هذا الكتاب … وقصيدة النثر العربية
لعلهم آحاد — فحسب — من اطلعوا عليه من النخبة الشعرية والثقافية العربية، حتى الآن. وكان لكل منهم أن يوظفه لحسابه الشعري، أو النقدي، أو حتى العقائدي، دون أن يبيحه أحد منهم بكامله للآخرين (هل يمثل ذلك شكلًا من معادلة المعرفة = سلطة؟) ما من ترجمة، ما من قراءة نقدية، ما من عرض للمحتويات، اسم بلا جسد، وعنوان يرد في الإحالات المرجعية القليلة، ولا كتاب. واسم مؤلفته يعرفه الجميع، من الأجيال الشعرية كافة، دون معرفة بكتابها ذاته، وشذرات من المقدمة تتحول إلى مواصفات جاهزة، مجردة، ومطلقة لقصيدة النثر «صالحة لكل زمان ومكان».
١
«ليس للنثر الشعري شكل، هو استرسال واستسلام للشعور دون قاعدة فنية أو منهج شكلي بنائي، وسير في خط مستقيم ليس له نهاية. لذلك، هو روائي وصْفي يتجه دائمًا إلى التأمل الأخلاقي أو المناجاة الغنائية أو السرد الانفعالي، ولذلك، يمتلئ بالاستطرادات والتفاصيل، وتنفسح فيه وحدة التناغم والانسجام.
أما قصيدة النثر فذات شكل قبل أي شيء، ذات وحدة مغلقة، هي دائرة أو شبه دائرة، لا خط مستقيم. هي مجموعة علائق تنتظم في شبكة ذات تقنية محددة وبناء تركيبي موحد، منتظم الأجزاء، متوازن … هي شعر خاص يستخدم النثر لغايات شعرية خالصة.»
أما خصائص «قصيدة النثر» التي تستكمل التمايز بينها وبين «النثر الشعري»، فتتحدد لديه في ثلاث:
-
(أ)
يجب أن تكون صادرة عن إرادة بناء وتنظيم واعية، فتكون كلًّا عضويًّا، مستقلًّا، تكون ذات إطار معين. وهذا ما يتيح لنا أن نميزها عن النثر الشعري الذي هو مجرد مادة، فالوحدة العضوية خاصية جوهرية في قصيدة النثر.
-
(ب)
هي بناء فني متميز، فقصيدة النثر لا غاية لها خارج ذاتها، سواء كانت هذه الغاية روائية أو أخلاقية أو فلسفية أو برهانية … فهناك مجانية في القصيدة، ويمكن تحديد المجانية بفكرة اللازمنية.
-
(جـ)
الوحدة والكثافة، فعلى قصيدة النثر أن تتجنب الاستطرادات والإيضاح والشرح، وكل ما يقودها إلى الأنواع النثرية الأخرى.
كانت المرة الأولى في الكتابة العربية التي تُطرَح فيها «قصيدة النثر» بهذه الدقة، ولعلها المرة الأخيرة. لكن المقالة تعتمد بصورة مطلقة على ما كتبته «سوزان برنار» في مقدمتها، بلا إضافة ذات بال، ودون اختراق للآفاق الشاسعة العميقة التي فتحتها، وأوغلت فيها وراء القصيدة.
موقف جماعي إجماعي من الكتاب، باعتماد مفاهيمه وتبنيها — من قبل واحدة من أهم الحركات الشعرية العربية في القرن العشرين — اعتمادًا مطلقًا، ليتحول إلى «إنجيل» الجماعة المقدس. ومنه تُستَمَد أحكام التقويم بشأن الأعمال الشعرية، بوصفه مرجعًا وحيدًا، وتُستَخرَج أسلحة الهجوم والدفاع كترسانة مدججة، ولا مرجعية أخرى للحركة، والعلاقة به قائمة على استظهاره ونسخه.
نصَّان سيتحولان إلى مصدر للأفكار الشائعة عن قصيدة النثر، لدى الأجيال الشعرية التالية، الخارجة على النسق الشعري العام. نصَّان مرجعيان ينطويان — رغم كل شيء — على مفاهيم محددة، متماسكة، تجيب عن أسئلة الحد الأدنى، بما حولَّهما تاريخيًّا إلى «مانيفيستو» لقصيدة النثر العربية، سيدخل دائرة المحفوظات المقررة على الشعراء القادمين.
