(١) أرابيسك القصائد، قصائد
«فنية»
ما
أجاد «بودلير» قوله — عن الفنان التشكيلي،
عام ١٨٥٩م — يمكن أن يُقال أيضًا عن
الشاعر: «كل العالم المرئي» — أي، في
حالتنا الآنية، المدينة وشوارعها وسكانها —
«ليس سوى مخزن لصور وإشارات سيمنحها الخيال
مكانًا وقيمة نسبيتين، إنه نوع من العجين،
على الخيال أن يتمثله، يهضمه ويشكله.»
٧٠ ولن تكون
قصيدة إلَّا
اعتبارًا من اللحظة التي يأخذ فيها الكاتب
العناصر التي يتيحها الواقع و«ينظُمها بفن معين»،
٧١ ليصنع منها إبداعه الخاص،
وموقع هذه العناصر في «أرابيسك» القصيدة،
٧٢ والطريقة التي «تعمل» بها ضمن
الكل، والتي يتفاعل بها الواحد مع الآخر،
لإنتاج مؤثرات الانسجام أو التناقض،
وأخيرًا، خضوع هذه العناصر ﻟ «الفكرة
المولِّدة» وﻟ «القانون الأعلى للانسجام العام»،
٧٣ الذي سيمنح القصيدة نبرتها
الخاصة ووحدتها، كل هذا ذو أهمية قصوى (وهو
ما لا ندركه — دائمًا — بشكل كافٍ) في هذا
الإبداع ﻟ «عالم جديد»
٧٤ عالم شعري.
كيف يدرك «بودلير» — في «سأم باريس» —
هذه الصياغة للعناصر التي يتيحها الواقع،
والتي تُعتَبَر إحدى الأدوات الرئيسية التي
يتمتع بها شاعر النثر، ليكتب قصائد، لا
نثرًا، وكيف يحققها؟ هذا ما يتوجب علينا
بحثه أولًا.
سنرى أنه لا غنى — هنا — عن تأمل
التواريخ جيدًا، فالخطأ في ذلك (والواقع
أنني لا أعتقد أن أحدًا قد فعل ذلك، حتى
الآن) لن يمكننا من متابعة التطور الداخلي
للفكر الإبداعي عند «بودلير»، في الفترة من
١٨٥٧م حتى ١٨٦٦م.
ففي عام ١٨٥٥م، بعث «بودلير» إلى
«دنوييه» — من أجل ديوان «فونتبلو
Fontainebleau»
المشترك — بأولى قصيدتيه النثريتين: «غسق
المساء» و«العزلة»،
٧٥ بالإضافة إلى قصيدتي «غسق» من
«أزهار الشر»، معلنًا عدم قدرته على
الكتابة — في شعر منظوم — «عن الطبيعة (…)
عن الغابات، عن أشجار البلوط الكبيرة، عن
العشب، وعن الحشرات»،
٧٦ ويضيف:
في أعماق الغابة، وأنا محبوس في
هذه القباب الشبيهة بقباب الكنائس
والكاتدرائيات، أفكر في مدننا
المدهشة، والموسيقى الإعجازية التي
تدور حول القمم تبدو لي ترجمةً
للنواح البشري.
لكن، في عام ١٨٥٧م، عندما فكر — حقًّا — في
كتابة ديوان من قصائد النثر، وفكر في
تسميته (ربما تحت تأثير «جاسبار الليلي»؟)
ﺑ «قصائد ليلية»،
٧٧ لم تكن غايته استغلال هذه
القريحة في الشعر «المديني»، بقدر ما
استهدف كتابة عمل نثري نظير ﻟ «أزهار
الشر». أربع قصائد — عام ١٨٥٧م — (من خمس)
٧٨ تستعيد — في الواقع — موضوعات
متماثلة (في «أي مكان خارج العالم
Anywhere out of the
world»، نجد موضوع
«الرحلة»، وفي «المشروعات»، نجد موضوع
«البوم»، كموضوعين يختلطان بالإيحاء
الغرائبي الموجود في «البعيد عن هنا»)، أو
متطابقة («ازدوجت «قصيدة» نصف كرة في خصلة
شعر»، بقصيدة «خصلة شعر»؛ وقصيدة «الدعوة
إلى السفر» ازدوجت بقصيدة تحمل نفس العنوان
في «أزهار الشر»)، ففي قصائد عام ١٨٥٧م
هذه، وفيها فقط — تقريبًا — يبدو أن
«بودلير» كان يبحث، تحت تأثير «آلويزيوس
برتران» بلا شك، عن تماثلات شكلية، ومؤثرات
اللازمات أو التكرارات الصوتية، التي تفرض
على القصيدة — مثلما يفعل المقطع الشعري
وبيت الشعر — معمارًا معدًّا سلفًا، وفي
«أي مكان خارج العالم»، ثمة لعبة اقتراح
ورفض تبادلية، مع تصاعد لقلق يؤدي إلى
نتيجة مفاجئة، وفي «نصف كرة» ثمة مؤثر
الانتظام المستمد من التكرار، في مقدمة كل مقطع،
٧٩ لكلمات «شَعرك» أو «خصلة
شَعرك»، وفي «الدعوة إلى السفر»، عدة
استعادات لتعبير («بلد النعيم … بلد النعيم
الحقيقي … بلد النعيم الحقيقي، أقول لك»)،
وفي الختام، تجميع لكل الموضوعات المثارة،
التي تلتحم لتكون بورتريه مماثلًا للمرأة
المحبوبة (فالكلمات: «إنه أنتِ … نحوكِ
أنتِ …» تُستعاد ثلاث مرات، في هذا المقطع
الأخير). وعلينا أن نضيف أن السجع والمحارفة،
٨٠⋆
اللذين رصد «كريبيه» و«بلان» تكرارهما في
«نصف كرة في خصلة شعر»،
٨١ يخلقان إيقاعًا صوتيًّا شبيهًا
بما تحدثه القافية:
Un
charmant rêve plein de voilures et de
mâtures … oû
l’atmosphère est parfumée par les fruits, par
les feuilles
… (حلم ساحر مليء
بالأشرعة والصواري … حيث الجو معطر
بالفواكه والأوراق). وإذا ما لاحظنا إلى أي
حد يحرص «بودلير» على وحدة المناخ، ويتجنب
كل تنافر صادم، حتى خلال سعيه إلى بعض
المؤثرات التصويرية، فإننا نميل إلى أن
نستخلص أن هذه القصائد هي أكثر قصائد
الديوان وضوحًا ووعيًا من ناحية الإعداد
الفني، ولنضم إليها — إن شئنا — «دوروتيه
الجميلة»، وهي قصيدة فكر «بودلير» — طويلًا
— في منحها الشكل المنظوم و«التعداد
الغنائي» ﻟ «محاسن القمر»، بتكرارها الواسع للتموجات
٨٢ — من خلال حركتها المزدوجة
المتماثلة، التي تُشعِر الروح بالتوازي
الذي تخضع له مصائر العشاق «غريبي الأطوار»
— وسنتوصل إلى الجانب التناغمي و«الفني»
لفن «بودلير»، كشاعر نثر، عندما سيجتهد
لخلق عالم كل ما فيه ليس سوى:
نظام وجمال
رفاهية وسكينة ونشوة.
