خاتمة

أشار «بودلير» إلى أن «الجميل» ينطوي على عنصرين: الأول أبدي لا يتغير، والثاني نسبي، مرتبط بالحقبة والظروف،١ وهذه الملحوظة الخاصة ﺑ «الجميل» التصويري، يمكننا تطبيقها أيضًا عن حق على «الجميل» الشعري: فهناك في — الشعر — عناصر جمال أبدية وجوهرية، لكن هناك أيضًا عناصر نسبية، تتنوع مع العصور، ولا يمكن للقارئ أن يتذوق الأعمال بنفس الطريقة، ولا للكاتب أن يكتبها وفقًا لنفس الجمالية، في القرن العشرين مثلما في القرن السابع عشر، على سبيل المثال.٢
ولا شك أن قصيدة النثر — التي تمثل في أصلها رد فعل على معايير وأشكال الجمال المطلقة بشكل مفرط في القرن السابع عشر — يمكن اعتبارها شكلًا حديثًا للشعر، ورغم هذا فهي أيضًا تقدم «عنصرًا أبديًّا لا يتغير» إلى جانب عنصر «نسبي» وظرفين وقد حاولت الإشارة — بصدد جمالية قصيدة النثر — إلى الشروط الضرورية لوصول قصيدة النثر إلى جمالها الخاص، أي أن تصبح «قصيدة» حقًّا لا قطعة نثر منمقة إلى هذا الحد أو ذاك: فالإنجاز، والكثافة، والمجانية ليسوا — بالنسبة لها، مثلما رأينا٣ — عناصر جمال محتملة، وإنما عناصر جوهرية حقًّا بدونها لا وجود لها، ومن ناحية أخرى، فثمة — في كل قصيدة نثر — قوة فوضوية هدامة، وقوة تنظيم فنية في آن، ومن وحدة الأضداد هذه تأتي «حيويتها» الخاصة.

وأريد، رغم هذا، في صفحات الخاتمة هذه، ألا أؤكد كثيرًا على هذه «الثوابت» في قصيدة النثر قدر تأكيدي على المظاهر «النسبية» والمتغيرة التي تقدمها حسب العصور، وما دامت دراسة قصيدة النثر قد قادتنا من «ألويزيوس برتران» إلى وقتنا الراهن، فلي أن أتساءل أيضًا عما سيكون عليه مستقبل قصيدة النثر.

كان من الممكن الاعتقاد، عند الشروع في هذه الدراسة، أن تعددية الأشكال وحرية نوع وُلد من رد فعل إزاء القيود الشكلية ومن رفض كل قاعدة مُسبقة، لن يسمح إلا بتمييز انبهار البصر من المحاولات الفردية، الفوضوية، بلا رابط بينها، لكننا رأينا أنه إذا ما كانت شخصية كل واحد تلعب بالفعل دورًا حاسمًا (وذلك صحيح دائمًا — فضلًا عن ذلك — عندما نتحدث عن الشعر)، فلا يقل عن ذلك صحة أن نرى بروز خطوط القوة الخاصة بكل حقبة والتيارات الكبرى أيضًا، بانغماراتها وانبعاثاتها، وأن نرى — من ناحية أخرى — تأسيس لعبة علاقات مُعقدة بين قصيدة النثر وقصيدة النظم: فكلتاهما تواصل أحيانًا محاولاتهما بشكل متوازٍ من أجل هدف مشترك، وأحيانًا ما تقف الواحدة في مواجهة الأخرى كي تتأكد كمفهوم معارض بقوة: إنهما شقيقتا كفاح، أو غريمتان.

وقصيدة النثر — التي ولدت من رد الفعل على قصيدة النظم المتحجرة والمصطنعة في القرن الثامن عشر — هي، في نفس الوقت، التعبير عن روح نزعة فردية تخوض صراعًا ضد المبادئ المتسلطة الكلاسيكية، ومحاولة لتجديد الموضوعات الشعرية باستخدام مصادر الإلهام الممنوحة بثراء كبير في «الأناشيد الغنائية» أو «الأغاني» الفولكلورية، وعندما نتذكر أنها ولدت من الترجمة، أو الترجمة المستعارة، ومن الأناشيد الغنائية، يصبح من الأسهل إدراك أنها كانت أحد تجليات التعبير الأولى عن الميل الرومانتيكي إلى اللون المحلي (الغرائبي أو المنتمي للقرون الوسطى)، والأساطير الشعبية، والفانتازي، والحلم، وأنها بدأت — من ناحية أخرى — بتبني بنية النشيد الغنائي، أي التكوين في مقاطع شعرية، التي منحها «ألويزيوس برتران» الشكل النهائي.

لكن ينبغي القول حقًّا إن قصيدة النثر الخاضعة ﻟ «قالب» ثابت أو جامد، مرة وللأبد، قد تعرضت لأفدح المخاطر بسبب «كمالها» ذاته، لا سيما إزاء شعر رومانتيكي أخذ يهدف — وقد تحرر من أكثر قيود النظم الكلاسيكي إزعاجًا — إلى تحقيق أكثر تنوع ممكن، والمرجح أن أكثر فترات تاريخ قصيدة النثر عمقًا هي حقبة الرومانتيكية هذه، التي سبقت «بودلير» مباشرة، حيث جمود الشكل لدى «لامنيه» موضع استهجان يقود «لا شعراء» من قبيل «هوساي» و«شانفلوري» و«فويو» إلى الاعتقاد في إمكانية صناعة «قصائد نثر» بقولبة أكثر النثريات نثرية في مقاطع.