لكن النصين افتقرا طوال السنوات التالية إلى أية إضافة إيجابية، أو تطوير نقدي منهجي، لما ورد بهما، سواء من الشاعرين؛ أدونيس والحاج، أو من غيرهما (إذا ما نحينا جانبًا بعض المقالات التي لا تزيد عن «إعادة إنتاج»). ثمة كتابات مهمة بالتأكيد في «حداثية» الشعر العربي المعاصر، وآفاقه المختلفة، انطوت على مفاهيم ورؤى تجاوز ما كان مستقرًّا في الوعي الرومانتيكي والوعي «الواقعي الاشتراكي»، لكن «قصيدة النثر» من حيث هي موضوع خاص، ذي إشكالات نوعية خصوصية ظلت بمنأًى عن المقاربة، مرة أخرى.
أسئلة أليمة، ولا إجابات، أفدحها سؤال «الإيقاع»، والقصيدة تكسب — إبداعيًّا، عربيًّا — أرضًا جديدة، ولا ضوءًا وحيدًا.
لذا، يقف النصان نصبًا من علامات الاستفهام والتعجب معًا، شاهدًا نموذجيًّا على وضعية ثقافية بكاملها، متكررة في تاريخنا الثقافي.
وخارج النصين، سيؤمم أدونيس — لعشرين عامًا تالية — مصطلحات «سوزان برنار» حول الشعر: الكشف، الرؤيا، العرافة، الهدم، الشاعر النبي … إلخ، لتشكل مرتكزات خطابه الكتابي، فتنتقل من جديد عبره، إلى الآخرين، دون إحالة — هذه المرة — إلى المصدر، أو معرفة به.
فاعلية «سوزان برنار» في الشعرية العربية الحداثية فاعلية تأسيسية للنظري، عبر جماعة «شعر» أولًا، ثم من خلال أدونيس ثانيًا، فاعلية بالوساطة، لا بذاتها، ولأنها كذلك، فهي منقوصة ومجتزأة؛ لأن أداة الفاعلية — الكتاب — لم يُسمَح لها بالحضور الذاتي، المباشر، والمكتمل، في ذاتها، وإنما انحصر دورها في استخدامها الموجه، في توظيفها من قبل «الجماعة» وبعض شعرائها، وهو توظيف اختصرها — وهي الشاسعة الشاهقة — إلى بعض أفكار لا تخرج عن الصفحات الأولى، وهي فاعلية ملتبسة من بعد لاختلاطها بفاعلية أدونيس الشعرية والثقافية.
أما مصادفة صدور الكتاب في العام التالي مباشرةً لعام تأسيس مجلة «شعر» (١٩٥٧م)، فهي مصادفة مدهشة، ونادرة، في التواريخ الأدبية. كأنه قد صدر من أجلها، ومن أجل قصيدة النثر التي كانت تتأسس في اجتماعاتها، وعلى صفحاتها.
فهل هي مصادفة أيضًا أن تخلو الأعداد الثلاثة عشر الأولى من «شعر» من أية مقاربة لقصيدة النثر، قبل طرح بعض أفكار الكتاب في مقالة أدونيس (العدد ١٤)؟
كأنما المجلة والجماعة كانتا في انتظاره، من أجل تأسيس نظري لقصيدة النثر.
ما أكثر الأسئلة.
وما أقل الإجابات.
٢
للقاهرة -شعريًّا- سياق آخر، في الزمن نفسه.
يضيء السياق كتابان أساسيين، كلٌّ منهما عمدة في مجاله، يكشف منحنًى كاملًا من «الشعرية» المهيمنة في الستينيات المصرية، وربما العربية.
ولن نعثر مرةً واحدة على مصطلح «قصيدة النثر»، أو ما يشير إليها، على امتداد أكثر من أربعمائة صفحة من القطع الكبير، كأنه وكأنها ليسا من «قضايا الشعر العربي المعاصر وظواهره الفنية»، لا إشارة واحدة.
هو محاولة لرصد «الشائع»، المهيمن العمومي، في الشعر «المعاصر»، ولا موضع للاستثناء، والخارج عن المجرى العام والهيمنة.
