مدخل

ما يزيد من صعوبة مسألة قصيدة النثر — ويجعلها مثيرةً أيضًا — هو أنه ربما لم يتعرض أي شكل شعري — من بين تلك التي حاولت منذ قرن إخضاع اللغة إلى المتطلبات الجديدة — لمفهوم الشعر ذاته، بمثل هذه الحدة.

فحين نقرأ قصيدة عروضية أو سوناتا sonnet، على سبيل المثال، فإننا نتأثر بالتأكيد ﺑ «سحرها» الشعري، ونحس حتى أعماق روحنا بسريان هذه الموجات التي يثيرها الشعر خفية، أو — على العكس — لا نحس بأي انفعال، وننكر على النص أية طاقة دفينة، وهو ما يتوقف على النص، وعلينا. وكثيرًا ما تختلف التقديرات من قارئ إلى آخر، لكننا على الأقل نستطيع دراسة شكل السوناتا في ذاته، والطريقة التي راعى بها المؤلف قواعد النمط، أو جعلها تخدم غاياته الشعرية، وإذا ما كانت القصيدة من الشعر الحر، فستزداد في هذه الحالة صعوبة اكتشاف القوانين التي تخضع لها (ولا نتحدث حتى الآن عن أية قواعد). فهذه القوانين موجودة، رغم إمكانية تنوعها من شاعر إلى آخر، وطريقة طباعة النص على أية حال تسمح لنا بالتأكد من أن المؤلف — وهو يكتب أبياتًا شعرية — إنما كان يستهدف كتابة قصيدة.
ولكن إذا ما أخذنا الآن ديوانًا معاصرًا من قصائد النثر (وليكن «مختارات» لموريس شابلان):١ فما هو المعيار الذي سيسمح لنا بأن نحدد متى ستكف هذه الصفحة عن أن تكون نثرًا، نثرًا خالصًا، نثرًا جميلًا ربما، لتصبح من ناحية مشحونةً بالشعر، وكي تستحق من ناحية أخرى اسم قصيدة؟ فالعناصر هي نفسها، ما دامت مستعارةً من النثر، لا حتى من اللغة، لغة «النثر الشعري» الأكثر تنميقًا، بل من نثر يومي، بلا تعرجات أو انحناءات. هذا التغيير الخفي الذي يشحن هذه الكلمات العادية تمامًا بطاقة سرية، والطريقة التي يسري بها التيار الشعري الغامض على امتداد العبارات غير المنسجمة — ظاهريًّا — وغير الموزونة (مثلما يغمرنا بالضوء فجأة تيار كهرباء غير مرئية، تسير بامتداد سلك خشنٍ)، أية قواعد ستسمح لنا بتحديدها، ما دامت طاقة الشعر هذه تتحقق — مع ذلك — فوق اللغة؟ وفضلًا عن ذلك، فقصيدة النثر نوع متلوِّن، يحيرنا بتعدد أشكاله. ولننحِّ الآن جانبًا الحالات الخلافية (تلك التي نراها مصنفةً باعتبارها قصائد منثورة، دون أن تكون — في حقيقة الأمر، وفي أذهان مؤلفيها — سوى نصوص سردية، وروايات، وحِكَم)،٢ ليبقى أن الأساليب المستخدمة لتجاوز النثر — على الصعيد الشعري — فادحة التنوع: فما الذي يجمع — على سبيل المثال — بين النشيد الغنائي ذي المقاطع une ballade à couplets لدى «ألويزيوس برتران» وقصيدة من تأليف «ريفيردي»؟ إن تنوع الإلهام هنا لا يضاهيه سوى تعدد الأشكال: فها نحن نجد أنفسنا وقد ضعنا في مجال غائم، غير معروف جيدًا، وحدوده غير متمايزة، وإزاءه نتذكر — أحيانًا، وبحنين إلى الماضي — ممرات الشكل الكلاسيكي الجميلة، المحددة تمامًا.