وكان «بودلير» أول من أدرك ضرورة منح قصيدة النثر شكلًا حديثًا، يتوافق مع الوجود، والحركات الداخلية، وطموحات الإنسان الحديث، فمع «بودلير»، نشهد أولى هذه التأرجحات التي تقود قصيدة النثر — بشكل دوري — من قطب إلى آخر، من المبالغة في التنظيم «الفني» إلى المبالغة في الفوضوية: في هذه المرة، ترتخي أداة «برتران» المشدودة بشكل مفرط، إلى الحد الذي تقع فيه القصيدة البودليرية أحيانًا في اللاعضوية، في النثر، لكن مع «بودلير» أيضًا، ترتسم علامات استفهام كبرى، حيث سيطرح أمام شعراء النصف الثاني من القرن التاسع عشر سؤال اللغة الشعرية، باعتباره السؤال الأساسي: كيف، وبأية وسيلة يمكن للغة الشعرية أن تصبح أداة غزو ميتافيزيقي، يتيح للشاعر ممارسة فعل اكتشاف وخلق مزدوج؟ ورأينا الإجابات المختلفة التي أتت بها قصائد «بودلير» و«رامبو» و«لوتريامون» و«مالارميه» على سؤال اللغة الشعرية هذا، وطوال هذه الفترة، سعت قصيدة النثر لا إلى الجمال الشكلي قدر سعيها إلى «التأثير»، فهي لا تريد أن تكون «شيئًا جميلًا» بقدر ما تكون أداة سلطة: فسواء مالت إلى أن تصبح «سحرًا إيحائيًّا» مع «بودلير»، أو إلى أن تقودنا نحو المجهول مع «رامبو»، أو أن تتمرد على الإبداع وعلى آلية اللغة في آن مع «لوتريامون»، أو أن تسعى — في تركيب بارع — لأبدية بيت الشعر و«اطراد» النثر، لبلوغ «المطلق» مع «مالارميه» — فإن الأمر يتعلق دائمًا ﺑ «إيجاد لغة»، بإخضاع الكلمات المعروفة إلى غايات جديدة تمامًا، وبالكتابة من أجل خلق عالم جديد لا فن شعري جديد.

هذا النظام من المساعي شقيق لتلك التي لا يزال عصرنا يمارسها أيضًا: ونحن نشعر أننا أكثر قربًا بكثير من هؤلاء الشعراء «الميتافيزيقيين» من الجيل الذي تلاه، الذي أعاد — من جانبه — مسألة قصيدة النثر إلى المستوى التقني والشكلي، فمن فوق «كان» و«ميريل» و«دوجاردان»، يمد «لوتريامون» و«رامبو» أيديهما إلى السيريالية وإلى الشعراء المعاصرين، وينبغي رغم هذا تمييز فترتين في محاولات نهاية القرن التاسع عشر: في البدء، نرى توحد جيل بكامله (يسمى رمزيًّا) لإسقاط المعاقل الأخيرة للشعر الكلاسيكي، وللمطالبة بالحرية الكاملة للشكل الشعري: وهذه المرة أيضًا تكون قصيدة النثر على وشك الاختفاء حقًّا في الحركة الكبرى للشعر المسمى «حرًّا»، وفي يوتوبيا «الشكل الوحيد»، مرورًا بتقليص مطرد من النثر إلى النثر الشعري (المسمى تعسفًا وقتئذٍ، قصيدة نثر)، ثم إلى النظم، لكن سرعان ما نرى — في فترة تالية، تتواكب مع توهج الفردانية الفوضوية ﻟ «الرمزية الثانية» — ميلاد قصيدة النثر في مظهر متعدد الأشكال بقربها من أشكال أخرى متاخمة متعددة، روايات–قصائد، وحكايات–قصائد، ودراسات–قصائد، وقصائد نثر، لتتزايد صعوبة تمييز الحد الفاصل، وتفقد حدود وأشكال قصيدة النثر وضوحها: والخلاصة أن كُتاب النثر من كتاب الشعر الحر ينسون أن الأمر يتعلق بنوع خاص، تحدده شروط معينة (مثل الإيجاز، والكثافة، والمجانية)، خارجها لا يتحقق تبلور في قصيدة.

هذا الخليط من أنواع وأشكال قصيدة النثر أتاح — على الأقل — توسيع مجال إمكانياتها، وتحديد المفاهيم الشعرية الجديدة: فالشعر ليس مقصورًا على شكل ونوع خاص، فهو رؤيا للعالم وتجربة روحية أكثر مما هو تقنية ومجموعة أساليب، كما أن التجربة الداخلية للشاعر، وموقفه من العالم، يقودان — وحدهما — الشكل الشعري المستخدم.

وهذا المفهوم هو الذي سيمتد دائمًا في القرن العشرين، وسيجد نفسه — إذا جاز القول — محل تقنين وممارسة من جانب السيرياليين، ومن هنا بالتحديد، تكمن أهمية السيريالية، مع أنها توجه إلى مفهوم القصيدة أبشع ضربات الهدم، فلم يعد هناك مجال — مطلقًا — للحديث لا عن قصيدة النظم فحسب، وإنما عن القصيدة ككل: فما يهم فقط هو الشعر، الذي يُمارس كوسيلة معرفة بأكثر مما هو وسيلة إبداع، وكان يمكن لحكاية قصيدة النثر، المكتوبة في حقبة السيريالية المنتصرة (حوالي عام ١٩٢٥م) أن تنتهي بانحلال وتلاشي النوع والأنواع الشعرية بشكل عام، فضلًا عن ذلك، والواقع أن قصيدة النثر ستخرج متجددة، و«مؤكدة» من خلال هذا الانحلال الظاهر: فلن تزداد ثراءً فحسب بالأساليب الجديدة (سرد لحلم، واللجوء إلى العبث، والتلاعب الحر بالألفاظ والصور، وإدخال المدهش في اليومي)، لكنها ستكرس بالتأكيد باعتبارها شكل الجهد الشعري الهادف إلى تخطي المظاهر وجعلنا نستشف — خلال الدوار — عالمًا آخر، فالنظم هنا مرفوض بالتحديد بسبب طابعه الفني المفرط في القصيدة والمحدد أيضًا بإفراط.