وقد اتسعت الطبعات التالية لتذييلات تلاحق الأجيال التالية، وصولًا إلى أهم الأعمال الشعرية في التسعينيات، لكنها احتفظت بالموقف نفسه من «قصيدة النثر»، من حيث هي قضية نقدية وإبداع شعري معًا.
سنجد في المتن والتذييلات أسماء صلاح عبد الصبور والبياتي وحجازي والسياب ونازك الملائكة، لكننا سنجد أيضًا أسماء عواد ناصر وسعدي علي السند ورعد عبد القادر وفوزي خضر، لكننا لن نعثر على اسم «أنسي الحاج» ولا «شوقي أبو شقرا»، على سبيل المثال.
والصمت المطبق، المطلق، يثير التساؤلات. أهو حكم نقدي ما — بالسلب الصامت — على «قصيدة النثر»؟ أم إنها القصيدة الحافلة بالمتفجرات النظرية والمآزق النقدية؟
لكن ما جرى — تطبيقيًّا — لم يخرج عن التجاهل التام لواحدة من أهم الحركات الشعرية العربية، كأن وجودها مرادف للعدم.
هو منطق الحذف والاستبعاد، ليس المنطلق ما هو كائن كينونة فاضحة في الواقع؛ واقع الشعر العربي، أو الفرنسي بل ما هو كائن في العقل النقدي، أو ما يُراد له أن يكون. وتتحقق إرادة هذا العقل واقعيًّا بأن يُحذَف الواقعي أو بعض عناصره الحيوية وأن يُستبدَل به، أو بها، ما هو ذهني. يتحول الواقع الشعري بذلك إلى واقع ذهني، محكوم بإرادة الناقد، وذوقه الفني، وتوجهاته الأيديولوجية الشعرية، حذف واستبعاد من ناحية وتضخيم وتزيُّد من ناحية أخرى، لسد الفجوات الناجمة عن الحذف الإرادي، ما من طرح للقضية ذاتها، وإبداء الموقف منها نقديًّا بما قد يفندها، من وجهة نظر الكاتب، بل الصمت المطبق المطلق، فطرح القضية إثبات — بمعنًى ما — لها وتحقيق لحضورها، حتى إن اتخذ شكلًا سلبيًّا، إثبات وحضور ليسا مرغوبين، ولا ضرورة لهما في ذاتهما. فحضورهما السلبي حتى تقليل من الحضور الآخر، شرك به، وكسر للواحدية الشمولية المطلقة. فلا موقع — في الذهن النقدي الأدبي، وغير الأدبي — للتعددية، من حيث هي واقع أو احتمال. الواحدية هي النموذج الذهني الأعلى الذي يسعى الجميع — كلٌّ في مجاله — إلى فرضه فرضًا، بقوة الحذف والإلغاء، بالصمت والعمى الإرادي.
لا مواجهة، إذن، لفكرة «قصيدة النثر»، ولا للقصيدة ذاتها.
تواطؤ سري، ضمني، على التجاهل والنسيان.
٣
بيان يليق حقًّا بفرسان «الواقعية الاشتراكية» في ذلك الزمن، وعيًا وقاموسًا وجزمًا: «زيادة الرصيد الانفعالي للثورة الشعبية» هي هدف التوجه إلى «الجماهير الواسعة»، من أجل تقويض «عالم النهب الاستعماري …» إلخ، والكاتب أداة «زيادة الرصيد»، من خلال نصه المكتوب.
لكن قصائد النثر التي تلي هذا «المانيفيستو» ترفض هذا الدور الوظيفي، الاستعمالي، بما تمثل من قطيعة، بل تحدٍّ لذوق «الجماهير الواسعة» ووعيها، التي لم تكن متمثلة بعد، للتحول الشعري السابق إلى النسق التفعيلي، بل كانت القصائد قطيعة وتحديًا للشعري السائد (خروج قصيدة التفعيلة ظافرةً من المعركة مع التقليد، العنفوان الشعري لصلاح عبد الصبور وحضوره المهيمن، صعود الجيل الثاني من شعراء التفعيلة، وإغلاق منافذ النشر في وجه قصيدة النثر العربية).
فالديوان إذن، قطيعة مع «الإنشادية التقدمية» الحماسية، التحريضية، وقطيعة مع المتن الشعري العام في القصيدة المصرية آنذاك، واختراق للحصار التفعيلي المضروب على قصيدة النثر، وصعود ضد ذلك التواطؤ السري، ورغمه.
