الفصل الأول

بودلير والغنائية الحديثة

(١) مفهوم «سأم باريس». القصيدة «الحديثة» وتأثير «سانت-بوف». النثر شكل لشعر حديث.
(٢) الإنجاز:
  • (١)

    أرابيسك القصائد. قصائد «فنية» وقصائد «رابسودية».

  • (٢)

    حداثة وجِدَّة النغمات. من السخرية الغنائية.

  • (٣)

    النثر البودليري الشعري: ثلاثة أنماط من الجُمل تتوافق مع «حركات الروح الغنائية، وتموجات أحلام اليقظة، وانتفاضات الوعي» الأنساق الإيقاعية. قصائد نثر وقصائد نظم.

(٣) حساب بودلير الختامي. جِدَّة وأهمية المحاولة. الإخفاقات وأسبابها ميراث بودلير.

***

(١) مفهوم «سأم باريس»

ذات يوم، حدد «بودلير» الفن — في صيغة مدهشة — بأنه «سحر إيحائي يحتوي الشيء والموضوع في آنٍ واحد، العالم الخارجي للفنان والفنان نفسه».١ ويلاحظ «دانييل-روبس» أنه يمكن تطبيق هذه الصيغة على القصائد النثرية الصغيرة في «سأم باريس»،٢ مثلما على «أزهار الشر»: بل ربما نجد — أيضًا — في «سأم باريس» تأكيدًا أشد على الشعور بالانصهار، بالتطابق بين الشيء والموضوع: «كل هذه الأشياء — كما يقول «بودلير» — أمام مشهد يجري، تفكر من خلالي أنا، وأنا أفكر من خلالها».٣ هذا التشتت (أو هذا التوسع) ﻟ «أنا» سوف تساعد عليه أجواء المدينة الكبرى: ففي «المشهد» المديني، وفي قلب الحشد المتنوع في أشكاله، يحس الشاعر بشخصيته تتضاعف، وهو ثمل من «المشاركة الكونية»،٤ وتصبح روحه المنبسطة «روحًا جمعيةً تبكي، وتأمل، وتتنبأ أحيانًا».٥ وعلى نحو متبادل، فعندما يعبر عن شخصيته الخاصة، وصداماته وشكوكه، ومتطلباته المتناقضة، فإنه يعبر عن الروح الحديثة بكل تعقيدها، كما صاغتها الحياة المحمومة، اللاهثة والمصطنعة، للعاصمة.
ويقترح «بودلير» على حبيبته — في «دعوة إلى السفر» (نثر) — الذهاب إلى هولندا، ليتملَّى في «توافقها الخاص بها»،٦ وبالمثل، فإن أشعاره الباريسية (لا سيما المكتوبة نثرًا) تقدم لنا مظهرين متشابهين و«متوافقين»، يلخصهما «تيبوديه» بأنهما «تعرية روح في مدينة كبيرة»، و«تعريةُ روح مدينةٍ كبيرة».٧ وما يجب التأكيد عليه هو الأسلوب الشديد الوعي — والقصدي تمامًا — الذي استهدف «بودلير» تحقيقه في «سأم باريس»، هو شعر العاصمة. فأرابيسك الزهور — الذي يحيط بصولجان باخوس — لا يمكن إدراكه، في هذا الديوان، بدون العصا التي تسنده:٨ أريد أن أقول إن باقة القصائد هذه، ذات المظهر المتحرر والمتنوع، تلتف حول خط مستقيم، هو — هنا — قصد يدعمه شعر حديث ومديني. وفي هذا العمل «الأكثر تفردًا، والأكثر قصديةً — على أية حال — من أزهار الشر» (ولا بد من أخذ تصريح «بودلير» بعين الاعتبار)،٩ يحدد المفهوم، لا بنية الديوان فحسب، بل التعبير والشكل المستخدمين أيضًا، إنه القصد الحداثي الذي يجب التأكيد عليه أولًا، فهو الذي سيقود استخدام النثر كأداة شكلية.

«جوَّال باريسي» وتأثير «سانت-بوف»

«عند تصفحي — للمرة العشرين، على الأقل — ﻟ «جاسبار الليلي» الشهير لآلويزيوس برتران … واتتني فكرة محاولة شيء على مثاله، وأن أطبق على وصف الحياة الحديثة، أو — بالأحرى — على حياة واحدة حديثة وأكثر تجريدًا، النهج — التصويري بشكل غريب — الذي استخدمه في رسم الحياة القديمة»، ذلك ما كتبه «بودلير» في «إهداء Dédicace» إلى «آرسين هوساي»، الذي نَشَرَ — في «لا بريس La Presse»، عام ١٨٦٢م — العشرين الأولى من قصائد النثر هذه. اعتراف له دلالته: فما فعله «برتران» بالنسبة لباريس القديمة وديجون العتيقة، يريد «بودلير» أن يفعله لباريس عصره: فشعر حديث لا يمكن أن يكون — بالفعل (وهو ما يؤكده «بودلير» أيضًا)١٠ — إلَّا شعرًا مدينيًا، وصادرًا — مباشرةً — عن «مخالطة المدن الكبرى»، التي شهد القرن التاسع عشر تطورها المخيف وهو يتسارع.
منذ عام ١٨٤٦م، وفي تعبيره عن نظريته في «الحداثة» — هذا الجانب الهارب والنسبي من الجمال، والمتنوع مع كل عصر — أضاف «بودلير» أن «الحياة الباريسية مفعمة بالموضوعات الشعرية والعجيبة».١١ ولكننا — في حوالي عام ١٨٦٠م — سنراه مشدودًا بشكل خاص إلى العاصمة، الخزان الذي لا ينضب من الأنماط والأحلام: يكتب «لوحات باريسية» (التي ستشكل — في طبعة عام ١٨٦١م — قسمًا جديدًا من «أزهار الشر»)، ويبدأ قصائده النثرية، ويخصص مقالًا (في نهاية ١٨٥٩م وبداية ١٨٦٠م) حول «رسَّام الحياة الحديثة»، «قوسطنطين جيز»:
عشقه ومهنته أن يعانق الحشد … إنه معجب بالجمال الأبدي والانسجام المدهش للحياة في العواصم، انسجام مصون بفعل العناية الإلهية في خضم الحرية الإنسانية. إنه يتأمل مناظر المدينة الكبرى، مشاهد الأحجار يداعبها الضباب، أو تضربها لفحات الشمس …١٢
و«بودلير» — مثل «جيز» — يريد أن يكون «المتسكع الكامل»، في مطاردته ﻟ «الجمال العابر، الهارب، للحياة الراهنة»:١٣ لقد فكر — عام ١٨٦٠م — في أن يسمي ديوانه الذي يضم قصائد النثر «الطوَّاف المنعزل» أو «الجَوَّال الباريسي».١٤ ونحن ندرك أن إنجاز هذه القصائد كان يتطلب — في ذلك الحين، وكما سيكتب إلى «سانت-بوف» من بلجيكا في مايو ١٨٦٥م — «إثارةً غريبة، تحتاج إلى عروض، وجمهور، وموسيقى، وحتى إلى مرايا عاكسة …»، و«حمام الجمهور الشهير هذا»، الذي يتحدث عنه في «العامة»١٥ باريس وحدها هي التي يمكنها أن تمنحه كل ذلك. وبعيدًا عن باريس، لن يكون لإلهامه إلا أن يذوي.
لن نتمكن — هنا — من توضيح تأثير «سانت-بوف»، فكيف لا نتعرف في هذا «الطَّوَّاف المنعزل والمتأمل»١٦ على «جوزيف ديلورم» جديد، وهو يستسلم بدوره — على البلاط الباريسي — إلى «الأفكار التي يولدها المسير»؟١٧ وهو تقارب أشار إليه «بودلير» نفسه — على أية حال — وهو يكتب إلى «سانت-بوف»، في ١٥ يناير ١٨٦٦م، أنه إنما أراد تقديم «جوزيف ديلورم جديد يسقط فكره الرابسودي على كل واقعة في تسكعه». والواقع أن وسط الجمع الباريسي، سيضيع المنعزل (الواردة في قصيدة) «الأشعة الصفراء» الشهيرة (الذي كان بودلير يصفه بأنه «العاشق الفاسد»)١٨ التي تستجلب — في مقاطعها الأخيرة، كما يقول «أ. فيران» — «موضوع الرثاء الحديث كله، المتطور في ديكور معاصر»: ١٩
هكذا يمضي فكري، والليل قد جاء،
أنزل بين الحشد المجهول
وسرعان ما أغرق كآبتي:
أكثر من ذراع تحتك بي، ندخل حانة ريفية،
نخرج من الملهى، والعاجزُ المخمور
يغني بصوت مرتعش لحنًا مرحًا.
إنها ليست غير أغانٍ، وصخب، ومشاجرات سكارى
أو عشق في الهواء الطلق، وقبلات بلا حياء،
وعواطف علنية،
أعود: وفي طريقي يحثُّون الخطى، يتقافزون
طوال الليل أسمع السكارى في شارعي يجرون أقدامهم
ويصيحون.٢٠
والجدير بالملاحظة أن «سانت-بوف» يحلو له لا أن يغوص فحسب، كما يعلن، في «عمق الواقع الأكثر سوقية»٢١ أي أن يتخذ نقطة انطلاقه من الحياة الخاصة واليومية (نعلم أنه كان يريد أن يبدع — على غرار شعراء البحيرة، وردزورث وكولريدج — شعرًا «حميمًا وخاصًّا، وأليفًا، ومألوفًا»)، على نحو ما كتب في مقدمة «عزاءات consolations»، وفي ملحوظة ﻟ «أفكار أغسطس»٢٢ بل أن يلح على المظاهر الأكثر كآبة والأكثر دناءة لهذا الواقع اليومي: فأية أجواء هذه التي يرى «جوزيف ديلورم» فيها الشارع الخارجي، مكان نزهاته الداعرة:
هذه الجدران السوداء الطويلة، المملة للعين، حزام كئيب للمقبرة الفسيحة التي يسمونها مدينةً كبيرة، وهذه الأسيجة غير المقفلة تمامًا تمكننا من الرؤية عبر الفتحات، والعشب المتسخ في بساتين الفاكهة، وهذه الممرات الحزينة الرتيبة، وأشجار الدردار الرمادية بفعل التراب — وفي الأسفل — بضع عجائز يجلسن القرفصاء مع أطفال على حافة حفرة …٢٣
ألا نجد هنا — (عام ١٨٢٩م) — رد فعل ضد أوائل الألعاب النارية الرومانتيكية، «شرقيات Orientales» أو «أناشيد غنائية Ballades»، والتجسيد المسبق لما ستصبح عليه الحركة الواقعية؟ ثمة — في «السهرة» — نوع من الثنائية الرمزية، التي تتعارض والأفق الضاحك لهوجو، والأفق الكئيب لصديقه، الذي يبدو — وهو منعزل — يملأ سهراته:

بهذا الهدوء المنهك وبهذه الأحلام التافهة

ويطلق نوعًا من التصريح الكئيب٢٤ هنا — ولا سيما في «ربة شعري» — تعارض دال بين «الجارية اللامعة» واﻟ «بيري»،٢٥ أو العذراء الإقطاعية التي تلهم شعراء آخرين، وربة الشعر المعدمة، المسلولة والمجروحة من الحياة، لسانت-بوف.٢٦
ألن تكون ربة الشعر هذه نفسها (ربة شعر «الوجود الناقص»)٢٧ هي التي ستسكن «سأم باريس»، مع كل هؤلاء المنبوذين، العجائز الفقراء، والعجائز المهرجين، والأرامل الفقيرات، والشحاذين، والكلاب الهائمة، «الذين خرجوا من الحياة يعرجون»،٢٨ وقدَّمت — كديكور لهذه «الكوميديا المدينية» — الحديقة العامة حيث يبحث «الصعلوك» الشعبي عن التقاط بقايا الحفل٢٩ مجانًا، و«الحانة» التي نذهب إليها لاحتساء «كوب من البيرة»،٣٠ والبيوت الحقيرة التي تنتشر وسطها «رائحة مقليات،٣١ كومبارس غريب، وديكور شاذ لشخص متأنق! نضال دائم ضد الصعوبات المادية، فهل انتصر المُحضَرُون والديون وبنك «مون–دي–بيتيه» على حب «بودلير» للرفاهية والجمال الشهواني؟٣٢ أعتقد — بالأحرى — أنه قام بجهد شديد الوعي لإدخال الواقع الأكثر ابتذالًا في الشعر، وذلك — إذا جاز القول — لخلق شعر من النثري. ويمكننا — بالقطع — أن نستخلص دلالة عميقةً من المشهد الشائع. ويكتب «بودلير» في مذكراته الخاصة:
في بعض الحالات ما فوق الطبيعية للروح، فإن عمق الحياة يتبدَّى — بكامله — في المشهد، رغم عاديته الشديدة، والذي نراه تحت عيوننا، إنه يصبح رمزًا لها.٣٣
و«سانت–بوف» نفسه، «سانت–بوف» الذي أحيانًا ما تشبه أشعاره — النثرية بشكل بشع — شعر «فرانسوا كوبيه» على نحو تام، قد رأى — جيدًا — أن الفنان يحدس «فيما وراء هذا العالم الظاهر بالعالم الآخر، الداخلي تمامًا، الذي يجهله أغلب الناس»؛٣٤ وهو ما يدعونا إلى أن نكتشف — فيما وراء الواقعية السطحية للوحات المبتذلة ظاهريًّا — حياةً أكثر غموضًا وعمقًا. ومع ذلك، فإن موقف «بودلير» تجاه الواقع اليومي يختلف كثيرًا — في «لوحات باريسية» — عنه في «أزهار الشر» (التي كتبت — هي أيضًا، في معظمها — حوالي عام ١٨٦٠–١٨٦١م)، وعنه في «سأم باريس». وتبحث القصائد المنظومة:
في التعرجات الملتوية للعواصم القديمة
حيث يتحول كل شيء، حتى البشاعات، إلى تعاويذ٣٥
عن الغامض٣٦ — قبل كل شيء — والمجهول،٣٧ واللقاءات الغريبة، والمجازات،٣٨ حتى لو انطلق «بودلير» من معطيات سوقية أو منفرة (الشارع «المزعج»،٣٩ العميان «البشعين حقًّا»،٤٠ العجائز القصيرات، «مسخ متخلع»)،٤١ فذلك ليقوم بعملية التحويل الغامضة، التي يُلمح إليها في مشروعه «خاتمة Epilogue»، وهو يخاطب المدينة:
لقد أعطيتني طينك فصنعتُ منه ذهبًا.٤٢
وفي «سأم باريس»، يظل الطين طينًا، أسود ولزجًا، ويسعى الشاعر — بقصدية تامة — إلى استخدام هذه المادة الأولية، كما هي: أحيانًا كي يزيد من إحساسنا — على غرار سانت-بوف» — بالوجود الذي يغوص في هذا الطين، ويبرر الهروب الدائم الذي يغري به عبثًا اﻟ «حلم»،٤٣ وأحيانًا للبحث عن مؤثرات هزلية أو تهكمية — على غرار «جويا» — بفلتات مفاجئة من الرقة، أو الغنائية: «سأوحِّد المرعب بالهزلي، بل الرقة بالحقد»؛ ذلك ما كتبه «بودلير» إلى والدته،٤٤ بصدد ديوانه، وبمثل هذه المؤثرات الخاصة بالتناقض، ومؤثرات الرتابة، كان «بودلير» يشعر بحرية في النثر أكبر مما في النظم. ألم يسبق وسجل — عام ١٨٥٧م (وهو يترجم «إ. بو») — أن كاتب القصة «يمتلك في حوزته تعددًا في النغمات، وظلال اللغة، والوقع المتأمل، والتهكمية، والسخرية، التي يتخلى عنها الشعر، والتي — شأنها شأن تنافر الأصوات — هي إهانات لفكرة الجمال الخالص»؟٤٥ وتكاد بعض القصائد الباريسية — في «سأم باريس» — أن تكون، تقريبًا، أقاصيص (صانع الزجاج الرديء، موت بطولي، اللاعب الكريم، فلنقتل الفقراء!)، حيث يستخدم «بودلير» بكثرة — متأثرًا، في ذلك مباشرةً، بإدجار بو٤٦ — «نغمات» سبق الحديث عنها، علينا — إذن — أن نقر بأنه يرى في قصيدة النثر شكلًا أكثر حرية، أكثر «انفتاحًا» من قصيدة النظم في قبولها بتنافر الأصوات، وانقطاعات النغمة، والسخرية بشكل خاص، ألا يقول عن «سأم باريس»، في فبراير ١٨٦٦م، إننا نجد فيه «كثيرًا من الحرية، والتفاصيل، والتهكم»،٤٧ بأكثر مما في «أزهار الشر»؟ وهنا ثمة تقنيتان مختلفتان تمامًا، ولا تنحو مؤثراتهما وإيحاءاتهما نحو الشعر عبر نفس الطرق، ربما يكون «بودلير» أول من أدرك — بوضوح — الإمكانيات التي يتيحها النثر كشكل للشعر الحديث، الذي يحتفي بكل تناقضات الحياة الحديثة.

النثر، شكل لشعر «حديث»

من الضروري حقًّا — هنا — فيما أعتقد، ألَّا نفصل «شكل» اﻟ «نثر»، الذي اختاره «بودلير» عن قصده الحداثي: فمن أجل ترجمة حياة وروح بشر القرن التاسع عشر في كل تعقيداتها، كان من الضروري استخدام شكل «سلس، ومتنافر بما يكفي للتوافق مع الحركات الغنائية للروح، ومع تموجات أحلام اليقظة، وانتفاضات الوعي».٤٨ ومن اللافت للنظر أن هذا النموذج عن «نثر شعري» — كما عبر عنه «بودلير» — يبدو مرتبطًا لديه ﺑ «مخالطة المدن الكبرى»،٤٩ نثر بالغ السلاسة فحسب، ومتخلص من كل ضغوط شكلية (وهو ما يميز — للوهلة الأولى — «بودلير» عن «برتران»)، ويمكن أن يقترن، بلا معاظلة، بنبضات الحياة، وتموجات الإحساس في قلب مدينة كبيرة.
ولا يخطئ «بودلير» في أن يرى — هنا — «شيئًا جديدًا، كإحساس وكتعبير».٥٠ هذه الرغبة في التنويع وفي التناقضات، تتعارض مع مبدأ «وحدة النغمة» الذي تفرضه الجماليات القديمة، ونستطيع — على أية حال — أن نتساءل: إلى أي حدٍّ لا ينسجم هذا الميل إلى «الشرائح tronçons»،٥١ وإلى النغمات والأنواع الأدبية البالغة التنوع، مع تجزيء الشخصية، ومع تعددية تتناقض تمامًا والشعور الكلاسيكي بوحدة الفرد. إثراء أم تفكيك؟ على أية حال، فعبر رؤية مقطعية، وفي ظل مظاهر ليست تكميلية فحسب، لكنها — في الغالب — متناقضة، سيظهر لنا المشهد الروحي للشاعر، بكل تناقضاته وتنافراته، و«ابتهالاته» المضادة:٥٢ وللتعبير عن كل هذه التناقضات، كل هذه الدوامات الذهنية، يحتاج «بودلير» إلى شكل أكثر حريةً من الشعر المنظوم، الذي يلبي متطلبات أخرى بحركته الموزونة والمنتظمة، والقابلة لترجمة (أو إنتاج) السكينة، والنظام والانسجام.
ولا شك أن الشعر الرومانتيكي قد «فكك» الشكل الشعري، وقد تحدثتُ عن الحركة التحررية لهوجو،٥٣ وقد بذل «سانت-بوف» — أيضًا — جهودًا واعيةً للتقريب بين الشعر والنثر، لخلق ما أسماه «البحر السكندري العادي»،٥٤ فبطله «جوزيف ديلورم» أحيانًا ما ينصح بالبحث — في الشعر — عن شكل «أقل صرامة»، يمتلك «ميزة الطبيعية والبساطة».٥٥ ونعلم — أخيرًا — أن «بودلير» قد سعى، أحيانًا في «أزهار الشر»، إلى كسر انتظام الإيقاع، والتوصل إلى اضطراب إيقاعي arythmie، «أو — بالأحرى — إلى إيقاع النثر»، كما يكتب «كاسانيي» في ملاحظته عن هذه المحاولات العجيبة،٥٦ وذلك حينما تتطلب الفكرة أو حركة الجملة ذلك: فالنبرة المألوفة للحديث في «الرحلة»:٥٧
قُل، ما الذي رأيتموه؟
– رأينا كواكب
وأمواجًا، ورأينا رمالًا أيضًا،
ورغم صدماتٍ عديدة وكوارث غير متوقعة،
فكثيرًا ما أصابنا الملل، مثلما هنا.
ومؤثر القطع المفاجئ، في «هاوية»:٥٨

أخشى النوم مثلما يخشون حفرةً عميقة.

محاولات كهذه تظل محدودةً للغاية، طالما نرفض المطالبة (مثلما سيفعل الرمزيون) بحرية الشعر الكاملة، ويظل مؤكدًا أن المجرى المنتظم للبيت الكلاسيكي لا يتوافق واضطرابات وتعرجات الوجود الحديث، فيبدو لي من المستبعد — مثلًا — ألا يكون «بودلير» قد انزعج، ما دام قد عرف جيدًا «الأشعة الصفراء»، من عدم توافق الشكل مع الموضوع في المقاطع الشعرية الأخيرة،٥٩ ومن الارتباكات التي تقود إليها متطلبات النظم (التورية «أكثر من ذراع تحتك بي»، والتعاكس «عواطف علنية»). وعلى أية حال، فقد انزعج من عدم ملاءمة مفردات تطبق كل كليشيهات الشعر الكلاسيكي لوصف حياة حديثة ومدينية: وهو يكتب إلى «سانت-بوف» أن في «جوزيف ديلورم» ثمة: «أعواد، وربابات، وقيثارات، ويهوه أكثر من اللازم، وهو ما يشوب القصائد الباريسية».٦٠ لكن هذه المفردات السامية، أليست هي — بالتحديد — ثوب الشعر الكلاسيكي، أو — بالأحرى — «سترة نيسوس» الخاصة به؟ لقد تحدث «هوجو» — وحتى «بودلير» — عن موجات وجرار في أشعارهم …
فمن يدري؟ ربما انتاب «بودلير» الندم — أحيانًا ما — على أن يجد نفسه، حسب صيغة «رامبو»، «مشنوقًا بالشكل القديم»،٦١ وربما كان سيبحث وقتئذٍ — في النثر — وبالتحديد في النثرية: أقصد عن حرية الشكل، والتخلي — إراديًّا — عن المقاطع، واللازمات، والتماثلات، وحرية النغمة، والتعبير، والابتعاد عن كل مؤثرات «النثر الشعري» التي سعى إليها سابقوه. محاولة أصيلة — بالقطع — وخصبة في إمكانياتها، لكن حريةً إلى هذا الحد لا تعدم بعض المخاطر، وهذه المخاطر، التي التزم «بودلير» — بالضرورة — بمواجهتها، كانت تتضاعف بمخاطر أخرى، ترجع إلى الصعوبات المادية والثقافية التي كان الشاعر يواجهها. وعلينا — الآن — أن نحكم على «بودلير» وفقًا لإنجازاته.

(٢) الإنجاز

يدهشنا تضارب الآراء، عند بحثنا للأحكام الموجهة إلى «سأم باريس»، فالبعض يعجب ببودلير الذي نجح في أن «يقول الأكثر من خلال الأقل»،٦٢ بالنثر الأكثر إيجازًا، والأكثر «نثرية»، رغم أنه قد رفض كل تأثير الأسلبة stylisation أو الموسيقية، بل يذهبون إلى حد اعتبار «التعاويذ الإيحائية» «أكثر فاعلية في قصيدة النثر» مما في المقطوعة المنظومة، وذلك في الحالات التي تكون فيها المقارنة ممكنة.٦٣ ولا يرى الآخرون — في «سأم باريس» — سوى نثر خالص، ولا يمنحون اسم قصيدة النثر إلا لمقطوعة وحيدة هي «محاسن القمر».٦٤ فبمَ تفسر تضارب الأحكام إلى هذا الحد؟
بطبيعة الحال، علينا أن نضع في الاعتبار الأفكار المسبقة، وأن نرى عبر أي منظار ينظر النقاد، فبالنسبة لجوستاف كان — (وستُتاح لنا فرصة العودة إليه) الذي يدرك قصيدة النثر باعتبارها نوعًا شكليًّا وفنيًّا صرفًا، يهيمن عليه البحث البارع عن الجناس والإيقاعات — فإن الشكل الشديد الحرية لبودلير هو شيء بلا معنى، وبالعكس، فإذا ما اعتبرنا قصيدة النثر — مثل «بلان» — نوعًا على النقيض من «النثر الشعري» والموزون، يستخدم — في الارتقاء بنفسه — «نثرًا خامًا»،٦٥ غير إيقاعي، فسنحيل إلى البحث عن نماذج له في «سأم باريس»، لا في «الأناشيد الغنائية» لآلويزيوس برتران. إنها خاصية قصيدة النثر — هذا النوع المنقسم — التي تمضي في اتجاهين متعارضين، يتذبذب بينهما الشعراء والنقاد: الاتجاه إلى الانتظام، والكمال الشكلي — والاتجاه إلى الحرية، بل إلى الاختلال الفوضوي — مظهران أكدتُ عليهما في التو.
أما وقد فُرِضَ ذلك، فإنه يتبقى — في جميع الأحوال — أن الأساليب التي تستخدمها قصيدة النثر، سواء ارتبطت ببعض أشكال المعمار الشفاهي، أو — على العكس — بتدميرها، فإنها يجب أن تنحو — دائمًا — نحو أهداف تتخطى تلك الخاصة بالنثر الدارج، ولا تتعارض مع الخصائص اللانفعية، والغموض، والكثافة، التي هي بعض من خصائص الشعر، ولنعد إلى «بودلير»، فهل استطاع منح نثره — البالغ التحرر عن قصد، والمفتقر، غالبًا، إلى كل الزخارف اللفظية أو الموسيقية — «البريق التحتي» الشهير، الذي سيتحدث عنه «مالارميه»؟٦٦ وهذا النثر «النثري»، أهو — أيضًا — شعري؟
علينا، أيضًا، أن نتأمل — عن كثب — تقنية «بودلير» فيما يتعلق، من ناحية، ببنية القصائد، و«الأرابيسك»٦٧ الذي ترسمه العناصر المتنوعة، و— من ناحية أخرى و— تنوع النغمات المستخدمة وعلاقاتها مع خط الجملة، وغالبًا ما يمكن توضيح هذه الدراسة بالمقارنات سواء مع النثر أو الشعر المنظوم، وأخيرًا، فإنه من الضروري مراعاة العنصر الشخصي — أقصد الفارق الذي يفصل المجموعة الأولى، القصائد التي نُشِرَت في «لابريس»، عام ١٨٦٢م، عن القصائد التالية، المكتوبة بعناء وبطء متزايد — ففي ٢٣ يناير ١٨٦٢م، أحس «بودلير» ﺑ «إنذار غريب»؛ إذ هبت عليه «ريح جناح الغباء».٦٨ فمعطيات المشكلة — كما نرى — معقدة، بما سيجبرنا على التخفيف من حكمنا.