وتشهد حقبتنا، وهو أمر مؤكد، عودة هجومية لقصيدة النثر، لكن — في نفس الوقت — لتحقيق تواصل من «بودلير» و«رامبو» حتى وقتنا الراهن، ثم توجيهه بشكل نهائي على يد السيريالية، وإذا ما تأملنا الأمر من الخارج، فسنجد هذا التطور قد سار في اتجاه حرية متزايدة ولا مبالاة متزايدة الوضوح تجاه الجمال الشكلي الخالص والتنظيم الفني، ويمكننا القول بلا شك إن ثمة نوعًا هنا من القدرية الداخلية لحركة تحرر لا يمكنها أن تتقدم، وقد جرفها — إذا جاز القول — ثقلها الخاص، إلا بأن تتسارع باستمرار، وإن الحرية الكاملة للشكل هي شيء مُكتسب من الآن فصاعدًا، وإنه مثلما لم يعد بمقدورنا أن نشطب بجرة قلم الشعر الحر ولا تخيل أننا نستطيع من الآن فصاعدًا.

سك أفكار جديدة في أبيات قديمة

فلا نستطيع تخيل نهضة في قصيدة النثر في مقاطع (ولا أي شكل ثابت لقصيدة النثر)، إذا كانت مُدركة بشكل مسبق، لكن الأهم هو إدراك المغزى العميق لهذا التطور، وربط الأشكال المعاصرة لقصيدة النثر بتلك المحاولة الكبرى ﻟ خلق لغة والغزو الميتافيزيقي التي تراود الشعراء منذ القرن الماضي، وستساعدنا ملاحظة ما في فهم أفضل لما نتطلبه اليوم من القصيدة، ولماذا تتخطى حقيقة أن تكتب نظمًا أو نثرًا بكثير الاعتبارات التقنية أو الفنية الخالصة، وهذه الملاحظة، الهامة في حد ذاتها إلى درجة بعيدة، هي: أننا لم نحس أبدًا — بنفس القدر الذي نشعر به اليوم، ولا سيما منذ السيريالية — بالأهمية الأساسية للكلمات التي تشكل عتادنا اللغوي، ولم تتم محاولة اكتشاف تنظيمها ودلالاتها الخفية، والتأثير على القوانين، وعلى تكوين اللغة نفسه، فمن جانب بكامله، يرتبط عصرنا بوله ﺑ «الشكل» الشعري، ويهتم الشاعر بالكلمات والأشكال اللفظية التي يحشدها أكثر من اهتمامه بمضمونها الواضح، لكن — من ناحية أخرى — يدور البحث بدرجة لا تقل عن ذلك ولهًا في كل عمل، ولدى كل كاتب، عن مغزى ودلالة ليستا فنيتين، بل ميتافيزيقيتين: فنحن نتطلب من الشعراء رسالة روحية، ونعلم قدر كلمة رسالة هذه في حقبتنا، كيف نفسر هذه الضرورة المزدوجة، المحسوسة بنفس القدر لدى القارئ (المستهلك) ولدى الكاتب (المنتج)؟ يبدو أن أي شاعر اليوم لن يكتفي برص الكلمات من أجل غاية فنية، والبحث عن خلق أشكال جميلة لا غير كي يقدم للقارئ متعةً جمالية، لكن بالمثل لا يدور البحث عن التعبير — وبشكل يكمن فهمه بوضوح، مثلما فعل «لامارتين» أو «فيني» على سبيل المثال — عن آراء فلسفية أو هذه الرسالة التي لا بد للقارئ أن ينقب عنها في العمل لاكتشافها (غالبًا ليس بدون معاناة؛ لأن لتوضيح، أو فك الشفرات، مسألة صعبة)، متعايشة مع جوهر الكلمات نفسها التي تشكل القصيدة، وهي تستخلص لا من معناها الواضح وإنما من كل كثافتها الدلالية ومن علاقات الكلمات فيما بينها: فما لا يُقال له نفس قيمة ما يقال، وما كنا نسميه حتى وقتئذٍ «المضمون» يتخذ قيمة أقل مما يتخذه الشكل، ولا يفتقر إلى أهمية أن يختار شاعر ما الكتابة نظمًا، أو في آيات، أو نثرًا: فلا يعتمد جمال عمله عليها، وإنما على مغزى رسالته (عندما أعلن «هوجو» أن الله قد «خلق العالم نظمًا»،٤ فهل كانت هذه مزحة حقًّا؟ وألا يمكننا القول على النقيض إن التمرد الشيطاني سيجد النثر اللغة الطبيعية له، لغة «مالدورور» أو «فصل في الجحيم»؟)، إنه، إجمالًا، الموقف الروحي لكل شاعر هو ما يعطي مؤلفه شكله خارج كل إرادة واعية، وأكثر من أي وقت مضى (لأن ذلك كان حقيقيًّا دائمًا) يشبهه عمله ويصرخ فينا، سواء شاء أم أبى، بالحقيقة الجوهرية التي أراد أن يكشفها لنا، وإلى ذلك الحين، كانت هذه الحقيقة تتضح رغم قيود النوع، قيود عروضية على سبيل المثال، أو قوانين الرواية (وينبغي الإحساس، تحت اللغة المصقولة والموزونة بأسلوب رفيع بأبطال راسينيين يفجرون قسوة «راسين»، ينبغي الإحساس — تحت شفافية «سيلفي» — بتنميق عالم من الإشارات والرموز)، اليوم يتقولب العمل — بطريقة أكثر مباشرة — على شخصية كاتبه، «إن تعدد الكتابات حقيقة حديثة تجبر الكاتب على الاختيار، وتجعل من شكله سلوكًا وتثير أخلاقية الكتابة»، مثلما يكتب «ر. بارت»،٥ ومنذ ذلك الحين، فلا يهم الجمال الشكلي كثيرًا، وتصبح أهميته أقل بكثير من المعنى العميق، فهل لا يزال لكلمة «جميل» نفس المعنى في حديثنا عن قصيدة ما لميشو، أو عن صفحة ما لأرتو؟ ولأنهما تمثلان كاتبيهما، ولأنهما تعبران عن موقف معين إزاء الحياة، فهما تثيران اهتمامنا وتؤثران فينا، ومن هذا المنظور ذاته، يبدو لنا صمت «أرتو»، ورعبه من الكلمات، وعجزه عن التعبير، أكثر تأثرًا، ويقولون لنا ما هو أكثر من الخطب.٦