لكن، اعتبارًا من عام ١٨٦١م، سوف يسيطر
الإلهام الباريسي على شعر «بودلير»: فيعطي
مجلة «لاروفي فانتازيست» ثلاث قصائد
«باريسية»: «العامة» و«الأرامل» و«المهرج
العجوز» (والأخيرتان — وهو أمر دال — كانتا
محل تقدير خاص من «سانت-بوف»)،
٨٣ وقد ألف «بودلير» أربع عشرة
قصيدة أخرى، ستنشرها «لابريس» في أغسطس
وسبتمبر ١٨٦٢م.
٨٤
عندئذٍ، أحس «بودلير» بكل الصعوبات
الملازمة لمفهومه الواقعي واﻟ «رابسودي»
لقصيدة النثر:
٨٥ فإذا ما أردنا أن نعرض
لجَوَّال «يُسقط» فكره «على كل واقعة في
تسكعه»، فإننا سننكر — من نفس المنطلق — أي
تكوين، وأي إعداد فني، وكي نستعيد التمييز
الذي أجراه «بودلير» في «صالون ١٨٥٩م»، فلم
يعد الأمر يتعلق — عندئذٍ — ﺑ «
خيال خلَّاق»،
لكن ﺑ «فانتازيا»،
٨٦ ﺑ «
مصادفة»،
٨٧ «إن شئنا، هذه المصادفة التي
اعتبرها «بودلير» — قبل «مالارميه» —
متعارضةً مع العمل الفني، وسنرى «بودلير» —
في قصائد عام ١٨٦٢م هذه — موزعًا بين
الرغبة في الاستسلام إلى مصادفات التسكع
(بالخضوع إلى العالم الخارجي، إلى
«الشيء»)، والرغبة في تنظيم قصيدته في شكل
فني: إنه الصراع دائمًا، «
الازدواجية»
بين الفنان وموضوعه، بين الفكر
والمادة.
وسواء ما إذا كان «بودلير» قد أحس بضرورة
التركيز والوحدة، المتطابقين مع المفهوم
الجمالي الأعلى ﻟ «بو»: «لا يجب أن تتسرب —
إلى التكوين كله — كلمة واحدة، بلا قصد، لا
تنحو — بصورة مباشرة، أو غير مباشرة — إلى
إنجاز مخطط تم التفكير فيه مسبقًا»:
٨٨ وإذا ما كانت لديه — من ناحية
أخرى —
أفكار دقيقة، إلى حد ما، حول بنية قصيدة
النثر، فلدينا الدليل على ذلك في التعديلات
التي أدخلها على نص
نثري كتبه عام ١٨٥٣م — هو
«أخلاقيات اللعبة» — ليجعل منه عام ١٨٦٢م،
إحدى «قصائده النثرية» العشرين، ويتناول نص
عام ١٨٥٣م تطور الاختلافات بين أنواع
اللعب: «الاختراعات الصغيرة الأرضية»،
و«اللعبة الحية»، و«اللعبة العلمية»… إلخ،
وعلى سبيل التوضيح، يُدرج «بودلير» هذا
«الشيء المرئي» خلال الإحصاء:
وبصدد لعبة الفقير، فقد رأيت
شيئًا أبسط بكثير، لكنه أكثر كآبةً
من اللعبة التي يبلغ ثمنها مليمًا:
إنها اللعبة الحية.
٨٩
وفي قصيدة النثر، يستخدم «بودلير» —
كمقدمة — ما قاله عن «الاختراعات الصغيرة
الأرضية»، لكنه يكثف ويحذف التحديدات
التقنية الزائدة، والتأملات ذات اللهجة
الأخلاقية، الخالصة، ثم يدخل — دون تمهيد —
في صلب الموضوع.
فكيف سيرفع من شأن هذه الطُّرفة إلى
مستوى القصيدة؟ أولًا بأن يمنحها مغزًى
مختلفًا: فسوف يشدد على الرمز، وذلك بتطوير
فكرة النص الأول عن «أسوار الحديد
الرمزية»، وسيكشف الطفلان — الغني والفقير
— كلٌّ منهما للآخر عن ألعابهما، «عبر هذه
الأسوار الرمزية، التي تفصل بين عالمين،
الشارع الرئيسي والقصر»، ويجد «بودلير» —
في الختام — خيطًا موفقًا يوسع من الطُّرفة
ويمنحها ملمحًا روحيًّا:
وأخذ الطفلان يتبادلان الابتسام في
أُخوة، بأسنان ذات بياض
متساوٍ.
