المشهور، نسألك بحق الاستعمار والاستعباد، بحق الظلم والاستبداد نسألك من هم المفسدون؟ نعم هم زعماء النهضة هم طلاب الاستقلال هم رؤساء الدين هم أئمة المسلمين!

عجيب يا أيها الحاكم تحاملك الشديد على العلماء وقادة الرأي العام، زعمت أنهم مفسدون، وبرهانُك مطالبتُهم بحقوقهم ودفاعهم عن حياتهم، أَجَوَّزَ لك القانون أن تسمي المدافعين عصاةً والعلماء مفسدين والأئمة مضلِّلين؟ أهذه هي الأخلاق الإنكليزية؟ سلام على عِلمك الواسع الغزير!

أما الحالة التي عبرت بأنها توجب الأسف، فإنها من نتائج تهوسكم وتجاوزكم من قلة تدبيركم وتدبركم، فلو كنتم بالعهود وفيتم، وعملتم طبق العهود، فحققتم رغائب الشعب المظلوم لحفظتم مكانتكم وثبَّتم في القلوب صداقتكم، ولكنك يا حضرة الحاكم أنت دفعت الأمة إلى القتال، أنت أسلمتها إلى هذه الحال، أنت أتعبت جيشك بلا دعوى، فأنت المسئول عن هذه الوقائع!

فيا حضرة الحاكم العام، إن المجلس العرفي الذي أمر حنانك بتأليفه لإعدام الوطنيين، ونفي الشبان المخلصين، وسجن الأبرياء والمظلومين، جديرٌ بأعضائه العسكر أن يحاكموك، ومَن أولى منك بالمحاكمة إذا كان للمجرمين وإذا أعد للمذنبين؟

يا أيها الحاكم العام، لقد قامت قيامتكم على القيصر غليوم، فأوجبتم محاكمته؛ لأنكم نسبتم إليه جناية الحرب؛ فهو مجرم عندكم؛ لأنه مثير الثوائر بزعمكم، فإن كانت شرائع الدول توجب قصاص المجرمين فأنت أولى بأن تقاصص وتعاقَب؛ لأنك أكبر مجرم على الإنسانية، أكبر مجرم على الحكومة البريطانية!

يا ممثل الدولة الإنكليزية، إن اعترافك بقوة الأمة العراقية يناقض استدراكك العليل بقولك: «ولكن عددهم قليل وليس لهم من الدراهم إلا القليل.» فيا أيها الحاكم إن الأمة قد اعتمدت في دفاعها على ثلاثة أركان: القومية والوطنية والشريعة الإسلامية، فعندها الثبات إزاء اختراع الآلات، والعناية الإلهية بدل المساعدة الخارجية، والقناعة عوض الزراعة، فالأمة صابرة على النزال حتى تنزلوا على حكم الحق، مستمرة على النضال حتى تسترد الحاكمية. أما قولك: «ها قد بذل العرب حتى الآن كل ما في وسعهم من الجهد، ولا يمكنهم أن يأتوا بعمل فوق ما عملوا.» فيا حضرة الحاكم، إن العرب لم يبذلوا إلى الآن عُشر ما أعدوه، ولم يعملوا بعض ما يريدون أن يعملوه، فقوتهم في زيادة وأعمالهم إلى نشاط، ها قد جاء الخريف وانتهى موسم الحصاد، وفرغ العرب من المشاغل الزراعية وأقبلوا على الحرب الدفاعية بشوق عجيب وميل قوي، فازدادت جموعهم أضعاف ما كانت، وأما تهديدك بوصول العساكر، فالأمة على علم من قوتكم ومعداتكم واستعدادكم للقتل والسفك، وليس بها حاجة إلى إرسال معتمد يكشف لها ما هيأتموه من الوسائل الحربية! الله يا حضرة الحاكم، ما هذه المضمرات العدائية؟ بهذا تستجلب نفوس العراقيين؟ ما أبعدك عن الحكمة والصواب، كأن الوسائل الحربية وسائل للقضاء على الاستقلال والحرية، أتطلب معتمدًا لهذه الغاية، للاطلاع على الفظائع العسكرية، فأين الإنسانية؟!