ديوان خارج جميع السياقات، وسوف تطرح الدراسة الملحقة بالديوان للناقد إبراهيم فتحي سؤال الوعي بالعالم والذات الكامن في التجربة، لكنها لن تخرج عن «المأثور النقدي المعاصر» في تجاهل سؤال «قصيدة النثر».
كحجر في بئر بلا قرار، كان الديوان. جريمة يتنصل منها الجميع، بالصمت عليها: فما تبناه «التقدميون» الذين صدر عن جمعيتهم (لأن «عائده السياسي» لم يكن ذا بال، بحكم طبيعة الشكل الفني المضاد للإنشادية التحريضية)، ولا اعترف به شعريًّا شعراء التفعيلة ونقادها المهيمنون على منابر النشر، إن كانوا قد سمعوا به أو عرفوه.
ولعل مبرر إصداره ضمن السلسلة «التقدمية» لم يكن شعريًّا، بقدر ما كان تنظيميًّا، يستند إلى عضوية الشاعر في «الجماعة» وانتمائه السياسي، هو انحياز إلى السياسي الكامن في الشخص، لا الشعري في ذاته، بمعزل عن شخص كاتبه.
غاب الشعري في ظل السياسي، وتكالبت ملابسات عدة لارتكاب جريمة وقد شارك فيها الجميع والشاعر وتنصل منها الجميع.
٤
من الخمسينيات إلى الستينيات، احتدمت المعركة، وبلغت ذروتها الفاصلة في بيان «لجنة الشعر» بالمجلس الأعلى للآداب والفنون (أحد أجهزة الدولة الثقافية):
بيان تحريضي يتوج التهجمات المنتظمة من مجلتي «الرسالة» و«الثقافة» على الشعر الجديد. لكنه، في الوقت نفسه، «مذكرة» مُوَجَّهَة إلى نائب رئيس الوزراء للثقافة والإرشاد القومي لاتخاذ إجراءات سلطوية، تنفيذية، ضد الاتجاه الشعري الجديد، ولنذكر أن تاريخ المذكرة/البيان يصل إلى نوفمبر ١٩٦٤م.
أجهزة حكومية راسخة تمتلك فاعلية التدخل، وتمنحها القوانين واللوائح هذا الحق، بل تفرضه عليها وظيفةً ودورًا، ويكون من حق العقاد — بحكم منصبه البيروقراطي — أن يقوم بالتأشير على ديوان صلاح عبد الصبور «إلى لجنة النثر للاختصاص»، وإلى اشتراط ألا يلقي الشعراء المدعوون إلى مهرجان دمشق شعرًا تفعيليًّا (جديدًا)، كي يوافق — بحكم سلطات منصبه — على سفرهم، وأهم القصائد والدواوين لا تجد مكانًا لها في مجلات القاهرة، ودور نشرها، فترحل إلى بيروت، لتنفجر المعارك بالقاهرة.
ولعل التيار المحافظ التقليدي — الذي ظل يحتل الأجهزة الثقافية — كان يدرك، بالوعي أو اللاوعي، أنه يخوض معركة وجوده الأخيرة، فخرجت الأسلحة كافة التي تم اختبارها والتدريب عليها في الحقب السابقة، باسم الأجهزة هذه المرة لا باسم الكاتب الفرد، مثلما كان الحال فيما قبل الثورة، ولم تهدأ قرقعة المعركة إلا مع نهاية الستينيات، تمامًا في الأعوام التي شهدت ازدهار قصيدة النثر في بيروت.
معركة طويلة، مريرة، قاربت العشرين عامًا، تطايرت فيها الاتهامات إلى حد «العمالة»، وسيكون للفرسان الظافرين وأبنائهم البررة؛ شعراء ونقادًا، أن يكرروا الموقف المحافظ نفسه مع الحركة الشعرية التالية، بعد استيلائهم على الغنائم والأسلاب: المناصب. اختلفت شخوص الجالسين على الكراسي، لكن جوهر الموقف لم يختلف.
لكنها ربما طبيعة «الأجهزة»، من حيث هي أدوات للنظام السياسي: الحفاظ على الاستقرار والنظام، بكل معنًى، ضد المغامرة والتجريب بوصفهما مبدأً عامًّا شموليًّا، وضبط الحركة والتوجهات في مسارات معلومة محددة، مطلوبة، لا خروج على العام، الجمعي، ولا انتهاك للقواعد واللوائح التي تحدد الماهية والكيفية، حتى في الشعر.