والواقع أن مجالات الشعر والنثر كانت — بالنسبة لأسلافنا — واضحة التحديد؛ فالشعر هو فن نظم الأبيات، وقد تم تحديده على هذا الأساس باعتباره شكلًا، لا أي شيء آخر، ومن البديهي أننا إذا ما طابقنا بين الشعر والنظم، فلن تُطرَح أبدًا مسألة قصيدة النثر، لتصبح مستحيلة بحكم التعريف، ولم يكن بمقدور العصر الكلاسيكي — الذي يفترض، مبدئيًّا، التمييز بين الأجناس الأدبية، ويطمح إلى رؤية سيادة النظام في المجالات الأدبية كما في المجالات الأخرى — إلا أن يرى في قصيدة النثر ابنًا غير شرعي، مسخًا بشعًا غير قابل للحياة، وعلى نفس النحو، ينكر إمكانية وجود النثر الشعري، ويعلن الأب دوليفييه:
«لا أعرف ما النثر الشعري، ولا ما الشعر المنثور: فلا أرى في أحدهما سوى أبيات غثة، ولا في الآخر إلا نثرًا تتجمع فيه كافة النقائص التي يعتبرها «لونجان» نقيض كل ما هو رفيع.»٣
وهو ما نجد ترديدًا له أيضًا عام ١٧٧٧م في موسوعة دالومبير، الذي يكتفي بأن يُسلِّم — تحت موضوع نثر — بأن «بسيشيه  Psyché» التي كتبها لافونتين كانت جديرةً باسم «قصيدة»، «فيما لو كانت هناك قصائد نثر».
وستشهد نهاية القرن الثامن عشر والعصر الرومانتيكي تمرد الأذهان على هذه التصنيفات الجامدة، والفصل بين فكرة الشكل وفكرة الجوهر الشعري، والإقرار بأن الشعر لا يكمن في أي شكل محدد سلفًا. وكان الكثيرون من أصحاب الأذهان الملهمة قد أدركوا آنذاك أن «فن نظم الأبيات» لا يكفي لصنع شعراء،٤ وأن النثر بالمقابل يمكن أن يصبح شعرًا، وأن «هناك قصائد جميلة تخلو من أبيات الشعر، مثلما توجد أبيات جميلة خاوية من الشعر»، وفقًا لكلمة الأب دوبوس.٥ ولا شك أن الشعر — نظرًا لأصوله — يرتبط بالموسيقى، وبفكرة الوزن بالتالي (شعر يوناني غنائي، أناشيد لاتينية)، ويمكننا الظن أيضًا أن السحر الشعري يُسهِّل له العودة على فترات منتظمة لنفس الصوتيات، وتواقت الأبيات. لكن إيقاع الجملة والعلاقات الصوتية، والمعنى، والطاقة الإيحائية للكلمات، وحدود الإيحاءات التي تُضاف إلى مضمونها الواضح، والصور، كلها مستقلة عن الشكل المنظوم، وعندما يتحجر هذا الشكل ويتجمد في بحر سكندري مدرسي، وعندما لا يعدو «الشعراء» أن يكونوا «نظَّامين» (وهو ما حدث في القرن الثامن عشر)، عندئذٍ، يصبح من الضروري العثور على شكل آخر أكثر حريةً ومرونة.

لقد نُزِعَت كل جهود الشعر الفرنسي منذ الرومانتيكية إلى تفجير الطوق الحديدي للتقاليد والوصايا، التي كانت روح الشعر تختنق فيها: القافية، والعروض، وكافة قواعد الأبيات الكلاسيكية، وأيضًا قواعد الأسلوب «الشعري» أو الرفيع، بل — إلى عهد قريب — قواعد النحو والمنطق الاعتياديين، ومثلما حدث مع الشعر الرومانتيكي، وشعر الرمزيين فيما بعد، وُلِدَت قصيدة النثر من التمرد ضد كافة أنواع الطغيان الشكلي، التي تمنع الشاعر من أن يخلق لنفسه لغةً شخصية، وتجبره على أن يصب في قوالب جاهزة مادة عباراته الطيعة.

لكن قصيدة النثر أطاحت — على نحو تام — بقواعد النحو والعروض، ورفضت بإصرار الخضوع للتقنين، وتفسر الإرادة الفوضوية الكامنة في أصلها تنوع أشكالها، والصعوبة التي نعانيها في تعريفها.