ولا شك أن هذه العودة إلى الوظيفة الحيوية و«الميتافيزيقية» للشعر لا تؤدي، سلفًا، إلى سيطرة شعر التمرد، لكن تطور العالم المعاصر نفسه يقودنا دائمًا أكثر فأكثر نحو شعر من نمط فوضوي، ونحو ما أسماه «بريتون» ﺑ «الجمال المتشنج»، ونظريًّا، يمكن الاعتقاد أنه إذا كان شعراء النزعة الفردانية والتمرد يمكنهم اليوم التعبير شعريًّا بشكل أسهل عن هذا التمرد من خلال نثر لم يعد يحكمه أي تقليد شكلي، فإن الشعراء الذين يتفقون مع قوانين العالم الكبرى — بالمقابل — يراعون حرية منح لغتهم الشعرية بنية منسجمة (مثلما يفعل، على سبيل المثال، «سان–جون بيرس»، ومثلما يفعل في نظمه «م. إيمانوي» و«ب. دي لاتور دي بان»): فكل شاعر يمكنه أن يعبر بشكل أفضل مما سبق عن موقفه الشخصي بأن يختار من تنوع الأشكال والأنواع ما تقترحه عليه تعددية الأشكال الحالية.

والواقع أننا سنلاحظ أن حقبتنا التي تهزها أسوأ الصراعات، والتي تشهد عالمنا يسعى — من خلال الهزات والتمزقات التي تعرض وجوده نفسه للخطر — من أجل تحقيق توازن جديد، ليست بالتأكيد حقبة ملائمة للتناغم والأبنية المعمارية الراسخة تمامًا، فالديناميكية تتغلب على الثبات في جميع الحالات، والفوضوية على النظام، فالشعراء الذين يعبرون حقًّا عن زمننا هم شعراء القطيعة والتمرد، وعالمنا الذي استحق — أكثر من أي وقت مضى — الصفة الكاموية (نسبة إلى «كامي») «عبثي» ينعكس في هذه الأعمال العبثية، الفانتازية، وأحيانًا المتنافرة ظاهريًّا، التي يقدمها لنا النثر على نحو خاص بغزارة، وقد نشر «بولان» ملاحظات مضيئة حول التعريف الذي يمكن تقديمه اليوم للقصيدة: إنه «عمل من نثر، غير متنافر ويائس»،٧ هو تقرير يتوغل — بالتأكيد — أبعد تمامًا مما يتخيل «بولان»، إذ يعبر عن إدراك بعيد لعصرنا، ومن ناحية أخرى، فلا ينبغي فحسب ملاحظة أن شكل القصيدة الحديثة هو النثر لا النظم، بل إن الصعوبة تزداد في تحديد مجال «قصيدة النثر» وتمييزها عن الأنواع المتاخمة لها، دون الذهاب مثلًا — مثلما فعل «إيلوار» — إلى حد تجميع مونولوج ﻟ «كرو» مع مقتطفات من مسرحيات، ودراسات نقدية تحت عنوان «مختارات من قصائد» …٨ والنزوع إلى إعادة البحث عن الشعر في كل مكان … وربما خارج القصيدة على نحو خاص، فاختلاط الأنواع هو أيضًا — شأنه شأن اختلاط الأشكال — علامة لا على الحرية فحسب، وإنما أيضًا على الفوضوية، وإذا ما كان صحيحًا — كي نستعيد تعبير «تيبوديه» — أن «أهوسة شعر» جديدة قد فُتحت،٩ فيمكننا أيضًا أن نتساءل نحو أي مستقبل يحملنا سيل المياه الصاخبة: ألا توجد، في هذا الإلغاء المطرد لمفاهيم الشكل والنوع الشعريين، مجازفات خطرة يتعرض لها الشعر نفسه؟ وما الذي يمكن أن يصبح عليه مستقبل شعر تسيطر عليه الفوضوية أكثر فأكثر، ويغزوه النثر أكثر فأكثر؟ ودون أن أحاول هنا معالجة المسألة في كل اتساعها، أريد أن أحصر نفسي في المظاهر التي تهم قصيدة النثر على نحو خاص، والمخاطر التي تتعرض لها، والمستقبل المتاح لها.

كثيرًا ما كررت القول — بعد أن ذكرت ذلك في الفصل الخاص بجمالية قصيدة النثر — أن الشروط العضوية لقصيدة النثر مزدوجة: فهي — في آن — الشكل الشعري لفوضوية تحررية، تناضل ضد كل القيود الشكلية، ونتاج إرادة تنظيم فني، هي وحدها التي تتيح لها أن تتخذ شكلًا، وأن تصبح وجودًا، شيئًا فنيًّا، وإذا لم يتم الوفاء بأحد هذين الشرطين، يحكم على قصيدة النثر بالموت أحيانًا، والشكلية والافتقار إلى الطاقة الحية، وأحيانًا بالعجز عن اتخاذ شكل، وفقدان التحديد والذوبان في النثر الخالص، إن الخطر «الشكلاني»، الذي كان كبيرًا للغاية في الحقبة الرمزية، لم يعد يثير الخوف في وقتنا الراهن، وبالمقابل، فإن الخطر العكسي الذي يترصد قصيدة النثر، والتهديد الذي يقع عليها مزدوج: فهي — من ناحية — تخاطر بالاختفاء، والتلاشي في النثر مثل خط ماء في بحر، ونحن نرى — من ناحية أخرى — ميلاد «نسخة مبتذلة» من الشعر الفوضوي، توشك أن تؤدي إلى اختلاف مخيف للقيم.

