الصحافة بعد تأسيس الحكومة العراقية

انقضت على خمود الثورة العراقية فترة، وتوصل السر برسي كوكس المندوب السامي البريطاني إلى شيء من إقرار الحالة، وسارت الحكومة المؤقتة التي ألفها برئاسة عبد الرحمن النقيب شوطًا في الأعمال التمهيدية لتأسيس مملكة العراق، وأسفر «مؤتمر القاهرة» الذي عقده الإنكليز في آذار (مارس) سنة ١٩٢١ عن تقرير السياسة البريطانية في العراق بإنشاء دولة عراقية عربية، يرأسها أمير من البيت الهاشمي مقيدة بالقانون، وعاد من الخارج كثير من الضباط العراقيين والمنفيين بعد صدور العفو العام، فتجمع في قلب الوطن الذين شردتهم الحرب أو سياسة الاحتلال، وساعد الجو السياسي على جمع الكلمة وتوحيد الصفوف، وانبعث الروح الوطني على وجه إيجابي بعد أن سكن لهيب الثورة، وتوجهت الأفكار نحو بناء الدولة الناشئة.

في هذه المرحلة بدت الحاجة إلى صحافة نشيطة تنسجم مع الوضع، وتقوم بواجبها القومي في تهيئة الأذهان للحدث الجديد، فنبتت الرغبة في إصدار الصحف، فسارعت الحكومة في منح الأذون بها، وبعد أن كانت بغداد العاصمة محرومة من الصحافة إلا جريدة يومية واحدة هي «العراق» كما رأينا، برزت في وقت واحد أربع جرائد جديدة هي «الفلاح» و«لسان العرب» و«دجلة» و«الرافدان»، وطفقت أقلام البلد كلها تدعو إلى استقبال الصفحة الجديدة من حياة العراق بعودة الملك إلى أهله الشرعيين، وقيام العرش العراقي على ضفاف دجلة بعد أن أضاعه العراقيون منذ سبعمائة عام، ففاضت أنهر الصحف الأربع المذكورة مع جريدة «العراق» بالمقالات والأبحاث عن الدولة في فجر تأسيسها، والتاج الجديد والعرش العتيد والمرشح للجلوس عليه، ومع أنه سبق للعراقيين يوم نادى السوريون بملكهم العربي الأول في عصر اليقظة، أن نادى الاستقلاليون الذين تكلموا باسمهم في دمشق بذكر مرشح للعرش العراقي، فإن صحافتنا في المرحلة التي نتحدث عنها قد اجتمعت على أن الأمير فيصل بن الحسين هو مرشح الشعب لعرشه المفدى.

جريدة الفلاح

استهلت جريدة «الفلاح» كتاباتها بأنها تسعى للاستقلال التام بتأسيس حكومة دستورية ملكية نيابية، ودعوة الأمير فيصل للجلوس على عرش العراق، و«الفلاح» جريدة سياسية أنشأها في بغداد عبد اللطيف الفلاحي، ومع أنه من خريجي الكلية العسكرية في إستانبول فقد انصرف إلى العلم والتعليم، فأنشأ في العهد العثماني مجلة «مكتب» — يعني مدرسة في اللغة التركية باللغتين العربية والتركية — وأصدر في العهد الفيصلي في الشام مجلة «العلوم» شهرية.

لهذا عنون جريدته «الفلاح» يوم ظهرت في ٢٠ حزيران (يونيو) سنة ١٩٢١ بأنها «جريدة سياسية علمية»، ولم يشأ أن يوقفها على السياسة، بل خصَّ كثيرًا من أعمدتها بالعلم والأدب، ومما جاء بصدد خطتها حول المرشح للعرش:

أن يكون الرجل الذي نُملكه علينا موضع ثقة الأمة، جامعًا للصفات التي تؤهله أن يكون ملكًا عليها، وأن يكون عربي النزعة، شريف النجار …

إلى أن قال:

فإن جاهرت الأمة بالدعوة للأمير فيصل فما ذلك إلا لأنها تراه جامعًا للصفات المذكورة، وتعترف بما سبق له على الأمة العربية من الأيادي الطائلة بالذب عن حريمها والذود عن حياتها، وشهره السيف للمطالبة بحقوقها وإحياء مجدها القديم، عدا ما اكتسبه من التجارب السياسية في طول احتكاكه بساسة الغرب، وما حصل عليه من المكانة الرفيعة عند أهل الحَلِّ والعَقْد.