٩٠
هو الخيط الختامي الذي يعتبر — كما يقول
«ج. كربيه» — «الضوء الأكبر لهذه اللوحة العذبة»،
٩١ أعده «بودلير» بملاحظة تلعب —
في أرابيسك القصيدة — دور الوسيط ونقطة
التحول: لم يعد الفقير الصغير يُوصَف —
(كما في المقال النثري) — ﮐ «أحد هؤلاء
الصبية الذين يشق المخاط عليهم — ببطء —
طريقًا بين الوسخ
والتراب»،
لكن على نحو أكثر مثالية، باعتباره «أحد
الصبية المنبوذين، الذي ستكشف العين
المنصفة مواطن الجمال فيه، إذا ما نظفته من
أوكسيد البؤس الناتئ والمنفِّر، مثل عين
العالِم التي تتخيل لوحةً مثالية تحت
الطلاء اللامع لصانع المركبات.»
وفي المقام الثاني، فهذا النص — الذي لم
يشكل في صورته الأولية إلا مقطعًا واحدًا،
وجزءًا من كُلٍّ أوسع — قد اقتطعه «بودلير»
ونظَّمه في ثماني فقرات: ونستطيع أن نستخلص
من ذلك أنه يضع نفسه ضمن مدرسة «برتران»،
فيعتبر التقسيم إلى مقاطع من خصائص قصيدة
النثر، أليس المقطع le
couplet — هنا — هو
المرادف ﻟ «المقطع الشعري
la
strophe» في الشعر
المنظوم؟ وعلى أية حال، فهذا التقسيم يسمح
له بتهوية قصيدته، وبأن يفصل العناصر
بوقفات إيحائية، فيبرز الخيط الأخير — على
إيجازه — بطريقة أكثر تأثيرًا
أيضًا.
ونستطيع — على نفس النحو — أن ندرس بنية
«الغريب» و«لكلٍّ خرافته» و«الغرفة
المزدوجة» (كي لا نذكر سوى أكثر قصائد
«بودلير» نجاحًا، بما لا يمكن إنكاره)،
لنصل إلى نتيجة مفادها أن الإنجاز في
الأعمال — الرمزية أو الغنائية — متحقق على
مستوى القصد، وهو — هنا — قصد شعري وخلاق،
على نحو صريح، ولنكتفِ بالنظر — عن كثب
أكثر — إلى «صلاة اعتراف الفنان»، وهي إحدى
القصائد التي تساهم في خلق «غنائية حديثة»
تجعلنا نشعر بتمردات وطموحات وإحباطات روح
حديثة من نمط «بودلير» نفسه، ولن نجد
مثالًا أفضل منها على «سحر إيحائي» ينطوي —
حسب تعبير «بودلير» — على «الموضوع
والشيء»، على الأرابيسك المزدوج للعناصر
المادية: اللازوردي،
والبحر بأمواجه، والشراع البعيد، وعناصر
روحية «تتجاوب» معهم،
لتشكل لوحةً قوية البنيان لا شيء فيها
مجاني: فاللازوردي يتجاوب مع انطباع
باللانهائي وبالروحانية («العفة»
و«الشفافية»)، ومع البحر انطباعٌ بالجمال
الثابت وغير المحسوس، ومع الشراع «المرتعش
في الأفق» شعور بالضعف، والعزلة، يتجاوب مع
«الوجود العُضَال» للشاعر، ويقوده إلى صرخة
رعب أمام الاتساع الرهيب للمشهد، وعجزه عن ترجمته.
٩٢ ولفهم الطريقة التي تعمل بها
العناصر المختلفة — من الناحية الجمالية —
علينا
أن نفكر في الدور
الوسيط الذي يلعبه هذا
الشراع الصغير، وهو العنصر الإنساني الوحيد
في المشهد، الذي يصنع — بشكل ما —
الانتقالة بين المشهد والإنسان.
وعلى العموم، فالبناء أكثر تركيبية — في
هذه القصائد التي نعثر فيها على موضوعات
«بودلير» الغنائية الكبرى — والعلاقات
المعمارية مدروسة بشكل أفضل، و«قانون
الانسجام العام» تمت مراعاته أكثر، وفي
المقابل، فإن نقص الوحدة الفنية فاضح —
غالبًا — في القصائد الباريسية، وذلك بسبب
نزعتها «الرابسودية» نفسها.
ولنأخذ — على سبيل المثال — قصيدة
«الأرامل»: لقد أحس «بودلير» — نفسه —
بمساوئ هذه الصفات الملفقة الواحدة في
الأخرى، التي اجتهد لخلق وحدة لها — رغم
أنها مصطنعة — من خلال الجملة/المفصل: «من
هي الأرملة الأكثر حزنًا والأكثر إثارةً
للحزن، أهي تلك التي تجرجر في يدها طفلًا
لا تستطيع أن تقتسم معه أحلام اليقظة، أم
تلك الوحيدة تمامًا؟»
٩٣ (في «العجائز القصيرات» — من
«أزهار الشر» — لا يطور «بودلير» غير نموذج
واحد). لكن الاستطرادات — في نفس القصيدة —
تلعب، فيما يتعلق بالحفل الموسيقي، دور
فاتح شهية حقيقي، وأخشى أن يكون «سانت-بوف»
— بشِعره المتراخي، الذي يتبع مصادفات
النزهة أو المحادثة (انظر — من بينها —
«محادثة الحفل الراقص»)
٩٤ — قد أصبح أستاذًا خطرًا على
«بودلير».
والخطر — بالنسبة للباقي — يحس به
«بودلير» جيدًا: فهو يجتهد — على سبيل
المثال — في «المهرج العجوز» ليؤلف وينظُم
لوحة العيد السوقي، فيصنع تقابلًا — يتخذ
شكل تعارض حاد بين الجانب المضيء، الصاخب
(«انفجار جنوني للحيوية»)،
٩٥ والجانب المظلم والكئيب، ذلك
الركن الذي يقف فيه المهرج «صامتًا
وساكنًا» — تناقض بين المظاهر الخارجية
والنزعات الأخلاقية في آنٍ، وهو يجتهد —
أيضًا — للارتقاء بالوصف من خلال الرمز
الختامي، الذي برغمه (وربما بسببه) تظل
القصيدة كلها — فيما يبدو لي — في منتصف
الطريق بين النثر والشعر، فالمستوى الحكائي
والمستوى المجازي متجاوران، وليسا ممتزجين
(انظروا — على النقيض — التداخل البارع، في
قصيدة «البجعة» من «أزهار الشر»، للَّوحة
«الحداثية» والرمز).