٥
«إن الأشياء الشاسعة تتسع على روحي فلا أستطيع النطق بها. من «رامبو» إلى «إليوت» إلى «إلعازر» إلى «الملك لير» إلى «بروميثيوس» إلى «القمر المقتول» إلى «دون كيشوت»: أنا فرد ضائع، متفرد في طريق الكينونة الذي لا ينتهي.»
كتابة حرة تستعصي على القولبة والمصطلحات التصنيفية، هي إحدى نتائج المغامرة الذهنية والخيالية التي اشتعلت في النصف الثاني من الأربعينيات: جماعة «الخبز والحرية»، مجلة «التطور»، انفجار السيريالية، (بلوتولاند) لويس عوض، بشر فارس ورمسيس يونان وأنور كامل، لكنها كتابة لم تؤسس أو تغير الكتابة، لأنها كانت خارج الكتابة، خارج السياق، معزولةً في حلقة مغلقة منعزلة، معتصمة بثقافتها الرفيعة «الأجنبية»، بلا اشتباك مع الخارج. أسئلة محلقة في فضاء مغلق، مكتفية بذاتها. إنما هي — فحسب — متعة المغامرة الروحية المختلطة بالمغامرة النصية.
والعمل الثاني ديوان من قصائد النثر نُشِرَ متأخرًا قرابة العشرين عامًا، وصاحبه أحد شعراء مجلة «شعر» البيروتية، بدأ معها، واختفى صوته الشعري بصمتها. لا حضور، ولا فاعلية. لا تماس، ولا تقاطع مع تيارات الشعر وأجياله، مع قضايا الشعر ومعاركه، لا وجود بأي معنًى أدبي. وهي أيضًا دائرة الأصدقاء الحميمين، كحلقة حزبية سرية.
وحينما يُنشَر الديوان في الثمانينيات يكون الواقع الشعري قد تجاوز تجربته الشعرية، وآفاقها التي تكلست في مخبئها المظلم، ففقدت حيوية الحضور الحي.
تجربة رائدة غريبة تقف على حافة السياق، كأن صاحبها رمى بالقصائد ثم انتابه النسيان، فلم تصل تمامًا إلى «من يعنيهم الأمر»، لم تدخل السياق تمامًا، فيما أدارت ظهرها للسياق العام.
هكذا، أفلتت التجربة من الذاكرة الشعرية إلى هيولى من الأعمال والمغامرات والصرخات في غير ذي وادٍ، كأنها كانت طلقةً في فراغ، معلقةً أبدًا ولا تصل، وحينما سيسعى «شعراء السبعينيات» في مصر إلى تأسيس قصيدة النثر بصورة نهائية في الشعر المصري، سيكون من لبنات التأسيس شعراء ونقاد وأعمال ليس من بينهم «إبراهيم شكر الله».
سيعرفون به حقًّا، لكن بلا حاجة إليه، لقد فات الأوان.
٦
جيل كامل يصعد، فيضع «الرواد» بين قوسين، هدفًا لحراب الأسئلة، ويضع قصيدتهم — على تنويعاتها المتقاربة — متهمًا في قفص المحاكمة، لم تكن «التفعيلة» هدفًا منفردًا في ذاتها، إنما هو النسق الشعري بكامله، لا بأحد عناصره.
هكذا، يتحول الاستثناء السابق — مع تصاعد الجيل — إلى القاعدة العامة، والهامش المحاصر إلى المتن … صوب الحرية، وانفتاح القصيدة على مصاريعها، بلا حدود أو أسلاك شائكة، مرة واحدة، وأبدًا.
وتبدأ معركة جديدة تكررت آليات ودعاوى معركة التفعيلة، كإعادة إنتاج لها. واستخدام شعراء ونقاد «التفعيلة» الاتهامات نفسها التي وُجِّهَت إليها — من قبل العقاد وعزيز أباظة وغيرهما — لتصويبها إلى «قصيدة النثر» وشعرائها، كأن التاريخ يعيد نفسه هذه المرة في شكل مهزلة، دفاعًا عن «التفعيلة» التي اختصرت الشعر، وتحولت إلى «وثن» مقدس حل محل وثن «الوزن الخليلي». لا بد في جميع الحالات من وثن ما يحدد الحدود، ويمنح الصكوك، ويوفر الطمأنينة الذهنية. أما تلك الحرية غير المشروطة، فتثير القلق والانزعاج، بل الارتباك العقلي، باعتبارها باهظة الثمن من مسئولية ما اعتاد أحد على تحملها.
