قصيدة النثر قبل بودلير

لمحة تاريخية

  • (١)

    من النثر الشعري إلى قصيدة النثر.

  • (٢)

    آلويزيوس برتران وميلاد النوع.

  • (٣)

    من الرومانتيكية إلى بودلير.

***

(١) من النثر الشعري إلى قصيدة النثر

النثر الشعري وقصيدة النثر مجالان أدبيان متمايزان، لكنهما — رغم هذا — متماسان، ففيهما تتبدَّى نفس الرغبة في التحرر، ونفس اللجوء إلى طاقات جديدة للغة، فكيف العبور فيما بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين من النثر الشعري، الذي كان ما يزال غير عضوي، إلى «قصيدة النثر» التي اعتُبِرت نمطًا أدبيًّا حقيقيًّا؟ أعتقد أنه لا غنى — فيما أعتقد — عن الإشارة إلى ذلك هنا.

والواقع أن قصيدة النثر لم تتفتح فجأةً في حديقة الأدب الفرنسي، فقد احتاجت في ذلك إلى تربة ملائمة، أعني إلى أذهان تؤرقها — بشكل واعٍ تقريبًا — الرغبة في العثور على شكل جديد للشعر، كما احتاجت أيضًا إلى الفكرة الخصبة القائلة بأن النثر قابل للشعر. إنه النثر الشعري، أول مظهر للتمرد ضد القواعد القائمة والطغيان الشكلي، الذي مهد لمجيء قصيدة النثر، فعبر المجادلات التي نشأت بصدده، تدعمت فكرة الانفصال الضروري بين الشعر والنظم، ويمكن القول إن القرن الثامن عشر قد مكَّن — ببطء، وعبر عدة محاولات — من اكتساب المبادئ الأساسية لقصيدة النثر (الاختصار، الإيجاز، كثافة التأثير، والوحدة العضوية)، وبذلك سننتقل من النثر الشعري، الذي ما يزال نثرًا، إلى قصيدة النثر، التي هي — قبل كل شيء — «قصيدة». وسياق هذا التحول معقد، وما نميزه من مسطحات واضحة أقل مما نميزه من تيارات واتجاهات عامة، تختلط وتتقاطع، وتنفصل هنا لتتلاقى في مكان آخر. لذا، فإنني أود الإشارة — على الأقل — إلى هذه التيارات الرئيسية التي انجذبت من الشعر أكثر فأكثر في اتجاه النثر.
فلم تكن مسألة «شعر نثري» مطروحةً حتى القرن الثامن عشر، حيث كان بديهيًّا أن الشاعر — بحكم تعريفه — هو من يكتب الشعر المنظوم، فالقافية والبحر كانا ضروريين لشعر ما تزال فكرته ترتبط — طبقًا لأصوله (شعر غنائي) — بأصول الغناء الموزون، ولا بد أن نذكر هنا أهمية العلاقة بين الموسيقى والشعر:
الأبيات هي أطفال القيثارة
ولابد من غنائها لا قولها
كما قال «لاموت»، وكان يعتقده أغلب الناس، فالشعر قرين الموسيقى، الذي ارتبط بالموسيقى طوال قرون، فخضع طوال هذه المدة إلى عبودية الإيقاع الموسيقي. ففي الأشعار المغنَّاة، كانت نبرة الصوت أو العلامة النحوية (التي تتضح في نهاية كلمة أو مجموعة كلمات) تختفي لصالح النبرة الموسيقية، فقد «غَنَّت» العصور الوسطى كلها الأبيات بالتوقف عند نهاية الشطرة، وعند القافية فحسب، رغم كافة العناصر المنطقية أو الانفعالية، وذلك إلى حد افتقار هذه الأبيات لعلامات الترقيم، ويوضح كتاب «ج. لوت» الجديد هذا المفهوم تمامًا.١
وقد استمر هذا الإنشاد «العددي» الصرف حتى عندما وجد الشعر نفسه وقد انفصل عن الموسيقى، ويعلم الجميع أية جهود اضطر راسين وموليير إلى بذلها لإدخال مزيد من التنويعات في إلقاء الشعر.٢ وسيكون أفول هذا «الغناء الرتيب» في الإنشاد — الذي سيتحسر عليه فولتير٣ — أول طعنة لمبدأ التماثل الإيقاعي، وﻟ «الشكل المربع» المتمثل شعريًّا في البناء الثنائي للوزن السكندري.٤ وهكذا، فعندما أكد راسين إلى شامسليه، بتغيير مفاجئ في النبرة، على الوقفة غير المنتظمة (بعد التفعيلة الرابعة) للبيت الذي يقوله ميثريدات:
لقد تحاببنا أيها السيد، فكم تنقلب سحنتكم!٥
يمكن القول إن تاريخ الشعر الفرنسي سيصبح، منذ ذلك الحين، تاريخ استعادة بطيئة للمعنى على حساب الصوت، وللجملة على حساب الوزن، وسيتزايد بهذا المعنى اقتراب الشعر من النثر، وكان أن ظلت هذه القطيعة مع الإيقاع المنتظم تتفاقم — على نحو ما أوضح «د. مورنيه» — حتى نهاية القرن الثامن عشر؛٦ وسنرى «لاهارب» يعلن سخطه على «روشير» الذي يقوضها «بحجة تنويع انسجام الأبيات»، «فيهبط بها إلى أشكال النثر، بإسقاط الإيقاع عنها وهو ميزتها».٧ ولن نؤكد كثيرًا على أهمية هذا التحول الذي يقول عنه لوت إنه «لن يكون له مثيل إلا في تحولات الرومانتيكية.»٨ فهل كان يمكن لتحرر الشعر (الذي يمكن أن نرى مظهرًا آخر له في الأشعار المسماة «حرة» لدى لافونتين وموليير) أن يمضي عندئذٍ إلى أبعد من ذلك؟ ربما لم يتم البحث عن أشكال تحرر أخرى، لكن القوى المحافظة، والميل إلى النظام، والمعمار التماثلي الجميل، كانوا ما يزالون في حالة قوة بالغة في عصر لويس الرابع عشر، وينبغي انتظار الرومانتيكية كي نرى حقًّا «تفكيك» البحر السكندري، ربما أيضًا لعدم وجود شاعر كبير قادر على زعزعة طغيان «القواعد».٩ وعندما ستدَّعى موجة حداثية — خلال «الشجار» الشهير — أنها إنما تكنس الشعر الكلاسيكي، فإنها ستهدف إلى أن تحل النثر (النثر الشعري) محله.

وثمة واقعة جديرة بالملاحظة، ففي كل العصور التي ظهرت فيها العقول الاستقلالية في الأدب (كانعكاس لاتجاه أكثر عمومية في مبدأ السلطة، ومن أجل تحرير الفرد)، نرى الشعر يتراوح بين طريقين مختلفين في اتجاهه نحو الحرية: تحرير الشعر الذي تخلص من قيود العروض والأوزان، والتخلي النهائي عن النظم لصالح الشعر النثري؛ تطوير أو ثورة. ولسوف ندرك نفس «زمن» التردد بين الشعر المتحرر والشعر النثري، في كل مراحل التحرر التدريجي للأشكال الشعرية: الرومانتيكية، الرمزية، السيريالية، وتشكل هذه العهود «نهايات قصوى» في منحنى يمكن أن يمثل كثافة إنتاج قصيدة النثر، وعلى أية حال، فقصيدة النثر تجد نفسها — كل مرة — مهجورةً في النهاية، ويهبط المنحنى من جديد، ما إن يصبح معتادًا ذلك التطور الذي يمنح الشعر مزيدًا من الحرية، بما يجعله يقترب من النثر — وصولًا إلى نقطة النهاية المعاصرة — حيث نرى الشكلين، الشعر والنثر، يتواجدان معًا وأحيانًا ما يمتزجان.

لقد شهدنا المرحلة الأولى في طريق تحرير الشعر، ولنا أن نُلحِق بها بضع تجارب غريبة لأشعار غير مقفاة، وذات أطوال متنوعة، بحيث تبدو الآن كحدس خجول ﻟ «الشعر الحر» الرمزي، لكنها كان من المقرر أن تظل في وضعية المحاولات المعزولة.١٠ ويبقى لنا أن نرى كيف تقود نفس روح التحرر — في نفس العصر — إلى البحث، في النثر، عن صيغة لشعر بلا قافية ولا وزن، والواقع أن كل شيء يتواكب: العقلية «الحديثة»، ورد الفعل ضد القواعد، وتأثير الترجمات، وتحرير اللغة، وأيضًا ضعف الشعر العروضي في القرن الثامن عشر، وذلك ليمهد لقدوم هذا النوع الأدبي، الأكثر حرية والأكثر مرونة، والأكثر حداثة، والذي لن يكون سوى قصيدة النثر.

«تليماك» وهجمة «الحديثين»

في العصر الذي ظهرت فيه «تليماك»، منح «بوالو» و«الأب دي بو»١١ أيضًا اسم «قصيدة النثر» للروايات:
«… هناك أنواع من الشعر لم يتخطَّنا فيها اللاتينيون، بل لم يعرفوها أبدًا، مثل القصائد — على سبيل المثال — التي نسميها روايات …».
ذلك ما يقوله «دي بو» في «خطاب إلى بيرو» عام ١٧٠٠م، ورغم ذلك، فعلينا ملاحظة أنه يعتبر رواية النثر «نوعًا من الشعر»، وأعتقد أنه انطلاقًا من «تليماك» — بالتحديد — توجهت الرواية، عمدًا، نحو الشعر، وهو زعم اعترف به «فنيلون» الذي يعتبر مؤلَّفه — الذي قدمه الناشر باعتباره تكملةً لأنشودة الأوديسة (الرابعة) — ﮐ «سرد خرافي في شكل قصيدة بطولية، مثلما في قصائد هومير وفرجيل».١٢ هذه الرغبة الواعية في بث الشعر في النثر كانت في بدئها خميرةً ثورية، وفهمها «الحديثون» باعتبارها كذلك حقًّا خلال اﻟ «مشاجرة» الشهيرة، ورفعوا «تليماك» كأنها راية الثورة، واندفعوا — بقيادة «هودار دي لاموت»١٣ المتحمس — للهجوم على قلعة القافية، المنيعة حتى هذه اللحظة، وقدَّم «فنيلون» — بنفسه — المعونة العسكرية، بطريقة فعالة، عندما قام في «خطاب إلى الأكاديمية» (١٧١٤م) بالفصل بين الشعر والنظم،١٤ وعندما تكفل بقضية القافية:
إن نظمنا للشعر — إن لم أكن مخطئًا — يفقد أكثر مما يكسب من القافية، إنه يفقد الكثير من التنوع، والسلاسة والانسجام.١٥
وعبثًا حاول حزب الكلاسيكيين المعارضة، والتذرع بالتمييز المقدس بين الأنواع، والإعلان بقلم «الأب ديفونتين»:١٦

إنها لإساءة استخدام للمصطلحات، وتخلٍّ عن الأفكار الواضحة والجلية، أن نمنح اسم الشعر — جديًّا — إلى النثر الشعري، على نحو ما حدث مع «تليماك» …

لم يكن قد حدث شيء من ذلك، فقد أعلن الكُتَّاب — بحماسٍ غامر — أنهم تخلصوا من «عبودية نظم الشعر» كما قال الحديثون،١٧ واندفعوا في إثر «فنيلون» ليكتبوا أشعارًا ملحميةً نثرية. سنجد قائمة بها، مع التعليق عليها، في أطروحة «ا. شيريل».١٨
وبدا من الممكن كسب المعركة — مقدمًا — ضد نظم الشعر، في قرن كان الشعراء «الكبار» يُدعون «روسو» و«لي فران دي بومبينيون» و«لوبران»، وحيث كان الشعر الفرنسي أسير إطار القواعد الضيقة، وقد تيبس من جرَّاء نزوعه إلى التجريد، وافتقر من تعلقه الشديد باللغة «السامية»، ولم يعد إلا شبحًا بلا لون، والمؤسف أن النثر الشعري استعار من الشعر — على وجه التحديد — كل ما يملك من الأنماط الاصطلاحية والأكثر زيفًا، من أجل شن الحرب عليه، الأسلوب المتسامي، والتوريات الأنيقة، والكليشيهات الفخيمة، والنتيجة: سيل من الإنتاج الغث مثل «جوزيف، قصيدة من تسعة أناشيد» من تأليف «بيتوبيه» (١٧٦٧م)، و«انكا Incas» التي قام «مورمونتيل» ﺑ «ضبط وزن نثرها الهادئ في أبياتٍ ومقاطع شعرية»١٩ (١٧٧٧م)، أو العمل الشهير ﻟ «الأب دي ريراك»: «ترتيلة إلى الشمس» (١٧٧٧م)، ضمن أعمال أخرى كثيرة، وندرك لماذا يعلن السويسري «ديشرني» باستياء — بعد أن استوعب «ترتيلة إلى الشمس، جوزيف والكون، قصيدة نثرية» — أنه «إذا ما كان الهذيان الشعري يمكن الكشف عنه في القصائد المزعومة، فإنه لهذيان ثلجي!»٢٠ وإذ هرب «فنيلون» إلى الطبيعي، والتنوع، والإيقاع السلس والمضبوط، وما أسماه ﺑ «الجليل العادي»،٢١ فلقد وقع منافسوه فريسة الخطابة والاستسهال، فلم يدركوا أنه لا يكفي — لإبداع أعمال شعرية — إلصاق الزخارف المصطنعة على النثر.

وترجع أهمية هذه المحاولات — مع ذلك — إلى أنها تظهر الفصل الذي حدث، في القرن الثامن عشر، بين الشعر والنظم: فقد أصبحت الأذهان والآذان مهيأةً — من الآن فصاعدًا — للبحث عن المتعة الشعرية في مكان غير الشعر المنظوم، ومع ذلك، فالترجمات — على نحو خاص — هي التي جعلت فكرة «شعر نثري» مألوفة للجمهور.

تأثير الترجمات

عندما أراد «الأب بريفو» إثبات عدم ضرورية القافية للشعر، قدَّم — كبرهان على ذلك — «نجاح عدد من الترجمات إلى النثر الشعري، التي نُقِلَت إلى لغتنا — دون مساعدة القافية — كل جماليات الشعر الأجنبي»، وأوضح أن «ترجمة الأب سانادون لقصائد «هوراس» الغنائية، وترجمة ميرابو لقصائد «تاس»، وترجمة سانت مور لقصائد «ميلتون»، يمكن اعتبارها قصائد فرنسية غير مقفاة»، «فهذه القصائد موزونة، رغم أن هذا الوزن غير منتظم.»٢٢ وهي ملاحظة ذات أهمية كبرى، فنحن نلمس هنا — في الواقع — واحدةً من أهم النقاط الأساسية لعملية «تفكيك النظم» عن الشعر، فقد بحث جمهور القرن الثامن عشر — في هذه الترجمات — عن إرضاء الطموحات الشعرية التي لم تجد ما يشبعها في التمارين الشكلية الخالصة لناظمي الشعر، ومارس الكُتَّاب الفرنسيون — عبر الترجمات — المحاولات الأولى في «قصائد النثر» المختلفة عن الرواية والقصيدة الملحمية.
لقد أظهرت الترجمة تلك الحقيقة (الجديدة آنذاك)، التي تكمن في أن القافية والوزن ليسا كل شيء في القصيدة، وأن اختيار الموضوع، والغنائية والصور وبناء القصيدة، وما سيسميه «بو» ﺑ «وحدة الانطباع» هي كلها عناصر قادرة على إثارة الصدمة الشعرية الغامضة، وبالقطع، فلا يحتاج الأمر إلى التأكيد على حقيقة أن الشكل — في القصيدة — ليس أمرًا ثانويًّا، بل هو رئيسي، ولكن، ألا نبالغ كثيرًا — رغم هذا — عندما نُرجِع كل شيء إلى الخصيصة الشكلية للكلمات والأصوات، وهل صحيح أن القصيدة لا تستطيع — في جميع الحالات — أن «ترتدي ثوب النثر دون أن تموت»، حسب نظرية «فاليري»؟٢٣ (وهو ما سيحكم على الغالبية العظمى من الناس بألا يتعرفوا أبدًا على شعر «إيدَّا Eddas» أو التوراة)، ألا يمكن أن نؤيد — على النقيض من ذلك — ومثلما فعل «ر. شواب» ببراعة، أن «وراء ترجمة الشعر، ثمة شعرية الترجمة»؟٢٤ إنه الإحساس بالانحراف، والاغتراب، وحتى بتنافر شكل ما يستخلص من «استدارة الأشكال المنظومة شعرًا»، ليصبح بذلك أكثر توترًا وحيوية، فثمة العديد من العناصر الشعرية التي تفسر نجاح «الترجمات الشعرية المستعارة» التي تبدت خلالها قصيدة النثر — فيما بين عام ١٧٨٠م وعام ١٨٢٠م — قريحةً شعريةً بالغة الخصوبة، مع ذلك، إلى حد استغلالها، من «مريميه» إلى «ب. لويس» و«فيكتور سيجالان».
وعلى أية حال، فإنها لحقيقة أظهرت كل دلالاتها ترجمات النثر في القرن الثامن عشر، فقد كان هناك الكثير من الشعر الحقيقي في «إيدَّا Eddas»٢٥ و«أوسيان Ossian»،٢٦ ولدى «يونج Young»٢٧ حتى رغم ترجمتهم إلى النثر الفرنسي، بأكثر مما كان موجودًا بكل «قصائد» كتاب القافية الفرنسيين آنذاك. ولهذا، فسأنحي جانبًا الترجمات النثرية الكثيرة التي قام بها — في هذا العصر — مؤلفون قدامى، فعلاوةً على أسلوبها الرديء، في كثير من الأحيان، وصياغتها الموغلة في التقليدية،٢٨ فهي تمثل مظهرًا أقل دلالة على الاتجاهات الجديدة في النثر.
ويسترعي الانتباه النجاح الكبير لترجمات المؤلفين الأجانب طوال النصف الثاني كله من هذا القرن، أولًا ترجمة «مالليه» (عام ١٧٥٦م) للحكايات الخرافية والقصائد الغنائية المستمدة من «إيدا» الاسكندينافية (وبشكل خاص «أنشودة رينيه الشهيرة»)،٢٩ التي اختصرها «مالليه» إلى عشرة مقاطع بدلًا من تسعة وعشرين، وسوف يستعيدها الكونت «تريسان» ويختصرها من جديد (أبريل ١٧٧٠م) في «مكتبة الروايات العالمية»، قبل أن تُمَد «شاتوبريان» بمادة قصيدته الشهيرة «بردى الأحرار Bardit des Francs»٣٠ في «الشهداء Martyrs». وسيلي ذلك ترجمة «تورجو» ﻟ «أوسيان» عام ١٧٦٠م، وترجمة «هوبير» و«تورجو» ﻟ «جيسنير Gessner» عام ١٧٦٢م، وترجمة «لي تورنير» ﻟ «يونج» عام ١٧٦٩م.٣١ وقد كُتِبَت جميع الترجمات نثرًا، ولم تأتِ الترجمات — أو بالأحرى المحاكاة — في شكل منظوم إلا فيما بعد.
وكثيرًا ما دار الحديث حول تأثير هذه الترجمات على الحساسية الفرنسية، وعلى تشكيل ما يسميه «فان تيغيم» ﺑ «مفهوم الشعر الحقيقي».٣٢ وكرد فعل على الهزال والزخرفية والخطابية — التي عاثت فسادًا في أشعار العصر — تم الهجوم على هذه النصوص، التي ساد الاعتقاد بالعثور فيها على القصيدة البدائية، والمشاعر العارمة والتلقائية، أما «إيدا» وأناشيد «أوسيان» — التي اعتُبِرَت، عن خطأ، أغنيات وحشيةً وبدائية٣٣ — فقد أعادت إلى الشعراء الفرنسيين حب الطبيعة والطبيعي.

لكن هذه الترجمات لعبت — في نفس الوقت — دورًا فعالًا في تجديد النثر الفرنسي، وهو ما أريد التأكيد عليه، وكان على «قصيدة النثر» أن تتوفر على اتجاه حاسم.

والملحوظة الأولى — وهي لا تخلو من الأهمية — أن أشهر المؤلفين الذين تم ترجمتهم آنئذٍ قد كتبوا نصوصهم الأصلية في نثر إيقاعي، (وهي حالة ماكفرسون وجيسنير)، وأشعار غير مقفاة (مثل يونج).٣٤ كان المترجم مدعوًّا — إذن — للبحث من جانبه، إخلاصًا لنموذجه، عن شكل آخر غير الشعر التقليدي، وآخر غير النثر البسيط،٣٥ وهي دعوة تمثل إغراءً لا يُقاوَم عندما يكون اسم المترجم «تورجو».
كان «تورجو»، الذي سبق أن ترجم «فرجيل» في «شعر موزون»، يهتم في الواقع، وبشكل خاص، بمسائل الشكل، وقد كرس دراسة مستفيضة لموضوع «النثر الموزون» عند «جيسنير»،٣٦ وحاول الحفاظ على هذا «الوزن» في ترجمته ﻟ «غزليات Idylles» (التي ظهرت عام ١٧٦٢م باسم «هوبير»).٣٧ لكنه — في ترجمته ﻟ «أوسيان»، واعتبارًا من عام ١٧٦٠م بشكل خاص — نجح في العثور على إيقاع العمل الأصلي.
وكانت المهمة هنا أسهل، فالإيقاع المتسارع والمتقطع ﻟ «ماكفرسون» يمكن المحافظة عليه بالفرنسية. فالسياقات المتنافرة، والتعاكسات inversions، والجناس والتقطيع المتعدد — أي كل ما كان الشعر غير قادر، تقريبًا، على المحافظة عليه — استطاع النثر، على النقيض، ترجمته بإخلاص كافٍ، ومن المدهش أن نكتشف أن «تورجو» و«سوار» — أول من ترجم «أوسيان»٣٨ — قد نجحا، رغم الصعوبات التي تسببت فيها لغة عصرهما، في أن يقدما فكرةً صائبةً، إلى حدٍّ ما، عن الإيقاع اللاهث والمتقد لماكفرسون، ولن أذكر سوى مثال واحد، وهو مقطع «أناشيد سيلما» الشهير، المتعلق بموت «أريندال» وأخته «دورا» (ترجمة «سوار» عام ١٧٦١م، في «جورنال اترانجيه»):
ترجمة النص الأصلي ترجمة الترجمة الفرنسية
انهضي، يا رياحَ الخريف، انهضي وهُبِّي انهضي يا رياح الخريف! واعصفي فوق المروج
على المرج! ويا سيولَ الجبال، اهدِري! المعتمة! ازبدي يا سيولَ الغابة! واهدري يا
واهدري يا عواصف في أحراش البلوط! أعاصير فوق قمم أشجار البلوط! ولتسافر أيها
ولتمضِ أيها القمر عبر الغيوم المتكسرة! القمر عبر الغيوم الممزقة! اكشف عن
اكشف عن وجهك الشاحب، بين حين وجهك الشاحب، بين حين وحين! ذَكِّرني
وحين! ذَكِّرني بالليلة التي هَوَى فيها أطفالي بالليلة الرهيبة التي قضى فيها أطفالي، حين هَوَى
جميعًا، عندما هوى أريندال القوي، عندما أريندال القوي، وانطفأت دورا الغالية!
هوت دورا الجميلة!
ولا شك أن الترجمة لم تحتفظ بالتكرار «انهضي-انهضي» و«هوى-هوى» و«اهدري-اهدري»، ولا بالجناس الصوتي للبدايات (حروف متحركة خفيضة وحروف ساكنة صاخبة: roar, groves, oaks, walk, through, broken)، ولم يقاوم «سوار» رغبته في إضافة بعض الصفات: روج معتمة، ليلة رهيبة، التي — رغم هذا — تتميز بالدقة، وتحافظ على السرعة اللاهثة، وعلى أساليب النص الإنجليزي التعجبية، ونستطيع أن نتصور أن صيغ الأمر العنيفة هذه، التي تتدفق بعنف، والاستدعاء الدرامي لمشهد وحشي يتناغم مع عاصفة المشاعر، قد بدت جديدةً على قراء نثر «فنيلون» المنساب والناعم، وسيقرأ «ويرذر» هذا المقطع إلى «شارلوت»،٣٩ وسيأتي على ذكره «شاتوبريان».

ومن الواضح أن أسلوبًا كهذا (ساد الاعتقاد بالعثور فيه على التدفق الوحشي لشعر بدائي) كان على النقيض من الأسلوب السلس، المنمق، المزدهر في هذا العصر، وقد أبرز «فان تيغيم» ذلك جيدًا:

لقد قدَّم نثر مترجمي «أوسيان» الأوائل — بشكل عام — الصرح الأهم، الذي يمكن وضعه كنقيض للشكل الشعري الذي يبحثون عن تجاوزه بوعي أو بغير وعي، فهو — بإيقاعه المتنافر، وأسلوبه الجديد، والجريء، وتفككه — يتناقض، تمامًا، مع نظم الشعر المصقول، ورشاقة الأسلوب المضبوطة، وانتظام التكوين.٤٠

والواقع أن هذه الترجمات لا تتناقض فحسب مع نظم الشعر، بل مع «النثر الشعري» للعصر، فيكفي أن نقارنها بالفترات المتكلفة لمقلدي «فنيلون»، ويمكننا القول إن ترجمات «تورجو» و«سوار» ذات أهمية تاريخية، وذلك في سياق تطور النثر الشعري أكثر من ترجمة «لي تورنو» ﻟ «أوسيان» عام ١٧٧٧م.

ومع ذلك، فيمكننا أن نتساءل عما إذا لم يكن مفيدًا — بالنسبة للمترجمين الأوائل — أنهم لم يتناولوا مجمل «الأعمال الكاملة» ﻟ «أوسيان» (فينجال: ستة أناشيد، تينورا: ثمانية أناشيد، مصحوبة بعشرين قصيدة أقل طولًا)، وإنما اكتفوا بترجمة ستة عشر «مقطعًا»، هي التي نشرها أولًا «ماكفرسون»، على ما يلاحظ «فان تيغيم»:
«إن طراز «أوسيان» لا يُحتَمَل، إطلاقًا، إلا في القصائد القصيرة شديدة البساطة، التي تكاد تخلو من الأحداث، والموزونة بصرامة، إنه طراز تجارب «ماكفرسون» الأولى.»٤١
وسيتخلى هذا المفهوم — نتيجةً لذلك — عن مكانه ﻟ «مفهوم متكلف للملحمة على غرار اﻟ «فينجال». ولكن عندما نُشِرَت «فينجال Fingal»، في ستة أناشيد لماكفرسون في إنجلترا (عام ١٧٦١م)، وفي فرنسا (عام ١٧٦٢م)، لم يترجم «سوار» اﻟ «فينجال»، وفضل نشر بعض الست عشرة قصيدة الأقصر، المصاحبة،٤٢ في «جورنال اترانجيه». وأخيرًا، فإن هذه القصائد الغنائية القصيرة — التي نُشِرَت في «جورنال اترانجيه» — هي التي عرَّفت القارئ بمؤلفات «ماكفرسون»، في مظهرها الأكثر تأثيرًا، والأكثر توفيقًا، وهي التي ما تزال — حتى اليوم — تثير فينا الانفعال الشعري، في حين أن النصوص الملحمية الكبرى، بفصولها المعقدة وإسهابها المضجر، تبدو مثل الجزء الميت من العمل.
وذلك ما يقودنا إلى ملحوظة ثانية: إن التفوق الشعري لهذه المقطوعات القصيرة والموزونة جيدًا — التي كان حضور الغنائية فيها أقوى من الحدث، والاستدعاءات أكثر من الوصف — كان من البداهة إلى حد أنها لم تنَلْ بعمق من مفهوم القصيدة الملحمية الكبرى، العاجزة — بسبب طولها نفسه — عن المحافظة على الوحدة والكثافة الشعريتين: «هومير الطيب، عندما كنت نائمًا».٤٣ والجدير بالملاحظة أن «ماليه» — وهو يترجم أشعار «إيدا» نثرًا — كان يختصرها عمومًا، وكان «لو تورنو» في تعديله (إلى أقصى حدٍّ، ربما) من «ليالي» يونج، يقدمها للقارئ الفرنسي بطريقة أكثر تقطيعًا، حيث كل «ليلة» إنجليزية تزوده بعدة «ليالٍ» فرنسية، وحتى خلال ترجمتهما للنصوص الملحمية، كان «تورجو» و«سوار» يحذفان الاستطرادات والأجزاء السردية، ولم يحتفظا إلا بالمقاطع الغنائية القصيرة أو الحادة في الدرامية، ليشكلا منها كُلًّا ووحدة إيحائية.٤٤ هذا الاختصار في التكوين، لا في الأسلوب وحده، هو الذي جعل هذه الترجمات تختلف جذريًّا عن اﻟ «روايات» واﻟ «ملاحم» المكتوبة بالنثر الشعري، التي لا تنتهي غالبًا، والمستفيضة دائمًا، وقد قال «سوار» عن «شكوى كولما»:٤٥

من الصعب العثور — في أية قصيدة — على لوحة مؤثرة إلى هذا الحد، تنحصر في مثل هذا الحيز الصغير، وتكون حركاتها أكثر تنوعًا، وأكثر سرعة، إنها دراما كاملة.

ولم يكن عبثًا بالتأكيد بالنسبة للمؤلفين الفرنسيين، أن يتعلَّموا السيطرة على دراما كاملة في الحيز الضيق لبضع صفحات، وأن يركزوا — على نحو كافٍ — نصًّا ما ليحافظوا على الوحدة والكثافة الشعريتين، والواقع أن أولى محاولات قصيدة النثر القيمة إنما ستخرج فيما بعد من «أوسان»: إنها الترجمات المستعارة لكل من «بارني» و«شاتوبريان» و«أوجين هوجو»، و«ميرميه»، مؤلف «جوزلا Guzla»، ألن يصبح هو أيضًا من المعجبين ﺑ «أوسيان»؟٤٦
وسيُقال كيف يحدث أن يُمارَس تأثير «أوسيان» ﺑ «أثر رجعي»، في حين أن نهاية القرن الثامن عشر قد شهدت تضاعف «الغزليات Idylles» النثرية، محاكاةً لجيسنير؟٤٧ ذلك تحديدًا لأن تطور اللغة الشعرية — الذي بدأته ترجمات «أوسيان» — كان عليه أن يتحدد بدقة، أولًا، وأن يرتكز على حركة تحرر ثقافي أوسع، وعلى عودة إلى الغنائية، وإذا ما كان النثر قد بدأ يصبح أداةً شعرية، فما كانت لساعة قصيدة النثر أن تدق إلا عندما ما تشترك معها القوى الجديدة تمامًا، والبالغة التعقيد.

تحرير اللغة والتجديد الشعري فيما قبل الرومانتيكية

حتى عام ١٧٦٠م، كان هناك نمطان من النثر: الخطابي، «الغزير»، الموروث من القرن السابع عشر، الذي طمع — بعد تليماك — في أن يصبح نثرًا «شعريًّا» من خلال إثراء نفسه بالنعوت، والتوريات، والصياغات المتجانسة، والنثر الوجيز، الرخيم أبدًا والذهني تمامًا، النثر الخالص في النهاية،٤٨ نثر «فولتير» و«مونتسكيو»، ومع «ديدرو» و«روسو»، سيشهد القرن الثامن عشر ميلاد «لغة العاطفة».٤٩
وبالنسبة ﻟ «ديدرو» (المترجم المتحمس هو أيضًا لمقاطع «أوسيان» الغنائية الأولى)،٥٠ فإن الإيقاع، وحركة العبارات، والصوتيات، ينبغي ألا تستجيب لقواعد خطابية متحذلقة، ولا أن تنتج «انسجامًا» شكليًّا صرفًا، بل لا بد أن تتوافق مع أكثر حركات الإنسان عمقًا، ونعلم أن الإيقاع بالنسبة له «مستلهم من الذوق الطبيعي، وحركة الروح، والحساسية. إنه صورة الروح نفسها …» وأيضًا، فإن «الانسجام الحقيقي لا يخاطب الأذن وحدها، بل الروح التي انبثق منها.»٥١
والكاتب القادر على توافقات كهذه، «سيد الأرواح المرهفة»،٥٢ ما كان ينبغي البحث عنه بعيدًا، ﻓ «هلوييز الجديدة Nouvelle Héloïse»، التي ظهرت عام ١٧٦١م، جددت الأدب، لا برومانتيكية موضوعاتها فحسب، بل بسحر التعبير الغنائي، ولم يعد هذا النثر الموسيقي يخاطب العقل وحده، بل يخاطب الحساسية، المتنوعة على انسجامها، الفاترة أو الحارة بالتناوب، قادرًا على استحضار مشهدٍ ما بنفس قدرته على الإيحاء بإحساسٍ ما، فهنا، ثمة «إعادة اكتشاف» للشعر الحقيقي، الذي يؤثر بطاقته الاستحضارية والإيحائية، ويحرك المناطق الأعمق في الروح. «كيف يمكن أن تكون شاعر نثر؟»، هكذا تساءل «روسو» في إحدى كراساته.٥٣
والشيء المذهل حقًّا هو أنه عبر طريق النثر، تمت العودة إلى أصول الشعر العميقة. «لقد عثرت مرحلة ما قبل الرومانتيكية الفرنسية على الشعر، لكنها لم تكن تملك الشعراء»، ذلك ما يرصده «ا. مونجلون».٥٤ أهو عجز عن نظم الشعر عند ممثليها الرئيسيين، «روسو» و«سينانكور» و«شاتوبريان»؟ إنه — بدون شك أيضًا — النفور من نُظُم الشعر الصارمة، والتعسفية، ومن القواعد بشكل عام، ولم يكن «ديدرو» الوحيد الذي أراد تحرير الإنسان النابغة من القيود التي تفرضها القواعد والأعراف الأدبية؛٥٥ فالفنان هو صرخة الإجماع، ولا ينبغي أن يتبع إلا الطبيعة، بالأحرى طبيعته هو.٥٦ ونصل — في كل المجالات — إلى مرحلة التمرد ضد المبادئ الاستبدادية.

فالكراهية لكل ما يعوق الفرد ويحدده هي وحدها التي ستقود الكاتب إلى رفض الانحصار داخل الحدود، مع الانغماس في أكثر أنواع الإلهام جنوحًا، والدفقات التي لا تنضب. ويكشف المظهر الفوضوي — الذي يبدو في حالة غليان أحيانًا، وإطناب أحيانًا أخرى — لأعمال «ديدرو» و«روسو» عن كراهيتهما الشديدة للإلزام، لكن هذا التكوين السقيم، وهذا الأسلوب الذي لا معيار له هما على طرفي نقيض من التلخيص والتوتر الدائم الذي تطالب به قصيدة النثر، فالشكل هنا شديد الانفتاح، بلا تخوم أو محيط لحدود معينة، وما الذي سيُقال عندئذٍ عن البلازما غير العضوية التي ستتكون داخل مكامن بعض «النفوس المرهفة»، المهيأة سلفًا للاستفاضات اللفظية …

وما يجب تسجيله، لصالح مؤلفي ما قبل الرومانتيكية، هو — في الواقع، وبشكل خاص — الذائقة الجديدة الشخصية للغنائية، وإعادة إدخال هذه اﻟ «أنا» في الأدب، وهو ما سيفضي إلى التخلي (النسبي) عن الرواية والملحمة، لصالح أنماط أكثر حميمية وأكثر غنائية، وسيسعى النثر إلى ترجمة حالات الروح، وأحلام اليقظة، والتأملات، بأكثر من سعيه إلى حكي الأحداث الجسام أو الروائية، وبقدر ما ستتكلم الروح — دون الانشغال بالقواعد الفنية، ولا بالمؤثرات الأدبية — بقدر ما سيجد النثر منابع شعرية كانت تبدو ناضبة.

من الروح ينسال الشعر — على ما يكتب «ا. مونجلون»٥٧ — بشكل طبيعي، ومن حيث لا يُبذَل أي جهد من أجل الوصول إليه، في خبيئة السير الذاتية، في كل كتب الرحلات والاعترافات، حيث تنعكس الانفعالات المعيشة، وأخيرًا في كافة الأنواع الأدبية التي تزدريها الكلاسيكية المستعارة، فظلت — بهذا الازدراء — حرة.
نشهد إذن هذه الظاهرة المزدوجة والمفارقة، فمن ناحية، يتواجد الشعر الحقيقي في الاعترافات، والمذكرات الشخصية، والمراسلات المكتوبة بلا ادعاءات أدبية، وبدون صياغة متعمدة، وهي التي لا يمكن اعتبارها بالتالي أشعارًا، ومن ناحية أخرى، ففي كل مرة يزعم الكاتب كتابة عمل فني، فإن طغيان القواعد «الشعرية»، والاصطلاحات الأسلوبية، يجمد أو يستنزف أي شعر، شعر بلا قصائد، وقصائد بلا شعر، ولن أقول في ذلك سوى بضع كلمات، طالما أن لا هذا ولا ذاك قد اقترب من نقطة الاتزان، التي سيمكن فيها أخيرًا بلورة قصيدة النثر الحقيقية.٥٨
وتميل الاعترافات والسير الذاتية — نظرًا لطولها — إلى الرواية أكثر من ميلها إلى قصيدة النثر، ويمكننا بالمقابل أن نقتطع من «المذكرات» مقاطع تتاخم القصيدة، في غنائيتها الداخلية، وتدفقها، وهو ما فعله «مونجلون» مع «يوميات» لوسيل لاريدون-دوبليسيس.٥٩ والإيجاز والطبيعة نادران — والحق يُقال — في حقبة اعتقد فيها أتباع «روسو» بأنهم ملزمون — حتى في أحلام يقظتهم الخاصة — بالحديث ﺑ «لغة العاطفة»، مع الإطناب والمبالغة: «أحلام يقظة» مانون فيليبون — مدام رولان فيما بعد — نموذج للأسلوب المتكلف، الذي يزيد من تكلفه آثار الأسلوب المتسامي المتشبه بالكلاسيكي، الذي سيربك لغة الشعر حتى المرحلة الرومانتيكية، وما الحديث في «أحلام يقظة غابة فنسين» إلا عن «التألق الشجي للزهور»، و«ظلال الغابات الضاحكة»، و«خرير الموج الجذاب …»٦٠ وتكشف رسائل «مانون» الشابة نفس الادعاء، ونفس انعدام الطبيعية.٦١
ومع ذلك، فيحدث أن يظهر الشعر في رسالة ما؛ لأنها تحديدًا أقل تكلفًا، فحدة الانفعال ترفع رسالة «دوس» حول موت ابنته٦٢ إلى مستوى الغنائية الحقيقية، وكذلك الرسالة الأخيرة التي بعثت بها «كاميل ديمولان»٦٣ من السجن، أو رسائل «روسو» الشعرية إلى السيدة «هوديتو»، والرواية «عبر المراسلات» نوع أنعشته «هلوييز الجديدة»، وأشاع في الأدب موجاتٍ من الغنائية والعاطفة، ألا تساهم رسائل «ورذير» (١٧٧٤م) — الموجزة في غالبيتها والمنغمة جيدًا، بل التي أحيانًا ما تشكل نوعًا من المقاطع٦٤ — في تقريب هذا النوع من قصيدة النثر؟ وسيستفيد «سينانكور» — عندما ينشر، عام ١٨٠٤م، رسائل «أوبرمان» المستعارة — من حريات نوع «بلا فن ولا حبكة»،٦٥ كي يعارض، بشدة، كليشيهات الأسلوب الكلاسيكي المستعار: «طلاء المروج، لازوردية السماوات، وصفاء المياه»،٦٦ وكي يقترح «تعبيرات يمكن أن تبدو جريئة»،٦٧ وصياغات تصويرية أو تعبيرية، جريئة شعريًّا بنفس جرأة تعبير «أصوات صامتة» للأشياء،٦٨ أو «اللحن العذب لأرض تشهد الغروب»:٦٩ هكذا يخترع «سينانكور» — أكثر من «روسو»، وربما بنفس قدر «شاتوبريان» — أسلوبًا رمزيًّا تمتزج فيه الأحاسيس، الواحد بالآخر، ويمتلئ بالانفعالات، حيث يمتزج العالم المادي بالعالم الروحي.٧٠ ونهج الفن هنا ليس سوى شكل لاعتقاد عميق في «انسجام عالم إلهي خفي في صورة عالم مرئي».٧١ وهكذا يساهم «سينانكور» في خلق أداة شعرية جديدة، سيستغل «شاتوبريان» إمكانياتها بعبقرية، أعني النثر الغنائي، الموسيقي، الإيحائي، لكن هذا النثر، الذي ينساب ويتدفق بحرية في التأملات وأحلام اليقظة،٧٢ والمراسلات، لم يعثر بعد على القالب الذي يُصَب فيه ليأخذ شكل القصيدة.
وها هو الآن الوجه الآخر، والمقابل، لهذا الشعر الذي لا يستطيع أن يأخذ شكل قصيدة منتظمة، إنها اﻟ «قصائد» التي لا تعدو أن تكون أشكالًا مفرغةً من كل شعور حقيقي، مثل القصائد النثرية الثلاث التي ألفها «لوسيل دي شاتوبريان» في كومبورج، بين عامي ١٧٧٦م و١٧٨٦م، والتي يقول «دي جورمون» عنها: «لا توجد هنا أية عبقرية، ولكن زخرفة مطرزة فحسب».٧٣ ورغم أن ذكرياتنا الأدبية عن الشعر تمجد هذا «الجمال المميز المنزوي، العبقري، والبائس»،٧٤ فإننا لا نستطيع — على وجه الإطلاق — التأثر بهذه المقطوعات البالغة القصر، ذات الكمال الشكلي تمامًا، حيث البرودة الكلاسيكية المستعارة للأسلوب تجمد الإلهام بتلك اللفتات «إلى القمر»، و«الربَّة العفيفة»، النقية «إلى حد أن ورد الحياء» لا يمتزج بأنوارها، ونحتاج إلى عيني «رينيه» كي نرى في هذه الصفحات — بالإضافة إلى «الأناقة، والطلاوة، وأحلام اليقظة» — «حساسية فاتنة».
ونشهد نفس الفشل في المقطوعات الأكثر إحكامًا في هذا الديوان الغريب، المختلط بالمقالات واﻟ «قصائد»، وبتأملات حول أكثر الموضوعات تنوعًا، إلى حد أن أسماه «سباستيان مرسييه» بسخرية «قبعتي الليلية».٧٥ فالشعر يهرب منه بقدر سعيه إليه، وهو — مع ذلك — غائب في تورياته، على طريقة «دوليل»،٧٦ كما في تنبؤاته المهيبة، ويستنتج «إي. اجلي» — الذي درس قصيدة «أسى»، بعد أن يشير إلى أن بعض الموضوعات إنما هي موضوعات رومانتيكية سيمنحها الشهرة «شاتوبريان» و«لامارتين» — أن «هذه الصفحات، عند مقارنتها باﻟ «تأملات»، تبدو ذات إثارة مفتعلة نوعًا ما، ولفظية بشكل خاص».٧٧ وسيتم تفضيل «ليلية nocturne» له بعنوان «من الريف De la Campagne»،٧٨ حيث يستدعي «مرسييه» — بتوفيق مؤكد — «الشعور الشهواني لحلم يقظة غير محدد» على حافة بحيرة، لكن «سباستيان مرسييه» يستحق التنويه باعتباره رائدًا في تاريخ النثر، في قصائد أخرى: أولًا، لأنه قدم — منذ ١٧٦٨م — في «أحلام ورؤى فلسفية» (التي جُمِعَت معظمها في «قبعتي الليلية») نماذج ﻟ «رؤى» قيامية، قابلة لتوجيه النثر نحو أسلوب معين من الفانتازيا الشعرية، على نحو ما سنجده في «الأحلام» ﻟ «جان بول»، وفيما بعد، في فرنسا، عند نودييه» و«رابيه» و«لامنيه» (ولن نذكر الشعر العروضي، وتأثير «مرسييه» المرجَّح على «هوجو»).٧٩ وفيما بعد، أعلن بقوة في مقدمة «توليدات Néologie» عن الآفاق التي يمكن أن تُفتَح أمام النثر إذا ما تجرأ على التخلص من قيوده:٨٠

النثر ملكنا، ومسعاه حر، وعلينا أن نرسخ له سمات أكثر حيوية. إن كُتَّاب النثر هم شعراؤنا الحقيقيون، عليهم بالجرأة، وستحصل اللغة على قوة تعبير جديدة تمامًا.