(١) أرابيسك القصائد، قصائد «فنية»

وقصائد «رابسودية»٦٩
ما أجاد «بودلير» قوله — عن الفنان التشكيلي، عام ١٨٥٩م — يمكن أن يُقال أيضًا عن الشاعر: «كل العالم المرئي» — أي، في حالتنا الآنية، المدينة وشوارعها وسكانها — «ليس سوى مخزن لصور وإشارات سيمنحها الخيال مكانًا وقيمة نسبيتين، إنه نوع من العجين، على الخيال أن يتمثله، يهضمه ويشكله.»٧٠ ولن تكون قصيدة إلَّا اعتبارًا من اللحظة التي يأخذ فيها الكاتب العناصر التي يتيحها الواقع و«ينظُمها بفن معين»،٧١ ليصنع منها إبداعه الخاص، وموقع هذه العناصر في «أرابيسك» القصيدة،٧٢ والطريقة التي «تعمل» بها ضمن الكل، والتي يتفاعل بها الواحد مع الآخر، لإنتاج مؤثرات الانسجام أو التناقض، وأخيرًا، خضوع هذه العناصر ﻟ «الفكرة المولِّدة» وﻟ «القانون الأعلى للانسجام العام»،٧٣ الذي سيمنح القصيدة نبرتها الخاصة ووحدتها، كل هذا ذو أهمية قصوى (وهو ما لا ندركه — دائمًا — بشكل كافٍ) في هذا الإبداع ﻟ «عالم جديد»٧٤ عالم شعري.

كيف يدرك «بودلير» — في «سأم باريس» — هذه الصياغة للعناصر التي يتيحها الواقع، والتي تُعتَبَر إحدى الأدوات الرئيسية التي يتمتع بها شاعر النثر، ليكتب قصائد، لا نثرًا، وكيف يحققها؟ هذا ما يتوجب علينا بحثه أولًا.

سنرى أنه لا غنى — هنا — عن تأمل التواريخ جيدًا، فالخطأ في ذلك (والواقع أنني لا أعتقد أن أحدًا قد فعل ذلك، حتى الآن) لن يمكننا من متابعة التطور الداخلي للفكر الإبداعي عند «بودلير»، في الفترة من ١٨٥٧م حتى ١٨٦٦م.

ففي عام ١٨٥٥م، بعث «بودلير» إلى «دنوييه» — من أجل ديوان «فونتبلو Fontainebleau» المشترك — بأولى قصيدتيه النثريتين: «غسق المساء» و«العزلة»،٧٥ بالإضافة إلى قصيدتي «غسق» من «أزهار الشر»، معلنًا عدم قدرته على الكتابة — في شعر منظوم — «عن الطبيعة (…) عن الغابات، عن أشجار البلوط الكبيرة، عن العشب، وعن الحشرات»،٧٦ ويضيف:

في أعماق الغابة، وأنا محبوس في هذه القباب الشبيهة بقباب الكنائس والكاتدرائيات، أفكر في مدننا المدهشة، والموسيقى الإعجازية التي تدور حول القمم تبدو لي ترجمةً للنواح البشري.

لكن، في عام ١٨٥٧م، عندما فكر — حقًّا — في كتابة ديوان من قصائد النثر، وفكر في تسميته (ربما تحت تأثير «جاسبار الليلي»؟) ﺑ «قصائد ليلية»،٧٧ لم تكن غايته استغلال هذه القريحة في الشعر «المديني»، بقدر ما استهدف كتابة عمل نثري نظير ﻟ «أزهار الشر». أربع قصائد — عام ١٨٥٧م — (من خمس)٧٨ تستعيد — في الواقع — موضوعات متماثلة (في «أي مكان خارج العالم Anywhere out of the world»، نجد موضوع «الرحلة»، وفي «المشروعات»، نجد موضوع «البوم»، كموضوعين يختلطان بالإيحاء الغرائبي الموجود في «البعيد عن هنا»)، أو متطابقة («ازدوجت «قصيدة» نصف كرة في خصلة شعر»، بقصيدة «خصلة شعر»؛ وقصيدة «الدعوة إلى السفر» ازدوجت بقصيدة تحمل نفس العنوان في «أزهار الشر»)، ففي قصائد عام ١٨٥٧م هذه، وفيها فقط — تقريبًا — يبدو أن «بودلير» كان يبحث، تحت تأثير «آلويزيوس برتران» بلا شك، عن تماثلات شكلية، ومؤثرات اللازمات أو التكرارات الصوتية، التي تفرض على القصيدة — مثلما يفعل المقطع الشعري وبيت الشعر — معمارًا معدًّا سلفًا، وفي «أي مكان خارج العالم»، ثمة لعبة اقتراح ورفض تبادلية، مع تصاعد لقلق يؤدي إلى نتيجة مفاجئة، وفي «نصف كرة» ثمة مؤثر الانتظام المستمد من التكرار، في مقدمة كل مقطع،٧٩ لكلمات «شَعرك» أو «خصلة شَعرك»، وفي «الدعوة إلى السفر»، عدة استعادات لتعبير («بلد النعيم … بلد النعيم الحقيقي … بلد النعيم الحقيقي، أقول لك»)، وفي الختام، تجميع لكل الموضوعات المثارة، التي تلتحم لتكون بورتريه مماثلًا للمرأة المحبوبة (فالكلمات: «إنه أنتِ … نحوكِ أنتِ …» تُستعاد ثلاث مرات، في هذا المقطع الأخير). وعلينا أن نضيف أن السجع والمحارفة،٨٠ اللذين رصد «كريبيه» و«بلان» تكرارهما في «نصف كرة في خصلة شعر»،٨١ يخلقان إيقاعًا صوتيًّا شبيهًا بما تحدثه القافية: Un charmant rêve plein de voilures et de mâtures … oû l’atmosphère est parfumée par les fruits, par les feuilles (حلم ساحر مليء بالأشرعة والصواري … حيث الجو معطر بالفواكه والأوراق). وإذا ما لاحظنا إلى أي حد يحرص «بودلير» على وحدة المناخ، ويتجنب كل تنافر صادم، حتى خلال سعيه إلى بعض المؤثرات التصويرية، فإننا نميل إلى أن نستخلص أن هذه القصائد هي أكثر قصائد الديوان وضوحًا ووعيًا من ناحية الإعداد الفني، ولنضم إليها — إن شئنا — «دوروتيه الجميلة»، وهي قصيدة فكر «بودلير» — طويلًا — في منحها الشكل المنظوم و«التعداد الغنائي» ﻟ «محاسن القمر»، بتكرارها الواسع للتموجات٨٢ — من خلال حركتها المزدوجة المتماثلة، التي تُشعِر الروح بالتوازي الذي تخضع له مصائر العشاق «غريبي الأطوار» — وسنتوصل إلى الجانب التناغمي و«الفني» لفن «بودلير»، كشاعر نثر، عندما سيجتهد لخلق عالم كل ما فيه ليس سوى:
نظام وجمال
رفاهية وسكينة ونشوة.
لكن، اعتبارًا من عام ١٨٦١م، سوف يسيطر الإلهام الباريسي على شعر «بودلير»: فيعطي مجلة «لاروفي فانتازيست» ثلاث قصائد «باريسية»: «العامة» و«الأرامل» و«المهرج العجوز» (والأخيرتان — وهو أمر دال — كانتا محل تقدير خاص من «سانت-بوف»)،٨٣ وقد ألف «بودلير» أربع عشرة قصيدة أخرى، ستنشرها «لابريس» في أغسطس وسبتمبر ١٨٦٢م.٨٤
عندئذٍ، أحس «بودلير» بكل الصعوبات الملازمة لمفهومه الواقعي واﻟ «رابسودي» لقصيدة النثر:٨٥ فإذا ما أردنا أن نعرض لجَوَّال «يُسقط» فكره «على كل واقعة في تسكعه»، فإننا سننكر — من نفس المنطلق — أي تكوين، وأي إعداد فني، وكي نستعيد التمييز الذي أجراه «بودلير» في «صالون ١٨٥٩م»، فلم يعد الأمر يتعلق — عندئذٍ — ﺑ «خيال خلَّاق»، لكن ﺑ «فانتازيا»،٨٦ ﺑ «مصادفة»،٨٧ «إن شئنا، هذه المصادفة التي اعتبرها «بودلير» — قبل «مالارميه» — متعارضةً مع العمل الفني، وسنرى «بودلير» — في قصائد عام ١٨٦٢م هذه — موزعًا بين الرغبة في الاستسلام إلى مصادفات التسكع (بالخضوع إلى العالم الخارجي، إلى «الشيء»)، والرغبة في تنظيم قصيدته في شكل فني: إنه الصراع دائمًا، «الازدواجية» بين الفنان وموضوعه، بين الفكر والمادة.
وسواء ما إذا كان «بودلير» قد أحس بضرورة التركيز والوحدة، المتطابقين مع المفهوم الجمالي الأعلى ﻟ «بو»: «لا يجب أن تتسرب — إلى التكوين كله — كلمة واحدة، بلا قصد، لا تنحو — بصورة مباشرة، أو غير مباشرة — إلى إنجاز مخطط تم التفكير فيه مسبقًا»:٨٨ وإذا ما كانت لديه — من ناحية أخرى — أفكار دقيقة، إلى حد ما، حول بنية قصيدة النثر، فلدينا الدليل على ذلك في التعديلات التي أدخلها على نص نثري كتبه عام ١٨٥٣م — هو «أخلاقيات اللعبة» — ليجعل منه عام ١٨٦٢م، إحدى «قصائده النثرية» العشرين، ويتناول نص عام ١٨٥٣م تطور الاختلافات بين أنواع اللعب: «الاختراعات الصغيرة الأرضية»، و«اللعبة الحية»، و«اللعبة العلمية»… إلخ، وعلى سبيل التوضيح، يُدرج «بودلير» هذا «الشيء المرئي» خلال الإحصاء:
وبصدد لعبة الفقير، فقد رأيت شيئًا أبسط بكثير، لكنه أكثر كآبةً من اللعبة التي يبلغ ثمنها مليمًا: إنها اللعبة الحية.٨٩

وفي قصيدة النثر، يستخدم «بودلير» — كمقدمة — ما قاله عن «الاختراعات الصغيرة الأرضية»، لكنه يكثف ويحذف التحديدات التقنية الزائدة، والتأملات ذات اللهجة الأخلاقية، الخالصة، ثم يدخل — دون تمهيد — في صلب الموضوع.

فكيف سيرفع من شأن هذه الطُّرفة إلى مستوى القصيدة؟ أولًا بأن يمنحها مغزًى مختلفًا: فسوف يشدد على الرمز، وذلك بتطوير فكرة النص الأول عن «أسوار الحديد الرمزية»، وسيكشف الطفلان — الغني والفقير — كلٌّ منهما للآخر عن ألعابهما، «عبر هذه الأسوار الرمزية، التي تفصل بين عالمين، الشارع الرئيسي والقصر»، ويجد «بودلير» — في الختام — خيطًا موفقًا يوسع من الطُّرفة ويمنحها ملمحًا روحيًّا:

وأخذ الطفلان يتبادلان الابتسام في أُخوة، بأسنان ذات بياض متساوٍ.٩٠
هو الخيط الختامي الذي يعتبر — كما يقول «ج. كربيه» — «الضوء الأكبر لهذه اللوحة العذبة»،٩١ أعده «بودلير» بملاحظة تلعب — في أرابيسك القصيدة — دور الوسيط ونقطة التحول: لم يعد الفقير الصغير يُوصَف — (كما في المقال النثري) — ﮐ «أحد هؤلاء الصبية الذين يشق المخاط عليهم — ببطء — طريقًا بين الوسخ والتراب»، لكن على نحو أكثر مثالية، باعتباره «أحد الصبية المنبوذين، الذي ستكشف العين المنصفة مواطن الجمال فيه، إذا ما نظفته من أوكسيد البؤس الناتئ والمنفِّر، مثل عين العالِم التي تتخيل لوحةً مثالية تحت الطلاء اللامع لصانع المركبات.»
وفي المقام الثاني، فهذا النص — الذي لم يشكل في صورته الأولية إلا مقطعًا واحدًا، وجزءًا من كُلٍّ أوسع — قد اقتطعه «بودلير» ونظَّمه في ثماني فقرات: ونستطيع أن نستخلص من ذلك أنه يضع نفسه ضمن مدرسة «برتران»، فيعتبر التقسيم إلى مقاطع من خصائص قصيدة النثر، أليس المقطع le couplet — هنا — هو المرادف ﻟ «المقطع الشعري la strophe» في الشعر المنظوم؟ وعلى أية حال، فهذا التقسيم يسمح له بتهوية قصيدته، وبأن يفصل العناصر بوقفات إيحائية، فيبرز الخيط الأخير — على إيجازه — بطريقة أكثر تأثيرًا أيضًا.
ونستطيع — على نفس النحو — أن ندرس بنية «الغريب» و«لكلٍّ خرافته» و«الغرفة المزدوجة» (كي لا نذكر سوى أكثر قصائد «بودلير» نجاحًا، بما لا يمكن إنكاره)، لنصل إلى نتيجة مفادها أن الإنجاز في الأعمال — الرمزية أو الغنائية — متحقق على مستوى القصد، وهو — هنا — قصد شعري وخلاق، على نحو صريح، ولنكتفِ بالنظر — عن كثب أكثر — إلى «صلاة اعتراف الفنان»، وهي إحدى القصائد التي تساهم في خلق «غنائية حديثة» تجعلنا نشعر بتمردات وطموحات وإحباطات روح حديثة من نمط «بودلير» نفسه، ولن نجد مثالًا أفضل منها على «سحر إيحائي» ينطوي — حسب تعبير «بودلير» — على «الموضوع والشيء»، على الأرابيسك المزدوج للعناصر المادية: اللازوردي، والبحر بأمواجه، والشراع البعيد، وعناصر روحية «تتجاوب» معهم، لتشكل لوحةً قوية البنيان لا شيء فيها مجاني: فاللازوردي يتجاوب مع انطباع باللانهائي وبالروحانية («العفة» و«الشفافية»)، ومع البحر انطباعٌ بالجمال الثابت وغير المحسوس، ومع الشراع «المرتعش في الأفق» شعور بالضعف، والعزلة، يتجاوب مع «الوجود العُضَال» للشاعر، ويقوده إلى صرخة رعب أمام الاتساع الرهيب للمشهد، وعجزه عن ترجمته.٩٢ ولفهم الطريقة التي تعمل بها العناصر المختلفة — من الناحية الجمالية — علينا أن نفكر في الدور الوسيط الذي يلعبه هذا الشراع الصغير، وهو العنصر الإنساني الوحيد في المشهد، الذي يصنع — بشكل ما — الانتقالة بين المشهد والإنسان.

وعلى العموم، فالبناء أكثر تركيبية — في هذه القصائد التي نعثر فيها على موضوعات «بودلير» الغنائية الكبرى — والعلاقات المعمارية مدروسة بشكل أفضل، و«قانون الانسجام العام» تمت مراعاته أكثر، وفي المقابل، فإن نقص الوحدة الفنية فاضح — غالبًا — في القصائد الباريسية، وذلك بسبب نزعتها «الرابسودية» نفسها.

ولنأخذ — على سبيل المثال — قصيدة «الأرامل»: لقد أحس «بودلير» — نفسه — بمساوئ هذه الصفات الملفقة الواحدة في الأخرى، التي اجتهد لخلق وحدة لها — رغم أنها مصطنعة — من خلال الجملة/المفصل: «من هي الأرملة الأكثر حزنًا والأكثر إثارةً للحزن، أهي تلك التي تجرجر في يدها طفلًا لا تستطيع أن تقتسم معه أحلام اليقظة، أم تلك الوحيدة تمامًا؟»٩٣ (في «العجائز القصيرات» — من «أزهار الشر» — لا يطور «بودلير» غير نموذج واحد). لكن الاستطرادات — في نفس القصيدة — تلعب، فيما يتعلق بالحفل الموسيقي، دور فاتح شهية حقيقي، وأخشى أن يكون «سانت-بوف» — بشِعره المتراخي، الذي يتبع مصادفات النزهة أو المحادثة (انظر — من بينها — «محادثة الحفل الراقص»)٩٤ — قد أصبح أستاذًا خطرًا على «بودلير».
والخطر — بالنسبة للباقي — يحس به «بودلير» جيدًا: فهو يجتهد — على سبيل المثال — في «المهرج العجوز» ليؤلف وينظُم لوحة العيد السوقي، فيصنع تقابلًا — يتخذ شكل تعارض حاد بين الجانب المضيء، الصاخب («انفجار جنوني للحيوية»)،٩٥ والجانب المظلم والكئيب، ذلك الركن الذي يقف فيه المهرج «صامتًا وساكنًا» — تناقض بين المظاهر الخارجية والنزعات الأخلاقية في آنٍ، وهو يجتهد — أيضًا — للارتقاء بالوصف من خلال الرمز الختامي، الذي برغمه (وربما بسببه) تظل القصيدة كلها — فيما يبدو لي — في منتصف الطريق بين النثر والشعر، فالمستوى الحكائي والمستوى المجازي متجاوران، وليسا ممتزجين (انظروا — على النقيض — التداخل البارع، في قصيدة «البجعة» من «أزهار الشر»، للَّوحة «الحداثية» والرمز).
لكن هناك — أيضًا — ما هو أكثر خطورة، ويكمن فيما يمكن تسميته «المرحلة الثالثة» من تأليف «سأم باريس» (بعد نشر العشرين قصيدة الأولى، وحتى موت الشاعر)، وسيهدد خطر جديد الوحدة الداخلية للقصائد وتوازنها: هو الرغبة — التي لم يستطع «بودلير» مقاومتها — في ترميمها بعد فوات الأوان، وفي استعادتها في اتجاه شواغله اللحظية، وأحيانًا ما كان يتم تنقيح النص بعد عدة أعوام فاصلة، كيف يمكن — إذن — للقصيدة أن تحافظ على الوحدة، على «كلية التأثير»٩٦ التي كان «بودلير» يعتبرها ضروريةً — مع ذلك — للعمل الفني؟ ولا شك أن الفقرات الثلاث التي تختتم — اعتبارًا من عام ١٨٦٤م — «غسق المساء»، لا ينقصها الجمال، في تدفقها الغنائي، لكن «بودلير» — عندما أضافها إلى النص الأولي، الحكائي الخالص، والمفترض أن يُنشَر في ديوان «فونتانبلو Fontainebleau»٩٧ — كيف لم يشعر أنه يُطَعم قصيدةً أخرى بالأولى، مختلفة في الخصائص والإلهام؟ وتعديل قصيدة «مشروعات» أكثر غرابة، وأكثر إزعاجًا أيضًا: ففي عام ١٨٦٤م، كان ذهن «بودلير» موجهًا نحو مشروعه في شعر «تسكعي» و«رابسودي». كان يريد أن يعرض لشخص جَوَّال، تتشبث أحلام يقظته — كما سيكتب إلى «سانت-بوف» — «بكل واقعة في تجواله»، يتعلق الأمر — هنا — بحديقة يتم عبورها، أو بخاتم يُرَى في «محل لبيع أعمال الزنكوغراف»، أو فندق نقابله «خلال المسير في شارع رئيسي».٩٨ كل هذا الديكور المتكلف — إلى حدٍّ ما — لم يكن له وجود عام ١٨٥٧م، ولا حتى عام ١٨٦١م:٩٩ فعبر المشهد الداخلي الوحيد — فحسب — تجول خيال الشاعر، والأخطر أن الخاتمة شديدة الاختلاف: فهي أكثر عادية، وأقل «بودليرية»:
١٨٥٧م ١٨٦٤م
الحلم! الحلم! دائمًا الحلم المعلون! — إنه يقتل الفعل ويأكل الزمن! — إن الأحلام تخفف من لحظة الحيوان المفترس الذي يضطرب فينا. إنه سُم مُسكن يغذيه. حصلت اليوم، في الحلم، على ثلاثة بيوت، حيث وجدتُ لذةً متساوية، لماذا أُجبر جسدي على تغيير المكان، طالما روحي تسافر بهذه الخفة؟ وما الجدوى من تنفيذ أية مشروعات. ما دام المشروع — في ذاته — هو متعة كافية
أين يمكن العثور — إذن — على كأس عميق بما يكفي، وسم كثيف بما يكفي للقضاء على الحيوان؟
هذه التحولات في اتجاه السطحية١٠٠ تشوه — ضمن ما تشوه أيضًا — كثيرًا من قصائد المرحلة الأخيرة، لهاث، ونضوب في الخيال الخلاق (وعبثًا سيسعى «بودلير» لإنجاز مؤلفه «الكتاب الملعون»)،١٠١ وهو نوع من التورط — أيضًا — في النثرية، الذي حكم مفهوم ديوانه نفسه على «بودلير» بأن يواجهه باستمرار، ونشعر أن «بودلير» — في آخر سنوات حياته — لم يعد يمتلك القوة الخلاقة الضرورية كي يفرض على مادته نسقًا فنيًّا، فيقتصر على «نسخ القاموس».١٠٢

يرتبط أرابيسك القصائد، وتوازنها البنيوي — من ناحية — بالمفهوم والغاية، بما يمثلان نتيجةً لها أكثر غنائية أو أكثر رابسودية ومن ناحية أخرى، يطول هذا الانحدار نحو الصمت ونحو الموت، بهذه الدرجة أو تلك من الحيوية الجسدية والفكرية للشاعر. إننا نمضي — إذن — من أكبر تلاحم فني إلى تهافت الشكل أو انعدامه، تقريبًا.