لكن
هناك — أيضًا — ما هو أكثر خطورة، ويكمن
فيما يمكن تسميته «المرحلة الثالثة» من
تأليف «سأم باريس» (بعد نشر العشرين قصيدة
الأولى، وحتى موت الشاعر)، وسيهدد خطر جديد
الوحدة الداخلية للقصائد وتوازنها: هو
الرغبة — التي لم يستطع «بودلير» مقاومتها
— في ترميمها بعد فوات الأوان، وفي
استعادتها في اتجاه شواغله اللحظية،
وأحيانًا ما كان يتم تنقيح النص بعد عدة
أعوام فاصلة، كيف يمكن — إذن — للقصيدة أن
تحافظ على الوحدة، على «كلية التأثير»
٩٦ التي كان «بودلير» يعتبرها
ضروريةً — مع ذلك — للعمل الفني؟ ولا شك أن
الفقرات الثلاث التي تختتم — اعتبارًا من
عام ١٨٦٤م — «غسق المساء»، لا ينقصها
الجمال، في تدفقها الغنائي، لكن «بودلير» —
عندما أضافها إلى النص الأولي، الحكائي
الخالص، والمفترض أن يُنشَر في ديوان
«فونتانبلو
Fontainebleau»
٩٧ — كيف لم يشعر أنه يُطَعم
قصيدةً أخرى بالأولى، مختلفة في الخصائص
والإلهام؟ وتعديل قصيدة «مشروعات» أكثر
غرابة، وأكثر إزعاجًا أيضًا: ففي عام
١٨٦٤م، كان ذهن «بودلير» موجهًا نحو مشروعه
في شعر «تسكعي» و«رابسودي». كان يريد أن
يعرض لشخص جَوَّال، تتشبث أحلام يقظته —
كما سيكتب إلى «سانت-بوف» — «بكل واقعة في
تجواله»، يتعلق الأمر — هنا — بحديقة يتم
عبورها، أو بخاتم يُرَى في «محل لبيع أعمال
الزنكوغراف»، أو فندق نقابله «خلال المسير
في شارع رئيسي».
٩٨ كل هذا الديكور المتكلف — إلى
حدٍّ ما — لم يكن له وجود عام ١٨٥٧م، ولا
حتى عام ١٨٦١م:
٩٩ فعبر المشهد الداخلي الوحيد —
فحسب — تجول خيال الشاعر، والأخطر أن
الخاتمة شديدة الاختلاف: فهي أكثر عادية،
وأقل «بودليرية»:
١٨٥٧م
|
١٨٦٤م
|
الحلم! الحلم! دائمًا الحلم
المعلون! — إنه يقتل الفعل ويأكل
الزمن! — إن الأحلام تخفف من لحظة
الحيوان المفترس الذي يضطرب فينا.
إنه سُم مُسكن يغذيه.
|
حصلت اليوم، في الحلم، على
ثلاثة بيوت، حيث وجدتُ لذةً
متساوية، لماذا أُجبر جسدي على
تغيير المكان، طالما روحي تسافر
بهذه الخفة؟ وما الجدوى من تنفيذ
أية مشروعات. ما دام المشروع — في
ذاته — هو متعة كافية
|
أين يمكن العثور — إذن — على
كأس عميق بما يكفي، وسم كثيف بما
يكفي للقضاء على الحيوان؟
|
|
هذه التحولات في اتجاه السطحية
١٠٠ تشوه — ضمن ما تشوه أيضًا —
كثيرًا من قصائد المرحلة الأخيرة، لهاث،
ونضوب في الخيال الخلاق (وعبثًا سيسعى
«بودلير» لإنجاز مؤلفه «الكتاب الملعون»)،
١٠١ وهو نوع من التورط — أيضًا —
في النثرية، الذي حكم مفهوم ديوانه نفسه
على «بودلير» بأن يواجهه باستمرار، ونشعر
أن «بودلير» — في آخر سنوات حياته — لم يعد
يمتلك القوة الخلاقة الضرورية كي يفرض على
مادته نسقًا فنيًّا، فيقتصر على «نسخ القاموس».
١٠٢
يرتبط أرابيسك القصائد، وتوازنها البنيوي
— من ناحية — بالمفهوم والغاية، بما يمثلان
نتيجةً لها أكثر غنائية أو أكثر رابسودية
ومن ناحية أخرى، يطول هذا الانحدار نحو
الصمت ونحو الموت، بهذه الدرجة أو تلك من
الحيوية الجسدية والفكرية للشاعر. إننا
نمضي — إذن — من أكبر تلاحم فني إلى تهافت
الشكل أو انعدامه، تقريبًا.
ورغم هذا، ففي الشعر — كما في الرسم — لا
يكفي تحديد المكان والعلاقات بين العناصر
المختلفة للحصول على بنية متوازنة، فوحدة
الانطباع، والاتساق العام، يرجعان — كذلك —
إلى اتساق النغمات، وهذان اللفظان —
نغمة
ودرجات اللون — المستخدمان بكثرة في
التصوير الزيتي، وفي الموسيقى، لماذا لا
نطبقهما على الشعر؟ فبودلير — نفسه، كما
رأينا — يذكر، في حديثه عن القصة، «النغمة
التأملية والتهكمية الساخرة»،
١٠٣ ويستدعي أيضًا — في ملاحظة من
«مذكرات شخصية» — «نغمة ألفونس رابيه —
نغمة البنت المصونة (فاتنتي! الجنس
المتقلب!) — النغمة الأبدية».
١٠٤ وفكرة إثراء الشعر لا
بالموضوعات فحسب، ولكن
بالنغمات
الجديدة، التي كانت محظورة حتى ذلك الحين،
هي — كما سبق وقلت — إحدى غايات «سأم
باريس» الكبرى.