ويقرر موريس شابلان — في المقدمة المثيرة للاهتمام التي تتصدر كتابه «مختارات من قصيدة النثر» — أنها نوع «لم يتجرأ أي مُنَظِّر على أن يعلن عن قوانينه»،٦ وأن هذه الحرية — على نحو ما يضيف — تمنحها فعاليةً فقدتها كافة أنواع الغنائية التقليدية الأخرى، وأسفر بحث قام به «لوي دي جونزاج-فريك» عام ١٩١٩م عن قصيدة النثر، عن نتائج مخيبة للآمال: فمن السهل الخلط بين قصيدة النثر وأنواع أخرى، وإلصاق اسم «قصيدة» على كل صفحة تحمل شيئًا من الشاعرية! إن «قصيدة النثر لا تُعَرَّف! إنها موجودة»، هذه الخلاصة الجوهرية لجي لافو٧ رددها — بعد ثلاثين عامًا — ما قرره شابلان من أن «لا دليل على أن قصيدة النثر قصيدة حقًّا، سوى بالاحتكام لحساسية كل واحد منا».٨ وبعبارة أخرى، فلا مجال لتعريف أو نقد إزاء قصيدة النثر، فالمسألة شخصية تمامًا. فما الغريب بعد ذلك في أن ينظر أحد لقصيدة النثر باعتبارها روايةً مكثفةً في بضع صفحات، أو «أوزمازوم الأدب»،٩  ١٠ وأن يعتبرها آخر «الشكل الطبيعي للإلهام»،١١ فيما يضفي عليها ثالث «اللغة الشعرية، والوصف، والإيقاع»،١٢ بينما ينكر عليها رابع أية موسيقى وأي إيقاع، وأي تأثير للأسلوب الشعري، لينحصر دورها في «البحث عن الحكَم»، وفي «التلاقي العجيب والمدهش للعناصر المتماوجة للتسميات».١٣ وتنتهي السيدة دوري — بعد تأكيدها على أشكال النوع — إلى أنه:
ربما يكون الشيء الوحيد الصحيح هو الاعتراف بأن كثيرًا من الأعمال — المختلفة تمامًا، والمتناقضة في توجهاتها وأساليبها وفي الإحساس الذي تحدثه في القارئ — لا يجمعها سوى شيء مشترك، سوى نفس الرغبة في الهروب خارج اللغات المعروفة، والأمل في إيجاد كلام مستحدث، حتى يمكن — في النهاية — التعبير عما قد لا يستطيع أحد التعبير عنه بواسطة الكلمات: أي — بالتحديد — ما لا يُوصَف.١٤
لا يتعلق الموضوع إذن بدراسة قصيدة النثر انطلاقًا من تعريفات أو مبادئ مسبقة، بل قد نعتقد أن كثيرًا من المفاهيم والتأويلات المتناقضة — على هذا النحو — قد أسهمت في التثبيط من عزيمة أية دراسة، ومع ذلك، فإذا ما كان صحيحًا أن كل محاولات قصائد النثر ينطوي جانب منها على النزوع الضمني والبحث عن لغة لم يسبق التعبير عنها ولم يسمع بها أحد، بما يجدد إمكانية اللغة، فسيكون علينا الآن ملاحظة أنه لا يمكن إهمال الملمح المشترك بينها، أي حقيقة أنها نتاج لهذه الضرورات العميقة، ويبدو أنه بقدر ما سيتحدد هذا البحث عن «إيجاد لغة» — حسب تعبير رامبو — بقدر ما ستصبح قصيدة النثر نوعًا أدبيًّا أصيلًا، وشكلًا يستجيب في نفس الوقت لاحتياجات الغنائية الحديثة، وما دام من الواجب قبول الواقع الأدبي لقصيدة النثر، وما دام العالم كله متفقًا على الإقرار بوجودها — باعتبارها نوعًا أدبيًّا — فيبدو أن أفضل الأساليب يكمن في البحث، من خلال الأعمال ذاتها، عن الاتجاهات الأساسية التي تسود تكوينها ومنظومتها، وكيف تتغير هذه الاتجاهات حسب العصور والأفراد، ولا شك أننا بذلك سنتمكن من تحديد بعض «ثوابت» النوع، ومن رؤية خط بياني لتطور واضح — وإن يكن بطيئًا — عبر تنوع الأعمال.
