قصيدة النثر: من بودلير إلى الوقت الراهن
»ستشهد نهاية القرن الثامن عشر والعصر الرومانتيكي تمرد الأذهان على هذه التصنيفات الجامدة، والفصل بين فكرة الشكل وفكرة الجوهر الشِّعري، والإقرار بأن الشعر لا يكمن في أي شكل محدد، سلفًا. وكان الكثيرون من أصحاب الأذهان الملهمة قد أدركوا — آنذاك — أن فن نظْم الأبيات لا يكفي لصنع شعراء، وأن النثر — بالمقابل — يمكن أن يصبح شعرًا، وأن هناك قصائدَ جميلة تخلو من أبيات الشعر، مثلما توجد أبيات جميلة خاوية من الشعر، وفقًا لكلمة الأب دوبوس«.
لعل كثيرين من قرَّاء الشِّعر اليوم لا يعرفون النضال الطويل الذي خاضه رواد قصيدة النثر حتى تتقلد تلك المكانة التي هي عليها الآن. فلقد كان من الطبيعي أن يُلقي التجديد الفكري، الذي عاشته أوروبا العصر الحديث، بظلاله على الشعر أيضًا، وأن يتحرر الشعراء من القوالب الكلاسيكية للقصيدة، ويطيحوا بالتقاليد، والوصايا، والعَروض، والقافية، وجميع قواعد الأبيات الكلاسيكية؛ لينفذوا إلى الجوهر، وهو الشاعرية، بعيدًا عن طغيان الشكل الذي يمنع الشاعر من أن يخلق لنفسه لغة شخصية. وفي هذا الكتاب الذي بين أيدينا دراسة عميقة ومفصلة لهذا النضال، وتأريخ أدبي للمسيرة الطويلة لقصيدة النثر بداية من «بودلير»؛ الشاعر الفرنسي الذي أجبر الجميع على الاعتراف بشاعرية قصيدة النثر وتغيير النظرة إلى القصيدة، جاعلًا من شاعرية النص المعيار الأول، وحتى شعراء قصيدة النثر في خمسينيات القرن العشرين، راصدًا لمراحل تطوُّرها المختلفة، ومسلِّطًا الضوء على دورها في التعبير الميتافيزيقي، ومتتبعًا للعثرات التي تعرضت لها، وكذلك علاقتها بالاضطراب المعاصر.