وأما قولك: «فبناء على أن النتيجة النهائية هي معلومة فلِمَ يدوم سفك الدماء؟» إنا نسألك ما هي النتيجة المعلومة، من جواز الحكم من المجهولات، هل تيقنت أنها في جانبكم باعتمادكم على القوات العسكرية التي طوحتم بها ومزقتم أوصالها؟ إنَّا لا نريد إطالة سفك الدماء، ولكنك تريد ذلك فضع حدًّا لاتهامك وإيهامك، فإن الأمة قد كشفت نياتك السود، ووقفت على حقيقة أحوالك، ثم ما أغرب قولك: «إن الحكومة الإنجليزية عملًا بقواعدها ستجازي بعض الشيوخ وغيرهم الذين ضللوا بالناس، وأسماؤهم معلومة عندي.» الله أيها الحاكم، كيف نسيت قولك في صدر الكتاب: «إن الحكومة الإنجليزية قد اعتمدت دائمًا على الأركان الثلاثة.» أكان من الأركان الثلاثة أنها ستنتقم من المشايخ الذين أحرقت بيوتهم ونهبت أموالهم وذبحت أطفالهم؛ لأنهم طالبوك بالاستقلال؟ ليسمع المشايخ نصيحتك هذه، ليقفوا على حقيقة إخلاصك وماذا تُعد لهم!

أيها الحاكم العادل! هل وراء ما يشهدونه كل يوم من ضروب الظلم وأنواع الاعتساف، هل وراء التعذيب والانتقام شيء آخر من العذاب؟ ليطمئِن بال «المشايخ وغيرهم» فهذا عدلك وهذه رحمتك. أما طلب المفاوضة وتعيينك لها «حضرة الكولونيل هاول»، فإن ذلك يعود إلى رأي المشايخ وأقطاب الأمة الذين قلت: إن الحكومة الإنكليزية ستجازيهم عملًا بقواعدها! فيا أيها الحاكم، إن الأمة عملًا بقواعدها الإنسانية، واعتمادها على أصول المدنية، لا تمتنع عن المفاوضات الدولية، ولكنها لا تدخل في المفاوضة معكم إلا على الشروط الآتية:
  • (١)

    سحب الجيش من البلاد.

  • (٢)

    إرجاع المنفيين.

  • (٣)

    حضور قناصل الدول في مجلس المفاوضة.

وخلاصة القول: «إن الأمة لا تريد إلا الاستقلال التام للعراق بحدوده المعروفة، وهي لا تدخل في المفاوضة إلا على تلك الشروط.»

جريدة الاستقلال في النجف

وارتأى فريق من الثوار أن يؤسسوا «مكتبًا للدعاية والأخبار» خاصًّا بالثورة وإصدار جريدة تعاون أغراضها، وكان محمد عبد الحسين قد جاء النجف الأشرف من بغداد بنيَّة المساهمة بالثورة عن طريق الصحافة، فقدَّم يوم ١٥ أيلول (سبتمبر) سنة ١٩٢٠ طلبًا إلى قائمقام النجف الذي نصبه المجاهدون السيد نور عزيز الياسري بأنه يروم إصدار جريدة باسم «الاستقلال»، وصفاتها جريدة سياسية اجتماعية تُنشر أربع مرات في الأسبوع، وهو يرجو منحه الامتياز بذلك.

فأجابه القائمقام بأنه: «اجتمع «المجلس البلدي» وتذاكر مع «المجلس العلمي» — وهما من تشكيلات حكومة الثورة — فقررا في ١٨ أيلول (سبتمبر) سنة ١٩٢٠ الموافقة على طلبكم على أن لا تُخالف جريدتكم مبادئ الثورة المقدسة.»