ويبدو أن «مرسييه» — العاجز عن تحرير اللغة بنفسه — يدعو كُتَّاب النثر إلى التمرد على «الأساليب اللغوية الخاصة والتقليدية»، التي يعتقد ناظمو الشعر أنهم مجبرون على الحديث بها،٨١ والتي عانى بنفسه من ضروراتها.
ولم يكن طراز «الترتيلة» — التي كانت وقتئذٍ في أوج ازدهارها — هو الذي سيقود إلى التجديد المطلوب: «ترتيلة إلى الربيع» من تأليف «مرسييه» نفسه، و«ترتيلة إلى الشمس» من تأليف «الأب ريراك»، التي أدى نجاحها إلى انتشار عدة قصائد على نفس النسق،٨٢ «تراتيل» انتشرت هنا وهناك، في «انكا Incas» مارمونتيل، وفيما بعد في «الناتشيز» ﻟ «شاتوبريان». كم من القصائد المتكلفة، التي لا تخرج — على وجه الإطلاق — من إطار النقل، سواء باستلهام «تراتيل» «أوسيان» (إلى الشمس، إلى القمر)، أو «تراتيل» العصور القديمة، هذا الطراز من «القصائد» يظل — أكثر من السابقين — نمطًا جامدًا، كُتُبِيًّا، حيث تمنع اللغة الكلاسيكية المستعارة، وتقاليد الأسلوب المتعالي، أية انطلاقة، وأية تلقائية.
ولنعترف — فضلًا عن ذلك — بأن اﻟ «غزليات» واﻟ «قصائد الرعوية Bergeries» النثرية، المستوحاة من «جيسنير»،٨٣ مصطنعة تمامًا: «رعاة» من تريانون، لغتهم باهتة، مثل حساسيتهم الزائفة.
وعلى وجه الإجمال، فإن الفائدة الرئيسية لكل هذه الكتابات هي التأكيد على الشهرة المتزايدة لمقطوعة النثر القصيرة، التي تعالج موضوعًا محددًا، وفي فترات أخرى، وبدلًا من استخدام النثر «المزخرف»، كان الشعر هو الذي يتناول موضوعات الربيع أو البراءة، ومن المفيد أيضًا الإشارة إلى بدء الانفصال عن القصيدة الملحمية الكبرى («فينلون» نفسه سيحكم عليه «الأب بارتيليمي» بأنه «مطنب» و«ممل حتى الموت»، كما تقول «مدام ديفان»)،٨٤ التي ستفضل له المقطوعات القصيرة، والأجزاء اﻟ «عابرة»: ذائقة ليس غريبًا معها نجاح «مقطوعات» «أوسيان»،٨٥ وأيضًا انتشار جرائد ودواوين المنوعات، ويذكر «سباستيان مرسييه» أنه «لم يعد في باريس تقريبًا من يقرأ مؤلَّفًا يتكون من أكثر من جزأين»،٨٦ حيث تتم قراءة أو إعادة قراءة مقاطع من «أوسيان»، أعاد «سوار» طباعتها في «منوعات أدبية» عام ١٧٦٨م، أو «روزنامة ربات الشعر» و«غزليات» التي تحاكي «جيسنير»، وأن تكون هذه المقاطع القصيرة — في غالب الأحيان — ترجماتٍ أو محاكاة، لهو أمر ذو دلالة.

الترجمة المستعارة وقصيدة النثر

والواقع أن المترجمين هم أول من ألح على ضرورة تحرير اللغة الشعرية، ومنحها مزيدًا من التنوع والتصوير، ويفسر «جيسنير» — خلال ترجمته «الجرة المحطَّمة» ﻟ «هوبير» — لماذا فضل «استخدام الكلمة الملائمة» — أي «جرة» وليس «كأسًا» أو «وعاءً» — بدلًا من «كلمة رفيعة، وإن تكن مبهمة، تتنافى والمعنى».٨٧ وتحفل «المنوعات الأدبية» ﻟ «سوار» بالشكوى من العقبات التي تفرضها تقاليد اللغة «الشعرية» الفرنسية في الترجمة، فالفرنسيون «يملئون — بالمصطلحات المجردة والجافة والبكماء — لغة لا تقبل إلا التعبيرات التصويرية والرنانة» (أي الشعر).٨٨ فكيف يمكن أن ننقل، إلى اللغة الفرنسية، التعبيرات الخارجة على المألوف، وصور «يونج» الجريئة؟ يتساءل مترجمه «بيسي»:٨٩ «إن لغتنا لا تحتمل مسموحات كهذه، ورغم هذا كيف نعبر عن الأفكار الرفيعة عندما يكون الأسلوب مكبلًا بالسلاسل؟» لكن، يمكن أن نجيب — على وجه التحديد — بأن المترجم يتمتع بحرية نسبية، فنحن نعاني من خشونة الأسلوب، ونقص التحولات والتعبيرات التصويرية أو الواقعية، عندما نستخدمه لحساب شعر بدائي، أو — على الأقل — أجنبي.٩٠ ماذا أقول؟ إنهم يستمتعون بهذا الأسلوب المتقطع، والصياغات الشاذة، باعتبارها «يخنة» كثيرة التوابل، غرائبية، وهو ما يوضح لنا سلفًا لماذا اتخذت محاولات «قصائد النثر» الأولى المقبولة — كلها، بدون استثناء — شكل الترجمات المستعارة، إن مصطلح «ترجمة» أصبح ذريعة من نوع ما لجرأة المؤلف، وكي يضيف إلى أصالة الإيقاع والأسلوب بهاراتٍ غرائبية.
ومن الطبيعي تمامًا — من ناحية أخرى — أن يكون الكُتَّاب — في بحثهم عن بِناء معماري، وعن شكل راسخ يسيطر على هذا النثر الشعري، المهيأ دائمًا لإراقة أمواجه — قد فكروا، في البدء، في استعارة الأشكال المقطعية للشعر الموزون: فعادة الترجمة كان لا بد أن تقودهم إلى تبني هذا الحل البديهي، ويكفي أن نحل كلمة «تقليد» محل كلمة «ترجمة»، وأن نتبنى التناظر في المقاطع، مع التماثل، والإيقاع، واللازمة التي تتبقى من قصيدةٍ ما إن تترجم، فتحافظ على وحدتها البنيوية، حينئذٍ، ندلف في طريق سيقودنا رأسًا إلى الأناشيد الغنائية Ballades ﻟ «آلويزيوس برتران».
وهذه «التراتيل»، التي شددت على نواياها الشعرية، وهي تنتحل الترجمة،٩١ أو تقليد الأغاني المقطعية، كانت تتبنى — بطبيعة الحال — التقسيم إلى مقاطع، وفي «ترتيلة إلى الموت» (أحد أناشيد «انكا»)،٩٢ يشكل «الترديد» الإيقاعي لتعبير (موت، مميت) — في نهاية كل مقطع — نوعًا من اللازمة الهامة للمعنى ولوحدة القصيدة، ورغم هذا، فإن لغة الهنود المنتحلة، الباردة والمجردة، وإساءة استخدام «الشعر داخل النثر»، بالتعارض مع مبادئ «مارمونتيل»٩٣ نفسه، تترك لدينا انطباعًا أليمًا بالافتعال، وسنجد مزيدًا من الفن والتصوير في «ترتيلة إلى الموت» الواردة في «الناتشيز»، حيث يتذكر «شاتوبريان» — رغم هذا — اﻟ «انكا»، وبشكل خاص «ترتيلة إلى القمر» (التي تدين بالكثير إلى «أوسيان»).٩٤ ورغم كل شيء، فطراز «الترتيلة» مثقل بشدة بعبء ديونه للماضي «الكتابي»، وللذكريات العتيقة، من أجل أن يصبح — في اللغة الفرنسية — شكلًا أدبيًّا أصيلًا.٩٥
وثمة أصالة أكبر في الإيقاع وفي صور الشعر الذي يتخذ هيئة «الآيات versets»، المستلهم من «الكتابة»، فشعر التوراة الإيقاعي، غير الموزون، الذي استحسنه «فينلون»،٩٦ وعلق عليه «بوشو»،٩٧ قد تمت محاكاته لحسن الحظ، على سبيل المثال، في «الكتاب الذي نجا من الطوفان» ﻟ «سيلفان مارشال»٩٨ (مؤلف «روايات» محدودة الخيال حتى ذلك الحين):٩٩
– وجدتُ جمالًا أكثر مما وجدتُ من البراءة، بين بنات البشر.
– إنهن يُغَنِّين برهافة، لكن لا يتحدثن إطلاقًا بحكمة.
– إنهن يرقصن مع الإيقاع، لكن لا يعرفن إطلاقًا السير مستقيمات.١٠٠

فالإيجاز، وروعة الصور، ومؤثرات «التوازيات»، تجعل من هذه المزامير معارضات، بلا جدال، لكنها لا تقدم النكهة الخاصة.

وكان لا بد — رغم ذلك — من الوصول إلى «الأغاني المالاجاشية Madécasse» الاثنتي عشرة، التي نشرها «بارني» عام ١٧٨٧م، لنشهد ظهور صيغة شعرية أصيلة. ولا شك أن ذكرى «أوسيان» قد ساهمت — ومعها ذكرى أغنيات أهل جزيرة بوردون، التي وُلِدَ فيها «بارني»١٠١ — فيما نجده من سعي الأسلوب إلى تصويرية معينة، وتفاصيل مميزة، وتعبير مفاجئ أو إيجازي، ولا يخشى «بارني» تنويع إيقاع العبارات حسب الشعور أو الفكرة المراد التعبير عنها، وكل من هذه القصائد الصغيرة (بعضها يأخذ شكل الحوارية والآخر يتكون من مقاطع، وبعضها مختصر للغاية) تتمتع بطابعها الخاص، وبوحدتها، ها نحن الآن أقرب ما نكون من قصيدة النثر الحقيقية، طالما أن الترجمة المستعارة يمكنها دائمًا أن تُظهِر، تحت قناعها، الوجه العاري للشِّعر الأصلي.

وسنلاحظ في القصيدة التالية الإيجاز، والتصويرية، وبساطة الأسلوب، وأيضًا وحدة البنية، والمقطع الأخير يستعيد الأول، ويختتم الأغنية.

الأغنية الثامنة

كم هو عذب النوم، خلال الحر، تحت شجرةٍ كثيفة، وانتظار أن تأتي لنا ريحُ المساء بالنداوة.
أيتها النساءُ اقتربن. وفيما أستريح هنا تحت شجرةٍ كثيفة، أفعمن أُذنَيَّ بنغماتكن المديدة: أعِدن أغنيةَ الفتاةِ عندما تجدلُ أصابعُها الضفيرة، أو عندما تطرد — وهي جالسة بجوار الأرز — العصافيرَ الشرهة.
فالغناءُ يبهجُ روحي، والرقص — بالنسبة لي — في نفس رقة القبلة تقريبًا، فلتكن خطواتُكن وانيةً، وحاكين أوضاعَ المتعةِ والانغماسِ في البهجة.
رياحُ المساء تقومُ، والقمر يبدأ في التألق، عبر أشجار الجبال، فلتذهبن، وأعددن الطعام.
ويستخدم «بارني» بنجاح تأثير اللازمة، أو اللوازم الغنائية، المستمدة من الأغنية الشعبية (وهكذا في النشيد الأخير، المكون من ستة مقاطع تنتهي كلها بالعودة إلى نفس الهتاف: «ناهاندوف، آه أيتها الجميلة، ناهاندوف!»)١٠٢ وبدلًا من الترتيلة الملحمية، والإطناب، يكون «بارني» أو من أدخل الأغنية ذات المقاطع، ببنائها، وإيقاعها، وتصويريتها الخاصة،١٠٣ وبذلك، يظهر كرائد قبل «شاتوبريان» و«أغانيه الهندية» بفترة طويلة.

قصيدة النثر في بداية القرن التاسع عشر

من شاتوبريان إلى الرومانتيكية
ورغم هذا، فقد ساهم «شاتوبريان»، أكثر من الآخرين — نظرًا لتوهج عبقريته — في تطوير القصيدة، أو — بالأحرى — أغنية النثر، ولن أذكر هنا أية أساليب استخدمها كي يجعل من النثر أداةً شعريةً جديدة، ذات توافقات لم نسمع بها حتى الآن، لكني أود الإشارة — أولًا — إلى أنه لم يكن قد اعتبر نفسه — أبدًا — مؤلف «قصائد نثرية»،١٠٤ فقد أبدى — في معظم الأحيان — نزوعًا غريبًا لجمع الانطباعات أو التفاصيل الوصفية في «مقاطع» حقيقية، ذلك التكوين الموجز الذي ينتهي إلى شذرات تشكل كُلًّا (بمقدورنا إعطاؤه عنوانين: الربيع في بريتاني، وابتهال إلى سينتي)؛١٠٥ وتقترب من قصيدة النثر، ومع ذلك، فقد عاتب «سانت-بوف» «شاتوبريان» على التأليف ﺑ «الصفحات»، وممارسة «نظام القطع الجميلة»، التي يوزعها — بلا تمييز — هنا أو هناك.١٠٦ وحقيقة أن «شاتوبريان» قد نشر قصيدته «ربيع في بريتاني» مستقلةً في «الحوليات الرومانتيكية» — وهي بالتأكيد عمل بارع — تجعل «سانت-بوف» محقًّا إلى حدٍّ ما.١٠٧
ورغم هذا، فإن «أغنيات هندية» ﻟ «أتالا Atala» هي التي بشرت — سلفًا، وبشكل خاص — بتكوين وإيقاع قصيدة النثر، كما سيصوغها «آلويزيوس برتران». ومثل أسلافه، يتذكر «شاتوبريان» «أوسيان» والتوراة، لكننا نظن أن هذه المقاطع الموجزة — بمؤثرات التكرارات واللوازم الغنائية — تدين بالكثير للأناشيد، والأغاني العاطفية الشعبية، المقروءة في عصر الترجمات في العديد من الجرائد، والتي كان «شاتوبريان» يؤثرها دائمًا.١٠٨ وتقدم أغنيتا «أتالا» الهنديتان (أغنية حُب المحارب، وأغنية أتالا الهاربة)١٠٩ أسلوبين استُخدِما منذ زمن بعيد جدًّا في الأغنية (وحتى في المزامير والتوراة، من قبل!):١١٠ الأول، تكرار الجملة الأولى في نهاية النص بطريقة «تغلق» القصيدة، وتوفر لها ما سأسميه وحدةً «دائرية cyclique» متعارضة مع السير المستقيم أبدًا للنثر. هذه «العودة الأبدية» هي، في الواقع، من خصائص الشعر الذي يُغَنَّى بشكل خاص، والأسلوب الثاني هو اللازمة الغنائية، التي تعود بين كل المقاطع، فتمنح الأغنية وحدة الانطباع، وذلك بذكر مباهج البيت: (سعداء هم مَن لم يشاهدوا أبدًا دخان الأعياد من الخارج، والذين لم يجلسوا إلا في مآدب آبائهم!).
وستُتاح لنا الفرصة لنتحدث عن التأثير الذي مارسته هذه الأناشيد الهندية على «آلويزيوس برتران»، إضافةً إلى «بردِي الأحرار» الشهير ﻟ «شاتوبريان»، الذي استطاع فيه — باستلهام أغنية «رينير لود بروج» الاسكندينافية — أن يركزها، ويختصرها إلى الموضوعات الأساسية، ويمنحها إيقاعًا فعَّالًا ووحشيًّا.١١١ فأية قيمة حقيقية نستطيع أن نعزوها إلى هذه الاقتباسات؟ ينفي «بيوس سرفيان» — الذي درس، عن كثب، نثر «أتالا» — أية قيمة شعرية عن «الأغنيات» الهندية، بسبب القيود التي يفرضها الإيقاع الطبيعي للكاتب، والبحث عن «التصويري»، وعن «الطابع الخاص»،١١٢ ويطرح رفضه لقصائد «برتران» و«بودلير» النثرية، بحجة أنه يمكن تشبيهها بهذه «الأناشيد».١١٣ مبالغة مزدوجة، كما يبدو، فإذا ما كان حقيقيًّا أن جهد التقليد يسير — في أغلب الأحيان — في اتجاه معاكس للعملية الشعرية، فلا نستطيع أن نطرح التلقائية وغياب المتطلبات (الفنية) كقاعدة مطلقة: إن إحكام الشكل، والسيطرة الفنية، وتقنية «القصيدة القصيرة»، هو ما يثير اهتمامنا هنا، حتى لو أدى ذلك إلى بعض الافتعال في الأسلوب، ومن ناحية أخرى، يصعب التأكيد على أنه ما من قصيدة نثر، بحكم تكوينها من مقاطع، لا تنطوي على قيمة شعرية، سيكون دور «برتران» — بالتحديد — هو تخليص قصيدة النثر من متطلبات التقليد أو المعارضات، ومنحها نفس أصالة وخصائص قصيدة النظم.

لكن الوقت لم يحِنْ بعد، وسنشهد — على النقيض — كيف يسير، في أعقاب «شاتوبريان»، عدد لا بأس به من المقلدين، فكل من لم يعد يرغب في الشعر الكلاسيكي، ولا يملك ما يكفي من الأصالة ليخلق شكلًا خاصًّا به، سيستعير الإطار المريح للترجمة المستترة، ليغير بالنثر صياغات وإيقاعات قادرة على المنافسة الظافرة مع تلك الخاصة بالبحر السكندري، ومحاولات كهذه — تفتقر إلى الأصالة — تثبت، على أية حال، أن هناك جهدًا متواصلًا — منذ بداية القرن، حتى الرومانتيكية — لتجديد الشكل الشعري.

والحق أنه في السهل الأدبي الكئيب، الذي يمتد من عام ١٨٠٠م إلى عام ١٨٢٠م، لا يظهر سوى عدد محدود من الشعراء، ومن الشعر إلى النثر، لم يعد هناك ما يُقال إلا عن الشعر المنظوم، غير أن مبدأ مقطوعة النثر القصيرة، ذات المزاعم «الشعرية»، قد أصبح مسلَّمًا به، على نحو ما يثبته ميلاد «روزنامة النثريين»، التي ستنشر سنويًّا — من عام ١٨٠١م إلى عام ١٨٠٩م — «عددًا لا بأس به من القطع النثرية الخفيفة»، ذات طراز مماثل للمقطوعات الشعرية المنظومة، المنشورة في «روزنامة ربات الشعر»، حيث يقدم النثر نفسه باعتباره نظيرًا للشعر: «أليس النثر شقيق الشعر؟».١١٤ ترجمات وتقليدات، وترجمات مستعارة، تزدهر فيها،١١٥ أما الباقي، فخرافات مأثورة، وصور رمزية وحكايات خرافية، تواصل — لسوء الحظ — التقاليد شبه الكلاسيكية، وتستعير من الشعر لغته الأكثر تقليدية، وزخارفه الأكثر ذبولًا، ولكن، كم سيكون من الصعب التحرر — إذن — من مثل هذا الأسلوب: «النفس المُتَّقد لكلب «برو كريس» المشتعل لم يعد يجفف عشب السهل، ولا مثوى الأسماك الفاسد».١١٦ أما أن نرى — في هذه القصائد الزائفة — ما هي عليه فعلًا، فهو ما يعني الكثير من الطُّرف الفارغة والطنطنة الصوتية!
وفي نفس الحقبة، تجيء «مدام دوستايل» بالماء إلى الطاحونة، فتؤكد على إمكانيات النثر المتعددة،١١٧ وتعلن أن «أفضل شعرائنا الغنائيين في فرنسا هم ربما ناثرونا الكبار، بوسويه وباسكال وفينلون وبيفون وجان جاك».١١٨ أما الإيضاحات التي تقدمها — في «أناشيد كورين»١١٩ — لنظرية النثر «المتجانس»، و«لغة الانفعالات التي يستدعيها العباقرة»،١٢٠ فتؤدي بنا إلى الابتعاد بما يكفي عن الموضوع، فكورين تتحدث في «ارتجالاتها» بلغة الخطيب المتصنع، حيث الأيديولوجيا والتشدق بالكلام لا يتركان إلا حيزًا ضئيلًا للغنائية والعاطفة.
وفي «بلاد الغال» ﻟ «مارشينجي»،١٢١ نجد بعض محاولات — في الأناشيد أو البردى bardit النثري — تستلهم بشكل ظاهر «شاتوبريان»: هكذا في «العهد الأول»، و«أغنية غالية» (السرد الأول)، و«أغنية الشعراء البطوليين» (السرد الثاني)، و«بردِي الأحرار» (السرد الثالث)، و«نشيد دنماركي»، الذي يستعيد مرة أخرى بضعة موضوعات من «أغنية» رينير لودبروج (السرد السادس)، و«أغنية الخطوبة» (السرد العاشر). ويستخدم «مارشينجي» — بعد «شاتوبريان» — الترتيب في مقاطع، واللوازم الغنائية (في «أغنية الشعراء البطوليين»، تتكرر في نهاية كل مقطع لازمة: «محاربونا شربوا من الكأس الدامية، وتلقى حجر «توتاتي» قَسمَهم»)، وإعادة العبارات (التي تكرر الجملة الأولى في النهاية، في شكل كورس، في «أغنية الخطوبة»). وربما يكون نجاحه في محاولاته في «الأناشيد» المنغَّمة والتصويرية أكبر من نجاحه في «نثره الشعري»، ذلك النوع الذي سيصبح، بالنسبة ﻟ «فيكتور هوجو»، رمزًا بغيضًا:
خُذ حذرك من مارشينجي! فالنثر الشعري هو أخدود يرقد فيه العجوز «بيجاز» الضامر … تظن نفسك آريل لكنك لست إلا فستريس.١٢٢
ويمكننا أن نفضِّل على «ارتجالات» كورين التفخيمية، و«أناشيد» مارشينجي المتكلفة نوعًا ما، «شظايا» بالانش التي كتبها عام ١٨٠٨م: فنحن نستشعر مجيء غنائية أكثر حميمية، وأكثر بساطة، لدى قراءتنا لهذه التأملات حول الحياة، والمعاناة، وكآبة المصير الإنساني («في الأرض ما يشبه أنينًا طويلًا يزحف من جيل إلى جيل، منذ أول الفانين وصولًا إلينا نحن»)،١٢٣ حيث تخترقها دائمًا نبرة البوح الشخصي (كتب «بالانش» «شظايا» إثر خيبة أمل عاطفية): «لو أن هذه «الشظايا الثماني» كانت مكتوبةً بالشعر، بدلًا من النثر — هكذا كتب «سانت-بوف» — لأذهل بالانش لامارتين في إبداعه لقصيدة الرثاء التأملي».١٢٤ ويمكننا أن نضيف أن أول «شظية» من هذه «الشظايا» — رغم أن موضوعها ليس جديدًا تمامًا١٢٥ — تشهد على إرادة فنية، تنعكس في تقسيمها إلى عشرة مقاطع شعرية، وتكرارها للتعبيرات:

لماذا تأتين، يا نسمة الربيع، وتهمسين في أذنيَّ بتحية الصباح النهارية؟ تأتين لي حقًّا بأريج الزهور الرقيق، لكنك نسيتِ أوهام المستقبل الضاحكة، لقد عرفتُ أن السعادة نبتٌ، ينمو في حقول السماء، ولا يمكنه أن يتأقلم على الأرض، فدعيني، يا نسمةَ الربيع.

لقد بدا النثر — في هذه الحقبة — اللغة الوحيدة الممكنة للبوح والرثاء، فقد أصبح الشعر الكلاسيكي العظيم — على نحو مؤكد — شكلًا طنانًا وجامدًا، صالحًا للشعراء الرسميين (ليبران وسوميه وباؤور لورميان)، ومعه أُبهة الملحمة، التي ستهزمها أول هجمة رومانتيكية.

فجر الرومانتيكية وقصيدة النثر

تكشف الرومانتيكية الوليدة — في بحثها عن شكل أكثر ملاءمة مع الطموحات الجديدة — عن اتجاهين: فمن ناحية، ثمة ميل ما دائمًا ما يتزايد إلى الآداب الأجنبية، وخاصة «الأناشيد» واﻟ «ليد lied،»١٢٦ والأناشيد الغنائية الشعبية، التي تعددت ترجماتها، وثمة — من ناحية أخرى — رغبةٌ ثورية، يتزايد تحديدها، تتعلق بشكل الشعر ولغته، يقود الاتجاه الأول — عبر الترجمة والتقليد — إلى الأناشيد الغنائية ballades في نثر منغم، وسيقود الثاني إلى تغيير اللغة، وإلى وضع قبعة حمراء على القاموس القديم، وأيضًا إلى تحطيم الأُطر الجامدة للبحر السكندري، في هجمة ظافرة.
وبفضل الفولكلور الذي توافد إلينا عبر الترجمات، نفثت حياة جديدة في الشعر الفرنسي، الذي أصابته النزعة الأكاديمية بالأنيميا؛ إذ تتواصل — عام ١٨١٩م — «المختارات العربية» ﻟ «هومبير»، وعام ١٨٢٢م «الأغاني العاطفية التاريخية» (وفقًا للرومانسيرو الإسباني) ﻟ «أبيل هوجو»، وفي ١٨٢٤م «الأناشيد الشعبية لليونان الحديثة» ﻟ «فورييل»، وفي ١٨٢٥م «الأناشيد الغنائية والأساطير والأناشيد الشعبية لإنجلترا واسكتلندا» ﻟ «فردينان فلوكون»، إحصاء غير مكتمل …١٢٧ وهذه الأغاني والأغاني الشعبية الغنائية،١٢٨ بمقاطعها ولازماتها، وإيقاعها المتميز، وأيضًا بلغتها الحية التصويرية والمجازية، هي النماذج التي ستستلهمها قصيدة النثر في بداياتها، ولأن جميع هذه الترجمات مكتوبة نثرًا: فكيف يمكن أن يستفيد الشعر الكلاسيكي، بزخرفاته ونقوشه، من ترجمة أناشيد يونانية، غالية، بسيطة أو بدائية؟
وأول مجلة أدارها رومانتيكيو المستقبل كان اسمها — ولسخرية الأشياء — «لو كونسرفاتور Le Conservateur — المحافظ». والحق أن نظريات الأخوة «هوجو» — السياسية وحتى الأدبية — لم تكن تنطوي على أي شيء ثوري بعد، وعدد الترجمات أو الاقتباسات إلى النثر، هو بالتحديد الذي يكشف عن الجهد المبذول لتجديد وإنعاش الموضوعات والأشكال الشعرية، وإذا ما كان هؤلاء الشبان — على ما كتب «ج. مارسان» — «لا يرتبطون بنظريةٍ ما، فإننا نشعر، على نحو عجيب، بما ينفرون منه: السطحية في كافة أشكالها، والتبجيل المتحذلق، والخطابية التي عفى عليها الزمن — المنتمية لمدرسة الإمبراطورية — بعلامات تعجبها، واستعاراتها، وشطحها المتحجر، و«أغاريدها الرخيمة …».١٢٩ وهم لا يملكون أيضًا إلا التهكم على «روزنامة ربات الشعر»١٣٠ البالية، وكل حماستهم موجهة إلى شعر «أوسيان» الذي يضعونه في عداد أكبر شعراء الملاحم.١٣١ وسنرى «أوجين هوجو» يستلهم «أوسيان» ليكتب «مبارزة على حافة الكارثة» نثرًا، مدعيًا أنها قصيدة إرسية Erse: فعالية وإيجاز، وصوتيات، مثلما هي المشاعر التي عبر عنها، والتي تميز هذه القصيدة التي رأى فيها «سانت-بوف» «رمزًا لمصير كئيب».١٣٢ وقدم مساهم آخر — «ل. ث. ب (ليسييه)» إلى «لو كونسرفاتور»، اعتبارًا من مايو ١٨٢٠م — ترجمات واقتباسات تتألف، هي الأخرى، من مقاطع: «الهولان Le Hulan» المقتبسة عن البولندية، و«الفندي والمسافر Le Vendéen et Le Voyageur»، وهي حوارية تقلد عالم بريتون الواطئة، و«مقبرة لوبان» … إلخ.١٣٣ ورغم أنه فشل جزئيًّا في بحثه عن الطابع المحلي، وتخلص بصعوبة من المفردات «الشعرية» لذلك الزمن («برونز معابدنا»، «مصير كئيب»، «حماسة ورعة»)، فثمة — على الأقل — جهد البناء والاختصار في مقاطعه، ونهاية «الهولان» ذات إيجاز دال:

ألقى بجسده في نهر مجاور، وفي اليوم التالي، منذ فجر اليوم، عندما علم الأصدقاء بمصيره الحزين، بحثوا عنه بحماسة ورعة، لكن النهر — خلال الليل — كان قد تابع مجراه نحو البلطيق.

وقد تمثلت الاتجاهات الجديدة في «ربة الشعر الفرنسية Muse Française»، التي أعقبت «لو كونسرفاتور»، وأصبحت «مقر قيادة الرومانتيكيين».١٣٤ وفي ١٨٢٢م، يطلب «أ. ديشام» — «المساهم المنتظم الوحيد، والمدير الحقيقي، فيما يبدو»١٣٥ — من الشعراء ألا يقلدوا الكلاسيكيين دائمًا، بينما تتكشف أمامهم الحقول الشاسعة «من ملحمة هومير إلى القصيدة الغنائية الاسكتلندية».١٣٦ ويلح «هوجو» — من جانبه — على الفكرة الخصبة التي تفيد فناء الآداب، مثلها مثل الحضارات التي تعكسها، إنها تتلاشى «مع الأجيال التي عبَّرت عن عاداتها الاجتماعية وميولها السياسية». ولذلك، يصبح من العبث أن «يحاول عدد محدود من ذوي العقول الضيقة إعادة الأفكار العامة نحو النظام الأدبي المحزن للقرن الماضي».١٣٧ ونتعرف أيضًا على فكرة التطور التي عبر عنها «ستاندال» — في نفس الفترة — في كتابه «راسين وشكسبير»، وستقود «ستاندال» إلى إعلان الحرب على الشعر الفرنسي، لأنه (كما يكرر في عشرين شكلًا مختلفًا) «لم يعد البحر السكندري على الأغلب — في أيامنا — إلا ستارًا للبلاهة»،١٣٨ ويمنع الوزن الشعري استخدام الكلمة المحددة، والعبارة الملائمة.١٣٩
إنها حقبة الأزمة، حيث لم يتحرر الشعر بعد («تأملات» لامارتين، و«الغنائيات» واﻟ «شرقيات» لهوجو، حافظت — في عمومها — على الأشكال الكلاسيكية). ولكن، لأن الضغوط قد أصبحت من الشدة إلى حد الشعور بقرقعة أُطُر البحر السكندري، فسيُطرح — مرةً أخرى — التخلي عن الأشكال المنظومة، وتحرير الشعر، لصالح النثر، والأدب الجديد «مثل ما أبدعه شاتوبريان ودي ستايل ولامنيه» — على نحو ما يكتب «هوجو» عام ١٨٢٤م١٤٠ — هو من عمل (كُتاب النثر)، ويضيف «أ. ديشام»: «إن شعر القرن التاسع عشر الحقيقي قد غزا فرنسا عبر النثر».١٤١ ولهذا، رأى البعض أن عهد نظم الشعر قد انتهى من الآن فصاعدًا، وأن «النثر — الذي لا يعوق مسيرته شيء أو يقلل من سلاسته، أو يحد من منابعه، أو يحصر تأثيره — يبدو أكثر جدارةً بالاستسلام لدقة الذكاء المنمقة، أو لتقلبات الخيال الضجر» (ذلك ما نقرؤه في «المجلة الفرنسية»، في يناير ١٨٢٨م)، وبالنسبة لآخرين، مثل «أ. ديشام» — الذي يمكن اعتبار مؤلَّفه «مقدمة للدراسات الفرنسية والأجنبية» بيانًا للشعر الرومانتيكي — فلا يجب التخلي عن الشعر، ولكن لا بد من تحويله على طريقة «شينييه»، الذي «أعاد إلى شعرنا استقلالية الوقفة césure والتعدي enjambement، وهذه الأشكال الإضمارية، وذلك المظهر الفتي والحيوي، بعد أن فقد كل أثر لهم تقريبًا».١٤٢ وهكذا، يُعاد إلى الشعر الفرنسي «طرق التعبير المتنوعة، والقَطع الجريء، والتصويرية»، وهو ما سيكون، كما نعلم، من عمل «فيكتو هوجو»، لكن «هوجو» إذا كان قد أظهر ميلًا نحو الدراما الشعرية،١٤٣ في هذه الفترة، فإنه كان بالأساس مؤيدًا لحرية الشاعر المطلقة. فالشعر، في الواقع، «لا يكمن في شكل الأفكار، لكن في الأفكار ذاتها»، كما سبق أن قال في عام ١٨٢٢م.١٤٤ وسنصل — عام ١٨٢٩م — إلى مقدمة «شرقيات» الشهيرة: «ليمضِ الشاعر حيثما يريد، وليفعل ما يحلو له، فذلك هو قانونه، وسواء أكتب نثرًا أم شعرًا، نحت الرخام، أم صب أعماله بالبرونز … فذلك رائع. فالشاعر حر».
ولا شك أن «فيكتور هوجو» على حق؛ إذ «لا يوجد سوى ثقل واحد يمكنه أن يميل كفة ميزان الفن، إنه العبقرية».١٤٥ وطالما أن الأعمال العبقرية لم تحقق الإصلاح الرومانتيكي، وتجعل الميزان يميل لصالح الشعر المتحرر، فلن تملك النظريات شيئًا لصالح الشعر، سواء كان نظمًا أم نثرًا، فأية محاولة — بهذا المعنى أو ذاك — لا يمكن إدانتها مسبقًا …
كان الشعر إذن يبحث، في فجر الرومانتيكية، عن طريقه، وستنشر «حوليات رومانتيكية» — من عام ١٨٢٣م إلى عام ١٨٣٦م — وبلا نظام؛ أشعارًا ونثرًا، كانوا يمارسون فيها — بالنسبة للنثر — نظام «المقاطع» (ﻟ «شاتوبريان» و«مارشينجي» و«لامنيه»)،١٤٦ التي سيُكوِّنون منها — حسب ما يقول الناشر عام ١٨٢٥م — «مجموعة مختارات أدبية معاصرة»، وهو ما سيؤدي إلى البحث عن المقطوعة القصيرة، المعبرة، والموزونة جيدًا، التي تشكل كُلًّا واحدًا، وإضافةً إلى هذه «المقاطع»، المنزوعة من أعمال أكثر طولًا، فإن الكثير من المقطوعات المستقلة بذاتها، كأغنيات أو قصائد غنائية (مترجمة أو مقلدة لأعمال أجنبية في أغلبها) ترتبط الآن بطراز قصيدة النثر: ترجمة «الصياد» لجوته، و«أغنية مورلاكية»١٤٧ و«قصائد عاطفية إسبانية من المور»، ومقطوعات ﻟ «بليسيه»١٤٨ و«الفونس رابيه»؛ وفي عام ١٨٣٠م، «الكوخ القش» ﻟ «برتران»، وفي حوالي عام ١٨٣٠م، سنجد — في الدفاتر التذكارية التي انتشرت موضتها (مثل «الألبوم الأدبي»١٤٩ أو «الدفتر التذكاري الفرنسي»)١٥٠ — مختارات شعرية مماثلة للأغنيات والأناشيد الغنائية والمقطوعات، ولا يجب أن ننسى أيضًا أن أول نادٍ رومانتيكي قد التف حول «نودييه» حوالي عام ١٨٢٤م: «نودييه» الذي سيشن الهجوم — في مجلد عام ١٨٢٧-١٨٢٨م من «حوليات رومانتيكية» — على القافية والوقفة،١٥١ والذي قام — في «تأملات الرهبنة» (١٨٠٣م)، وفي «أحزان» (١٨٠٦م) — بمحاولات في «النثر الشعري»، وها هو يؤلف قصةً رائعةً أدبيةً من النوع «السوداوي»، وتجربةً غريبة في البناء الشعري والرمزي، في نفس الوقت، أقصد «سمارَّا، سمارَّا»،١٥٢ حيث الرؤى العذبة أحيانًا، والمرعبة أحيانًا، تمتزج وتترابط، تختفي وتعاود الظهور، مثل العناصر الموسيقية، وتحتوي أيضًا على استهلال وخاتمة، تستدعي بناءها في مقاطع غنائية، باتجاه قصيدة النثر:

آه، كم هو عذبٌ يا «ليزيديس» أن يكون الرنين الأخير للجرس، الذي ينقضي في أبراج آرونا، قد دق منتصف الليل، كم هو عذبٌ أن آتي لأقتسم معك الفراش الذي ظل وحيدًا طويلًا، والذي حلمتُ بكِ فيه طوال عام!

أنت لي، يا «ليزيديس»، والعفاريت الشريرة التي كانت تقسم نومك العذب نوم لورينزو لن تخيفني أبدًا بهيبتها!