وأول مخاطر الشعر الفوضوي يكمن — كما قلت من قبل — في ألا ينجح في تحقيق شكل: والواضح تمامًا أنه انطلاقًا من نقطة تشويش معينة لا تصبح الجملة سوى تتابع الكلمات ومقاطع لفظية خالية من كل قيمة دالة، وأن الشاعر الذي أراد خلق لغة خارج اللغة مقطوع عن كل تواصل مع الجمهور، ولم يعد يكتب إلا لنفسه، ويسقط في اللاشكل واللعثمة على مرأى من القارئ: فالطريق الذي فتحه «دادا» ما هو إلا طريق مسدود، وأيًّا ما كانت — على الصعيد الفكري — أهمية هذه المحاولة، «من أجل القطيعة مع السابق، مع «أسوأ التقاليد»، اللغة»، حسبما يكتب «م. ريمون»،١٠ فإنها لا يمكن أن تؤدي، على الصعيد الشعري، إلا إلى العدم والصمت، لكن ثمة طريقة أكثر مكرًا في التلاشي، وهي الاستغراق في النثر، من فرط رفض القواعد والحدود.
والواقع أن اليوم يعتبر «شيئًا بلا وزن يمكن أن يوجد في أي نوع»، مثلما يكتب «ميشو» (الذي يضيف أن «الطموح إلى صنع قصيدة وحده يكفي لقتلها»،)١١ ولا شك أن جهة النظر هذه — التي تشير إلى نهاية الفصل بين فكرة الشكل وفكرة الجوهر الشعري١٢ — تتسم بالخصوبة، بمعنى أنها تخلصنا من معتقد وثني في القواعد الشكلية وفي «الشعر الجميل»، لكننا في النهاية، يمكننا التساؤل عما إذا لم يكن مفهوم الجمال الشعري، بل أيضًا مفهوم اللغة الشعرية الهام تمامًا أيضًا، مهددين بخطر جسيم … وقد قلت، على سبيل المثال، إلى أي حدٍّ نجد صعوبةً في رسم الحدود الفاصلة بين سردية حلم وقصيدة نثر، ورغم هذا، فإن هذه الحدود قائمة، و«إيلوار» نفسه، الذي أضفى أهميةً كبيرة على «الشعر اللاإرادي»، قد حدد أننا «لا نخلط بين سرد الحلم والقصيدة، فكلاهما حقيقة حية، لكن الأول ذكرى ومغامرة، تستهلك على الفور، وتتحول، فيما لا شيء يضيع ولا يتغير من الثانية»،١٣ ولن يمكننا أن نذكر بشكل أفضل بأن القصيدة كتلة مشعة، وتبلور لجوهر لازمني، ومن ثم فهي منفلتة من التحولات والصيرورة، وفي فصلي حول «جمالية قصيدة النثر»، أوضحت أهمية مفهوم القصيدة هذا الذي يتيح تحديد قصيدة النثر، وتمييزها عن الأنواع الأدبية الأخرى،١٤ وقلت في نهاية ذلك الفصل، إن الانتظام في قصيدة، وعدم الخضوع للفوضى الخالصة أكثر صعوبة — بلا شك — على قصيدة من نمط فوضوي، وقد تحدث السيرياليون، مثلما نتذكر، عن إغواء «التنسيق في قصيدة»،١٥ لكن أليست مخاطر التنافر، والتشويش اللاعضوي تحمل نفس الخطورة؟١٦
لكن ثمة ما هو أسوأ: فإذا ما قررنا أن العبث، واللاعضوي، واللاوعي هم وحدهم الشعريون، فسرعان ما سنصل إلى الموافقة على أن كل ما هو عبثي، ولاعضوي أو لاواعٍ إنما هو شعري، وهذا الخطر الثاني أفدح بكثير من الأول، ومثلما اعترف «بريتون» من قبل فيما يتعلق بالسيريالية، فهناك «نسخة مبتذلة» من اللاعقلاني،١٧ وإن لم يكن هناك ما هو أصعب في وقتنا الراهن من أن تكون شاعر «قصيدة نثر» أصيل: فلا شيء ربما أسهل من الادعاء بأن المرء شاعر، وعلينا الاعتراف بأن العبث، والحلم، والفانتازيا المزعومة، قد ولدت كثيرًا من الشعراء «المزيفين»، وإذا كان حكي حكاية متنافرة وبلا خاتمة، ورص صرخات تمرد أو بقايا جمل بلا تتابع كافيًا لأن يكون المرء شاعرًا، فمن الذي لن يكون شاعرًا؟ عندئذٍ، سيواتي الحظ النقاد لإدانة المفاهيم الجديدة التي تُدخل — في الشعر، إجمالًا — شكلانية حديثة، أكثر اصطناعًا من القديمة: «إذا كان اليأس موضوعًا بسيطًا، وإذا ما كنتم تمنحون جوائزكم إلى «أكثر القصائد حماقة»، فإنكم عندئذٍ لم تفعلوا سوى أن تضعوا بدلًا من القواعد القديمة تقليدًا جديدًا، لا هو أسوأ ولا هو أفضل في ذاته من الاثني عشر قدمًا أو القافية الغنية»، مثلما يكتب «بولان»،١٨ ويدين «ي. ج. لودانتيك» — في مقال منشور عام ١٩٤٨م، حول قصيدة النثر — الفوضى والاستسهال السائدين، ويحمل السيريالية مسئولية هذه «المجانية التي لا مبرر لها».١٩