١٠٥ فهل تتفق مع ضرورات العمل
الشعري؟
(٢) حداثة وجدَّة النغمات
من السخرية إلى الغنائية
علينا أن نؤكد — أولًا — على الأصالة
المطلقة لبودلير في هذه المحاولة لإثراء
المجال الشعري، وترجع هذه الأصالة — في
المقام الأول — إلى اقتراحه باستبعاد
البهرجة التقليدية، وتعرية قلب حديث (قلبه)
بكل تعقيداته، واندفاعاته، وضغائنه،
وتعاقبات أحلام يقظته، وصفائه الساخر، وذلك
بأن يقوم بعمل الشاعر لا عمل رجل الأخلاق،
ومن المدهش — في الواقع — أن نلاحظ، حتى في
هذه الفترة، أن مؤلفي قصائد النثر (سواء
كان اسمهم «بارني» أو «برتران» أو «لامنيه»
أو «رابيه» أو «جيران») كانوا يسعون إلى أن
يضفوا على أنفسهم روحًا غرائبية، توراتية،
قديمة، من العصور الوسطى … كي يمنحوا
قصائدهم — بفضل المسافة، والابتعاد في
الزمان والمكان — هذه «الهالة» الشعرية،
التي لم تعد تعويذة الشعر تأتي لهم بها
أبدًا، وينجم عن ذلك أن نبرة «برتران»
التهكمية، أو عنف «لامنيه» — رغم أنهما
منحا شعرهما لونًا خاصًّا — قد احتفظا بشيء
ما أكثر أدبية، ينطوي على ما هو أقل بُعدًا
وعمقًا من تهكمات أو اندفاعات «بودلير»
الغنائية. ثمة غنائية أكثر قليلًا، لكن ثمة
ذبذبات حداثية محدودة لدى معاصرين عرفهم
«بودلير» جيدًا، ﻓ «لوفيفر-دومييه» — الذي
كان بمقدوره قراءة نثره في «لارتيست»
١٠٦ — يثري أحلام يقظته، الشديدة
العمومية والأخلاقية، برموز وصور
«رومانتيكية» بأكثر مما هي «حداثية»
(وعندما يستعير صورة من الفوسفور أو من
المراكب البخارية، يتكوَّن لدينا انطباع
غريب بالهجران)، ويلجأ «بابو» — من أجل
كتابة رسالة هجاء ضد «فييو» والقساوسة
الكاثوليك — إلى الاستعارة المسهبة
والطنانة في خمسة أجزاء من «الشجرة
السوداء» (التي نُشِرَت عام ١٨٦٠م، في
«خطابات هجائية ونقدية»)؛ وأخيرًا «هوساي»،
الذي يتملقه «بودلير» — بشكل مقبول — على
قصيدته «أغنية صانع الزجاج»،
١٠٧ هل فتح الطريق — حقًّا — أمام
شعر حداثي ومديني؟ ولا يجب أن ننسى — أولًا
— أن هذه «الأغنية» هي الوحيدة من نوعها
بين كل القصائد و«النقوش البارزة السلفية»
القديمة النثرية، في «أشعار كاملة»، وأن
هذا الموضوع — الواقعي والمعاصر — قد تطور،
بعد ذلك، بالطريقة الأكثر سطحية، وبأكثر ما
يمكن تصوره من برودة وعظية، ولي أن أعتقد —
عن طيب خاطر، كما يقترح «ج. كريبيه»
١٠٨ — أن قصيدة «صانع الزجاج
الرديء» الموجودة في «سأم باريس»، التي نرى
فيها الشاعر يتسلى بتحطيم المواد البائسة
لصانع الزجاج، يمكن اعتبارها «ردًّا عاجلًا
شديد الخبث» على أغنية «الأخوية» لهوساي.
وربما كان «شانفلوري»، وحده — الذي نادرًا
ما يُذكَر من بين «أسلاف» بودلير،
١٠٩ والذي لم تكن نعمة الشعر نفسها
قد زارته بأكثر من «هوساي» — قد حاول، في
«خيالات وأناشيد غنائية»،
١١٠ استخدام قريحة مدينية وحديثة،
وربما يكون مسليًا أيضًا — من خلال
المقارنة مع «الغرفة المزدوجة» في «أزهار
الشر» (أهو التقاء؟ أعلينا — حقًّا — أن
نتحدث عن «مصدر» ما) — أن نرصد — في
«كلب–حصاة» — الوصف، على عمودين متقابلين،
ﻟ «سقائف الشعراء» (مثل الأحلام والخيال)
و«سقائف حقيقية»، تكدرها الكآبة والقذارة:
«لا ورق، بل حوائط مصفرَّة، ألبوم جداري
يحمل آثار مرور كل المستأجرين …»
١١١ ومن البديهي تمامًا — رغم هذا
— أن «شانفلوري»، إذا ما كان قد استشف بعض
الاحتمالات التي أتاحها له عصره، في الشعر
النثري، فإنه لم يتمكن من التوصل إلى نغمة
ولا إلى شكل لغنائية حديثة. ومن جانبه، كان
«بارني دورفيي» — المحصور تمامًا في البحث
الشكلي، وفي إطار النشيد الغنائي — قد جلب
لقصيدة النثر بضع نبرات غنائية جديدة، لم
يستطِع «بودلير» أن يتحصل منها سوى على
بضعة أصداء في «إيقاعات منسية
Rhythmes
oubliés» النادرة،
والمنشورة في ذلك الحين.
١١٢
والواقع أن «نبرةً حديثةً» حقًّا قد ظهرت
في نثر هذه الفترة: نبرة ساخرة، تهجمية،
تربط «الرقة بالحقد»، وأحيانًا المنطق
بالعبث، وهي ما نجدها في روايات «باربي
دورفيي»، ولدى «كلاديل»
١١٣ — بل في غالبية القصص الأكثر
مكرًا، لأنها أكثر إيجازًا، ويستشهد
«بودلير» أو يدرس «بتروس بوريل» — «طبيعة
مرضية»، و«سحنة متغضنة»،
١١٤ و«شانفلوري»، الذي سدد
«منظارًا شعريًّا مزدوجًا … إلى الحوادث
والمصادفات الهزلية أو المؤثرة، للأسرة أو للشارع».