ثم انثنى صاحب «الفلاح» إلى نزعته العلمية فقال:

غير أن الفلاح ليست جريدة سياسية محضة، بل لها فوق غايتها السياسية أغراض عالية علمية، ترمي إليها، ومقاصد شريفة أدبية تسعى نحوها … إلخ.

وفعلًا كانت هذه الجريدة على صِغر حجمها حافلةً بالبحوث الثقافية والفوائد، وتفننت في نشر شذراتها العلمية في جوانب من العدد وبطريقة متسلسلة محكمة الطبع، بحيث يستطيع القارئ أن يقتطعها ويجعل منها كتيبًا كلما أُنجز مبحث خاص منها، كما تناولت الصحيفة من أول عهدها موضوع البعثات العلمية وتأسيس مجمع علمي في العراق وغيرها من الأبحاث الفنية والعلمية، وحفلت أعدادها بأخبار مقدم الأمير فيصل ووصف مهرجانات استقباله وحفلات تكريمه ومجالس مبايعته بالملك، مثبتة خطبه وأقواله في هذه المواقف.

ولم تستطع بوسائلها الطباعية أن تظهر يوميًّا، بل ثلاث مرات في الأسبوع، ولم تكن واسعة الانتشار، إنما امتازت فوق عنايتها بشئون الثقافة عامة بنزاهة الكتابة وعفة القلم، منعكسة عليها أخلاق صاحبها الرفيعة، فما كتبت كلمة نابية أو تعبيرًا قارصًا، ولم تعمر طويلًا؛ إذ نشر آخر عدد منها في ٢٢ كانون الثاني (يناير) سنة ١٩٢٢، مع أن مؤسسها أعد لها مطبعة خاصة، ولكنه كف عن إصدارها فوُظف مديرًا للشرطة، ثم اشتغل بتدريس التاريخ في بعض المعاهد العالية، وألَّف كتبًا في موضوعات دروسه، وانتخب نائبًا في المجلس النيابي، وكتب في حياته البرلمانية مقالات تربوية في جريدة حزبه، بينما أشرف على سير الجريدة وطبعها.

جريدة لسان العرب

أمَّا «لسان العرب» فجريدة «إبراهيم حلمي العمر» الذي ورد ذكره مرات في هذه المحاضرات، فعندما سقطت دمشق بأيدي الجيش العربي في الحرب العالمية كان يحرر في جريدة «الشرق» كما ذكرنا، فأصدر في عهد سورية الفيصلي جريدة بدمشق باسم «لسان العرب» سنة ١٩١٨. وقد شاركه في أشغاله الصحافية فترة خير الدين الزركلي، فلما تبدلت الحال في العراق نقل «لسان العرب» إلى بغداد حتى إنه في أول الأمر جعل عددها متسلسلًا مع تلك ٤٠١، كما حسب سنتها (الرابعة)، ولكنه عاد في العدد الخامس فجعل رقمها وسنتها جديدين، ومع أن لسان إبراهيم حلمي هذا في دمشق بعد أن حطمت قوة الاستعمار الغادر العرش الفيصلي قد انطلق بما لا يرضي العرب، نراه أقبل إلى بلده يساهم في التمهيد لوضع التاج العراقي على مفرق فيصل الهاشمي، وكتب في رأس «لسان العرب» الذي ظهر في ٢٣ حزيران (يونيو) سنة ١٩٢١ أنها «جريدة يومية سياسية حرة»، واتخذ لها بعد ذلك شعارًا في صدرها، غايتها خدمة الأمة العربية، وها أنني أورد فقرات من خطته السياسية التي أعلنها، ومنها تدركون الطرق المتمعجة التي سلكها الكاتب قال:

إن الخطة التي تجري عليها هذه الصحيفة هي الخطة التي نشأنا عليها وأيدناها، وهي الخطة العربية المثلى بخدمة العرب عامة والعراق خاصة، على أن الناس يجب ألا ينتظروا منَّا الميل إلى حزب والانحياز إلى فريق، إن جريدتنا عامة شعبية، لا تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا عن حزب تنتسب إليه، بل هي حقل لآراء أبناء الأمة.