ورغم هذا، فما تزال الصعوبة قائمةً فيما يتعلق بتعيين حدود الموضوع، فالحدود أحيانًا غير واضحة بين قصيدة النثر والنثر الشعري إلى حدٍّ ما، واصطلاح «قصيدة النثر» في ذاته معرض لمواقف متعددة من القبول به، لكننا يمكننا على الأقل أن نبدأ باستبعاد جميع قصائد النثر «غير القصدية»، التي يمكن للمرء أن يتسلى (وغالبًا ما يتسلى) باقتطاعها من المراسلات، ودفاتر اليوميات الخاصة، وروايات الكُتَّاب القدامى والمعاصرين. ومثل هذه المقتطفات المقتطعة من السياق تفقد خارجه معناها ومغزاها، وتنطوي بالضرورة على طابع غير مكتمل وغير عضوي. وفضلًا عن ذلك، فهي لا تُوصَف بأنها «قصائد» إلا بعد فوات الأوان، وعلينا التسليم بأن الفن لا يبدأ إلا حيثما يوجد إبداع إرادي وواعٍ، ﻓ «الفن هو إرادة التعبير عن أعماق الذات بطرق منتقاة»، على نحو ما يقول «ماكس جاكوب» في حديثه عن قصيدة النثر على وجه التحديد.١٥ وهو ما يؤدي به إلى إعلان أن «صفحةً من النثر ليست بقصيدة نثر، حتى وإن احتوت على دُرتين أو ثلاث»، غير أن هناك أهميةً ما في أن نكشف «في الرسائل والمذكرات الخاصة بالسابقين على الرومانتيكيين، كيف تتفجر وتتدفق، في النثر، الينابيع الدفينة لغنائية تتخلى عن بيت الشعر الكلاسيكي البالغ التحجر، والتي سرعان ما ستتخذ شكلًا وهيئةً في قصيدة النثر.١٦ وما إن يتم ابتداع «نوع» قصيدة النثر، حتى يكون علينا دراستها، ودراستها هي وحدها. وفيما يتعلق بتطور النوع، تصبح المحاولات الواعية — حتى لو انتهت إلى الفشل — أكثر أهميةً من نجاح لا إرادي، بافتراض إمكانية نجاح من هذا القبيل. وخلاصة القول أنه علينا — كما يلاحظ شابلان — «تحت وطأة الوفرة (…) ألا نقبل تحت عنوان قصائد نثر إلا أعمالًا اعترف مؤلفوها — بشكلٍ ما — أنهم أرادوا لها أن تكون كذلك.»١٧
وينبغي من الآن أن نؤكد على أهمية فكرة الإبداع الإرادي هذه، فهي لا تسمح فحسب باستبعاد كثير من قصائد النثر التي ليست كذلك، بل تساعد أيضًا منذ البداية على تكوين فكرة أكثر صحةً حول مشكلة قصيدة النثر، كما تطرح نفسها على الشاعر نفسه، لا على الناقد.
والمؤكد أن قصيدة النثر تنطوي على مبدأ فوضوي وهدام؛ إذ نشأت من التمرد على قوانين الوزن والعروض، وأحيانًا على القوانين العادية للغة، لكن كل تمرد على القوانين الموجودة مجبر — فيما لو أراد تقديم عمل أدبي قابل للاستمرار — على أن يُحِل محل هذه القوانين قوانين أخرى، خشية الوصول إلى ما هو غير عضوي وفاقد للشكل، وهي في الواقع ضرورة خاصة بالشعر، تلك التي تتمثل في التوصل إلى إبداع شكلٍ ما، أو — بعبارة أخرى — التعبير عن العالم الغامض الذي يحمله الشاعر داخله، وتنظيمه، فلن يستطيع الشاعر — حتى من أجل التعبير عن التمرد والفوضى — إلا أن يستخدم اللغة، وأن يمنحها القوانين.
وتهدف قصيدة النثر إلى أن تذهب إلى ما هو أبعد من اللغة، وهي تستخدم اللغة، وأن تحطم الشكل وهي تخلق أشكالًا، وأن تهرب من الأدب، وها هي ذي تصبح نوعًا أدبيًّا خاضعًا للتصنيف، وهذا التناقض الداخلي، وهذا التعارض الأساسي هو ما يمنحها طابع الفن الإيكاري،١٨ الطامح إلى تجاوز مستحيل للذات، وإلى نفي شروط وجودها هي نفسها، لتصبح — دون شك — نموذجًا واضحًا لجهود كل الشعر الفرنسي منذ القرن التاسع عشر، ولا شك أن محاولةً كهذه تنطوي على تخلي الشاعر عن القيم المسلَّم بها، وعن القوانين الطبيعية والقواعد الاجتماعية والإنسانية (بما أنه لم يعد يكتب من أجل أن يُسمَع)، وهي محاولة تجعل منه المستكشف الغريب للمناطق المجهولة، والمحظورة، ومن وجهة نظر معينة، يمكننا اعتبار «برتران» هاذيًا، و«رامبو» شاعر الشطط والفوضى، و«لوتريامون» مجنونًا، و«رمية نرد» لمالارميه «فعلًا جنونيًّا».١٩ فما الذي يمكن قوله سوى أن شعر هؤلاء الأدباء يحمل طابع الخلل بين المطلق الذي يطاردونه والأدوات التي يتملكونها؟ ويستهلك الشاعر نفسه ﮐ «عامل بشع»،٢٠ في بحث يعلم أنه ميئوس منه.