ورغم هذا، ففي الشعر — كما في الرسم — لا يكفي تحديد المكان والعلاقات بين العناصر المختلفة للحصول على بنية متوازنة، فوحدة الانطباع، والاتساق العام، يرجعان — كذلك — إلى اتساق النغمات، وهذان اللفظان — نغمة ودرجات اللون — المستخدمان بكثرة في التصوير الزيتي، وفي الموسيقى، لماذا لا نطبقهما على الشعر؟ فبودلير — نفسه، كما رأينا — يذكر، في حديثه عن القصة، «النغمة التأملية والتهكمية الساخرة»،١٠٣ ويستدعي أيضًا — في ملاحظة من «مذكرات شخصية» — «نغمة ألفونس رابيه — نغمة البنت المصونة (فاتنتي! الجنس المتقلب!) — النغمة الأبدية».١٠٤ وفكرة إثراء الشعر لا بالموضوعات فحسب، ولكن بالنغمات الجديدة، التي كانت محظورة حتى ذلك الحين، هي — كما سبق وقلت — إحدى غايات «سأم باريس» الكبرى.١٠٥ فهل تتفق مع ضرورات العمل الشعري؟

(٢) حداثة وجدَّة النغمات

من السخرية إلى الغنائية
علينا أن نؤكد — أولًا — على الأصالة المطلقة لبودلير في هذه المحاولة لإثراء المجال الشعري، وترجع هذه الأصالة — في المقام الأول — إلى اقتراحه باستبعاد البهرجة التقليدية، وتعرية قلب حديث (قلبه) بكل تعقيداته، واندفاعاته، وضغائنه، وتعاقبات أحلام يقظته، وصفائه الساخر، وذلك بأن يقوم بعمل الشاعر لا عمل رجل الأخلاق، ومن المدهش — في الواقع — أن نلاحظ، حتى في هذه الفترة، أن مؤلفي قصائد النثر (سواء كان اسمهم «بارني» أو «برتران» أو «لامنيه» أو «رابيه» أو «جيران») كانوا يسعون إلى أن يضفوا على أنفسهم روحًا غرائبية، توراتية، قديمة، من العصور الوسطى … كي يمنحوا قصائدهم — بفضل المسافة، والابتعاد في الزمان والمكان — هذه «الهالة» الشعرية، التي لم تعد تعويذة الشعر تأتي لهم بها أبدًا، وينجم عن ذلك أن نبرة «برتران» التهكمية، أو عنف «لامنيه» — رغم أنهما منحا شعرهما لونًا خاصًّا — قد احتفظا بشيء ما أكثر أدبية، ينطوي على ما هو أقل بُعدًا وعمقًا من تهكمات أو اندفاعات «بودلير» الغنائية. ثمة غنائية أكثر قليلًا، لكن ثمة ذبذبات حداثية محدودة لدى معاصرين عرفهم «بودلير» جيدًا، ﻓ «لوفيفر-دومييه» — الذي كان بمقدوره قراءة نثره في «لارتيست»١٠٦ — يثري أحلام يقظته، الشديدة العمومية والأخلاقية، برموز وصور «رومانتيكية» بأكثر مما هي «حداثية» (وعندما يستعير صورة من الفوسفور أو من المراكب البخارية، يتكوَّن لدينا انطباع غريب بالهجران)، ويلجأ «بابو» — من أجل كتابة رسالة هجاء ضد «فييو» والقساوسة الكاثوليك — إلى الاستعارة المسهبة والطنانة في خمسة أجزاء من «الشجرة السوداء» (التي نُشِرَت عام ١٨٦٠م، في «خطابات هجائية ونقدية»)؛ وأخيرًا «هوساي»، الذي يتملقه «بودلير» — بشكل مقبول — على قصيدته «أغنية صانع الزجاج»،١٠٧ هل فتح الطريق — حقًّا — أمام شعر حداثي ومديني؟ ولا يجب أن ننسى — أولًا — أن هذه «الأغنية» هي الوحيدة من نوعها بين كل القصائد و«النقوش البارزة السلفية» القديمة النثرية، في «أشعار كاملة»، وأن هذا الموضوع — الواقعي والمعاصر — قد تطور، بعد ذلك، بالطريقة الأكثر سطحية، وبأكثر ما يمكن تصوره من برودة وعظية، ولي أن أعتقد — عن طيب خاطر، كما يقترح «ج. كريبيه»١٠٨ — أن قصيدة «صانع الزجاج الرديء» الموجودة في «سأم باريس»، التي نرى فيها الشاعر يتسلى بتحطيم المواد البائسة لصانع الزجاج، يمكن اعتبارها «ردًّا عاجلًا شديد الخبث» على أغنية «الأخوية» لهوساي. وربما كان «شانفلوري»، وحده — الذي نادرًا ما يُذكَر من بين «أسلاف» بودلير،١٠٩ والذي لم تكن نعمة الشعر نفسها قد زارته بأكثر من «هوساي» — قد حاول، في «خيالات وأناشيد غنائية»،١١٠ استخدام قريحة مدينية وحديثة، وربما يكون مسليًا أيضًا — من خلال المقارنة مع «الغرفة المزدوجة» في «أزهار الشر» (أهو التقاء؟ أعلينا — حقًّا — أن نتحدث عن «مصدر» ما) — أن نرصد — في «كلب–حصاة» — الوصف، على عمودين متقابلين، ﻟ «سقائف الشعراء» (مثل الأحلام والخيال) و«سقائف حقيقية»، تكدرها الكآبة والقذارة: «لا ورق، بل حوائط مصفرَّة، ألبوم جداري يحمل آثار مرور كل المستأجرين …»١١١ ومن البديهي تمامًا — رغم هذا — أن «شانفلوري»، إذا ما كان قد استشف بعض الاحتمالات التي أتاحها له عصره، في الشعر النثري، فإنه لم يتمكن من التوصل إلى نغمة ولا إلى شكل لغنائية حديثة. ومن جانبه، كان «بارني دورفيي» — المحصور تمامًا في البحث الشكلي، وفي إطار النشيد الغنائي — قد جلب لقصيدة النثر بضع نبرات غنائية جديدة، لم يستطِع «بودلير» أن يتحصل منها سوى على بضعة أصداء في «إيقاعات منسية Rhythmes oubliés» النادرة، والمنشورة في ذلك الحين.١١٢
والواقع أن «نبرةً حديثةً» حقًّا قد ظهرت في نثر هذه الفترة: نبرة ساخرة، تهجمية، تربط «الرقة بالحقد»، وأحيانًا المنطق بالعبث، وهي ما نجدها في روايات «باربي دورفيي»، ولدى «كلاديل»١١٣ — بل في غالبية القصص الأكثر مكرًا، لأنها أكثر إيجازًا، ويستشهد «بودلير» أو يدرس «بتروس بوريل» — «طبيعة مرضية»، و«سحنة متغضنة»،١١٤ و«شانفلوري»، الذي سدد «منظارًا شعريًّا مزدوجًا … إلى الحوادث والمصادفات الهزلية أو المؤثرة، للأسرة أو للشارع».١١٥ و«آسيلينو»، الذي عرف كيف «يقدم شرعية العبث وما لا يصدق»، والذي «يقلد — أحيانًا — استدلالات الحلم الغريبة»،١١٦ و«بو» — بشكل خاص — الذي يمثل أصل النبرة المخاتلة المتأملة في «سأم باريس»، ويكفي أن نقارن «الوقائع الخيالية» ﻟ «أ. ديشام» — على سبيل المثال — ﺑ «حياة آسيلينو المزدوجة»، لنرى العبور من الخيالي «الرومانتيكي» إلى خيالي يندرج في قلب الحياة الحديثة، والشديدة التلوين بالفكاهة.١١٧ ولنضف أننا — اعتبارًا من عام ١٨٣٢م — نستطيع أن نقرأ في «حوليات رومانتيكية» نثرًا عجيبًا: «قبة العجزة» و«هلوسات» بقلم … «دي بلزاك»، الذي يصف السراب الذي يثيره غدير ماء صغير وقد أصبح هلوسة، تحت التأثير المترافق للنبيذ ولموسيقى «هارمونيكا رخوية». ومع أعمال كهذه، يمكن تمامًا (مثلما بالنسبة لحكايات «بو» و«آسيلينو») أن نطبق كلمة «بودلير» حول «خاصيتي الأدب الرئيسيتين: ما فوق الطبيعية والسخرية».١١٨
وعلى أية حال، فكتابة القصص — رغم كثافتها وشعريتها الشديدتين — تختلف عن كتابة قصائد النثر، و«بودلير»، الذي اقترح لنفسه، في «ملحوظات»، أن يظل «دائمًا شاعرًا، حتى في النثر»،١١٩ لا يريد أن يكتب نثرًا في «سأم باريس»، إنه يريد خلق شكل جديد لشعر، قابل لاستقبال كافة الأصداء وكل تنافرات الأصوات التي تمنح قصص معاصريه نبرةً حديثة، إنه يريد — عمومًا — خلق غنائية حديثة، لكن السمة الخاصة بغنائية كهذه — عليها ترجمة الحركات الأكثر تشويشًا للروح، والعبور (عند الضرورة، بلا انتقالة) من السخرية إلى التمرد، ومن الكآبة إلى الحماس — تحتاج إلى مقدرة خاصة من الكاتب، ولم يكن «بودلير» — على أية حال — جاهلًا بمخاطر «شعر النثر»، التي تعتبر على نفس مستوى الفانتازيا في التصوير الزيتي، «أكثر خطورة لأنها أكثر سهولةً وانفتاحًا».١٢٠ وإذا ما شئنا — في الواقع — ألا نستغرق في النثر، فمن الضروري أن «نجلي» المشاعر ونسيطر عليها، مهما كان عنفها، ومن هنا تنشأ القصيدة، تطهير catharsis لا غنى عنه لكل عمل ينتظم في شكل فني، حيث لا بد أن تسيطر روح الفنان على مادته، ومن ناحية أخرى، فعلينا ألَّا نظل تحت أو فوق «توتر» معين، ضروري لإحكام نغمة القصيدة، مثله مثل توتر أوتار الكمان، على سبيل المثال، وإذ يرتخي هذا التوتر، يتم السقوط في الاستطرادات، وفي حلم اليقظة «الرابسودي»، والمبالغة في الإطالة، التي طالما انتقدها «بودلير» — احتذاءً ﺑ «بو» — في القصيدة،١٢١ فعندما تصبح مبالغًا فيها، يعاني منها انسجام القصيدة ونقاؤها الشعري، وذلك شيء محسوس — بشكل خاص — في بعض القصائد الهجائية، حيث ينطوي التهكم على شيء من الإطالة والنشاز («المبهج»، «الكلب والقارورة»، «المرأة المتوحشة»).
وإحدى النغمات الأكثر جِدَّة، والأكثر إدهاشًا في الديوان هي — بالبديهة، وقد أدركنا ذلك سلفًا — السخرية، هذه السخرية الفظة والمخاتلة، النابعة — كما يقول «بودلير» — من «طريقة تفكير شيطانية»١٢٢ سلاح قاطع ذو حدين، مشرع — أيضًا — ضد الشاعر نفسه، موضع السخرية والاستخفاف والمحتقر١٢٣ ضد السوقية الإنسانية وما يسميه — في «أزهار الشر» — «الغباء في مواجهة الثور». هذه القسوة المزدوجة تفسر العنوان الذي فكر «بودلير» — لفترةٍ ما، وتحت تأثير «بتروس بوريل» — في أن يضعه على قصائده: «قصائد ذئبية صغيرة».١٢٤ وهي — مع ذلك — ليست إلا شكلًا عدوانيًّا لذهنية موجودة — الآن — في «أزهار الشر»، لا تخفف في شيء (وهو ما لاحظه «تيبوديه») من «اللهجة القارصة والموجعة»١٢٥ لبعض القصائد، «اختبار منتصف الليل»، على سبيل المثال، ونجد صدى شعر ١٨٦٣م — نثرًا — في «الساعة الواحدة صباحًا» (المنشورة عام ١٨٦٢م)، وهي قصيدة حافلة بتهكمات على الغباء والرشوة المعاصرين (ونجد صدى لها في المذكرات الخاصة)،١٢٦ وذات نبرة أكثر إيلامًا — في واقع الأمر، أيضًا — مما هي ساخرة: إن «انتفاضات الوعي» — (التي يتحدث عنها «بودلير» في «إهداء») — تقود الشاعر، هنا مباشرة، إلى صرخة جميلة ليأس غنائي، يجعل هذا الاعتراف خفقة الجناح الكبيرة والأخيرة.١٢٧ لكن صفاء «بودلير» القاسي هو — في أغلب الأحيان — بلا مقابل غنائي: إنه يصوغ نغمة ثلجية، أو — على النقيض — سخريةً قاسيةً، لا تسمح بظهور مشاعر المؤلف الخاصة وهنا يكمن بالنسبة لبودلير «أسمى الفن».١٢٨ «فمن الاستهزاء إلى التهكم، ومن ملمح السخرية إلى التناقض الخدَّاع، يزمع «بودلير» أن يستنفد — في نثره — كل سادية القبح البالغ»، كما يكتب «بلان»، الذي يضيف أنه — من هنا — يقدم نفسه «كمخلص لانفعالية سنوات شبابه».١٢٩ ولكن — في الفترة نفسها، التي ألف فيها الشاعر «سأم باريس» — ألم يكتب، في مذكراته الخاصة، أن المتحذلق ليس لديه ما يقوله للشعب «سوى الاستهزاء به»؟١٣٠ واحتقار كهذا للبشر تعايش مع مشاعر رأفة مخلصة نحو التعساء، وذلك أحد تناقضات هذا الرجل المزدوج homo duplex، بودلير.
ويبقى أن نعرف ما إذا كانت نغمة مخاتلة متأملة كهذه — باردة السخرية، حيث تظهر الفرحة بالجرح الإرادي للمشاعر المسلم بها — قادرةً على إحداث هذه الإثارة، «هذا الخطف للروح»، الذي — (على ما يقول «بودلير» مقتفيًا «بو»)١٣١ — يصنع وحدة القصيدة، ونشعر تمامًا بذلك التلذذ الكريه، الذي يكشف في «الحبل» بشاعة التفاصيل،١٣٢ وفي «لنقتل الفقراء» العطف المزيف نحو الشحاذ الذي ضُرِبَ لتوه ضربًا عنيفًا،١٣٣ ولن يندهش أحد إذا ما عرف أن عدة قصائد لبودلير قد رُفِضَت لمدة طويلة من المجلات لعدم إمكانية نشرها، ومن بينها «لنقتل الفقراء»، لكنني لا أتحدث — هنا — عن اللياقة الأخلاقية: فالمشكلة المطروحة هي الخاصة ﺑ الطاقة الشعرية لقصائد كهذه، فهذه السخرية الباردة تتوجه إلى ذكاء القارئ، لا إلى حساسيته، وسيتم استيعابها وتذوقها من قبل أكثر مناطق الفكر صفاءً، لكن، هل ستصل إلى هذه المناطق العميقة حيث تهتاج قدرتنا الحماسية و«غريزة الجمال الأبدية» فينا؟١٣٤ أخشى أن نجد — هنا — نثرًا لاذعًا، ذهنيًّا، قاسيًا كما ينبغي، لكنه ليس بشعر (ألا يجدر بالملاحظة، فيما عدا ذلك، أن هذه النغمة الهازئة محسوسة، بشكل خاص، في المقطوعات التي لم تعد قصائد، بل أقاصيص حقيقية يمكن مقارنتها — إلى حد كبير — بأقاصيص «بو»، «موت بطولي»، «الحبل»، «بورتريهات عشيقات»؟). إن «بودلير» الذي استشف شيطانيةً ما حديثة، لم تعد رومانتيكية، لم يستطع أن يضفي عليها أصالةً شعرية، ربما لم يكن لينقصه الكثير: مناخ من الفانتازيا، والغرابة (الذي نجده أحيانًا لدى «برتران»، أو — في أيامنا هذه — لدى «ميشو»، مثلًا)، وهو ما يضاعف — بغموض كثيف — هذا الجفاف شديد الذهنية، أو التدخل الشخصي من الشاعر، حتى وإن كان في اتجاه العدوانية (كما لدى «لوتريامون»). وأعتقد أن المزاج «الهستيري» للشاعر — في «صانع الزجاج الرديء»،١٣٥ على سبيل المثال — أكثر «شعرية» مما في «لنقتل الفقراء»، وسلوكه «كفيلسوف يراجع امتياز نظريته»، ورغم كل شيء، فلا يجب أن ننسى أن «بودلير» كان أول من بدأ في فتح أبواب حدائق غريبة أمام شعراء النثر، حيث تزدهر الدعابة السوداء، ويلاحظ «أ. بريتون» — الذي يذكر في «مقتطفات من الدعابة السوداء» قصيدتين نثريتين، هما «مبهج» و«صانع الزجاج الرديء» — أن «بودلير» يأتي «بسلسلة من المبادئ الجمالية الجديدة، التي ستتأثر بها كل الحساسية التالية».١٣٦
ولا شك أن «بودلير» كان يزمع اكتساب مؤثرات عجيبة في التناقض، بأن يناوب بين هذه القصائد «الشيطانية» وقصائد أخرى أخلاقية وإخوانية،١٣٧ مثل «الأرامل» و«الجاتوه» و«المهرج العجوز»، ويتجاوب هذا التنوع، وهذه البرقشة الذهنية مع الغايات «الرابسودية» للديوان، ومع الرغبة المزدوجة في الإشارة — من ناحية — إلى المظاهر المتعددة للروح المعاصرة، ومن ناحية أخرى إلى كل الإيحاءات المتنوعة التي يمكن أن يقدمها مشهد الحياة اليومية إلى «رجل الشارع»، ويبدو أن ناقدًا من ذلك العصر قد تبنى تمامًا هذه الطريقة في الرؤية، عندما كتب أنه في ديوان كهذا «يمكن لكل إيحاءات الشارع، والظروف، والسماء الباريسية، وكل اندفاعات الوعي، وكل خدر أحلام اليقظة، والفلسفة، والرؤيا، وحتى الطُّرفة، أن تلعب دورها، حسب الترتيب».١٣٨ ولن نستطيع أن نحدد — بشكل أفضل — محاولة «بودلير» … ولا أيضًا المخاطر التي تحملها، فالنبرة الفلسفية أو الأخلاقية، والنغمة الموضوعية للحكاية، ليست — فقط — بلا شعرية apoétique، لكنها مضادة للشعرية antipoétique (رغم أن الحكاية يمكن أن تكون نقطة الانطلاق، والفلسفة نقطة الوصول لقصائد جميلة للغاية). ولست بحاجة إلى التأكيد على الأثر الهدام الذي يمكن أن يتوفر عليه الاستطراد الفلسفي، والأخلاقي، والتربوي، على الخيمياء الشعرية الهشة، وسأكتفي بالإشارة إلى كل ما يفصل «العجوز المهمومة» عن «الأرامل» و«العجوز القصيرة» في «أزهار الشر»، التي استخدمها كموديل له:١٣٩ فلا يتعلق الأمر — أولًا — بمجرد امرأة عجوز، بل بأرملة، أرملة فقيرة، تتناول غداءها في «مقهى بائس»، وتستفيد من مجانية «قاعة القراءة». إنها نغمة الأخلاقي،١٤٠ محب البشر، المنقاد «نحو كل ما هو ضعيف، محطَّم، مغموم، ويتيم»، لكن هذه الحركة الهوجوية (نسبةً إلى «هوجو») ستوجه القصيدة نحو غموض هذه «الحوَّاءات ذات الثمانين عامًا، نحو ماضيهن الغابر ومصائرهن الغريبة، بل نحو «الأساطير التي لا تُحصى للحب المخدوع، والإخلاص المجهول، والجهود التي بلا طائل، والجوع والبرد اللذين يتم احتمالهما في صمت وتواضع».١٤١ شيء غريب، فيبدو أن هذه الرداءة وهذه البلادة الكئيبة — المميزتين للفقر — قد بهتتا على شخصية المرأة العجوز، المتصوَّرة بشكل بدائي، كعجوز أمازونية، وهي، فيما تنصت إلى حفل موسيقي عسكري:
تستنشق بشراهة هذا النشيد الحي والحربي.١٤٢
فنحن نواجه — الآن — «عجوزًا بريئة» تجد في هذا «الفجور الصغير» الأسبوعي العزاء «المكتسب» عن وحدتها وفقرها، لم تعد أحد شخوص «بودلير»، بل أحد شخوص «فرانسوا كوبيه» (وسنلاحظ كيف أن بلادة المفردات تستجيب لبلادة الفكرة). ألا نعتقد أن «بودلير» إنما أراد أن يقدم — هنا — البرهان على كلمة «بو» التي ذكرها في موضوع آخر: «الفقر ابتذال ونقيض لفكرة الجمال»؟١٤٣
وهذا «الابتذال ﻟ «الشعب» الذي يرتدي القمصان والقماش الهندي»١٤٤ قد طاب لبودلير — رغم هذا — أن يصفه لا في «الأرامل» فحسب، بل — أيضًا — في عدة قصائد من «سأم باريس»، من بينها «المهرج العجوز» و«عيون الفقراء»؛ القصائد المفضلة لدى «سانت-بوف». إنه — هنا — يتخذ أكثر النغمات الممكنة تضادًّا مع الشعر، نغمة «طرائفية» و«تسكعية»: الواقعية، والتدقيق النثري في التفاصيل١٤٥ اللذين ينافسانه في التصويرية، سواء الحقيقية أو المزيفة،١٤٦ فتحل الملاحظات السيكولوجية محل «الخطوات الشاسعة مثل مُركَّبات» ﻟ «الروح الغنائية»،١٤٧ مواء البلاغة الصحفية،١٤٨ وابتذال المكان المشترك (الذي كان «بودلير» — وهو ما يجب أن نقوله فحسب — يحترمه بشكل غريب)،١٤٩ يأتيان ليحولا دون أي شعر حقيقي، ونلوم «بودلير»، لا أنه أدار ظهره — فحسب — إلى الشعر عن عمد، كي يدلف إلى الأخاديد المرسومة — سلفًا — ﻟ «الشيء المرئي»، وللصحافة ذات الشعرية المزيفة،١٥٠ بل — أيضًا — لأنه سمح لكل مؤلفي المستقبل الفاشلين، لكل العاجزين عن نظم الشعر، بأن يطلقوا على كتاباتهم الوصفية (الباهتة) اسم «قصيدة النثر»، فكم من «معارض باريسية»، بعد «المهرج العجوز»! كم من التعاطف المفتعل مع «الفقراء» و«الكلاب الطيبة»! كم من شهادات الشعر (شعر الروزنامة) الصادرة تحت تأثير هذه الكلمات السحرية، «مقهى»، «كباريه»، «كوخ حقير»، «أرغن صغير نقَّال»! وإذا ما كان «بودلير» جادًّا في تمنيه «خلق المبتذل التافه»،١٥١ فعلينا أن نعترف بأنه تخطى — في ذلك — كل رجاء …
وسوف نرصد أن الملاحظات حول «النغمات» البالغة التنوع، التي يميل «بودلير» إلى استخدامها في ديوانه، تنحو — أكثر فأكثر — إلى أن تصبح ملاحظات حول الأسلوب، والواقع أن نغمة السخرية الباردة، التي تحدثتُ عنها في البداية، تستمد بعضًا من فضيلتها من الابتذال، والشفافية التي يفرضها «بودلير» — إراديًّا — على أسلوبه، والتي تتعلق — فحسب — ببلادة الألفاظ العادية، عبر التعبيرات المحملة بالدعابة، هنا وهناك، التي يتم التشديد عليها، بشكل عام (مثلما عند «بو»): «تجربة ذات فائدة أساسية» (إذ إنها موجهة إلى رجل محكوم عليه بالإعدام)،١٥٢ «تكمن النظرية في أنني جنيت ألم المحاولة على ظهوركم» (قالها رجل محكوم عليه بالعقوبة لتوه … وتلقى تأديبًا ما).١٥٣ أسلوب غير «سلس»،١٥٤ لكنه بسيط وخالٍ من اللفظية، وفي الفقرات ذات النبرة الأخلاقية والفلسفية، تتوفر نفس الخصائص، مع ميل — رغم هذا — إلى البلاغي: «زحام، وعزلة: ألفاظ متساوية وقابلة للتحول …»،١٥٥ «أراد أن يقوم بالإحسان وبتجارة رابحة في آن، أن يكسب أربعين فلسًا وقلب الله، أن يختطف الجنة اقتصاديًّا، وأن ينال — أخيرًا، ومجانًا — شهادة رجل محسن»١٥٦ (نفس الفكرة يتم تقليبها في أشكال مختلفة)، وسيبحث «بودلير»، في النصوص الحكائية والوصفية، عن المؤثرات «الأدبية» بشكل خاص: كلمات دقيقة وتصويرية، «الذيول الحمراء والمغفلون»،١٥٧ «دانماركي، الملك شارل، كارلان»،١٥٨ تعبيرات مزخرفة،١٥٩ ومؤثرات أسلوبية متنوعة،١٦٠ طرائق — في أغلبها، كما نرى — تميز النثر الجيد.
ورغم هذا، فعلينا أن نؤكد إلى أي حد كلما أصبحت النغمة أكثر شعرية وغنائية صراحةً، كلما رأينا تزايد عدد الصور والاستعارات: هذا إلى الحد الذي تنتظم فيه القصيدة كلها حول رمز ما، وقد سبق لبودلير — في بعض النصوص، مثل «الكلب والقارورة» و«المهرج العجوز» و«لعبة الفقراء» — أن جاهد لتوسيع وتجاوز الحكاية بواسطة الرمز النهائي، لكن مقطوعات أخرى هي رموز يتم إدراكها باعتبارها كذلك، وبالتالي فهي شعرية عن عمد: «الغريب» و«لكل خرافته» و«المجنون وفينوس»، فلم تعد نقطة الانطلاق لتُستمَد — هنا — من الواقع، فالمشهد نفسه يصبح رمزًا، يقدم لنا المعادل المحسوس لشعور أو لفكرة معينة، وفي «لكل خرافته»، هو:
سهل كبير مترب، بلا طرق، بلا حشائش، بلا شوكة واحدة، بلا قُراص.١٦١
(وسنلاحظ الأثر الرائع للإرهاق، والانعدام، الذي ينتجه هذا التعداد السلبي، الذي سنجد انعكاسًا له في الوجوه التي — كما يقول «بودلير» فيما بعد — «لم تكن تكشف عن أي يأس»). وهو — في «المجنون وفينوس»، في الملاحظة العظيمة هذه المرة — مشهد بكامله لا إنساني أيضًا، «فيض صامت» من الضوء والجمال:
وكأن ضوءًا متزايدًا دائمًا يجعل الأشياء تتلألأ أكثر فأكثر، والزهور المستثارة تحترق من الرغبة في المنافسة مع لازورد السماء بطاقة ألوانها، والحرارة التي جعلت الطيور مرئيةً، قادتها إلى الصعود نحو النجوم مثل الدخان.١٦٢
فلم يعد الأمر يتعلق — هنا — ﺑ «تجاوب» بين المشهد الخارجي وروح الشاعر، فالمشهد لم يعد سوى عرض لهذه الروح، الملتقطة في بعض نزعات أساسية: شعور بالمنفى والرغبة في «مكان آخر» (الغريب)،١٦٣ وسأم مرهق (لكل خرافته)، ويأس إزاء استحالة الإمساك بالجمال (المجنون وفينوس). كل قصيدة — إذن — هي تسجيل لهَمٍّ شديد — ليس شخصيًّا إلى هذا الحد — لبودلير الذي ينخرط في الوضع الإنساني، ومن هنا، تستمد هذه القصائد الرمزية صداها العميق وقوتها الشعرية.
لكنها ليست — فحسب — التعبيرات والصور التي سوف تتنوع حسب النغمة المتبناة في كل قصيدة، فقد كان حلم «بودلير» — ونحن نتذكر ذلك — أن يكيف نثره «مع حركات الروح الغنائية، مع تموجات حلم اليقظة، مع انتفاضات الوعي».١٦٤ فإلى أي مدًى نجح في خلق نثر «شعري» و«موسيقي» (وهما الاصطلاحان اللذان يستخدمهما) سلس بما يكفي ليقترن بحركات الكائن الداخلي، ويحافظ — في نفس الوقت — على الفاعلية الشعرية، وعلى «السحر الإيحائي» للشعر المنظوم؟

(٣) النثر الشعري البودليري. أنماط الجملة الثلاثة

الأنساق الإيقاعية. قصيدة نثر وقصيدة نظم
تشكل الجملة داخل القصيدة نوعًا من العالم الصغير، الخلية المنظِّمة التي تكون جزءًا من كُلٍّ أوسع، وتنبني طبقًا لقوانين متماثلة: إنها الكلمات، بأصدائها الصوتية والبصرية، التي ترسم نوعًا من أرابيسك مصنوع — في آنٍ — للأذن والروح. وعلى حركة الجملة أن تقترح وتولِّد — لدى القارئ — حالةً معينة للروح تتوافق مع حالة الروح التي نشأت منها القصيدة. إن مصطلح «موسيقى» — الذي يستخدمه «بودلير» — لا يجب أن يُفهَم، فحسب، فيما يتعلق بموسيقى لفظية خالصة، بل — أيضًا — بخصائص إيحاء وخلق خاصة بالشعر، وهي خصائص تختلف تمامًا عن الخصائص التعبيرية المطلوبة من النثر العادي، وبدون هذه الخصائص الشعرية، فلن تستطيع اللغة أن تصبح «تعويذة إيحائية».١٦٥ وحده «بودلير»، وهو يتحرر من عبودية الإيقاع (نعني إيقاع الشعر المنظوم) والقافية، يزمع تنويع طقوس هذه التعويذة، بطريقة لا تربط «الموسيقية» الشعرية بوصفات شكلية خالصة، بل بخصائص أكثر داخلية، وقدرة على إثارة انفعالات وإيحاءات أكثر تنوعًا.