وفي العدد الأول مقال عن الأمير فيصل بمناسبة وصوله البصرة، والمقالات الافتتاحية في «لسان العرب» مكتوبة بأسلوب كتابي بارع عز نظيره في صحف العراق عهدئذٍ، لمران منشئها وكفاءته الكتابية. أما بقية مواد كل عدد فليست ذات شأن في الفن الصحفي.

ونشأ صاحب الجريدة منذ العدد الثالث يتحدث عن «الصحافة البائسة» والسبب الذي حدا به إلى جعل ثمن النسخة من جريدته آنتين — وكانت العملة الهندية هي المتداولة في العراق — بينما تُباع الصحف الأخرى بآنة واحدة، وتطرَّق إلى سخاء كرام الوطن وجودهم في مؤازرة المشاريع الوطنية.

ثم اصطدم في سنته الثانية بشعور الجمهور في قضية غير سياسية، مما اضطر إلى أن يوقف صحيفته أسابيع استأنف بعدها نشرها باسم جديد هو «المفيد» في ١١ نيسان (أبريل) سنة ١٩٢٢، وقد اختاره لها؛ لأنه اسم أول جريدة عربية دافعت في بيروت عن حقوق الشعب العربي في العهد العثماني عندما أصدرها فؤاد حنتس والشهيد عبد الغني العريسي، وكان للكاتب العراقي هذا في «المفيد» البيروتي مقالات وجولات، وتاريخ هذا الصحفي مليء بالتساهل والانتقال من حال إلى حال، فسرعان ما غيَّر لهجة جريدته «المفيد» وصار ينتقد سياسة الانتداب البريطاني، وظاهر الحركة الوطنية، وتحدث عن المعاهدات والعهود بأنها «قصاصات ورق»، وكتب افتتاحية عن «عصبة الأمم» تقدح شررًا عنوانها: «سوق النخاسة في جنيف»، اهتزت لها الأندية السياسية، وأخذ يناقش بعض الكتَّاب والنواب الإنكليز في السياسة العراقية والقضية العربية، وأيدت جريدة «المفيد» حركة المقاومة لسياسة الانتداب، وكتبت مقالات عنيفة، ونشرت في ٢٣ آب (أغسطس) سنة ١٩٢٢ منشور الحزبين المتضامنين «الحزب الوطني» و«حزب النهضة» في وصف وضع البلاد المضطرب، فصدر قرار المندوب السامي البريطاني — وقد تسلم السلطة في ذلك الظرف لمرض الملك — بتعطيل الجريدة والقبض على صاحبها وإبعاده في ضمن قراره بإقفال الحزبين المذكورين واعتقال زعمائهما، فلم يكن من إبراهيم إلا أن اختفى عن الأنظار، ثم فر إلى إيران، وعاد إلى إصدار «المفيد» في ٢٥ أيار «مايو» سنة ١٩٢٤ بعد أن قاسى سنتَيْ هجرة وتشريد وحرمان.

وفي أحد مواقف المعارضة للوزارة القائمة كتب صاحب جريدة «المفيد» مقالة بعنوان: «المستقبل المظلم»، يوم ١٤ كانون الثاني (يناير) سنة ١٩٢٦ عيَّر فيها الذين في دست الحكم بأنهم كانوا ضد دولة الخلافة في أيام الثورة العربية، وهم يسلكون اليوم هذا المسلك، «يريد عقد المعاهدة التركية لسنة ١٩٢٦»، وختمها بهذه العبارات:

قد أضاعوا المنطق، ونخشى أن يكونوا أضاعوا معه كل شيء. حتى المقدسات الوطنية، بل حتى الارتباط بأمجاد التاريخ، ولكن ما قيمتهم في نظر أمة صممت على اتباع واحد من أمرين:

إما أن تموت في سبيل أمنيتها الوطنية، وإما أن تظفر بغاياتها القومية الكبرى، والمستقبل كشَّاف؛ لأن سواد الليل لا يدوم فلا بدَّ من فجر ينبثق في هذه الديار الظامئة إلى حريتها واستقلالها.

فغضبت الحكومة على الصحافي لحملاته المتكررة، فألغت امتياز جريدته بحجة أن صاحبها وهو من هو في براعة الكتابة الصحافية لا يحمل شهادة مدرسية عالية، المفروضة قانونًا في المدير المسئول للجريدة السياسية، وبهذه الخاتمة انتهت حياة جريدة «المفيد».