وكان الشيخ علوان الحاج سعدون من أقطاب الثورة قد اقترح على عبد الحسين تسمية جريدته «الثورة»؛ لأنه اسم تاريخي، ولا يستطيع صحافي أن يحصل عليه إلا في هذه الظروف، ولكنه رفض هذا الاقتراح؛ لأنه عندما كان في بغداد وابتدأت المفاوضات السلمية تقدم بطلب إلى حكومة الاحتلال بالاشتراك مع عبد الغفور البدري بإصدار جريدة باسم «الاستقلال» فرفضت السلطة المذكورة طلبه، فجاء النجف مصممًا على تحقيق رغبته من رجال الثورة الوطنيين.٢

ولما فاوض الصحافي صادق الكتبي ليطبع «الاستقلال» في مطبعته رفض رغمًا عما أغراه به من الأجور الحسنة، فراجع صاحب الجريدة القائمقام، فأوعز هذا بوضع اليد على المطبعة حالًا لحاجة الثورة إليها في أغراضها، فصارت تطبع الجريدة.

ظهرت جريدة «الاستقلال» في ٣ تشرين الأول (أكتوبر) في النجف كما أناطت قيادة الثورة بمنشئها إدارة «مكتب الدعاية والأخبار» الذي أسسته، وعين رجلان من أنشط الضباط لتتبع شئون الثورة وأخبارها، وتزويد مكتب الجريدة بها، وهما «ناجي حسين» و«جميل قبطان»، وكان من حُسن حظ المكتب أن ظفر بغنيمة باردة أطلعته على الشيء الكثير من خطط العدو؛ وذلك أن الطائرة التي ألقت البريد على فصائل الجيش الإنكليزي المحصورة في نقطة الكوفة لم تستطع أن تلقيه على مكان هذه القوة بالضبط، بل وقع قريبًا منها فاستولى عليه الأهلون فحملوه إلى مكتب الجريدة والدعاية، فأمدهم بمعلومات كانوا يحتاجون إليها.

واستعداد المطبعة وقلة الورق لم يمكنا جريدة «الاستقلال» من الظهور أربع مرات في الأسبوع كما أرادت، وكتب الجانب الأكبر منها صاحبها ومدير سياستها يعاونه عبد الرزاق الهاشمي، وهو من محرري مجلة «اللسان» التي ذكرتها آنفًا.

كتبت في افتتاحية عددها الأول:

لقد آلمنا خلو البلاد من الصحف الوطنية وعدم اهتمام الكتَّاب وحملة الأقلام بها في هذه الأيام الحرجة، فدفعتنا الوطنية إلى إصدار جريدة «الاستقلال» لتردَّ أضاليل المحتلين وتهمهم وتنشر مظالمهم البربرية، وترفع الستار عن حقيقتهم، وتوضح مطالب الأمة المشروعة لدى العالم وتنشر أنباء المعارك والحوادث المحلية، وتوقف الأمة على الحالة السياسية التي يتبدل مجراها كل حين، وتريها مستقبلها الذي يتراءى من خلال الحوادث الجارية، وتوضح لها السبل التي يتحتم سلوكها لبلوغ الغاية المقدسة، وتنقد أعمالها لتوقفها على النافع منها والضار شأن الجرائد الكبرى الحُرة في البلاد الراقية، ولكن كيف يتأتى ذلك ونحن على ما نحن عليه من قلة العُدَّة والوسائل؟

وقد قاسى محررو جريدة «الاستقلال» بعض ما يعانيه صحفيو أوروبا وغيرهم في خلال الحروب، حيث كانوا يكتبون أحيانًا تحت أزيز القنابل التي ضربت النجف.

وتعرضوا لمراقبة حكومة الثورة وإنذار ممثلها والي كربلاء السيد محسن أبو طبيخ؛ إذ كتب يومًا مقالًا افتتاحيًّا عنوانه: «الشتاء على الأبواب ماذا أعددنا لتطمين حاجة الثوار في ميدان القتال؟» ومما ورد فيه:

ها قد حلَّ الخريف وبدت طلائع جيش الشتاء قارس، وتلبَّدت الغيوم فما هو واجبنا؟ وما عسانا عاملين؟ إذا هاجمتنا الرياح والعواصف وصبت السماء رحمتها، ونحن لم نتخذ وسيلة تحمي الجيوش العربية المرابطة أمام العدو من برد الشتاء، ولم نُبْدِ اهتمامًا كبيرًا لما سيحيط بها في هذا الفصل، ونحن في وضع يستلزم الاهتمام في أمر المجاهدين وتهيئة أسباب راحتهم.