وحسب تعريف الشاعر نفسه، نتوقع أن نجد في نثره تنوعًا بالغًا للحركات، يستجيب لجميع الحركات الداخلية لروح حديثة ومعقدة، وتتوافق ثلاثة أنماط من الجملة مع الحالات الثلاث التي يشير إليها، وسأسردها في ترتيب معاكس لما يتبناه، بحيث أعبُر من النثرية الإرادية إلى التحليق الغنائي:

  • (١)
    نمط الجملة «المتنافرة»، التي تتجاوب بوسائل مختلفة (كسر الإيقاع، إيجاز التعبير، انقطاع النغمة أو التنافر الصوتي) مع «انتفاضات» الوعي، وبالتالي — غالبًا — مع نغمة سخرية أو تهكم ما.
  • (٢)
    نمط الجملة «المتموجة»، إذا صح التعبير، أي الجملة الطويلة والمتعرجة، التي تقدم نفس تعرجات أحلام اليقظة.
  • (٣)
    نمط الجملة «الغنائية»، المتصاعدة والديناميكية، التي تتوافق مع المشاعر الحادة، والاندفاقات السعيدة أو الأليمة.
  • (١)
    والواقع أن — من بين هذه الأنماط الثلاثة — ثمة نمطًا لم يمنحه «بودلير» — حقًّا — وجودًا أسلوبيًّا، وهو الأول، فالجملة المتنافرة، المبتورة، المتوقدة، التي سيمنحها «رامبو» حق المواطنة في الشعر، والتي تقدم إيقاعًا بالغ الخصوصية، إنما هي غائبة من «سأم باريس»، فعندما يستخدم «بودلير» — في مذكراته الخاصة — أسلوبًا موجزًا ذا اختصارات مدهشة، فذلك للتعبير عن أفكار يمنحها — طواعيةً — شكل الحِكَم: «الله فضيحة، فضيحة رابحة»،١٦٦ «كثير من الأصدقاء، كثير من القفازات».١٦٧ لكنه — عندما يمنح موضوعًا ما شكلًا أدبيًّا — فإنه دائمًا ما يستخدم جملًا تامة، واضحةً، ومبسوطةً تمامًا، بل مع نوعٍ ما من الترف في الإبدالات والعبارات الاعتراضية،١٦٨ وعلى أية حال، فأعتقد أن «بودلير» — عندما يتحدث عن نثر «متنافر» — فهو لا يعني الكثير من الجمل المهشمة، أو انقطاعات في البناء داخل الجملة، بل انقطاعات في النغمة (من جملة إلى أخرى) تنتج أثر القفزة أو التنافر الذي يمكن للنثر، على عكس الشعر، أن يتقبله، بل أن يسعى إليه من أجل قيمته المفاجئة، ويستخدم «بودلير» مصطلح «قفزة» هذا بطريقة دالة على «الشجرة السوداء» ﻟ «بابو»، وهي قصيدة مجازية كبيرة، في أسلوب نبيل، تنتهي — على نحو مفاجئ — بجملة ساخرة، قاطعة ومحددة: «وحتى روح سيبريس وقعت: فييو!». لقد وجد «بودلير» المقطوعة كلها جميلةً للغاية، «عدا كلمة «فييو»، كملحوظة ساخرة، كقفزة من نوعٍ ما».١٦٩ وربما لتجنب تنافر مماثل (كما يفترض «ج. كريبيه»)، فإنه يلغي النداء الختامي الوارد في مخطوط «لنقتل الفقراء»: «ما قولكَ في ذلك أيها المواطن برودون؟». لكنه يقبل — في مواضع أخرى — «قفزات» معبرة، تجعل القارئ ينتقل، بشكل مفاجئ، من مدى إلى آخر مختلف عنه تمامًا، ويصاحبها — بشكل عام — تغير في مظهر الجملة: وهكذا، ففي «الغرفة المزدوجة» تُتَرجَم القفزة التي تسمى استعادة الوعي، والعودة إلى العالم الحقيقي، بجمل قصيرة وتعبيرات واقعية: «ها هي الأثاثات الغبية، المتربة، والمهشمة: المدفأة بلا لهب ولا جمر، ملوثة بالبصاق، النوافذ الحزينة، حيث شق المطر أخاديد في التراب، المخطوطات المشطوبة أو غير المكتملة، الروزنامة حيث حدد القلم تواريخ كئيبة!».١٧٠ وبالطبع، يمكن للقطع — في النغمة وفي الأسلوب — أن يؤدي إلى تأثيرات كوميدية مطلوبة تمامًا، حيث تحدث المفاجأة — بشكل آلي — ضحكةً «شيطانية» إلى حدٍّ ما: تأثير مدهش — بشكل خاص — في «الحساء والسحب»، وهي قصيدة بالغة القصر، تبدأ بجملة طويلة وشعرية: «محبوبتي الصغيرة المجنونة كانت تقدم لي العشاء وعبر النافذة المفتوحة لحجرة الطعام، كنتُ أتأمل الحركات المعمارية التي يصنعها الله بالأبخرة والتكوينات الرائعة لغير المحسوس»، وتنتهي بتنافر بالغ، بجملة موجزة وفجة: «ألم يَحِن أوان احتساء حسائكم … يا بائع السُّحب».١٧١ وعبر تنافر أصوات من نفس النسق (سقوط مفاجئ للحلم في الواقع)، تنتهي — أيضًا — قصيدة «عيون الفقراء».١٧٢
    ونشعر تمامًا أن مقدمة هذه «الملاحظات الصاخبة» — كي نتحدث على طريقة «بودلير» — ترتبط بنبرة التهكم اللاذع، وهي نبرة حديثة أساسًا، ما دامت تمثل انتقام الفكر من عالم مبتذل رمادي، وتنافر أصوات كهذا، رغم تعبيريته — مع ذلك — ألا يتناقض مع «قانون الانسجام العام الأعلى» الذي طرحه «بودلير» نفسه، والذي نُشِرَ في الشعر مثلما في التصوير — على كل درجات لون اللوحة — وحدة «المناخ المهيمن»؟١٧٣ ففي «الغرفة المزدوجة» — حيث يطل التناقض بين الجزأين المتماثلين شعريًّا، لأنه يطابق فكرة المقطوعة نفسها، ولأن الواقعية لا تحظر نوعًا ما من الغنائية — نندهش، رغم هذا، من التأثير المتنافر الذي ينتجه في الجزء الأول — ووسط انسجام درجات رقيقة متمازجة١٧٤ — استخدام كلمة «هدف صغير» للإشارة إلى عيني المحبوبة، «المعبودة، ملكة الأحلام»، والتأثير (المقصود، ربما) هو الخاص بملاحظة مزيفة: أيمكن أن نتخيل لحظةً يتحدث فيها «بودلير» عن «هدف صغير» في «المِشعل الحي»؟ إن الرغبة في «التحديث» تقود «بودلير» — هنا — إلى ارتكاب خطأ فني.

    ولا شك أن «بودلير» قد استشف إمكانية إدخال الإيقاعات المتنافرة وانعدام توافقات العصر والوعي الحديث في الشعر، ليبدو — بذلك — سابقًا لزمنه تمامًا، لكننا علينا أن نفكر أن مجاله كان — بالأحرى — هذا القطر الأدبي — «حيث كل شيء نظام وجمال» — ولقد زعزع الوجود كيانه بعنف بالغ، ولم يكن فنه مهيئًا لقبول الصدمات والتناقضات العنيفة: فالتنافرات الفظة، ومؤثرات الصدمة — التي سيقوم «رامبو»، مثل كتاب القرن العشرين بالاستفادة منها — تخالف، بجدَّة، النثر البودليري المتماوج والصافي.

  • (٢)

    وقد تمثلت جهود «بودلير» — الأكثر قيمة — في نثره ﻟ «تموجات أحلام اليقظة»، من ناحية، وﻟ «الحركات الغنائية» للروح، من ناحية أخرى: يتعلق الأمر في هاتين الحالتين — في الواقع — بميول روح ملائمة للشعر، وبما أسميته بالموسيقية: فيكفي أن يصبح نطاق الجُمل متجاوبًا مع الحركة الداخلية، التي تنشأ منها (هذه الجمل)، وأن تتوفر على وظيفة إعادة الخلق.

    ويشعرنا «بودلير» — وبأفضل شكل، عبر إبداع جملة سلسة، متماوجة ومتعرجة — إلى أي حد تختلف الجملة الشعرية عن الجملة الخطابية: وبدلًا من المرحلة المعمارية الكبرى، المتزنة تمامًا، والمتماثلة، لبوسييه مثلًا، أو بدلًا من البنيات الثلاثية لهوجو، فإن هذه الجملة المتعرجة تدفعنا إلى التفكير في تلك التي استخدمها «سانت-بوف» في «لذة»، وإذا ما كنا نتذكر إلى أي حد خضع «بودلير» — في بدايات شبابه — إلى سحر:

    هذا الكتاب الأثير لدى الأرواح التي فترت همتها.

    وإلى أي حد — بشكل خاص — دفعه إلى الحلم ﺑ:

    الاشتباكات الطويلة للجُمل الرمزية.١٧٥
    فإننا يمكن أن نفكر — على وجه الاحتمال — أنه قد امتلك، بشكل واعٍ إلى حدٍّ ما، هذا الأسلوب (أسلوب اللذة والفتور وأحلام اليقظة) عندما كان ذلك يتلاءم مع غاياته الفنية.١٧٦ إن الجملة الطويلة، التي تسير ببطء عبر العبارات الاعتراضية المتعددة، وتمتد — أيضًا — في اللحظة التي نعتقد أنها ستنتهي،١٧٧ تلائم — تمامًا، وبشكل خاص — الإيحاءات الكسولة، يتجلى هذا في «الميناء»، حيث حركة الجملة و«تموجات» أحلام اليقظة تبدو كأنها تقلد:

    الهدهدة الأبدية للتموجات المسكرة

    عندما يكتب «بودلير» — على سبيل المثال — «… ثمة نوع من اللذة الغامضة والأرستقراطية، لمن أصبح بلا فضول، في أن يتأمل — وهو ممدد في المقصورة، أو مطل على رصيف الحاجز — كل هذه الحركات لمن يرحلون ولمن يعودون، لمن ما زالوا يملكون رغبة الإرادة، والرغبة في السفر والإثراء.»١٧٨ (وسنلاحظ، في هذه الجملة: الأرابيسك المرسوم حول الفكرة الرئيسية: «ثمة نوع من اللذة في تأمل كل هذه الحركات»، من خلال العبارات الاعتراضية، وتكرار التركيبات الثنائية، والتوسع الحادث للجملة، كخاتمة، بواسطة تركيب ثلاثي).
    وعلينا أن نضيف أن «بودلير» — في كثير من الحالات — يستخدم بكثرة ما يمكن أن نطلق عليه «قطعًا متعديًا» (وهو — على أية حال — متكرر في الفرنسية) يتمثل في وضع علامة النبرة الأخيرة لتركيبةٍ ما على المقطع اللفظي الذي يسبق حرف e الصامت: هذا الحرف — e — يجد نفسه مندمجًا في تركيب تالٍ، ليتحقق — من ذلك — تأثير المنحنى، والموجة المتماوجة: «حرف e الصامت، الموجز بطبيعته، يعمق من الإيقاع»، كما يكتب عن حق «مورييه» في هذا الموضوع.١٧٩ وكلما ازداد عدد النهايات المؤنثة، كلما أصبح الإيقاع — بشكل عام — متوازنًا:
    Cependant Dorothée, /forte et fiè/re comme le soleil, /s’avan/ce dans la rue déserte, /seu/le vivante à cette heu/re sous l’immense azur, /et faisant sur la lumière/une tache éclatante et noire.
    رغم هذا فدوروتيه/ القوية والفخورة/ مثل الشمس/ تتقـ/ ﺪم في الشارع المهجور، /الوحيـ/ ﺪة الحية في هذه الساعة/ تحت اللازورد الهائل/ وتشكل في الإضاءة/ بقعةً مبهرةً وسوداء.١٨٠
    ولنلاحظ أن بضع فاصلات إضافية تكفي لتدمير الإيقاع، لا «النحوي» فحسب، بل — أيضًا — الإيقاع الموسيقي للجملة، إذا ما كان «بودلير» قد كتب على سبيل المثال: «تتقدم، في الشارع المهجور» و«الوحيدة الحية، في هذه الساعة …»١٨١ وعن «دوروتيه الجميلة» بالتحديد، كتب الشاعر إلى مدير «لاروفي ناسيونال» التي جرؤت على أن تُجري على نصه «تغييرات غريبة»:
    لقد قلتُ لكم: فلتحذفوا مقطعًا كاملًا، إذا ما كانت هناك فاصلة لا تعجبكم، لكن لا تحذفوا الفاصلة، فثمة سبب لوجودها.
    وأضاف، وهو ما يثبت الأهمية التي كان يوليها إلى بنية عباراته:
    لقد أمضيتُ حياتي كلها في تعلم بناء الجمل، وأقول — دون أن أخشى الضحك مني — أن ما أسلمه إلى المطبعة مكتمل بشكل محكم.١٨٢
    وفي كثير من الأحيان، يزداد بطء جُمل من هذا النمط، بسبب استخدام الشَّرطة التي توقف من سيرها («نعم، في هذا المناخ سيكون لنا أن نحيا جيدًا - هناك، حيث الساعات الأكثر بطئًا تحتوي على أفكار أكثر»)،١٨٣ أو بنقاط إطالة حقيقية تجعل وقفات التذكر الحالم محسوسة:
    على شاطئ البحر، كوخ جميل من الخشب، محاط بكل هذه الأشجار الغريبة الساطعة التي نسيتُ أسماءها … وفي الأثير، أريج مسكر وغامض … وفي الكوخ شذى ورد ومسك قوي … أكثر بعدًا، خلف أملاكنا الصغيرة، أطراف صوارٍ تؤرجحها الأمواج …١٨٤
    وثمة طريقة مدهشة أيضًا أثيرة لدى «بودلير»، تكمن في «استعادة» الكلمات التي تطيل الجملة، والتي تجعلها تعاود الانطلاق بشكل حلزوني:
    العالم المتخدر يتهاوى ببطء وينام القيلولة، /قيلولة هي نوع من الموت اللذيذ حيث النائم، وهو نصف مستيقظ، يتذوق لذات عدمه.١٨٥
    … هؤلاء الذين يحبون البحر/البحر الهائل، الصاخب والأخضر.١٨٦
    … ما كنت أغرق في عينيك الجميلتين للغاية، والعذبتين بغرابة، في عينيك الخضراوين، المسكونتين بالكبرياء ويلهمهما القمر …١٨٧
    طريقة الاستعادة هذه — التي تخلق، في آن، تعويذةً وإيقاعًا، وتسمح للجملة بالانطلاق من جديد مع دفقة جديدة — أكثر موسيقية من كونها منطقية، فقد مررنا بها — فيما سبق — في «أزهار الشر»،١٨٨ وهي تختلف عن اللازمة، التي سندرسها فيما يتعلق بالجملة الغنائية.
  • (٣)
    وعندما نعبر من تعرجات أحلام اليقظة إلى التدفق الغنائي (من «تبخر» إلى «تكثيف» الذات، إن شئنا)،١٨٩ فثمة دينامية داخلية معينة تتدخل لتنظيم الجملة بطريقة أكثر فاعلية، وتوجيهها نحو حركة صاعدة: فنهايات الجمل — بدلًا من أن تسقط بطراوة، أو تموت في موجات تطوي نفسها — تشير، على النقيض، إلى تصاعد الطاقة، وغالبًا ما تنطلق في صرخة: «طبيعة ساحرة بلا رحمة، غريم منتصر دائمًا، اتركيني!».١٩٠ وتُراكم الفقرة الأخيرة من «صولجان باخوس» — في جزئها المتصاعد الذي لا يقل عن ثمانية أسطر — سلسلةً كاملةً من الجمل الظرفية، كي تترك الجملة الرئيسية تتفتح — في النهاية — كسهم ناري: «… أحييكم في الأبدية»!١٩١
    وثمة تصاعد مماثل، لكنه يتعلق — هذه المرة — بقصيدة أخرى، هي «الرماية والمقبرة»، حيث تتطور الاندفاقة الداخلية انطلاقًا من بداية نثرية، في جمل قصيرة لتوسع — تدريجيًّا — من الإيقاع، حتى الانفجار الأخير في مناجاة مسهبة، من أنسنة «الموت»، وعلينا أن نضيف أن العودة الملحة لكلمة «الموت» — في نهاية الجملة — ثلاث مرات، تنتج نفس تأثير اللازمة المشئومة التي ترن مثل ضربة حزن، مثل «لا أبدًا ثانية»، لإدجار بو في قصيدة «الغراب» الشهيرة.١٩٢ إيقاعات، وأصوات، وصور («عطور الموت المحتدمة»، «كم كل شيء عدا الموت عدم») تتزاوج هنا لتمنح هذا التأمل حركةً غنائيةً مؤثرة، وتصبح أكثر تأثيرًا ربما، عندما نتذكر أن «بودلير» قد بلغ ضفاف الموت المظلمة، بالضبط في الفترة التي استأنف فيها صرخته في «موت الفقراء»:

    إنه الموت ما يُعَزِّي، وا أسفاه! ويُحيي.

    وبديهي أن الاندفاقة الغنائية كثيرًا ما تقربه — وأحيانًا بشكل خطر — من حركة الفصاحة الخطابية الكبرى، وهو ما يحدث في القصيدة القصيرة «فلتسكروا»، حيث يخاطب الشاعر القارئ (وهو أمر دال الآن) ضمن حركة واسعة على طريقة «هوجو»، دون أن تفتقر إلى البلاغة:

    وأحيانًا إذ تستيقظون، على عتبات قصر، على العشب الأخضر لقبر، في العزلة الكئيبة لغرفتكم،١٩٣ وقد خفتت الثمالة الآن أو تلاشت، فتسألوا الريح، والموجة، والنجمة، والعصفور، وساعة الحائط، وكل ما يفر، كل ما يئن، كل ما يدور، كل ما يغني، كل من يتكلم،١٩٤ اسألوا كم الساعة، والريح، والموجة، والعصفور، وساعة الحائط١٩٥ سيجيبونكم: «إنها ساعة الثمالة …»١٩٦

    ولا فائدة من التأكيد على ما في تركيب كهذا من اصطناع، سنشعر بذلك — على نحو أفضل — إذا ما وضعنا في مقابله التماثلات ذات الدلالة التامة، والبلاغة المؤثرة للغاية! في الحركة الغنائية الكبرى التي تُخْتَتَم «في الساعة الواحدة صباحًا»:

    ساخطًا على كل شيء وساخطًا على نفسي، كنتُ أريد أن أعيد شراء نفسي وأن أزهو قليلًا بنفسي في صمت ووحدة الليل، يا أرواحَ من أحببتهم، ومن تغذَّيتُ بهم، فلتمنحيني القوة، سانديني، أبعدي عني الكذب وأبخرة العالم المفسدة، وأنتم، سيدي يا إلهي! فلتمنحني نعمة إنتاج بضعة أشعار جميلة تثبت لنفسي أنني لستُ آخر الرجال، وأنني لستُ أقل من هؤلاء الذين أحتقرهم.١٩٧

الأنساق الأسلوبية والإيقاعية

يقودنا ذلك إلى أن نطرح — بشكل أكثر عمومية — مسألة أنساق الأسلوب، وخاصةً التماثلات في النثر البودليري، وفي دراسته لقصائد «سأم باريس»، يولي «جيران» أهميةً — أعتقد أنها زائدة — للأنماط المختلفة للتماثل التي نقابلها،١٩٨ تماثل الأسماء والصفات، والأفعال والقضايا، وتنحصر قيمة الأمثلة التي يطرحها — في الواقع — في حقيقة أن:
  • (١)
    التماثل أحيانًا ما تقوده الفكرة نفسها (الغرفة المزدوجة)، أو نغمة الفقرة (نغمة ابتهالات تكاد أن تكون الخاصة بالصلوات، في الفقرة الختامية ﻟ «في الساعة الواحدة صباحًا»، التي سبق أن ذكرتها)،
  • (٢)
    غالبًا ما ينحو «بودلير» (هل بتأثير تربيته الكلاسيكية؟) إلى تجميع الأسماء والصفات أو الأفعال بصورة مزدوجة، أو حتى ثلاثية: «متلألئ بالألعاب والبونبون، زاخر بالجشع واليأس»،١٩٩ «كان صامتًا وساكنًا. كان زاهدًا وكان معتزلًا».٢٠٠ ويحدث أن يقوده هذا البحث إلى منافذ خاطئة: «وسط هذا التشوش وهذا الضجيج»، «وسرعان ما أصبح كل واحد سعيدًا، وتخلى كل واحد عن مزاجه السيئ».٢٠١ لكن، إذا ما نظرنا عن كثب، ألن نلاحظ أن «بودلير» يترك نفسه — بشكل خاص — لينقاد إلى هذه الإعادات الخطابية وإلى هذه التماثلات التي لا تتعلق بالتركيب فحسب، بل — أيضًا — بالإيقاع، في النصوص التي تقوده — بحكم موضوعها — إلى النثر مباشرة؟ هكذا، نقرأ في «المرآة»: «من وجهة نظر الإدراك السليم، كنتُ محقًّا ولا شك، لكن من وجهة نظر القانون فهو لم يكن مخطئًا»،٢٠٢ وفي «حصان أصيل»: «… ولم ينزع الزمن أي شيء/ من عُرفه الغزير/ الذي يفوح منه في أريج وحشي/ كل حيوية الجنوب الفرنسي الشيطاني: نيم اكس، آرل، آفينيون، ناربوني، تولوز/ مدن مباركة بالشمس/ عاشقة وساحرة!»٢٠٣ وفي «الكلاب الطيبة»: «عبر الضباب/ عبر الجليد/ عبر الطين٢٠٤/ تحت القيظ اللاذع/ تحت المطر المنهمر٢٠٥/ يذهبون، يأتون، يركضون …»٢٠٦ ويبدو أنه يطلب من البلاغة، والوزن، والتماثلات الشكلية، هيكلًا يدعم إلهامه الخائر، ويمنح — طوعًا أو كرهًا — شكلًا «فنيًّا» لموضوعات ليست كذلك إطلاقًا، وعلى العكس من ذلك، يبدو أن «بودلير» — في أفضل أيامه — كان يقاوم «شيطان التماثلية» إلى حد تجنبه — بشكل خاص — المقاطع المتشابهة والإيقاعات الثنائية.
  • (٣)
    وعلينا أن نؤكد أننا إذا ما وجدنا — في الواقع — تماثلات منطقية كثيرة في نثر «بودلير»، فإن التماثلات الإيقاعية (الوزن الثنائي، والمتشابه المقاطع) نادرة للغاية فيه، وفي أغلب الحالات، يكسر «بودلير» الإيقاع عن عمد، ويشكِّل من نثره حركة تموج واندفاق، بأكثر من أن تكون حركة توازن معماري: والانطباع — كما يعترف «ج. جيران» — «كتلة وسكونية تقل عن السلاسة والانسيابية».٢٠٧ فهو لا يكتب، على سبيل المثال (كما يلاحظ «بلان» و«كريبيه») في «نصف كرة في خصلة شعر»: «يحركهم/ مع يدي/ مثل منديل»، بل «مثل منديل معطر …» فالصفة «تقطع — كما يبدو — الإيقاع البالغ السهولة».٢٠٨ وبالمثل، فنحن لا نقرأ في قصيدة «أي مكان خارج العالم»: «هنا يمكننا/ أن نأخذ حمامات ظُلمة طويلة/ كي نتسلَّى، أثناء ما …/» التي يمكنها — رغم ضعفها الشديد — أن تؤسس إيقاعًا زوجيًّا (٨  +  ٨)، بل تقرأ «غير أن …»٢٠٩ ولي — أيضًا — أن أعتقد، عن طيب خاطر، أن سخط «بودلير» على مدير «لاروفي ناسيونال» — الذي غيَّر في نوبة من الحصافة جملة «وشد تمامًا من قامته الطويلة، وظهره المحدودب، ورقبته الذلقة»، في «دوروتيه الجميلة»، إلى «وشد تمامًا هيئات جسده»٢١٠ — كان من الممكن أن ينشأ، أيضًا، من أن الكتابة الثانية تنهي الفقرة بالبحر السكندري، وهو ما حرص «بودلير» دائمًا على تجنبه باهتمام بالغ: ولا أعتقد أننا يمكن أن نجد نهاية واحدةً من هذا النوع في «سأم باريس». (وهكذا، فإن بيت «خصلة الشعر»

    مِن زيت جوز الهند، من المسك والقطران

    يصبح، في قصيدة النثر: قطران، ومسك، وزيت جوز الهند»، وهو — ونقول ذلك بلا إلحاح — ما يمكن أن يكون حجةً على أسبقية قصيدة النظم).٢١١
وأن يكون «بودلير» — كما يقول «دانييل-روبس» — «قد بحث بعناية عن الأوزان الفردية والتوافقات المتقطعة»،٢١٢ فإن الدراسة التفصيلية — لأيٍّ من القصائد الغنائية — ستثبت ذلك بأكثر مما يكفي، وها هي كي نكتفي بمثال واحد، بداية «الغرفة المزدوجة»:
غُرفة تشبه حلم يقظة،
غرفة حقًّا روحية،
حيث الأجواء الراكدة
ملونة بخفة
بالوردي والأزرق.
الروح تأخذ فيها حمام كسل،
معطر بالندم والرغبة.
إنه شيء غسقي،
مائل للزرقة مائل للوردي،
حلم باللذة
أثناء الخسوف.٢١٣

وسيادة الفردي بديهية هنا، ودراسة قصائد أخرى لن تؤدي إلَّا إلى تدعيم هذا الانطباع.