حرية تشبه الفوضى، والتمييز بينهما مسئولية أخرى لا يحتملها إلا من كان ذا بصر حديد. نعمة، أم نقمة؟
بذخ إبداعي طول الثمانينيات، وعدم نقدي، بل جبهة نقدية شعرية متراصة ضد هذا التحول الجارف إلى قصيدة النثر، بلا اتفاق مسبق. وأدباء «التفعيلة»، الذين احتلوا المناصب في الأجهزة الثقافية والإعلامية، لا يتورعون عن استخدام سلطاتهم البيروقراطية ضد القصيدة (هو نفسه ما حدث معهم من قبل).
فهل تستطيع السلطات البيروقراطية إيقاف القصيدة؟
إنما هو فرض الأمر الواقع الشعري، بقوة الفعل الإبداعي في مواجهة الفعل التكراري، وإعادة الإنتاج الرتيبة الفاترة. حيوية جارفة في مقابل الركود والاستنامة إلى «المكانة» المتحققة، التي آن أوان الدفاع عنها، وعمَّا تحققه من امتيازات شخصية متفاوتة.
٧
لم تكن «قصيدة النثر» مشروع «شعراء السبعينيات» في مصر، كانت أحد تجليات مشروعهم الشعري، المضاد للإنشادية والنمطية وإعادة الإنتاج، لا المشروع ذاته. لم تكن السؤال المطروح، لكنها كانت إحدى علامات الاستفهام الضمنية، المضمرة، ما من مفاضلة بين «التفعيلي» و«النثري»، في ذاتهما المجردتين، المطلقتين، وما من أحكام قيمة.
فالتحرر من القبلي، والتقليدي، وتحرير المحرم، هو ما أفضى بهم — ضمن نتائج أخرى — إلى «قصيدة النثر»، أحد المحرمات الإبداعية في الشعرية المصرية، بما أن إشكال القصيدة أعمق وأشكل من أن تُختَصَر إلى ثنائية حدية، لم تكن هدفًا مسبقًا أو غاية، بل نتيجة لتوجهات شعرية صوب الحرية الإبداعية.
هكذا، كان للبعض أن يمارس حقه في ارتكاب «المحرم» الشعري، دون أن يقحم أحد أحكام القيمة في القضية، باعتباره — هذا «المحرم» — متسعًا لجميع احتمالات الخروج الشعري، في آنٍ، وساحةً مشروعة للتجريب الحر، غير المشروط، وتجلي الخصوصية الفارقة للذات الشعرية.
إعادة اكتشاف لليومي، الآني، التفصيلي (نفيًا للتجريدي، الذهني، أو الفكري التبشيري)، باعتباره المادة الحيوية للحياة، واستعادة الجسد الإنساني (للذات أو للأخرى) من براثن التغييب والقمع الصامت (استعادة المرأة بالتالي من براثن الاستعارة والرمز، وتحريرها منهما، أي إعادة الاعتبار إليها من حيث هي امرأة في ذاتها، كائن إنساني، لا صورة ذهنية ذات طبيعة استعمالية). هي المرأة الأولى، الحبيبة، العشيقة، الأنثى، المرأة الجوهرية، وأفعال الجنس وإشاراته إنما هي تحققات الوجود الإنساني الجوهري، لا الفكرة، ولا الشعار، ولا العقيدة السياسية، بل محاولة اكتشاف الحضور الوجودي للذات الفردية في العالم، ابتداءً من جسدها وأوهامها وأحلامها وانكساراتها وحتى خزعبلاتها، تلك التفاصيل الصغيرة للروح والحياة اليومية، إلى حد الثرثرة أحيانًا، والابتذال أحيانًا أخرى.
ذلك ما قد يشير إلى «شعرية» أخرى، بلا «شاعرية»، شعرية التعرية والصدم والفجاجة، بلا ورقة توت شاعرية.