وينبغي أن نضيف أنه بعد «سمارَّا» — التي نُشِرَت باعتبارها سردًا مترجمًا عن «السلافية»١٥٣ — ترد ثلاث قصائد سلافية أيضًا، والثانية منها «امرأة آزان» قصيدة صربية كرواتية أصيلة، في حين أن الأولى — «سبالاتان بك» — هي ابتداعٌ صرف من «نودييه»:١٥٤ تتكون هذه القصائد من مقاطع قصيرة، في نثر «يأخذ شكل الشعر» عن قصد، وفيها تصبح الغرائبية حجةً قويةً، إلى حدٍّ ما، على أصالة العمل كله.
وتقودنا حيلة «نودييه» هذه إلى الحديث عن حيلة أخرى شهيرة، أهرقت الكثير من الحبر بشأنها، وهي قصيدة «مريميه» — «جوزلا» — المنشورة عام ١٨٢٧م. إنه بالقطع خدعة، هذا الديوان من الأناشيد الغنائية «الإيلليرية illyriques»١٥٥ (المكتوب في ١٥ يومًا، كما يقول «مريميه»!) بعد قراءة «رحلة إلى دالماتي دي فورتيس» (الذي سبق أن استخدمه «نودييه») باستخدام نثر استطاع علَّامة ألماني التعرف فيه — كما يبدو — على «وزن الأشعار الإيلليرية»؛١٥٦ حيلة بارعة تمامًا — مع ذلك — تستعيد تقنية ترجمات قام بها «فورييل» و«لوييف فيمار» و«نيمبوسين ليمرسييه»، مع ترتيب المقاطع، والخاصية الغرائبية، بل حتى نفس الأدوات النقدية.١٥٧ لكن ما يهمنا من هذه المعارضة — على نحو ما يقول «أ. مارسان» عن حق في طبعته — هو الهدف العميق للمؤلف: أن يكشف ﻟ «الكلاسيكيين» الباريسيين، الصفائيين١٥٨ والمتصنعين، «ما هو العنف، والفظاظة، والسذاجة، والحب المتوحش، وأيضًا شجاعة الجنس الإنساني».١٥٩ لقد أشاع «مريميه» في الفن مشاعر أكثر عنفًا، ومنحه تعبيرًا أكثر جرأة، ويُظهر «ايفانوفيتش» — عبر عدة مقارنات صادمة١٦٠ — كيف يلجأ «مريميه»، فيما يتبع الإيجاز والقوة، إلى الاختصارات والمفارقات، و«يزيل» عن النصوص المستمدة من «فورتي» طلاء القرن الثامن عشر، فيلغي النعت الذي لا نفع فيه والزخارف التقليدية. إيجاز وطاقة، وتصويرية، وعديد من المزايا «الرومانتيكية» التي تتناقض مع تركيب العبارة الباهتة لناظمي الشعر من الكلاسيكيين الجدد، ويمكن القول إن «جوزلا» قد زعزعت اللغة الشعرية بهزة حاسمة.
وبنية هذه «الأناشيد الغنائية» لا تقل أهمية، فبالقطع، من المحزن ألَّا يكون الشعر الشعبي الصربي/الكرواتي قد عرف المقاطع (وهو ما يخبرنا به «ايفانوفيتش»).١٦١ ولا يقل عن ذلك دلالةً أن نرى «مريميه» وقد استخدم بكثرة التنظيم في مقاطع، المصحوب في الغالب باللازمة: هكذا في «نشيد الموت» الذي يدين، بلا شك، لقصيدة «بورجير» الشهيرة «لينور» بلازمتها المتكررة ثلاث مرات: «وداعًا، وداعًا، مع السلامة! هذه الليلة القمر في اكتماله، والرؤية واضحة، ليعثر على طريقه، مع السلامة!»١٦٢ إن البحث عن التماثلات، والانشغال الشديد بتحديد البنية، أمران محسوسان في مقطوعات «مريميه» الأقصر بكثير من مقطوعات أسلافه، تتكون «عاشقة دانيزيش» من خمسة مقاطع متماثلة، كلٌّ منها مكون من ثلاثة أجزاء («أعطاني أوزاب خاتمًا ذهبيًّا مرصعًا، وأعطاني لوديمير قلنسوةً حمراء مزخرفةً بالأوسمة، لكني أحبكَ، يا دانيزيش، أكثر منهم جميعًا»)؛١٦٣ وتعيد «العين الحاسدة» المقطع الأول — في شكل لازمة — في نهاية كل المقاطع التي تتتالى،١٦٤ ويتم ضبط وزن «الباركاروللي»١٦٥ بالعودة المنتظمة لكلمتي «بيسومبو، بيسومبو!» اللتين يُفترَض أنهما تؤكدان في اللغة الإيلليرية الحركة المنتظمة للمجذافين.١٦٦ فهنا بالطبع ثمة محاكاة لأسلوب الأغنية، وأشكالها الثابتة وتكراراتها، التي تتوافق مع استعادة نفس اللحن، لكن ضرورات المعارضة لا يجب أن تخفي عنا جهد «مريميه» الواعي لمنح «أناشيده الغنائية» شكلًا وبنيةً فنيين.
وفي عام ١٨٢٧م، تم العثور على قالب قصيدة النثر، إنه قالب «النشيد الغنائي Ballade» ذي المقاطع، الموجزة تمامًا، والمحكمة البنيان، ولم يعد باقيًا سوى أن يُصَب فيه محتوى شعري أكثر أصالة من المحاكاة أو الترجمة المستعارة، وأن تحل القصيدة الغنائية الفرنسية محل الأجنبية، سواء كانت تاريخية أم غنائية، وقد كتب «برتران» مقطوعاته الأولى حوالي عام ١٨٢٧م، وتم تأليف الجزء الأكبر من «جاسبار الليلي Gaspard de la Nuit» عام ١٨٣٠م، لكنني أود — قبل تناول مبدع قصيدة النثر — أن أستعيد كاتبًا آخر، التزم نفس الطريق تقريبًا، في نفس الفترة، واكتشف — من جانبه، رغم موته المبكر — صيغةً مبتكرةً لم يتسع له الوقت لتطويرها تطويرًا كافيًا.

الفونس رابيه

نشرت «حوليات رومانتيكية»، عام ١٨٢٥م، مقطوعتين ﻟ «رابيه Rabbe»: «السنتور»،١٦٧ «مترجمة عن مخطوط يوناني»، و«خنجر العصور الوسطى»، «مترجمة عن مؤلف مجهول». فالأمر يتعلق — مرة أخرى، إذن — بترجمة مستعارة، فهاتان المقطوعتان — إضافة إلى «المراهقة» أو «الطوفان»، «المستمدة من نقش جنائزي قديم»١٦٨ — منظومة في مقاطع، وأسلوبها ما يزال «كلاسيكيًّا» وتقليديًّا: «تستطيعين أن تبوحي بمفاتنك إلى لعبة الأمواج …»١٦٩ «تخلِّي عن اهتمامك اللامجدي بزينتك».١٧٠ ولا شك أن الميل إلى الهيللينية — التي تلهم غالبية هذه المعارضات — تشوه تأثير «شينييه»، الذي كان ناشره «ﻫ. دي لاتوش» واحدًا من أوائل أصدقاء «رابيه» الباريسيين وفي «السنتور»، كان «رابيه» ما يزال يذكر شخوص السنتور التي رسمها «شينييه» في «الأعمى»، وبشكل خاص في «اختطاف أوروبا» (يبدو مريبًا — بالمقابل — أن يتذكر «م. دي جيران» رابيه، أثناء كتابته «السنتور»، الذي يحمل مغزًى آخر مختلفًا تمامًا).
ولو لم يكتب «رابيه» هذه المعارضات للعصور القديمة، لما قدم لقصيدة النثر شيئًا جديدًا ذا بال، ولكن ينبغي أولًا أن نضم إليها «خنجر العصور الوسطى»، وخاصة «الغليون» التي يتسم مفهومها — إن لم يكن تنفيذها — بأنه أكثر تفردًا. ففي «الغليون» حداثة غريبة في الأفكار والنبرة: «آه يا غليوني! اطرد، وأبعد هذه الرغبة الطموحة والمشئومة للمجهول والغامض».١٧١
إن نغمة كهذه — جديدةً في عام ١٨٢٥م — تقرب «رابيه» من القارئ المعاصر: «سأم الحياة»، و«الحلم بما لا يكون»، والنفور من الآخرين ومن الذات؛١٧٢ إنه التعب من الحياة، الرومانتيكي والبودليري، وثمة نصوص أخرى مكتوبة خلال «أوقات فراغ خزينة» لنهاية وجود أليم،١٧٣ تذهلنا بعنفوانها الكئيب، بغنائيتها التي يجعلها اقتراب الموت غنائيةً يائسة:

أيتها الآلهة! كم تغير المشهد من حولي! كم في هذه اليقظة من أحزان وأهوال! كنتُ قد غفوتُ على حافة الهاوية: وأفتح عيني لأرى نفسي غريقًا في أعماقها:

قوة، وجمال، وشباب، إذن فكل شيء ضاع …١٧٤
وهذه الكتابات الأخيرة، رغم بعض الصور ذات البهاء المأساوي،١٧٥ إنما هي — والحق يُقال — تأملات أكثر منها قصائد. إن البحث عن الفن يؤدي به إلى الخضوع للتعبير الصادم، والصراخ الذي يصدر عن كائن تمزقه الآلام.
وسأطيل قليلًا فيما يتعلق ﺑ «قصيدة النثر» التي تعتبر نفسها كذلك (ما دامت مكتوبةً في مقاطع، وفي نثر متقن)، والتي تقع — فيما يبدو لي — في تقاطع الزاوية «الفنية» للفترة الأولى مع الزاوية الفلسفية، إنها مقطوعة «سيزيف» المكونة من مقاطع، والمتأخرة الآن، ما دام «رابيه» يُلمح فيها إلى «حرارة محرقة» يقول عنها إنها تأكل «أيامي وشبابي»،١٧٦ والتي ظلت — للأسف — غير مكتملة، ورغم هذا، فقد كانت تنطوي على إبداع رائع، ملحمي وخيالي في نفس الوقت، في تلك «الرؤيا» عن «مستودع عظام الموتى الهائل، الذي يضاعف الزمن من حجمه، بدلًا من تحطيمه، ويحافظ عليه دائمًا»: نُصبٌ غامض يُجسِّدُ — في نفس الوقت — النُّصُبَ الكبير:

المجبولَ من تراكُم القرون وأماكن

«انحدار أحلام اليقظة»،١٧٧ و«حائط القرون» المنصوب على عتبة «أسطورة القرون».١٧٨ وكيف لا يستدعي — فيما يخص المثالين — الذين يزخرفون «مستودع العظام الغريب» («جرائم الملوك ومصائب الشعوب، والديانات المختلفة التي كان بعضها بشعًا في دمويته: المعارك الدامية والطواعين، والمجاعات»)، و«حائط القرون»، حيث تميز عين «هوجو» البصيرة.
المصائب، والآلام، والجهل، والجوع،
الخرافات، والعِلم، والتاريخ …

أو — فيما يخص موجز التاريخ العالمي، الذي يقدمه المقطع الأخير من «سيزيف» — («غرق القارات المنسية … اكتشاف العالم الجديد»)، و«انحدار أحلام اليقظة»؟

… والقارات الكبرى، الممتلئة بالضباب، الخضراء أو الذهبية، تلتهمها المحيطاتُ الكبرى بلا انقطاع …

… صوت العالم الجديد قديم قِدم العالم الغابر.

ولا تبدو المقارنة مفتعلة، حتى لو افترضنا أن «رابيه» و«هوجو» يدينان معًا بشيء ما إلى التوراة، وربما إلى «س. مرسييه».١٧٩ كان «هوجو» صديقًا ﻟ «رابيه»، وكتب مقطوعةً من الشعر المنظوم للطبعة الأولى لأعماله عام ١٨٣٥م (الصادرة بعد وفاته)، وبعيدًا عن أية قضية تتعلق بالتأثير، فإن حقيقة إطلاق صفات «رومانتيكي» و«هوجوي» (نسبةً إلى «هوجو»)، على مجاز نثري كُتِبَ قبل عام ١٨٣٠م، لهي أمر لافت تمامًا، ونأسف — أكثر من ذلك — على أن هذه المحاولة الأخيرة ظلت بلا اكتمال، وبلا مستقبل، وسيصبح «رابيه» — فيما بعد — رائدًا لنوع سيكون على «برتران» أن يُشهره، وإن يكن بطريقة مختلفة تمامًا.١٨٠

(٢) آلويزيوس برتران وميلاد النوع

في نهاية عام ١٨٢٨م، أو بداية عام ١٨٢٩م تقريبًا شهد «سانت-بوف» وأصدقاؤه، ذات يوم، ظهور «شاب طويل ونحيف، عمره واحد وعشرون عامًا»، له سحنة «ساخرة ولطيفة»، ومظهر «خجول وأقرب إلى البدائية».١٨١ هذا الزائر الغريب الذي ظهر — كما كانوا يعتقدون — من إحدى حكايات هوفمان الشعبية، لم يكن سوى «لويس برتران»، الذي وصل لتوه من مسقط رأسه «ديجون»،١٨٢ والذي لم يكن قد اتخذ بعد اسم «آلويزيوس» الرومانتيكي.١٨٣

أخذ يتلو علينا — على ما أضاف «سانت-بوف» — دون إلحاح منا، وبصوت متقافز، بعضًا من قصائده الغنائية النثرية الصغيرة، التي كان المقطع منها، أو الآية المحكمة، تتخذ مظهرًا إيقاعيًّا دقيقًا: لقد حصلنا، منذ ذلك الحين، على تطبيقات في كتاب «الحجاج البولنديون» المترجم، و«أحاديث مؤمن».

هكذا كان أول ظهور، في النادي الرومانتيكي، لمن أبدع لتوه قصيدة النثر. ظهور باهت يتلوه مصير بائس: لقد سجل «برتران» نفسه (مثل «رابيه») على رأس هذه القائمة السوداء ﻟ «ملعوني» قصيدة النثر،١٨٤ التي سنشهد فيها — عما قليل — ظهور أسماء أكبر (رامبو، لوتريامون) وقد عاقبهم القدر، فيما يبدو، لأنهم أرادوا الخروج عن طرق الكتابة المرسومة، وفي مارس ١٨٤١م، مات الشاعر الشاب في المستشفى عن ٣٤ عامًا، معزولًا، بلا مورد، وبلا أصدقاء تقريبًا، وبعد وفاته، نُشِر مؤلَّفه «جاسبار الليلي» أخيرًا، لدى «فيكتور بافي» عام ١٨٤٢م — بعد معاناة استمرت عدة أعوام لدى الناشر «راندوييل» — تتصدره ملحوظة ﻟ «سانت-بوف»: وكان أن سقط في اللامبالاة التامة، ﻓ «هي ليست إطلاقًا هذه الصفحات الأليمة، التي كتبها برتران بسوداوية، هي التي ستضيف بعضًا من البريق إلى الشهرة الشعرية للأيام الماضية».١٨٥ ويبدو أن «سانت-بوف» اعتقد أيضًا ذلك، وهو الذي أخذ يسترجع، بتعالٍ متساهل، هذه «الطرائف القوطية الصغيرة»، وهذه «الانطباعات الذهنية الصغيرة» لبرتران، وهو يأسف على أنه لم ينشر «بعض الروايات التاريخية»، على نطاق واسع.
ثأر غريب، فقد نُشِرَ المؤلَّف بعد وفاة صاحبه، وأخذ العمل يتقدم — عبر السنين — بطريقة شبه سرية، ويخصب — خلال مروره (وهو ما سنشهده فيما بعد) — التردد الغامض لبودلير و«لوتريامون» و«مالارميه»، ليحصل أخيرًا — من النقاد الحديثين — على اعتراف حقيقي: لقد ذهب بعضهم إلى حد منح «برتران» مكانًا ساميًا في الفَلك الشعري، لا ككوكب بسيط تابع للشعراء الرومانتيكيين، بل كرائد (مع نرفال وبودلير)، ﻟ «الخيمياء الغنائية».١٨٦
ولا شك أن «آلويزيوس برتران» ما كان يستحق هذه المهانة، ولا هذه المبالغة في التكريم، أمن الضروري أن نقول إنه لا يُقارَن ﺑ «نرفال»، ولا «بودلير»؟ ورغم ذلك، فإنني أعتقد أن «جاسبار الليلي» سيظل — حسب عبارة «شواب» (الذي تضعه دراسته الجميلة — بصورة قاطعة — بين رواد الشعر الحديث)١٨٧ — «مفصلًا أبديًّا للتاريخ الأدبي»: وذلك بالتحديد لأن ثمة شعرًا مكتوبًا بالنثر يبدأ في «جاسبار»، ولأن «برتران» هو المبدع الحقيقي (وهي المسألة التي لم تتم مناقشتها أبدًا، في اعتقادي)١٨٨ لقصيدة النثر باعتبارها نوعًا أدبيًّا.
إن أصالة «برتران» تنفجر عند مقارنة «أناشيده الغنائية» بتلك التي نشرتها وقتئذٍ دفاتر الرومانتيكيين التذكارية: فلا تركيب عبارات طنانة، ولا هيللينية مستعارة، ولا غرائبية حسب الطلب، ولكن تصويرية خاصة، شخصية تمامًا، تخدمها تقنية دافعة لعبارة النثر، لقد أراد «برتران» — وهو ما لا يمكن إنكاره — أن يكتب قصائد، لا نثرًا منغمًا بشكل أو بآخر (كتب إلى ناشره — قبل وفاته مباشرة — يوصيه بأن «يوسِّع بين كلمات الصفحة، كما لو كان النص شعرًا»)؛١٨٩ بل كان يبالغ في الدقة إلى حد الرغبة في إلغاء «وقائع جاسبار»،١٩٠ لأنها ذات طابع حكائي مبالغ فيه، ولا بد أن نكون ممتنين له لأنه رأى أن هذا النوع الجديد يتطلب قواعد جديدة، وأنه لم يكتفِ بتقليد صيغة توصف ﺑ «الشعرية»، أو محاكاة بعض إيقاعات الشعر المنظوم لتشكيل قصيدة نثر، ولأنه تولى — من ناحية أخرى — المبادرة العبقرية بإحلال — محل القصائد الغنائية الغرائبية والترجمة المستعارة — قصائد العصور الوسطى الغنائية والخيالية، التي تحتفظ — مع تغريب القارئ في الزمان، هذه المرة، لا في المكان — بمذاق أصيل، وتضرب بجذورها في روح المؤلف نفسه.

في ملتقى المؤثرات … رومانتيكية برتران

لا شك أن الشاب القادم من «ديجون» كانت له — بفضل عصره ووسَطه — فرصة الوجود في نقطة التقاء المؤثرات الكبرى: تلك التي كانت، حتى الآن، تقود قصيدة النثر إلى ازدهارها الكامل ﮐ شكل من ناحية، وتلك التي استطاعت — بصورة أفضل، من ناحية أخرى — أن تقود «برتران» إلى طريقه الخاص، وتحدد طابع إبداعه، وامتلك «برتران» — من جانبه — المزاج القابل للتفاعل مع مؤثرات كهذه، والاهتزاز كقيثارة هوائية مع النسمات التي تتحرك في الهواء.
وهكذا، يبدو أنه كان حساسًا لتأثير «شاتوبريان» — الذي كان يقوم بالتدريس، من عام ١٨٢٠م إلى عام ١٨٢٨م، في «جمعية الدراسات» في ديجون (التي كان «برتران» عضوًا نشطًا بها)١٩١ — وكانت «أغنياته» تقدم، كما سبق أن قلت، نماذج للإيجاز، والتصويرية، والبناء في مقاطع.
لقد خضع — شأنه شأن جميع كُتَّاب عصره — لتأثير المجلات والدفاتر التذكارية، التي كانت تحتفي آنئذٍ بالمقطوعات النثرية الموجزة، سواء كانت مترجمةً أم لا، وساهم «برتران» في صحيفة إقليمية «لو سبكتاتور دي ديجون»، ونشر فيها عدة مقالات، وسنرى أن إحدى هذه «الأشياء المرئية» — «أكتوبر» — ستصبح، بعد استعادتها وتحويلها، جزءًا من «جاسبار الليلي»١٩٢ (طبقًا لصيرورةٍ ما، سيحدث أن يتبعها أيضًا «بودلير» و«مالارميه» فيما بعد)، وقد رأس صحيفة أخرى — «لوبروفنسيال» — نشرت، عام ١٨٢٨م، أول «أناشيده الغنائية» (أو كما كان يقول «لوحات مضحكة»). وعرف بالتأكيد «حوليات رومانتيكية» التي سينشر فيها، عام ١٨٣٠م، أحد أناشيده الغنائية «الكوخ القش»، وكان بمقدوره أن يقرأ فيها — طوال أعوام سابقة — «الأناشيد الغنائية لكل من «رابيه» و«بليسييه».»
وقد تأثر (وهذا التأثير يقع — في آن — على الشكل والإلهام لديه) بالأناشيد الغنائية الأجنبية التي انتشرت موضتها وقتئذٍ في «جوك دازلدين»، والأناشيد الاسكتلندية الثلاثة التي ترجمها هو بنفسه (في شعر منظوم!) ﻟ «والتر سكوت»١٩٣ ووجد نماذج للاستلهام فانتازية ومن العصور الوسطى، مثلما وجدها في الأغنيات ذات الشكل الثابت واللازمة المتكررة. فهل يجب أن نذكر — مرةً أخرى — أنه، عبر ترجمة الأغنيات والأناشيد الغنائية، قد توطنت — في فرنسا — فكرة أن بالإمكان نقل أوزان معينة وبعض الموضوعات الشعرية إلى النثر؟ وفيما يتعلق ببرتران — على نحو خاص — فقد مارس عليه ديوان «لوييف-فيمار» الذي ظهر عام ١٨٢٥م — «أناشيد غنائية، وأساطير وأغنيات من إنجلترا واسكتلندا» — تأثيرًا حاسمًا، فيما يبدو، فعلاوةً على احتوائه على الأناشيد الغنائية المترجمة عن اللغة الاسكتلندية، وخاصةً «جوك دايزلدين»، فإنه يقدم نماذج متميزة من هذه التكرارات واللازمات، التي تمثل أحد قوانين النوع، كما نجد فيه عددًا من «الأناشيد الغنائية» الفانتازية، وجميعها مأهولة بالأشباح والسحرة، بالأرواح وحوريات البحر، التي تلعب دورًا كبيرًا في الأدب الشعبي، ولا أستطيع مقاومة رغبتي في ذكر «نشيد الناياد»، الذي لم يستطِعْ «برتران» إلا أن يتذكره وهو يكتب «حورية البحر» (بل إننا نجد — من مقطوعة لأخرى — البناء الثلاثي لغالبية المقاطع):

مسكني في قلب الموجة، زنبقة الماء سريري، واللآلئ الأكثر ألقًا التي تدحرجها الأنهار معقودة حول ثديي ورأسي.

السمكة تسبح بتكاسل بجوار سريري، وكثيرًا ما تمس زعانفها المرتعشة جبيني، وأنفاسها تصَّاعد في سكون نحوي، فيما تتدحرج الأمواج فوقها الهوينى.

تعالَ إذن في هاتين الذراعين اللتين أفتحهما لك، تعالَ إلى هذا الثدي الساحر، وستجدل بين أمواج الفضة شعري الحريري.

عندي خاتم من طحالب النهر أغلقته قُبلةٌ من طيف، سأتزوجك في أضواء قمر المياه والعسل … آه! تعالَ توِّج حبي.١٩٤
ولا شك أن الفانتازي يزدهر في كل ترجمات الأناشيد الغنائية الأنجلوساكسونية،١٩٥ مرتبطًا — على أية حال — بنوع الأنشودة نفسها وبإلهامها الشعبي، وقد خصص «مريميه» — في بحثه عن السمة المحلية — عددًا كبيرًا من مقطوعات «جوزلا»، في المقابل، للأشباح ومصاصي الدماء و«العين الحاسدة»، وبالمثل، فسيستعير «برتران» — كما سنرى — الخرافات الديجونية.
ويوحد «نودييه» أيضًا الخرافات الشعبية «الإيلليرية» بالفانتازي في «سمارَّا». والواقع أن تأثير «نودييه» هو أيضًا كان بارزًا على «برتران» الذي أهدى إليه أول قصيدة نثرية، «ضوء القمر»، «إلى مؤلف تريلبي»، التي ربما، استلهمها ليكتب «السمندل».١٩٦ ويمكننا أن نعقد أكثر من مقاربة بين «سمارَّا»، مصاص الدماء المرعب، «القزم المشوه والمرح»،١٩٧ و«سكاربو»، «القزم الضاحك»،١٩٨ الذي يلاحق ليالي جاسبار، والذي «يعض في الرقبة» ضحاياه، كمصاص دماء هو أيضًا، ويغرس في الجرح «إصبعه الحديدي الذي احمَرَّ في الأتون».١٩٩ كما أن تأثير «هوفمان» قوي للغاية (ما دام «برتران» سيستعيد حتى عنوان «هوفمان» ليجعل منه عنوانه الفرعي «خيالات على طريقة كالوت»)،٢٠٠ وسيمتد إلى فترة متأخرة، وذلك — ببساطة — بسبب أن «هوفمان» لم يُتَرْجَم في فرنسا إلا اعتبارًا من عام ١٨٢٩م، جزئيًّا عبر «نودييه» الذي سيتأثر به «برتران».
ويجب أن نضيف أن هذا الميل إلى الفانتازي — الذي ترجع أصوله أساسًا إلى الأنجلوساكسونية والعصور الوسيطة — هو أيضًا نزوع رومانتيكي، فمنذ ما قبل ١٨٣٠م، وهو ينعكس لا في أعمال «نودييه» فحسب، بل أيضًا في «الأناشيد الغنائية» لهوجو («أسطورة الراهبة» و«محفل السبت»، على سبيل المثال)، ومن الطريف أن نذكر أن «برتران»، وصديقه «برونيو»، عندما كانا رئيسي تحرير جريدة «لوبروفنسيال» الديجونية، نشرا — في ٣١ أغسطس ١٨٢٨م — مسرحية «حلم» الشعرية ﻟ «ألفريد دي موسيه» التي وصفها «برونيو» بأنها «مشهد فانتازي» و«حلم رديء على طريقة سمارَّا».٢٠١ بمقدورنا إذن أن نرى، في استلهام الفانتازي في «جاسبار الليلي»، مظهرًا لرومانتيكية «برتران».
ولقد حان الوقت للتأكيد على كل ما يدين به «برتران» للرومانتيكية، وربما أيضًا كل ما تدين به الرومانتيكية لبرتران، ولا ننسى أن «لو بروفنسيال» — هذه الجريدة الديجونية التي كان يرأسها «برتران» و«برونيو» — كانت واحدةً من ألسنة حال الرومانتيكية في الأقاليم، وأنها حازت على تشجيع «نودييه» و«هوجو»،٢٠٢ اللذين أهدى «برتران» إليهما — عام ١٨٢٨م — أول أناشيده الغنائية، وأعلن عن نشر المجموعة تحت عنوان «لوحات رومانتيكية مضحكة»؛٢٠٣ وأخيرًا، فقد عاش شاعرنا في باريس من ١٨٢٨م إلى ١٨٣٠م، في أوج الجيشان الرومانتيكي، وارتاد «الأرسنال» و«سيناكل» ناديي هوجو، وقرأ فيهما مقطوعاته «القوطية»: «سيد موبان» (نظم) و«الماسوني» (نثر)، وعرف فيهما «سانت-بوف»، و«أ. ديشام» وكل الكُتَّاب الشبان الذين التفوا حول رواد المدرسة الجديدة، ولن يكون كافيًا القول إنه خضع للتأثير الرومانتيكي، فقد ارتبط بالحركة على قدر موهبته، ووحَّد اتجاهاته الخاصة به بتلك الخاصة بالرومانتيكية، وإذا ما نحينا جانبًا الاستلهام الإسباني والإيطالي٢٠٤ الذي واتاه من المجموعة بطريقة كُتبية صرفة، فإن استلهامات جاسبار تطرح ثلاثة ملامح أساسية للرومانتيكية، في توافق عميق — كما سنرى — مع الوسط الذي يعيش فيه ومزاجه الخاص به:
  • الاستلهام الفانتازي، الملموس من قبل — كما سبق وقلت — في قصص «نودييه» وأناشيد هوجو الغنائية، وهو ما ستمنحه ترجمات «هوفمان»، بعد عام ١٨٢٩م، مزيدًا من الأهمية.
  • حب العصر الوسيط، و«القوطي»، «والآثار»، الذي ستكون «نوتردام دي باري» مثالًا ساطعًا عليه، إنه «فيكتور هوجو» — حسبما نعلم من خطاب لبرتران٢٠٥ — الذي علَّم الديجوني الشاب «تَهَجي» بيوت وكنائس مدينته التي وُلِدَ فيها، الغنية بالماضي، وسيعرف «برتران» كيف يستخدم — كفنان — تصويرية الحياة، ولغة القرون الوسطى: ﻓ «الماسوني» الذي يرى «تماثيل «التاراسك» الحجرية وهي تتقيأ ماء أكواخ الاردواز في الهاوية الغامضة للممرات، والنوافذ، ومثلث القبة، والقباب الصغيرة والأبراج الصغيرة»؛٢٠٦ ألا يقدم لنا — مثلما يقول «سانت-بوف»، في «لمحة» عن سيرة «برتران» الذاتية — «إحساسًا مسبقًا، في شكل منمنمات، بباريس القديمة، التي يتم النظر إليها، في روعة، من فوق أبراج نوتردام؟».
  • النزوع إلى «الجروتيسك  Grotesque»، المرتبط مع ذلك، بشدة، باستلهام العصور الوسيطة،٢٠٧ الذي نَظَّر له «هوجو» في «مقدمة كرومويل»، ونعلم أن «هوجو» قد جعل منه أحد محركات الفكر الحديث (بالتعارض مع العصور القديمة: فأحيانًا ما يمثل «الجروتيسك» «المشوه والمرعب»، وأحيانًا «الكوميدي والهزلي»).٢٠٨ وفيما يتعلق ﺑ «الجروتيسك»، يستعيد هوجو «الكائنات الوسيطة»، التي تسكن «التقاليد الشعبية للعصور الوسطى» و«محفل السبت المرعب»، والشيطان، والمزاريب، ويستعيد أيضًا الكوميديا الإيطالية، بالإضافة إلى «كالوت،٢٠٩ مايكل أنجلو» «الهزلي»٢١٠ (وهو أمر ممتع، إذا ما فكرنا في «برتران»). كانت كتابة «فانتازيات على طريقة «كالوت» مشروعًا رومانتيكيًّا بقدر ما هو هوفماني (نسبةً إلى هوفمان)، ولكن لا بد من التأكيد على أن هذه الاتجاهات «الرومانتيكية» الثلاثة: الميل إلى الفانتازي، وحب العصور الوسطى، ودور «الجروتيسك»، قد وجدت — لدى «برتران» — أرضًا خصبةً تمامًا، وذلك بسبب مؤثرات شبابه «البورجيني»، ونزعاته المزاجية العميقة، في آن، وعلى غرار «شاتوبريان»، قضى لويس الصغير طفولته في بلد مترع بالأساطير، واسترجع، فيما بعد، جولاته في وادي سوزون، وصيده في «مخاضات تيسي الصاخبة»،٢١١ حيث يختبئ «جان دي تيي» «حوري البحر الداهية والخبيث»،٢١٢ وزياراته لكنيسة نوتردام دي ايتان، «منبع الأشباح والساحرات، وصومعة الشيطان!» ومحفل السبت هذا الذي سيصفه في «جاسبار»، والتقاليد الشعبية لساحل الذهب، ألم تنقل لنا الأوصاف المرعبة للمكان؟٢١٣ والواقع أن كل هذه الأساطير قد وجدت البيئة الأكثر ملاءمة في نفس خيالية لمراهق حالم بطبيعته، مغرمٍ بالتنجيم والسحر، «يهب نفسه لوهم طفولي»، فيما يقول لنا شقيقه إنه «كان يسمع أصواتًا مجهولةً كانت ترعاه في سكون الليل.٢١٤ وهكذا، نرى التهيئة لشعر لا ينطوي على أي شيء مصطنع، رغم أنه مسكون بالسحرة والتجليات الفانتازية، لأنه — من ناحية — يغرس جذوره في أرض بورجينيون القابلة للزراعة، وفيما هو حميمي لدى «آلويزيوس»، من ناحية أخرى، وسيكون له أن يرى — بلا جهد يُذكَر — «الحورية» في المطر، و«السمندل» في الشعلة، و«جان دي تيي» في جداول المياه.
ولا شك أنها كانت أيضًا فرصة مواتية لبرتران أن يجد نفسه وقد سكن في قلب الرومانتيكية «القوطية»، هذه المدينة القديمة «ديجون»، التي تغنى بها شعرًا ونثرًا،٢١٥ والتي كانت تقدم له — من كل ناحية — ذخائر من العصور الوسيطة: كنيسة نوتردام بعذرائها السوداء، ومزاريبها٢١٦ والشواخص الدقَّاقة Jacquemart،٢١٧ و«المورميون»، المكان السابق لتنفيذ الإعدامات،٢١٨ حيث جرس سان-جان.٢١٩ هذا «الطابع المحلي» الشهير، الأثير لدى الرومانتيكيين (الذي بدونه كما يقول «مريميه» — بتهكم عام ١٨٢٧م — «ما من خلاص أبدًا»)،٢٢٠ لن يحتاج «برتران» إلى الذهاب بعيدًا للبحث عنه في إسبانيا، أو في الشرق، أو في «إيلليري»، فهو في متناول يده، وبضع إشارات محدودة ستكفي لتبرز — من ميدان كوردولييه إلى كنيسة ديجون — عصورًا وسطى حيةً بكاملها، مألوفةً وتصويرية، وحتى لو لجأ «برتران» أحيانًا بصورة شديدة الوضوح وزائدة، إلى سقط متاع مفردات العصور الوسطى، فهو ما يرادف المصطلح الكلاسيكي الجديد، الطنان والغامض، الذي كان يستخدمه في بعض مقطوعات شبابه المنظومة.٢٢١ لكن، لا بد أن نضيف أن «برتران» ليس مجرد رومانتيكي فحسب، مريض بالتصويرية، يبحث — بأي ثمن — عن الطابع المحلي، فهو — أيضًا، وحقًّا — رجل العصر الوسيط، الذي تمثل ديجون المنتمية للقرون الوسطى — بالنسبة له — واقعًا جوهريًّا: عقل مسكون بالرؤى، يعيش في علاقة غريبة مع الشيطان (جاسبار)، وإذا ما كان الفنان «برتران» يستخدم، بطريقة شديدة الوعي، آداب ومعتقدات العصور الوسطى، فليس باعتباره أثريًّا؛ إذ لا ينقب في ماضٍ ميت، لكنه يستكشف عالمه الخاص المليء بالشياطين والأشباح، وهو يسيطر على هذه الشياطين التي تتلاعب به ككاتب، ما من شيء أكثر غرابة، على نحو خاص، من الانشطار الذي يرى «برتران» نفسه — من خلاله — مرتعًا للشيطان، أو ﻟ «سكاربو»، وهو يهلوس، ويتخذ من هلوسته نفسها مادةً للفن.٢٢٢
هذا الامتزاج بين الاستبصار والضلال، بين الواقعية والشعر، بين الهلع والسخرية، يمنح أجزاء «جاسبار» الفانتازية وقعًا أصيلًا، بصورة مؤكدة. من هنا أيضًا يتكشف «برتران» عن رجل من العصور الوسطى، قرين لهؤلاء الفنانين الذين يخلطون — في «رقصاتهم الجنائزية» — بين الهجاء الساخر والشعور الصادق بالهلع.٢٢٣ ويستمد حوار «سكاربو» الساخر٢٢٤ نكهته من ذلك، و«برتران»، لا «هوجو»، هو الذي يوحد الجروتيسك بالفانتازي في «محافل السبت» هذه، حيث نرى السحرة يطيرون، «البعض فوق المكنسة، والبعض فوق الملاقط الصغيرة، و«ماريبا» على يد المقلاة.»٢٢٥
هذا الميل إلى «الجروتيسك» أكثر أصالةً لدى «برتران» مما لدى أي رومانتيكي آخر، فطبيعة «برتران» العميقة، ومزاجه الفني أيضًا، يحملانه على الاستناد إلى «كالوت» على نحو ما يفعل في «مقدمته»، وفضلًا عن التجليات الفانتازية، فإنه يلذ له نحت الشخوص الجروتيسك، أو ذات المشية المتخلعة (مثل «أصابع اليد الخمسة»)،٢٢٦ أو اﻟ «مرهف» الذي تشبه أسنانه المشحوذة على شكل القرن ذيل التاراسك»،٢٢٧  ٢٢٨ والمواقف الهزلية الخاصة بالمستشار في «سيريناد»،٢٢٩ أو السيد جان الذي تُوقِع به الكلاب «التي تجرجر سراويله السوداء» «مثل شخص مصاب بالنقرس على عكازيه».٢٣٠ يمنح الإيجاز، ووضوح المعالجة، مذاقًا خاصًّا لهذه المنحوتات الصغيرة مثلما في «البوهيميين»، أو في «باللي» الموجودة في «كالوت»، التي تزين — بتوفيق كبير — طبعة «ب. جيجان» من «جاسبار الليلي»، ويكاد يكون من السطحي أن نذكر الأهمية التي يمنحها «برتران» — البصري الكبير، وعاشق التصوير الزيتي٢٣١ — للمؤثرات التصويرية، والتناقضات العنيفة بشكل خاص، كالأسود على الأبيض، فإذا ما كانت «مؤثرات الليل» تفيض في أعماله (سيطول الحديث لو رصدناها جميعًا)،٢٣٢ فلا يرجع ذلك لحب الغموض الليلي فحسب، ﻟ «الليل وهيبته» (عنوان الكتاب الثالث من «جاسبار»)، بل يرجع أيضًا لذائقته كفنان تصويري، حب الليل، والتناقضات العنيفة، هنا أيضًا، تلتقي ميول «برتران» الشخصية مع تلك الخاصة بالرومانتيكية الهوجوية.
أنريد الآن أن نعرف كيف يعبر «برتران»، في آن واحد — تحت تأثير الأناشيد الغنائية الأنجلوساكسونية والرومانتيكية «القوطية»، وفي ظل انطلاقة لا تُقهَر لقوى طبيعته العميقة كشاعر وفنان — من محاولات شبابه (١٨٢٧-١٨٢٨م) إلى صيغته الشخصية والنهائية في «الأناشيد الغنائية النثرية»؟ ينبغي لذلك — ولا يتسع المقام للمقارنة بالتفصيل بين قصائد «جاسبار» والنسخ الأولى، المنشورة عام ١٨٢٨م في صحيفة «لوبروفنسيال» في ديجون — مقارنة «الغسالات» ﺑ «جان دي تيي»،٢٣٣ و«القرع والمزمار»٢٣٤ ﺑ «لحن جان فيتو السحري»، ونسختي «قلعة مولجاست».٢٣٥ وسأكتفي بذكر «الحالتين الخاصتين» ﺑ «ضوء القمر»، كطابع مميز؛ إذ احتفظ بنسختها الأولى «بيتي»٢٣٦ أحد أصدقاء شباب الشاعر، وهذه النسخة الأولى تحمل تاريخ منتصف ليلة ٧ يناير ١٨٢٧م:

في الساعة التي تفصل بين يوم وآخر، عندما تنام المدينة في سكون، استيقظتُ ذات ليلة شتوية مذعورًا، كما لو أنني سمعتُ من ينطق باسمي إلى جواري.

كانت غرفتي شبه مظلمة، القمر يرتدي ثوبًا من بخار مثل ساحرة بيضاء، يحرس نومي ويبتسم عبر زخرفات الزجاج الملون.

دورية ليلية تمر في الشارع، وكلب بلا مأوى ينبح في ملتقى طريق قفر، والجُدجُد يغني في بيتي.

وسرعان ما خفتت الأصوات تدريجيًّا، كانت الدورية الليلية قد ابتعدت، وكانوا قد فتحوا بابًا للكلب المسعور المهجور، والجُدجُد، بعد أن تعب من الغناء، راح في النوم.

وأنا، أكاد أكون قد خرجتُ من حُلم، وعيناي ما تزالان مبهورتين بعجائب عالم آخر، كل ما أحاط بي كان حلمًا ثانيًا لي.

آه! كم هو عذب الاستيقاظ وسط الليل، عندما يوقظك القمر — الذي ينزلق في السر حتى سريرك — بقُبلة حزينة!