فهل ينبغي أن ندين قصيدة النثر ذات النمط «الفوضوي»، باعتبارها مصدرًا لشعر مزيف ومؤثرات سهلة، ونعود إلى قصيدة المقاطع؟ لا «بولان» ولا «لودانتيك» يدينان مسبقًا نوعًا أنتج روائع أدبية لا جدال فيها، مثل «إشراقات» أو قصائد نثر «إيلوار»، لكننا ينبغي علينا الاعتراف جيدًا أنه نوع صعب وأخطر من غيره، بسبب حريته الواضحة نفسها،٢٠ ويتطلب — بلا شكٍّ من القارئ — أقصى درجات التمييز، ويظل — فضلًا عن ذلك — صعبًا للغاية الحكم على مؤلفات معاصرة، لا سيما عندما يكون مفهومها ثوريًّا ورافضًا للمعايير القديمة (وهو ما سيقال بشكل جيد للغاية، على سبيل المثال، عن التصوير الزيتي المعاصر،)٢١ ولكن، كم من ناظمي الشعر السطحيين في القرون السابقة قد عمدوا تعسفيًّا شعراء! وعلى المستقبل أن يقوم بالفرز.
ورغم هذا، فثمة ملحوظة مثيرة للفضول تتكرر بقلم «بولان» مثلما بقلم «لودانتيك»: وهي أن أكبر كتاب قصيدة النثر، من «رامبو» إلى «إيلوار»، من «ميشو» إلى «شار»، كانوا أيضًا كتاب نظم: فبعضهم أتى إلى النثر كنهاية أخيرة لتجاربه حول اللغة الشعرية («بودلير»، «رامبو»، «مالارميه» …) والآخرون ينتقلون من النظم إلى النثر حسب إلهام اللحظة (وهي حالة كثير من الشعراء الحديثين، «إيلوار»، «ميشو»، «شار»، «ريفيردي» …) فما معنى ذلك؟ هل ينبغي الاعتقاد مع لودانتيك أن «شعراء النظم الكبار وحدهم هم القادرون على اكتشاف مفاتن وتوافقات في النثر لم يعد معيار متسلط يوحي بها»؟ يمكننا الاعتراف، على أية حال، بأن الشعراء الحقيقيين عندما يأتون إلى النثر بعد أن يكونوا قد كتبوا الشعر (الموزون)، لا يأتون إليه رغبةً في الاستسهال — وأنهم، على الأقل، قد أثبتوا أنهم قادرون على الكتاب نظمًا، وأنهم لا يتخلون عنها إلا رغبة في شيء آخر، فهل ينبغي أن نخلص إلى أن قصيدة نثر «مصاغة بشكل منجهي من قبل ناثر خالص» هي دائمًا «اعتراف بعجز»؟٢٢ هذا ليس مؤكدًا — ولكن أمثلة هؤلاء «الناثرين الخالصين» تبلغ أيضًا من الندرة حدًّا يمكن معه تجاهلهم، فحتى «ألويزيوس برتران»، الذي نجهل نظمه، كتب نظمًا، ولا شيء يؤكد أن «لوتريامون» لم يكتبه.
و«ج. بولان» (في حديثه — والحق يقال — لا عن قصدية النثر، وإنما عن النثر بالتعارض مع الشعر، فيما يتعلق ﺑ «فان جوخ» لأرتو و«كثافات» لفارج) يثور على من يعتبر «أرتو» و«فارج» «شاعرين لا سيما أنهما يتخليان عن النظم»، ويقول لهم: «إن المشكلة التي تعنيني وينبغي أن تعنيكم هي بالتحديد أنهما احتاجا، كي يكتملا، إلى تغيير اللغة، إلى أن يصبحا ناثرين»،٢٣ هنا بالفعل، فيما يبدو لي، يكمن السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه فيما يتعلق بالقصيدة المكتوبة نثرًا، لا نظمًا، أو القصيدة المكتوبة أحيانًا نثرًا، وأحيانًا نظمًا، وفقًا للضرورات الداخلية للعمل المقبل.
وقد تمثل جهدي في كل هذه الصفحات في محاولة للإجابة على هذا السؤال، وتوضيح أن قصيدة النثر — على عكس ما اعتقد الرمزيون — ليست شكلًا انتقاليًّا محكومًا بالزوال بعد ميلاد الشعر الحر، وإنما هي جهد حقيقي لخلق لغة شعرية جديدة، تستجيب إلى احتياجات أخرى غير النظم، لكن يبدو — وأنا أضع النقطة الختامية لهذه الدراسة، ما دامت قد قادتنا إلى أحدث أشكال الشعر المعاصر، وأكثرها غرابة — أن البحث خلال تعددية الأشكال الفردية عن الأفق الذي يبين لقصيدة النثر أمر لا مفر منه، وبدلًا من تصريحات الشعراء، التي لا تلقي كثيرًا من الضوء على غموض الإبداع الفني،٢٤ تتيح لنا أعمالهم القيام ببعض الإثباتات المثمرة.
وفي مواجهة الشعر الحر،٢٥ الذي يتطلب تقسيمه وسائل أخرى وزاوية رؤية أخرى، تنحو قصيدة النثر إلى أن تحتفظ لنفسها لا بتقنية أخرى فحسب، بل أيضًا بمجال شعري خاص بها، فالغنائية — التي تعتبر صرخة، واندفاعة انفعال يجد إيقاعة بشكل تلقائي — لا تعبر كثيرًا عن نفسها نثرًا؛ لأن تضاعف النبرات في أقصى حالات التوتر هذه يقود إلى النظم (وهذا ما يحدث، على سبيل المثال، لميشو،)٢٦ ويحدث نفس الشيء بالنسبة للغنائية التي تعتبر غناءً موزونًا، وعذوبة، وانسجامًا (قصائد حب «إيلوار»)، فهي تنحو، فضلًا عن ذلك، إلى الالتحاق بالشعر الكلاسيكي، ومن ناحية أخرى، فإن وصف «الطبيعة» الذي يفرض تأثيرًا مباشرًا على الواقعي، لا ينجح معها (مع قصيدة النثر) إلا نادرًا: فهي — بالفعل — إما أن تفضي إلى النثر الخالص، أو تسعى إلى أن تظل «شعرية» من خلال أنساق أسلوبية نحس فيها بالزخرفة (مثلما لدى «رونار»، وأحيانًا لدى «بونج»)، ﻓ «الطبيعة العظيمة»، هي في الأبيات التي يستدعيها «ريفيردي»، ويمكننا القول إنها تمثل — بشكل حاسم — المغامرة الإنسانية، والتساؤلات، والمعارك، ومحاولات الغزو وإحباطات الإنسان في كفاحه ضد مصيره التي تبدو أكثر فأكثر مجالها المفضل، ألا نجد هنا موضوعًا للتأمل؟