غير أن البحث هو بالتحديد ذلك البحث الخاص بنظام ومنهج، وينبغي ألا ننسى أن «برتران» يفرض على مقاطعه شكلًا بارعًا وعمديًّا، وأن «رامبو» يعتبر الشاعر «العارف الأعلى»،٢١ وأن «لوتريامون» يُركِّب «الآلة الجهنمية» بصرامة شديدة، وأن «مالارميه» قد يجعل من «رمية نرد» العمل الأكثر تركيبية وتعقيدًا وبناءً، وبدلًا من الاستسلام لهذيان اللاشعور وأهواء الخيال الجامح، فقد استغرق هؤلاء الشعراء في فنهم، وفي قدرات اللغة، وبحثوا بإصرار عن طرق جديدة، وفكروا وأسسوا ونظموا، فلو لم يكن الأمر كذلك، فهل كان لأعمالهم أن تصبح قصائد؟ والواقع أن بقية هذا العمل سوف يكشف أنه كان ثمة حركة تمرد وفوضوية، عند نقطة انطلاق قصيدة النثر، ففي نقطة النهاية (حيث ينتظر القارئُ الشاعرَ ويحكم عليه)، هناك دائمًا التبلور في قصيدة، سواء تعلق الأمر بالقصائد «الشكلية» لبرتران أو «إشراقات» رامبو، حيث لا يرى المرء فيها — غالبًا — سوى الفوضى الخالصة.
وسيكون لنا أن نحدد فيما بعد٢٢ — عندما تظهر جماليات النوع بشكل أكثر وضوحًا، خلال دراسة النصوص — هذا المبدأ المزدوج لقصيدة النثر: النزعة التدميرية والفوضوية، المتوافقة مع استخدام النثر، والنزعة البنائية والفنية المتوافقة مع الانتظام في قصيدة، وأن نشير إلى أننا إنما نتوصل إلى أنماط شعرية شديدة الاختلاف طبقًا لسيادة اتجاه أو آخر (اﻟ «إشراقات» أو القصيدة الشكلية). لكن الأمر لا يتعلق — حتى هذه اللحظة — سوى بإعمال مفهوم القصيدة لتحديد الموضوع، قدر الإمكان على الأقل، فإذا كان لمصطلح النثر معنًى محدد تمامًا (كل ما ليس بشعر فهو نثر)، فإنه لأكثر صعوبةً بكثير الاتفاق على كلمة قصيدة، وقد يكون مفيدًا أن نوضح من الآن الشروط المحددة الواجب تطبيقها، وخاصة عند الحديث عن قصيدة النثر.
وتفترض قصيدة النثر — وهو ما سبق أن قلناه — إرادةً واعيةً للانتظام في قصيدة، لا بد لها أن تكون كلًّا عضويًّا مستقلًّا، بما يسمح بتمييزها عن النثر الشعري (الذي ما هو إلا مادة، وشكل من الدرجة الأولى، نستطيع — انطلاقًا منه — تأليف دراسات وروايات وقصائد)، وهو ما سيقودنا إلى القبول بمعيار الوحدة العضوية، فمهما بلغت القصيدة من درجة التعقيد، ورغم حريتها الظاهرية، إلا أنها لا بد أن تشكل كلًّا وعالمًا مغلقًا، خشية فقدان صفتها كقصيدة، وإذا ما أضفت أن القصيدة هي تنظيم جمالي متميز، وأنها ليست بقصة قصيرة، ولا برواية، ولا بدراسة (رغم ما قد يتمتع به هؤلاء من «شاعرية»)، فسأبدو كأنني أقول شيئًا بديهيًّا، وأقتحم بابًا مفتوحًا، والواقع أن من الصعب تمامًا هنا رسم الحدود، فقد يحدث — على سبيل المثال — أن تحمل قصيدة عنوان «حكاية»، أو العكس.٢٣ ومع ذلك، فعلينا أن نقبل بأن القصيدة لا تفترض لنفسها أية غاية خارج نفسها، لا سردية ولا برهانية، وإذا ما أمكنها استخدام عناصر روائية ووصفية، فذلك بشرط أن تتسامى بها، وتوظفها في كُلٍّ واحد، ولأهداف شعرية خالصة.٢٤ ولدينا هنا معيار «المجانية» الذي سيسمح لنا، على سبيل المثال، باستبعاد أغلب «حكايات» فييي دي ليل-أدام، و«صلاة فوق الاكروبول» لرينان (التي رحب بها «شابلان» في كتابه «مختارات»). ويمكننا أن نضيف أن فكرة «المجانية» يمكن أن تحددها بدقة فكرة «اللازمنية»؛ بمعنى أن القصيدة لا تتقدم نحو هدفٍ ما، ولا تطرح سلسلةً من الأفعال المتتالية، لكنها تُفرَض على القارئ ﮐ «شيء»، ككتلة لا زمنية، وهو ما سأوضحه فيما بعد.٢٥