جريدة دجلة

وجريدة «دجلة» أصدرها المحامي داود السعدي — وهي جريدة عربية سياسية اجتماعية حرة — في ٢٥ حزيران (يونيو) سنة ١٩٢١، تولَّى تحريرها بادئ ذي بدء حسن الغصيبة، ولكنه تركها بعد بضعة أعداد؛ فحلَّ محله رشيد الهاشمي.

ومع أن الشبهات قد حامت حول سياسة هذه الجريدة تجاه قضية البلاد الكبرى، وهي نصب العرش العراقي وإجلاس الأمير فيصل عليه؛ فقد قالت في فاتحة عددها الأول:

كل غايتنا التي نرمي إليها استقلال البلاد استقلالًا تامًّا، وتأسيس حكومة دستورية ذات ملك مقيد بقوانين توافق روح البلاد، وتلائم مصلحة الشعب، وتأليف مجلس تشريعي له سلطة واسعة يؤلف ممن يعتمد الشعب عليهم ويثق بصدق وطنيتهم.

ورغمًا عن هذا العهد الذي قطعته الصحيفة لقرائها؛ فقد كانت ديباجة دجلة تختلف عن زميلاتها في القضية الأساسية، بحيث اضطر صاحبها تجاه التيار القوي ضد الجريدة إلى أن ينشر مقالًا افتتاحيًّا بتوقيعه في العدد التاسع عنوانه: «نحن والمغالون»، تبرأ فيه مما يلصقه به البعض من أن جريدة «دجلة» ترمي إلى فكرة جمهورية في نوع نظام الحكم للعراق، أو أنها تريد تتويج عراقي على المملكة العراقية حتى رموه بأنه يقاوم الأمير فيصل، فأوضح في مقاله هذا «بأنه يؤيد ترشيح أحد أنجال الملك حسين بن علي، ولكنه يقاوم فكرة التتويج قبل اجتماع المؤتمر العام» — يقصد المجلس التأسيسي — إلى أن قال:

نريد أن يكون الملك مقيدًا بقيود يكون وضعها في صالح البلاد، نريد أن نقيده قبل أن يستبد بالشعب.

ولكن كل هذه الإيضاحات لم تُفِدْ، وظل الناس ينظرون إلى «دجلة» نظرًا خاصًّا فيما يتصل بهذه المسألة، وأذيع في حينه أن لمستشار وزارة الداخلية المستر جون فلبي ضلعًا في هذه السياسة، ومع أن «مذكرات فلبي» عن هذه الحقبة في كتابه Arabian Days لم تبرئه من بعض المحاولات، وأنه كان يضطلع مع طالب باشا النقيب، فيعزو بعض المطلعين على بواطن الأمور أن جريدة «دجلة» كانت تعبر عن هوى بعض السياسيين وفي مقدمتهم عبد الجيد الشاوي.

ويفهم عنف التيار الذي لقيه هذا الصحفي من تكرار الهجوم في جريدته على الدساسين، بل بلغ الأمر بالصحيفة أن كتبت يومًا مقالًا افتتاحيًّا عنوانه: «الحرُّ مُمتحَن بأولاد الزنا»، مما يشير إلى الحدة أو العصبية التي استولت على صاحبها من نهش الدعايات له.

لم يكن في دجلة تفنن صحفي، اللهم إلا شروعها في نشر ترجمة مذكرات الجنرال طاوسند الإنكليزي متسلسلة، الذي أسره الترك العثمانيون في الكوت عن «حملة العراق» البريطانية.

وختمت الجريدة حياتها في عامها الثاني بالعدد المنشور في ٢٦ تشرين الأول (أكتوبر) سنة ١٩٢٢.