١١٥ و«آسيلينو»، الذي عرف كيف
«يقدم شرعية العبث وما لا يصدق»، والذي
«يقلد — أحيانًا — استدلالات الحلم الغريبة»،
١١٦ و«بو» — بشكل خاص — الذي يمثل
أصل النبرة المخاتلة المتأملة في «سأم
باريس»، ويكفي أن نقارن «الوقائع الخيالية»
ﻟ «أ. ديشام» — على سبيل المثال — ﺑ «حياة
آسيلينو المزدوجة»، لنرى العبور من الخيالي
«الرومانتيكي» إلى خيالي يندرج في قلب
الحياة الحديثة، والشديدة التلوين بالفكاهة.
١١٧ ولنضف أننا — اعتبارًا من عام
١٨٣٢م — نستطيع أن نقرأ في «حوليات
رومانتيكية» نثرًا عجيبًا: «قبة العجزة»
و«هلوسات» بقلم … «دي بلزاك»، الذي يصف
السراب الذي يثيره غدير ماء صغير وقد أصبح
هلوسة، تحت التأثير المترافق للنبيذ
ولموسيقى «هارمونيكا رخوية». ومع أعمال
كهذه، يمكن تمامًا (مثلما بالنسبة لحكايات
«بو» و«آسيلينو») أن نطبق كلمة «بودلير»
حول «خاصيتي الأدب الرئيسيتين: ما فوق
الطبيعية والسخرية».
١١٨
وعلى أية حال، فكتابة القصص — رغم
كثافتها وشعريتها الشديدتين — تختلف عن
كتابة قصائد النثر، و«بودلير»، الذي اقترح
لنفسه، في «ملحوظات»، أن يظل «دائمًا
شاعرًا، حتى في النثر»،
١١٩ لا يريد أن يكتب نثرًا في «سأم
باريس»، إنه يريد خلق شكل جديد لشعر، قابل
لاستقبال كافة الأصداء وكل تنافرات الأصوات
التي تمنح قصص معاصريه نبرةً حديثة، إنه
يريد — عمومًا — خلق
غنائية حديثة، لكن السمة
الخاصة بغنائية كهذه — عليها ترجمة الحركات
الأكثر تشويشًا للروح، والعبور (عند
الضرورة، بلا انتقالة) من السخرية إلى
التمرد، ومن الكآبة إلى الحماس — تحتاج إلى
مقدرة خاصة من الكاتب، ولم يكن «بودلير» —
على أية حال — جاهلًا بمخاطر «شعر النثر»،
التي تعتبر على نفس مستوى الفانتازيا في
التصوير الزيتي، «أكثر خطورة لأنها أكثر
سهولةً وانفتاحًا».
١٢٠ وإذا ما شئنا — في الواقع —
ألا نستغرق في النثر، فمن الضروري أن
«نجلي» المشاعر ونسيطر عليها، مهما كان
عنفها، ومن هنا تنشأ القصيدة، تطهير
catharsis
لا غنى عنه لكل عمل ينتظم في شكل فني، حيث
لا بد أن تسيطر روح الفنان على مادته، ومن
ناحية أخرى، فعلينا ألَّا نظل تحت أو فوق
«توتر» معين، ضروري لإحكام
نغمة القصيدة،
مثله مثل توتر أوتار الكمان، على سبيل
المثال، وإذ يرتخي هذا التوتر، يتم السقوط
في الاستطرادات، وفي حلم اليقظة
«الرابسودي»، والمبالغة في الإطالة، التي
طالما انتقدها «بودلير» — احتذاءً ﺑ «بو» —
في القصيدة،
١٢١ فعندما تصبح مبالغًا فيها،
يعاني منها انسجام القصيدة ونقاؤها الشعري،
وذلك شيء محسوس — بشكل خاص — في بعض
القصائد الهجائية، حيث ينطوي التهكم على
شيء من الإطالة والنشاز («المبهج»، «الكلب
والقارورة»، «المرأة المتوحشة»).
وإحدى النغمات الأكثر جِدَّة، والأكثر
إدهاشًا في الديوان هي — بالبديهة، وقد
أدركنا ذلك سلفًا — السخرية، هذه السخرية
الفظة والمخاتلة، النابعة — كما يقول
«بودلير» — من «طريقة تفكير شيطانية»
١٢٢ سلاح قاطع ذو حدين، مشرع —
أيضًا — ضد الشاعر نفسه، موضع السخرية
والاستخفاف والمحتقر
١٢٣ ضد السوقية الإنسانية وما
يسميه — في «أزهار الشر» — «الغباء في
مواجهة الثور». هذه القسوة المزدوجة تفسر
العنوان الذي فكر «بودلير» — لفترةٍ ما،
وتحت تأثير «بتروس بوريل» — في أن يضعه على
قصائده: «قصائد ذئبية صغيرة».
١٢٤ وهي — مع ذلك — ليست إلا شكلًا
عدوانيًّا لذهنية موجودة — الآن — في
«أزهار الشر»، لا تخفف في شيء (وهو ما
لاحظه «تيبوديه») من «اللهجة القارصة والموجعة»
١٢٥ لبعض القصائد، «اختبار منتصف
الليل»، على سبيل المثال، ونجد صدى شعر
١٨٦٣م — نثرًا — في «الساعة الواحدة
صباحًا» (المنشورة عام ١٨٦٢م)، وهي قصيدة
حافلة بتهكمات على الغباء والرشوة
المعاصرين (ونجد صدى لها في المذكرات الخاصة)،
١٢٦ وذات نبرة أكثر إيلامًا — في
واقع الأمر، أيضًا — مما هي ساخرة: إن
«انتفاضات الوعي» — (التي يتحدث عنها
«بودلير» في «إهداء») — تقود الشاعر، هنا
مباشرة، إلى صرخة جميلة ليأس غنائي، يجعل
هذا الاعتراف خفقة الجناح الكبيرة والأخيرة.