ويقودنا هذان الشرطان اللذان تحدثت عنهما لتوي؛ الوحدة والمجانية، إلى شرط ثالث، أكثر خصوصية لقصيدة النثر، هو الإيجاز، فعلى قصيدة النثر — أكثر من أية قصيدة عروضية — أن تتجنب الاستطرادات الأخلاقية، أو أية استطرادات أخرى، والإسهابات التفسيرية؛ أي كل ما قد يئول بها إلى أنواع النثر الأخرى، كل ما قد يضر بوحدتها، وكثافتها، ولأن قوتها الشعرية لا تتأتى من رُقًى موزونة، بل من مُركَّب إشراقي، فبإمكاننا أن نطبق عليها — بكل صرامة — مقولة «بو» الشهيرة: «لا وجود لقصيدة طويلة، فالحديث عن قصيدة طويلة لهو تناقض مطلق في المصطلحات».٢٦ وكثيرًا ما لاحظنا — وهو ما يمكننا أن نطرحه كمبدأ — أن قصيدة النثر الحديثة موجزة دائمًا.٢٧
وقد قلت قصيدة نثر حديثة، فهل من المفيد التشديد على أنه لم يعد ثمة ما هو مشترك ذو بال بين هذه القصيدة الموجزة التركيبية — المكتوبة بأكبر قدر من الاقتصاد في الوسائل، والغنائية غالبًا (وسنلاحظ أنها عادةً ما تكون بضمير المتكلم) — والأعمال البالغة الاتساع، من روايات وملاحم، المكتوبة في نثر شعري، التي كانوا يسمونها في القرن الثامن عشر باسم «قصائد نثرية»؟٢٨ وقد خصص «فيستا كليتون» كتابًا غزير التوثيق٢٩ لهذه اﻟ «قصائد» التي يعود أصلها إلى «تليماك»، وهي من تأليف «فينيلون»، ولن تهمنا هنا إلا بقدر ما سنرى — خلالها، وبشكل جزئي، بتأثير الترجمات — كيف يتطور النثر الشعري، الشكل الأول للتمرد ضد طغيان النظم، ويتحول — تدريجيًّا — إلى أن يصل إلى الرومانتيكية. إنها «قصيدة النثر الصغيرة» التي أبدعها «برتران» في شكل أناشيد غنائية ballades، واستعادها «بودلير» وجعلها أكثر مرونة، لتنتقل إلى الأجيال التالية كأداة لغنائية حديثة، هي وحدها موضوع هذه الدراسة، لقد نشأ النشيد الغنائي من «مخالطة المدن الكبيرة»،٣٠ ومن الاندفاعات الرومانتيكية نحو اللانهائي، وسوف نراه وهو يتضاعف ويتنوع إلى أقصى حد، كلما أخضعه الشعراء لجهودهم من أجل ترجمة واقع داخلي يزداد تعقيدًا، ومن أجل «العثور على لغة» تعكس الطموحات المجهولة حتى ذلك الحين، ولن أحاول — هل من الضروري أن أقول ذلك — أن أختزل شعر الأعمال التي ندرسها إلى شيءٍ ما قابل للقياس (رغم أن اهتمامي بالموضوعية لا يمنعني من إبداء أحكام تقويمية). لكن، إذا ما كان الشعر يفلت في جوهره من أي قياس ومعيار، فإن الأساليب التي يتوفر عليها الشاعر قابلة للإدراك والتصنيف. إنه تماثل الأساليب المستخدمة — مثل استخدام النثر، وموضوعات الإلهام، والسعي نحو القصيدة — هو الذي سيسمح بتجميع شعراء معينين معًا، نمنحهم اسم «شعراء النثر». وستمكننا دراسة تصورات وتقنيات هذه المجموعة من إدراك التماثلات والاختلافات، وأن نرى سيادة بعض الاتجاهات الرئيسية الكبرى، وأن نتابع — بشكل خاص — ما عانت منه قصيدة النثر، على مر الزمن، فيما يتعلق بالمفهوم والشكل.