جريدة الرافدان

أما «الرافدان» فجريدة أنشأها «سامي خوندة» أحد الشبان المنغمرين في الحركة السياسية للأحزاب الوطنية السرية، كان يعمل في جريدة «الاستقلال» التي سبق بحثها في المحاضرة المتقدمة، صدر العدد الأول منها في ٢٦ أيلول (سبتمبر) سنة ١٩٢١، وكانت لها صلة برجال الأحزاب، والصفة البارزة «للرافدان» نزعتها الحرة وكتاباتها الصارمة واهتمامها بنشر ما يغذي الشعور الوطني، بحيث عطلت في خلال السنة الواحدة من حياتها ست مرات، حتى كان يوم ٢٣ آب (أغسطس) سنة ١٩٢٢ فنشرت منشور الحزبَيْن المنوه بذكرهما آنفًا فعطلت بقرار المندوب السامي المشار إليه، واعتقل صاحبها مع من اعتقل ونفي إلى هنجام، ولم يرغب بعد أن أطلق سراحه وعاد إلى بلده أن يحترف الصحافة، بل فضَّل عليا التوظف في الحكومة.

نشرت «الرافدان» في مطلع حياتها ثلاث مرات في الأسبوع، ثم أصبحت يومية، ولم تأتِ بجديد في عالم الصحافة من الناحية الفنية إلا فتح باب النقد الاجتماعي بأسلوب هزلي برز فيه كاتب جديد يوقع «كناس الشوارع» في مقالات قصيرة، مما سنتحدث عنه في بحث صحافة الهزل.

على هذا المنوال سارت الصحافة تواكب سياسة البلد إلى أن شيد العرش واعتلاه الملك فيصل الأول في ٢٣ آب (أغسطس) سنة ١٩٢١، ودخلت البلاد في طور جديد يصح أن نسميه طور التأسيس والبناء، عقدت في خلاله المعاهدة العراقية البريطانية الأولى، واجتمع المجلس التأسيسي، فأبرم هذه المعاهدة وشرع «الدستور العراقي» وتبع ذلك الشروع في تكوين الجيش الوطني.

في غمرة هذا النشاط الرسمي، اشتد النشاط الأهلي في معالجة القضايا الوطنية، وتوالى عقد الاجتماعات السياسية، تلقى فيها الخطب النازية وتعاقب المظاهرات في الشوارع والميادين العامة، واستقر رأي العاملين في الحقل السياسي على الأخذ بنظام الأحزاب، فتألف حزبان وطنيان معارضان هما «الحزب الوطني» و«حزب النهضة»، وقام بجانبهما حزب معتدل يساند الحكومة القائمة هو «الحزب الحر». وهكذا ولدت الأحزاب العلنية في العراق الجديدة، وبنشوء الأحزاب لا بد من وجود صحف حزبية تكون ألسنتها الناطقة، وتعبر عن آرائها في القضايا الراهنة وتبث مبادئها.

جريدة العاصمة

تقدم «الحزب الحر العراقي» غيرَه من الأحزاب إلى إصدار صحيفة خاصة به، ولا سيما أن الفقرة «ب» من المادة الثانية من منهاجه الأساسي تنص على «أن الحزب يصدر جرائد ومجلات تستمد وتستعين من الأفكار الحرة العالمة بمصالح الأمة والمخلصة لها في جميع شئونها السياسية والإدارية والاقتصادية والعلمية التي يسعى الحزب لتعزيزها وتأييدها.»

نشأ هذا الحزب في ظل حكومة عبد الرحمن النقيب بوزارتيها قبل التتويج وبعده، فدعمها وأيد مسالكها وبخاصة في السياسة الخارجية، أسسه جماعة من الرجال، عُرفوا باعتناق السياسة الإيجابية التي تريد التفاهم من الإنكليز، ومن أقطابه ومؤسسيه بعد زعيمه عبد الرحمن النقيب، ولده محمود النقيب. وقد ترأس الحزب — وبتعبير أدق — ناب عن أبيه في رئاسته، فتح الحزب أبوابه في ٣ أيلول (سبتمبر سنة ١٩٢٢) فخف لنشر جريدة، وعهد إلى أحد أعضائه بتحريرها وإدارتها هو حسن الغصيبة من خريجي «مدرسة العشائر» في الآستانة ومن ضباط الثورة العربية، ومسجل في السنة الأخيرة من «كلية الحقوق»، وسموها «العاصمة»، بدأت يوميةً منذ ٥ تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٩٢٢ بأربع صفحات، وأثبت في فاتحة عهدها ما يأتي:

تبدأ جريدة «العاصمة» الصدور حاملة في صدرها للشعب العراقي والشرق العربي عاطفة إخلاص عظيم وأمانيَ رقيٍّ مستمر؛ لتكون هذه البلاد بقعة نبرة في وسط الكرة الأرضية، وهذه الأمة خير أمة أُخرجت للناس. لا تدعي جريدة «العاصمة» بما ليس فيها ولا تحاول اتخاذ عواطف الجمهور هُزْءًا أو سخرية — وكأنها بهذا التعبير تُعرِّض ببعض الصحف الأخرى — تقوم بواجبها السياسي خير قيام، وهي في هذا الباب ترجح الاختفاء والاضمحلال على تحبيذ فكرة التهور واتباع الأهواء أو الميل إلى خطة الاستسلام والتفريط في حقوق الأمة والبلاد، وستكون العاصمة عامة في مواضيعها تطرق السياسة للدفاع عن حقوق البلاد السياسية، وشرح واجبات الأمة الوطنية للاحتفاظ بالاستقلال الذي به يثبت مجتمعنا القومي، وتشتغل بالمسائل الاقتصادية لإيصال نصيب الأهلين من مرافق البلاد إلى الحد الأقصى، وتُعنَى بالأدب العربي أملًا بعودة دولة الأدب العباسي إلى العراق بصورة تتفق مع حالة العصر العشرين الفكرية؛ لتتمكن من الانتفاع من عبقرية أدبائنا الكبار وكثير مَن هم، ونستطيع أن نسمو بمستوى الفكر العربي إلى درجة تضطر الملأ الغربي إلى اعتبارنا نظراء أكْفاء في الأفكار والآداب والحضارة.

بهذه الخطة طلعت «العاصمة» على قرائها، وأذاعت في العدد الأول منها «نظام الحزب الداخلي»، ودعت الناس إلى الانخراط في سلكه، كما حملت رسائل التأييد التي وردت على الحزب من أنحاء القطر، وتقول بعض المصادر عن هذه الرسائل: إن موظفي الألوية ولا سيما المفتشين الإداريين الإنكليز يومئذٍ كانوا يدفعون الأهلين إلى الانضمام إلى الحزب والإبراق إلى الصحف بتأييده.

عرفت مقالات حسن غصيبة رئيس تحرير «العاصمة» الافتتاحية بأنها من أحسن المقالات الصحفية في يومها، بل من أحسن المقالات في الصحافة العراقية، مكتوبة بأسلوب فصيح معتدلة اللهجة، ناضجة التفكير، والجريدة كلها بالقياس إلى زميلاتها البغداديات من الصحف المعتبرة، طابعها البارز الجد والترفع عن منابزة الآخرين، أو التعرض للأشخاص عندما كانت تناقش الصحف أو الكُتاب، فهي تناقشهم بالقول العفيف والمنطق السديد، وممن كتب في الجريدة من أعضاء الحزب يوسف غنيمة ورشيد الهاشمي، كما نشرت في موضوعات أدبية لمحمود أحمد الكاتب القصصي.

ومما يؤثر عن صحيفة «العاصمة» وقفتها إزاء «مسألة الخلافة» عندما أصدر الترك الكماليون «قانون أنقرة»، يبعدون فيه السلطان أو الخليفة عن الحكم ويحصرون السلطة العليا بيد المجلس الوطني التركي، فحملت «العاصمة» عليهم في مقالات كثيرة واتهمتهم بأنهم يعتنقون الشيوعية.

وقد سجلت جريدة الحزب الحر لها موقفًا مشرِّفًا في دفاعها عن «الحرية الفكرية» وعن كرامة الصحافة والصحافيين وحريتهم الحيوية؛ إذ انتصرت «العاصمة» لحرية الفكر لما نشبت قضية كِتاب «ماهية النفس» الذي ألَّفه ميخائيل تيسي في بغداد، وبحث فيه عن النفس الإنسانية قبل الولادة وبعد الموت، فاهتاج لمضامينه رجال الدين المسيحي أولًا في مجلتهم «نشرة الأحد»، ثم راجعوا وزارة العدل بعد أن انضم إليهم بعض رجال الدين الإسلامي، فرفع «المدعي العام» بعد درسه الكتاب قضية على المؤلف في المحاكم، فأصدر حاكم جزاء بغداد حكمه بمصادرة الكتاب وتغريم مؤلفه ألف روبية، فانبرى منشئ العاصمة يُدافع عنه ويبيِّن أنه لم يهتك الآداب الدينية، ويقول: «يجدر بمن أقاموا الضجة حول الكتاب أن يكتبوا رسالة يوضحون فيها خطأ الكاتب وضلاله.» ويجب أن نسجل أن هذا الصحافي الحر لم يؤيد ما جاء في مضامين الكتاب من حجج وآراء، وإنما انتصر لحرية الفكر فقط، وبين حسن القضية في مقاله محكمة الاستئناف إلى أن الحرية الفكرية سوف تتلاشى وتضمحل إذا لم تفرق المحاكم بين المسائل الفكرية البحتة والإجرام، وأكد أن الرقي الفكري الذي نشاهده اليوم لم يأتِ إلا بتعاقب الأغلاط وتصحيحها بالتدريج.