١٢٧ لكن صفاء «بودلير» القاسي هو —
في أغلب الأحيان — بلا مقابل غنائي: إنه
يصوغ نغمة ثلجية، أو — على النقيض — سخريةً
قاسيةً، لا تسمح بظهور مشاعر المؤلف الخاصة
وهنا يكمن بالنسبة لبودلير «أسمى الفن».
١٢٨ «فمن الاستهزاء إلى التهكم،
ومن ملمح السخرية إلى التناقض الخدَّاع،
يزمع «بودلير» أن يستنفد — في نثره — كل
سادية القبح البالغ»، كما يكتب «بلان»،
الذي يضيف أنه — من هنا — يقدم نفسه «كمخلص
لانفعالية سنوات شبابه».
١٢٩ ولكن — في الفترة نفسها، التي
ألف فيها الشاعر «سأم باريس» — ألم يكتب،
في مذكراته الخاصة، أن المتحذلق ليس لديه
ما يقوله للشعب «سوى الاستهزاء به»؟
١٣٠ واحتقار كهذا للبشر تعايش مع
مشاعر رأفة مخلصة نحو التعساء، وذلك أحد
تناقضات هذا الرجل المزدوج
homo
duplex،
بودلير.
ويبقى أن نعرف ما إذا كانت نغمة مخاتلة
متأملة كهذه — باردة السخرية، حيث تظهر
الفرحة بالجرح الإرادي للمشاعر المسلم بها
— قادرةً على إحداث هذه الإثارة، «هذا
الخطف للروح»، الذي — (على ما يقول
«بودلير» مقتفيًا «بو»)
١٣١ — يصنع وحدة القصيدة، ونشعر
تمامًا بذلك التلذذ الكريه، الذي يكشف في
«الحبل» بشاعة التفاصيل،
١٣٢ وفي «لنقتل الفقراء» العطف
المزيف نحو الشحاذ الذي ضُرِبَ لتوه ضربًا عنيفًا،
١٣٣ ولن يندهش أحد إذا ما عرف أن
عدة قصائد لبودلير قد رُفِضَت لمدة طويلة
من المجلات لعدم إمكانية نشرها، ومن بينها
«لنقتل الفقراء»، لكنني لا أتحدث — هنا —
عن اللياقة الأخلاقية: فالمشكلة المطروحة
هي الخاصة ﺑ
الطاقة
الشعرية لقصائد كهذه، فهذه
السخرية الباردة تتوجه إلى ذكاء القارئ، لا
إلى حساسيته، وسيتم
استيعابها وتذوقها من قبل أكثر مناطق الفكر
صفاءً، لكن، هل ستصل إلى هذه المناطق
العميقة حيث تهتاج قدرتنا الحماسية و«غريزة
الجمال الأبدية» فينا؟
١٣٤ أخشى أن نجد — هنا — نثرًا
لاذعًا، ذهنيًّا، قاسيًا كما ينبغي، لكنه
ليس بشعر (ألا يجدر بالملاحظة، فيما عدا
ذلك، أن هذه النغمة الهازئة محسوسة، بشكل
خاص، في المقطوعات التي لم تعد قصائد، بل
أقاصيص حقيقية يمكن مقارنتها — إلى حد كبير
— بأقاصيص «بو»، «موت بطولي»، «الحبل»،
«بورتريهات عشيقات»؟). إن «بودلير» الذي
استشف شيطانيةً ما
حديثة، لم تعد رومانتيكية،
لم يستطع أن يضفي عليها أصالةً شعرية، ربما
لم يكن لينقصه الكثير: مناخ من الفانتازيا،
والغرابة (الذي نجده أحيانًا لدى «برتران»،
أو — في أيامنا هذه — لدى «ميشو»، مثلًا)،
وهو ما يضاعف — بغموض كثيف — هذا الجفاف
شديد الذهنية، أو التدخل الشخصي من الشاعر،
حتى وإن كان في اتجاه العدوانية (كما لدى
«لوتريامون»). وأعتقد أن المزاج «الهستيري»
للشاعر — في «صانع الزجاج الرديء»،
١٣٥ على سبيل المثال — أكثر
«شعرية» مما في «لنقتل الفقراء»، وسلوكه
«كفيلسوف يراجع امتياز نظريته»، ورغم كل
شيء، فلا يجب أن ننسى أن «بودلير» كان أول
من بدأ في فتح أبواب حدائق غريبة أمام
شعراء النثر، حيث تزدهر الدعابة السوداء،
ويلاحظ «أ. بريتون» — الذي يذكر في
«مقتطفات من الدعابة السوداء» قصيدتين
نثريتين، هما «مبهج» و«صانع الزجاج الرديء»
— أن «بودلير» يأتي «بسلسلة من المبادئ
الجمالية الجديدة، التي ستتأثر بها كل
الحساسية التالية».
١٣٦
ولا شك أن «بودلير» كان يزمع اكتساب
مؤثرات عجيبة في التناقض، بأن يناوب بين
هذه القصائد «الشيطانية» وقصائد أخرى
أخلاقية وإخوانية،
١٣٧ مثل «الأرامل» و«الجاتوه»
و«المهرج العجوز»، ويتجاوب هذا التنوع،
وهذه البرقشة الذهنية مع الغايات
«الرابسودية» للديوان، ومع الرغبة المزدوجة
في الإشارة — من ناحية — إلى المظاهر
المتعددة للروح المعاصرة، ومن ناحية أخرى
إلى كل الإيحاءات المتنوعة التي يمكن أن
يقدمها مشهد الحياة اليومية إلى «رجل
الشارع»، ويبدو أن ناقدًا من ذلك العصر قد
تبنى تمامًا هذه الطريقة في الرؤية، عندما
كتب أنه في ديوان كهذا «يمكن لكل إيحاءات
الشارع، والظروف، والسماء الباريسية، وكل
اندفاعات الوعي، وكل خدر أحلام اليقظة،
والفلسفة، والرؤيا، وحتى الطُّرفة، أن تلعب
دورها، حسب الترتيب».