فهل يمكننا الحديث عن تطور ما، فيما يتعلق بنوع حر كهذا، فرداني بكل تصميم، مثل قصيدة النثر؟ لا، إذا فهمنا من ذلك التحول الدائب والمطرد لنوع معين. ونعم، إذا ما وافقنا وقبلنا بأنه في نفس الوقت الذي تتطور فيه المفاهيم السياسية والاجتماعية، والأذواق والمفاهيم الفنية، والحاجات الروحية والفكرية للأفراد، فإننا نرى أيضًا، لا تطويرًا في فكرة الشعر فحسب، بل أيضًا في «الشكل» الشعري، وأن ثمة علاقة متبادلة غير مرئية — وإن تكن ضرورية — بين مرحلة معينة والشعر الذي تنتجه.

لقد وجدت نفسي إذن، من أجل وضع الأعمال والنظريات في منظور تاريخي، لا من أجل متابعة سياق وجهات النظر النظرية التعسفية، منقادةً، أولًا، إلى دراسة العلاقات بين قصيدة النثر والطموح الميتافيزيقي الذي استحوذ على الشعر، تحت تأثير شعراء مثل بودلير ورامبو ولوتريامون ومالارميه، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم دراسة الطابع الفني، بالمعنى المحدد، لقصيدة النثر، في العصر الذي اهتم فيه الرمزيون بالبحث عن شكل أكثر سلاسة: قصيدة نثر أم شعر حر، وأخيرًا في المرحلة الثالثة، التي تم فيها استخدام قصيدة النثر باعتبارها أقصى أشكال الفوضوية التحريرية تطرفًا، في عصر الاضطهاد والكوارث — عصرنا — الذي يشمل النصف الأول من القرن العشرين.

إن الشعر أزلي، لكن الوجوه التي يمنحها لنا مختلفة دائمًا، والشاعر — الذي كثيرًا ما يُعتَقَد أنه يتصرف كرد فعل ضد الاتجاهات والأذواق الواضحة لعصره — يقدم لنا، على النقيض من ذلك، الوجه الأكثر خفاءً وتعقيدًا، والأصدق، من خلال التعبير عن الطموحات العميقة، والنفي الخفي، وتحركات الروح الغامضة، وآمل أن نرى هذه الوجوه المختلفة في الفصول التالية، حيث حاولت أن أكشف لا المفاهيم الشعرية المتعددة فحسب، بل أيضًا المواقف الثقافية والروحية، والحركات الكبرى، فرديةً كانت أم جماعية، وكل ذلك ضروري إذا ما أردنا فهم واستعادة أعمال هؤلاء الشعراء في مناخها الأصلي، هؤلاء الشعراء المشبوبي العاطفة، الصاخبين، الذين يحتقرون جميعًا «الفن»، فيما هم أكثر عشقًا لفنهم من الآخرين، والأكثر التزامًا في الوضع الإنساني، والأكثر لهفةً على تجاوز ما هو إنساني، هؤلاء الشعراء الذين نسميهم «شعراء النثر».

١  مختارات من قصائد النثر. Anthologie du poèmes en prose, Julliard, 1946.
٢  يجمع شابلان — على سبيل المثال — في «مختارات من قصائد النثر» بين الحكايات (ماسة العشب، تأليف فورنيريه) ومقاطع من رواية «انطباعات من أفريقيا»، من تأليف روسيل، والحِكَم (مثل المقاطع المأخوذة من «مذكرات» ج. رينار).
٣  في عام ١٧٣٧م، وهو ما ذكره جوجيه في «المكتبة الفرنسية».
Bibliothèque française, t. III. chapitre 15, p. 389.
٤  وقد سبق لأرسطو — في «الشعر» — أن أنكر على «أميدوكل» (رغم أنه كان يكتب نظمًا)، وعلى «هيرودوت» («حتى لو وضعناه في شكل منظوم») اسم شعراء: ذلك أن هدف الأول والثاني هو تعليم القارئ، وإبلاغه ببعض الوقائع، سواء كانت عالميةً أم تاريخية (Poétique, chap. I et 8; éd. Budé, 1932, p. 30 et 42)؛ وهو ما يعلي من شأن مبدأ «المجانية» الشعرية.
٥  Réflexion sur la Poésie et la Peinture, 1719, t. I, chapitre XLVIII.
٦  مختارات من قصائد النثر، مرجع سابق، مقدمة، ص١٦.
٧  ردًّا على البحث الذي قام به ل. دي جونزاج-فريك في «دون كيشوت»، عام ١٩١٩م.