فلم يكن من والي كربلاء المذكور إلا أن وجه إلى الجريدة بعد اطلاعه على هذا المقال هذا الإنذار مؤرخًا في ٨ تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٩٢٠:

إلى صاحب جريدة الاستقلال

إن مقالكم المنشور في جريدتكم تحت عنوان: «الشتاء على الأبواب»، مما يثبط عزم المجاهدين ويقلل من معنوياتهم، كما يعطي للعدو إحساسًا بضعف الثوار، وعليه ننذركم بهذا بلزوم عدم نشر كل ما يوحي بالضعف أو يدل على ذلك.

ونقل إلى صاحب الجريدة محمد عبد الحسين أن الهيئة المشرِفة على شئون الثورة لم تشايع والي كربلاء في رأيه فاعترضت عليه بكتاب رسمي.

وإليكم نموذجًا من وصف جريدة الاستقلال لحصار الجيش الإنكليزي في الكوفة وعنوانه «الحصار في الكوفة أو مقبرة الأعداء»:

لا يخفى أن جيش الأعداء المحصور في الكوفة قد اضمحل أكثره وتلاشى جوعًا وقتلًا، رغمًا عن اتخاذه لكل وسائل الاحتفاظ، وتأكد بأنه استولى على البقية الباقية منه الضعف والوهن، كما استولى عليه القنوط واليأس فأصبح وهو أسوأ حالًا من ذي قبل.

ضاقت دائرة حصاره واشتد عليه الخناق فبات وهو في دائرة أضيق من جحر الضب، هي محل سكناه ومقبرة أصحابه وإصطبل خيله وبغاله، وتتخللها الرياح من جيف قتلاه المتصاعدة من أشلائهم الخبيثة. وقد استعد للموت فشق في أطراف تلك الدائرة أخدودًا يلتجئ إليها ويحتمي بها من القذائف، ومن مرميات مدافعنا الضخمة التي ما برحت تصب عليه العذاب صبًّا، وإذا أمعنت النظر في تلك الملاجئ التي اتخذها العدو ترى أن زعيم هذا الحصار قد اختار له ولأصحابه محل الحصار مقبرة يقبر بها تلك الجثث الأثيمة، ولقد جنى على نفسه وعلى جيشه المحصور جناية لا تُغتفر.

قام المدافعون عن حقوقهم والناهضون في طلب استقلالهم فشددوا عليه الحصار حتى نفد ما عنده من مواد الغذاء، وانقطع رجاؤه من كل نجدة أو سبب يخلصه من تلك الورطة التي وقع بها.

وأي نجدة تنقذه وقد تقلص نفوذ حكومته الجائرة من العراق حتى أصبحت أشغل من ذات النِّحْيَيْنِ بسبب ما انتابها من رجال النهضة وزعمائها، التي انتقضت عليها من كل مكان ومن كل جهة تطالب بحقها الصريح، وتدافع بنفوسها ونفسها عن استقلالها الطبيعي بشعور يتوقد غيرة وحماسًا، يمثل الشدة والبأس، ويظهر للملأ الحمية العربية وكيف تدافع عن وطنها المحبوس، فتفديه بأرواحها.

أكرم بهذا الشعور الحسَّاس الذي أدهش العالم الأوروبي، وأكرم بتلك الهمم الشماء.

ولقد ارتأى الزعماء المحترمين الناهضين لتطهير بلادهم من رجس الاحتلال بأن ينظموا جيشًا من المتطوعين، ويؤلفوا قوة نظامية على قواعد مخصوصة. وقد خصصوا بذلك كل ما يقتضي من اللوازم والمعدات وقرروا بتشكيل قوة الدرك في النجف والكوفة، وستظهر إلى حين الوجود على أحسن طرز.

ثم خمدت الثورة بعد قليل فتعطل «الاستقلال»، ولم يفت العدد الثامن وهو رقم صغير، ولكن عمل الجريدة وأثرها كبيران في تاريخ الكفاح والاستقلال.

١  مجلة «اللسان» بغداد «العدد الأول».
٢  «الحقائق الناصعة في الثورة العراقية»، تأليف فريق المزهر الفرعون، مجلد ١، ص٢١٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