وها هي الآن «ضوء القمر»، كما نقرؤها اليوم في «جاسبار الليلي»، تسبقها عبارة توجيهية مستعارة من صرخة «حارس ليلي»:

استيقظوا أيها النائمون،
وصَلُّوا من أجل الموتى.
آه! كم هو عذب — عندما ترتجف الساعة في قُبة الجرس، ليلًا — النظر إلى القمر بأنفه الشبيه بكارولوس٢٣٧ من الذهب!
كان أبرصان ينتحبان أسفل نافذتي، وكلب ينبح في ملتقى الطرق، وجُدجُد بيتي يتكهن بصوت خفيض.
لكن سرعان ما لم تعد أذناي تستجوبان إلا صمتًا. كان الأبرصان قد دخلا مسكنهما القذر،٢٣٨ مع لطمات جاكيمار الذي كان يضرب زوجته.٢٣٩
كان الكلب قد سلك شارعًا صغيرًا، أمام حراب البوابة التي أصدأها المطر وأضجرتها رياح الشمال.
كان الجُدجُد قد راح في النوم، ما إن أطفأت آخر شرارة آخر ضوءٍ لها في رماد المدفأة.
وأنا بدا لي — إذ الحرارة تسبب التشوش — أن القمر، عابس الوجه، يسحب لساني مثل مشنوق!٢٤٠
أن تكون القصيدة الثانية أكثر وصفية وتصويرية، فذلك من الوضوح إلى حد عدم الاحتياج للتأكيد عليه، فبرتران يبحث عن الطابع المحلي، لا المرتبط بالعصور الوسطى فحسب، لكن بمدينة ديجون، وقد أصبحت مفرداته محددةً وتصويرية (الجُدجُد يتكهن، والبوابة أصدأها المطر)، أما ما هو أكثر لفتًا للانتباه، فهو تحول النغمة: حلم اليقظة غير المادي للشاعر تحل محله لوحة صغيرة محددة، ذات لمسة جروتسكية: فالقمر، الذي «يرتدي ثوبًا من بخار» أصبح «عابس الوجه»،٢٤١ له أنف «شبيه بكارولوس من الذهب»، ويوقظ الشاعر «بقبلة حزينة»، لكنه «يسحب لساني مثل مشنوق»، ويمكننا أن نشعر بمذاق خاص في هذه السخرية الناشزة إلى حدٍّ ما، أو — على العكس — أن نأسف، مثلما يفعل «روهو»٢٤٢ و«شواب»،٢٤٣ على أن النسخة الثانية تحتفظ بالغنائية والسوداوية الحالمة لقصيدة شبابه. لكن، هل نلوم «برتران» على أنه أصبح «برتران» بكامله؟
واقعة مفارقة في جميع الأحوال: ذلك الاهتمام الذي يبديه «برتران» — وقد وصل إلى امتلاك كامل لفنه — في رفض الاتجاهات الغنائية لنفس هذه الرومانتيكية التي ارتبط بها في جوانب عديدة. إنها الآن طريقة «بارناسية» قبل حالتها النهائية، وهي التي تمنعنا — في «جاسبار» — من الوصول إلى أعماق روحه: ما من بوح في عمله، على الأقل في النثر.٢٤٤ هناك — فحسب — بعض التلميحات في أجزاء من «سيلف silves» و«عنزة ميتة» و«ربيع آخر» (هي القصائد التي كان يفضلها «سانت-بوف»)، ويمكننا أن نتساءل أيضًا عمَّا إذا كان «برتران» قد تركهم يطبعونها كما هي، وهو الذي يحذف — بعناية فائقة — كل تلميح شخصي (إلى والدته، وإلى أخته، وإلى «شبابه في إيطاليا»)، من مقطوعته «مدفأتي»٢٤٥ (التي أرسلها إلى صديقه «برونيو»، في شكلها الأولى، عام ١٨٢٩م).٢٤٦ أما بالنسبة ﻟ «قصائد منفصلة، مقتطعة من مخطوط المؤلف»، و«الملاكان» وقصيدة «إلى السيد دافيد، النحات»،٢٤٧ التي تؤثر فينا اليوم بشدة:
وقد رجوتُ، وأحببتُ، وغنيت، كشاعر فقير معذب!
وعبثًا يفيض قلبي بالإيمان، والحب، والعبقرية!
فلا ينبغي أن ننسى أنها لم تكن — بأية حال — مخصصةً لتشكل جزءًا من «جاسبار الليلي»، وبالفعل، فالغنائية الحزينة ذات صلةٍ واهية — إلى حدٍّ ما — ببقية العمل. فهدف «برتران» كان أن ينحت — بمهارة مدققة — قصائد قصيرة تصويرية، سيخفف من مذاقها الإيحائي أو الفانتازي موجات من الغنائية العظيمة، فبرتران ينتمي — في جوانب معينة على الأقل — «إلى مدرسة الشكل، التي ستصبح فيما بعد، مدرسة الفن للفن»، مثلما كتب «م. برونو».٢٤٨ وهو يتحدث — في مقدمته — عن «أساليب متنوعة، وربما جديدة، للانسجام والطابع المحلي، كنتيجة وحيدة ومكافأة وحيدة» عن «هذيانه الضائع»؛٢٤٩ ولا شك أنه لم يكن تنقصه الخيلاء عندما كتب إلى «دافيد»، عام ١٨٣٧م: «لقد حاولت خلق نوع جديد من النثر».٢٥٠

تقنية «برتران»: التكوين، الإيقاع، الصوتيات

جماليات الإيحاء
والواقع أن تجديد «برتران» الكبير يكمن في محاولته أن يُحل فكرةً تقنيةً محددةً، وشكلًا راسخًا تمامًا — شكلًا «مرنًا، كما يكتب «لالو»،٢٥١ دون أن يكون فوضويًّا، أبدًا، مُحكمًا فنيًّا، ومتسقًا منهجيًّا» — محل فكرة الغنائية التلقائية، التي تخلق الإيقاع بنفسها، بلا قواعد ولا منهج.
ومثلما تبنى آخرون شكل «السوناتا» في النظم، تبنى «برتران» شكل «النشيد الغنائي»، المكون من ستة مقاطع (أحيانًا خمسة أو سبعة)، وذلك حتى الكتاب الرابع، على الأقل، الذي — انطلاقًا منه، على ما يلاحظ «برتران» نفسه — «لا تصبح بعض القصائد مثل سابقاتها، مقطعةً بانتظام في مقاطع».٢٥٢ لكن نفس ملحوظة «برتران» (الموجهة إلى ناشره) تفيدنا بأن هذه الكتب الثلاثة، الرابع والخامس والسادس، كانت — بسبب ذلك — «أقل أهميةً من وجهة نظر المؤلف»، من الواضح إذن أن هذه القصائد النثرية كانت متميزةً — في رأي «برتران» — بالتكوين من خمسة أو ستة أو سبعة مقاطع، وأنه كان يهدف إلى منحها شكلًا ثابتًا، مشابهًا لشكل النشيد الغنائي. رد فعل — ربما — ضد الاتجاه المؤسف نحو التدفق، الذي أفسد بعض قصائد «رابيه»، و«ترجمات» نودييه، فبرتران يشعر بضرورة تلخيص القصيدة، وتركيزها حول العناصر الموحية، الأساسية، بمنع هذا الميل — الكامن دائمًا في النثر — إلى التأمل الأخلاقي، والبوح الغنائي.
وثمة مثال سيبين لنا كيف سيستعيد «برتران» ويصلح من مقال حول أحداث آنية، نُشِرَ عام ١٨٣٠م في «لوسبكتاتور» — وهي جريدة كانت تصدر في ديجون — ليحوله إلى قصيدة يدرجها في «جاسبار»، ونقطة الانطلاق هي دائمًا حلم يقظة حول موضوع مستمد من الواقع — واقع اللحظة، ما نسميه «حدث الساعة» — وسواء تعلق الأمر ﺑ «أخلاقيات اللعبة»، أو بمشهد في السيرك، فالموضوع ليس أساسيًّا، لكنها الصياغة الشعرية التي يمنحها له «برتران» أو «بودلير» أو «مالارميه».٢٥٣ والمقارنة الدقيقة بين نسختين من «أكتوبر» ستوضح لنا أن التقنية قد تغيرت، في نفس وقت تغير مفهوم الموضوع.
أكتوبر (مقال من عام ١٨٣٠م)* أكتوبر (نص من «جاسبار الليلي»)
لقد عاد السافواريون الصغار، وأصواتهم الشابة تقرع الآن صدى صوت حيِّنا. كان السنونو يتبع الربيع، وهم يسبقون الشتاء، والمطر المتقطع، الذي يضرب زجاج نوافذنا، وناقوس «سانت آن» الذي يرن في كآبة بالغة، والمتسولة التي تحرك رماد مدفأتها الصغيرة، والشبان المتعجلون المتدثرون بمعاطفهم، والفتاة العابرة التي ترتدي معطفها المبطن بالفراء، والعربة الثقيلة التي تهتز على ضربات سوط الحوذي، وأشجار كستناء متنزهاتنا التي تتأوه، جرداء عارية، والريح التي تكنس من وجه الأرض الأوراق الميتة، وذلك الأفق الشاسع بلا لون، بلا أبعاد، الذي تستجديه، بلا جدوى، النظرات العابسة، من المتاريس، كل شيء يدعونا إلى أن نأوي إلى محباتنا الأسرية، ونضيق دائرة ملاهينا، ورغم هذا، فها هي ليالي السهر بجوار النار تجيء، السهرات المسرحية، عيد القديس مارتان ومشاعله، عيد الميلاد وشموعه المضيئة، رأس السنة وأوراق الزينة، الملوك، وحلوى الفول، الكرنفال وصولجان مهرجيه، وأخيرًا عيد الفصح. عندئذٍ، سيكون قليل من الرماد قد مسح الملل عند جباهنا، وسوف يُحَيي السافواريون الصغار من أعلى التل النجع الذي وُلِدُوا فيه.

لقد عاد السافواريون الصغار، وصراخهم يستجوب الآن صدى حيِّنا، ومثلما يسبق السنونو الربيع، يسبقون الشتاء.

أكتوبر، بريد الشتاء هذا، يلطم أبواب منازلنا، ومطر متقطع يغمر زجاج النافذة المصدوم، والريح تنثر أوراق «الدلب» الميتة في الداخل المنزوي.

ها هي سهرات العائلة تأتي في عذوبة بالغة، عندما يكون الخارج كله جليدًا، طبقات من الجليد وضباب، وعندما تزهر ورود الياقوت على المدفأة في جو الصالون الدافئ.

ها هو عيد القديس مارتان يأتي بمشاعله، وعيد الميلاد وشموعه، رأس السنة وألعابها، الملوك وحبات فولهم، الكرنفال وصولجان مهرجيه.

وأخيرًا، عيد الفصح، بتراتيل الصباح المرحة، عيد الفصح الذي تتلقى الفتيات فيه القربان الأبيض والبيض الأحمر!

عندئذٍ، سيكون بعض الرماد قد مسح عن جباهنا ملل أشهر الشتاء الستة، وسيُحَيي السافواريون الصغار النجع الذي وُلِدُوا فيه من أعلى التل.

لقد عاد السافواريون الصغار، وها هو صراخهم يستجوب الآن صدى صوت حيِّنا، ومثلما يسبق السنونو الربيع، يسبقون الشتاء.

يذكره «سبريتسما» في أطروحته، ص١٤٩.
†  «جاسبار الليلي»، ص١٧٥.
وكما نرى، فالنص الأول أكثر وصفيةً وحكائيةً، بينما الثاني أكثر إيحاءً، لقد ألغى «برتران» كل الإشارات الديجونية الخالصة، الموجهة إلى قراء «لو سبكتاتور»، والتصويرية المفرطة قليلًا ما في المحلية والمتسلسلة في البداية، على نحو خاص، واحتفظ فقط ببعض التفاصيل الملموسة التي تميز الفصل السنوي (وتجعله أكثر إيحاءً: تحل «الريح تنثر أوراق الدلب الميتة في المدخل المنزوي» محل «الريح التي تكنس من وجه الأرض الأوراق الميتة»). ويفرض — بشكل خاص، على مقطوعته — التقسيم إلى مقاطع، يُكوِّن كل منها لوحة صغيرة متميزة، ويتجنب الشاعر الربط، والانتقالات، التي كان الصحفي يسعى لها (أُلغِيَت — على سبيل المثال — الجملة الخطابية الطويلة: «المطر المتقطع … الريح … ذلك الأفق … كل شيء يدعونا إلى أن نأوي إلى محباتنا الأسرية»). ويتسارع الإيقاع ليقودنا — عبر موكب سريع من الأعياد — نحو عيد الفصح، نقطة نهاية الشتاء، ومقطع يتوج القصيدة، في حين أن عيد الفصح — في النثر — كان يُغلق التعداد في كلمتين، وأخيرًا، يستعيد «برتران» — كرجع صدى، كي ينهي مقطوعته — مقطعه الأول، وفقًا لتقنية «شعرية» سبق اختبارها.٢٥٤

ها هنا، نرى «إبداع» برتران — في الصميم — وبراعته التقنية، التي ربما لم تكن بلا مخاطر، فإذا ما كان التقسيم إلى مقاطع يسمح بمنح القصيدة بناءً أكثر دقة وتوازنًا أفضل، فلا نستطيع أن نمنع أنفسنا من اكتشاف ميكانيكية معينة في تكوين من هذا النمط؛ إذ يقطع النص بطريقة عشوائية — على نحو أو آخر — إلى «شرائح» من نفس الأبعاد، ونشعر بقلق عندما نفكر أن نسقًا كهذا يسمح لأي كاتب فقير الموهبة بالحصول على «قصيدة»، انطلاقًا من مقال في جريدة.

وعلى أية حال، فما إن يتضح المظهر «الفني» والشكلي الإراديان لقصائد «برتران» الغنائية، حتى يقودنا كل شيء إلى أن نتعرف فيه على تقنية شديدة الدقة، لا تترك شيئًا للصدفة (هل يجب أن نقول للتلقائية؟)، لا معمار القصيدة العام، ولا معمار المقطع، ولا تركيب الجملة، سواء تعلق الأمر باختيار الكلمات أو بنظامها.

  • (١)
    إن البحث — بالنسبة لمجمل القصيدة — عن وحدة «معمارية» (الذي تم تسهيله بالبناء في مقاطع) محسوس للغاية، لكن التصميم — مع ذلك — لا يتغير أبدًا، فما بين فاتحة وخاتمة، هناك ثلاثة أو أربعة مقاطع موزعة بشكل متماثل، هذا التماثل الذي يتم التشديد عليه — بشكل عام — بطريقة مدرسية، وذلك بتكرار نفس الألفاظ في بداية كل مقطع: ففي «كوخي القش»، هناك ثلاثية٢٥٥ الصباح، المساء، الليل:

    ولكن الشتاء، أية متعة! عندما في الصباح …

    أية متعة! في المساء …

    أية متعة! في الليل …

    ونجد نفس التركيب، مع «التكرارات» الثلاثية في «قُداس منتصف الليل»،٢٥٦ وأربعة تكرارات في «الغرفة القوطية».٢٥٧ وفي «ضوء القمر»، كما سبق ورأينا، فيما بين الفاتحة والخاتمة — المخصصتين للقمر، واللتين تتبعان نسقًا سبق أن استخدمه «رونسار»٢٥٨ — يمهد المقطع الثاني للموضوعات الثلاثة التي ستتطور في المقاطع الثلاثة التالية: البرصاء، الكلب، الجُدجُد.
    بين هذه المقاطع، تدخل — أحيانًا، وإن يكن نادرًا — لازمة مخصصة للتأكيد على حركة مستمرة، في «الصيد»،٢٥٩ «وكان الصيد يمضي، والنهار كان مضيئًا»؛ وفي «البغَّالون».٢٦٠ إنها طريقة عادية في الأناشيد الغنائية الشعبية، وعلى سبيل المثال، في ترجمات «لويف-فيمار»، كما نجدها في أناشيد «فيكتور هوجو» الغنائية المنظومة، واستطاع «برتران» استعادتها في مقطوعاته الأولى (تحمل «البغَّالون» تاريخ ١٨٢٧م)، إضافةً إلى طريقة نهاية المقطع ذات الصدى، التي سيتخلى عنها فيما بعد.٢٦١ لكنه — في الأعمال التالية — سيتبنى، عن طيب خاطر، نسق استعادة المقطع الأول كمقطع ختامي، ويقفل العمل على نفسه، نجد هذا النسق لا في «أكتوبر»٢٦٢ فحسب، بل أيضًا في «المساء على الماء»،٢٦٣ و«ربيع آخر»،٢٦٤ و«الخيميائي»:٢٦٥

    لا شيء أيضًا! وعبثًا تصفحتُ طوال ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، على ضوء المصباح الشاحب، كُتب ريمون لول الغامضة!

    ***

    لكن لا شيء أيضًا! وطوال ثلاثة أيام أخرى وثلاث ليالٍ أخرى، سأتصفح، على ضوء المصباح الشاحب، كُتب ريمون لول الغامضة!

    كل هذه الأساليب البنائية — التي سأصفها بأنها أساليب «دائرية» — هي من الوسائل التي تسمح للكاتب بالتركيب، بدلًا من العرض، بشكل خَطِّي (وهو عيب بعض القصائد الغنائية الطويلة والرابسودية، مثل نشيد «حسن أغا» الغنائي)، وتنظيم أجزاء قصيدته بطريقة موسيقية تقريبًا، وتأسيس توازن معماري، إن الإرادة التركيبية والفنية تقود وتراقب الإلهام بلا انقطاع، كما سيكون عليه الحال بالنسبة لكل «شعراء النثر»، الذين يسيطر عليهم هاجسٌ جمالي شكلي ومحدد تمامًا.

  • (٢)
    ونفس الملاحظات ستنطبق على تركيب المقطع، وتنظيمه التماثلي مع ملاحظة أهمية نسق الطباعة الذي يستخدمه «برتران»، بصورة منهجية تقريبًا، مثلما يستخدم شعراء العروض تغيير السطر ليفرضوا وقفةً ما، وترقبًا معينًا، إنها «الشَّرطة» التي سيكثر استخدامها عند «رامبو» و«مالارميه»، وتؤكد الشَّرطة — في فصلها بين أجزاء السرد المختلفة — على تركيب المقطع: بناء ثلاثي في «جَد أبي»،٢٦٦ ورباعي في «الرجل الثاني»،٢٦٧ وتركيب أكثر تعقيدًا — ويمكن وصفه بأنه متعدد الأصوات — في «حلم»،٢٦٨ حيث تتابع ثلاثة أفعال بشكل متوازٍ، بفضل الشَّرطة، وكل مقطع يستعيد — على التوالي — الموضوعات الثلاثة:

    … - نحلة على الأسوار التي شققها القمر، - غابة تخترقها دروب ملتوية - والمورمون محتشدون بالقبعات وأغطية الرأس.

    ويصبح الإيقاع نفسه محسوسًا بصورة أكبر بهذا التقسيم للجملة، أو المقطع، إلى عناصر ذات أطوال متباينة، نرى الإيقاع يتسع — على سبيل المثال — في سلسلة من أساليب التعجب التي تستهل «الرجل الثاني»:

    جحيم! جحيم وفردوس! - صرخة يأس! صرخة فرح! تجديف المنبوذين! حفلات المصطفين الموسيقية! - أرواح الموتى الشبيهة بسنديان الجبل وقد اقتلعته الشياطين!

    والأثر الناتج مزدوج: أثر التناقض بتجميع أساليب التعجب المتضادة، اثنين اثنين، وأثر اتساع الإيقاع، حيث ينقسم المقطع إلى أجزاء ذات أطوال متزايدة.

    وفي موضع آخر، وبتوافق مع المعنى، ستأتي الشَّرطة، على النقيض، لتكسر الإيقاع، وتُنتِج أثر الانقطاع:

    لكن سرعان ما ازرقَّ جسده، شاحبًا مثل شمع الشمعة، وامتقع وجهه واصفَر، مثل شمع الذُّبالة الأخير - وفجأةً انطفأ. ٢٦٩

    وفي هذه الحالة الأخيرة، تعمل الشَّرطة بطريقة الإرجاء، وتسمح أيضًا بإطلاق خاتمة مفاجئة، بل تستطيع حتى أن تبرز كلمةً دالة، لا تسمح علامات الترقيم بفصلها:

    كم ضحك هازئًا ذلك المجنون الذي يهيم كل ليلة، عبر المدينة المهجورة، وعين على القمر والأخرى - مفقوءة!٢٧٠
  • (٣)
    وسواء كان إيقاع الجملة مشددًا عليه بالشَّرطة أم لا، فعلينا — في جميع الحالات — ملاحظة تنوعه وقيمته التعبيرية: من هنا، يبدو «برتران» خبيرًا حقيقيًّا بالنثر، بارعًا في الإيحاء بالفكرة من خلال الإيقاع: إيقاع حيوي، صارم، ﻟ «المرهف»،٢٧١ بخاتمته ذات الثمانية مقاطع التي تذكرنا بمونولوج «فيجارو» الشهير:٢٧٢

    هل كنا سنتخيل أبدًا / عند رؤية قيافتي المضحكة الأنيقة / أن الجوع المتوطن في معدتي/ي سحب منها - هي المعذبة - ! حبلًا! يخنقني كمشنوق!

    إيقاع احتفالي لحلقة السحرة، الذين تجتاز أصواتهم الظلمات٢٧٣ - «في شكل موكب» (وعلينا ملاحظة كيف أن «في موكب» ستكون أقل طنطنة)، إيقاع راقص، في غاية التحديد، ﻟ «أغنية الأقنعة».٢٧٤

    … لهذا البهاء السحري/ للثريا/ لهذه الليلة الضاحكة/ مثل النهار.

يستخدم «برتران» كل حيل النثر، وثمة مثال مدهش نراه أكثر حريةً مما في النظم. لقد نجح «برتران» في خاتمة «مكتب خدمة المساء»:٢٧٥ «وأنا الحاج، راكعًا على انفراد تحت الأرغن، بدا لي أني أسمع الملائكة وهي تهبط من السماء في تناغم». معجزة صغيرة من الاستحضار المتساوق والإيحائي، سواء عبر الصوتيات اللينة، الرطبة، والمتحركة (Agenouillé راكع، Ouir أسمع، Mélodieusement في تناغم)، أو عبر الحركة المتعرجة لجملة تمتد إلى «الظرف النهائي».٢٧٦ والواقع أن هذا الموضوع كان قد عالجه، في شبابه، في منظومة من ثمانية مقاطع، وها هو ما استخلصه منها:٢٧٧
وأنا الحاج لوتاس
مشبع بالأمل والكآبة،
أصلي بورع متواضع،
وكنت أتنهد على انفراد: هل،
هل هو أنتم أخيرًا، أيها الرب المخلِّص؟

مقطع لا هو بالبطيء ولا المتجانس، بل العكس تمامًا! ويتضمن «على انفراد: هل» المزعجة حقًّا … فالنثر (نثر «برتران» على الأقل) يتأكد إذن بصورة أكثر سلاسة، وأكثر غنًى من الشعر ذي الشكل الثابت.

وعلينا أن نلاحظ — مع ذلك — أن «برتران»، في أغلب الأحيان، يتجنب «الطلاوة» (التي كثيرًا ما سعوا إليها في نثر القرن الثامن عشر الشعري) أحيانًا بتمزيق الجملة بالشَّرطات:

وأيضًا، - فلو لم يكن منتصف الليل، - تلك الساعة التي شعارها التنانين والشياطين! - والعفريت الذي يسكر من زيت مصباحي!٢٧٨
وأحيانًا بفرض قَطع «جامد» بعد e الصامتة:٢٧٩
Chacun d’eux avait pour cuillère//I’os/de l’avant-bras d’un mort.
كل منهم كانت له كملعقة // عظمة / من مقدمة ذراع ميت.٢٨٠
إنه يبحث — فيما يبدو — عن النهايات الحادة للمقاطع،٢٨١ وعن «وقفات» العبارات الموجزة (على عكس الإيقاع الخطابي الذي يأخذ في التضخم):
… خادمة دار الضيافة / التي تعلق على النافذة / طائر تدرج ميت.٢٨٢
أي طريق أنجز منذ النثر «الموزون»، وفترات «قصائد» النثر الجميلة في القرن الثامن عشر، وأيضًا في القرن التاسع عشر، مع «مارشينجي»! إنها جُملة «برتران» المتوترة والسريعة التي انتهت إليها كل المحاولات، بدءًا من «أوسيان» إلى «جوزلا»، ولا ينطبق ذلك على الإيقاع فحسب، فبعد عديد من كُتَّاب النثر الشعري، الذين يسكبون بغزارة — في الأذن — طوفانًا من المقاطع اللفظية الرخيمة والعذبة، يتخلى «برتران» عن هذا المفهوم القَبلي للطلاوة الغزيرة، لهذا الأسلوب السيال على نمط واحد، وينوع الصوتيات في ارتباطها بالفكرة، ولا يخشى الأصوات القوية، ولا التناقضات الحادة، ستتكدس النهايات المقفلة بقعقعاتها في خاتمة «متسولو الليل»:٢٨٣

وهكذا حدث أن تَعلَّق على نار الشعلات، مع متسولي الليل، وكيلٌ في البرلمان، كان يسعى إلى مغامرات عاطفية، وصبية العسس الذين كانوا يحكون، دون ضحك، مآثر بنادقهم القديمة الفاسدة.

وسوف تستدعي الحروف الصافرة — بداهةً — صفير جهاز التقطير في «الخيميائي»،٢٨٤ وسيوحي حرف الراء r في «البرصاء» ﺑ «كركرة ثرثرة الساهرين المزعجة».٢٨٥
ومن بين كل هذا الجناس، الذي يستخدمه «برتران»، بشكل منهجي حقًّا، فإن بعضه لا يخلو من نكهة هزلية — «القزقزة الساخرة» ﻟ «كمان جامبا الأوسط»٢٨٦ — حيث قعقعة عظام الموتى التي تُدوي بدعابة جنائزية، في الجملة التي كان «برتران» يأمل ألا يُسمع فيها «سوى الهيكل العظمي للجندي الألماني المرتزق»؛٢٨٧ وثمة تصويرية ساخرة ماكرة في استدعاء الصبى «البكَّاء» في «أصابع اليد الخمسة»،٢٨٨ و(بقريحة تنتمي تمامًا لرابليه) في استدعاء الحاخامات اليهود، الذين «يدندنون، ويخنخنون، ويبصقون، أو يتمخطون»، في «اللحية المُدَبَّبَة».٢٨٩
والواقع أن في استخدام «برتران» للقيمة التعبيرية للأصوات، تبهرنا — بشكل خاص — الطريقة الواعية التي يستخدمها بها، وقبله، حدد «ديدرو» الإيقاع الشعري باعتباره «توزيعًا معينًا للمقاطع اللفظية الطويلة والقصيرة، الجامدة والرخيمة، المكتومة والعالية … المماثلة للأفكار التي نتوفر عليها، والتي تشغلنا بشدة، والأحاسيس التي نشعر بها والتي نريد إثارتها، والظواهر التي نبحث فهم أعراضها …».٢٩٠ لكن هذا التناسب بين الأصوات والأفكار أو المشاعر — بالنسبة لديدرو — تلقائي تمامًا، إنه فن «مستلهم من ذوق طبيعي، من حركية الروح والحساسية»، و«برتران» نفسه بعيد عن التأليف استنادًا إلى الإلهام، والاستسلام لنوع من الغنائية الفياضة، فنحن نشعر دائمًا — خلال قراءته — بسيطرة فنان يراقب ويوجه، بشكل شديد الوعي، كل مؤثراته، ودراسة تنقيحاته العديدة تكفي — فضلًا عن ذلك — لإثبات مدى العناية التي يوليها لصياغة الشكل: كاتب بعيد عن الارتجال، فنان متشدد، مدقق، ومثابر.
ويؤكد لنا ذلك شقيقه وصديقه «بيتي»: كانت منضدته «منثورة بالمسودات، المشطوبة والممزقة»،٢٩١ لقصائد كان ينقحها «ويصقلها باستمرار».٢٩٢ وسبق أن تحدثت عن نصوصه المتنوعة في حديثي عن نسختَي «ضوء القمر»، وفي مخطوط عام ١٨٣٦م، الذي نشره «ب. جيجان»، ثمة عدة تصحيحات أيضًا، والواقع أن النتائج التي تقودنا إليها دراسة هذه النصوص المختلفة والتصحيحات، هي — دائمًا — نفس النتائج، وهي من نوعين:
أولًا، يُصحح «برتران» نفسه بذوق دقيق وسليم، مبتعدًا — أكثر فأكثر — عن التشدق بالكلام «الشعري»، ليضع — بدلًا مما هو عادي أو تقليدي — صياغات إيحائية أو تصويرية، باحثًا عن الطابع، أكثر من بحثه عن موسيقى العبارات، ولن نذكر سوى مثال واحد، وهو ما كان — عام ١٨٢٨م — المقطع الأول من «قلعة مولجاست»:٢٩٣

يتخذ نهر «أودير» — أمام «مولجاست» — مجرًى هادئًا، إلى حد الاعتقاد أنه قد توقف للحظة، وفي منتصف اﻟ «أودير»، أمام أسوار المدينة، تنتصب القلعة، محاطة بحظائر متينة من قصب، وصفين من الأوتاد الخارجة من الماء، والعسكر المجندون يحتلون الأبراج الدائرية والمربعة، ودخان المدفع يخرج في سحابات خفيفة من الفوهات العميقة، ومدافع الحنشية ترمي — وهي تصفر — بألسنتها على الأمواج الهادرة.

وها هو ما أصبح عليه في «جاسبار»:٢٩٤

كم هي هادئة ومهيبة القلعة البيضاء، على اﻟ «أودير»، بينما كل فوهات المدافع تعوي ضد المدينة والمعسكر، ومدافع الحنشية ترمي — وهي تصفر — بألسنتها على المياه ذات اللون النحاسي.

يحذف «برتران» كافة التفاصيل الخاصة بالوصف العادي، والصفات غير المفيدة (سحابات خفيفة، فوهات عميقة)، والمفردات الشعرية التقليدية (أمواج)، ويضيف بعض علامات الألوان (بيضاء، اللون النحاسي)، ويبحث — بشكل خاص، عبر بضع كلمات منتقاة بدقة — عن مؤثر التناقض: «هادئ ومهيب» تشكل تناقضًا مدهشًا مع «تعوي» و«ترمي وهي تصفر».٢٩٥ وبعد تحويلها، وإعادة بنائها، تصبح الجملة موحيةً وملونة.
الملاحظة الثانية: هنا نرى كل ما اكتسبته الصياغة الثانية، بعد تخفيفها من التفاصيل المملة، الملخصة في صورتين مدهشتين ومتعارضتين، والواقع أن دراسة النسخ المختلفة، عند الحصول عليها، تكشف أن الثانية — دائمًا — أكثر إيجازًا وأسرع من الأولى، فبرتران (مثل «رامبو» و«مالارميه» فيما بعد)، يذهب دائمًا في اتجاه الحذف والكثافة، وهو أمر حقيقي منذ «نثره» الأول الذي كتبه عام ١٨٢٦م،٢٩٦ والذي ينحو به نحو شكل ثانٍ، بالحذف بالريشة، وثالث، بالحذف بالقلم الأزرق، وسيكون ذلك هو واقع جميع المقطوعات التي سيصححها فيما بعد، وهذا الإيجاز، وهذه المراجعة، سيكسبان الأسلوب عنفوانًا وقوةً إيحائية تعوضه — ربما — عما فقده من طاقة موسيقية، ولا بد — من وجهة النظر هذه — من مقارنة مقطوعة «الغسالات» الرشيقة، والموسيقية ولا شك،٢٩٧ المتكلفة قليلًا — رغم ذلك — بالرائعة الأدبية التي تستحضر الريف وعالم الجن الساخر، وهي «جان دي تَيي»: فها هي كيفية وصف حوري الماء في المقطوعة الأولى:

إنه، على ما تقول الغسَّالات والفتيات، هو الحوري من آرمانسو، الذي تستهويه سرقة خواتمنا، عندما تداعب الأمواج أذرعتنا، والذي يرقص ويغني في الليل على زبد الشلال، والذي يقطف — وهو الخبيث المغرور — الفاكهة الناضجة ويلقي بها في المياه.

هذه الجملة الطويلة، المتوازنة في انسجام، وذات الجمال المسطَّح إلى حدٍّ ما («تداعب الأمواج أذرعتنا»، على ما تقول الغسالات «بشعرية») لن يتبقى شيء منها في «جان دي تَيِّي»: فلن يُقال لنا إن «حوري البحر تستهويه سرقة الخواتم»، فهناك مشهد، خاطف وتصويري، يوحي بذلك، مشهد يتحول فيه «آريل» الرشيق — خلال رقصه «على زبد الشلال» — إلى «تيي» الخبيث، فيطارد الغسالات بأفعاله الماكرة:

«خاتمي، خاتمي!» وأرعبت صرخة الغسالة فأرًا يغزل خيوطه في أجمة الصفصاف.

حيلة أخرى لجان دي تيي، حوري البحر اللئيم والخبيث، الذي يجري، يشكو ويضحك تحت الضربات العنيفة للمقرعة!

كما لو أنه لا يكفيه أن يقطف، في أجمة النهر الكثيفة، الزعرور الطازج الذي يغرقه في التيار.

لا يكمن الاختلاف في المفهوم وحده (مقطوعة شعبية ساخرة عن عالم الجن، ونكهة ريفية)، لكن في العرض أيضًا: ثلاثة مقاطع قصيرة، ديناميكية، وتؤدي تفاصيلها وإيقاعها٢٩٨ بحوري البحر إلى أن ينبثق رشيقًا راقصًا.
وهو نفس ما حدث بالنسبة للمشهد الذي وصف فيه بإسهاب الغسَّالات، ليتم إيجازه — في بضعة خطوط ملموسة — عند نهاية «جان دي تيي»: هذه «الخاتمة» المدهشة، «التي كان يمكن أن يوقع عليها «شواب» أو «لويس»، على ما يقول «ر. شواب»:٢٩٩

والغسَّالات، المشمَّرات مثل عاملات يضربن الغسيل، يعبرن المخاضة المنثورة بالحصى، والعشب، ونبات سيف الغراب.

ولا شك أننا نلمس — هنا — ما هو أكثر خصوصية، وأكثر ضرورة من الناحية العضوية، في إبداع «برتران»: ففي فترة ارتكاز الأساسي في الفن على التطوير، وحيث ستدفع الغنائية الرومانتيكية بالإطناب إلى حدود قريبة من المغالاة (فتستخرج — مثل «هوجو» — مؤثرات خطابية من المقطع الكبير، يحفزها إلهام رحيب، أو سرد بلا تحفظ،٣٠٠ أو تترك — مثل «لامارتين» — فيضان الغنائية الشعرية يتدفق بلا ضوابط)، فإن «برتران» لم يكن ليستطيع أن يكتب بطريقة أخرى إلا بأن يحدد نفسه، ويختصرها، ويكثفها باستمرار، ويبدو كأنه يفرض على نفسه — دائمًا — هذه القاعدة الإجبارية لفنه: السيطرة على الحد الأقصى من الطاقات الإيحائية، في أقل قدر ممكن من الكلمات، مشهد بكامله في ثلاثة أسطر، لوحة بكاملها عن الحرب (في قلعة ولجاست) في مقطع موجز.٣٠١ والحقيقة الجديدة التي يضيفها بذلك إلى الفن هي إمكانية تحقيق مزيد من الإيحاء بعدم التعبير عن كل شيء: لقد تقدم «برتران» كثيرًا، وهو بذلك يستشف (ألهذا وضعه «مالارميه» في مكانة رفيعة، إلى هذا الحد؟) جماليات الإيحاء.
ولا شك أنه لم يَصُغ هذه الجماليات في أي مكان، لكنها توجه — رغم هذا — مظهرين أساسيين في تقنيته، ولا يمكن إلا أن نؤكد عليهما قبل ختام الحديث: أولًا، الاقتصاد في الأدوات، والقيمة القصوى الممنوحة لكل تفصيلة، في فن يتعلق بأن نقول الأكثر بالأقل، وبالنسبة لبرتران — كما بالنسبة لمالارميه فيما بعد — فلكل كلمة حساب، أولًا لقدرتها الإيحائية الخاصة بها (معنًى وإصاتة)، ولموقعها بعد ذلك في الجملة، وللدور الذي تلعبه في علاقتها بالكلمات الأخرى، ويمكننا أن نتبين — على سبيل المثال — مدى العناية التي يختار بها «برتران» النعت ويبرزه، عندما يحدثنا عن قصر حوري البحر، «مبنى سيال في أعماق المياه»،٣٠٢ وعن الحشد الذي «يتجمع بلا حصر»٣٠٣ في الغابة لمحفل السبت، أو عن الممر الضيق الذي «كان يتلوى مضيئًا في الجبل».٣٠٤ وأيضًا، فبفضل التوزيع البارع للكلمات في الجملة، فإن إيقاعها يكفي — لا أقول ليقلد — بل لأن يوحي بمفاجأة فانتازية، وبالغياب الخفي لحوري البحر: «ذرفت بضع دمعات/وأطلقت قهقهة ضاحكة/وتلاشت في دفقات مطر/انسابت/بيضاء/على طول زجاجي الأزرق».٣٠٥ في هذا الأسلوب المركز، لا شيء متروك للصدفة، وكل التفاصيل لا بد من حسابها، وفي ذلك، ينتمي «برتران» إلى النثريين مثل «مريميه»،٣٠٦ بأكثر من انتمائه إلى كبار ناظمي الشعر الرومانتيكيين، من الطريف أن نسجل أن النثر — لأنه، تحديدًا، ليس «موزونًا»، ولا ينطوي على حدود صارمة — فهو يعاني من ضرورة الإيجاز والاقتصاد في الأدوات.
ويكمن الأثر الثاني — وربما الأهم — لجماليات الإيحاء هذه، في أنها تقود الكاتب، طبقًا لتقنية هي أيضًا «مالارميه» تمامًا (نسبة إلى «مالارميه») — إلى مضاعفة «البياض»، والفراغات بين المقاطع، ﻓ «برتران» يلتقط كل ما يمكن استغلاله من وسائل هذا الإرجاء، الذي يترك للخيال متعة إعادة تكوين ما لم يتم قوله، «صمت غنى»، مثلما سيقول «مالارميه» عن الشعر الحر،٣٠٧ الذي يوسع بلا حدود من أفق حلم اليقظة، فهو يلغي الأوصاف، والانتقالات التي لا نفع فيها، ويقدم — بشكل منفصل — المظاهر المختلفة للمشهد،٣٠٨ والمراحل المختلفة لفعل معين، لا يهرب، بل — على النقيض — يبحث عن أثر القطيعة بين رؤيا ليلية مرعبة، والاستدعاء الحيوي الذي يليه، بعد صمت مفعم بالإيحاء.

هذا الضوء المرعب كان يلون أسوار الكنيسة القوطية بشعلات المطهر والجحيم الحمراء، ويمد على البيوت المجاورة ظل التمثال الهائل للقديس جان.

صدئت دوارات الهواء، وأذاب القمر السحب الرمادية اللؤلؤية، ولم يعد المطر يسقط إلا قطرةً قطرة من أطراف السقف، ورمت الريح — وهي تفتح نافذتي التي لم تغلق جيدًا — بزهور ياسميني الذي هزه الإعصار، على وسادتي.٣٠٩
نفس الإيحاء في هذه «النهايات» التي لا تكتفي ﺑ «إغلاق» النص، بل تنطوي — فضلًا عن ذلك — على دعوات جديدة للخيال، ومنظورات توسع من اللوحة، هكذا بالنسبة للمقطع الأخير من «جان دي تَيِّي»، الذي سبق ذكره من قبل،٣١٠ وبالنسبة للرؤيا التي تظهر في نهاية «الماسوني»:٣١١

… لاحظَ، في الأفق، قريةً أحرقها المحاربون، كانت تتوهج مثل شهاب السماء اللازوردية.

بهذه التهوية للنص، وبهذه الفراغات التي توفرت — الآن — بين المقاطع أو نهاياتها، قدم «برتران» مأثرة إلى الأدب، حسب تعبير «ر. شواب» (الذي أوضح جيدًا أهمية هذا الإرث»، «في نَفَس جديد»).٣١٢

خاتمة: حدود برتران وقيمته

بعدَه: تأسس النوع
بشكل خاص، هنا، ربما يبدو هذا الشاعر المجهول، هذا القريب الفقير للرومانتيكية، كرائد لنوع معين من الشعر الحديث، أقصد فن المقطع هذا، وتقنية القَطع، وهذه القيمة الإيحائية الممنوحة للصمت، ونجد هذا المفهوم الشعري لدى شعراء جد مختلفين عنه، مثلما — على سبيل المثال — لدى «لوتريامون» و«مالارميه» (الذي سيمنح — أكثر فأكثر في شعره — دورًا أساسيًّا إلى «البياض» والصمت)، وشعراء أكثر قُربًا منه، «بول دروو» و«جيد» صاحب «قوت الأرض». وهكذا، نحن مسوقون إلى التفكير في أن هناك اتجاهًا في النثر، يختلف شكله — في سعيه إلى أن يصبح «قصيدة» — عن كل ما سبق من أشكال الاستدلال المترابطة والمتتالية، وعن السرد، وعن كل ما ينتح من عملية التطور، اتجاه متهم في النثر المؤلَّف من مقاطع، الناتج من ترجمات المقاطع الشعرية (أناشيد غنائية أو أغنيات)، وذلك في عصر بدأ فيه الميل إلى المقطوعات القصيرة في التغلب على مقطوعات التصوير الجداري الملحمي الكبرى، ولا يمكن فصل جماليات الإيحاء هذه — في جوهرها — عن جماليات قصيدة النثر ذاتها، مثلما سنراها وهي تتصاعد — شيئًا فشيئًا — من الأعمال؛ علينا — إذن — أن نكون ممتنين إلى «برتران»، لأنه أول من اعتبر — بهذا الوضوح — قصائده «لوحات مضحكة» قصائد حقيقية.٣١٣ ويكمن دوره الخاص في منح الحكم الذاتي إلى نوع لم يكن قد استقل — بعد — عن النثر الشعري، وأنه ميز — بلا لبس — نوع «قصيدة النثر» عن الأنواع «الشعرية» المتاخمة (ملحمة نثرية، قصص، تأملات أخلاقية أو غنائية). فبرتران «يُصَفِّي» — إن صح التعبير — قصيدة النثر من العناصر النثرية التي كان يغالي فيها إلى ذلك الحين، وربما لم يكن ذلك فيما يضيفه، بقدر ما كان فيما يحذفه، وهو ما أدى بها إلى الوجود كنوع أدبي.
وعلينا أن نمعن التفكير في ذلك عندما نحاول لوم مؤلف «جاسبار» على أوجه قصوره، وقصر النفس، وقلة الكثافة الإنسانية في لوحاته، أو المبالغة في البحث الشكلي التي تضفي على عبارته — أحيانًا — طابعًا ثقيلًا من العمدية و«القصدية» المفرطة، وهو ما يقوده إلى الارتباط، في أغلب الأحيان، بمؤثرات تصويرية خالصة (ولكن، هل يمكن لوم «كالوت» على أنه ليس «رمبرانت»؟) وأخطر اتهام يمكن توجيهه إلى «برتران» هو أنه فرضَ على قصائده — بشكل منتظم — إطارًا ضيقًا ومتماثلًا دائمًا، فاختزل — بذلك — نشيده الغنائي النثري إلى نمط ذي شكل ثابت، مثل «السوناتا» أو «الروندو».٣١٤ فلماذا هذا الشكل «المسبق»؟ لماذا تكون ستة مقاطع لا اثنين، أو ثمانية، حسب الضرورات الداخلية للموضوع الشعري؟ ولماذا المقاطع، على نحو إلزامي؟ ونستطيع أن نقدر — بشكل أفضل — مثالب قالب كهذا، عندما نتحقق من مدى سهولة اختلاق سلسلة متماثلة من «قصائد النثر» باستخدامه: والمقلدون بلا موهبة — من بين البرناسيين بشكل خاص — لن يمتنعوا عن استخدامه، ويدفع هذا النسق — على أية حال — إلى سوء استخدام الأساليب الشكلية، والتماثلات، والتكرارات (رأينا — فيما سبق — المقاطع وهي تنتظم، في شكل شبه آلي، بين الاستهلال والخاتمة)؛ ونرى كيف يتخلق — منذ ذلك الحين — علم بلاغة كامل لقصيدة النثر، هل استحق الأمر — حسبما سيُقال — الرغبة في تحرير الشكل وتحطيم الأُطر الموجودة، كي نحل محلها أُطرًا أخرى أكثر صرامة؟
وإنه لحقيقي — تمامًا — أننا نستطيع أن نتخيل — بالنسبة لقصيدة النثر — بنيةً أكثر عضوية، وشكلًا أكثر حرية من النشيد الغنائي ذي المقاطع الستة، ولكن علينا ألا ننسى أنه كان ضروريًّا، من أجل البدء، أن نرى بوضوح ضرورة وجود بنية وشكل ما، وربما كان ثمة احتياج — بالضبط — لفنان محدود، مثل «برتران»، من أجل تعيين حدود النوع، ولا شك أن هذا النمط من الشعر «الفني» بمقاطعه، وأساليبه التي يمكن حصرها بسهولة، هو الذي سرعان ما سيكون له تأثير فن شكلي خالص، وسيُصاب مبكرًا بالتصلب، إلى حد أن يهجره شعراء العهد التالي، بحثًا — على النقيض — عن المجهول واللامتناهي، ليخلق كلٌّ منهم شكله ولغته الشخصيين. ولا يقل عن ذلك حقيقةً أنه إذا كان شاعر «جاسبار الليلي» — المنحرف المزاج، بلا أصدقاء، وبلا مجد — قد أبدع أيضًا، بشكل مؤكد — شأن زعماء المدارس الصاخبين — نمطًا جديدًا في التعبير الشعري، فذلك لأنه أجهد نفسه لمنح «خيالاته» وحدة وصرامة وكثافة القصيدة.