ويبدو أن «بودلير» تجنب — بشكل خاص — نهايات الجمل، وبالذات في نهايات الفقرات لا الإيقاعات الزوجية فحسب، بل — أيضًا — الإيقاعات العريضة و«الأوزان الكبرى».٢١٤
وهكذا، في «دعوة إلى السفر»: «إنها أيضًا أفكاري الخصبة/ التي تعود من اللانهائي/ نحوك».٢١٥ (والأثر الناتج هو تقريبًا أثر رفض، بنزع الكلمة الأساسية)، ونفس الأمر في قصيدة «لكلٍّ خرافته»؛ إذ أعتقد أنه يجب حذف الكلمة الأخيرة، ذات النهاية المذكَّرة، التي تتحطم عليها الجُمل الختامية، وقد توقف انطلاقها:
… قابلتُ رجالًا كثيرين/ كانوا يسيرون/ منحنين.
… هؤلاء المحكوم عليهم/ بأن يأملوا/ دائمًا.٢١٦

إيقاع مكسور يتوافق — هنا — مع اليأس الكئيب للشخصيات.

وبشكل عام، يبحث «بودلير» — من ناحية — عن إيقاع تعبيري، ويحترس — من ناحية أخرى — من «الشعر المنظوم داخل النثر»، ومن «النهايات الجميلة للجُمل» على طريقة «شاتوبريان»، ومن كل أنساق النثر — «الشعري» و«الموزون» — المتكلفة.

وبالمثل، فليست الموسيقى اللفظية والتوافقات البارعة للصوتيات من مآثره، فهو يقتصر على البحث عن الجناس الصوتي التعبيري، فيكتب، مثلًا: les eaux elles-mêmes sont comme endormie (المياه نفسها كأنها نائمة)،٢١٧  le bruit éclatant d’un palais de cristal crevé par la foudre (الصوت المدوي لقصر من الكريستال، وقد دمرته الصاعقة)،٢١٨  La Lune descendit moëlleusement son escalier de nuages (ينزل القمر بنعومة سُلَّمه الغيمي)،٢١٩ (تصحيحًا لكلمة lestement — بخفة — التي كانت أقل إيحاءً بكثير)، وعلى أية حال، لا يتعلق الأمر بنسق منتظم (مثلما لدى «برتران»)، والتجانسات الصوتية، أو السجع، أقل بكثير — هنا — عما في «أزهار الشر».٢٢٠ وعندما يكتب «بودلير» «إنها نوع من الطاقة التي تنبع من الملل ennui أو من حلم يقظة» rêverie»،٢٢١ فهذا الشلال من اﻟ i لا يبدو مقصودًا ولا معبرًا عن شيء سوى عن نوع من اللامبالاة بالترخيم الصوتي، وهي نفس اللامبالاة التي تتضح عندما نقرأ: «محبوس في أعماق قوتي العقلية confiné au fond de mon intellect»،٢٢٢ أو: «السؤال الوحيد l’unique question»٢٢٣ وهو أمر حقيقي، في قصائد متأخرة، شأن تكديس qui (مَن) وque (ما) في «الكلاب الطيبة»: ces pauvre diables qui ont à affronter tous les jours l’indifférence du public et les injustices d’un directeur qui se fait la grosse part et mange à lui tout seul plus de soupe que quatre comédiens (هؤلاء الشياطين البائسون مَن عليهم كل يوم مواجهة لامبالاة الجمهور وانعدام عدالة مدير، مَن يجعل لنفسه النصيب الضخم ويتناول وحده من الحساء مَا لأربعة من ممثلي الكوميديا).٢٢٤
علينا — إذن — أن نقبل أن «بودلير» إذا ما تمسك بتبني الحركة الداخلية في حركة الجملة، التي يجب أن توحي بها، وإذا ما كان يبحث عن الإيقاعات والأصوات المعبرة، فإنه يرفض البحث عن الموسيقية في ذاتها، وإضفاء أهمية على الشكل في ذاته، وسنلاحظ — بالمثل — أن استخدام اللازمة يتوافق في أغلب الأحيان (وحتى في قصائد عام ١٨٥٧م) مع غاية نفسية أكثر منها جمالية، ويصطنع — مثلما لدى «بو» — «استحواذ الكآبة المبهمة أو الفكرة الثابتة»، إن لم يلعب، بتنويعاته على «البلادة واللامبالاة».٢٢٥ ولا شيء مشترك بين تكرار التعبيرات أو الجمل في «سأم باريس» واللازمة المجلوبة بعناء في «أغنية صانع الزجاج» لهوساي، وقد سبق أن أشرت إلى القيمة الإيحائية لهذا «الموت» المتكرر ثلاث مرات في «الرماية والمقبرة».٢٢٦ واستعادة كلمات «إنه أنتِ … إنه أنت أيضًا … نحوك» في «دعوة إلى السفر»،٢٢٧ تكشف «الفكرة الثابتة» لدى الشاعر، ألا وهي إقامة التطابق بين المشهد والمرأة المحبوبة، وفي «الرامي الأنيق»، هو استحواذ المرأة «الحتمية»، «الشهية، والكريهة» في آن، الذي يترجمه تكرار الصفات «امرأته العزيزة، الشهية والكريهة».٢٢٨ وفي قصيدة «سابقًا»، حيث يتكرر في الخاتمة — بشكل مختلف — مقطع شعري بكامله مملوء بالإيحاءات الشهوانية، نستطيع أن نرى فيه البحث عن حركة متكاسلة ومهدهدة:
«ورغم هذا كانت الأرض، الأرض بصخبها وأهوائها، بترفها وأعيادها، كانت أرضًا خصبةً ورائعة، تحفل بالوعود، التي تبعث لنا أريجًا غامضًا من الورد والمسك، ومنها كانت موسيقى الحياة تصلنا في همهة عاشقة».٢٢٩
ومن المؤكد — على أية حال — أن هذه الاستعادات، والتكرارات، واللازمات، رغم «تعبيريتها»، تلعب — أيضًا — دورًا في بنية القصيدة، وتساهم في تحقيق وحدتها، في طابعها المركب «كله» والجمالي، وفي قصيدة «نصف كرة في خصلة شعر»، تعبر لازمة «شعركِ … خصلة شعركِ» — بلا شك — عن استحواذ شَعر امرأة، والقوة المسكرة للأحاسيس والأحلام التي يمنحها للشاعر، لكنها تسمح — أيضًا — بخلق إيقاع سيفرض على هذه الأحاسيس شكلًا فنيًّا. وهذه القيمة المزدوجة، التعبيرية والفنية، التي أكد عليها من قبل «ج. رينولد» — عن حق — فيما يخص التكرارات واللوازم الكثيرة في «أزهار الشر»،٢٣٠ تقودنا إلى بعض التأملات الأكثر عمومية حول نثر «بودلير» الشعري.
والنثر الشعري — كما يدركه «بودلير» — عليه أن يحقق «معجزةً» حقيقية (إنها الكلمة التي يستخدمها): معجزة التوازن بين النثر والشعر، بين التعبير والإبداع، فبودلير — فيما يعارض، من ناحية، المفهوم الشكلي الصرف عن الجمال — يرفض أن يفرض على نثره أُطرًا جاهزةً سلفًا وزخارف مموهة، ويبحث — عبر جُمل سلسة شفافة، بلا زوائد — عن اقتران أكبر قدر ممكن من الدقة بحركات الكائن الداخلي، وهو — من ناحية أخرى — يشعر تمامًا بأن العمل الفني لا يمكن أن يوجد بدون «قدرٍ ما من التعقيد، أو — على نحو أدق — من التركيب»،٢٣١ الذي يكشف التدخل الفني للشاعر، الذي يفرض على المادة شكلًا وانسجامًا، وربما يمكن تلخيص هذا الطموح المزدوج في الصفة «موسيقي» التي يسم بها هذا النثر الشعري المثالي، القادر على التوفيق بين تموجات الحياة والتماثلات الثابتة لخطوط الجمال.٢٣٢
وهكذا، سيبدو لي من المفيد — بشكل خاص — المقارنة بين القصائد التي تعالج نفس الموضوعات، الواحدة نظمًا والأخرى نثرًا، فهي تمكننا من أن نرى كيف يسعى «بودلير» — وهو يعبُر من النظم إلى النثر (والعكس أكثر ندرة)، محافظًا على الفكرة الشعرية، وبواسطة تقنيات شديدة الاختلاف — إلى انتظام هذا النثر في قصيدة، محافظًا على سلاسته، وقد سبق أن أشرت٢٣٣ إلى أن «بودلير» كان يفكر — عام ١٨٥٧م — في كتابة نثر «مناظر» ﻟ «أزهار الشر» وفي عام ١٨٦٦م، سيقول — أيضًا — إن «سأم باريس» يجب أن «يكون مناظرًا» ﻟ «أزهار الشر»،٢٣٤ وتُظهر قصائد ١٨٥٧م هذه، حسبما قلت، انشغالًا بالمعمار والإعداد الفني البالغ الخصوصية، ولا يقل عن ذلك أهمية أن نكشف اختلاف التقنيات والنتائج بين النظم والنثر. وسأحاول الإشارة إلى ما يتعلق بقصائد «نصف كرة في خصلة شعر» و«دعوة إلى السفر» و«حافز مزدوج»،٢٣٥ باعتبارها ذات أهمية كبيرة، لا بالنسبة لدراسة «بودلير» فحسب، بل أيضًا لدراسة قصيدة النثر، واحتمالاتها ومخاطرها.

قصائد نثر وقصائد نظم

ليس مؤكدًا أن «خصلة الشعر» (المنظومة) قد سبقت «نصف كرة في خصلة شعر»،٢٣٦ لكن الموضوعات الشعرية واحدة، ورغم هذا، «فبنفس الصور، ونفس الإشارات، ونفس النغمات، ينجح النظم والنثر في إصدار أصوات مختلفة»، كما يكتب «كريبيه» و«بلان» اللذان قاما — في طبعتهما المحققة من «أزهار النثر»، وبطريقة شديدة التحديد — بالمقارنة بين النصين (النصوص الثلاثة بالأحرى)؛ إذ تحتوي «نصف كرة في خصلة شعر» على بعض الآثار الواضحة للغاية من «عطر غرائبي»، وهي قصيدة سابقة — هذه المرة، ولا شك — على قصيدة النثر،٢٣٧ وتكشف هذه المقارنة — تمامًا — مسيرة الشاعر المزدوجة، الذي ينحو — أحيانًا — نحو القصيدة ويستعير — من النظم — بعض الأدوات الشكلية (لازمة، سجع، جناس، ترتيب في مقاطع غنائية)، ويقف — أحيانًا، على النقيض — ضد الأساليب الشكلية، وتماثلات الإيقاع والرطانة الشعرية، بما يسمح — بالتالي — ﺑ «مسحات ملموسة لا يستطيع الشعر المنظوم أن يتحملها دون انفجارات تصويرية خالصة».٢٣٨
ولا شك أن النثر لا يمكنه أن يفكر في منافسة الشعر على أرضه الخاصة به، أرض النظم: فنسيجه الأقل انشدادًا يمنعه من تبلورات معينة، وتراكيب ساطعة معينة، وفي مواجهة هذه القصائد المنظومة، التي يمتدح فيها «ج. رومان» — عن حق — «الكثافة التي لا نظير لها»:٢٣٩
شعور زرقاء، وسُرادق من الظُّلمات الممدودة،
تمنحونني لازورد السماء الهائلة والمستديرة.
يكتب «بودلير»، بشكل مسطَّح إلى حدٍّ ما: «في لا نهائية شَعرك، أرى تألق لا نهائي اللازورد الاستوائي»، فيلغي الصفة المدهشة «زرقاء»،٢٤٠ وصورة السماء «الهائلة والمستديرة»، التي كانت تحدد — جيدًا — «قبة السماء» هذه، التي كثيرًا ما ذكرها «بودلير».٢٤١ وعلى نفس النحو، وأمام إشارات تصويرية عن «الساعات المحسوسة للميناء، بين آنية الزهور والقلل المنعشة» (إنه السفر إلى جزيرة موريس)، فأي ثراء معنى وإيقاع في هذه

الهدهدات اللانهائية لوقت الفراغ المعطَّر

حيث ينجح «بودلير» في أن يحشد — في المساحة الضيقة لبيت من اثنتي عشرة تفعيلة — توليفةً من العطر، والحركة، والإحساس بالكسل، والشعور باللانهائي! «كثافة بلا نظير»، بالتأكيد، لكنها — بالأساس — خلق ﻟ «كلمة شاملة، وجديدة»، كما سيقول «مالارميه»،٢٤٢ حيث تتحد الإيحاءات وصوتيات الكلمات المترابطة، وتمتزج بلا انفصال، خالقة بذلك «موضوعًا» شعريًّا جديدًا، والنثر — وخاصة نثر «بودلير» التحليلي عن عمد — لا يمكن أن يستفيد من تضييق كهذا. وعلى الجهد الإبداعي أن يتوجه نحو بنية القصيدة ككل (والقصيدة القصيرة للغاية بالضرورة)، كي يخلق منها كُلًّا، وحدةً منسجمةً ومكثفة، هنا يلجأ «بودلير» — من أول القصيدة حتى آخرها — إلى استدعاء ﻟ «أفكار» (تجسيد الذكريات الغرائبية في الشعر) و«صور» (صورة المحيط مثلًا، تمتد عبر استدعاء «ميناء» و«شواطئ») و«كلمات» و«صوتيات» (تكرار كلمة «خصلة شعر»، وهي مدهشة بشكل خاص)، و«إيقاعات» (يتم خلق الإيقاع — هنا — عن طريق البدايات المتشابهة، مثل بناء وإصاتة المقاطع ٤ و٥ و٦، مع نوع من الخاتمة في المقطع الأخير، كنوع من تضييق الإيقاع: «في بؤرة شَعرِك الحارة … في ليل شَعرك … على ضفاف شَعرك الزغبية …»). وكما في قصيدة النظم، تنتهي قصيدة النثر باستدعاء للعلاقة «chevelure-souvenirs — شَعر/ ذكريات» (اندماج الملموس بالمجرد: «آكل الذكريات» ترد على التعبير الجميل للبداية: «كي أهز ذكريات في الهواء»)، ولا أتردد — لدى المقطع الأخير من القصيدة المنظومة، الضعيفة والمفتعلة — في تفضيل هذه الجملة الأكثر أُلفة وحميميةً في آن: «عندما أعضعض شَعرك الطَّيع والمتمرد، يبدو لي أنني آكل ذكريات».
وجدير بنا أن نذكر — فضلًا عن ذلك — نغمة البوح الحميم، والشخصي، التي تتبناها قصيدة النثر (لاحظ وفرة الصياغات الشخصية: ألمح، أجد ثانية … إلخ)، والتي تجعل منها شيئًا مختلفًا تمامًا — في النهاية — عن قصيدة النظم، التي تحتفي بالغنائية الصوتية، والاستدعاءات البراقة وذلك رغم أن الموضوعين مُركَّبان، فالنظم الشعري يميل إلى الألفاظ الصاخبة، الفخيمة أو العتيقة: «غابة معطِّرة»، «في الذهب وفي تموج النسيج»، «عنق، كسل، نشوة»، والمفردات — في النثر — أكثر بساطة (سفر، في مقابل اندفاع، بحار كبيرة في مقابل بحر أبنوس، روائح في مقابل عطور)، فالكلمات الملموسة والتصويرية سائدة: «ريح موسمية، جلد إنساني، آنية الزهور وقُلل منعشة …». وتميز هذه المفردات — الأكثر بساطة، وتحديدًا — قصائد «سأم باريس»، بالمقارنة مع قصائد «أزهار الشر» وبشكل عام، فن النثر (ولا أقول النثر الشعري!) بالمقارنة مع الشعر المنظوم، وعلى أية حال، فلا يخلو شعر «بودلير» المنظوم — دائمًا — من أوتاد معينة، وبعض الحشو، وبعض التواءات الأفكار التي تقود إليها متطلبات الوزن والقافية، فجملة «عالم بكامله بعيد، غائب، ميت» خطابية إلى حد ما، والترنح لا «يلاطف» على وجه الإطلاق، فهو — بالأحرى — «يهدهد» (كما يقول النثر)، ولن أعود إلى اليد التي تبذر «الياقوت واللؤلؤ والياقوت الأزرق»، في المقطع الشعري الأخير … ولنرصد — أخيرًا — أن «ضفاف» أكثر إيحاءً بكثير من «أطراف» («على الأطراف الزغبية لخصلاتكم الملتوية»)، الضرورية بسبب طول بيت الشعر.
لدينا هنا — إذن — شهادة مفيدة عن جهد «بودلير» المزدوج، للهروب — من ناحية — من عبوديات ليست خاصة بالوزن فحسب، لكن — أيضًا — ﺑ «النغمة الشعرية»، وللعبور من المناجاة الخطابية، إلى حدٍّ ما («أيها الشعر … أيتها الخصلات!») إلى البوح همسًا («فدعيني أتنفس طويلًا … إذا ما استطعتِ أن تعرفي …»)٢٤٣ — ولكي يضفي — من ناحية أخرى بفضل قوة الرمز والبنية المحكمة للمقطوعة، شكل القصيدة، العضوي — قبل كل شيء — على هذا الإيحاء البالغ الجمال.
وفي حالة «دعوة إلى السَّفر»، تستعيد قصيدة النثر لعام ١٨٥٧م موضوعًا سبقت معالجته نظمًا عام ١٨٥٥م (يبدو أن الملهمة هي «ماري دوبران»)،٢٤٤ بروح شديدة الاختلاف، فالفكرة — الواردة ببساطة في «دعوة» الأولى عن التشابه بين المرأة والوطن («في الوطن الذي يشبهك») — تصبح الفكرة المنظمة، الخلية الأم لقصيدة النثر: منذ بداية ظهور هذه اللازمة المستعادة بلا كلل: «حيث كل شيء يشبهك … قُطر يشبهك … هذه اللوحة التي تشبهك»، وصولًا إلى المقطوعات الشعرية الأخيرة، التي تطور الفكرة طويلًا، والأثيرة لدى «بودلير»، عن التطابقات٢٤٥ بين الإنسان والكون، فإننا نرى الموضوع يتسع، ونمر من التشابه إلى الهوية المكتملة، وفي ختام هذا التصاعد، يوحد «بودلير» — أولًا، من خلال رمز مزدوج وشعري — المرأة بالوردة: («وردة بلا نظير، توليب مستعادة، داليا مجازية … هنا … يجب الذهاب للعيش والازدهار»)، ثم يوحد — فيما يعكس الكلمات — الوطن بالمرأة: هذا الوطن الرائع، هذا الأثاث الفاخر، «إنه أنتِ»، كما قال لها، هذه الأنهار، هذه القنوات، «إنها أيضًا أنتِ»، طريقة بلاغية؟ طبعًا هناك ما هو أكثر في فكرة التطابق هذه بين أصغر وأكبر ما في الكون، التي تنطلق من المبدأ الأعلى للوحدة الكونية، التي ستخصب — فيما بعد — النظرية الرمزية كلها.٢٤٦ ولا تتبدى لي البلاغة إلا في مجاز الخاتمة، حيث تصبح الزوارق أفكار الشاعر التي تمضي نحو «البحر الذي هو اللانهائي»، ثم تدخل «إلى ميناء البلاد»، أي «تعود مرة أخرى من اللانهائي نحوك». هذه المرة، نشعر بالجهد في هذا النسق الاستعاري، الذي يحل محل اللوحة المضيئة والهادئة المستدعاة في ختام القصيدة المنظومة.
وإذا ما كانت القصيدة المنظومة أرفع شأنًا، فلا يرجع ذلك فحسب — كما أعتقد — إلى إيقاعها الذي لا يمكن تقليده، والناتج عن ترابطات الأبيات الفردية، وهذه الأرجحة التي وصف «ج. دي رينولد» سحرها،٢٤٧ وحاول «دوبارك» إعادة إنتاج أرابيسكها موسيقيًّا، بل لأنها — أيضًا — تحقق انسجامًا نادرًا في الإيحاءات والتصورات المنتظمة، لخلق عالم من الجمال الشهواني والهادئ، عالم لا تتعكر فيه الروعة المثالية بأي استدعاء بالغ التحديد، أما الموضوع المختلف إلى حدٍّ ما، الذي قدمه «بودلير» نثرًا، فكان بمقدوره — أيضًا — أن يبني عالمًا منسجمًا من التوافقات الرمزية: فأي شيء أكثر شعرية — للوهلة الأولى — من فكرة إثراء لوحة بالأصداء والتوافقات الروحية؟ وهذه الاستدعاءات التي لا تنتهي — للفكرة الرئيسية التي يتزايد تأكيدها دائمًا — ألم تكن ملائمة لإبداع «كُلٍّ» إيحائي؟ والواقع أن أسباب فشل «بودلير» (النسبي) تعود إلى سبب واحد: التطور، فكل ما كان مُوحى به — ببساطة — أو في ابتدائه، في القصيدة المنظومة يوجد مستعادًا، ممتلئًا بالتفاصيل، وواضحًا في النثر: فوطن الحلم، المشار إليه في غموض، نجده محدد الموقع — جغرافيًّا — بالإشارة إلى «الفلورين»، وأزهار التوليب، والكلمات المجردة للَّازمة الشهيرة:
هنا كل شيء ليس سوى نظام وجمال،
رفاهية، وسكينة، ونشوة

تتلقى تعليقًا غير متوقع — إلى حدٍّ ما — من خلال وصف «بلاد النعيم»

حيث تستمتع الرفاهية بأن تتملَّى نفسها في النظام، حيث الحياة دسمة وعذبة في استنشاقها، ومنها تُستبْعَد الفوضى والصخب والمفاجئ، وحيث تقترن السعادة بالهدوء، حيث المطبخ نفسه شعري، ودسم ومثير في آن …

وبعد! كان ذلك هو كل حلم الجمال الشهواني لبودلير. حياة مريحة، وهادئة، ومطبخ «دسم ومثير»!٢٤٨ وبدلًا من إدانة المادية الرجولية، أُفضل أن أعتقد أن هذا الوصف لبلد «حيث كل شيء يشبهك، يا ملاكي العزيز» — كما يضيف الشاعر — لا يخلو من تهكم لاذع على الملهمة، ولا يقل عن ذلك حقيقيةً أن هذه السخرية غير المتوقعة وبالمثل، المبالغة إلى أبعد حد في التفاصيل (في وصف المنازل؛ إذ ربما حصل «بودلير» على بعض الذكريات من «بو»)،٢٤٩ والميل إلى الاستطراد (بخصوص الحلم)، أو الاستدلالات المجردة التي تُسهب في التحليل، في حين أن «الروح الغنائية تقوم بقفزات واسعة نحو التركيب»٢٥٠ كل هذا يطيل القصيدة، ويقحم فيها — على نحو ما — عناصر غريبة مستمدة من النثر، تعوق «البلورة الشعرية، ولا شك أنه سيكون شاقًّا وظالمًا أن نطبق على «بودلير» نتائج «بو»: «إنها المبالغة في التعبير عن المعنى الذي لا يجب إلا أن يكون موحى به، إنها طريقة التنفيذ، والتيار التحتي للكتاب، والتيار المرئي والأعلى، الذي يُحَول الشعر المزعوم للاستعلائيين المزعومين إلى نثر، وإلى أكثر أنواع النثر تسطيحًا».٢٥١ لكن، إذا ما كان نثر «دعوة إلى السفر» ليس «من أكثر أنواع النثر تسطيحًا»، فإنه يبدو لنا — بالأحرى — أشبه بحلم يقظة، أكثر من كونه عملًا جميلًا، نثرًا جميلًا للغاية أكثر من كونه قصيدة،٢٥٢ إن تكرار التعبيرات والأفكار التي بحث عنها «بودلير» عن عمد (قارن فيما سبق) يظل غير كافٍ لمنح الوحدة والتماسك لهذه القصيدة الطويلة جدًّا، وهي — على أية حال — ملاحظة لا يمكن تعميمها إلا على «سأم باريس»، حيث أفضل القصائد (صلاة اعتراف الفنان، لكل خرافته، نصف كرة في خصلة شعر، محاسن القمر … إلخ) هي — أيضًا — أقصرها، هذه القاعدة المتعلقة بالقصيدة القصيرة — التي سبق أن عرضها «بو»، والتي تمثل أحد القوانين الأساسية لقصيدة النثر — أثبتت صحتها إخفاقاتُ ونجاحاتُ «بودلير»، وربما لن يكون من المبالغة — على أية حال — الاعتقاد بأن تنظيمه الشعري كان يتطلب — في النثر، كما في النظم — أُطرًا مختصرةً وصارمةً إلى حدٍّ ما (في السوناتا، على ما كتب إلى صديق: «لأن الشكل إجباري، تنبعث الفكرة بشكل أقوى»).٢٥٣ وبالنسبة له، كانت حرية النثر خطرًا دائمًا.