وبالتأكيد، يمكن اعتبار كل فن تمردًا للإنسان ضد مصيره، ووسيلة للتغلب عليه، «معاداة المصير»، وفقًا لصيغة «مالرو»،٢٧ فالإنسان–المرمي في هذا الكون «الباسكالي (نسبة إلى «باسكال») الذي يقتله» يحاول هزيمة الأقدار التي تسحقه، ولا سيما الموت، من خلال العمل الفني الذي يؤكد حريته «يسعى التاريخ إلى تحويل المصير إلى وعي، ويسعى الفن إلى تحويله إلى حرية»، مثلما يقول «مالرو» أيضًا،٢٨ ويخلده فيما بعد الموت، ورغم هذأن يبدو لي أن هذه الرغبة قد أصبحت أكثر عمقًا وإلحاحًا في عالمنا الحديث المكرس للعبث، حيث تصبح الغزوات التقنية أدوات للبربرية، وحيث لم يعد الإيمان، مثلما في الأيام الخوالي، يعد الإنسان بحياة خالدة، فالفنان يشعر — أكثر من أي وقت مضى — بعدم توافقه مع العالم الذي رمي به فيه، وهو يشعر — أكثر من أي وقت مضى — بالحاجة إلى أن يصنع من الشعر (وهو ما يصح أيضًا بالنسبة للتصوير الزيتي) وسيلة تمرد وتحرر.
ولأن قصيدة النثر — بالتحديد — قابلة لتشكل وتتمتع بتنوع في الوسائل التي تقدمها، فهي تبدو النوع الذي يمكن فيه للحرية الإنسانية أن تتأكد على أفضل نحو، وبالطبع، تمكنها تعددية أشكالها من الوفاء بمتطلبات متنوعة للغاية: فيمكننا القول — على سبيل المثال — إن اتجاهًا ما بكامله من قصيدة النثر يتجه نحو الحقيقي، وينحو لا إلى قبول الواقع وإنما إلى تمجيده، ويمكن لبعض النبرات الأكثر رجولة، والأكثر قوة من «مفاتن» البيت المنظوم (لدى «شار» على سبيل المثال) أن تجعل من قصيدة وسيلة فعل وأداة صيرورة للإنسان،٢٩ ورغم هذا، فإنها تنحو اليوم أيضًا — في أغلب الأحيان — إلى أن تصبح تمردًا ميتافيزيقيًّا، ومن هنا فهي — حسبما أعتقد — شكل حديث بالضرورة («ثمة قيمة جوهرية للفن الحديث (…): هي الرغبة القديمة للغاية في خلق عالم مستقل، محصور لأول مرة في ذاته»، حسبما يكتب «مارلو»،)٣٠ فمن خلال جميع الأساليب: الإشراقة الساعة، والسرد المشحون بالرموز إلى هذا الحد أو ذاك، وسرد الحلم، والدعابة السوداء أو سواها، والإبداع الفانتازي، تحدثنا قصيدة النثر «الفوضوية» عن «الإنسان المتمرد» في كفاحه ضد هذا العالم الذي يثقله، والسعي إلى خلق «عالم مستقل»، والأهمية التي يتخذها شكل السرد تثبت لنا ذلك: فلم تعد أبدًا نصوصًا سردية لوقائع متعاقبة تنقاد إلى نهايتها المنطقية، مثلما في النثر، وإنما نصوصًا سردية تغمر جذورها في الصمت والمجهول، سرديات تبدو كأنها أتت من عالم آخر، وتشهد — رغم هذا — على جهود الإنسان من أجل تحرره في هذا العالم، ولا شك أن هذه القصائد، التي تعتبر نتاجًا — بدرجة كبيرة — لإرادة التمرد السيريالي، قد انطوت، في الأدب الحالي، على صدًى مختلف وشبه تراجيدي كان غائبًا في النثريات السيريالية، ففي قصائد «بريتون» و«إيلوار»، كانت هناك نبرة أمل، نغمة عن الرائع الفردوسي، التي يفتقر إليها شعراء الحقبة التالية: فالكابوس قد حل محل الحلم السعيد بالنسبة لكثيرين، وأحيانًا ما يبدو أنهم يهيمون في عالم يفلت منهم (وذلك محسوس للغاية بالنسبة لميشو، على سبيل المثال)، فهل ينبغي أن نرى — في ذلك — إدانة للشعر الفوضوي؟ سيكون من الاستسهال الشديد القول إن الرغبة في التحرر من القوانين الكونية وخلق عالم مستقل هي محاولة إيكارية، محكومة مقدمًا بالفشل: أولًا لأن محاولة كهذه قد ولدت أعمالًا جميلة، يؤسس كل منها بطريقته عالمًا جديدًا، ومبررًا كافيًا في حد ذاته؛ إذ إن عالم «لوتريامون» باقٍ على قيد الحياة رغم إرادة العمل الهدامة، وعالم «رامبو»، رغم فشل مشروع «الرؤيا»، ثم لأن محاولات كهذه تستمد قيمتها من مبالغة طموحها نفسه: وربما ترجع جدارة البشر إلى ما يلقون به من «رميات نرد» بلا أمل، وهم يعلمون أنهم لا يستطيعون منع الغرق الأبدي للنوع الإنساني الذي ينوء بعداوة العناصر، وإنما بأمل المساهمة في ظهور «كوكبة نجوم»،٣١ في سماء الفن الصافية …