٨  مختارات … مقدمة، ص١٦.
٩  أوزمازوم: النخاع أو الجوهر.
١٠  هويسمان، بالعكس.
Huysmans, A rebours, 1re éd … 1884; Œuvres complètes, Crès 1927 t. VII, p. 302.
١١  هنري جيون، المجلة الفرنسية الجديدة.
Henri Ghéon, Nouvelle Revue Française, Août 1912, p. 345.
١٢  فيستا كلايتون، قصيدة النثر في الشعر الفرنسي في القرن الثامن عشر.
Vista Clayton, The prose poem in French poetry of the XVIIIth century, Columbia University, IV et V, 1936: 2 ème partie, chapitre III.
١٣  ج. بلين، مقدمة لقصائد النثر الصغيرة لبودلير.
G. Blin, Introduction aux Petits poèmes en prose de Baudelaire, Fontaine, février 1946, p. 284.
١٤  عرض لكتاب فيستا كلايتون، في مجلة التاريخ الأدبي.
Revue d’Histoire Littéraire, Janvier–Mars 1937.
١٥  في مقدمة «رمية نرد».
Cornet à Dés, en 1916: éd. Stock. 1923 p. 14.
١٦  انظر — فيما بعد — الفصل التمهيدي «لمحة تاريخية»، (١)، من النثر الشعري إلى قصيدة النثر.
١٧  مختارات … المقدمة، ص١٧.
Anthologie du poème en prose, Introduction p. XVII.
١٨  نسبةً إلى إيكاروس — في الأسطورة اليونانية — الذي تخلص من سجنه بصنع جناحين، وتثبيتهما بالشمع في كتفيه فلما حلق عاليًا، أذابت حرارة الشمس الشمع، فهوى إلى البحر.
١٩  «ألا ترون أنه فعل جنوني؟». ذلك ما يقوله مالارميه إلى فاليري، وهو يحدثه عن «رمية نرد»؛ قارن:
(Valéry, Variété II, Gallimard, 1930, p. 180).
٢٠  هو تعبير رامبو في خطابه «الرائي  du Voyant».
(Lettre à Démeny, 15 Mai 1871, Œuvres de Rimbaud, éd. de la Pléiade, p. 255).
٢١  Eod, loc, p. 254.
٢٢  قارن — فيما بعد — الجزء الثاني، الفصل الثالث: جمالية قصيدة النثر.
٢٣  تحمل إحدى «إشراقات» رامبو اسم «حكاية»، وفي المقابل، أفسح بودلير مكانًا في «قصائد نثرية صغيرة» لحكاية «موت بطولي»، والمقابلة بين القصيدة والحكاية (أو الأقصوصة، على نحو أدق) مفيدة، إذا ما أردنا قياس المسافة بين النوعين.
٢٤  لتكن القصيدة غاية نفسها، هذا ما عبر عنه فاليري عندما قال: «القصيدة لا تموت، لأنها مُعاشة: لقد أُنتِجَت — قصدًا — كل تُولَد مرةً أخرى من رمادها، وتصبح — من جديد، وبلا نهاية — ما قد أصبحت عليه لتوها.»
(Poésie et pensée abstraite, Variété V, p. 151).
٢٥  انظر — فيما بعد — الجزء الثاني، الفصل الثالث.
٢٦  في «المبدأ الشعري» تصريح كرره بودلير في «ملاحظات حول بو»، واستخدمه كمقدمة ﻟ «حكايات عجيبة جديدة».
٢٧  انظر — فيما بعد — الجزء الثاني، وفي عهد قريب أيضًا، شدد أراجون في «حولية» مخصصة لقصيدة النثر على شرط الإيجاز كشرط ضروري.
(Chronique du Bel Canto, Europe, 1er Octobre 1946, p. 90).
٢٨  انظر — فيما بعد — «تليماك وهجمة الحديثين».
٢٩  قصيدة النثر في الشعر الفرنسي في القرن الثامن عشر. واللافت للانتباه — على أية حال — أن الجزء الثاني كله مخصص لعرض الخلافات التي تتعلق بالقيمة النسبية لكل من الشعر والنثر، ونظريات النثر الشعري وإيقاع النثر، وللبحث في العناصر الرئيسية التي تحدد النثر الشعري.
The prose poem in French poetry of the XVIIIth century, Columbia University, 1936.
٣٠  بودلير، إهداء قصائد نثر إلى أرسين هوساي.
A Arsène Houssaye, Œuvres, éd. de la Pléiade, t. I, p. 405.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