خطر أكثر رعبًا، وهو أمر واضح لكل ذي عينين، في القصائد «الباريسية» ذات الشكل المفتوح والرابسودي عمدًا، وأكثر خطورة — أيضًا — بقدر ما لم يعد «بودلير» — الذي يشيخ، والمستهلَك، والمريض — قادرًا على المحافظة، في قصائده، على نفس الصرامة الفنية، وفي الختام، علينا — في لحظة «الحساب النهائي» لبودلير — أن نراعي جميع هذه العناصر.

(٣) حساب بودلير الختامي

جِدَّة وأهمية المحاولة
الإخفاقات وأسبابها. ميراث بودلير
«سأجيء لكم بشيء ما في الغد»، ذلك ما كتبه «بودلير» إلى «هوساي» في أواخر عام ١٨٦١م، فيما يتعلق بسلسلته الأولى من قصائد النثر،٢٥٤ «التي أوليها أهميةً مبالغًا فيها ربما، بسبب ما عانيته في سبيل إتقانها. أخيرًا! لكنني أعتز بوجود شيء جديد — هنا — كإحساس أو كتعبير». وعلينا — في الواقع — أن نضيف إلى رصيد «بودلير» جِدَّة وأهمية محاولته في هذين المجالين، الإحساس والتعبير.٢٥٥
ولا يمكن أن ننكر — أولًا — أن «بودلير» هو المبدع الحققي لشعر حديث ومديني، غني بالأحاسيس الجديدة، المتفردة، حيث نراه يوحد «المرعب بالهزلي، بل حتى الرقة بالحقد».٢٥٦ والنثر — الذي يقترن، على نحو أكثر دقة، بكل دوامات الكائن الداخلي — لهو أكثر قابلية، من الشعر المنظوم الحديث: الاندفاعات والضغائن، الطموحات إلى اللانهائي والشكوكية المُحَرِّرة من الوهم، فبودلير يُدخِل في الشعر، كما قلت — عن طريق قصيدة النثر — «نبرات» تهكمية جديدة، وسخرية، وقسوة، وإذا ما فشل — على الأغلب — في محاولاته في شعر «تسكعي»، فإنه يبدو قديرًا — بالمقابل — عندما يعثر على موضوعاته الغنائية الأساسية، وعلى معالجتها نثرًا بنبرات مختلفة، تستعصي أحيانًا على النسيان.
فهل يجب أن نؤكد — من ناحية أخرى — على الدور الذي لعبه «بودلير» في تجديد التعبير الشعري؟ فاعتبارًا من عام ١٨٦٢م، بعد ما نُشِر في «لابريس»، أكد «بانفيل» على «البرهان الهام» الكامن في اختيار النثر كشكل شعري:

أيها المجانين أصحاب الأطوار الغريبة الذين يتخيلون أنه مع توازن معين في المقاطع اللفظية، وفي إرجاء المعنى، وفي التكرار المنتظم لبعض الأصوات، قد مُنِحوا الامتياز الخارق لولادة كائنات!

هكذا كتب دون افتقار إلى تفخيم الكلام،٢٥٧ و«جوتييه» — الذي أقر عام ١٨٦٨م بأن «لغتنا الشعرية ليست مهيأةً على الإطلاق للتفاصيل النادرة والدقيقة، وخاصةً عندما يتعلق الأمر بموضوعات الحياة العصرية، المألوفة، أو المرفهة» — سيرى أن «قصائد النثر القصيرة تأتي في الوقت المناسب لتتلافى هذا العجز».٢٥٨ وإزاء قصائد «برتران» الصارمة، كان «بودلير» يطرح مبدأ (ويقدم النموذج) لشكل سلس، متنوع بلا نهاية، وقابل للمؤثرات الأكثر تنوعًا، وأقل تصويرية من كونه موسيقيًّا: وستظهر أهمية محاولته، بشكل أفضل، عندما تستلهم المحاولات المبذولة في زمن الرمزية — من أجل تجديد الشكل الشعري، والعثور على خَلَف للشعر الكلاسيكي القديم، البالغ الصرامة — «سأم باريس»، وتعلن أنها تنتسب إليه: وستستدعي المقدمة/ الخطاب المرسل إلى «أرسين هوساي»، لتصبح — بشكل خاص — بيانًا حقيقيًّا.
ولا شك أن قصائد «سأم باريس» ذات قيمة غير متساوية تمامًا، لم يجهل «بودلير» نفسه ذلك، فقد كتب في ٥ مارس ١٨٦٦م، إلى «تروبا» (قبل بضعة أيام فحسب من حادث «نامور» الذي وضع نهايةً أخيرةً لنشاطه الأدبي): «آه! «السأم»، أي غيظ وأي عمل شاق سببه لي! ما أزال مستاءً من بعض أجزائه». وعلينا أن نميز بين القصائد التي ظهرت في «لابريس» عام ١٨٦٢م، والتي ما تزال تنتمي إلى مرحلة النضج والمقدرة الأدبية، والقصائد الأخيرة التي تشير إلى طريق الانهيار والعجز عن الكتابة، وفي الأوقات الأخيرة، لن يقوم «بودلير» إلا بتعديل القصائد القديمة (غسق السماء، والمشروعات، على سبيل المثال)، أو استرجاع كتاباته السابقة في مذكراته (وهي حالة «عملة مزيفة» و«ضياع أوربول» و«الرامي الأنيق»، مثلًا)، وستسمح له أفكار قصائد بتضخيم الكومة الأولية، «لستُ إلا في القصيدة الستين ولم أعد أستطيع الاستمرار»٢٥٩ ذلك ما كتبه عام ١٨٦٥م إلى «سانت-بوف». «إن عجزه الذهني المتقطع، الذي حدثتك عنه كثيرًا، مثلما حادثني عنه، قد أصبح مستمرًّا أو شبه مستمر»، ذلك ما سيقوله «بوليه-مالازيس» إلى «آسيلينو» عام ١٨٦٦م.٢٦٠ فكيف لا تحمل قصائد هذه الفترة الأخيرة علامة هذا العجز الإبداعي، والجهود التي تكبدها؟
ومن المفيد أكثر أن نتبين الإخفاقات (أو شبه الإخفاقات) الناجمة — في «سأم» — عن مفهوم «بودلير» نفسه: هذه الإخفاقات نفسها مفيدة لمؤرخ قصيدة النثر، وقد تحققنا — مما سبق — من أنها تنجم، عامةً عن بنية ضعيفة الإحكام، «رابسودية» على نحو زائد، تخضع لمصادفات الحدث بدلًا من تنظيم المادة طبقًا لقوانين فنية، وتشوه بالاستطرادات نقاء الأرابيسك الشعري، إن سوء استخدام الإطالة، وانقطاعات النغمة المعتادة أو دخول النثرية في الشكل، كل هذا يرد القصيدة إلى النثر، ويرتخي التوتر العضوي، الذي كان يضم جميع هذه العناصر معًا، لم تعد القصيدة «تتبلور»: لم يعد للمعجزة الشعرية وجود، وسنتساءل إن كان من الممكن استخلاص عناصر فنية قابلة للاستمرار انطلاقًا من مشهد الشارع، وأكثر مظاهر الوجود يوميةً، لكن «بودلير» أجاب على هذا السؤال بنفسه في بعض «لوحات باريسية» من ديوانه «أزهار الشر»، التي تعتبر من روائعه الأدبية، وما أساء إليه — عندما ما كتب نثرًا — أنه استفاد، تمامًا، من شكل شديد الحرية، ومتفتح للغاية، كي يتلقى منه كل النغمات وكل الأنواع، بما فيها تلك التي تصل إلى حد الريبورتاج الصرف والبسيط، أو التأمل الأخلاقي، هنا — أيضًا — علينا ألا ننسى الإلزام الرهيب للشاعر، الذي وعد بتسليم مؤلفه، وبالكتابة، والعثور على موضوعات أيًّا ما كان الثمن، وقتئذٍ، وضع «بودلير» بطاقة «قصائد نثر» على قصائد هي — في الحقيقة — أقاصيص (الحبل، بورتريهات لعاشقات، موت بطولي … إلخ)، وثمة برهان حقيقي على قانون المجانية هذا الذي يقضي بألا تتوجه قصيدة النثر إلا إلى ذاتها، وأن تصب في النثرية ما إن تبدأ في الحكي أو الإيضاح.

وسنجد لدى ورثة «بودلير» («فيرلين» و«هويسمان»، وعديد من شعراء الرمزية) الاستلهام المزدوج من «سأم باريس»: الاستلهام الغنائي، والميل إلى أحلام اليقظة السوداوية، والاستلهام المديني، والميل إلى الحكاية، ولوحة التقاليد، تعرية روح في مدينة كبيرة، وتعرية روح مدينة كبيرة، لكن الميل الواقعي والحكائي سيتزايد الشعور به أكثر فأكثر، إلى أن يحول القصيدة إلى واقع متنوع حقيقي. ذلك هو الاتجاه الطبيعي لقصيدة النثر، التي — إن لم تقبل التضحية لتجنب الإخفاق، بلا كلل — فإنها سترتطم بالأرض.

ونعلم أن «بودلير» قد ترك — في أوراقه — قائمةً طويلةً للغاية لقصائد يجب إعادتها،٢٦١ وفيها يقسم مشروعات قصائده إلى ثلاث فئات: «أشياء باريسية»، و«تمييز الأحلام»، و«رموز وأخلاقيات»، والفئة الثانية (قصائد حلمية) غير ممثلة في «سأم باريس» المتوفر بأيدينا، وهو — بلا شك — أمر مؤسف: فأين يمكن العثور على مجانية، وضرورة داخلية، وبلا إحالة إلى العالم الخارجي، بأكثر مما في الحلم (أو في الرؤيا، وفي الإشراقة اللتين تتقاربان معًا؟) والحقيقة أن الحلم، أو — بشكل أكثر عمومية — التشويه المنظم للواقع، يصبح بعد «رامبو»، أكثر فأكثر حتى السيريالية، أحد الأنساق الشعرية الأكثر ترددًا في قصيدة النثر، ونجد — فيما سبق، لدى «برتران»، تحت عنوان «حلم» — نصًّا عن حلم حقيقي إلى جانب أحلامه في اليقظة.
ولا نستطيع أن نعرف أي مظهر كان سيتخذه «نص الحلم» عند «بودلير»، لكن من العجيب أن نلاحظ أن العنوان الأول في قائمته: «أعراض الخراب» قد توفر — فيما يبدو — على بداية إنجاز تكمن في مقطع أعاد «نادار» نشره، في نفس فترة مشروعات قصائد النثر.٢٦٢ فهل يجب أن نرى فيها — مثلما يريد «كريبيه» و«بلان» — ذكرى ﻟ «توماس الأكويني»؟٢٦٣ لكن نص «بودلير» أكثر ثراءً للغاية، وأكثر غموضًا بشكل خاص: إنه حقًّا حلم «هيروغليفي»، حسب تعبير «بودلير» نفسه، حلم «يمثل … الجانب فوق الطبيعي للحياة»:٢٦٤
أعراض الخراب. أبنية هائلة، الواحد فوق الآخر، شقق، غرف، معابد، أروقة، سلالم، مصارين عوراء، مقصورات، فوانيس، ينابيع، وتماثيل — شقوق، تصدعات. رطوبة صادرة من خزان ماء يقع بالقرب من السماء — فكيف نحذر الناس، والأمم؟ لنحذر همسًا أكثرهم ذكاءً في الأعالي.
يقرقع عمود وطرفاه يبدلان من موضعيهما. ما من شيء قد انهار بعد. لا أستطيع العثور على مخرج. أهبط، ثم أصعد ثانية. برج، متاهة. لم أستطع أبدًا الخروج. أسكن دائمًا في مبنًى سينهار، مبنى صنعه مرض خفي، أُخمن داخلي، لأسلي نفسي، بما إذا كانت الكتل الهائلة من الحجارة، من الرخام، من التماثيل، من الجدران، التي ستتصادم بشكل تبادلي سيصيبها تلوث شديد من هذا الحشد من الأدمغة، من اللحم البشري والعظام الميتة المفتتة.
وينتهي المقطع بهذه الكلمات، كنوع من ما بعد الكتابة: «أرى أشياء رهيبة في الحلم، إلى حد أنني أحيانًا لا أريد أن أنام بعد ذلك أبدًا، إذا ما تأكدت أنني لن يصيبني التعب البالغ». هي — في الواقع — رؤيا أصيلة للحلم: من هنا، تكمن أهمية العنصر البصري، والأشياء الغريبة، والأفكار المستحوذة، وما يمكن أن نسميه بمنطق «المبعثر» (الذي كال له «بودلير» المديح في «حلم» آسيلينو).٢٦٥ وقد سبق لنرفال أن سلك هذا الطريق المظلم، سعيًا إلى أن يجعل من الحلم وسيلةً للكشف، ووصل — في ضوء عتمة جنونه — إلى حد أن شهد «تفتح الحلم في الحياة الحقيقية».٢٦٦ ومن المدهش أن نرى «بودلير» وهو يعتبر الحلم — بدوره — «لغة هيروغليفية».٢٦٧

لكن نص «بودلير»، الذي لا يمثل سوى تخطيط بالتأكيد (جمل إضمارية، إشارة مبتورة)، يذهلني — على نحو خاص — بإيقاعه البالغ الخصوصية، ومظهره العنيف، اللاهث إلى حد ما، والأقرب إلى أسلوب المذكرات الشخصية منه إلى قصائد النثر، وأيضًا بطابعه الرؤيوي: هذا المعمار الخياري، وهذه السقالات … كل ذلك — وأيضًا، زعزعة الأبنية، وهذه الشقوق، وهذه التصدعات، وهذا الانهيار الوشيك — سيتخذ حياة وجسدًا، ويمتلك وجودًا أدبيًّا خاصًّا: والاسم الذي نقرؤه فيما بين السطور، عبر صفحة «بودلير» هذه التي لا تكاد تشبه أعمال «بودلير»، هو اسم «أرتور رامبو».