ثم شاركت صحف أخرى في طليعتها العراق في الانتصار للمؤلف في هذه القضية، فصدر قرار محكمة الاستئناف بفسخ الحكم.

أما الدفاع عن كرامة الصحافة والصحفيين فقد وقفته العاصمة يوم اعتدى البعضُ بالضرب في الشارع على الكاتب الجريء إبراهيم صالح شكر، صاحب جريدة «الناشئة» الانتقادية.

وبعد ذهاب وزارة النقيب، وقفت جريدة «العاصمة» موقفًا يُغاير رأي حزبها في موضوع الانتخابات «للمجلس التأسيسي»، فمنذ أن برزت للوجود أخذت على عاتقها الدعوة للانتخابات ووجوب ممارسة الأمة حقوقها، ثم اعترض «الحزب الحر» على بعض حوادث هذه الانتخابات واحتج عليها وأظهر استعداده لعدم خوض غمارها، فلم يفتر هذا من عزم محرر الجريدة في المطالبة بمواصلة عملية الانتخاب، فظهر المحرر مستقلًّا برأيه عن الحزب في هذه المسألة، يسانده بعض أقطاب حزبه، ولم يزل يعالج الموضوع حتى انصاع الحزب للرأي المصيب، فقررت لجنته المركزية الاشتراك في الانتخابات ببيان أذاعته على الشعب. ولا بدَّ من القول بأن التيار السياسي الموجه من الوزارة والبلاط الملكي كان من أقوى الدوافع للحزب على موقفه الأخير، وليس منطق الصحافي وحده.

ولم يكتب «للعاصمة» حياة طويلة، فانحلال حزبها قد عجَّل في موتها مأسوفًا عليها من العقلاء فلم تعمر إلا حوالي سنة واحدة آخرها في ٢٤ آب (أغسطس) سنة ١٩٢٣، ووظف محررها رئيسًا لديوان الإنشاء في المجلس التأسيسي، وانتقل بعدها إلى السلك الإداري في وظائف الدولة.

هذه جريدة «الحزب الحر». أما الحزبان الوطنيان اللذان نزلا إلى ميدان العمل السياسي فلم يصدرا جرائد، ولا سيما أنهما أقفلا بأمر المندوب السامي البريطاني ولما تمضِ على فتحهما مدة كافية.

ولما عادا إلى الحياة السياسية لم تكن لهما صحف تعرف فعلًا أنها ألسنة لهما، ومع أن عبد الغفور البدري صاحب جريدة «الاستقلال» أحد مؤسسي «الحزب الوطني» إلا أن جريدته كانت تعضد الحزب وتروج لسياسته ومبادئه حينًا، وتُخالف الحزب وتنفرد بالرأي أحيانًا أخرى، نظير موقفها من الانتخابات للمجلس التأسيسي؛ فقد دعت جريدة «الاستقلال» للاشتراك في الانتخابات وأبدت نشاطًا ملحوظًا في هذا المجال، وقارعت «الحزب الحر» لما تظاهر بالميل لمقاطعة الانتخابات حتى وصفها أحدهم بأنها كانت «لسان حال الانتخابات»، مع أن جماعة كبيرة في «الحزب الوطني» قررت مقاطعة هذه الانتخابات، وأكثر من ذلك أنها احتفلت بافتتاح «المجلس التأسيسي» بإصدار عدد خاص بثماني صفحات بهذه المناسبة التاريخية.

و«حزب النهضة» هو الآخر لم تكن له جريدة في هذا الوقت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