ومن هنا، فإن قصيدة النثر، نوع من التمرد والحرية، هي أكثر من مجرد محاولة بسيطة لتجديد الشكل الشعري: إنها مطالبة للروح، ومظهر للكفاح الذي يستأنفه الإنسان دائمًا من جديد ضد مصيره.

١  De l’héroïsme de la vie moderne, Salon de 1846; et Le peintre de la vie moderne, I; Œuvres, Pléiade, t. II, p. 133 et p. 328؛ «الجميل مجبول من عنصر أبدي لا يتغير، ويصعب تحديد كميته إلى درجة بعيدة، وعنصر نسبي، ظرفي، سيكون — إذا شئنا — الحقبة، والموضة، والأخلاق، والعاطفة، بالتناوب أو معًا» (ص٣٢٦).
٢  «إذ إن أبطال «الإلياذة» لا يصلون إلى عرقوبكم، أيا فوتران، أيا راستينياك، أيا بيروتو»، مثلما يصرخ «بودلير» بطرافة في حديثه عن «الجمال الحديث» (المرجع السابق، ص١٣٦).
٣  قارن بما سبق، «جمالية قصيدة النثر»، الفصل الثالث من القسم الثاني.
٤  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث، وقد سبق أن أوضحت في الفصل الخاص ﺑ «جمالية قصيدة النثر» هذا الاختلاف بين شعراء «النظام الأبدي» وشعراء التمرد الفوضوي (قارن بما سبق، الفصل الثالث من القسم الثاني).
٥  Le degré zéro de l’écriture, éd. du Seuil, 1953, p. 121.
٦  قارن بالمقال الحديث ﻟ «م. بلانشو» عن «أرتو» في Nouvelle Revue Française, 1er Novembre 1956, pp. 873–881.
٧  استمرت (كلمة) قصيدة تعني لفترة طويلة: أنها «عمل منظوم، متناغم وممتع، وذو امتداد معين»، هذا ما يؤكده على الأقل «ليتريه»، وأنا أصدقه، وفي وقتنا الراهن، تعني: «عملًا من نثر، متنافرًا، ويائسًا، وبالأحرى قصيرًا»، وباختصار، فإن الشاعر الوحيد الجدير بالاعتبار سيكون «الشاعر الملعون»، مثلما يكتب «بولان» (De la paille et du grain, Cahiers de la Pléiade, printemps, 1948, p. 157).
٨  قارن بمقال «بولان» السابق ذكره.
٩  قارن ﺑ Thibaudet, Histoire de la littérature française depuis 1870, Stock, 1936, 50 partie, chap. 4, p. 557.
١٠  De Baudelaire au Surréalisme, Corti, 1940, p. 337.
١١  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
١٢  قارن بمقدمتي، مدخل القسم الأول.
١٣  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
١٤  قارن بما سبق، الفصل الثالث من القسم الثاني.
١٥  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
١٦  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
١٧  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
١٨  مقال سبق ذكره، Cahiers de la Pléiade, printemps 1948, p. 157.
١٩  Sur le poème en prose, Revue des Deux Mondes, 15 Octobre 1948, p. 765.
٢٠  قارن بمقدمة «أ. سيلفار» في صدر Anthologie de la poésie vivante, t. II, Poème en prose, p. 7: «تفترض «قصيدة النثر» كل الحريات، لكنها لا تستطيع أن تتحمل أيًّا منها؛ لأنها لا تطمئن إلى أي منهج، أو أية طريقة، أو أية تقنية، ولا تستند على شيء، إنها منحوتة كلها بشكل صارم ومباشر في الشعر نفسه؛ ولأنها شكل مفترض نظريًّا وفي متناول الجميع، فسرعان ما تصبح مستحيلة على كل إنسان».
٢١  قارن، على سبيل المثال، ﺑ J. Cassau, Situation de l’art moderne, éd. de Minuit, 1950, p. 81، (فيما يتعلق بموضوع الرسام).
٢٢  Y.-G. Le Dantec, Sur le poème en prose, Revue des Deux Mondes, 15 Octobre 1948, p. 766.
٢٣  Paulhan, De la Paille et du grain, Cahiers de la Pléiade, printemps 1948, p. 158.
٢٤  بعد أن بدأت في سؤال بعض الكتاب، لاحظت أن الجميع يجيبونني بنفس الطريقة: لا نعرف أبدًا — بشكل مسبق — لماذا سنكتب قصيدة نثر، ولا حتى أنها ستكتب، قارن بتصريحات شعراء النثر الواردة في Anthologie de la poésie vivante, t. II, Poème en prose, Librairie Les Lettres, 1954، وخاصة «بيالو» و«حيرن» و«ج. ريدا»: وجميعهم يكتبون نثرًا أو نظمًا «حسب الضرورات الغامضة إلى حدٍّ بعيد للحظة» (ص١٠٥).
٢٥  أنحي جانبًا الشعر الكلاسيكي، ما دمت لا أتناول هنا سوى الأشكال الحديثة، وقد سبق أن تكلمت عن الشعر الكلاسيكي كشكل ﻟ «الانسجام» و«الأبدي» (ص١٥٥-١٥٦).
٢٦  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
٢٧  Les Voix du Silence, Galerie de la Pléiade, 1951, p. 637: «إن انتصار كل فنان على عبوديته يلتحق — على مستوى أكبر — بانتصار الفن على مصير الإنسانية»، حسبما يقول «مالرو» في نفس الفقرة.
٢٨  المرجع السابق، ص٦٢١.
٢٩  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
٣٠  Les Voix du Silence, p. 614.
٣١  حسب «ل. ج. أوستن»، تعني قصيدة «مالارميه» «أن رمية نرد واحدة لن تلغي الصدفة أبدًا، وإنما كل أفكار البشر هي بنفس القدر محاولات توجه فكرة الكون نحو النقطة الأخيرة التي تقدسه»، وكي يكون لهذا التقديس معنًى، يحتاج الكون إلى الروح الإنسانية وأفكارها (Mallarmé et son critique allemande, Revue d’Histoire Littéraire, Avril–Juin 1954, p. 192).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