ولا شك أنه ليس ثمة ما هو مشترك بين قصيدة النثر لدى «بودلير» وقصيدة النثر لدى «رامبو»، لكن — رغم كل شيء — فثمة رابطة روحية بينهما، تجعل منهما، كما سبق أن قلت، «منارتين» للشعر الجديد، وتفسر لماذا يرى «رامبو» في «بودلير» (الذي سيتدرب كي يصبح رائيًا) «أول الرائين، ملك الشعراء، وربًّا حقيقيًّا».٢٦٨ هذه العملية السحرية — حيث يصبح الشعر وسيلةً للقبض على جانب من الواقع الخفي والأساسي، الذي يهرب من العقل الاستدلالي — لا شك في أن «بودلير» قد حقق نجاحًا فيها من خلال قصائد النظم بأكثر مما في «سأم باريس»، وعلى النقيض، فلن يحقق «رامبو» ذلك — حقًّا — إلا في قصائد «إشراقات» النثرية.
١  الفن الفلسفي، المؤلفات الكاملة لبودليرL’Art Philosophique, Œuvres Complètes de Baudelaire éd. de la Pléiade, t. II, p. 487؛ وستحيل الاستشهادات التالية إلى هذه الطبعة، إلا إذا أشرنا إلى غير ذلك.
٢  مدخل إلى قصائد نثر صغيرة  Introduction aux Petits Poèmes en Prose, Belles-Lettres, 1934, p. XXIX؛ وأحتفظ — من جانبي — بهذا العنوان «سأم باريس» (الشديد الإيحاء)، الذي يبدو لي أن «بودلير» قد فضله، اعتبارًا من عام ١٨٦٤م (انظر Letter à sa mère, passim) على «قصائد نثر صغيرة» Petits Poèmes en Prose، وهو العنوان الذي ظهرت معه عشرون قصيدة في «لابريس La Presse»، عام ١٨٦٢م.
٣  صلاة اعتراف الفنان  Le Confiteor de l’Artiste, Œuvres, t. I, p. 407.
ولا بد من دراسة متعمقة لهذه القصيدة، التي تكشف الشاعر — بعد نشوة التحقق الذاتي — وقد عاوده الشعور ﺑ «الازدواجية» dualité بل حتى بالمبارزة duel بينه وبين موضوعه: «إن دراسة الجميل هي مبارزة يصرخ فيها الشاعر رعبًا قبل أن ينهزم»، حسبما يستخلص «بودلير».
٤  «العامة» Les Foules, eod. loc., p. 421. وقارن — في «أزهار الشر» — ﺑ «العجائز القصيرات Les Petites Vieilles» (نفس الحقبة):
قلبي المتعدد يستمتع بكل رذائلكم!
وروحي تتألق بكل فضائلكم!
٥  هكذا يتحدث «بودلير» في مقاله عن «هوجو» (Œuvres, t. II, p. 527).
٦  المؤلفات  Œuvres, t. I, p. 433.
٧  Revue de Paris, 15 Avril 1921: Charle Baudelaire, A propos du Centenaire, p. 727؛ لا بد من الرجوع إلى المقالة كلها فيما يتعلق بشعر «بودلير الباريسي».
٨  قارن بقصيدة «صولجان باخوس Le Thyrse» (Spleen de Paris, Œuvres, t. I, p. 467)، حيث لاحظ «ج. بلان» — في مقالته الهامة عن قصائد النثر — أن رمز «صولجان باخوس» يمكن تطبيقه — بشكل خاص — هنا (Introduction aux Petits Poèmes en Prose de Baudelaire, Fontaine, Février 1946, p. 294)؛ وقد أُعيد نشر هذه المقالة بلا تغييرات — تقريبًا — في كتابه (Baudelaire, Gallimard, 1939).
٩  بودلير، خطاب إلى والدته، ٩ مارس ١٨٦٥م. ولا أعتقد أن «بودلير» قد أساء الحكم إلى هذا الحد على القيمة العميقة لمحاولته، مثلما يقول «دانييل روبس» (Daniel-Rops, Introduction aux Petits Poèmes en Prose Belles-Lettres, 1934, p. XV). وإذا ما كان يقدم قصائده النثرية — إلى «هوساي» — باعتبارها شيئًا «مسليًا» (خطاب إلى هوساي، رأس السنة ١٨٦١م)، فلأن ذلك كان ضروريًّا لنشرها في «لابريس»، التي كان يديرها «هوساي» وقتئذٍ.
١٠  إهداء «سأم باريس» إلى أرسين هوساي، المنشور في «لابريس»، في ٢٦ أغسطس ١٨٦٢م (Œuvres, t. I, p. 405). ويعلق «بودلير» على الصفة «شهير» التي أُطْلِقَت على «جاسبار الليلي» (الذي كان مجهولًا تمامًا بين الجمهور العريض): «كتاب تعرفونه، وأعرفه، ويعرفه بعض أصدقائنا، ألا يملك كل الحق في أن نسميه شهيرًا؟». ونستطيع أن نلاحظ — بالنسبة لهذا الموضوع — أن Revue Fantaisiste (التي أدارها الشاب «كاتول منديس»)، والتي نُشِرَت — في الأول من نوفمبر ١٨٦١م — تسع قصائد نثر لبودلير، قد نشرت — في عددها السابق (١٥ أكتوبر) — دراسة «ف. كالمالس» عن «برتران»: ولا شك أن «بودلير» لم يكن غريبًا عن هذا الاهتمام بمؤلف «جاسبار».
١١  L’héroïsme de la vie moderne (Salon de 1846) (Œuvres, t. II, p. 135).
١٢  Le peintre de la vie moderne (Œuvres, t. II, p. 333).
١٣  المرجع السابق، ص٣٣٢–٣٣٦.
١٤  خطاب إلى «هوساي»، رأس سنة ١٨٦١م. وسنجد كل الخطابات الخاصة بقصائد النثر موجودة في الطبعة الفاتنة، والمحققة، والهامة للغاية التي قام بها «ج. كريبيه» (في Œuvres complètes de Baudelaire, t. II, Conard, 1926)؛ وهذا العنوان «الطَّوَّاف المنعزل» يتضمن — بطبيعة الحال — تذكيرًا ﺑ «أحلام يقظة الطواف المنعزل» لروسو، وربما أيضًا بكتاب حديث ﻟ «لوفيفر-دومييه»، «كتاب الطَّوَّاف» ١٨٤٥م. لكن هذين الكتابين — من النثر الشعري — يتسكعان عبر الريف، بينما «بودلير» — مثل «رجل الشارع» لإدجار آلان بو — لا يغادر عتبات المدينة الكبرى.
١٥  Œuvres, t. I, p. 20؛ وقد حكم «سانت-بوف» على التعبير الأخير «بعدم الصواب».
١٦  المرجع السابق، ص٤٢١.
١٧  Sainte-Beuve, “A Antony Deschamps”, consolations, XVIII (Poésies complètes, Charpentier, 1869, p. 242).
١٨  خطاب إلى «سانت-بوف».
١٩  Ferran, L’esthétiqe de Baudelaire, p. 96.
٢٠  Les Rayons Jaunes, Joseph Delorme (Poésies complètes, p. 71).
٢١  Les Consolations (1830). Dédicace à V. Hugo (Œuvres complètes, p. 202).
٢٢  Note à Monsieur Jean, p. 302.
٢٣  Vie de Joseph Delorme (Poésies complètes, p. 11).
٢٤  Joseph Delorme (Poésies Complètes, p. 93).
٢٥  اﻟ «بيري  Péri»: مخلوق خرافي، تزعم الأساطير الفارسية أنه من نسل الملائكة الساقطة. كما تعني الكلمة — أيضًا — فتاة أو امرأة جميلة.
٢٦  المرجع السابق، ص٨٥، والإشارة إلى «شرقيات Orientales» و«أناشيد وقصائد غنائية Odes et Ballades» بديهية، هنا.
٢٧  فيما يتسكع «جوزيف ديلورم» على طول شارعه الكبير، يخترقه «شعور لا يمكن تحديده بوجوده الناقص» (Poésies complètes, p. 11).
٢٨  Les Veuves (Œuvres, t. I, p. 442).
٢٩  المرجع السابق، ص٤٤٣.
٣٠  المرجع السابق، ص٤٨٢ Le Tir et le Cimetière.
٣١  المرجع السابق، ص٤٢٥ Le Vieux Saltimbanque.
٣٢  قارن بالجزء الثاني من «الغرفة المزدوجة La Chambre Double»: هذا «الكوخ القذر، ذو الأثاث المزعج، المترب، المهشم»، حيث نتنفس «رائحة تبغ عفن تختلط بما لا أعرفه من عفونة مقززة»، إنها غرفة الشاعر (Œuvres, t. I, p. 410).
٣٣  Fussées (Œuvres, t. II, p. 634).
٣٤  Joseph Delorme, Pensées, XX (Poésies complètes, p. 157).
٣٥  Les Petites Vieilles (Œuvres, t. I, p. 102).
٣٦  قارن ﺑ «العجائز السبعة»: «الألغاز تنساب في كل مكان مثل النسغ …»، المجلد الأول، ص١٠٠. ويقارن «ج. ستريت» G. Streit (Die Doppelmotiv in Baudelaire’s Fleurs du Mal und Petits Poèmes en Prose, 1929, p. 107) مع الموقف الشديد الاختلاف للشاعر، في النثر: «أتشبث بالرغبة في فهم هذا الغموض» (Chacun sa Chimère, t. I, p. 412)، وفي الشعر: «هل سيكون لي، دون أن أموت، أن أتأمل الثامن»؟ (Les sept vieillards, id, p. 102).
٣٧  والعنوان نفسه — «حلم باريس» — الذي يصف عالمًا مجردًا، معدنيًّا، لذو دلالة. وفي مواجهة هذا الإبداع المصطنع، فإن «حلم» الغرفة المزدوجة — في قصائد النثر — ليس إلا وصفًا لواقع أُضفيت عليه المثالية.
٣٨  قارن في «البجعة»:
… قصر جديد، وسقالات، ومجمعات سكنية،
وضواحٍ قديمة، كل شيء يصبح — بالنسبة لي — مجازًا
(المجلد الأول، ص٩٩)
٣٩  A une Passante, p. 106.
٤٠  Les Aveugles, p. 105.
٤١  Les Petites Vieilles, p. 102.
٤٢  مشروع «خاتمة» للطبعة الثانية (يرجع تاريخه إلى ١٨٦٠م، تقريبًا) (Œuvres t. I, p. 229). تقارب شديد الغرابة، فسانت-بوف يكتئب في «عزاءات» لعثوره — في روحه — «على كل هذا الصلصال وهذا الذهب القليل» (Poésies complètes, p. 242).
٤٣  قارن ﺑ «الغريب»، و«الغرفة المزدوجة»، و«فلتسكروا»، و«الحساء والسحب» … إلخ، وقد بحث «دانييل-روبس» عملية هذا اﻟ «هروب في الحلم وفي غير الواقعي»، مرجع سابق:
Introduction, pp. XXVI-XXVII.
٤٤  ٩ مارس ١٨٦٥م (Poèmes en prose, éd. Crépet, p. 240).
٤٥  «ملاحظات جديدة عن إدجار بو» (Préface des Nouvelles Histoires extraordinaire).
٤٦  ومن المستحيل — عند قراءتهم — ألا نفكر في تأثير مباشر أو غير مباشر، لبعض أقاصيص «بو»، سواء في النغمة أو في الفكرة: على سبيل المثال، «شيطان الضلال» في «صانع الزجاج الرديء»، أو «هوب-فروج» في «موت بطولي».
٤٧  إلى «تروبا»، في ١٩ فبراير ١٨٦٦م: «أنا سعيد إلى حدٍّ ما ﺑ «سأم». وعلى العموم، فهي «أزهار الشر» مرةً أخرى، وإن يكن بكثير من الحرية والتفاصيل والتهكم. ونعلم أن حادث «نامور» قد أنهى — بعد ذلك بشهر واحد — من «سأم باريس».
٤٨  إهداء قصائد النثر إلى «هوساي» (Œuvres, t. I, p. 405).
٤٩  إهداء إلى «هوساي»: «من مخالطة المدن الكبرى بشكل خاص، وتقاطع علاقاتها التي لا تُحصى، يُولَد هذا المثال الطاغي».
٥٠  خطاب إلى «هوساي»، ديسمبر ١٨٦١م (éd. Crépet, p. 224).
٥١  في إهدائه، يشبه «بودلير» ديوانه بثعبان تمتلك كل «شريحة tronçon» منه حياةً مستقلة.
٥٢  نعرف كلمة «مذكرات خاصة  Journaux intimes» (t. II, p. 64) عن «الابتهالَين المتوازيين، واحد منهما إلى الله والآخر إلى الشيطان»، والموجودين لدى كل إنسان (قارن بشخصية «بنديكتا» المزدوجة في «أي منهما الحقيقي»). وقد ظهر الإحساس بالازدواجية مع الرومانسية، وعبر «هوجو» — في مقدمة «كرومويل» — عن هذا الشعور بالازدواجية في ألفاظ مشابهة، ترتبط بالفكرة المسيحية عن الإنسان المزدوج l’homo duplex.
٥٣  انظر ما سبق في [قصيدة النثر قبل بودلير]
٥٤  Notice sur Maurice de Guèrin (Œuvres de M. de Guèrin, publiées par Trébutien, Didier, p. XIX) هذا الشعر يتوافق «مع كل انعطافات الحديث الحميم»، كما يقول.
٥٥  Pensées de Joseph Delorme, XVIII (Poésies complètes de Sainte-Beuve, p. 155).
٥٦  Cassagne, Versifaction et Métrique de Baudelaire, Paris, 1906, p. 49.
٥٧  Œuvres, t. I, p. 146. انظر أيضًا «أشعار مهشمة» التي ذكرها «رودس» The Cult of Beauty in Ch. Baudelaire, Columbia University, New York, p. 254، «صوتان كانا يحدثانني …» في «الصوت» (Œuvres, t. I, p. 176).
٥٨  Œuvres, t. I, p. 193؛ ويقول «ج. دي رينولد»: «إن عدم اتساق هذا البيت يشير جيدًا إلى التردد والتراجع أمام الحفرة التي لا قرار لها» (Charles Baudelaire, Crès, 1920, p. 356, note 4).
٥٩  سبق ذكره، ص١٠٩، والغريب أن استخدام شكل طنان موزون لوصف الجريان الحر لحياة مألوفة، يؤكد من انطباع النثرية.
٦٠  خطاب إلى «سانت-بوف»، ١٥ يناير ١٨٦٦م.
٦١  يستخدم «رامبو» هذه الصيغة نقلًا عن «لامارتين»؛ أما «بودلير»، «ملك الشعراء»، فإنه يجد «الشكل — الذي طالما امتدحه في ذاته — مسكينًا»، خطاب إلى «ديميني» في ١٥ مايو ١٨٧١م (Œuvres, éd. de la Pléiade, pp. 256-257). وفي هذه الفترة، يغادر «رامبو» شارلفيل، وحسب «ديلاهاي»، فقد كان يعرف — رغم ذلك — قصائد «بودلير» النثرية (انظر — فيما بعد — ص٢١٠، ملحوظة ٦٢): لكننا لا نعثر — رغم هذا — على أية إشارة في مراسلاته، إلى حد أن تظل شكوكنا قائمة.
٦٢  Blin, Introduction aux petits poèmes en prose, Fontaine, Février 1946, p. 288.
٦٣  Daniel-Rops, Introduction aux petits poèmes en prose, éd. Belles-Lettres, p. XX.
٦٤  حول هذه المسألة يلتقي «جوستاف كان» Préface de ses Prèmiers Poèmes, (Mercure de France, 1897, p. 20) و«أ. كولينو» (Les Portes d’ivoire, Plon, 1948, pp. 198-199)، على النقيض من رأي «دانييل-روبس»: «القصيدة الحقيقية … هي التي يخلقها النظم، وليس نثر بودلير».
٦٥  Blin, article cité, Fontaine, Févr, 1946, p. 284.
٦٦  Mallarmé, Le Mystère dans les Lettres (Œuvres, Pléiade, p. 382).
٦٧  أرابيسك  arabesque: زخرفة مرسومة أو منحوتة تقوم على التكرار السيمتري لعناصر نباتية منغمة، خط متعرج يتكون من منحنيات متماثلة.
٦٨  «قلبي يتعرى» (Œuvres, t. II, p. 668).
٦٩  رابسودي  rapsodie: قصيدة ملحمية كان ينشدها رواة محترفون، أغنية أو مقطوعة تحتوي على جزء ملحمي.
٧٠  Salon de 1859, IV (Œuvres, t. II, p. 232)؛ تذكَّر «بودلير» — قبل قليل — كلمة «ديلاكروا»: «الطبيعة ليست سوى قاموس» (ص٢٣).
٧١  Eod. loc., p. 230.
٧٢  نعلم تفضيل «بودلير» ﻟ «خط الأرابيسك». قارن ﺑ «صولجان باخوس»، (Œuvres, t. I, p. 467). «ورسم الأرابيسك» هو «الأكثر مثالية من الجميع» (Fusées, Œuvres, t. II, p. 629). والكلمة — وقد استُخْدِمَت بصدد لوحة أو قصيدة، تشكلان كليات أكثر تعقيدًا — ليست دقيقة على الإطلاق، لكنها تمتلك — على الأقل — ميزة استبعاد فكرة أي معنًى عقلاني أو فلسفي، كي لا نبصر سوى المنحنى، «الخط» المحظوظ — إلى هذا الحد أو ذاك — في القصيدة أو اللوحة.
٧٣  Salon de 1859 (Œuvres, t. II, p. 231).
٧٤  Eod. loc., p. 226.
٧٥  هاتان القصيدتان تحملان رقمي ٢٢ و٢٣ في طبعة ١٨٦٩م، بعد استعادتهما وتعديلهما.
٧٦  خطاب نشره «كريبيه» و«بلان» في Notes Critiques من طبعتهما ﻟ «أزهار الشر»، Corti, 1942, p. 463.
٧٧  إنه العنوان الذي أُطلِقَ — عام ١٨٥٧م — على قصائد النثر المنشورة في Le Présent.
٧٨  القصيدة الخامسة — «ساعة الحائط» — تُوحِّد موضوعين متكررين في «أزهار الشر»: «القط» و«هروب الزمن».
٧٩  سبعة مقاطع من نفس الطول تقريبًا، مثلما لدى «برتران».
٨٠  المحارَفَة  allitération: تكرار حرف أو أكثر في بداية كلمتين متجاورتين.
٨١  في مقارنتهما بين المقطوعتين المنظومتين والنثر المستلهم منهما («عطر غرائبي» و«خصلة شعر»)، Les Fleurs du Mal, éd. critiqe, Corti, 1942, pp. 336-337.
٨٢  Blin, article cité, Fontaine, Février 1946, p. 287.
٨٣  في مقال من Constitutionnel (20 Janvier, 1862)، حيث يتناول «الجواهر» bijoux.
٨٤  القصائد من ١ إلى ٢٠ المنشورة في La Presse عام ١٨٦٢م، تتضمن هذه القصائد الأربع عشرة غير المنشورة من قبل، وقصائد عام ١٨٦١م الثلاث، وثلاث أخريات بتاريخ ١٨٥٧م (ساعة الحائط، ونصف كرة في خصلة شعر، والدعوة إلى السفر). والواقع أن «بودلير» قد سلم «هوساي» أكثر من عشرين قصيدة، ولكن — لأسباب غير معروفة جيدًا — أُوقِفَ نشرها في La Presse (انظر ملاحظات «كريبيه» Œuvres de Baudelaire, éd. Conard, t. III, pp. 229–231)، فأية قصائد تضمنها الورق المقوى الذي ظل في المطبعة؟ لا ندري.
٨٥  انظر — فيما سبق — الخطاب الموجه إلى سانت-بوف، سبق ذكره، ص١٤٢.
٨٦  يستعيد «بودلير» التمييز الذي وضعته السيدة «كرو» بين «الخيال البنَّاء» «والوهم».
(Salon de 1859, IV, Œuvres, t. III, p. 229).
٨٧  قارن، في Paradis Artificiels, IV, L’homme-Dieu: «الكلمة الرابسودية هي التي تحدد جيدًا مجرى أفكار مُوحى به ومحكوم بالعالم الخارجي وصدفة الظروف …» (Œuvres, t. I, p. 303).
٨٨  ذكره «بودلير» في Préface des Nouvelles Histoires extraordinaire.
٨٩  La Morale du Joujou (Œuvres, t. II, p. 139).
٩٠  La Joujou (Œuvres, t. I).
٩١  في طبعته ﻟ Petits Poèmes en Prose (Œuvres de Baudelaire, t. III, Conard, 1926 p. 300).
٩٢  Le Confiteor de l’Artiste (Œuvres, t. I, p. 407).
٩٣  Les Veuves, t. I, p. 412.
٩٤  Joseph Delorme (Poésies complètes de Sainte-Beuve, p. 61).
٩٥  Le Vieux Saltimbanque (Œuvres, t. I, p. 426).
٩٦  يستمد «بودلير» هذا التعبير من «بو»، ويورده في «ملاحظات» حول «بو»، المستخدمة كمقدمة لكتاب Nouvelles Histoires extraordinaires.
٩٧  انظر الفصل الأول في هذا الكتاب
٩٨  Les Projets (Œuvres, t. I, p. 445).
٩٩  نُشِرَت هذه القصيدة في Le Présent عام ١٨٥٧م، ثم في Revue Fantaisiste عام ١٨٦١م، قبل إعادة نشرها (معدلة) عام ١٨٦٤م، في Revue Parisienne، وفي Revue de Paris؛ أكان «بودلير» — الذي لم يعد باستطاعته تقديم أعمال لم يسبق نشرها — يوهم نفسه، بهذه التعديلات، بأنه ما يزال ينتج أعمالًا إبداعية؟
١٠٠  نستطيع أن نلحق بها التغيرات — الصائبة تمامًا على نحو مثير — الموجودة في «الحبل» و«لاعب كريم» (أعادت طبعة البلياد نشر النص الأول).
١٠١  خطاب إلى والدته، ٣ نوفمبر ١٨٦٤م. وقد كتب، في ١١ فبراير ١٨٦٥م: «القليل الذي أنجزته إنما هو نتاج عمل أليم». والواقع أنه لا يكاد ينتج شيئًا تقريبًا: «إنه عجزه الذهني المتقطع الذي سبق وحدثتكم عنه كثيرًا، مثلما حادثني عنه، وقد أصبح مستمرًّا أو شبه مستمر»؛ ذلك ما سيكتبه «بوليه–مالاسيس» عام ١٨٦٦م (ذكره ج. كريبيه» في طبعته من «بودلير» Œuvres, t. III, p. 245).
١٠٢  مثلما يفعل الفنانون «الذين لا يمتلكون خيالًا» (Œuvres, t. II, p. 230).
١٠٣  في مقدمته لكتاب Nouvelles Histoires extraordinaires، انظر الفصل الأول من القسم الأول.
١٠٤  Fussées, Œuvres, t. II, p. 627.
١٠٥  قارن بما سبق، ص١٤٥.
١٠٦  نشر «لوفيفر-دومييه» — الذي موَّل L’Artiste من عام ١٨٤٥م إلى عام ١٨٤٧م — ١٣ قصيدة نثر مستقلة فيها من «صلوات دير الوادي المسائية» (انظر ص١٠١ فيما سبق)، ويرجع مؤلفه «كتاب الجَوَّال» إلى عام ١٨٤٥م. فهل عرف «بودلير» شخصيًّا؟ وعندما سألت «جاك كريبيه» عن ذلك، أجابني — قبل وفاته بعام — بأنه لم يجد أي دليل على ذلك، مما يعني أنهما لم يعرفا بعضهما البعض ككُتَّاب: «كان «بودلير» محط الأنظار بفضل موهبته، و«لوفيفر» بفضل ثروته ورغبته في الظهور ورعايته للآداب، التي كان يكد من أجلها، وأيضًا لماذا لا نوافق على أن موهبته كانت ذات قيمة؟». ويلاحظ «كريبيه» أنه من المحتمل أن يكون الرجلان قد تقابلا في «لارتيست».
١٠٧  «ألم تحاولوا — أنتم بأنفسكم، أيها الصديق العزيز — أن تترجموا صرخة صانع الزجاج الثاقبة إلى «أغنية»، وأن تعبروا — في نثر غنائي — عن كل الإيحاءات المحزنة التي ترسلها هذه الصرخة حتى السقائف عبر أعلى ضباب في الشارع؟» ( des Petits Poèmes en Prose à Houssaye, Œuvres, t. I, p. 406).
١٠٨  Crépet, Notes de l’édition Conard, p. 272.
١٠٩  ورغم هذا، يذكر «ر. فيفييه» اسم «شانفلوري» من بين الأسلاف المحتملين لبودلير؛
(L’originalité de Baudelaire, Bruxelles, 1926, p. 158).
١١٠  عن ختام «فانتازيا الشتاء» (Martinon, 1847) قارن بما سبق في الفصل الأول من القسم الأول، ومن المفيد — أيضًا — أن نذكر، ما دمت قد تحدثت عن شعر بودلير «التسكعي»، أنه إذا كان «لوفيفر-دومييه» قد ألف «كتاب الجَوَّال»، فإن بعض الصفات أو الأناشيد الغنائية النثرية لشانفلوري قد جُمِعَت تحت عنوان «تخطيطات عابر سبيل» Croquis d’un passant. وسنجدها في أعماله المنشورة بعد وفاته تحت عنوان: Champfleury inédi (Clouzot 1903). لقد تنزهوا كثيرًا في النثر الشعري في حقبة «بودلير».
١١١  Chien-Caillou, Fantaisies, Martinon, 1947, p. 23.
١١٢  انظر الفصل الأول من القسم الأول.
١١٣  كتب «بودلير» مقدمةً ﻟ Les Martyrs Ridicules المنشورة عام ١٨٦٢م؛ وهو كتاب — كما يقول — ذو «حيوية حاقدة»، حيث «تُمارَس البصيرة بشهوة حسية» (Œuvres, t. II, pp. 569-570).
١١٤  Œuvres, t. II, p. 541. ونعلم أن «بودلير» قد فكر — لفترة — في أن يسمي قصائده النثرية «قصائد ذئبية poèmes lycanthropes»، إشارة إلى «بتروس بوريل» المريض بجنون الذئبية.
جنون يجعل المريض يعتقد أنه ذئب (م).
١١٥  مقال عن «مدام بوفاري» (Œuvres, t. II, p. 443).
١١٦  مقال عن «الحياة المزدوجة» (Œuvres, t. II, p. 454) la Double Vie. ولنذكر — بهذه المناسبة — أن «بودلير» كان ينوي أن يخصص ﻟ «أحلام» جزءًا كاملًا من قصائده النثرية (قارن في «مشروعات» مجموعة Oneirocritée, Œuvres, t. I, p. 650).
١١٧  انظر ديوان «الحياة الثانية» ﻟ «آسيلينو»، وبشكل خاص قصيدة «الأريكة»، حيث ينتهي الحال بأحد الأشخاص إلى الحياة خارج الواقع تمامًا. وسنلاحظ — في «الفخذ» — «حداثية» نتائج «آسيلينو» حول تناقضات الحلم، والتصديق الذي تتلقاه من النائم. وهو ما يجعلنا نعتقد «في ملكات أو أفكار ذات نسق خاص وغريب عن عالمنا» (La Double Vie, Poulet-Malassis, 1858, p. 172).
١١٨  Fusées (Œuvres, t. II, p. 633). ونستطيع القول — فيما يتعلق ببودلير — أن ما فوق الطبيعية محسوس أكثر في «أزهار الشر»، وأن السخرية (المرتبطة ﺑ «طريقة تفكير شيطانية») محسوسة أكثر في «سأم باريس».
١١٩  «قلبي يتعرَّى»، تحت عنوان «ملاحظات قيمة  Notes précieuses»: «فلتكن أبدًا شاعرًا، حتى في النثر» (Œuvres, t. II, p. 669).
١٢٠  Salon de 1859 (á propos de la “Fantaisie”), (Œuvres, t. II, p. 250).
١٢١  انظر في «ملاحظات جديدة عن بو»، المستخدمة كمقدمة ﻟ Nouvelles Histoires extraordinaires الملاحظات المترجمة من Poetic Principle.
١٢٢  انظر الصفحة السابقة، ملحوظة ١١٤. ومنذ عام ١٨٥٥م، في بحثه «عن جوهر الضحك»، يطور «بودلير» فكرة أن «الضحكة شيء شيطاني» (Œuvres, t. II, p. 171).
١٢٣  هكذا في «في الساعة الواحدة صباحًا»، و«أيهما هي الحقيقة؟»، و«الحساء والسحب».
١٢٤  تحت هذا العنوان، ظهرت — في الأول من يونيو ١٨٦٦م، في La Revue du XIX siècle — قصيدتان: «العملة المزيفة» و«اللاعب الكريم».
١٢٥  Charles Baudelaire, dans la Revue de Paris, 15 Avril 1921, p. 749.
١٢٦  فيما يتعلق بجملة: «لا شك أنه كان يظن روسيا جزيرة»، يذكر «ج. كريبيه» تهكمات «بودلير» على «فييمان»، الذي كان يتحدث عن دفن «شاتوبريان» في الخليج الكبير («إنه يظن الجزيرة تركيا»)، ويستعيد — فيما يتعلق بقبضات اليد الممنوحة دون «الاحتياط بشراء القفازات» — جملة من Fussées: «كثير من الأصدقاء، كثير من القفازات، خوفًا من الجرب». ويمكننا — أيضًا — أن نتذكر، فيما يتعلق بالفرفورة sauteuse، التي تظن نفسها فينوس، تهكمات «بودلير» على «ج. جانين» الذي يتحدث عن «لوكونت دوليل» (Œuvres, t. I, p. 605) — وفيما يتعلق بمدير المسرح الذي يقترح على الشاعر أن يتعاون مع «أغبى وأشهر» مؤلفيه، يقول «بودلير» — في خطاب إلى والدته: «يوحي لي المسرح بالاحتقار الشديد، إلى حد أنني فكرت — كي أختصر المهمة — أن أتوجه إلى أشهر وأغبى متعامل يمكن العثور عليه» (٣ نوفمبر ١٨٦٠م).