(٣) من الرومانتيكية إلى بودلير

يمكننا أن نتساءل لماذا ظلت طرق قصيدة النثر — التي رأينا كيف سار فيها عديد من الكتاب في بداية القرن، بحثًا عن شكل جديد — شبه مهجورة، ولم يرتَدْها إلا أفراد منعزلون، مستقلون، يرسمون لأنفسهم — على أية حال — مسارات شخصية، بدلًا من أن تصبح — بعد عام ١٨٤٢م — دروبًا أدبية جيدة التحديد ومطروقةً تمامًا، يرجع ذلك لسببين على الأقل: أولًا، أن «برتران» قد أوضح — جيدًا — مسارات وقوانين النمط الجديد، لكن من يعرف «برتران»؟ ولنتذكر أن من بين نُسخ الطبعة الأولى المائتين، هناك عشرون نسخة فقط، كما يقول الناشر، «أُهدِيَت، وهي أكثر مما تم بيعه»، وتأثير «بودلير» هو الذي سيدفع بآسلينو (الناشر) إلى إصدار طبعة جديدة للديوان عام ١٨٦٨م، فنموذج «برتران» وتقنيته يظلان حبرًا على ورق بالنسبة لمعاصريه.
ولكن، إذا ما كان البحث عن طرق جديدة في مجال قصيدة النثر متناقضًا، فذلك — بشكل خاص — لأن الثورة الرومانتيكية، وهي تروِّض الشعر المنظوم، وتقربه من النثر، قد جعلت مثل هذا البحث أقل إلحاحًا بكثير، كانوا يريدون الهروب من طغيان القواعد الصارمة والقوالب المتحجرة، واللغة الشعرية التقليدية، كل هذا تحقق في إطار الشعر المنظوم نفسه، فما فائدة البحث، من الآن فصاعدًا، في مجال النثر؟ فلنُعد قراءة «إجابة على قرار اتهام»:٣١٥ ﻓ «فيكتور هوجو»، الذي يتباهى بأنه نفخ «رياحًا ثورية» في الشعر الكلاسيكي، وفي «كتائب الرباعيات السكندرية» (بمعنى أنه روض الشعر المنظوم، وخلصه من الوقفة الوسطى، ومن الرباعية)، بما لا يقل عن «وضع قبعة حمراء على القاموس القديم»، يلخص هذه اﻟ: «ثلاثة وتسعين» (أي ثورته) الشعرية في خلاصته:

لقد رميت بيت الشعر النبيل إلى كلاب النثر السوداء.

فما فائدة البحث في موضع آخر؛ ذلك — بالتحديد — لأن الشعر المنظوم الأكثر سلاسةً وحريةً قد تعرض — بشدة — إلى مفعول النثر، ولأن النثر — كأداة شعرية — لم يعد ضروريًّا، ويستطيع الرومانتيكيون أن يتقبلوا — تمامًا من حيث المبدأ — حرية الشكل الشعري الكاملة، وأن يروا الشعر في الدراما، وفي الرواية (يتحدث «هوجو» عن قصيدة «هان الأيسلندي»): فهم يجهلون تمامًا «قصيدة النثر»، ولا شك أننا نستطيع أن نكتشف — حقًّا — قصائد نثر لا إرادية، في مسودات «يوميات شاعر» ﻟ «فيني» (ونعرف المشروع المسمى «الفرجار»، ويمكن لنا الاعتقاد بأن قوته الإيحائية ما كان لها أن تتوهج فيما لو كان «فيني» قد صاغه نظمًا)، وفي «أشياء مرئية» لفيكتور هوجو، يحلمون — أبدًا — بأن يروا، في هذه المقتطفات، أشكالًا أدبية حقًّا، أي قصائد. وعندما يثور «موسيه» ضد الذين يريدون أن يصنعوا «شعرًا» من النثر،٣١٦ وعندما يصب «هوجو» لعنته على «النثر الشعري» لمارشينجي،٣١٧ نشعر تمامًا أنه لا الأول ولا الثاني قد خطر بباله أن ثمة نمطًا أدبيًّا جديدًا سيكون «قصيدة النثر».
ولا شك أن المجلات، والدفاتر التذكارية، قد واصلت فتح أعمدتها للترجمات، والترجمات المستعارة، والتقليدات، وكذلك مقطوعات النثر المتقنة، والوصف والانطباعات، وقد ندر أن نجد فيها قصائد نثر أصيلة، وعندما يحدث أن نقابل قصائد نثر كهذه، مكونة من مقاطع، على طريقة «برتران»، مع تأثير التكرارات أو اللازمات، مثل «منتصف الليل» لشينييه، و«المنفي» للامارتين، «والكوخ القش» لبرتران نفسه، فإننا نُفَاجأ بتصنيف الأولى — في «كورون ليترير» عام ١٨٣٧م — ضمن اﻟ «محاولات»، والأخريين ضمن اﻟ «انطباعات».٣١٨ ولا مجال للحديث عن قصيدة النثر، فإذا ما كانت تواصل طريقها، فذلك إنما يتم — إذا جاز القول — خلف القناع.

وسنرصد بضع محاولات منعزلة — فحسب — في قصيدة النثر، حتى حوالي عام ١٨٦٠م، محاولات تحققت في فترات شديدة الاختلاف، وتمثل الجهود الفردية لبعض الكتاب في استخدام النثر لتحقيق أهدافهم الخاصة، شعريةً كانت أو حتى غير شعرية (أفكر في «لامنيه»)، أكثر من تفكيرهم في انتصار نوع معين تبنته وتمثلته إحدى الجماعات (على نحو ما سيكون عليه الحال بالنسبة لقصيدة النثر الرمزية)؛ إن قصيدة النثر صيغة فردية بحكم تعريفها، وتنوع الأهداف والمدارك فيها مدهش على نحو خاص، عندما نلاحظ — على نحو ما سأفعل حالًا — أن كُتَّابًا من قبيل «لامنيه» و«موريس دي جيران» وبضعة آخرين (مثل «لوفيفر-دومييه» أو «باربي دورفيي») يؤلفون أعمالًا متدنية، لكنهم يتوفرون على شخصيات متفردة.

لامنيه والأسلوب التوراتي

في المجلد الثاني عشر من «تاريخ اللغة الفرنسية»، يصنف شارل برونو «لامنيه»، لا ضمن شعراء النثر، ولكن ضمن النثريين، وتمثل «أحاديث مؤمن»٣١٩ — في الواقع — نوعًا مستقلًّا إلى حدٍّ ما، فبتأصلها في الأحداث المعاصرة، ولأنها موجهة للإفحام والإقناع، فهي — لذلك — نثر، وبشكلها التوراتي، وتقسيمها إلى «آيات»، وبمظهرها المجازي والنبوئي، فهي قصائد. ولكن الإتقان الأدبي، وأيضًا فضيلة الغنائية الحارة، غالبًا ما يؤديان إلى سيطرة القصيدة، فما هو — على سبيل المثال — حديث «المنفِي» الشهير (الحادي والأربعون) — رغم خاتمته الدينية٣٢٠ — إن لم يكن قصيدةً يستعيد فيها «لامنيه» الموضوع — وأحيانًا الصور٣٢١ — التي منحها «دي بللي» و«لامارتين» و«شاتوبريان» — من قبل — وجودًا أدبيًّا؟ إن شكل القصيدة، المتقنة، يمثل تجميعات ثلاثية للآيات٣٢٢ ولازمة قصيرة، مدهشة، تعود في نهاية كل من هذه الآيات («المنفِيُّ وحيدٌ في كل مكان»)، وكي «يقفل النص»، يستعيد الآية الأولى قبل نقطة النهاية:

ومضى هنا على الأرض، فلعل الله أن يهدي المنفِيَّ المسكين.

كل هذه الأساليب مألوفة في التوراة، وفي المزامير بشكل خاص، وهي أيضًا مألوفة لكُتَّاب «الأناشيد الغنائية»، والأغاني النثرية والشعرية، وقد التقينا بها بشكل خاص في أناشيد «أتالا» الهندية، وثمة أساليب أخرى، مثل تقسيم النص إلى «آيات» بالغة القصر، وتكرار الكلمات، والطريقة التي يتم بها «دوران» الفكرة على كلمة معينة،٣٢٣ والاستخدام — إلى حد الإسراف — لحرف العطف «و – et» في بداية الجملة، والتوازي،٣٢٤ بما يجعل من أسلوب «لامنيه» معارضةً حقيقيةً للتوراة: «ظاهرة فريدة في التاريخ الأدبي لمعارضة من عبقري»، كما سيقول «رينان».٣٢٥
فهل «لامنيه» مبدع لقصيدة النثر «التوراتية»؟ من بين «رؤى» كثيرة أصبحت في القرن التاسع عشر نوعًا أدبيًّا حقيقيًّا،٣٢٦ علينا أن نمنح مكانةً خاصةً إلى «رؤيا» «هيبال دي بالانش» (١٨٣١م)، المكونة من «آيات» مربوطة بحرف «و»، ولا تفتقر نبرتها التوراتية والنبوئية إلى العظمة، لكن هذه «الرؤيا» التي تفترش جداريةً كبيرةً عن الإنسانية، منذ الحقبة التي «لم يكن فيها الزمان منفصلًا عن الأبدية»،٣٢٧ إلى تمجيد الإنسان «حتى أبعد نقطة في المستقبل»٣٢٨ ندركها باعتبارها كُلًّا رحبًا كنوع من ملحمة ذات تسعة أجزاء، وكل جزء ينقسم إلى مقاطع غنائية، ومقاطع مضادة، و«إيبود»،٣٢٩ لا إلى أسفار، كما في نص التوراة أو لدى «لامنيه»، علينا بالأحرى أن نقارن بين «أحاديث مؤمن» و«مزامير» سيلفان مارشال — الذي سبق وتحدثتُ عنه٣٣٠ — وفصول «إنسان الرغبة» لسان مارتيان (١٧٩٠م)، لكن الشعر، إذ يوجد، لا يوجد إلا لخدمة النزعة التعليمية الأخلاقية، وخاصةً في الحِكَم التي تقلد العذوبة والرقة الإنجيليتين: ويظل الأسلوب هو نفس ما ظهر عام ١٨٣٣م، ورغم أن «لامنيه» — على نحو ما يلاحظ «ي. لوهير» — كان قد بدأ، لتوه، في كتابة «أحاديث مؤمن»،٣٣١ فإننا لا نستطيع التشكيك أبدًا في أنه تلقى من كتاب «ميكيفيتش» الدفعة الحاسمة، لقد وجد فيه نموذجًا، لا في الأسلوب التوراتي والحِكَم المقلِّدة للإنجيل فحسب، ولكن أيضًا في الحركة الفعالة، وفي البلاغة الحارة، كان «لامنيه» يضع «ميكيفيتش» — كما يقول لنا «موريس دي جيران» — «إلى جانب بايرون في رفعة العبقرية».٣٣٢
وكتاب «لامنيه» — هو أيضًا — نبوءة، ومقالة نقدية، ونداء إلى الشعب، في آن واحد، وفي ذلك، يكمن سبب عدم نجاحه بلا شك في حِكَمِه التي تقلد العذوبة والرقة الإنجيليتين: فالأسلوب يظل جافًّا، جامدًا، مبتورًا، والأوصاف مقتضبة وضيقة، والفقرات القصيرة تضم بسهولة هذه العبارات التي لا غزارة فيها، غير أنه ثمة — من ناحية أخرى — رؤى كابوسية، ومشاهد جنائزية، يُغذيها — فيما يبدو — أكثر الخيالات الرومانتيكية كآبة٣٣٣ (ربما فاقم الديكور البريتوني الوحشي، لمنطقة «شيناي»، من ميل «لامنيه» المرضي نحو المشاهد المريرة أو التراجيدية)،٣٣٤ إن سفر رؤيا «لامنيه» يتحول هنا إلى «رواية سوداء».

والخلاصة أن أفضل فقرات الكتاب، وأكثرها أصالة، هي نصوص الغضب والقتال: صياغات مؤثرة، وتعبيرات لاذعة الأسلوب، ومقاطع غنائية حارة ومتقدة، جدل كامل متوقد لنبي ومحرض:

رأيت في المهد طفلًا يصرخ ولعابه يسيل، حوله كان العجائز يقولون له: سيدي، وهم يعبدونه، راكعين، فأدركت كل شقاء الإنسان.٣٣٥
كونوا رجالًا: فلا أحد من القوة بحيث يربطكم بالنير رغمًا عنكم، لكنكم تستطيعون أن تلفتوا رءوسكم من العقدة إذا ما أردتم.٣٣٦
وشعر «أحاديث مؤمن» الحقيقي شعر تمرد، لم تنخدع الكنيسة به، فحرَّمت الكتاب. «سحر ملتهب صافٍ»، على ما يصفه «سانت-بوف»، فيما يبدي تحفظات حذرة على القيمة الأدبية الخالصة للكتاب.٣٣٧
ولا شك أن كثيرًا من الشعر الحقيقي، والشعور العميق بالطبيعة، متحقق في «صوت من السجن» الذي يفوق — فيما يبدو لي — من الناحية الأدبية «أحاديث مؤمن»: فثمة استدعاء للأصوات والألوان والأشكال،٣٣٨ واستعارات إيحائية،٣٣٩ لكن ثمة — على نحو خاص — الإيقاعات الأقل تقطعًا، والعبارات المسهبة، المنسجمة، الهادئة التي تجعل النثر، هنا، موسيقيًّا أكثر من كونه خطابيًّا،٣٤٠ فيبدو لنا — في آن واحد — أقل كُتُبيةً وتشنجًا، وفي مقطوعات من قبيل «شعر داخلي» (السابعة) أو «الصيادون» (السادسة عشرة)، لم يعد سجين «سانت-بلاجيني» يفكر إلا في تذكر عجائب العالم الخارجي أو الداخلي.
وعلى النقيض، نشعر في «أحاديث مؤمن» بانفجار غضب كُبِحَ طويلًا، وصرخات روح تتحرر بعبارات متقطعة، ومتلاحقة، وما يكتبه «سانت-بوف» «عن شاعرَي منطقة «لاشيناي» النثريين»، «لامنيه» و«موريس دي جيران»، قاسٍ بالنسبة للأول، لكنه ليس خاطئًا:
في منزل الصمت والسكينة هذا، شاب غامض، خجول، اسمه لامنيه، شارد الذهن برؤاه الاجتماعية القيامية، لم يتميز أبدًا عن الآخرين الذين لم يفترض فيهم سوى ملكات عادية جدًّا، والذي — وقت أن كان المعلم يطرق على سندانه هذه الصواعق التي يسمونها «أحاديث مؤمن» — كتب صفحات حميمةً، أكثر طبيعية بكثير، وأكثر نضارة — ولنقطع بأنها أكثر جمالًا — ومكتوبة من أجل التأثير أبدًا في النفوس المأخوذة بهذه الحياة الكونية التي تضوع وتتنفس في قلب الغابات، وعلى حافة البحار.٣٤١

وفيما كان «لامنيه» يثري قصيدة النثر بنبرة قيامية متشددة، كان «موريس دي جيران» يتهيأ ليجعلها تعبر عن المد والجزر الداخليين لروح تمتزج بحياة الطبيعة.

موريس دي جيران والأسطورة

كان «موريس دي جيران» — عام ١٨٣٣م — يشارك في الدراسات، والتأملات، والحوارات، والاستغراقات التي جعلت من منزل لامنيه «روح قُدُس» حقيقية وفي «لاشيناي»، بدأ في كتابة مذكراته بانتظام، «كراسة خضراء» لم يسود فيها، في «كايلا»، سوى بضع صفحات. ملاحظات بسيطة في البداية، ومحاولات موجزة عن المشاهد الطبيعية: نحن في الشتاء، وروح الشاب «تضيق مثل الطبيعة».٣٤٢ لكن مع قدوم الربيع، سنشهد روحه كلها تتفتح وتتسع، لا بد من قراءة «الكراسة الخضراء» لنشعر إلى أي مدًى يتميز «دي جيران» بالتواصل مع روح الطبيعة،٣٤٣ وإلى أي حد يتملكه الإحساس بأنه قطعة صغيرة من العالم الحي، ويقتفي الإيقاع الكوني إلى حد أن يتمنى «التوحد مع الربيع … وأن يشعر بنفسه وردةً، وعشبًا أخضر، وعصفورًا، ونشيدًا، ونضارةً، ومرونةً، ولذةً، وسكينةً، في نفس الوقت»!٣٤٤
وحركة الامتزاج بالطبيعة، التي تتضح اعتبارًا من ربيع ١٨٣٣م، تحدد لحظةً أساسيةً في فكر أو — بالأحرى — في حياة «دي جيران» الداخلية: هذا الميل الكوني سيعارض الشعور بالوجود الفردي في «السنتور»، وسينسجم معه — على النقيض — في «كاهنة باخوس»، وسنرى، منذ ذلك الحين، في المذكرات، ظهور موضوعات سيستخدمها «موريس» في قصائده فيما بعد: بل — الآن — في شكل ينبئ بأوزان نثر «دي جيران» الشعري، من هذه الموضوعات — وأكثرها أهمية — موضوع الحياة، هذه الكلمة — التي ستكون كلمة «السنتور» الجوهرية — ستتردد باستمرار في «الكراسة الخضراء»،٣٤٥ وتتيح لنا الشعور بمدى مشاركة «دي جيران» في هذا «الدوران الهائل للحياة الذي يحدث في قلب الطبيعة الرحب»،٣٤٦ وإلى أي مدًى أيضًا أصبحت روحه مرتعدة … وترتفع بعض نصوص المذكرات الآن بغنائيها وصورها، كما يقول «برنار داركور» إلى «مرتبة القصائد».٣٤٧
وثمة موضوع آخر، ظهر بعد ذلك بقليل،٣٤٨ يكشف لنا «دي جيران» وهو يعيش تجربة الازدواجية التي ستميز «السنتور»، ذلك الكائن ذا الطبيعة المزدوجة المتناوبة، حيث ينغمر في أمواج الحياة الكونية، في حالة نشوة حيوانية، فيرتد إلى الشعور بحياة منعزلة، يحس — من خلالها — أنه إنسان، لم يتم التعبير عن موضوع الازدواجية هذا، في أي موضع آخر، بشكل أفضل مما في تأملات العاشر من ديسمبر ١٨٣٤م، حيث يكشف «دي جيران» كيف أن «نهر المباهج الخفية» و«أصداء أناشيد الطبيعة الحميمة» تضفي على المكان الشعور بالوجود الفردي، «مثلما في مسيرة ليلية، أتقدم فيها مع الشعور المنفرد بوجودي، بين الأشباح، التي لا حياة فيها، لجميع الأشياء».٣٤٩ وهي نفس الألفاظ — تقريبًا — التي سيرينا بها «السنتور»، وقد «عاد إلى الوجود المتميز والكامل».٣٥٠
فعناصر «السنتور» الرئيسية موجودة — إذن — في حياة «موريس دي جيران» الداخلية (وسنرى صحة ذلك أيضًا في «كاهنة باخوس» فيما بعد): فلن تكون الأسطورة هنا محاكاةً باردةً للقدماء، بل إنعاشًا لميول عميقة، يمكن أن نطبق عليها ما يقوله «ش. بودان»: «… عندما يغرق المبدع في أعماق اللاوعي الحقيقي، في الأسطورة الحية التي يحملها كلٌّ منا داخله، عندئذٍ، تتواصل الأسطورة والفكرة فيما بينهما، خلال المنطقة اللاواعية كلها: الشجرة الكاملة للمركَّب تتماوج من أعلى إلى أسفل، ونسغ الأعماق يمنح حياته إلى التجريد نفسه».٣٥١ ولا يهم كثيرًا — بعد ذلك — أن يكون «دي جيران» قد «بلور» فكرة «السنتور» بقراءة الكُتَّاب القدامى،٣٥٢ أو قصيدة «رابيه» النثرية،٣٥٣ أو بزيارة متحف العصور القديمة مع «تريبوتيان». وبالنسبة لبرنار داركور، فربما كانت رواية «سانت-بوف» — «اللذة» — التي صدرت خلال صيف ١٨٣٤م، هي التي أثارت صدمة البداية، وهو أمر حقيقي أن ثمة «تجاذبات خفية» بين «دي جيران» و«آموري» (أو إذا شئنا، «سانت-بوف»، مثلما سيقول ذلك «سانت-بوف» بنفسه).٣٥٤ وسنجد — الآن — في «اللذة»، فيما يتعلق ﺑ «الحياة المزدوجة» لآموري،٣٥٥ صورة «السنتور»، الذي يُقال إن «الطبيعتين مقترنتان فيه».٣٥٦ لكن دراما «السنتور» الداخلية هي — قبل كل شيء — دراما «دي جيران» نفسه، المنقاد — في حركتين مزدوجتين من المد والجزر — إلى الاستسلام، أحيانًا، إلى الإيقاع الكوني («دي جيران» هو الوحيد تقريبًا — على ما يكتب «بيجوين»٣٥٧ — من بين الرومانتيكيين، الذي يمتلك الشعور بالحياة الكونية، وهو ما يقربه من الألمان)، وأحيانًا إلى الاعتصام بشخصيته المتميزة، والاستغراق في سيمفونية الكائنات، في بحث أليم عن إدراك لمعناها.
ولا شك أنه كان يمكن لموريس دي جيران استخلاص دراما أو رواية،٣٥٨ من هذا الموضوع: لنذكر أن لدينا — هنا — سردًا يقودنا من الطفولة حتى شيخوخة «السنتور» القصوى، و«السنتور» — مع ذلك — حالة محدودة كقصيدة نثر، بسبب طولها المادي،٣٥٩ وانتشار النص في الزمن — في آن واحد — وهو ما يقربها من الرواية، ومع ذلك، ﻓ «السنتور» قصيدة بالفعل، لا بسبب لغتها الشعرية فحسب (التي سأعود إليها بعد قليل)، بل لأسلبة العناصر، وأيضًا لرفض القص والتعليق النفسي أو الفلسفي في آن واحد، وأيضًا — بشكل خاص — بسبب وحدة البنية والطريقة التي يتجاوب بها الملموس مع المجرد، والاستدعاء التشكيلي مع الموقف الأخلاقي، وبفضل اختيار «السنتور» كبطل، فإن الحركة المزدوجة، التي تحدثت عنها — الاستسلام للحياة الكونية، والانطواء على الذات — تتوافق مع الإيقاع النفسي٣٦٠ للكائن الذي يصفه «أوفيد» بأنه «ذو وحدة شكلية biformis». وصورة كهذه مثيرة للسخرية في المذكرات، لأنها تصور فكرةً مجردة تمامًا، لا يمكن تحقيقها في الخيال:

بينما يزحف نصفي على الأرض، فإن الآخر الذي لا يستطيع أي وسخ الوصول إليه، عاليًا وصافيًا، يُكَدِّس — قطرةً قطرةً — هذا الشعر الذي سينبثق، إذا ما منحني الله الوقت (١٣ أغسطس ١٨٣٢م).

ستصبح شيئًا مرئيًّا وعضويًّا، بعد ثلاثة أعوام! في مشهد «السنتور» وهو يعوم:
نصفي يختفي في المياه، يتحرك ليطفو فوقها، بينما النصف الآخر يرتفع هادئًا، وكنتُ أحمل ذراعيَّ الفارغتين فوق الأمواج.٣٦١
ولا يتعلق الأمر هنا باستعارة بسيطة، حيث تُطابق — مع كل تمثيل شكلي — «ترجمتها» التصويرية، ولسنا بإزاء نظامين متوازيين، نظام خيال ملموس، ونظام الفكر المجرد، فالفكر الرمزي يطبق — مباشرةً — محاولته الإبداعية لتوليد عالم مترابط ومعقد، ينتظم حول خرافة «السنتور»: عالم كل جزء فيه ضروري، وخفي بفعل المنطق الداخلي للرمز، كل شيء هنا — في الوقت نفسه — مُثقَل بالمعنى، ولا يمكن ترجمته، وهو نفس الشيء بالنسبة للعناصر — الماء، العشب، الجبال — التي تمثل، في «السنتور»، شيئًا آخر لا مجرد ديكور بسيط، علينا — فيما يتعلق بجيران — القيام بدراسة كاملة لما يسميه «ج. باشلار»: «خيال المادة».٣٦٢ فالماء — ذلك العنصر الأساسي في رمزية «دي جيران»٣٦٣ — ليس مجرد صورة عادية هيرقليطية عن القدر، إنه — بشكل أعمق — رمز للتوكل على القوى العمياء للحياة (سيقول «مكاريه-السنتور»، وهو يتذكر شبابه المستسلم لكل اندفاعات الطبيعة، إنه كان يعيش «على ما تتركه الأنهار»)،٣٦٤ إلى حد التوحد مع هذه الحياة الكونية، بأمواجها التي — بعد أن تُخَمم «السنتور» طوال النهار — تنفصل عنه في المساء، «قطرةً قطرةً».٣٦٥ عندئذٍ، يقول:
بعد أن أُعيدَ إليَّ الوجود المميز والكامل، بدا لي أنني خرجتُ من الميلاد، وأنه من المياه العميقة، التي حملتني في ثديها، كانت تلك التي تركتني في التو أعلى الجبل، مثل دولفين منسي ألقته على الشاطئ أمواج «أمفيتريت».٣٦٦
ولارتباطه بمشاعر الحياة الفردية، سنرى موضوع «المرتفعات» وقد حل محل موضوع الماء:٣٦٧ فماكاريه يتأمل — منعزلًا على الجبل — «القمم العارية والطاهرة»،٣٦٨ أو يستمع إلى «شيرون»، وهو يربط تأملات مرتفعات «أوتا» بتأملات ميتافيزيقية حول تلك الكائنات المزدوجة والممزقة، أنصاف الآلهة، السنتورات والبشر.٣٦٩
بذلك، ترتبط مظاهر المشهد الأساسي — وبشكل حميم — بالدراما الروحية: إن فكر «دي جيران» الشعري لا يفصل المحسوس عن المفهوم، كشكل مزدوج لحقيقة واحدة. ألا يتحدث — في «الكراسة الخضراء» — عن ذلك «الجهاز العائم من الرموز، الذي نسميه الكون»؟٣٧٠ ونظرًا لطريقته في منح الأسطورة حياةً عضويةً خاصةً بها، وتغذيتها — في نفس الوقت — بتجربته الداخلية، يحتل «موريس دي جيران» موقعه بين كبار الشعراء.
وبعد موت «ماري دي لامورفونيه»، ستصبح نزعة «دي جيران» الإحيائية — حسب تعبير «م. ديكاهور» — طبيعيةً صوفية».٣٧١ ويمكننا أن نرى — في التأملات الشعرية الفاتنة التي كتبها عن موت «ماري» — الطبيعة وهي محملة بالمعنى الرمزي، والمادة وهي تمتلئ بالصوفية.٣٧٢ وسوف يشكل الاستسلام لقوى الطبيعة، والتهليل الصوفي أمام الحياة الكونية — عام ١٨٣٥م — موضوع «كاهنة باخوس»: هنا أيضًا تغرس الأسطورة جذورها العميقة في حياة الشاعر الداخلية، فحالة الاستسلام، والذوبان الشهواني في الطبيعة،٣٧٣ يتجاوبان مع مناجاة كاهنة باخوس، المستسلمة لأنفاس ديونيسيوس، فالكائن يتلاشى، أو — بالأحرى — يتسع بصورة لا نهائية، إلى حد أن يحيا الحياة الكونية، ذلك هو معنى الموضوعات الأساسية، موضوع خصلة الشعر الطافية،٣٧٤ وموضوع أنفاس باخوس، وموضوع الشمس على نحو خاص، التي يتفتح الكائن بحرارتها.٣٧٥ ونعلم أن القصيدة ظلت غير مكتملة: إنها هنا — فيما يبدو — صورة هذا الإنسان الذي لا حدود له.
وحركة الامتداد اللانهائية هذه، أليست خطرًا من الناحية الفنية؟ لقد انطوت «السنتور» — مع تتالي ألاعيب قوى عديدة — على أزمة، ودراما تتعقد ثم تنحل: شكلت القصيدة كُلًّا مغلقًا، وبالتالي أكثر اكتمالًا، أكثر «امتيازًا» من «كاهنة باخوس»، التي سنجد فيها — بعد ذلك — عيوبًا في التكوين، ونقصًا ما في الوحدة.٣٧٦
وسبق لسانت-بوف أن أعلن عن أسفه للعثور على «كاهنة باخوس» (وكانت قد ظلت مجهولةً عند كتابته ﻟ «ملحوظة» طبعة تريبوتيان)، «إنها عمل … — كما يقول — أقل بكثير، ويمكنها — حقًّا — أن تُسيء إلى العمل الأول».٣٧٧ ولا شك أن الخط العام للقصيدة أقل صفاءً ووضوحًا مما في «السنتور»، فالمؤلف يتوه في الاستطرادات (حول أصل وتربية «آيللو» على سبيل المثال)، وفي مقارنات كثيرة جدًّا، وغالبًا ما يتم تطويرها — فيما يبدو — لذاتها، حيث نشعر بافتتانه بالكناية المغرقة والاستدعاء التشكيلي.٣٧٨ إنها الحقبة التي يخضع فيها «موريس» — بشدة — لتأثير «باربي دورفيي»، ويقرأ معه «بوسانياس»:٣٧٩ يبدو أن «باربي» قد جعله — بالفعل — يقاسمه حبه للميول التشكيلية والإحالات إلى القدامى.٣٨٠
وهي أيضًا الحقبة التي شهدت — في مذكرات ومراسلات «دي جيران» — اهتمامات أدبية، ويرى «برنار داركور» — عن حق — في «كاهنة باخوس»، محاولةً أكثر وعيًا بكثير في «قصيدة النثر» من «السنتور».٣٨١ مزيد من الفن — بلا شك — ومزيد من براعة الأسلوب أيضًا، وهذا المسعى ملموس — أيضًا — في الأسلوب (حب الجناس الصوتي، والأوزان الزوجية)، كما في «الصور المتجانسة» للقصيدة.

وإذا ما أخذنا في الاعتبار — مع ذلك — هذه الإرادة «الفنية» عند «دي جيران» في «كاهنة باخوس»، فسنرى أن أسلوب وإيقاع الجملة يتمتعان — في كلا القصيدتين — بخصائص مشتركة، لا يكون مفيدًا معها تخصيص دراسة مفصلة لكل منها، فثمة نثر «جيراني» أصيل، سأبحث — في عجالة — في تحديد قدرته التعويذية العجيبة.

نثر شديد الابتعاد عن نثر «برتران» التصويري، ذي الجناس الصوتي، لكنه أقل قربًا، مما يمكن أن نعتقد، من النثر «الشعري»، الذي سعوا من خلاله — في نهاية القرن الثامن عشر — لمنافسة الشعر المنظوم، وإذا ما نحينا جانبًا بعض التعبيرات الخارجة عن المألوف، أو غير الملائمة — بشكل قصدي٣٨٢ — التي يرجح مسئولية «سانت-بوف» عن جزء كبير منها،٣٨٣ فإن مفردات «دي جيران» — على ما يقول «برنار داركور» — ليست محصورةً فحسب، بل — بالإضافة إلى ذلك — عادية على الوجه الأكمل.٣٨٤ ولهذا التقشف الإرادي أثر مزدوج: أولًا تجنب القَطع الذي يمكن أن يسببه — في خط الخطاب — استخدام الكلمات النادرة، «المشتعلة»، التي تضفي على الجملة الرومانتيكية — أو البرناسية — أحيانًا، مظهر الألعاب النارية الباهرة، وثانيًا، الاحتفاظ للكلمات ﺑ «فائض من فاعلية»٣٨٥ يسمح للفكر بأن يحدس، فيما وراء المعنى المباشر، بمعنًى أكثر تعقيدًا وبإيحاءات أرحب، ويستخدم «دي جيران» تعبيرات شديدة العمومية، وعادية، لكنها غنية بطاقة إيحائية لا تنضب، وتبدو غير قابلة لاستنفاد معناها، مثل «حياة» و«قدر» و«طبيعة» … ومع التكرار الملح لنفس الكلمات، التي تُستعاد بلا نهاية، ينتهي به المطاف إلى إنتاج أثر التعاويذ الحقيقي، فهل يدين — أيضًا — لسانت-بوف بهذا الحب للكلمات «غير المحددة»، غير المبررة، العائمة، التي تمكن من الحدس بالفكرة في كل رحابتها، والتي سبق لجوزيف ديلورم المناداة بها في الشعر؟٣٨٦ سأعتقد ذلك عن طيب خاطر عندما أراه يكرر — بلا كلل — صفة مثل «خفي»،٣٨٧ أو إحدى هذه الكلمات القزحية، حيث تعدد التكافؤ — نفسه — ثراء شعري، مثل «ظلال» التي تشير — أحيانًا — إلى «الظلام»، وأحيانًا إلى «الأشباح» والأشكال غير المحددة التي تسكن هذا الظلام، ويبدو أن «دي جيران» يفضل الالتباس، فيظهر — تحت المعنى المادي — الإيحاءات الخفية، فيكتب على سبيل المثال: «تلتحم الظلال والأحلام في فكر الفانين»،٣٨٨ وعندما يقول عن ماري المتوفاة إنها «كانت تفر في الظلال»،٣٨٩ ألا يمنح الكلمة نفس غموض «رونسار» عندما يكتب:

عبر ظلال الريحان سأنال راحتي …؟

نفس تعقيد المعنى تثريه خلفية فلكية كاملة، مع عبارة «إشارات سمائية» (ﻛ «كوكبة نجوم» و«إشارات القدر»، في آن واحد)، التي تتكرر مرتين في «كاهنة باخوس».٣٩٠ هذه الهالة التي تحيط بالكلمات، وهذا الرفض لتحديد وتسوير معناها بطريقة صارمة، هو نهج شاعر.٣٩١
إنها نفس الكثافة الشعرية، في هذه التوريات التي تحل محل الفعل البسيط: «لقد تلقيت الميلاد» بدلًا من «لقد وُلِدت»،٣٩٢ و«اتخذ نموي مجراه» بدلًا من «كبرت».٣٩٣ ومع استخدام الفعلين: «يتلقى» و«يتخذ مجرى»، تغتني الفكرة بالظلال المتدرجة، وتمتلئ الصياغة بالمضمرات.
وعلينا — على أية حال — ملاحظة أن الفعل عند «دي جيران» عنصر أساسي وغني دائمًا بطاقته الإيحائية، ويمكننا مضاعفة الأمثلة، من قبيل «البحيرات الهادئة ما تزال تعرفني، لكن الأنهار نسيتني»،٣٩٤ «جوانبي المضطرة كانت تمتلك نشوة الركض … وأعلى، كنت أشعر بالكبرياء».٣٩٥ ويستخدم «دي جيران» — عن قصد — اسم الفاعل بدلًا من الصفة: «كانت أمي أحيانًا ما تعود منتعشةً بفرحة عميقة، وأحيانًا حزينةً ومنسحبة مثل الجريحة»،٣٩٦ «ما تزال بعض الإشارات السمائية تطبع السماء شبه المهجورة»،٣٩٧ والمعنى — شأنه شأن الصوت٣٩٨ — يؤدي في هذا المثال الأخير إلى إبطاء الجملة، أي إلى ما يسميه «برنار داركور» «أثر الإرجاء»٣٩٩ (من خلال انتظار اسم مفعول لا يجيء، لا تؤدي «سماء مهجورة» نفس تأثير السماء «القفر» أو «القاحلة»).
ويبدو أن أثر الإرجاء هذا هو مفتاح «سحر» دي جيران، ونستطيع أن نقول الآن إن الكثافة الشعرية للألفاظ، وغناها بالاحتمالات، توقف و«ترجئ» الفكر، لكن أثر الإرجاء محسوس بشكل خاص في إيقاع الجملة، و«دي جيران» الذي يبحث في شعره، من خلال استخدامه ﻟ «البحر السكندري المألوف» — الذي ضرب مثلًا عليه «سانت-بوف»٤٠٠ — عن كسر الإيقاع والاقتراب من النثر، إنما يبحث — على العكس من ذلك — عن منح نثره سياقًا وإيقاعًا شعريين خالصين. لكنه لا ينجح في ذلك باستخدام نثر غزير، ومتجانس، كذلك هي معايير «بيوس سيرفان»، التي يستخدمها «برنار داركور» لتحليل «الإيقاع الحسابي» و«النبري» للجملة.
لقد طمرت الآلهة الغيورة في مكان ما شواهد نسب الأشياء، ولكن على شاطئ أي محيط دحرجوا الحجر الذي يغطيهم، آه يا ماكاريه؟٤٠١
وهو ما لا يبدو لي أنه يفسر — بشكل كافٍ — موسيقى هذه الجملة، التي أثارت إعجاب «ماثيو أرنولد»، ففي الفاصلة الأخيرة، علينا أن نرى — بشكل خاص — ما هو أكثر من «لا تساوق نبري»، كمؤثر لنقطة إطالة Point d’Orgue، مشابه للوقفة التي تقع في نهاية القصيدة، وتترك العقل في حالة انتظار، شأنه شأن الأذن. هذا الانتظار الشعري، وهذا الإبطاء في الحركة، يجاهد «دي جيران» للوصول إليهما بكل الوسائل؛ المناجاة، التي يستخدمها بنفس كثرة استخدام «راسين» لها: «بالنسبة لي، آه ميلامب! إنني أنهار مع الشيخوخة!»،٤٠٢ «وقدماي، انظر يا ميلامب! كم استهلكتا!»،٤٠٣ والجملة الاعتراضية التي تبطئ من سير المقطع، والحال أو البدل المنفصلين بالفاصلات: «ثدي الوديان وكل امتداد الحقول يستعيد، لكن ببطء، حرية أنفاسه»،٤٠٤ وبالطبع علامات الإرجاء: «الآلهة الهائمة وضعت قيثارتها على الحجارة، لكن ما من أحد … ما من أحد نسيها هناك».٤٠٥
لقد شدد «برنار داركور» — عن حق — على «النَّفَس الطويل لإلهام جيران، الشديد الاتزان، والشديد الاعتدال، والموزع برصانة شديدة».٤٠٦ وربما يفسر لنا ذلك سبب عدم تمسك «موريس دي جيران» بشكل قصيدة النثر ذات المقاطع الصغيرة، التي ضرب له «لامنيه» و«ميكيفيتش» المثل عليها، واستخدمها — هو نفسه — في قصيدة حول «أصوات الطبيعة»، كتبها في «كايلا» (وعمره عشر سنوات!).٤٠٧ وتقنيته ككاتب تتطلب — في آن واحد — جملةً رحبةً، يمكن تقريب انعطافاتها — التي تدور ببطء — من الجملة «المتوجة» في «لذة»، وتنظيمًا للقصيدة ككلٍّ واسع ومتماسك: فالإبطاءات والإرجاءات — في سياق القصيدة — ليست بانقطاعات أبدًا، والموضوعات تترابط دون قطع الاستمرارية. وتكشف الجُمَل والقصائد عن فكر شعري «مفرود» — بالأحرى — عبر طبقات عريضة (فطبقات الكلمات تتخفى، وتتراكم، مثل طبقات الذكريات التي يستحضرها «السنتور» و«كاهنة باخوس»، وهما يذرفان موضوعاتهما)، بدلًا من أن تتقدم بطريقة مستقيمة مثلما في السرد، أو تراكم لمسات متتالية، ولوحات موجزة، كما لدى برتران — غالبًا — على سبيل المثال، وهكذا تشكل كل قصيدة (و«السنتور» أساسًا) — رغم اتساعها — كُلًّا شديد الانسجام ومترابطًا، كتلةً من مادة شديدة الكثافة، حيث البساطة الظاهرية للكتابة لا تمنع تعقيد الإيحاءات، وبذلك تتخذ الأسطورة شكلًا شعريًّا يتجاوب مع واقعها المعقد ووحدتها العضوية. وعلينا أن نضيف أن وزن واتزان القصائد ينسجم — كما يبدو — مع الفكرة الشعرية ذاتها: ألن نجد صورة في «السنتور» وهو يرفع جذعًا ساكنًا،٤٠٨ في أقصى حالات عنفوان الحيوية الهائج؟
وإلهام «برتران» — بالأساس — رومانتيكي، فيما يمضي «رابيه» من الكلاسيكية الجديدة التشكيلية، نحو «سأم» حديث، ومع «بودلير» ستصبح قصيدة النثر التعبير نفسه عن الحداثة، ويظل «موريس دي جيران» الشاعر الوحيد الذي استطاع — دون أن يسقط في الأكاديمية أو الابتذال التافه — المحافظة على انسجام وزن الأساطير القديمة الكبرى، في الوقت الذي أثراها بجوهر داخلي، ويمكن أن نقول بقلق حديث تمامًا. والصعوبة نفسها، في توازن مع هذا، تمنح الشاعر مكانةً متفردة، لا سيما أن الأمر يتعلق هنا باختصار الأسطورة إلى حدود أبعاد القصيدة، بتجنب الوقوع في السرد بالنثر الشعري: ولا يوجد — في تاريخ قصيدة النثر — ذرية لجيران، فالأصداء — القريبة أو البعيدة — لعمله يجب البحث عنها، بالأحرى، في الرواية أو السرد.٤٠٩