مع هذا الجيل، أصبحت «قصيدة النثر» أمرًا واقعًا في الشعر المصري، ركنًا أساسيًّا من الواقع الشعري، لا يقبل الوأد أو النفي، باعتبارها أحد توجهات جيل شعري لا فردي، ولعلها تندرج ضمن «تحرير الخيال الشعري» — الذي انطلق إليه الجيل — من المبادئ والقوانين المطلقة الجامدة، وافتتاح أفق شعري بلا محرمات أو ممنوعات، يصبح كل شيء موضع شك، وتساؤل، واحتمال، كل شيء حلال.
ولا قفز في الفراغ من فراغ.
فكسر وثن «البحر الخليلي» المقدس طوال قرون شعرية، كشرط مسبق ومعياري للشعرية، على أيدي شعراء ونقاد «التفعيلة»، إنما هو مقدمة منطقية لتحطيم وثن «التفعيلة»، من المنطلق النظري نفسه، باعتبارها الحجر الأساسي للبحر. فإذا كان السابقون قد حطموا الوثن الأصلي — تحررًا من عبئه — فهل لهم أن يطالبوا أحدًا بتقديس أحد أحجاره، وتحويله إلى وثن بديل؟
واختراق مهابة اللغة الشعرية المتعالية، الكتابية، الإنشائية، الخطابية — من قبل «وشربت شايًا في الطريق/ ورتقت نعلي» — سيصبح شارةً إلى بلاغة جديدة: بلاغة اليومي، الذاتي، الجسداني، المديني، موصوف بلا صفة، وخبر بلا مبتدأ، وفاعل بلا فعل، فانتازيا الرعب والصخب المعدني للإنسان المرمي على رصيف المدينة الكابوسية، بلا حيلة.
وضع وجودي يتفجر بالأسئلة المستحيلة، بلا إجابة: ماذا، كيف، لماذا. «لمَ لا تفهمون ما يُقال؟» فهل كان الوضوح السابق نعمةً، أم نقمة؟ هل أسفر ونتج عن رؤية، أم عمًى؟ هل انطلق من بصيرة، أم عين ضريرة؟ والأطلال المتساقطة فوق الرءوس منذ الهزيمة في السبعينيات، أهي إجابة أم سؤال؟
ما من شيء يغري بالنشيد، ولا حتى بالرثاء.
فمن أين يجيء الإيقاع المضبوط، القياسي، المتواصل بلا اختلال، فيما الكون يعج بالفوضى، والروح بالتضارب، أمن خارج الكون؟ أمن خارج الروح؟
لا مرجعية للكتب والأقوال المأثورة، لا مصداق لما يأتي من خارج، موضع ريبة واستخفاف، زمن التعاليم انتهى، فمن يخبر المعلمين المأخوذين بأصواتهم وتعاليمهم أمام المقاعد الشاغرة، لا يرون الفضيحة؟
زمن مضى، وزمان يجيء.
معه، تخرج شجرة ذات أكمام، منذورة للقادمين.
٨
في عام ١٩٩٣م، صدر ببغداد كتاب يحمل اسم «سوزان برنار»، له نفس عنوان كتابنا هذا، وتوحي بياناته البيبليوجرافية بأنه الترجمة المنتظرة للكتاب الشهير (وهو ما انطلى على الجميع، شعراء ونقادًا وأكاديميين). ونفدت الكمية التي وردت إلى القاهرة على الفور، دون أن تفي بالطلب المضاعف عليها (حصلت على نسخة مصورة عن نسخة مصورة).
ملاحظة أولية، لكنها تُستَخْدَم كتبرير أول للحذف.
كل الطرق تفضي إلى الحذف والاستبعاد، وما من مبرر وحيد لأمانة الترجمة، وكان للهفة على الكتاب/ «المهدي المنتظر» أن تعمي الجميع عن إدراك حجم ومدى الفضيحة: فهذا الجزء الأول من الكتاب في ترجمته الكاملة لا تصل مساحته في الكتاب العراقي، إلى مائة صفحة من القطع المتوسط، أي ما لا يزيد كميًّا عن خمسين صفحة من مساحة ترجمتنا هذه، فالمحذوف أضعاف المستبقى.