١٢٧  حول «امتحان الوعي» هذا، يذكر «م. روف» في كتابه الحديث عن L’Esprit du mal et l’esthétique baudelairienne, Colin, 1955, p. 363: «يبدو لي تمامًا — هنا — أن التقزز من الإنسانية ما هو إلا عرض للإدانة التي يحملها لنفسه».
١٢٨  إنه يلوم «كلاديل» على بعض نوبات الحساسية: «إن أسمى الفن يكمن في أن نظل باردين ومنغلقين … فتأثير الرعب يتم مضاعفته (بهذه الطريقة)» (Œuvres, t. II, p. 571).
١٢٩  مقال مذكور، في Fontaine, Février 1946, p. 297.
١٣٠  قلبي يتعرى (Œuvres, t. II, p. 648).
١٣١  مقدمة Nouvelles Histoires extraordinaires. ويقول «بو» — في «المبدأ الشعري Poetic Principle» — إن القصيدة لا تستحق هذا الاسم إلا بقدر ما تثيره في الروح، وهي ترقى بها إلى السامي» (ترجمة Lalon, Charlot, 1946, p. 13).
١٣٢  فيما يتعلق بالوجه المتورم والتيبس الجسدي، نرصد — أيضًا — تعبير «مسخ صغير» عند الحديث عن الصغير المشنوق (Œuvres, t. I, pp. 460-61).
١٣٣  Œuvres, t. I, pp. 490-491.
١٣٤  استخدم التعبير — وهو مستمد من «بو» — في مقدمة N.H.E.، وتمت استعادته في مقال عن «ت. جوتييه» (Œuvres, t. II, p. 467).
١٣٥  «من المستحيل بالنسبة لي — على أية حال — أن أقول لماذا كنت مأخوذًا، تجاه هذا الرجل المسكين، بحقد مفاجئ واستبدادي» (Œuvres, t. I, p. 416).
١٣٦  Anthologie de l’humour noir, le Sagittaire 1940, p. 74. و«بريتون» — الذي يربط، عن حق تمامًا، دعاية «بودلير» بحذلقته — يذكر بعض المبادئ الأخلاقية المستمدة من «سهام نارية» Fussées، التي يمكن تطبيقها، بدقة، على مفهوم بعض قصائد «سأم باريس»: «الحكي عن الأشياء الكوميدية بطريقة طنانة» Œuvres, t. II, p. 628. «إن عدم الانتظام، أي غير المتوقع، والمفاجأة، والدهشة، هي أجزاء أساسية وخصائص للجمال» (المرجع السابق، ص٦٣١). وجدير بالملاحظة أن «بودلير» — حسب الترتيب التأريخي — هو أول مؤلف لقصائد النثر يتم ذكره في هذه «المقتطفات».
١٣٧  يسخر «بودلير» — في قصيدة «العزلة» — من هذه الكلمة المتداولة في «لغة القرن (قرنه) الجميلة».
(Œuvres, t. I, p. 444).
١٣٨  مقال «ج. بوردان»، الفيجارو، ٧ فبراير ١٨٦٤م. ونعلم أن «بوردان» هو الذي أثار بنقده العنيف الشهير — في نفس الجريدة «الفيجارو» — صواعق العدالة ضد «أزهار الشر».
١٣٩  نُشِرَت «العجائز القصيرات» في Revue Contemporaine عام ١٨٥٩م.
١٤٠  ومع ذلك، تبدأ قصيدة «الأرامل» بذكرى «فوفينارج».
١٤١  الأرامل (Œuvres, t. I, p. 422). ولنذكر أنه إذا ما كانت المنظومة تستدعي — هي أيضًا — الإخلاص، وآلام «العجائز القصيرات»، فإنها لا تشير إلى الفقر.
١٤٢  Les petites Vieilles (Œuvres, t. I, p. 104).
١٤٣  Poe, Genèse d’un Poème, citée dans Préface des Nouvelles Histoires extraordinaires, IV.
١٤٤  الأرامل (Œuvres, t. I, p. 423).
١٤٥  «… نوع من الأكاسير كان الصيادلة — في هذه الفترة — يبيعونه إلى السياح ليخلطوه، عند الحاجة، بماء الثلج» (المرجع السابق، ص٤٢٧).
١٤٦  أُطلِقَ صفة «تصويري حقيقي» على التفاصيل ذات «الطابع المحلي»، الباريسية والشعبية، على سبيل المثال «أعواد القصب» أو «روائح المقليات» في «المهرج العجوز»، و«تصويرية مزيفة» على كل ما هو متكلف وغريب، على سبيل المثال «المرأة المتوحشة» التي تمزق أرانب حية، و«أمعاؤها الملفوفة تظل متدليةً من بين أسنانها. (Œuvres, t. I, p. 419).
١٤٧  «تقوم الروح الغنائية بقفزات واسعة كمركبات syntèses، فيما يستمتع ذهن الروائي بالتحليل»: وهكذا، في مقال عن «بانفيي» (t. II, p. 547)، يقيم «بودلير» — بتوفيق — تعارضًا بين شعر ونثر، ولنذكر — في هذا الصدد — التحليل النفسي في «العملة المزيفة»، وستزودنا المقارنة بين نصي «دعوات للسفر» بمراجعة أخرى لهذه الملاحظة.
١٤٨  كان «كلوديل» يجد لدى «بودلير» «خليطًا رائعًا من الأسلوب الراسيني والأسلوب الصحفي لزمنه» (ذكره «دانييل-روبس»، نقلًا عن «ريفيير»، Etudes, p. 15). و«الكلاب الطيبة» التي «تذهب إلى أعمالها» هو الأسلوب الصحفي، نوع فكِه (ص٤٩٢). وها هو النوع الهوجوي: «هنا، لا شيء سوى أثرياء، سعداء، لا شيء يتنفس ويميل إلى اللامبالاة ولذة الاستسلام للحياة، لا شيء سوى مظهر هؤلاء الصعاليك … إلخ» (Les Veuves, p. 423).
١٤٩  «أيوجد ما هو … أكثر سحرًا، وأكثر خصوبة وطبيعية، أكثر إثارة من الناحية الموضوعية من المكان المشترك؟» (Salon de 1859. Œuvres, t. II, p. 215). قارن في «المذكرات الخاصة»: «أسلوب عظيم (لا شيء أجمل من المكان المشترك)»، (المرجع السابق، ص٦٦٩).
١٥٠  قارن بما سبق في الفصل الأول من القسم الأول، ويرجع الوصف الخاص بعيد سوقي إلى مؤلف مجهول، وقد استطاع «بودلير» أن يقرأ شيئًا مماثلًا في L’Artiste أو Corsaire.
١٥١  Fussées (Œuvres, t. II, p. 637). ولكن علينا ألا ننسى أن «بودلير» كان — من ناحية أخرى — قد دافع عن المبتذل التافه في صالون عام ١٨٤٦م (id, p. 110).
١٥٢  Une mort héroïque (Œuvres, t. II, p. 514).
١٥٣  Assommons les Pauvres! (المرجع السابق، ص٤٩١).
١٥٤  ونعلم أن «بودلير» كان يمقت «الأسلوب السلس» الأثير لدى البورجوازيين (قارن Fussée, t. II, p. 650, et l’article sur Gautier) (المرجع السابق، ص٤٥٩).
١٥٥  Les foules, t. I, p. 420، وقارن — في نفس القصيدة — الروح التي تهب نفسها «بشكل غير متوقع، إلى المجهول العابر» (ص٤٢١).
١٥٦  «العملة المزيفة  La Fausse Monnaie, p. 455». ومن الملاحظ أن «بودلير» يعبر — في «المفاجئ»، وهي قصيدة من الشعر المنظوم نُشِرَت في يناير ١٨٦٣م، في Le Boulevard — عن فكرة مشابهة إلى حدٍّ ما، فيما يسأل المنافقين ما إذا كانوا يعتقدون
أنه يمكن السخرية من السيد، وغشه،
وإن كان من الطبيعي الحصول على ثمنين،
الذهاب إلى النعيم، والثراء؟
(Œuvres, t. I, p. 178)
١٥٧  Le vieux Saltimbanque, p. 425.
١٥٨  Les bons chiens, p. 492.
١٥٩  الملعقة المغروسة — مستقيمة — في الحساء، «مثل أحد هؤلاء الصواري التي تعلن أن الحصاد قد انتهى» (Les bons chiens, p. 493). ولن تكثر الصور — حقًّا، على أية حال — إلا في المقطوعات ذات الطابع الشعري الصريح.
١٦٠  نشير — ضمن أشياء أخرى — إلى البحث العجيب في الأسلوب، الذي تكشف عنه الكلمات العتيقة roide، وle Col، وكومة كبيرة من sols (على التوالي، في Les Veuves, p. 422: La Corde, p. 461; La Fausse Monnaie, p. 454). وهذه الأشكال الثلاثة تنقيحات؛ فقد استخدم «بودلير» — في البداية — الكلمات العادية raide, cou, sous.
١٦١  Chacun sa Chimère, p. 411.
١٦٢  Le Fou et la Vénus, p. 413.
١٦٣  إنها السحب في L’Etranger (p. 406)، «السحب التي تمر … هناك … هناك … السحب الرائعة!»، التي ترمز — بمجرد الإيحاء — إلى الهروب إلى مكان آخر، إلى نداء المجهول.
١٦٤  انظر ما سبق في الفصل الأول من القسم الأول Lettre-Préface du Spleen de Paris.
١٦٥  «إن معالجة اللغة بمهارة لهي ممارسة لنوع من التعويذة الإيحائية» (مقال عن «تيوفل جوتييه»، Œuvres, t. II, p. 471).
١٦٦  Fusses (Œuvres, t. II, p. 636).
١٦٧  Eod. loc., p. 630. وستكون الجملة غامضة إن لم يتم التعليق عليها بجملة قصيدة النثر «في الساعة الواحدة صباحًا»: «أن يوزع حفنة أيادٍ (…) وذلك أن يأخذ حذره بشراء قفازات» (Œuvres, t. I, p. 417).
١٦٨  وسيكون من المفيد — في هذا الصدد — مقارنة تخطيط «الرامي الأنيق» الموجودة في (Fussées, t. II, p. 635) بالقصيدة المنقحة في «سأم باريس» (t. I, p. 481).
١٦٩  ذكره «ج. كريبيه»، في طبعته، Notes, p. 345.
١٧٠  La Chambre Double, p. 410.
١٧١  La Soupe et les Nuages (Œuvres, t. I, p. 481).
١٧٢  Eod. loc., p. 449. وقطع النغمة يصبح — هنا — أكثر إدهاشًا، حيث إن الجملة النثرية («هؤلاء الناس لا يُحتَمَلون بالنسبة لي بعيونهم المفتوحة مثل الرتاجات») التي تلي جملةً متسقة وموزونة، يطولها أيضًا تأثير تكرار («كنت أغرق في عيونكم الفاتنة والعذبة، بغرابة، في عيونكم الخضراء التي يسكنها الكبرياء وتستلهم القمر …»).
١٧٣  Salon de 1859, t. II, p. 231؛ قارن بما سبق في الفصل الأول من القسم الأول.
١٧٤  «هنا، كل شيء له الوضوح الكافي والغموض العذب للانسجام»، على ما يكتب «بودلير».
(La Chambre Double, Œuvres, t. I, p. 409).
١٧٥  «كل منهم آنئذٍ أمرد …» (قصيدة مهداة إلى «سانت-بوف» عام ١٨٤٤م، Œuvres, t. I, p. 226).
١٧٦  كُتِبَ هذا الفصل عندما نُشِرَت في Mélanges Bonnerot (p. 189) دراسة بقلم «ش. برونو» حول «إبداع سانت-بوف»: الجملة الطرية في «لذة»، التي تُظهر التأثيرات الناجمة عن الأقواس والشرطة ونقاط الإرجاء والتمديد الإيقاعي للجملة في «لذة»، عديد من الطرائق التي استطاع «بودلير» الاستفادة منها.
١٧٧  وسنجد في دراسة «جيزان» حول قصائد النثر لدى «بودلير» (الذي يمنح — من ناحية أخرى — مكانةً زائدة، فيما أعتقد، لتماثلات النثر البودليري) عدة ملاحظات دقيقة عن انطباع «الخفة والانزلاق» الذي كثيرًا ما يثيره نثر «سأم باريس»، وعن حركته في «الانسياق المخطط» (Prose et Poésie chez Baudelaire, Etude de Lettres (paginé 86–107), Lausanne, Imprimerie de la Concorde, 1948, pp. 103 et 105). وحول «التعرجات» البودليرية، سنقرأ التأملات الغريبة ﻟ «ج. ب. ريشار» في Poésie et Profondeur, éd., du Seuil, 1955, p. 145 et sq..
١٧٨  Le Port (Œuvres, t. I, p. 476).
١٧٩  Le rythme du vers libre symboliste, Genéve, 1943, t. I, ch. 3: L’Emuet et sa place dans le rythme. ويوضح «مورييه» — تمامًا — على العكس من ذلك، أن القطع المؤنث، أو الترخيم الجوفي (الذي يرد بعد e الصامتة) جامد ومتنافر، مثلما لدى «فرايرين» في كثير من الحالات: De poings houleux/et de luttes/exaspérées (انظر t. I, p. 122).
١٨٠  t. I, p. 446. وفي الفقرة التالية:
Elle s’avance, /balançant/mollement/son tor/se si mince/sur ses han/ches si larges.
(إنها تتقدم/ متأرجحةً/ في طراوة/ وجذﻋ/ ـها النحيل جدًّا/ فوق أردا/ فها الضخمة جدًّا). ولنحاول أن نقول Son corps si mince (جسدها النحيل جدًّا)، لتختفي كل أرجحة «المركب الجميل».
١٨١  يدرس «كريسو» (Le style et ses techniques, P.U.F. 1947) هذه الجملة، ويوضح أهمية علامات الترقيم، لكن مع اهتمامه — فحسب — بحذف عناصر الجملة (ص٢٢٦).
١٨٢  انظر طبعة «كريبيه»، ملاحظات، ص٢٣٥. ولم تكن أسباب التغييرات التي تمت في «دوروتيه الجميلة» قائمةً على أساس جمالي، أبدًا: انظر الفصل الثاني من القسم الأول.
١٨٣  L’invitation au Voyage, t. I, p. 132.
١٨٤  Les Projets, p. 445.
١٨٥  La Belle Dorothée, p. 446.
١٨٦  Les Bienfaits de la Lune, p. 473.
١٨٧  Les Yeux des Pauvres, p. 449.
١٨٨  Et, bien que votre voix soit douce, taisez-vous!
Taisez-vous, ignorante, âme toujours ravie!
(ذكره «كاساني»، La versification de Baudelaire, p. 113، الذي أشار — بهذا الصدد — إلى أننا نجد أيضًا لدى «بو» استعادات تعبيرية).
١٨٩  «عن تبخر وتكثيف الأنا. كل شيء هنا» (Mon Cœur mis à nu, Œuvres, t. II, p. 642).
١٩٠  Le Confiteor de l’Artiste, t. I, p. 408.
١٩١  Le Thyrse (A Franz Liszt), p. 468. وأذكر — بهذه المناسبة — بأن الجملة الشعرية، حسب «بودلير»، يمكن أن تقلد «الخط الأفقي، والخط الأيمن الصاعد، والخط الأيمن الهابط …» إلخ. (Œuvres t. I, p. 583)، ويبدو أنها أكثر استساغةً من جملة النثر الشعري.
١٩٢  ونعلم أن «بو» نفسه قد أوضح أنه اختار عن عمد مؤكد هذه اللازمة بسبب صوتيتها (Le Genèse d’un Poème). تفسير صادق أم مخادع، لا نعرف تمامًا.
١٩٣  تجميع ثلاثي، وكل مجموعة — في ذاتها — ثنائية.
١٩٤  تعداد مزدوج: خمسة أسماء، تليها خمسة أفعال، تستعيد الكلمات السابقة، مع توسيعها.
١٩٥  استعادة للكلمات السابقة.
١٩٦  Enivrez-vous, p. 468.
١٩٧  A une heure du matin, p. 418.
١٩٨  Prose et poésie chez Baudelaire, Etude de Lettres (paginé pp. 87–107), Lausanne, Imprimerie de la Concorde, 1948, pp. 95–98.
١٩٩  Un plaisant, p. 408.
٢٠٠  Le vieux Saltimbanque, p. 426.
٢٠١  Déja! p. 469.
٢٠٢  Le Miroir, p. 475.
٢٠٣  ص٤٧٤. ثلاثة من نمط ثماني المقاطع في بداية المقطوعة، واثنان من النمط السباعي المقاطع.
٢٠٤  ص٤٩٢. تجميعات ثلاثية، مع تركيب تماثلي ومتشابه المقاطع (٥  +  ٥  +  ٥).
٢٠٥  تجميعات ثنائية، مع تركيب تماثلي وتماثل صوتي (mordante-ruisselante).
٢٠٦  تجميعات ثلاثية: ثلاثة أفعال ذات مدة زمنية متساوية بشكل محسوس، والفعل الأخير يشكل قافية مع الكلمة الأخيرة للمجموعة الأولى الثلاثية (trottent-crotte).
٢٠٧  Prose et poésie chez Baudelaire, Lausanne, Imprimerie de la Concorde, 1948, p. 103؛ وقد كُتِبَ هذا الفصل عندما تعرفت على كتاب Ratermanis, Etude sur le style de Baudelaire d’après les Fleurs du Mal et les Petits poèmes en prose, éd. Arts et Sciences, Bade, 1949. وتؤكد دراسة إيقاع قصائد النثر أن إيقاعها «أكثر فقرًا — بشكل محسوس — في التكوينات الثنائية»، مما في «أزهار الشر» (ص٤٠٣). وقد أحصى «رترماني» ٢٣٠ مثالًا على الجمل ذات الخاتمة الفردية المقطع.
٢٠٨  Les Fleurs du Mal, éd. Crépet et Blin, Créti, 1942, p. 336.
٢٠٩  T. I, p. 488.
٢١٠  انظر طبعة Crépet من Crépet, Petits Poèmes en Prose, notes, pp. 235-236.
٢١١  انظر — بهذا الصدد — طبعة Fleurs du Mal Par Crépet et Blin, p. 335. ولم تظهر «خصلة الشعر» إلا عام ١٨٥٩م، أي بعد عامين من «نصف كرة في خصلة شعر». لكن «أسبقية النشر لا تثبت أسبقية التأليف».
٢١٢  Petits Poèmes en Prose, éd. des Belles-Lettres, Introduction, p. XX.
٢١٣  T. I, p. 409. ويمكننا أن نقوم بتقسيم مغاير، لكن النتائج لن تتغير.
٢١٤  قارن Cressot, Le Style et ses techniques, P.U.F., 1947, 3° partie, ch. I, La Phrase.
٢١٥  T. I, p. 433.
٢١٦  المرجع السابق، ص٤١١-٤١٢.
٢١٧  Le Fou et la Vénus, p. 412؛ قارن مع «تبطين» ouatage صوتي في «غسق الليل» من «أزهار الشر»: “Voici le soir charmant, ami du criminel” (t. I, p. 408).
٢١٨  Le Mauvais Vitrier, p. 416.
٢١٩  Les Bienfaits de la Lune, p. 472.
٢٢٠  انظر — فيما يتعلق بالجناس — Cassagne, Versification et métrique de Baudelaire, 1906, ch. V, pp. 57–79.
٢٢١  Le Mauvais Vitrier, p. 415.
٢٢٢  Assommons les Pauvres, p. 489.
٢٢٣  Enivrez-vous, p. 468. ونجد — بالفعل — في «أزهار الشر» «الوحيدة التي أحبها» (De Profundis Clamavi)، و«أيضًا، حالما» (La fin de la Journée) و«نبيذ بشع» (La Prière d’un Païen). انظر طبعة «كريبيه» و«بلان»، ص ص ٣٥٠، ٣٥١.
٢٢٤  Les bons Chiens, p. 494.
٢٢٥  Notes nouvelles sur E. Poe, Préface des Nouvelles Histoires extraordinaires, IV.
٢٢٦  انظر ص٦٠، ٦١ فيما سبق.
٢٢٧  ص٤٣٣.
٢٢٨  ص٤٨١.
٢٢٩  Déjà! t. I, p. 469.
٢٣٠  «التكرار واللازمة طبيعيان بالنسبة لبودلير: إنه الشكل الأنسب لفنان تستحوذ عليه أفكار ثابتة، فريسةً للسأم، ومنطويًا على نفسه، ضائعًا دائمًا في أحلامه. وهما أيضًا — بالنسبة لموهبة موسيقية بالأساس — الطريقة التي تفرض نفسها، إذا ما كنا نسعى إلى منح الإيقاع مزيدًا من التأكيد، ومزيدًا من الاتساع في الانسجام. وتكرار الأصوات والأشكال موجود في كل الفنون العظيمة وكل القصائد الكبيرة».
(Charles Baudelaire, Crès, 1920, p. 351).
٢٣١  Poe, La Genèse d’un Poème, traduit par Baudelaire (Œuvres, éd. Calmann-Lévy, t. VII, p. 516).
٢٣٢  نعرف القصيدة المكتوبة عن «الجمال»: «أكره الحركة التي تستبدل الخطوط …» لكن «بودلير» يتحدث في fussées «عن» سحر غامض ولا نهائي «نجده في تأمل مركب يتحرك، وعن الفكرة الشعرية التي تُسْتَخْلَص من عملية الحركة في هذه الخطوط» (Fusées, Œuvres, t. II, p. 638).
٢٣٣  انظر الفصل الأول من القسم الأول.
٢٣٤  Note pour l’édition Garnier, 6 Fév. 1866.
٢٣٥  انظر دراسة G. Streit, Die Doppelmotive in Baudelaire Fleurs du Mal und Petits Poèmes en Prose, Zürich, Heitz, 1930. وسنجد أيضًا دراسةً لبعض النسخ المزدوجة عند Ratermanis, Etude sur le style de Baudelaire d’après les Fleurs du Mal et les Petits Poèmes en prose, èd. Arts et Sciences, Bade, 1949, pp. 417–46.
٢٣٦  انظر الفصل الثاني من القسم الأول.
٢٣٧  في طبعتهما المحققة، ٣٣٥، ٣٣٧.
٢٣٨  Fleurs du Mal, éd. Crépet et Biln, p. 336.
٢٣٩  Les hommes de bonne volonté, t. III, p. 38؛ تم تقديم عدة ملاحظات هامة عن «بودلير» وخاصةً فيما يتعلق بقصيدة «خصلة شعر».
٢٤٠  وصف انطباعي يسمح — بالإضافة إلى ذلك — بالمقارنة مع «لازورد المساء». ولا يجرؤ «بودلير» — في النثر — على استخدام الصفة بدون تخفيف، عندما يكتب في «دوروتيه الجميلة»: «شعرها الهائل شبه الأزرق …» (t. I, p. 446).
٢٤١  قارن، في «لكل خرافته»: «قبة السماء السأمية» (t. I, p. 412)، وفي «الجاتوه»: «قبة السماء التي كنت ملتفًا بها»، وكلمة «قبة» أكثر تجريدًا، وأقل جرأةً من الصفة «مستديرة».
٢٤٢  Crise de vers (Œuvres, éd. de la Pléiade, p. 368): «الشعر الذي يعيد — عبر عديد من الألفاظ — صياغة كلمة شاملة جديدة، وغريبة على اللغة كأنها تعويذة …»
٢٤٣  ينتهي «روهو» — الذي قام بمقارنة شديدة التدقيق، فقرةً فقرة، بين قصيدتين — إلى أن النثر حر، وبسيط وحميم، فيما النظم — على العكس — ساطع، باروكي، و«رسمي»: (Das Französische Prosagedicht, Friederichsen, de Gruyter & Co, Hamburg, 1929, p. 41).
٢٤٤  انظر M. Seguin, Génie des Fleurs du Mal, Messein, 1938, p. 96 (تخصيص يتبناه «كريبيه» و«بلان»). ﻓ «الصديقة القديمة» — التي تظهر في بداية قصيدة النثر — كانت في البداية «عشيقة عزيزة» في طبعات ١٨٥٧م و١٨٦١م.
٢٤٥  فيما يخص هذه الفكرة الرئيسية، التي ترجع إلى «سويدنبورج» و«فورييه» وبالنسبة لانعكاساتها في عمل «بودلير»، انظر كتاب J. Pommier, La Mystique de Baudelaire, Belles-Lettres, 1932.
٢٤٦  انظر الفصل الخاص عن «بودلير» في Michaud, Message du Symbolisme, Nizet, 1947, t. I.
٢٤٧  «انطباع التأرجح لمركب يندفع من موجة إلى موجة نحو فردوس بعيد».
(Ch. Baudelaire, Crés, 1920, p. 357).
٢٤٨  نشر «بودلير» عددًا من الملاحظات — في La Fanfarlo — عن الفن «الشهواني» الذي يجب على الطبخ أن يكونه (Œuvres, t. I, p. 552).
٢٤٩  الذي كتب — حسبما نعرف — «فلسفة التأثيث»، فهل يتذكر «بودلير» «منزل» «لاندور» الريفي، المشيد، وهو ما يمكن ملاحظته، «على النمط الهولندي القديم»؟
٢٥٠  مقال عن «بانفيل» Œuvres, t. II, p. 456. ويقول «بودلير» أيضًا: «القيثارة تهرب — عن طيب خاطر — من كل التفاصيل التي تتلذذ بها الرواية».
٢٥١  Poe, La Genése d’un Poème, traduit par Baudelaire (Œuvres, Calmann-Lèvy, t. VII, p. 516).
٢٥٢  «ديريو» هو الذي عقد المقارنة بين نصَّي «دعوات» في إحدى دراساته عن «بودلير» (Sternengasse, 1917)، لكنها انطلقت من فكرة أن قصيدة النثر قد كُتِبَت أولًا، وأننا — في النثر — «نشعر بصوتيات النظم وهي تستيقظ» (ص٣٩)، لكنه لم يتمكن من التوصل إلا إلى اعتبارات بالغة العمومية حول تميز الشعر المنظوم، كشعر منظوم.
٢٥٣  خطاب إلى «أ. فريس»، ١٩ فبراير ١٨٦٠م. ونعلم — بالنسبة لبودلير — أن «البلاغة والعروض ليسا بطغيان تم اختراعه عشوائيًّا، لكنها مجموعة من القواعد التي يستلزمها التنظيم الروحي للكائن نفسه» (Salon de 1859, Œuvres, t. II, p. 232).
٢٥٤  خطاب إلى «هوساي»، ديسمبر ١٨٦١م (أُعيدَ نشره في طبعة «كونار» t. III, p. 224). ويتعلق الأمر بالقصائد النثرية العشرين الأولى، التي ستنشرها «لابريس» عام ١٨٦٢م، وغالبًا ببضع قصائد أخرى (قارن بما سبق في الفصل الثاني من القسم الأول).
٢٥٥  رتبت «س. شوير» في قسمين — «شيء ما جديد كإحساس»، و«شيء ما جديد كتعبير» — الملاحظات التي خصصتها ﻟ «قصائد نثر قصيرة لبودلير» (Inaugural Dissertation, Université d’lena, 1935).
٢٥٦  بودلير، خطاب إلى والدته، ٩ مارس ١٨٦٥م.
٢٥٧  في مقالة ﺑ Boulevard، ٣١ أغسطس ١٨٦٢م (وسنجده منشورًا في طبعة Crépet, Œuvres de Baudelaire, Conard, t. III).
٢٥٨  Œuvres de Baudelaire, édition Calmann-Lévy, Introduction par Théophile Gautier, datée du 20 Février 1868.
٢٥٩  الرابع من مايو ١٨٦٥م. هل حذف «بودلير» بعض القصائد الضعيفة للغاية؟ نعلم أن «سأم باريس» يضم خمسين قصيدة بالضبط.
٢٦٠  جمع «ج. كريبيه» — في طبعته المحققة — جميع الوثائق التي تتيح متابعة هذا التاريخ الأليم لهذا الانهيار التدريجي.
٢٦١  عدة قوائم — على التحديد — هي التي سنجدها في طبعة Œuvres, t. I, p. 650.
٢٦٢  Nadar. Charles Baudelaire intime (Blaizot, 1911).
٢٦٣  كريبيه وبلان، ص٢٣٨. وأُعيدَ — نقلًا عنها — نشر نص هذا «الحلم» الذي لم يسبق نشره أبدًا قبل ذلك إلا محرفًا.
٢٦٤  Paradis artificiels, Le Théâtre de Séraphin, p. 281؛ وفيما يتعلق بما يسمى الحلم «الهيروغليفي» — الذي يتسم بطابعه «العبثي، وغير المتوقع» — يقول «بودلير» إنه قاموس لا بد من دراسته، ولغة يمكن للحكماء الحصول على مفتاحها (السابق، ص٢٨٠)، وذلك ما لا يفتقر إلى العلاقة بأفكار «ج. دي نرفال».
٢٦٥  انظر الفصل الثاني من القسم الأول.
٢٦٦  Aurélia, ch. III. والعنوان الفرعي ﻟ «أوريليا» (العنوان الأولي) هو «الحلم والحياة». ويذكر «كريبيه» — في طبعته من «قصائد نثر»، فيما يتعلق بمقطع «حلم» البوهيمي المتأنق لبودلير — «ممرات — ممرات بلا انتهاء! سلالم حيث نصعد، حيث نهبط، وحيث نعاود الصعود …»
٢٦٧  بالإضافة إلى تعبير «فراديس اصطناعية» المذكور في ملحوظة بالصفحة السابقة، تظهر نفس الفكرة في خطاب إلى «آسيلينو» (١٣ مارس ١٨٥٦م)، حيث يضيف «بودلير» — بعد أن يسرد أحد أحلامه — أنه «محاصر بأحلام تدفعه» غرابتها الكاملة ومفاجأتها إلى أن يعتقد «أنها لغة هيروغليفية» لا يملك مفتاحًا لها. حول كل هذه المفاهيم عن الحلم، أُحِيلَ إلى العمل الهام A. Béguin, Le rêve chez les romantiques allemands et dans la poésie française moderne, Marseille, Cahiers du Sud, 1937.
٢٦٨  خطاب بتاريخ ١٥ مايو ١٨٧١م إلى «دوميني»، ويسمى «خطاب الرائي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