قصيدة النثر

في ظل الإمبراطورية الثانية وحتى بودلير
ومع بداية هذه الإمبراطورية الثانية — التي وصلنا إليها — ورغم أننا نرى، والحق يُقال، الهمَّ الفني وهو يغزو — أكثر فأكثر — كافة أنواع النثر، في الرواية (مع فلوبير)، مثلما في التاريخ (مع ميشليه)، وحتى النقد٤١٠ فلا نستطيع أن نقول إنهم كتبوا — حقًّا — في هذه الفترة، قصائد نثر. ورغم هذا، فيا لها من رغبة واضحة، لدى المؤرخين والروائيين بالذات، في أن يجعلوا من أعمالهم قصائد! يخطر ببالي هنا — بشكل خاص — «فلوبير»: لا لأنه يعارض الفن القديم للشعر بفن النثر الحديث والأكثر براعة،٤١١ الذي يتطلب «إحساسًا عميقًا بالإيقاع، وإيقاعًا هاربًا، بلا قواعد، وبلا يقين»،٤١٢ لكن — بالأساس — لأنه يدرك الرواية كقصيدة لها غايتها في ذاتها، مستقلةً عن الحكاية التي تعتبر ذريعةً لها، كإبداع فني مجاني ومستقل، وسيكون حلمه تأليف كتاب حول لا شيء، كتاب بلا رابط خارجي، يتماسك ذاتيًّا بالقوة الداخلية لأسلوبه … كتاب بلا موضوع، تقريبًا.٤١٣ وفكرة استقلال جمال العمل عن الموضوع المعالَج، تتكرر باستمرار في مراسلاته: فهو يتساءل،٤١٤ ألا توجد — في دقة التعشيقات، وندرة العناصر، ورهافة السطح، وانسجام المجموع — فضيلة جوهرية، نوع من القدرة الإلهية، شيءٌ ما أبدي كمبدأ؟ ونجد — هنا — فكرة الفن الموجود في ذاته، فكرة الفن للفن، التي رسم كتاب «كاساني» قدرها ونتائجها،٤١٥ والتي ستجد التعبير النهائي عنها في صيغة «جوتييه»: «من الشكل تولد الفكرة».٤١٦ لكن، ما الذي يمكن أن تكون عليه — في الواقع — نتائج نظرية كهذه؟ نعتقد أنه الدخول في طريق شعر النثر، لنعود مباشرة إلى النثر «المزخرف» للقرن الماضي، نبحث عن الفن، فنجد الشكلية وبراعة الأسلوب. والدليل لدينا — من بين أشياء أخرى — يكمن في «غواية سان-أنطوان»، النسخة الأولى التي كتبها «فلوبير» عام ١٨٤٩م، وانحدر فيها — من فرط سعيه إلى «القصيدة» والجمال الشكلي — إلى التشدق الكلامي والزخرفة، وإنه لدال أن نستطيع الخروج — من هذا العمل الطموح والمُرَكَّب — لا ﺑ «قصيدة نثر»، بل بنمط «فني» دائري، من قبيل أول مونولوج لأنطوان، الذي ينتظم في مقاطع حقيقية، تصحبها لازمة.٤١٧ وقد قال «مكسيم دي كام» — عن هذه الغواية الأولى — إن «فلوبير» يعود فيها «إلى الأب رينال، ومارمونتيل، وإلى بيتوبيه نفسه»٤١٨ أي، بعبارة أخرى، إلى التشدق الطنان لقصائد النثر، في القرن الثامن عشر، ولنلاحظ — مع ذلك — أن ثمة شعرًا في «مدام بوفاري» — التي تسمي رواية «واقعية» — بأكثر مما في «سلامبو»، الرواية «الفنية»، فما الذي يمكن قوله إن لم يكن أن الرواية تملك أنساقها الخاصة بها، والمتميزة — جذريًّا — عن أنساق قصيدة النثر، وأن الشعر الحقيقي لا بد أن ينبع من الداخل، وغير قابل للانفصال عن الفعل، وليس ملتصقًا به؟ إنه النثر الفني الذي يمكن أن يستفيد من أبحاث «فلوبير»،٤١٩ لا من قصيدة النثر، باعتبارها كذلك.
نصل — إذن — إلى هذه الخلاصة التي تكمن في أن الطموح إلى استخراج «قصيدة النثر» — من الرواية — أمر مجحف بالرواية وقصيدة النثر معًا، وغالبًا ما يقود إلى إبداعات هجينية، وهي مجازفة ليست قليلة الخطورة، وتنبع من تبجيل متحيز، ويُساء فهمه ﻟ «الشكل»، عندما يتخيل كثيرون أنهم يصنعون شعرًا عندما يقسمون النثر إلى مقاطع أو «آيات»: ضلال غريب يقع فيه «فوبيو»؛ إذ يضع في شكل «آيات» عشوائية أكثر أشكال النثر ركاكة، ليملأ صفحات وصفحات ﺑ «قصائد» مفرغة تمامًا من الشعر!٤٢٠ وعلينا أن نضيف — كي نكون منصفين — أن شكل اﻟ «آيات» هذا، الذي انساق إليه عديد من الكتاب بسبب التوراة — قبل «لامنيه» وبعده٤٢١ — ليس دائمًا «حقيبة سفر»، فمقابل «فوبيو»، الذي يقلد «لامنيه» بوضوح، في Ecco la Fiera.٤٢٢ نستطيع أن نذكر كُتَّابًا عثروا — بتوفيق ما — على إيقاع ونبرات الكتابة: فقد ألف «رينان» — في شبابه — بضعة أشعار «عبرية»،٤٢٣ وعلينا أن نشير — بشكل خاص — إلى «قصيدة توراتية نثرية» ضخمة، نشرها «كايبو» عام ١٨٤٥م: «العالم قبل الطوفان».٤٢٤ ولا نستطيع أن ننكر عظمتها ولا نَفَسها الملحمي، ومن المفيد الإشارة إلى أن «مقدمة» «كايبو» تقرر استحالة وجود شعر توراتي «في شعر مقفى»؛ إذ لا يمكن التوفيق بينه وبين أساليب الشعر العبري، وتعلن — من ناحية أخرى — عن «مرحلة الغزارة» لشاتوبريان آخر، متعارضةً مع «الأسلوب الرافض للبلاغة المتصنعة والفجة بصورة عصبية في الكتابات».٤٢٥
محاولات في «النثر الشعري» زخرفية إلى هذا الحد أو ذاك، و«قصائد» توراتية أو ملحمية نثرية (علينا أن نذكر من بينها ملاحم كوينيه Quinet، وأفضلها — بلا شك — ملحمة «ميرلين الساحر»، عام ١٨٦٠م): كل هذا ليس جديدًا حقًّا، ويدفعنا إلى الاعتقاد بأن الرياح القوية للعلم والمعرفة، التي تعبر فرنسا خلال الإمبراطورية الثانية، قد جمدت كل إلهام شخصي، ويمكننا أن نميز، مع ذلك، في عديد من أعمال هذه الفترة، تيارات معينة، وتوجهها نحو الغنائية والحداثة، التي تتنبأ بقدوم قريب لصيغة جديدة لقصيدة النثر، فقد أظهرت «إيقاعات منسية» ﻟ «باربي دورفيي» — التي كُتِبَت في تواريخ موزعة بين عام ١٨٣٤م وعام ١٨٥٩م٤٢٦ — إلى جانب اهتمام فني واضح (التشكيل في مقاطع متماثلة في الغالب،٤٢٧ والاستدعاءات التشكيلية،٤٢٨ ومؤثرات الإيقاعات والألوان)٤٢٩ بعض الاندفاعات الغنائية، والنغمات الشخصية، فالإلهام — إن لم يكن الشكل — ليس بعيدًا، إلى هذا الحد، عن «ميموراندا Memoranda».٤٣٠ ويوضح «جرليه» — في أطروحته عن «دورفيي» — مزاياه؛ إذ استطاع «عبر رمزية نابعة من عمله» ممارسة تأثير لا يمكن إنكاره، وقصائده النثرية — في هذا الصدد — «قد أكدت على تمكنه، في نظر معاصريه، بما يفوق رواياته ذات النفس الطويل».٤٣١ وبالفعل، فهناك في قصيدة «العينان المتقلبتان»، التي كان «بودلير» معجبًا بها، بعض الإيحاءات الإيقاعية، واستعادات ملحاحة لتعبيرات («عيناها الواسعتان للغاية، الكئيبتان للغاية، الشاحبتان للغاية، عيناها المفتوحتان بشكل بالغ … وكانتا إلى هذا الحد يائستين، هاتان العينان الشاحبتان، اليائستان والثابتتان إلى هذا الحد»)،٤٣٢ وأيضًا خلق أجواء انفعالية تتشبع بها الأشياء نفسها («السقف الكئيب المبرقش بالنجوم»)،٤٣٣ والتي تجعلنا نعتقد أن «دورفيي» وهو يكتب هذه القصيدة — عام ١٨٥٧م — قد استطاع استغلال التقنية المستخدمة في «غراب» بو؛٤٣٤ ولكن — على العموم — تشهد «إيقاعات منسية». من خلال أسلوبها ومعطياتها، على أن هذا الإيقاع السادر كان موجودًا — بكامله — في عمله، «رأسًا، وقلبًا، وكبدًا وأحشاءً»، مثلما كان يقول.٤٣٥ فنحن بعيدون عن فن «برتران» الموضوعي عن وعي.
وعلينا أن نشير — هنا — إلى الدور الهام الذي تلعبه اﻟ «ليد» الألمانية، في فرنسا، اعتبارًا من عام ١٨٤٠م (في حين اهتم الرومانتيكيون الأوائل بالأناشيد الغنائية)، ومثلما أيقظت الأناشيد الغنائية — في بداية القرن — المحاولات الأولى في قصيدة النثر ذات المقاطع، يمكننا القول بأن اﻟ «ليد»، التي تعددت ترجماتها، قد جعلت قصيدة النثر «قادرةً على هذه الغنائية المعبرة عن الألم، والقلق والشك، التي تمثل علامةً أساسيةً لعصرنا الحديث».٤٣٦ وفي «ليدات» هايني الغنائية، نجد — قبل كل شيء — نماذج لغنائية ليست لفظيةً وطنانةً، بل مشبوبة — خفيةً — بالعاطفة، وموجزة في أجزاء قصيرة ذات قوة إيحائية هائلة. والآن — في عام ١٨٤١م — كان «سباستيان آلبين» يُلحق بترجماته ﻟ «قصائد غنائية وأناشيد شعبية من ألمانيا» بضع «ليدات» لجوته وأوهلاند وهايني، ومن بينها — على سبيل المثال — هذه اﻟ «ليد» المميزة باقتضابها:

من يحب للمرة الأولى، حتى بدون أمل، هو إله، ومن يحب للمرة الثانية فهو مجنون.

وأنا، أنا المجنون، أنا. ما أزال أحب دون أن أكون محبوبًا، والشمس والقمر والنجوم يضحكون من ذلك، وأنا أيضًا، أضحك من ذلك — أضحك من ذلك — وأموت.٤٣٧
لكن، في عام ١٨٤٨م، كان للدراسات والترجمات (النثرية)، التي نشرها «جيرار دي نرفال» في «روفي دي دوموند Revue des Deux Mondes»،٤٣٨ أن تلعب دور الوحي، فقد قدمت مقاطع «بين-بين Intermezzo» الثمانية والخمسون، الموجزة، نماذج لنوع جديد، أكثر شخصيةً، وقلقًا، وحماسةً، وبساطة، في آن واحد، بفعل نبرتها الشديدة الخصوصية وغنائيتها العذبة والمرحة، فيا لها من قوة يتم التعبير بها — في «نوردسي Nordsee» — عن قلق الإنسان المعاصر إزاء «لغز الحياة، لغز الحياة الأليم والقديم»!٤٣٩ وستترك قراءة «هايني» أثرها على أواخر الرومانتيكيين وأوائل الرمزيين، ومن المدهش أن نرى «ألفونس دودييه» — نفسه — يذكر اسم «هنريش هايني»، ليقدم للجمهور «أنشودتين غنائيتين نثريتين»، «تتمتعان بفانتازيا جرمانية إلى حدٍّ ما» — وقد نُشِرتا في «رسائل من طاحونتي».٤٤٠
ورغم هذا، فإن إبداع الغنائية الحديثة في النثر، يرجع إلى «بودلير» وحده، وقبله، أحيانًا ما يعيدنا «لوفيفر دومييه» — في «صلوات دير فال المسائية» (١٨٤٥م) و«كتاب المتجول» (١٨٥٤م) — إلى الموضوعات الرومانتيكية،٤٤١ وأحيانًا ما يترجم أحلام يقظة أخلاقية أو فلسفية، في نثر شعري منمق، وحافل بالرموز التي يذكرنا بعضها ﺑ «بروست»:
يعيش الماضي دائمًا تحت جليد الأعوام، إنه الماء الحي الذي يجري دائمًا تحت درعه الثلجي، الماء الحي الذي يتماوج مثل سهام من الأرجوان والذهب، مثل عناقيد الأحجار الكريمة المسافرة، مثل الزهور التي تفر ولا تذبل، ألف من السباحين الصامتين هم ذكرياتنا.٤٤٢
و«لوفيفر» — الذي يفضل كتابة الشعر بالنثر، لكنه أحيانًا ما يرصعه بصورة جميلة («سماء ماضيَّ تهبط بي في قلبي») — يقع بسهولة في شَرك الذوق الرديء، عندما يستعير موضوعاته من الحياة المعاصرة، من «الفوسفور» أو «مراكب البخار». ولكن، لا أحد يستطيع، فيما يتعلق بالذوق الرديء، مقاومة الخليط الرائع من الركاكة والفخامة الذي يملأ قصيدتي «هوساي» «المعاصرتين»: «أغنية بائع الزهور»، و«بائعة زهور فلورنسا»،٤٤٣ اللتين أُفضِّل عليهما «تصاوير جدارية ونقش بارز سفلي» من زاوية الأسلوب الكلاسيكي الجديد، وحوريات البحر «المخادعات مثل الموج»، وحوريته التي تحولت إلى نبع.٤٤٤ ومع ذلك، فعلينا أن نشير إلى أن «لوفيفر» و«أرسين هوساي» — باعتبارهما مديري «لارتيست» — لم يفتقرا إلى التأثير، واستطاعا تحريض بضعة مؤلفين شبان (ربما كان من بينهم «بودلير») على التساؤل «حول الشعر واللغة الملائمة له».٤٤٥
وإذا ما أضفنا إلى هذين الاسمين اسم «شانفلوري» (وهو أيضًا — كما نعلم — كان على صلة دائمة ببودلير)،٤٤٦ لأدركنا أن نواةً كاملةً من الكتاب كانوا يبحثون في سنوات ١٨٤٥–١٨٦٠م عن استغلال وترويض صيغة قصيدة النثر، ولا شك أن إنتاج «شانفلوري» — «فانتازيات» أو «أناشيد غنائية»٤٤٧ — يفتقر إلى الإلهام والأسلوب الخاص، ومثل «فييو» — إلى حدٍّ ما — يبدو أنه يتخيل أنه يكفي تقطيع أي نثر إلى «آيات» أو مقاطع (يفضل أن تفصل بينهما لازمة) كي تتم كتابة الشعر. «لقد صِدنا، في حدائق التويليري، الأسماك الصغيرة الحمراء، حتى نحميها من البرد». تلك هي اللازمة التي تنظم وقفات نشيده الغنائي عن «الشتاء»،٤٤٨ وها هي ذي كيفية معالجته للسخرية:

عندما تصفر الورقة

تقود عربة جياد المسافرين شبانًا شاحبين وشعراء على حالتهم — وهو الأسوأ — شعراء رثاء. يذهبون إلى الغابة، عندما تصفر الورقة.

إلى الغابة حيث يقطف المسلول نفسه.٤٤٩
ومن المفيد — رغم ذلك — أن نسجل أن «شانفلوري» كان يبحث عن شكل حديث للغنائية، سمح باستيعاب الواقعية والسخرية، بالرغم من عدم عثوره على النبرة والشكل الملائمين.
وعلينا أن نرى في كل هذه المحاولات (محاولات «باربي دورفيي» و«هوساي» و«شانفلوري») الرغبة المزدوجة — من ناحية — في استخدام العناصر التصويرية الجديدة التي تقدمها الحياة المعاصرة والمدنية، رغبة تترجمها — من جانبهم — كافة «اللوحات الباريسية» و«الأشياء المرئية» و«الانطباعات»،٤٥٠ التي كانوا يمدون بها «كورسير» و«لارتست»٤٥١ وأن نرى فيها، من ناحية أخرى، توسيعًا لمدى الصوت الشعري، بقبول أساليب لم يكن الشعر ليتقبلها حتى تلك اللحظة (مثل السخرية والتهكم). لكننا نستطيع أن نخمن من نقطة انطلاق هذه المحاولات، الرغبة الواعية، إلى هذا الحد أو ذاك، في إيجاد شكل جديد، لترجمة الرؤيا المعقدة عن العالم التي يملكها إنسان حديث، يعيش في قلب «مدن هائلة»،٤٥٢ وأيضًا لترجمة المشاعر الجديدة التي يمكن أن تحرك فكر الشاعر الذي قُذِفَ به، هكذا، في عالم مصطنع، رأسمالي ووضعي، حيث عليه — رغم هذا — أن يجد لنفسه أسبابًا للحياة.

إن طموحات ومطالب الشعراء ربما كانت — في هذه اللحظة من التاريخ الأدبي — أكثر ميتافيزيقية مما هي شكلية، لكن من أجل الوعي بهذه الاحتياجات — على نحو واضح — وإعادة الصلة بين إبداع لغة شعرية جديدة، والمهمة الجديدة التي يضطلع بها الشعر، كان لا بد أن يظهر — في سماء الأدب — كتاب عباقرة، ستكون أسماؤهم «بودلير» و«رامبو» و«لوتريامون» و«مالارميه».

١  انظر تاريخ الشعر الفرنسي  Histoire du Vers Français. Boivin, 1949, t. I, 1er Partie: Le Moyen Age، وبشكل خاص، في الأشعار الخاضعة للإيقاع المشروط (مثل الإيقاع التفعيلي في «أوكسان» و«نيكوليت»)، حيث تُخلي نبرة الصوت مكانها للنغمة الموسيقية.
٢  انظر Lote, La Déclamation du vers français? La fin du XVI° siècle (Revue de phonétique. 1912, t. II, pp. 313–363).
٣  فقد لاحظ عام ١٧٧٠م أنهم في القرن السابع عشر «كانوا يضبطون نغم الأبيات بالإنشاد، الذي كان نوعًا من الغناء الرتيب mélopée»، ويضيف: «والواقع أن الشعر يقتضي تلاوته بشكل مختلف عن النثر.»
(Œuvres, éd. Moland, t. XXVIII, p. 303 en note).
٤  وستعارض الموسيقى هي أيضًا — وإن يكن في وقت لاحق — الشكل المربع، أي بناء الجمل في مجموعات مزدوجة (٤  +  ٤ أو ٨  +  ٨).
(قارن Dumesnil. Sur le rythme musical. Mercure de France, 16 Nov. 1919).
٥  انظر «الأب دي بو» Réflexions critiques sur la poésie et sur la peinture. 1719, t. III.
٦  L’alexandrin français dans la deuxième moitié du XVIII° siècle. Hachette, 1907.
٧  Œuvres, t. XI, p. 250، ذكره «مورنيه» في L’alexandrin français …, p. 23.
٨  La déclamation du vers français à la fin du XVII° siècle (Revue de Phonétique; 1902, p. 330).
ومن المفيد الإشارة إلى أن الموسيقى قاومت — في نفس العصر — الطغيان الإيقاعي لألحان الأوبرا، ومالت إلى تقريب «جملتها الموسيقيى» من لغة الكلام، وسترتبط جملة الأوبرا الملحنة، التي أبدعها «لوللي» بمعنى الكلمات، وستتعلق — بأمانة — بمقاطع الكلام (في حين أن الإيقاع الموسيقي ينتصر، في اللحن، على التعبير). ويقول «لوللي»: «إن جملتي ليست إلا للنطق بها.» (انظر R. Rolland, Musiciens d’autrefois, Hachette, 1917, notes sur Lully, III, p. 152).
وهكذا يُعَد الشعر وحده هو الذي لا يغني «الإنشاد الرتيب»، بل وقفت الموسيقى نفسها ضد التماثلات الإيقاعية والأشكال الثابتة.
٩  إنها النتيجة التي يصل إليها «د. مورنيه» وهو يبحث مسألة القواعد في القرن الثامن عشر.
La Question des règles au XVIII° siècle (Revue d’Histoire Littéraire de la France, 1914).
وإذا ما كان احترام القواعد قد استمر طويلًا، فذلك — بوجه خاص — لأن «العبقرية المجهولة» القادرة على أن تفتح «بضربة واحدة الطرق الجديدة التي ستنوع من قواعد الماضي» لم تكن قد ظهرت بعد (3° partie, p. 617).
١٠  وهكذا، يريد «دي لونج» إلغاء الشعر المقفى (Raisonnements hasardés sur la poésie française, 1737)، ويرصد «الأب بريفو» — في «الحسنات والسيئات» — عينةً من الشعر غير المقفى، في أبيات «موزونة»، وذات أطوال متنوعة (1735, t. VI, p. 68).
١١  ارجع — في هذا الموضوع — إلى مقالة «ج. دوري M.-J. Durry» حول قصيدة النثر.
Poéme en prose (Mercure de France, 1er Février 1937).
١٢  Fénelon, Télémaque, éd. des Grands Ecrivains de la France, 1920, Introduction, p. XL.
١٣  حول هذا الشخص العجيب، الذي كتب عدة قصائد غنائية نثرية، وذهب إلى حد نقل عدة مشاهد من «ميتريدات Mithridate» نثرًا، كي يقدر الجمهور كم سيكسب من ذلك، انظر أطروحة «ديبون».
Houdar de la Motte (1898).
١٤  «كتابتنا تمتلئ بالشعر في المواضع التي لا نجد فيها أي أثر للنظم.»
(Lettre à l’Académie, ch. V, Projet de Poétique).
١٥  Lettre, ch. V.
١٦  Le Nouvelliste du Parnasse, 1734, t. I, p. 198.
١٧  مثل «لاموت» أو «الأب دي بو» في «بحث حول الشعر الملحمي».
Dissertation sur la Poésie épique (Mercure de France, Janvier 1717).
والجدير بالذكر أن الفلاسفة قد توصلوا — خلال إدانتهم للشعر باسم الحقيقة والحكمة — وإن يكن عبر طرق متعارضة، إلى نفس النتائج التي توصل إليها من أدانوا ذائقتهم باسم السمع والإحساس، مثل «الأب دي بو».
١٨  Fénelon au XVIII siècle en France. Hachette, 1917.
١٩  Chérel, La prose poétique française, l’Artisan du Livre, 1940؛ وانظر — في نفس الكتاب — حول النثر الشعري لهذه الفترة، صفحات ١٦٦–١٨٣.
٢٠  D’Escherny, Œuvres, 1811, t. II, p. 270.
٢١  «خطاب إلى الأكاديمية»، الفصل الخامس: «أريد جليلًا مألوفًا، شديد العذوبة والبساطة، وأن يميل المرء إلى الاعتقاد بأنه كان سيجده بلا عناء …»
٢٢  Le Pour et le Contre, 1735, t. VI, p. 81.
٢٣  التي عرضها — بشكل خاص — في «منوعات» Variété III, Gallimard, 1936, p. 63.
٢٤  «إعلان مبادئ مترجمي الشعر Profession de foi pour les traducteurs de la poésie. Yggdrasil, 25 Juin 1937؛ وهناك رفض مشابه لاعتبار الشعر كله شكلًا، كان موضوعًا لأطروحة قام بها «ر. نيللي» «في قصيدة مفتوحة وقصيدة منغلقة» Poésie ouverte et poésie fermée (Cahiers du sud, 1947)، والشعر المفتوح هو ذلك الذي «يتحرر ويستغني عن الكلمات، التي لا تزول ولا تبطل وهي تهاجر من لغة إلى لغة أخرى، وعندما تقدم في اللغة الخام، لا تكف عن أن تكون قابلةً للنقل» (ص٤٨).
٢٥  إيدَّا  Eddas: ديوان شعري للتقاليد الأسطورية والخرافية للشعوب الاسكندنافية القديمة.
٢٦  أوسيان  Ossian: مقتطفات من الشعر القديم، جُمِعَت من مرتفعات اسكتلندا، وتُرجِمَت إلى اللغة الغالية gaelic، و«الإرسية» Erse في القرن الثالث.
٢٧  يونج  Young: إدوارد يونج، شاعر بريطاني (١٦٨٣-١٧٦٥م). كتب «الليالي» في شعر غير مقفًّى (١٧٤٢م)، مستوحًى من وفاة زوجته وابنته.
٢٨  لنذكر — رغم هذا — المحاولة الغريبة ﻟ «الأب سانادون» الذي ترجم، عام ١٧٢٨م، «رسائل» و«هجاء» هوراس الشعريين إلى النثر العادي، بينما اختار «أناشيد غنائية» ليترجمها «نثرًا شعريًّا» ذا أسلوب أكثر رقيًّا، ولسوء الحظ أصبح نثر «هوراس» الغنائي، الموجز والحيوي، لغةً مطنبةً وطنانةً على يد «سانادون».
٢٩  هي نفس القصيدة التي تبدأ ﺑ «لقد حاربنا بالسيف»، وتنتهي ﺑ «مضت ساعات الحياة، وسأموت ضاحكًا».
٣٠  بردى  bardit أغنية حربية جرمانية.
٣١  حول هذه الترجمات، انظر: Van Tieghem, Le préromantisme, Etudes d’histoire littéraire européenne, 2 vol., Alcan, 1924.
٣٢  La notion de vraie poésie dans le préromantisme européen, op. cit., t. I, pp. 19–71.
٣٣  وهكذا، ترجم «هيردير» عشرة مقاطع من «إيدَّا» في «فولكسليدر Volkslieder» التي جمع فيها الأغاني الشعبية والبدائية، في حين أن نظام «إيدا» الشعري يتمثل، على النقيض، في فن شديد التطور (انظر الملحوظة ٣٠).
٣٤  أنحي «إيدَّا» جانبًا، فهي — على النقيض — ثمرة نظام شعري بالغ التعقيد، يستخدم ١٣٦ بحرًا مختلفًا، ذلك أن محاولات النثر الشعري هي واقع الذهنية الحديثة، بحثًا عن شكل فني جديد، وكانت اﻟ «سكالد scaldes» الاسكتلندية تُغَنَّى — من القرن الثامن حتى الحادي عشر — منظومةً، بل في نظم بارع.
٣٥  في الخارج، سنرى «سيزاروني» في إيطاليا يترجم ماكفرسون» في أبيات غير مقفاة من أحد عشر مقطعًا، و«هوبير» في إنجلترا يترجم «جيسنير» في نثر موزون. بذلك توصلا، هذا وذاك، كما يؤكد «فان تيغيم»، إلى التعبير بإخلاص عن الإيقاع الأصلي (Le Préromantisme …, t. 1, p. 226, et t. 2, p. 244).
٣٦  Œuvres de Turgot t. IX, p. 163.
٣٧  «هوبير» الذي عرَّف «تورجو» تلميذه على «جيسنير»، نشر باسمه هو مجمل الترجمات التي قام بها «تورجو» و«ميستير»، وهو نفسه.
٣٨  ظهرت ترجمتها الأولى (عن «مقتطفات من الشعر الإرسي» التي نشرها «ماكفرسون» عام ١٧٦٠م، والتي أُدمِجَت فيما بعد في ملحمة «أوسيان») في «جورنال اترانجيه Journal étranger» في سبتمبر ١٧٦٠م، ويناير وديسمبر ١٧٦١م، ثم في يناير وفبراير ويوليو وسبتمبر ١٧٦٢م. وسيمد «سوار» مجلة «أوروبا الأدبية Gazette littéraire de l’Europe» بأجزاء أخرى عامي ١٧٦٤م و١٧٦٥م. انظر بيبليوجرفيا «فان تيغيم» في نهاية أطروحته «أوسيان في فرنسا» (Van Tieghem, Ossian En France, Paris, 1917).
٣٩  أقدم هنا — لأبين تفوق «سوار» على أصحاب الأسلوب «النبيل» والكلاسيكي المزعوم — ترجمةً لنفس الفقرة للبارون «دي سكندورف» من «ويرذر» (١٧٧٦م): «اعصفي أيتها الرياح المزوبعة! اخرجي من كهفك أيتها العواصف الرهيبة! اجأري أيتها العواصف التي لا يمكن ترويضها وهزي قيودك، اعوي في غاباتنا، أيتها الزوابع البشعة! وأنت، أيها القمر! اخترق السحب المتشققة، وأضئ بشعلاتك الشاحبة هذا الليل الرهيب! ليذكرني كل شيء بموت أطفالي، بموت أريندال القوي، وبضياع دورا التي لا تُعَوَّض!»
٤٠  «أوسيان في فرنسا»، ص٢١٠. ونعلم أن «فولتير» قد انتقد بحدة أسلوب «أوسيان» وسخر منه، بتقليده ومحاكاته في كتابه «أسئلة حول الموسوعة»
Questions sur l’Encyclopédie (1re partie, articles: Anciens et Modernes, 1770) (Œuvres de Voltaire, XVII, p. 236).
٤١  «أوسيان في فرنسا»، ص١٤٥.
٤٢  في يناير ١٧٦٢م، «لاثمون Lathmon»، وفي فبراير «أويثونا Oithona»، وفي أبريل «دار-ثولا Dar Thula»، وفي يوليو «كونلات وكوتونا Conlath et Cuthona»، وفي سبتمبر «كومالا Comala». ومع ذلك فإن هذه المقطوعات الأكثر درامية قد أثارت إعجابًا أقل مما أثارته المقاطع الغنائية المترجمة في البداية، «إنها ليست — على ما يقول جريم — قصائد موقف، تلك التي تستحق مني الأوسمة.»
(Correspondance, avril 1762, cité par Van Tieghem, Ossian en France, p. 145).
٤٣  باللاتينية، في الأصل.
٤٤  هكذا تصرف «سوار»، وهو يترجم «كارتون Carthon» عام ١٧٦١م، في «جورنال اترانجيه Journal étranger»، فذكر تسعة مقتطفات ترتبط معًا بتحليل موجز، ليختصر بهذه الطريقة كُلًّا ملحميًّا شاسعًا ومملًّا، إلى سلسلة من «قصائد نثرية» قصيرة.
٤٥  أول أغنية في «أناشيد سيلما  Chants de Selma»، ترجمة «سوار» في Gazette Littéraire d’Europe, le 1er Août 1765.
٤٦  في عام ١٨٢٠م، ترجم «ميريميه» «أوسيان» مع صديقه «ج. ج. أمبير». انظر خطاب «أمبير»، الذي ذكره «يوفانوفيتش» في أطروحته حول «جوزلا»، (La Guzla, Grenoble, 1910, p. 133).
٤٧  من عام ١٧٦٥م إلى عام ١٧٨٧م، نرصد ٢٠ محاكاةً ﻟ «غزليات» جيسنير، سواء بالشعر أو النثر، وذلك في «روزنامة ربات الشعر  Almanach des Muses» وحدها (Van Tieghem, Le Préromantisme européen, t. II, p. 283). وحول هذه «الغزليات»، انظر فيما يلي «الترجمة المستعارة وقصيدة النثر».
٤٨  انظر — فيما يتعلق بهذين النمطين من النثر — مقالات.
A. Anglès, sur L’esprit de la prose, dans Action du 5 Juin 1945.
٤٩  قارن A. François, Histoire de la langue française de Brunot, t. VI, 2° partie, livre II: La langue postclassique: Le Langage de la passion, pp. 2055–2060؛ ويُذكر أن «ديدرو» قد اخترع «نقاط الإرجاء» التي أساءت اللغة العاطفية استخدامها، والتي نجدها لديه «جملًا رخيمة، وكلمات معزولة، وعلامات تعجب، وكلمات ذات مقطع واحد، وطرق تعبير إضمارية» (ص٢٠٥٩). أليس ذلك هو بداية الجهد المضاد للخطابية الذي ستواصله قصيدة النثر؟
٥٠  قارن Van Tieghem, Ossian en France, pp. 130–134.
٥١  Salon de 1767, article Lauterbourg.
٥٢  نستعيد عبارة «مونجلون» في أطروحته حول «التاريخ الداخلي لما قبل الرومانتيكية الفرنسية».
Histoire intérieure du préromantisme français (Arthaud, 1930).
٥٣  Rousseau, Œuvres, Hachette, 13 vol., t. V, p. 89, cité par A. François؛ والأمر يتعلق هنا بالنثر، لا بقصيدة النثر، فالمحاولة الوحيدة لروسو في «قصيدة النثر» «لاوي إبراهيم Le Lévite d’Ephraim» ليست بذات أهمية نظرًا لأسلوبه الشعري، نفسه، والكلاسيكي الزائف.
اللاوي: «أحد أبناء قبيلة «اللاويين» الإسرائيلية القديمة، ومهمته خدمة المعبد (المترجمة).
٥٤  Histoire intérieure du préromantisme français, t. I, p. 172.
٥٥  يقول عن التصوير الزيتي (وهو ما ينطبق أيضًا على الأدب): «القواعد جعلت من الفن روتينًا، ولا أعرف ما إذا كان ضررها أكثر من نفعها. لنتفق: لقد أفادت الإنسان العادي، وأضرت بالإنسان العبقري» (Œuvres, Garnier, 1876, t. XII, p. 762).
وأيضًا، في مقالة «عبقرية Génie»، في Encyclopédie في عام ١٥٥٧م: «القواعد وقوانين الذوق ستعرقل العبقرية، والعبقرية تحطمها كي تطير نحو السامي، نحو ما يؤثر على العواطف، وما هو عظيم».
٥٦  أوضح «فان تيغيم» كيف أن هذه الفكرة كانت محببةً إلى قلب كل «السابقين على الرومانتيكية» من الأوروبيين: يونج، جوته … إلخ.
(قارن Le Préromantisme, Etudes d’histoire littéraire européenne, 2 vol., Alcan, 1924).
٥٧  Histoire intérieure du préromantisme français, t. I, ch. 2, p. 173.
٥٨  أُحيل — بالنسبة للأول (شعر) — إلى دراسات «مونجلون»، في المجلد الثاني من كتابه Histoire Intérieure du préromantisme français, Arthaud, 1930، وبالنسبة للثانية (القصائد) إلى كتاب Vista Clayton, The prose poem in the French poetry of the XVIII° century, Columbia University, 1936 وبشكل خاص الفصل العاشر.
٥٩  قارن «مونجلون»، سبق ذكره، المجلد الثاني، ص٢٤٧-٢٤٨: «ها هو ذا منتصف الليل يدق، يا له من صمت. لا شيء يتحرك. هل الناس نيام حتى هذه اللحظة؟»
٦٠  Œuvres de Mme Roland. Paris, an VIII. tome 3. والغريب — في مذكرات «مدام رولان» — أن نفس هذه الزيارات إلى فنسين، لدى خالها الكاهن القانوني بيمون، تتيح الفرصة، على النقيض، لوصف قصير، حي وجذاب، ﻟ «حفلات ما بعد العشاء العرجاء، حيث كانوا قد رفعوا الأطباق من المائدة، ورقدت علبة ذات غطاء أسطواني تُستَخدَم كمكتب، ويستخدمها الكاهن القانوني «بارو» الذي يرتدي النظارات ويجعل آلة الباص تهدر، بينما كنت أخمش كمانًا، وخالي يقرقع بالناي.»
٦١  انظر رسالتها إلى صديقتها في المدرسة الداخلية، الآنسة «كانييه»، في ٦ يوليو ١٧٧٦م، التي ذكرها «لانسون» (Choix de Lettres du XVIII° siècle, p. 661).
٦٢  إلى السيد ديليير، ١٤ مايو ١٧٨٣م، ذكره «لانسون» في Choix de Lettres …, p. 629.
٦٣  انظر «لانسون»، مرجع سابق، ص٦٨٦، وما يليها.
٦٤  على سبيل المثال، خطاب ٩ ديسمبر، المكوَّن من مقطعين قصيرين.
٦٥  Observations en tête d’Obermann (éd. Michaut, Hachette, 1940, t. I, p. 1).
٦٦  المرجع السابق، ص٥، ملاحظة.
٦٧  المرجع السابق، وبعض التعبيرات الواقعية سيتم تصحيحها بعد الطبعة الأولى: عجول ستحل محل الأبقار … إلخ.
٦٨  Obermann, Lettre XXV.
٦٩  المرجع السابق، الخطاب الثامن والستون (éd. Michaut, t. II, p. 122).
٧٠  هناك مثال مميز لهذا الانصهار: «الأيام الجميلة عديمة النفع لي، والليالي العذبة مرة لي، سكينة الظلال! تحطم الأمواج! صمت! قمر! عصافير تغرد أثناء الليل! أحاسيس السنوات الشابة، ما الذي أصبحت عليه؟» (Lettre L XXV, t. II, p. 147). وإيقاع هذه المقطوعة الجميلة الجميلة في ذاته معبر بصورة رائعة.
٧١  ذكره «ميرلان» (Sénaneour. p. 94)، الذي يقرب الجملة من «نوفاليس»: «كل المرئي يرتكز على أساس غير مرئي». لقد خضع «سينانكور» لتأثير «سان-مارتان»، والقصائد «الهندوسية»، وربما «نوفاليس» عبر «سباستيان مرسييه» (سبق ذكره، ص٨٩-١٠٦ Merlant).
٧٢  نشر «سينانكور» أيضًا فيما نعلم «أحلام يقظة طبيعة الإنسان البدائية» التي تتميز بعض مقتطفاتها بطابع شعري أكثر منه فلسفي.
٧٣  ر. دي جورمون، مقال حول لوسيل دي شاتوبريان، في Promenades Littéraires, t. V؛ وقد نُشِرَت أعمال «لوسيل» مصحوبة بتعليق «ل. توماس» عام ١٩١٢م (Messein).
٧٤  Chateaubriand, Mémoire d’Outre-Tombe, 1er partie, livre III.
٧٥  Neufchatel, 1784 (tomes I et II) et Lausanne 1785 (tomes III et IV).
٧٦  التورية الموجودة — على سبيل المثال — في «ترتيلة إلى الربيع» (Hymne au printemps, t. I, p. 20) حول دودة الفراش، هذا «الأنبوب المنظم»، «المنتفش بأشواك حريرية وأرجل ما تزال بلا شك محدد».
٧٧  Mélanges Lanson, 1922, pp. 258–267.
٧٨  Mon Bonnet de Nuit, t. II, p. 130. قارن أيضًا «حلم اليقظة» الخامس لروسو.
٧٩  يؤكد مقال حديث كتبه «ﻫ. ت. باترسون» Petites clefs de grands mystères, (Revue de Littérature Comparée, Janvier–Mars 1951, pp. 85–100) أن «مرسييه» كان موضع شغف بألمانيا، بالإضافة إلى أهمية تأثيره على «هوجو».
٨٠  ملحوظة Néologie, 1801, Préface, p. XIV.
٨١  انظر فصل (Vers FrançoisMon Bonnet de Nuit, t. II, p. 254)، حيث يهاجم «مرسييه» بحدة القافية «الرتيبة والدائبة»، ويعلن تفوق النثر «على شعرنا القوطي».
٨٢  انظر Mornet. Le Sentiment de la nature en France, de J. J. Rousseau à Bernardin de St. Pierre, Hachette, 1907, p. 413.
٨٣  Scènes champétres de perreau 1782, Mélanges tirés d’un petit portefeuille de Sylvain Maréchal. 770 etc..
٨٤  ذكره «شيربل» Fénelon au XVIII° siècle en France. p. 445.
٨٥  وإنه لذو دلالة أن نشهد صدور ديوان من «حكايات وأشعار إرسية» عام ١٧٧٢م. يحتوي على مقاطع قصيرة غنائية، تم اختبارها — من هنا وهناك — من «أوسيان»، ولا تحتفظ بشيء من طابع العمل الملحمي.
٨٦  Tableau de Paris, t. II, cité par Monglond. Histoire Intérieure du Préromantisme français, t. I, p. 100.
٨٧  Avertissement في بداية ترجمته ﻟ «غزليات»، عام ١٧٦٢م، ص١٩.
٨٨  Variétés littéraires, 1768, t. I, p. 391. ونضرب مثلًا على ذلك استخدام كلمة «شيء»، وهي «مصطلح ميتافيزيقي».
٨٩  المرجع السابق، المجلد الثاني، ص٤٢ (وRéflexions نسق ترجمة أول «ليلة» Nuit ليونج).
٩٠  قارن ترجمة «الحب الذي أُسيء جزاؤهL’Amour mal recompensé» — حيث يغني «ساتير» إلى حورية بحر أغنيةً مضحكة (ربما نبعت فكرتها من ثيوقريط، حيث يقارن نفسه ﺑ «عجل مرح»).
«ساتير»: شخص خرافي، نصفه الأعلى إنسان والأسفل عنزة (المترجمة).
٩١  هكذا تم تقديم «ترتيلة إلى الشمس» لريراك، باعتبارها مترجمةً عن اليونانية.
٩٢  Les Incas (1777), ch. XLVII.
٩٣  «على النثر ألا يختلط بالنظم»، ذلك ما يقوله في كتاب «الشعر» (الفصل الأول، ص٢٤٢)، والحظر الذي أصدره «فوجولا»: «علينا أن نتجنب النظم قدر الإمكان في النثر، وخاصة البحر السكندري» (Remarques sur la langue française, 1647, p. 104) ظل مقبولًا بشكل عام تمامًا، حتى فيما يتعلق بالنثر الأدبي والشعري. قارن Vista Clayton, The Prose Poem in French poetry of the XVIII° Century, Columbia University, 1936, 2° Partie, ch. 2.
٩٤  كان «سوار» قد أعطى «لوجورنال اترانجيه» عام ١٧٦٢م ترجمة «دار-تولا» التي تتضمن قصيدة «ابتهال إلى القمر» الشهيرة، ونعلم أن «الناتشيز» — التي نُشِرَت عام ١٨٦٢م — قد وُجِدَت مخطوطةً منذ ثلاثين عامًا.
٩٥  والدليل أن «التراتيل» شديدة التكلف من الناحية الأدبية، في «شهداء» و«أغنية الموت» ﻟ «سيمودوسيه»، وخاصة في الكتاب الثالث والعشرين، وهي نموذج حقيقي للأسلوب الكلاسيكي المستعار.
٩٦  انظر ما سبق، الملحوظة رقم ١٤.
٩٧  Dissertation sur la poésie rythmique(sic) dans les Antiquités poétiques، حيث يميز بين الشعر الإيقاعي لليهود والشعر الموزون، ويكتشف بالنسبة للباقي شعرًا إيقاعيًّا في الأغنية الحديثة.
٩٨  Le Livre échappé au Déluge, en style primitif, ou Pseaumes nouvellement découverts, à Sirap (=Paris). 1784.
٩٩  انظر: Fusil, Sylvain Maréchal, ou l’Homme sans Dieu, Plon, 1936.
١٠٠  Psaume XXVI, p. 73.
١٠١  أحب الفتاة المولِّدة البيضاء التي تغنى بها نظمًا، والتي ما يزال نثره يتذكرها.
١٠٢  يتذكر شاتوبريان «بارني» في «الناتشيز»، ليصف غراميات الزنجي اميلي، وفي ملاحظة في Génie du Christianisme (2° partie, livre, V. cha. 2)، يذكر أيضًا «ناهاندوف» باعتبارها نموذجًا ﻟ «أغاني الزنوج والمتوحشين».
١٠٣  نعلم أن «هردير» قد أدخل بعض هذه الأناشيد «البدائية» في مؤلفه «فولكسليدر Volkslieder». وفي عام ١٨٤٤م، سيكتشف «سانت-بوف» «حيلة» «بارني» (Portraits Contemporains, tome IV).
١٠٤  «لم أقل أبدًا إنني أنتجت قصيدة»، كما يقول في «اختبار الشهداء». وبعد أن يقول عن «أتالا» إنها «نوعٌ ما من القصيدة»، يستدرك في ملحوظة: «إنني مضطر إلى التنبيه إلى أنه إذا ما كنت أستخدم هنا كلمة قصيدة، فذلك لأنني لا أعرف كيف أفهم غير ذلك. لست إطلاقًا من هؤلاء الناس الذين يخلطون بين النثر والشعر (éd. V. Giraud, 1906, Préface, p. XIII?).
١٠٥  Mémoires d’Outre-Tombe, livres II et VI. يصف «شاتوبريان» نفسُه ابتهاله إلى «سينتي» بأنه «أغنية شبه متأوهة».
١٠٦  Chateaubriand et son groupe littéraire sous l’Empire, Garnier, 1861.5° léçon, p. 149. في الدرس السابع، سيشدد «سانت-بوف» على فن «شاتوبريان»، وسيلومه على كتابة الأشعار بدلًا من الروايات.
١٠٧  Annales Romantiques, 1835، والنص الأولى ﻟ «ذكريات»، ذكره «ف. جيرو» في ملحوظة من كتابه (Extraits de Chateaubriand, Hachette, p. 310) لم يتضمن إلا عدة أسطر حول مظهر بريتاني في الربيع.
١٠٨  على نحو ما يتذكر «سانت-بوف» (سبق ذكره، المجلد الثاني، ص١٨-٣٢) فيما يتعلق ﺑ Romance du Dernier Abencérage، وقارن — في «خط سير الرحلة من باريس إلى القدس Itinéraire de Paris à Jérusalem» — تأملات «شاتوبريان» حول الأغاني الشعبية اليونانية.
١٠٩  Atala, éd. V. Giraud, 1906, pp. 40-41 et pp. 78–80.
١١٠  قارن Psaumes 42, 49, etc …، وبالمثل Ezéchiel, 32, 18–32.
١١١  Les Martyrs, Livre VI (قارن بما سبق، تحت عنوان «تأثير الترجمات»). ونعلم التأثير «الكهربائي» الذي تحدثه قراءة هذا «البردي» على «أوجستين تييري» الشاب. فقد وصفه في مقدمة Récits des Temps Mérovingiens.
١١٢  Les rythmes comme introduction physique à l’esthétique, Boivin, 1930؛ «إن هذا النمط من النثر متأنق تمامًا بشكل خاص، لكنه يريد أن يُغَنَّى، وأن يكون ذا مظهر هندي، متطلبات كثيرة، وقد حققها «شاتوبريان» بما يعلمه عن الإيقاع الوحشي، وتعد تلك — على الإطلاق — هي إيقاعاته الخاصة التي تنشأ تلقائيًّا» (ص٢١).
١١٣  المرجع السابق، ص٢١.
١١٤  Préface du tome I, an X (1801), p. VI.
١١٥  في الجزأين الأولين، وحدهما، نقرأ ترجمات من الألمانية (مقاطع هوفمان «إلى قطتي» وحكايتين خرافيتين لليتشمبرج)، ومن الإنجليزية (استعارة)، وغزلية «مترجمة بتصرف من الإيطالية»، ومحاكاة لأناكريون ﻟ «حكاية هندية»، و«قصة يونانية» (في مقاطع)، و«تسامح» و«فصل من سفر التكوين المكتشف حديثًا، مترجمًا عن العبرية إلى الفرنسية».
١١٦  La mue de l’Amour, par Lefranc, t. IV (1805) pp. 21-22.
١١٧  «إن لم تكن هناك سوى طريقة واحدة للكتابة في أفضل شكل ممكن، فهل يمكن — مع قواعد النظم — أن تستطيع هذه الطريقة الوحيدة أن تتواجد دائمًا؟» هكذا كتبت، وهي تقيم تعارضًا بين الشعر والنثر.
(De la Littérature, 1800, éd. Didot, 1861, t. I, p. 286).
١١٨  De l’Allemagne, 1813, éd. Didot, t. II. 2° partie, chap. 9, p. 58. وتضيف: «إن طغيان البحر السكندري غالبًا ما يفرض علينا ألا نضع أبدًا في شعر منظوم ما يمكن أن يكون — مع ذلك — شعرًا حقيقيًّا».
١١٩  Improvisations de Corinne au Capitole (t. II. chap. 3), dans la campagne de Naples (t. III, chap. 4), etc..
١٢٠  «أجمل الأجزاء النثرية التي عرفناها، هي لغة العواطف التي تستحضرها العبقرية».
(De la Littérature, p. 286).
١٢١  1re édition, 1813. ويبدو أن نجاح Gaule Poétique كان كبيرًا ومستمرًّا.
١٢٢  في ندائه A un écrivain des Quatres Vents de L’Esprit.
١٢٣  Fragments, Renouard, Paris, 1819, p. 37 (6° fragment)، ونتذكر في «هذا العويل الأليم الذي ينحدر من عصر إلى عصر» («هذا العواء الطويل»، عام ١٨٥٧م) في «الفنارات» لبودلير.
١٢٤  Portraits Contemporains, t. I, Paris, 1846, p. 298.
١٢٥  هو الموضوع الشهير: «لماذا أستيقظ يا نسمة الربيع»، الذي تكرر استخدامه كثيرًا منذ «ويرذير».
١٢٦  ليد lied: أغنية شعبية ألمانية.
١٢٧  سنجد مزيدًا من التفاصيل في أطروحة «يوفانوفيتش» حول «جوزلا» لميرميه، La Guzla de Mérimée, Grenoble, 1910, 1re partie, chap. 2: La Ballade populaire avant la Guzla. pp. 110–188.
١٢٨  أضع — في نفس الإطار — «الاقتباسات» ذات الموضوعات الشعبية في شكل أناشيد غنائية من تأليف هذا أو ذاك من الكتاب: مثل «لينور» تأليف «بورجير»، و«ملك أولين» تأليف «جوته»، و«الأناشيد الاسكتلندية» تأليف «والتر سكوت». ولم تحُزْ هذه الأناشيد «الأدبية» — عندما تُرجِمَت — على تأثير يختلف عن ذلك الذي حازته الأغاني الشعبية الأصيلة.
١٢٩  Conservateur littéraire, 1819–1821. éd. J. Marsan. Hachette, 1922: Introduction, p. XVII.
تعبير أغاريد «خيمة» استخدمه «أبيل هوجو» عن «القدس المحررة» ﻟ «بلور-لورميان»، وفيه يرثي الناقد الشاب الافتقار إلى «هذه التعبيرات التي يخلقها الشاعر، والتي لا يصنعها ناظم الشعر» (tome II, p. 75).
١٣٠  Tome I, 2, pp. 105–107.
١٣١  في مقال Du Génie لأوجين هوجو بشكل محدد (يناير ١٨٢٠م).
١٣٢  Revue des Deux Mondes, 1831, t. III, 3° livraison. ونعلم أن «أوجين هوجو» سرعان ما أُصِيب بالجنون.
١٣٣  «الهولان» و«مقبرة لوبان» أُعيدَ طبعهما — على التوالي — في مايو ويونيو ويوليو ١٨٢٠م، وأُعيدَ طبعهما في Tablettes Romantiques en 1823، وكذلك «مبارزة الهاوية».
١٣٤  فيما يخص ما يقوله الكلاسيكيون، انظر ما ذكره «أ. ديشان» (La Guerre en temps de paix, Muse française. Mai 1824).
١٣٥  La Muse Française, 1823-1824, publiée par J. Marsan, Cornély, 1907: Introduction, p. XIX.
١٣٦  Muse Française, 1823, tome I.
١٣٧  Muse Française, 12° livraison, t. II, p. 301.
١٣٨  Racine et Shakespeare (1822). Charpentier, 1935, p. 166.
١٣٩  وثمة مثال مشهور عن التورية المثيرة للسخرية، يتمثل في كلمة هنري الرابع عن «العصيدة»، التي حولها «ليجوفيه» في مؤلفه «موت هنري الرابع» إلى:
وأخيرًا أريد في اليوم المحدد للراحة،
أن يتلقى الضيف المثابر للنجوع المتواضعة،
على مائدته الأقل تواضعًا، بإحساني،
بعضًا من الوجبات المخصصة للرفاهية.
١٤٠  Victor Hugo, Odes, Préface de 1824.
١٤١  Emile Deschamps, Préface des Études Françaises et Étrangères (1828), publiée par H. Girard, Bibliothèque Romantique, 1923, p. 16.
١٤٢  Préface, éd. H. Girard, p. 61.
١٤٣  قارن «مقدمة كرومويل» عام ١٨٢٨م: «فالفكرة، وقد غُمِسَت في الشعر، تتضمن — فجأةً — شيئًا ما أكثر حدة، وأكثر سطوعًا» (éd. Souriau, 1897, p. 283).
١٤٤  مقدمات Odes et Ballades. ويشير «هوجو» — في نفس المقدمة — إلى «الأعمال الشعرية الجميلة من كل الأنواع، سواء كانت شعرًا أم نثرًا، التي شرفت قرننا».
١٤٥  مقدمة كرومويل، مرجع سابق، ص٢٨٥، ٢٨٦.
١٤٦  «دي لامنيه» الذي أعجب به الرومانتيكيون إعجابًا شديدًا، وأصبح مشهورًا منذ كتابته «دراسة عن اللامبالاة» (١٨١٧م). وقد نُشِرَت في جزأين عام ١٧٢٥م: «الملحد» و«اليهودي» (أُعيدَ نشر الأول في ملخص «الدفاتر التذكارية»). وحول «الحوليات الرومانتيكية»، انظر Asselineau. Bibliographie Romantique, 2° éd. 1872.
١٤٧  نسبةً إلى مورلاك Morlaque؛ وهي في منطقة بلجيكا.
١٤٨  استعادة من Conservateur Littéraire (قارن مع ما سبق تحت عنوان «فجر الرومانتيكية …»).
١٤٩  عامان، ١٨٣٠-١٨٣١م.
١٥٠  اعتبارًا من ١٨٣٠م. انظر — عن «الدفاتر التذكارية» — «بيبليوجرافيا» لاشيفر.
١٥١  في مقال حول أنشودة «المورلاك».
١٥٢  Smarra, ou les démons de la nuit, 1821. «أراد نودييه، الأول في أدبنا، أن يؤلف قصيدة الحياة الليلية». هكذا كتب «كاستيكس» عن «سمارا».
(Le conte fantastique en France de Nodier à Maupassant, Corti, 1951, p. 132).
١٥٣  يؤكد «نودييه» — في المقدمة — أن اسم «سمارَّا» هو اسم الروح الشريرة التي تتسبب في الكوابيس، و«نودييه» — الذي أقام في «إيلليري» عامي ١٨١٢م، ١٨١٣م — كان يجهل تمامًا، على أية حال، اللغة الصربية الكرواتية. انظر أطروحة «يوفانوفيتش» حول Guzla de Mérimée, Grenoble, 1910, pp. 68–109.
١٥٤  قارن «يوفانوفيتش، مرجع سابق، ص١٠٢-١٠٨. والطريف أن «نودييه» قد أسمى «بيكه» باسم الكونت سبالاتان، الذي كان يرأس قبيلة «ليباش»، حيث أقام «نودييه» في «إيلليري». وهو اسم وجده «مريميه» إيلليريًّا خالصًا إلى حد أنه استخدمه في «الجوزلا La guzla» (Yovanovitch, p. 104). والجزء الثالث «غزلية» أدبية خالصة للشاعر الراجوزي «إينياس جيورجي»، وقد ترجمها «نودييه» عن ترجمة إيطالية.
١٥٥  نسبةً إلى إيلليري Illyrie، الاسم القديم لمنطقة شمالي البلقان.
١٥٦  انظر مقدمته لعام ١٨٤٢م.
١٥٧  Trahard, La jeunesse De Mérimée, Champion, 1924, pp. 265-266.
١٥٨  الصفائيون Purists،: من يتكلفون الحرص على صفاء اللغة ونقائها.
١٥٩  La guzla, éd. du Divan, 1928, Introduction d’E. Marsan, p. VIII.
١٦٠  سأذكر — نقلًا عن «يوفانوفيتش» (La Guzla de Mérimée. Grenoble, 1910, pp. 374-375) — ثلاث ترجمات فرنسية لبداية نشيد زوجة حسن أغا الغنائي:
  • (١)
    ترجمة عام ١٨٧٨م، عن ترجمة «فورتي» الإيطالية:

    «أي بياض يتألق في هذه الغابات الخضراء؟ أثلوج، أم بجع؟ ستكون الثلوج قد ذابت اليوم، والبجع قد طار. إنها ليست بثلوج ولا هي ببجع، لكنها خيام حسن أغا. فيها يرقد جريحًا وهو يتوجع بمرارة».

  • (٢)
    ترجمة «نودييه» نقلًا عن «سمارَّا» (وقد تمت أيضًا عن «فورتي»):

    «أي بياض باهر يشرق بعيدًا على العشب الأخضر الشاسع للسهول والأجمات؟ أهو ثلج أم بجع، طائر الأنهار البراق هذا الذي يغطيها بالبياض؟ لكن الثلوج تلاشت، لكن البجع استأنف طيرانه نحو مناطق الشمال الباردة.

    لا ليس الثلج، ولا البجع. إنه سرادق حسن، حسن الشجاع، الجريح على نحو يبعث على الألم، الذي يبكي من غضبه أكثر من بكائه من جرحه.»

  • (٣)
    ترجمة «مريميه»:

    «ما هذا البياض على السهول الخضراء؟ أهي الثلوج؟ أهو البجع؟ ثلوج؟ كان لا بد أن تذوب. بجع؟ كان لا بد أن يطير. ليست الثلوج أبدًا، ليس البجع أبدًا، إنها خيام الأغا حسن أغا. وهو ينتحب من جراحه الأليمة.»