ولمزيد من التحديد، فقد قدمت الطبعة العراقية الفصل الأول الخاص ﺑ «بودلير» في عشرين صفحة (تساوي عشر صفحات من طبعتنا الحالية)، والفصل الثاني الخاص ﺑ «رامبو» في أربع صفحات (تساوي صفحتين)، والفصل الثالث الخاص ﺑ «لوتريامون» في ست صفحات (تساوي ثلاث صفحات)، والفصل الرابع الخاص ﺑ «مالارميه» في أربع صفحات (تساوي صفحتين). لا يزيد إذن مجموع الفصول الأربعة عن أربع وثلاثين صفحة من ذلك القطع المتوسط، بما يساوي سبع عشرة صفحة من قطعنا الحالي، لا أكثر (والفصول في ترجمتها الكاملة بين يدي القارئ، للتأمل الفاضح).
ولا تزيد المساحة الكلية للكتاب العراقي عمَّا يساوي مائة وخمسين صفحة من ترجمتنا هذه.
وكان للجهل واعتباطية التلقي أن يفضيا إلى اعتماد هذه «الفضيحة»، التي تتخذ شكل كتاب، مرجعًا أساسيًّا لنقاد الشعر العرب، وإعادة ارتكاب «الفضيحة» ذاتها، في طبعة مصرية (١٩٩٦م)، لا تراجع حتى الأخطاء النحوية، بل تضيف إليها أخطاءً مطبعية (كخصوصية مصرية).
فضيحة ثقافية كاملة الأركان والأبعاد، لا تتعلق فحسب بمن وضع اسمه على الكتاب كمترجم ومراجع، بل أيضًا بمن اعتمد الفضيحة كتابًا منشورًا، ومن اعتمدها مرجعًا نقديًّا، يؤسس بها لموقفه النقدي ومفاهيمه الأدبية عن «قصيدة النثر». ولا تكتمل الفضيحة إلا بالعمى عنها طوال هذه السنوات، بلا كلمة واحدة، أو التواطؤ الجهول عليها.
أما أوجه قصور الترجمة (في المصطلحات، وسوء التأويل، والجهل بمؤلفات الأدباء، واضطراب الأسلوب … إلخ)، فلا تستحق الإشارة إزاء ما هو أفدح بكثير.
فلماذا، وكيف، وهل.
لا بأس … إذن.
لا بأس.
ونشير إلى أن هذا الفصيل من الشعراء لم يدركوا من قصيدة النثر سوى بُعدها «اللاتفعيلي»؛ لذلك سرعان ما تراجعوا عن هذه الخطوة غير الأصيلة في تجربتهم الشعرية، بل إن أحدهم تراجع إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى القصيدة العمودية، في أعماله الأخيرة، بعد اعتقاله. وراجع موقف درويش، التقليدي، المرتبك، من قصيدة النثر، باعتبارها «جنسًا أدبيًّا ما»، في حواره بجريدة أخبار الأدب، ٩ فبراير ١٩٩٧م، ص١٠، بعنوان «قصيدة النثر ليست شعرًا، ولكن أخاف ميلشياتها»، دون أن يقدم تبريرًا لتجربته «اللاتفعيلية» التي احتلت ديوانًا كاملًا.
عبد العظيم أنيس ومحمود العا: في الثقافة المصرية، طبعات مختلفة.
غالي شكري: ذكريات الجيل الضائع، الدار العربية للكتاب، طرابلس، ١٩٨٤م، ص٨٧–٩٤.
قارن بالتجربة المغايرة جذريًّا لدى صلاح عبد الصبور.
وسيعود المؤلف إلى أسلوب الكتابة نفسه في أعمال لاحقة، في الثمانينيات والتسعينيات، من بينها «تلال من غروب».
وهو في الوقت نفسه بحث عن مشروعية ماضوية للراهن، عن سند من الأسلاف، لدى العجز عن تحقيق مشروعية راهنة أو سند آني. فالماضي هنا مصدر المشروعية، والأسلاف هم مانحو صكوك الصلاحية، صكوك صالحة لكل زمان ومكان.
ولا تنشأ المصطلحات اعتباطًا.
«صهيل في الأرض الخراب»، مجلة الشعر، القاهرة، يوليو ١٩٩٢م.
محمد عبد المطلب: هكذا تكلم النص، استنطاق الخطاب الشعري عند رفعت سلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٩٧م، خاصة الفصلين الثالث والرابع.