ونرى بوضوح إلى أي حد يتمسك «نودييه» بالتوازنات الإيقاعية، و«مريميه» بالفاعلية والإيجاز.
١٦١  La Guzla de Mérimée, p. 281، ملحوظة ٢.
١٦٢  La Guzla. éd. du Divan, 1928, pp. 42–44.
١٦٣  المرجع السابق، ص٥٧، ٥٨.
١٦٤  المرجع السابق، ص٨٤، ٨٦.
١٦٥  أغنية ينشدها بحارة «البندقية»، في إيطاليا.
١٦٦  «بيسمبو، بيسمبو! البحر أزرق، والسماء صافية، القمر مرتفع، والريح لم تعد تهب في أشرعتنا من أعلى. بيسمبو، بيسمبو!» (إنه أول المقاطع الخمسة، ص٩٢-٩٣). ويوضح «مريميه» — في ملحوظة له — أن هذه الكلمة «بيسمبو» بلا «أي معنًى. والبحارة الإيلليريون يرددونها وهم يغنون — باستمرار — أثناء تجذيفهم، حتى يضبطوا إيقاعهم».
١٦٧  Centaure، يكتبها البعض «القنطور». وهو — في الأساطير اليونانية — وحش له رأس إنسان وجذعه، وبقية الجسد لحصان.
١٦٨  نُشِرَ «السنتور» و«الطوفان» — لأول مرة — في Album de Grille et Magalon en 1822.
١٦٩  Le Centaure, Album d’un Pessimiste, éd. par J. Marsan, Bibliothéque Romantique, 1924, p. 198.
١٧٠  L’Adolescence ، السابق، ص٢٠٢.
١٧١  «الغليون»، السابق، ص١٩١؛ ونعلم أن «بودلير» و«مالارميه» سيستعيدان الموضوع.
١٧٢  «آه! كم إن حماقة الآخرين تصيب بالغثيان من هو مستاء — سلفًا — وضجر من ثقله هو!» ص١٨٨. قارن ﺑ «بودلير» في قصيدة «الساعة الواحدة صباحًا» من ديوانه «سأم باريس».
١٧٣  جمع «ج. مارسان» قصائد النثر (بشكل أكثر منهجية عما هي عليه في الطبعة التي تلت وفاة «الفونس رابيه» عام ١٨٣٥م)، في الجزء الثالث من «ألبوم متشائم  Album d’un Pessimiste» بعنوان «أوقات فراغ حزينة». مات «رابيه» في ٣١ ديسمبر ١٨٢٩م، بعد صراع مع مرض أصابه بالتشوه.
١٧٤  L’Abime ، سبق ذكره، ص١٢٢.
١٧٥  وبذلك، فصورة الحياة — في Mon Ame ص١٣١ — «دراما تراجيدية وهزلية»، حيث يدفع المشاهدون ثمن مقاعدهم «من قوتهم ودمهم».
١٧٦  «سيزيف»، مرجع سابق، ص١٥٥.
١٧٧  Les Feuilles d’Automne, Pièce XXIX, datée de Mai 1830.
١٧٨  La Vision d’où est sorti ce livre, pièce liminaire de la Légende des siécles, 1856.
١٧٩  قارن ﺑ Le Singulier Monument في L’An 2440, I, I, chap. 22 (éd de 1786).
١٨٠  في Histoire de la langue Française, t. XII، يرصد «ش. برونو» ثلاث محاولات في قصيدة النثر في المرحلة الرومانتيكية: «رابيه» و«برتران» و«م. دي جيران»، باعتبارها «محاولات معزولة لا رابط بينها» (ص٢٩٣). ولا شيء يشير — في الواقع — إلى أن أيًّا من هؤلاء الشعراء الثلاثة قد عرف تجارب الشاعرين الآخرين (ما عدا ربما القصائد التي نُشِرَت في «الحوليات الرومانتيكية»).
١٨١  سانت-بوف Notice عن برتران، في مقدمة Gaspard de la Nuit (1re éd., Pavie, Angers, 1842) وأعاد نشرها في Portraits Littéraires, t. II, Garnier, 1862, p. 354.
١٨٢  كان قد وُلِدَ — في الحقيقة — في «سيفا»، في «بيمون» عام ١٨٠٧م، لكن والده — نقيب الشرطة — كان قد استقر في «ديجون»، بعد سقوط الإمبراطورية: كان لويس عمره سبع سنوات، وقتئذٍ.
١٨٣  سأترك له هذا الاسم الشخصي الذي اشتهر به، والذي يلائم ميله إلى العصور الوسطى، رغم أدلة «سبريتسما» الذي أوضح — في أطروحته الرائعة — أنه، في حقيقة الأمر، لم يوقع بهذا الاسم إلا نادرًا.
(Cargill Sprietsma, Louis Bertrand, Thèse. Champion, 1926, pp. 3–5).
١٨٤  أوضح «سبريتسما» — مستندًا إلى شهود آخرين — أنها كانت منظومةً، وليست نثرًا، تلك التي تلاها «برتران» ذلك المساء، وهو ما لا يهم كثيرًا على أية حال: فالأساسي هو أن «سانت-بوف» «قد عرف» الأناشيد الغنائية النثرية» ﻟ «جاسبار»، بل حصل على المخطوط لفترةٍ ما بين يديه (سبريتسما، مرجع سابق، ص١٢٤، ١٣٠).
١٨٥  A Monsieur Sainte-Beuve, Gaspard de la Nuit, Mercure de France, 1911, p. 188؛ والمقطوعة تحمل تاريخ ٢٠ سبتمبر ١٨٣٦م.
١٨٦  قارن Lalou, Vers une alchimie lyrique, Les Arts et le livre, 1927 (Sainte-Beuve, Bertrand, Nerval, Baudelaire)؛ وفيما بعد، ذهب «مارسيل جان» و«أرياد ميزيي» إلى وضع «جاسبار الليلي» فوق قصائد «بودلير» النثرية، الذي حاول عبثًا «الارتقاء إلى مستوى تركيبة برتران» Genèse de la Pensée moderne, Corrêa, 1950, p. 48.
١٨٧  في La Bouteille à la Mer. n° 48, Octobre 1945.
١٨٨  انظر — على سبيل المثال — «ماكس جاكوب» في Cornet à Dés, Préface de 1916, Stock, 1923, p. 17 و«أ. جالو» في مقاله عن Le Centenaire du poème en prose (Le Temps, 25 Août 1942)؛ و«م. شابلان» في كتابه Anthologie du poème en prose. Julliard, 1946.
١٨٩  ثلاث ورقات مزدوجة موجهة إلى الناشر «راندويل» يستعيدها «ب. جيجان» في طبعته ﻟ «جسبار الليلي»، المنشورة طبقًا لمخطوط المؤلف، بايو، ١٩٢٥م، ص٢٧٠.
١٩٠  ونعلم أن جاسبار الليلي يتضمن ستة كتب: المدرسة الفلمنكية، باريس القديمة، الليل وحظوته، الوقائع، إسبانيا وإيطاليا، سيلفي، إضافة إلى بضع قصائد منفصلة، «مقتطفة من مذكرات المؤلف».
١٩١  حول «جمعية الدراسات»، والدور الذي لعبه «برتران» فيها، انظر Sprietsma, Louis-Bertrand, pp. 50–70، ويشير «سبريتسما» أيضًا في أطروحته الثانوية (édition des Œuvres poétiques de Bertrand, Champion, 1926) إلى التقارب بين أناشيد «أتالا» الهندية وقصائد «جاسبار الليلي».
١٩٢  قارن بما يلي، لدى إيرادنا لنص «أكتوبر».
١٩٣  قرأها في «جمعية الدراسات» عام ١٨٨٢م (قارن Sprietsma، مرجع سابق، ص٥٣). لماذا ترجم «برتران» الأناشيد الغنائية نظمًا، رغم أنه كان يفكر سلفًا في كتابة «أناشيد غنائية نثرية»؟ ذلك — ولا شك — حتى لا يزاحم الترجمات النثرية للويف فيمار، وربما أيضًا لأنه كان يبحث — في هذه الفترة، وعلى غرار «فيكتور هوجو» — عن صياغات أصيلة للأناشيد الغنائية المقطعية في الشعر المنظوم (لقد كتب — على أية حال — ثلاثًا منها حول «ديجون» تتميز بإيقاع غريب ومتقافز).
١٩٤  Ballades, Légendes et chants populaires de l’Angleterre et de l’Ecosse، وترجمها Loève-Veimars, Renouard, 1825, p. 160. قارن — بشكل خاص — في حورية البحر: «رجتني أن أضع خاتمها في إصبعي، كي أصبح زوجًا لإحدى حوريات البحر»، في Gaspard de la Nuit, (Mercure de France, 1911, p. 111).
١٩٥  انظر — في هذا الموضوع — كتاب L. Reynaud, Romantisme: ses origines anglo-germaniques, Colin, 1926.
١٩٦  عبارة «السمندل» التوجيهية مستعارة من «تريلبي  Trilby»، ويمكننا أن نقارن ما ورد في «السمندل» — «كانت أغصان الكرمة تالفة، وزحفت الشعلة نحو الجمر» — بما ورد في «تريلبي»: «شعلة الجمرات خبت، وجرى ضوء أزرق فوق الجمرة المنطفئة، وتلاشى».
١٩٧  Smarra, éd. des Quatres Vents, 1946, p. 76.
١٩٨  Scarbo, Gaspard de la Nuit (Mercure de France, 1911, p. 97).
١٩٩  La Chambre Gothique, Gaspard, p. 96؛ ويدا «سمارَّا»، هما أيضًا «مسلحتان بأظافر من معدن أرفع من الصلب، تخترق اللحم دون أن تقطعه، وتمتص الدم بطريقة مضخة مصاص الدماء الغادرة» (Smarra, p. 76).
٢٠٠  حول «هوفمان»، قارن أطروحة «كاستيكس» الحديثة Le Conte fantastique en France de Nodier à Maupassant (Corti, 1951), et Breuillac. Hoffmann en France, Revue d’Histoire Littéraire, 1906-1907؛ ويبدو أن «برتران» قد عثر على الفكرة الأولية ﻟ «سكاربو» — وفقًا لبروياك — في إحدى «الحكايات الليلية»، وهو — مثل «هوفمان» — «يسعى للوصول إلى امتزاج الفنون، إنه يحاول أن يجعل القارئ يشعر — إزاء نثره الموزون — بانطباع مماثل لذلك الذي يحس به أمام لوحة أو عند سماع عمل موسيقي» (R. H. L., 1907, p. 99). ومع ذلك، فإن مسألة التواريخ تدفعنا إلى التعامل باحتراس شديد فيما يتعلق بهذا التأثير.
٢٠١  انظر Sprietsma, p. 95. وهذه الأشعار من أوائل ما كتبه «موسيه».
٢٠٢  انظر الفصل الذي كتبه «سبريتسما» حول Bertrand et le Provincial, pp. 88–103.
٢٠٣  Le Provincial, 12 Septembre, 1828 (Sprietsma, p. 92). ولنذكر أن «برتران» — إذا ما كان قد أبدع النوع — فإنه لم يبدع اسم قصيدة النثر، الذي لم يستخدمه في أي موضع.
٢٠٤  Espagne et Italie. Livre V de Gaspard. هل يجب أن نذكر Les Etudes françaises et étrangèrs de E. Deschamps. وبعض Orientales, les Contes d’Espagne et d’Italie de Musset.
٢٠٥  «لقد نقلت لي الشغف بالعمارة القوطية … إن مدينتي التي وُلِدتُ فيها تظهر أمام عيني في هيئة جديدة، أسير في الشوارع، وأنا أتهجَّى كل منزل، مثل رجل يبدأ في تعلم القراءة. وأتفحص الآن بنشوة تمتلئ بالفضول الذي لا يُوصَف، العديد من كنائسنا، حيث سمعتُ القداس مئات المرات، دون أن أعرفها».
(Lettre citée par Marsan, Mercure de France 1er Mars 1925).
٢٠٦  «جاسبار الليلي»، ص٤٧. ويلمح «سانت-بوف» هنا إلى فصل من رواية «نوتردام دي باري»، ويحمل عنوان «باريس على جناح طائر» (Livre III, ch. 2).
٢٠٧  منذ ١٨٢٧م، حدثه «روسينيو» — وهو صديق «برتران» — عن «المعمار القوطي» لكنيسة شومون، التي نستطيع أن نرى فيها أشكالًا غريبةً من «الجروتيسك» لقديسين محبوسين في كوات مُكَدَّسة بتماثيل غريبة. (ص٣٤، Sprietsma).
٢٠٨  Préface de Cromwell (1828) publiée Par Maurice Souriau 1897, p. 199.
٢٠٩  كالوت، جاك (١٥٩٢-١٦٣٥م): أحد كبار النحاتين الفرنسيين، من أهم أعماله «الفظائع الكبرى للحرب»، كتسجيل لأهوال حرب الثلاثين عامًا.
٢١٠  السابق، ص٢٠٠.
٢١١  Gaspard de la Nuit, Introduction, p. 14، واسم «تيي» هذا تُسمَّى به — كما يقول «برنار» — عدة أنهار صغيرة، تروي السهل بين «ديجون» و«الساءون».
٢١٢  Jean des Tilles (Gaspard, p. 73).
٢١٣  قارن — على سبيل المثال — «محفل السبت الكبير لسحرة اكسوا»، بالقرب من شجرة بلوط جبل «شوفان»، Marion, Légendes et traditions populaires de la Côte d’Or. Lumière. Dijon, 1929.
٢١٤  «في زمن آخر، كان سيشعر برائحة الأشياء المحروقة؛ إذ إن العمل الكبير — الذي كان مشغولًا به — كان يمكن أن يقوده إلى المشنقة أو المحرقة» (lettre de F. Bertrand á M. Chabeuf, 1886, Sprietsma, pp. 232–235). وقارن — في «جاسبار الخيميائي»، ص٦١، وفي «حورية البحر» — التلميح إلى «مثلث النار، والأرض، والهواء» (ص١١٢).
٢١٥  انظر في «اللذة» La Volupté (Œuvres en vers de Bertrand, thése Secondaire de Sprietsma), Hostellerie (p. 5)، والأناشيد الغنائية الثلاثة عن ديجون (ص٣٠، ٣٢). وفي مقدمة «جاسبار» يرسم «برتران» تخطيطًا للوحة مفعمة بالحياة، لديجون القديمة منذ القرن الرابع عشر حتى الخامس عشر.
٢١٦  قارن Gaspard, Introduction, p. 29, et le Claire de Lune, p. 104.
٢١٧  Jacquemart: شخص من المعدن أو الخشب يحمل مطرقة يقرع بها ساعة الحائط. وهو أيضًا لعبة شعبية.
٢١٨  قارن Un Rêve (Gaspard, p. 107).
٢١٩  قارن La Ronde sous la Cloche (Gaspard, p. 105).
٢٢٠  وبالتحديد، بهدف السخرية من هذا التعسف في استخدام «الطابع المحلي»، تسلَّى «مريميه» — كما سيقول عام ١٨٤٠م — بأن يكتب اﻟ «جوزلا»، وهي ذات «طابع» لا يقل أصالة.
٢٢١  مثل «مقبرة فونتين  Le Cimetière de Fonaine» (١٨٢٧م)، أو «الحج إلى نوتردام في إيتان  Pélerinage à Notre Dame de l’Etang» (١٨٢٨م)، اللتين يصف فيهما «برتران» «الطلاء العذب للحقول وسقف الضيعات الصغيرة».
٢٢٢  قارن «… أحببتهُ، وعيناي محمرتان من كثرة البكاء» (Scarbo, p. 96)، «… وفي أعماق سريري كنت أرصد في هلع اثني عشر صوتًا …» (La Ronde sous la Cloche, p. 105).
٢٢٣  من المفيد أن نعرف أن «بينيو» — مدير «الكوليج» (مدرسة ديجون الثانوية)، حيث درس «برتران» حتى عام ١٨٢٧م — كان قد قدم، عام ١٨٢٥م، إلى أكاديمية ديجون، بحثًا حول «رقصات الموتى»، نُشِرَ عام ١٨٢٦م (قارن، ملحوظة Sprietsma, pp. 30 et 82).
٢٢٤  جاسبار، ص٩٧.
٢٢٥  الرحيل إلى محفل السبت Départ pour le Sabbat (Gaspard, p. 64).
٢٢٦  أصابع اليد الخمسة Les Cinq Doigts de La Main (Gaspard, p. 56).
٢٢٧  التاراسك Tarasque: مسخ أسطوري.
٢٢٨  المرهف Le Raffiné (Gaspard, p. 77).
٢٢٩  جاسبار (Gaspard, p. 80).
٢٣٠  السيد جان Messire Jean (Gaspard, p. 81).
٢٣١  قارن بعنوان الكتاب الأول لجاسبار: المدرسة الفلمنكية، والفنانين المذكورين في المقدمة. لقد ترك «برتران» رسومًا تخطيطية على طريقة «هوجو»، وطبعة «بوس» لجاسبار (١٩٢٠م) تضم رسمًا تخطيطيًّا، ويحكي أخوه «فريدريك» أنه «كان يرسم أشخاصًا مشنوقين بالفحم والطباشير الأحمر على حوائط الممرات» (قارن Sprietsma, pp. 232–235).
٢٣٢  قارن هذه العناوين الدالة: «صعاليك الليل»، «سريناد»، «قداس منتصف الليل»، «ضوء القمر»، «الليل بعد معركة …» دون ذكر «جاسبار الليلي». ومع الرومانتيكية، وُلِدَ هذا الحب لليل، في القرن الثامن عشر (قارن Van-Tieghm. La Poésie de la Nuit et des Tombeaux au XVIII° siècle, 1921)، وقد تطور — في آن واحد — على الصعيد الفني والنفسي.
٢٣٣  مقطوعة بتاريخ ١١ أبريل ١٨٢٨م، نُشِرَت في «لوبروفنسيال  Le Provincial» في ١٢ سبتمبر ١٨٢٨م. وقد أُعِيدَ نشر غالبية هذه النسخ الأولى في Keepsake fantastique d’Aloysius Bertrand, Crés, 1920.
٢٣٤  قصيدة منشورة في «لوبروفنسيال  Le Provincial»، ١٢ سبتمبر ١٨٢٨م.
٢٣٥  نُشِرَت «قلعة مولجاست  La Citadelle de Mollgast (sic)» في «لوبروفنسيال  Le Provincial» في ٨ مايو ١٨٢٨م.
٢٣٦  ذكر «بيتي» هذا النص — لأول مرة — في Le Bulletin de l’Académie Delphinale, 1865, p. 299 وأعاد «سبريتسما» نشره في «مقدمة» Œuvres Poétiques de Bernard.
٢٣٧  كارولوس Carolus: عملة نحاسية سُكَّت في عهد شارل الثامن، ودام استخدامها حتى القرن الثامن عشر.
٢٣٨  تتضمن قصيدة «البرصاء» لبرتران (جاسبار، ص١٣٩) عبارة توجيهية تقول:
لا تقترب قيد أنملة من هذا المكان
فهنا بيت البرصاء القذر
(قصيدة البرصاء القديمة)
وهي تتعلق ببرصاء «سان جاك دي تريمولوا» في ضواحي «ديجون».
٢٣٩  إشارة إلى الديجوني الشهير «جاكيمار دي نوتردام» الذي يتذكره «برتران» في مقدمة «جاسبار»، ص٢٩.
٢٤٠  ضوء القمر  Le Clair de Lune, p. 103.
٢٤١  هل تأثر «برتران» ﺑ «أنشودة غنائية إلى القمر» الشهيرة لموسيه؟
٢٤٢  Das Französische Prosagedicht, Hambourg, 1929, p. 15.
٢٤٣  «مغامرة آلويزيوس برتران، الزجاجة في البحر»، أكتوبر ١٩٤٥م L’Aventure d’Aloysius Bertrand, La Bouteille à la mer, Octobre 1945: «كل السحر غير المحسوس للحالة البدائية قد تلاشى».
٢٤٤  وبالمقابل، يمكننا أن نقرأ في أشعاره شكاوى مؤثرة حول مصيره. على سبيل المثال في «شكوى»، عام ١٨٣٨م (Œuvres Poétiques, p. 102)، وفي «حياة أخرى» المكتوبة عام ١٨٤٠م، بعد خمسة عشر شهرًا قضاها في المستشفى (السابق، ص١٠٩):
وا حسرتاه! لم أعد سوى ظل
يتكشَّف في شحوبه،
هائم، فقير، مريض وكئيب
في صحراء ألمي!
ونستطيع أن نقرأ أيضًا في أشعار «برتران»، عام ١٨٢٨م، عدة تلميحات غامضة إلى ما يسميها «فتاة النجع».
٢٤٥  في الكتاب السادس من «جاسبار»، سيلفي، ص١٧٠.
٢٤٦  ذكره «سبريتسما»، ص١٣٩، ١٤٠.
٢٤٧  مكتوبة عام ١٨٣٨م، خلال إقامة «برتران» في المستشفى، حيث كان يُحتضَر؛ وكان قد ارتبط بصداقة دائمة وحارة ومتبادلة بدافيد، الذي سبق أن قابله عند «راندويل» (Sprietsma, pp. 203-204).
٢٤٨  Histoire de La langue française, t. XII, L’époque romantique, p. 258.
٢٤٩  «جاسبار الليلي»، ص٣٣ Gaspard de la Nuit.
٢٥٠  خطاب إلى «دافيد دانجر»، ١٨ سبتمبر ١٨٣٧م، مذكور في A. Séché, Les derniers jours d’Al. Bertrand (Mercure de France, 15 Mai 1905).
٢٥١  Vers une Alchimie Lyrique (Les Arts et le Livre, 1927, p. 45).
٢٥٢  تعليمات «برتران» إلى الناشر «راندويل»: ثلاث ورقات مزدوجة، أوردها «ب. جيجان» في طبعة Gaspard de la Nuit, Payot, 1925, p. 265.
٢٥٣  بودلير، في «أخلاقيات اللعبة» Morale du Joujou (قصيدة مستمدة من مقالة)، و«مالارميه» في «مشهد مقطوع» Un Spectacle Interrompu. ونذكر لمالارميه المقالات الموصوفة بأنها أوائل، باريس، الرائعة والشكل الوحيد المعاصر، لأنها، منذ زمن بعيد، وإلى هذا الحد أو ذاك قصائد، هكذا ببساطة، غنية، بلا قيمة، مقطعة أو على خلفية محصورة.
«والمأخذ النقدي، في اعتقادي، هو اعتبارها — في صالة التحرير — نوعًا مستقلًّا» (La Musique et les Lettres, Notes, Œuvres de Mallarmé, Pléiade, p. 665).
٢٥٤  سبق أن رأينا هذا النسق لدى «بارني» (الأغنية الثامنة)، ولدى «شاتوبريان» (أغنية حب إلى أتالا).
٢٥٥  هذا البناء المتماثل لا نجده في النص الأول، نص عام ١٨٢٩م (قارن بما سبق، ص٧٤، ٧٥)، ويبدو أن «برتران» قد استخدمه بطريقة أكثر منهجية.
٢٥٦  «جاسبار الليلي»، ص٨٥.
٢٥٧  المرجع السابق، ص٩٥.
٢٥٨  في قصيدة «عندما أكون عشرين أو ثلاثين شهرًا» (Odes, Livre IV, 10, Œuvres, Pléiade, t. I, p. 544)، حيث يعلن — في البداية — موضوعاته المختلفة (وهي ما أشدد عليه) التي سيطورها فيما بعد، في كل مقطع:
إلى الصخور أشكو ذلك،
إلى الغابات، إلى الكهوف، إلى الأمواج.
٢٥٩  «جاسبار الليلي»، ص١٢٩.
٢٦٠  «جاسبار الليلي»، ص١٥٢.
٢٦١  أوضحه في «الغسالات» (١٨٢٨م)، حيث تنتهي أربعة مقاطع — من ستة — بنفس الكلمات: «في المياه … في مجرى المياه … على شاطئ المياه» (أُعيدَ نشر «الغسالات» في مقدمة طبعة Asselineau, 1868). ونجد نفس النسق في «أغنية ناهاندوف»، حيث تنتهي جميع المقاطع بجملة «ناهاندوف، أيتها الجميلة ناهاندوف!» وفي الكثير من الأناشيد الغنائية الأجنبية، ومن بينها «جوك دازلدين».
٢٦٢  قارن بما سبق، ص٦٥ و٦٦.
٢٦٣  «جاسبار»، ص٢٠٠.
٢٦٤  المرجع السابق، ص١٧٩.
٢٦٥  المرجع السابق، ص٦١.
٢٦٦  «ولاحظت في رعب أن عينيه كانتا فارغتين، رغم أنه بدا كأنه يقرأ، وأن شفتيه كانتا جامدتين، رغم أنني سمعته يصلي، وأن أصابعه كانت عاريةً من اللحم، رغم أنها كانت تلمع بالجواهر!» («جاسبار»، ص١١٠).
٢٦٧  «جاسبار»، ص١٨٠ (والمقاطع الأربعة، المتضمنة فيما بين الاستهلال والختام، مبنية بطريقة واحدة، ومقسمة إلى أربعة أجزاء منفصلة بالخطوط الصغيرة).
٢٦٨  «جاسبار»، ص١٠٧.
٢٦٩  سكاربو، «جاسبار»، ص٢١٧، وقارن بخاتمة «كمان جامبو الأوسط»: «ليذهب إلى الجحيم جوب هانز العوَّاد الذي باع لي هذا الوتر! صرخ معلم جوقة الترتيل وهو يضع الكمان الأوسط المليء بالغبار في علبته المتربة، كان الوتر قد انقطع» (جاسبار، ص٥٨).
٢٧٠  المجنون، (جاسبار، ص٩٩). وقارن — على سبيل المثال — لدى «لافونتين»:
يصل الرجل صاحب الكنز، ويجد نقوده
ضائعة.
٢٧١  «جاسبار»، ص٧٧.
٢٧٢  «طَموح بتفاخر، مثابر بحكم الضرورة، لكنه كسول … في مرح! خطيب عند الخطر، شاعر عند الراحة، موسيقي حسب المناسبة، عاشق في هبات طائشة، شاهدتُ كل شيء، وفعلت كل شيء، واستنفدت كل شيء …» (Le Mariage de Figaro, acte V. sc. 3). وسواء تعلق الأمر ﺑ «فيجارو» أو ﺑ «المرهف»، ألا يقوم الإيقاع وحده بإبراز الشخصية، بدقته وطلاقته؟
٢٧٣  «الدورية تحت الجرس» La Ronde sous la Cloche, p. 105.
٢٧٤  ص١٦٤.
٢٧٥  ص١٨٠.
٢٧٦  بانسجام يتوافق مع الهبوط، وهي موحية، لا بسبب صوتياتها فحسب، لكن أيضًا لمعناها، رغم عدم التناسب الواضح للألفاظ.
٢٧٧  «الأغصان الصغيرة  Les Rameaux» (١٨٢٩م)، (Œuvres poétiques de Bertrand, p. 53). ويمكننا أن ندرك هنا مدى قصور البيت المكون من ثمانية مقاطع في الإيحاء بالسوداوية أو التأمل.
٢٧٨  «الغرفة القوطية  La Chambre Gothique» (جاسبار، ص٢٥).
٢٧٩  في حين أن القطع العادي، الذي يحدث قبل اﻟ e الصامتة «يعمق الإيقاع»، ولا يُحدِث قطيعة: Les montagnes, les prés. وسنرى أمثلة فيما يتعلق ببودلير و«دوروتيه الجميلة» فيما بعد (ص١٦٥).
٢٨٠  «الرحيل إلى محفل السبت»، ص٦٣. واستخدام كلمة من مقطع واحد I’os (عظمة)، لهو بليغ أيضًا.
٢٨١  قارن — في Viole de Gamba — نهاية المقطع المذكور من قبل، ص٨٠، هامش ٢٥٦.
٢٨٢  «هارلم» Harlem, p. 46.
٢٨٣  ص٧١.
٢٨٤  «إن لم يكن، مع صفير جهاز التقطير المتلألئ» (الخيميائي  L’Alchimiste, p. 61). ويمكننا أن نراجع في كتاب «Le Vers Français de M. de Grammont, Delagrave» كل الجزء المخصص ﻟ «الأصوات كوسائل تعبيرية»، الذي يظل صائبًا.
٢٨٥  ص١٣٩.
٢٨٦  «جاسبار»، ص٥٨. وكلمتا gargouille وgargamelle، اللتان صاغتهما اللغة الشعبية، هما كلمتان صوتيتان حقيقيتان، تقلدان الأصوات الصادرة من الحلق.
٢٨٧  «الغرفة القوطية»، ص٩٦.
٢٨٨  ص٥٦.
٢٨٩  ص٥١.
٢٩٠  ديدرو، صالون ١٧٧٦م، مقال Lautherbourg.
٢٩١  خطاب إلى M. Chabeuf، مذكور في أطروحة «سبريتسما»، ص٢٣٤.
٢٩٢  A. Petit, Louis Bertrand, Souvenirs de Dijon (Mémoires de l’Académie Delphinale. 1865).
٢٩٣  نُشِرَ في «لوبروفنسيال Le Provincial»، ٨ مايو ١٨٢٨م، وذكره B. Guégan dans Le Keepsake fantastique d’Aloysius Bertrand, Paris, La Siréne, 1923.
٢٩٤  «قلعة ولجاست» La Citadelle de Wolgast (sic), p. 210.
٢٩٥  على غرار «هارلم»، سيتم اختصار «البجعات التي ترفرف حول ساعة المدينة، تضرب بأجنحتها»، إلى «البجعات التي تضرب بأجنحتها»، و«عاشق الحديقة» سيحل محلها «بائع الزهور»، على نحو أكثر دقة، وأقل انتماء ﻟ «القرن الثامن عشر».
٢٩٦  «مشهد هندوستاني» Scène indoustane (يحمل تاريخ ١٨٢٦م)، وأعاد «سبريتسما» نشره، ص٥٩: وهذه المقطوعة، التي نُشِرَت في Société d’Etudes، عام ١٨٢٧م، هي أول قصيدة نثر «لبرتران».
٢٩٧  خلال مروره في ديجون، كتب «سانت-بوف» إلى «هوجو» أنه رأى «الأرمانسون l’Armançon الذي تغنى به برتران»، وهو ما يثبت أنه يتذكر «الغسالات» (انظر سبريتما، ص١٢١، والملاحظة ٣).
٢٩٨  نذكر، بشكل خاص، المظهر المتقطع للجملة الثانية: ما ينساب/يشكو/ويضحك، وتفعيلات الأنابيست anapeste في الخاتمة: تحت الضربات/العنيفة/للمقرعة، التي توحي بإيقاع منتظم، وتكرار نفس الصوت، صوت المقرعة (تحت الضربات العنيفة المتكررة).
الأنابيست: تفعيلة في الشعر اليوناني واللاتيني، على وزن فعلن.
٢٩٩  L’Aventure d’Aloysius Bertrand, la bouteille à la mer, Octobre 1945.
٣٠٠  يمكننا — على سبيل المثال — أن نقارن بين الاستدعاءات المحددة، والمحدودة لبرتران في نصي «محفل السبت»، في «جاسبار» (Départ pour le Sabbat, p. 63: L’Heure du Sabbat, p. 115)، والدوامة الهائلة في «محفل السبت» لهوجو (في Ballades)، التي أغرى إحكامها «جوستاف دوريه».
٣٠١  نستطيع أن نرى نموذجًا لهذا الاقتصاد في الأساليب في الحوار الصامت، الذي يرد في «صحبة عظيمة» (جاسبار، ص١٣٨)، حيث تحل الإيماءات محل الكلمات.
٣٠٢  حورية البحر  Ondine, p. 112.
٣٠٣  ساعة محفل السبت  L’heure du Sabbat, p. 116.
٣٠٤  الإنذار  L’Alerte, p. 160. يجيب «برتران» — مقدمًا — على الأمنية التي سيصوغها «هويسمان»، عن قصيدة النثر، بأنه يرى «الصفة وقد وُضِعَت بطريقة ماهرة وقطعية تمامًا، بحيث لا يمكن — شرعيًّا — تغييرها». (A Rebours [1865], éd. Fasquelle, 1903, p. 265).
٣٠٥  إنه الاختيار، والموقع، والكلمات ذات المقطع الواحد (أبيض، أزرق) ما يمنح العبارات مظهرها المتقلب والمتقطع (Ondine, p. 112).
٣٠٦  يتحدث «تراهار Trahard» — فيما يتعلق بميريميه — عن «جمالية الحد الأدنى».
(La jeunesse de Mérimée, Champion, 1924).
٣٠٧  انظر — فيما يلي — ص٣٨٦.
٣٠٨  في «مكتب خدمة المساء  l’Office du Soir» — على سبيل المثال، حيث يتم التمييز — رغم هذا بين أجزاء اللوحة الثلاثة بشكل طباعي.
٣٠٩  La Ronde sous la Cloche, p. 106.
٣١٠  ص٥٧.
٣١١  «الماسوني» Le Maçon، ص٤٨.
٣١٢  L’Aventure d’Aloysius Bertrand, La Bouteille à la mer, Octobre 1945.
٣١٣  إنه يوصي الطابع بأن يضع «مساحات بيضاء واسعة بين المقاطع، كما لو كانت مقاطع من الشعر المنظوم» (نسخة من الورقات الثلاث المزدوجة، الموجهة إلى الناشر «راندويل»؛ Gaspard de la Nuit. éd. Guégan, chez Payo, p. 270).
٣١٤  الروندو Rondo: مقطوعة موسيقية يتكرر فيها النغم الرئيسي بين حين وآخر.
٣١٥  Les Contemplations, Autrefois, Livre I (Pièce datée de 1834).
٣١٦  في نص بتاريخ ١٨٣٩م، «الشاعر والناثر»، وأُعيدَ نشره في المؤلفات بعد الوفاة.
٣١٧  انظر ما سبق، ص٥٨ و٥٩.
٣١٨  La Couronne Littéraire, Janet, 1837: هو «كتاب الاستفتاحات» المقسم إلى محاولات، وانطباعات، وأوصاف، ولوحات … إلخ.
٣١٩  نُشِرَت عام ١٨٣٤م، وقد نشر «لوهير» Le Hir — لدى «كولان» عام ١٩٤٩م — طبعةً محققة، هي التي أستمد منها اقتباساتي.
٣٢٠  هذه الخاتمة «الوطن هنا ليس بعيدًا …» — التي تمهد ﻟ «حديث» الختام»: «وجعلوني أرى الوطن …» — يمكن مقارنتها بشعر «لامارتين» في «الخلود» (١٨١٧م): «الأرض منفانا والسماء مثوانا».
٣٢١  يذكرنا «دخان بعض الأكواخ القش» بالسوناتا الشهيرة ﻟ «دي بيللي»، ذلك المشهد الغريب الذي لا يمكن لجماله أن يؤثر في المنفي في «ميلي»: «… رأيت سماواتٍ لازوردية … رأيت جبالًا … ولم يكن قلبي هنا!». أما موضوع الإنسان المرتحل الضال، فيبدأ من «جيرمي» (“quasi viator”, XIV.8)، وصولًا إلى «رينيه» لشاتوبريان: إن «لامنيه» يستغل مجالًا أدبيًّا مشتركًا، كان يشعر به — حقًّا — بصورة متقدة (انظر خطابه إلى السيدة «شنفت»، ١٣ يناير ١٨٣٤م).
٣٢٢  «هذه الأشجار الجميلة … وهذا الجدول ينساب الهوينى، وهذه الأغنيات عذبة» (آيات ٥، ٦، ٧)، «رأيت عجائز … رأيت فتياتٍ شابات … رأيت فتيةً شُبانًا» (آيات ٩، ١٠، ١١)، «أحاديث مؤمن».
Paroles d’un Croyant. Colin, 1949, pp. 270–271.
٣٢٣  هنا — على سبيل المثال — كلمة «وطن Patrie» (آيات ١٢-١٤). أحيل إلى أطروحة «لوهير» Le Hir حول «لامنيه الكاتب» Lamennais écrivain (Colin, 1949, pp. 273-274)، وإلى «جوس» Jousse، الذي يرى فيها طريقةً في الأسلوب الشفاهي.
(Le style oral rythmique et mnémotechnique chez les verbomoteurs. Beauchesne, 1925).
٣٢٤  التي يذكر «لوهير» عدة أمثلة لها، مرجع سابق، ص٢٦٦، ٢٧١. ولنسجل — من الآن — أن التكرارات المنتظمة للنغمة والأصوات المتوازنة يمكن لها — في النثر — أن تقدم المعادل لأبيات الشعر الموزونة والمقفاة، وسندرس هذه الأساليب «الدائرية» وقيمتها في الفصل المخصص ﻟ «جمالية قصيدة النثر» (قارن بما يلي، تحت عنوان «القصيدة الشكلية» بالفصل الثالث من القسم الثاني).
٣٢٥  Essais de morale et de critique, p. 175, cité par Le Hir, Paroles d’un Croyant, éd. Colin, Avant-Propos. p. VII.
٣٢٦  قارن ﺑ «الرؤى» العديدة التي ذكرها «لوهير»، Lamennais écrivin, p. 320 et sq..
٣٢٧  Vision d’Hébal, 1831, p. 1: Antistrophe. p. 22.
٣٢٨  السابق  Antistrophe, p. 104, IX، وفي إيبود هذا الجزء الأخير، بعد احتضار العالم، «تُرَد المادة إلى عدم، ويتوحد الإنسان «مع الوسيط».
٣٢٩  إيبود  épode: قصيدة يونانية يعقب فيها بيت قصير بيتًا طويلًا.
٣٣٠  قارن بما سبق في [قصيدة النثر قبل بودلير].
٣٣١  كتب إلى «مونتالمبير» في ١٦ مايو ١٨٣٣م: «قبل أن أقرأ ميكيفيتش، كنت قد بدأت عملًا صغيرًا من نوع شديد التماثل معه». وبالنسبة لديكاهور، استرجع «لامنيه» — تحت تأثير «ميكيفيتش» — «بضع صفحات كان قد بدأها حقًّا، لكنه تركها» (Maurice de guérin, Bloud et Gay, 1932, p. 271). ويذكر «لوهير» أن «لامنيه» كتب «نشيد الموتى» في شكل آيات منذ عام ١٨٢٩م (Lamennais écrivain, p. 253).
٣٣٢  خطاب إلى أخته «أوجيني»، ٢١ يونيو ١٨٣٣م، وعلى أية حال، فقد كتب «لامنيه» «نشيد إلى بولندا» نثرًا، أُضِيفَ إلى ترجمة «مونتالمبير».
٣٣٣  على سبيل المثال، Les Paroles XIII et XIV, la Parole, XXXIII.
٣٣٤  «ضباب رمادي وثقيل» يغطي «سهلًا عاريًا» (Parole XIV, éd Colin, p. 145)، و«خرير مخنوق» يعلن — على الشاطئ — قدوم العاصفة (Parole XXIV, p. 187)، وهو ما يمكن أن يكون انعكاسات لانطباعات من بريتون.
٣٣٥  Parole XIX, p. 167.
٣٣٦  Parole XXI, p. 175.
٣٣٧  Revue des Deux Mondes, 1er Mai 1834, p. 355.
٣٣٨  انظر — على سبيل المثال — وصف الصيد على ضفاف نهر الدونيز، XII.
٣٣٩  «كانت روحه تموج وتطفو على صوت الأثر المائي للسفينة» (Les pécheurs, XVI).
٣٤٠  نمط عبارات من قبيل «كان جَزر الموج يحفر في البحر الهادئ أوديةً صغيرة، حيث كان يتلاعب طائر العاصفة، المتأرجح في رشاقة على الأمواج اللامعة والرصاصية» (XVI)، يشعرنا — على الفور — بتمايز الأسلوب في العملين. وحتى الأجزاء غير الوصفية الخالصة (من قبيل الجزء الأخير، الحادي والعشرين، حول موضوع الموت)، فهي، بسبب بنيتها وأسلوبها، أكثر سلاسة وموسيقية من «الأحاديث».
٣٤١  Notice sur M. de Guérin en tête de l’édition des Œuvres de Guérin, Faite par Trébutien en 1861.
٣٤٢  Journal, 8 Mars 1833: éd. des Œuvres de Guérin, Schneegans, Bibliotheca Romanica, p. 83.
٣٤٣  Eod, loc., 28 Mars, p. 39.
٣٤٤  Eod, Loc., 25 Avril, p. 49؛ وقد أوضح «ديكاهور» تمامًا (Maurice de Guérin, Bloud et Gay, 1932) كل ما تدين به «النزعة الطبيعية» لجيران إلى «لامنيه» أيضًا (ص٢٠٩، ٢١٨): إن فكرة الخلق باعتبارها «مناولةً عظيمة»، تغمر الإنسان في الحياة الكونية، هي مركز «فاتحة فلسفة»، الذي ظهر عام ١٨٤٠م.
٣٤٥  «دوران الحياة» (٣٠ مارس ١٨٣٣م)، «تيار الحياة» (٥ أبريل ١٨٣٣م)، إلخ. ويتحدث «دي جيران» إلى «باربي دورفيي» عن هذه الكلمة التي — كما يقول — هي «إله خيالي، طاغية، يسحره ويغويه.»
(11 Avril, 1833, Œuvres, p. 288).
٣٤٦  Journal, 30 Mars, 1833, p. 40.
٣٤٧  Maurice de Guérin et le poème en prose, Belles Lettres, 1932, p. 52.
٣٤٨  كان جيران — وقتئذٍ — في «فال دارجينون»، لدى «هيبوليت دي مورفونييه».
٣٤٩  10 Décembre 1834, Œuvres, éd. Schneegans, p. 97.
٣٥٠  Œuvres, pp. 319-320. أصبح «جيران» يشكو — الآن — من أنه، أحيانًا، «معزول، ومفصول عن أية مشاركة في الحياة الكونية» (ص٩٢).
٣٥١  La Psychanalyse de l’Art, p. 215.
٣٥٢  وعلى نحو خاص «أوفيد» الذي درسه «جيران» للحصول على شهادة الأستاذية l’agrégation في شتاء ١٨٣٤م، وبالنسبة للمصادر القديمة ﻟ «السنتور» و«راهبة باخوس»، انظر مقدمة «ديكاهور» للطبعة التي أصدرها للقصيدتين. لكن «السنتور» عمل أقل عمقًا بكثير من «راهبة باخوس».
٣٥٣  انظر ما سبق في [قصيدة النثر قبل بودلير]. وقد اعترف «آبيل ليفران» — الذي كان أول من أشار إلى التقارب — بأن التشابه لا يزيد عن العنوان فحسب (M. de Guérin. Champion, 1910, p. 151).
٣٥٤  في Notice حول موريس دي جيران، في مقدمة طبعة تربوتيان لمؤلفاته.
٣٥٥  قارن مع «برنار داركور» Bernard d’Harcourt، سبق ذكره، ص١١١. لكن «سانت–بوف» يعارض، على أساس أخلاقي ومسيحي صرف، حياة الحس وحياة الروح لدى الرجل المزدوج.
٣٥٦  أكده «برنار داركور»، سبق ذكره، ص١١٨، انظر الفصل الخاص عن «سانت-بوف»، ص٨٠، ١٢٢.
٣٥٧  Le Rêve chez les romantiques allemands, Genéve, 1937, p. 351.
٣٥٨  يرى «زيرومسكي» خمس «لوحات» في «السنتور»، ويدرس فيها الفعل وأبطال الرواية.
(Maurice de Guérin, Colin, 1921, pp. 199–212).
٣٥٩  هذه القصيدة هي أطول قصيدة ذكرها «موريس شابلان» في «مختارات من قصيدة النثر» (Juillard, 1946)، وتشغل فيها تسع صفحات.
٣٦٠  لقد صاغ «جيران» — على ما يقول «سانت-بوف» — «نفسيةً للسنتور» (Nouveaux lundis, III p. 158).
٣٦١  Le Centaure (Œuvres, p. 317).
٣٦٢  قارن ﺑ Bachelard, L’eau et les rêves, Essai Sur l’imagination de la matière. Corti, 1942.
٣٦٣  رمزية المياه دائمة في «المذكرات»، مثلما هي في القصائد، قارن بتأملات ١٠ ديسمبر ١٨٨٣م، حيث يستحضر «جيران» «نهر الأفراح الخفية» الذي يتقلص — في فترات الجفاف الداخلي — إلى «خيط نحيل من الماء».
٣٦٤  Le Centaure (Œuvres, p. 319). وبالمثل، فعندما شاخ «ماكاريه»، وأصبح متأهبًا للخضوع للمصير الكوني، يقول «قريبًا سأذهب لأمتزج بالأنهار التي تسيل في قلب الأرض الرحب» (السابق، ص٣٢٢).
٣٦٥  Le Centaure (Œuvres, p. 319).
٣٦٦  السابق، ص٣٢٠: ولا يفيد التشديد على كل ما يمكن للتحليل النفسي أن يستخلصه من موضوع المياه هذا، والحياة ما قبل الميلاد.
٣٦٧  نعلم أن «بروست» أيضًا يلاحظ — لدى «ستاندال» — «شعورًا بالارتقاء يرتبط بالحياة الروحية» (La Prisonnière, Gallimard, 1923, t. II, pp. 237-238). ويستحضر «زيرومسكي» — بصدد موضوع المرتفعات، التي نجدها في «كاهنة باخوس» — موسى في سيناء، والبشع على جبل الكرمل، وفالميكي على هيمافات (سبق ذكره، ص٢٥٨).
٣٦٨  Le Centaure (Œuvres, p. 320).
٣٦٩  «آه، يا ماكاريه! إن أنصاف الآلهة أبناء الآلهة يبسطون جثة الأسود فوق المحرقة، ويستنفدون قواهم فوق قمم الجبال! … إلخ»، ص٣٢١.
٣٧٠  ١٠ ديسمبر ١٨٣٤م، ص٩٩.
٣٧١  Maurice de Guérin, p. 379.
٣٧٢  Pages sans titre ، نُشِرَت في الأول من أغسطس ١٩١٠م، في Revue de Paris, par A. Le Braz؛ و«جيران» — الذي أحب زوجة صديقه «هيبوليت دي لامورفونييه»، في مثالية بالغة — يجدُّ في العثور عليها في الطبيعة، حيث مادتها ممتزجة ومنتشرة: «ستتبع روحي، في غليان عذب، انحدارها في الطبيعة … ألن أعثر على عطرها مختبئًا في الأعشاب …؟». (Revue de Paris, 1er Août 1410 p. 460).
٣٧٣  إنه يريد أن «يذوب في أمان بلا حدود في الكون».
٣٧٤  Œuvres, pp. 323 et 325: صورة رمزية لدى «يوريبيدس»، ويعقد «باشلار» مقارنةً بين موضوع المياه وموضوع خصلة الشعر، وهما — الاثنتان — رمزان للسيولة وللهجران: يكفي أن تسقط خصلة شعر، محلولة، وتنساب، فوق الكتفين العاريين، حتى ينتعش رمز الماء (L’eau et les rêves, p. 115). ولدينا — هنا، إذن — في «السنتور» معادل لموضوع الماء.
٣٧٥  تشعر كاهنة باخوس — وهي تهب نفسها إلى أشعة الشمس المشرقة — بحياتها تنمو في ثديها «سواء في القوة أو الروعة» (ص٣٢٤)، وتدور «آيللو» على الجبل، و«الشمس تجرها» (ص٣٢٩).
٣٧٦  شخصية «آيللو» — كاهنة باخوس الكبيرة — تشتت الانتباه، وإقامتها على جبال «بانجيه» يتم وصفها بطريقة غامضة، وتكشف — في موضع آخر — عن تناقضات في التفاصيل، وكاهنة باخوس الشابة التي تقول في البداية: «تدفقتَ في ثدييَّ، يا باخوس!» (ص٣٢٤)، تظهر — في النهاية — وهي ما تزال تجهل الله (ص٣٣٣). وعلى العموم، فثمة فوضى ربما كان من الممكن لجيران أن يصوبها، فيما لو طال به العمر.
٣٧٧  Nouveaux Lundis, t. III, p. 157.
٣٧٨  وبالمثل، في المقارنة مع «كاليستو»، التي تطورت كثيرًا على النمط الهوميري، وصورة الأنهار الجوفية (ص٢٢٧)، التي يرى فيها ديكاهور «النقش الأدبي للعنصر النحتي لدى القدامى» (في طبعته للقصيدتين، ص٦٢).
٣٧٩  بوسانياس  Pausanias: رحالة وجغرافي يوناني (القرن الثاني). يقدم مؤلفه «وصف اليونان» (عشرة أجزاء) رصدًا للمدن والأماكن الأثرية التي زارها في اليونان وإيطاليا، بالإضافة إلى حكايات وأساطير البلدين.
٣٨٠  قارن: Bernard d’Harcourt, M. de Guérin et le poème en prose (Belles Lettres, 1932, pp. 122–160) “Barbey d’Aurevilly et le poéme de la Bacchant”. وحول الاتجاهات الجمالية في قصائد «باربي» النثرية، انظر ما سيلي في القسم الأول، ولاحظ التشابهات بين بورتريهات «آيللو» و«آمايدييه».
٣٨١  «تكشف مفردات وصور باخوس، وبشكل خاص الإيقاعات، تخطيط «قصيدة النثر» (المرجع السابق، ص٢٩٢، ٢٩٣).
٣٨٢  «النسق المفضل ﻟ «م. دي جيران» هو اللجوء إلى المفردات غير المتسقة»، كما يقول «ش. برونو».
(Histoire de la langue française, t. XII, p. 290).
٣٨٣  ويغامر «سانت–بوف» في «لذة» (في تعليقه عليه) باستخدام صياغات لاتينية «صخرة عبثية»، وسيتحدث «جيران» عن «ليالٍ عمياء» (ص٣١٦)، ويستخدم الاثنان كلمة «يغذي nourrir» بالمعنى القديم (تربية، تهذيب)، قارن Bernard d’Harcourt، سبق ذكره، ص٢٧١–٢٨٣. وحول مفردات لغة «سانت-بوف» في «لذة» يمكن الرجوع إلى:
Le Hir, L’originalité littéraire de Sainte-Beuve dans Volupté (S.E.D.E.S., Paris, 1953, pp. 8–12).
٣٨٤  مرجع سابق، ص٣٦٠. وانظر الفصل الخاص بتقنية القصائد، فيما يلي من هذا القسم.
٣٨٥  التعبير لبرنارد داركور (ص٢٢٧)، الذي أستمد منه هنا بعض الاستخلاصات.
٣٨٦  Pensées de Joseph Delorme. XV. ذكر «سانت–بوف» كأمثلة سأم، غريب، غيور، رائع، يفيض.
٣٨٧  في «كاهنة باخوس» فقط، «هؤلاء المرضعات السريات» (ص٣٢٣)، «بضعة مصائر سرية» (ص٣٢٥)، «أضرار سرية» (٣٢٧)، «مطاردات سرية» (ص٣٢٨).
٣٨٨  كاهنة باخوس، ص٣٢٨.
٣٨٩  Revue de Paris, 1er Août 1910, p. 455؛ مع تذكر «الظلال» الجهنمية للعصور القديمة، يظل المعنى المحدد لها مختلطًا، ويكاد أن يكون تلاعبًا بالألفاظ، ما دام «جيران» — وهو يتحدث عن ماري — يقول إنه يغطس في الظلام «على ضوئها، بينما هي تفر في الظلال».
٣٩٠  ص٣٢٤، ٣٢٧. والتعارض — على أية حال — مؤكد في موضع آخر للمرة الثانية، حيث نرى هذه الإشارات وهي تدخل «المسيرة الصامتة لكوكبة النجوم» الذين ترشدهم «الأقدار».
٣٩١  وبالمثل، فإن الاستخدام المتكرر للجمع: الظلال، الليالي، الأرياف، يمنح الإيحاء شيئًا أكثر إبهامًا، ورحابةً، وعمومية.
٣٩٢  السنتور ص٣١٤.
٣٩٣  المرجع السابق، ص٣١٥.
٣٩٤  المرجع السابق، ص٣١٧.
٣٩٥  المرجع السابق، ص٣١٩.
٣٩٦  المرجع السابق، ص٣١٥.
٣٩٧  كاهنة باخوس، ص٣٢٣.
٣٩٨  لا بد من الإشارة إلى مؤثر الإطالة، الناتج من استخدام اسم المفعول مع é (وخاصة في صيغة المؤنث)، الذي يرد في نهاية جملة أو جزء من جملة: «راسين» أيضًا يورده في نهاية بيت الشعر: آريان، أختي، بأي حب مجروح …
Ariane, ma sœur, de quel amour blessée …
٣٩٩  حول إمكانيات الفعل هذه (توريات فعلية، واسم فاعل أو مفعول)، اقرأ التحليل الرفيع لبرنار داركور، سبق ذكره، ص٣٤٨، ٣٥٢.
٤٠٠  «إنه عادةً ما يُستَخدَم، ويُفَضَّل استخدام نظم أعرفه جيدًا، لأنني حاولت في وقتي أن أدخله وأطبقه: البحر السكندري المألوف، المتمرس على نبرة الحديث، الذي يتأقلم مع كل انعطافات الدردشة الحميمة»، ذلك ما يقوله «سانت-بوف» الذي يعترف — مع ذلك — أن تطبيق «جيران» معيب، ونظمه الشعري مُهمَل للغاية. (Introd. aux Œuvres, éd. Trébutien, p. XIX). ومن المفيد ملاحظة أن «جيران» يفضل البحر السكندري — رغم ذلك — على «الأبيات القصيرة»، لأنه يجد فيها «القليل من الانسجام والاتزان» (Lettre á sa sœur Eugénie, 10 Septembre 1834. Œuvres. éd. Schneegans, p. 245).
٤٠١  «السنتور»، ص٣٢٢. انظر الدراسة حول هذا التلاعب الإيقاعي في Bernard d’Harcourt. op. cit., appendice IV. pp. 352–356.
٤٠٢  المرجع السابق. ونعرف التأثير الموفق الذي استخرجه «راسين» من استخدامه المتكرر ﻟ «سيدة» و«سيد»، والوقفات التي تفرضها هاتان الكلمتان.
٤٠٣  المرجع السابق، ص٣٢١.
٤٠٤  كاهنة باخوس، ص٣٣٠.
٤٠٥  السنتور، ص٣٢٠.
٤٠٦  Maurice de Guérin, p. 212؛ وحول هذه الإطالة وهذا الاقتصاد في النفَس، انظر ص٣١٣، ٣١٤.
٤٠٧  هذه القصيدة منشورة في طبعة Schneegans، ص٣١٣–٣١٤. وقد استطاع «موريس» أن يقرأ — في «الشهداء» و«بردى الأحرار» — أو أن يستلهم، ببساطة، القصيدة الرومانس في شكل «لازمة موسيقية»، مما كانت تغنيه أختاه، أوجيني وميمي.
٤٠٨  قارن — أيضًا — وصف السنتور وهو يعوم، الذي سبق ذكره، «نصفي مختبئ في المياه، يتحرك ليطفو فوقها، بينما النصف الآخر يرتفع هادئًا، وكنتُ أحمل ذراعيَّ الفارغتين فوق الأمواج» (ص٣١٧).
٤٠٩  نعلم أن «جيد» كتب — قبل وفاته بقليل — نصًّا قصيرًا حول أسطورة «تيزيه» (N.R.F.) Thésée 1947. ألا يملك «تيزيه» المراهق بعضًا من ملامح سنتور جيران، «كنتُ الريح، كنتُ الموجة، كنتُ نباتًا، كنتُ عصفورًا. لم أكن أتوقف عن نفسي، وكل اتصال مع العالم الخارجي، لم يكن يعلمني بحدودي بقدر إيقاظه اللذة داخلي» (ص١٠). وكثيرًا ما عُقِدَت مقارنات بين «جيد» و«جيران» (قارن أيضًا: Gide, Journal. 8 Février, 1916, éd. de la Pléiade, p. 538: «لم أحب أبدًا موريس دي جيران، ولم أقرأه جيدًا، وذلك لضيقي من سماع أنني أشبهه»).
٤١٠  حول هذه الشواغل الفنية التي تتضح أكثر فأكثر لدى كتَّاب النثر، اعتبارًا من القرن التاسع عشر، قارن Lanson, L’Art de la prose, Fayard, 1908, pp. 223-224.
٤١١  «لقد وُلِدَ النثر بالأمس، ذلك ما ينبغي قوله، والنظم الشعري هو الشكل الأكثر ملاءمةً للآداب القديمة. لقد تشكلت كل التركيبات العروضية، لكن تلك الخاصة بالنثر لم تتوفر بعد.»
(Correspondance de Flaubert, éd Charpentier, t. II, p. 95).
٤١٢  ذكره «موباسان» في مقالة حول «فلوبير» Revue Bleue, 29 Janvier 1884 (التشديد من عنده)؛ ذكره «فرير»، L’Esthétique de Flaubert. Conard 1913 p. 183.
٤١٣  Correspondance. t. II, p. 70. وجملة «فلوبير» الشهيرة: «عندما أكتب روايةً يخطر ببالي أن أصور درجات اللون والظل» (ذكرها الأخوان جونكور Journal. I p. 366) ليست لها دلالة مختلفة كثيرًا.
٤١٤  Correspondance, t. IV, p. 227.
٤١٥  La théorie de l’art pour l’art en France. Hachette, 1906.
٤١٦  يذكر الشقيقان «جونكور» هذه الصيغة، وهما ينسبانها إلى «جوتييه»، باعتبارها «الصيغة العليا للمدرسة» (ذكره كاساني، ص٤٤٢، Journal, 3 Janvier 1887).
٤١٧  Flaubert, Œuvres, éd. Conard, t. III, 1924, p. 206.
٤١٨  انظر ملاحظات طبعة Conard، ص٦٦٩.
٤١٩  انظر دراسة «أ. فرانسوا» A. François, Hymne á Tanit (Salammbô, chap. 2) Poème en prose et vers libre, Bibliothèque Universelle et Revue Suisse, Mars 1418.
٤٢٠  كتب «فوبيو» إلى أخيه أنه قد «افتُتِنَ بهذا الشكل نصف الشعري» (Avertissement du Parfum de Rome, Œuvres de Veuillot. Lethielleux, t. IX, p. XVI). و«عطر روما» كُتِبَت كلها في هذا الشكل، ونجد — أيضًا — عددًا وفيرًا من «نثريات في شكل آيات» في Ça et la المنشور عام ١٨٦٠م (Œuvres, t. VIII).
٤٢١  انظر ما سبق، تحت عنوان «لامنيه والأسلوب التوراتي».
٤٢٢  Le Parfum de Rome, Œuvres de Veuillot, t. IX, pp. 428–440.
٤٢٣  جُمِعَت في Fragments intimes et romanesques, Calmann-Lévy, 1914 (pp. 327–353).
٤٢٤  Le monde antédiluvien, poème biblique en prose, Comon, 1845.
٤٢٥  Eod. loc., Préface, p. XVIII et p. XII.
٤٢٦  جُمِعَت القصائد ونُشِرَت عام ١٨٩٧م لدى لومير، ثم — مرة أخرى — عام ١٩٠٩م مع «غبار» و«آمايديه»، ونُشِرَت «اللاؤكون» و«العينان المتقلبتان» في «كاين» عام ١٨٥٧م، تحت عنوان «إيقاعات منسية».
٤٢٧  كما في «أربعون ساعة»، حيث تنفصل المقاطع بلازمة (Poussiére, Rhythmes oubliés, Amaïdée . Lemerre, 1909, p. 113)، أو في «فناجين الشاي الثلاثة»، (ص١٤٩).
٤٢٨  انظر — على سبيل المثال — بداية «اللاؤكون» Laocoon. (eod. loc., p. 15).
٤٢٩  تواتر المقاطع الثمانية ودقة وتصويرية الصفات اللونية، إلخ … والانشغالات الشكلية، لهي أكثر وضوحًا — هنا — مما في الروايات.
٤٣٠  وحتى قصيدة «عندما ترينني ثانية»، فقد نُشِرَت في العدد الأول من Memorandum بتاريخ ٢٦ سبتمبر ١٨٣٦م. ولنذكر — هنا — أن «آمايديه»، بالمقابل، التي تحدث عنها «باربي» باعتبارها «قصيدة نثر» — (انظر Grelé, Barbey D’Aurevilly, Caen, Lanier, 1904, p. 186) — لا يمكن، بسبب طولها، ورغم الهم الفني المسيطر عليها، أن تستحق هذا الاسم، وستقدم «آمايديه»، بالمقابل، نموذجًا جيدًا للأضرار التي يسببها مفهوم «رواية-قصيدة».
٤٣١  Jules Barbey d’Aurevilly, Caen, Lanier, 1904, p. 313.
٤٣٢  Poussière, Rhythmes Oubliés, Amaïdée, Lemerre, 1909, pp. 118-119.
٤٣٣  Eod. Loc., p. 121.
٤٣٤  نشر «بودلير» عام ١٨٥٣م ترجمة «الغراب» في «لارتيست» (الأول من مارس ١٨٥٣م).
٤٣٥  في مقدمة Les Philosophes et les écrivains religieux, Amyot. 1861. وقد أوضح «جرليه» تمامًا كيف أن «باربي دورفيي» انشغل بالتعبير عن تموجات حياته الداخلية، بأكثر من انشغاله بمعالجة أسلوبه بأناة (مرجع سابق، ص١٧٥، ١٧٨).
٤٣٦  يمكننا أن نطبق — باستحقاق كامل — على قصيدة النثر، جملة «ل. رينو» هذه، التي تتعلق بمجمل الأدب الفرنسي (L’influence allemande en France aux XVIII° et XIX° siècles. Hachette. 1922, pp. 216-217).
٤٣٧  Ballades …, p. 392. كما يتم عقد مقارنات غريبة بين قصائد من قبيل «مسافر» ﻟ «فيرنر» (ص٢٨٤)، والاندفاع صوب «مكان آخر» الذي كثيرًا ما عبر عنه «بودلير».
٤٣٨  ترجم «نرفال» أولًا قصائد (la Nordsee) Buch der Lieder. ثم «بين-بين» Intermezzo، وأخيرًا مقطوعتين من Traumblder، وجميع هذه القصائد عدا «بين-بين» منشورة في المجلد الأول من المؤلفات الكاملة، مع ترجماته الأخرى للقصائد الألمانية (Michel Lévy, 1868).
٤٣٩  Questions, traduction Nerval (Œuvres, t. I, p. 473).
٤٤٠  كتبت «موت الدولفين» و«مساعد الحاكم في الحقول» حوالي عام ١٨٦٦م. وسنلاحظ — في الثانية — التكوين على هيئة مقاطع أو أدوار، وتكرار التعبيرات التي تقوم بدور المفصل من مقطع إلى التالي. هل نحتاج إلى أن نضيف أن «فانتازيا» هذه الأناشيد الغنائية الساحرة تبدو لنا، على العكس، فرنسية خالصة؟
٤٤١  «ضوء القمر في الغابة» مستلهمة — بالتأكيد — من «شاتوبريان»، و«ذكرى» تستدعي «بحيرة» لامارتين، و«الزائر الليلي» (وهو الحزن) يذكرنا ﺑ «المجهول الذي يرتدي السواد» لموسيه … إلخ.
٤٤٢  Le Passé (Livre Du Promeneur, 27 Janvier). وقد حرر «ج. برونيه» — في Bibliothèque Romantique   — الصلوات المسائية لدير فال (Presses Françaises, 1924) مع مقدمة مثيرة للاهتمام حول «لوفيفر-دومييه».
٤٤٣  Poésies Complètes d’Arsène Houssaye, 1849. وحول «أغنية صانع الزجاج»، انظر — فيما بعد — ص١٥٢، ١٥٣.
٤٤٤  «حوريات البحر، إيقاع بدائي، النبع»، مهداة إلى المصور الزيتي برودون.
٤٤٥  «هي مسألة سنفصل فيها جانبًا، تلك الخاصة بالشعر واللغة التي تلائمه»، ذلك ما يقوله «لوفيفر» في Vespres de l’Abbaye du Val. t. I, p. 128. ونعلم أن «لوفيفر-دومييه» قد أدار «لارتيست» من يوليو ١٨٤٥م إلى يوليو ١٨٤٧م (ونشر فيها ١٣ صلاة مسائية)، وأن «هوسايي» أدارها من ١٨٤٤م، ثم — مرة أخرى — اعتبارًا من ١٨٦٧م (انظر Histoire de l’Artiste في Revue du XIX° siècle, Février-Mars 1867). وحول العلاقة بين «بودلير» و«لوفيفر»، انظر الفصل الأول من القسم الأول، فيما يلي ص١٥٢.
٤٤٦  لنذكر أن «بودلير» قد خصص مقالًا عن «شانفلوري» (في L’Art Romantique. VI: Champfleury. des Souvenirs? Baudelaire). انظر — أيضًا — الفصل الأول والثاني.
٤٤٧  Fantaisies et Ballades, á la fin des Fantaisies d’hiver, Martinon, 1847، كما نجد بضعة مقاطع مجموعة في (Champfleury inédit, Clouzot, 1903).
٤٤٨  Fantaisies d’hiver, pp. 95–98.
٤٤٩  L’Automne, Fantaisies d’hiver, p. 111.
٤٥٠  كل هذه الأنواع الوصفية — بلا شك — وباعتبارها مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بالأوضاع المعاصرة، «الصحفية»، يمكن اعتبارها — رغم هذا — طرق وصول إلى «قصيدة النثر»، وقد رأينا كيف حوَّل «برتران» وقائع معاصرة عن أكتوبر إلى قصيدة (انظر ما سبق في [قصيدة النثر قبل بودلير]). و«الأشياء المرئية» لهوجو، و«انطباعات» الأخوين «جونكور»، و«لوحات المقعد» لجوتييه، تتسم بميل إلى علامات الترقيم، وإلى «الآني» الشعري، الذي يمثل طرف نقيض من الميل الكلاسيكي إلى التكوينات الكبيرة المكتملة.
٤٥١  هذه اللوحة عن «السوق» — على سبيل المثال — التي ظهرت في كورسير  Corsaire عام ١٨٥٨م، بعنوان «ما نراه في ضواحي باريس» (بتوقيع كرو كينيول)، ألا يمكن اعتبارها تخطيطًا ﻟ «المهرج العجوز» لبودلير؟: «شاهدوا الخيام التي لا تُحصى، المنصوبة بأناقة ودلال، تحت ظلال الأشجار الكبيرة، التي تئوي الرقصات الفرحة، والمعروضات من كل الأنواع، ومقاهٍ مرتجلة. انظروا إلى الألف دكان للحلوى، ومحلات لعب الأطفال، والمصاصات، والأشياء العابرة، وألعاب المقامرة أو البراعة، وأطباء الأسنان الجهلة، وقارئي الحظ بعدتهم الضخمة، وبذلتهم المبتذلة الثراء، والانتعاش المريب، وموسيقييهم ذوي الموهبة الأكثر ريبة. أعترف بأنني أحب تنافر الأصوات الغريبة الذي يصوغه ألف صوت مختلف. الطبول، والأبواق الزاعقة، الكلارينات المزكومة، الأبواق الصغيرة، ذات الصوت الحاد المخصصة للبهلوانات …» (Le Corsaire, 17 Octobre 1858). لكن «بودلير» يكتب قصيدة سيدخل فيها تقابلات ورمزًا.
٤٥٢  «سأم باريس»، إلى آرسين هوساي (Baudelaire, Œuvres. Pléiade, t. I, p. 405).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