١٣٨ ولن نستطيع أن نحدد — بشكل
أفضل — محاولة «بودلير» … ولا أيضًا
المخاطر التي تحملها، فالنبرة الفلسفية أو
الأخلاقية، والنغمة الموضوعية للحكاية،
ليست — فقط — بلا شعرية
apoétique،
لكنها مضادة للشعرية
antipoétique
(رغم أن الحكاية يمكن أن تكون نقطة
الانطلاق، والفلسفة نقطة الوصول لقصائد
جميلة للغاية). ولست بحاجة إلى التأكيد على
الأثر الهدام الذي يمكن أن يتوفر عليه
الاستطراد الفلسفي، والأخلاقي، والتربوي،
على الخيمياء الشعرية الهشة، وسأكتفي
بالإشارة إلى كل ما يفصل «العجوز المهمومة»
عن «الأرامل» و«العجوز القصيرة» في «أزهار
الشر»، التي استخدمها كموديل له:
١٣٩ فلا يتعلق الأمر — أولًا —
بمجرد امرأة عجوز، بل بأرملة، أرملة فقيرة،
تتناول غداءها في «مقهى بائس»، وتستفيد من
مجانية «قاعة القراءة». إنها نغمة الأخلاقي،
١٤٠ محب البشر، المنقاد «نحو كل ما
هو ضعيف، محطَّم، مغموم، ويتيم»، لكن هذه
الحركة الهوجوية (نسبةً إلى «هوجو») ستوجه
القصيدة نحو غموض هذه «الحوَّاءات
ذات
الثمانين عامًا، نحو ماضيهن الغابر
ومصائرهن الغريبة، بل نحو «الأساطير التي
لا تُحصى للحب المخدوع، والإخلاص المجهول،
والجهود التي بلا طائل، والجوع والبرد
اللذين يتم احتمالهما في صمت وتواضع».
١٤١ شيء غريب، فيبدو أن هذه
الرداءة وهذه البلادة الكئيبة — المميزتين
للفقر — قد بهتتا على شخصية المرأة العجوز،
المتصوَّرة بشكل بدائي، كعجوز أمازونية،
وهي، فيما تنصت إلى حفل موسيقي
عسكري:
تستنشق بشراهة هذا النشيد الحي والحربي.
١٤٢
فنحن نواجه — الآن — «عجوزًا بريئة» تجد
في هذا «الفجور الصغير» الأسبوعي العزاء
«المكتسب» عن وحدتها وفقرها، لم تعد أحد
شخوص «بودلير»، بل أحد شخوص «فرانسوا
كوبيه» (وسنلاحظ كيف أن بلادة المفردات
تستجيب لبلادة الفكرة). ألا نعتقد أن
«بودلير» إنما أراد أن يقدم — هنا —
البرهان على كلمة «بو» التي ذكرها في موضوع
آخر: «الفقر ابتذال ونقيض لفكرة الجمال»؟
١٤٣
وهذا «الابتذال ﻟ «الشعب» الذي يرتدي
القمصان والقماش الهندي»
١٤٤ قد طاب لبودلير — رغم هذا — أن
يصفه لا في «الأرامل» فحسب، بل — أيضًا —
في عدة قصائد من «سأم باريس»، من بينها
«المهرج العجوز» و«عيون الفقراء»؛ القصائد
المفضلة لدى «سانت-بوف». إنه — هنا — يتخذ
أكثر النغمات الممكنة تضادًّا مع الشعر،
نغمة «طرائفية» و«تسكعية»: الواقعية،
والتدقيق النثري في التفاصيل
١٤٥ اللذين ينافسانه في التصويرية،
سواء الحقيقية أو المزيفة،
١٤٦ فتحل الملاحظات السيكولوجية
محل «الخطوات الشاسعة مثل مُركَّبات» ﻟ «الروح الغنائية»،
١٤٧ مواء البلاغة الصحفية،
١٤٨ وابتذال المكان المشترك (الذي
كان «بودلير» — وهو ما يجب أن نقوله فحسب —
يحترمه بشكل غريب)،
١٤٩ يأتيان ليحولا دون أي شعر
حقيقي، ونلوم «بودلير»، لا أنه أدار ظهره —
فحسب — إلى الشعر عن عمد، كي يدلف إلى
الأخاديد المرسومة — سلفًا — ﻟ «الشيء
المرئي»، وللصحافة ذات الشعرية المزيفة،
١٥٠ بل — أيضًا — لأنه سمح لكل
مؤلفي المستقبل الفاشلين، لكل العاجزين عن
نظم الشعر، بأن يطلقوا على كتاباتهم
الوصفية (الباهتة) اسم «قصيدة النثر»، فكم
من «معارض باريسية»، بعد «المهرج العجوز»!
كم من التعاطف المفتعل مع «الفقراء»
و«الكلاب الطيبة»! كم من شهادات الشعر (شعر
الروزنامة) الصادرة تحت تأثير هذه الكلمات
السحرية، «مقهى»، «كباريه»، «كوخ حقير»،
«أرغن صغير نقَّال»! وإذا ما كان «بودلير»
جادًّا في تمنيه «خلق المبتذل التافه»،
١٥١ فعلينا أن نعترف بأنه تخطى —
في ذلك — كل رجاء …
وسوف نرصد أن الملاحظات حول «النغمات»
البالغة التنوع، التي يميل «بودلير» إلى
استخدامها في ديوانه، تنحو — أكثر فأكثر —
إلى أن تصبح ملاحظات حول الأسلوب، والواقع
أن نغمة السخرية الباردة، التي تحدثتُ عنها
في البداية، تستمد بعضًا من فضيلتها من
الابتذال، والشفافية التي يفرضها «بودلير»
— إراديًّا — على أسلوبه، والتي تتعلق —
فحسب — ببلادة الألفاظ العادية، عبر
التعبيرات المحملة بالدعابة، هنا وهناك،
التي يتم التشديد عليها، بشكل عام (مثلما
عند «بو»): «تجربة ذات فائدة
أساسية» (إذ
إنها موجهة إلى رجل محكوم عليه بالإعدام)،
١٥٢ «تكمن النظرية في أنني جنيت
ألم المحاولة على ظهوركم» (قالها رجل محكوم
عليه بالعقوبة لتوه … وتلقى تأديبًا ما).
١٥٣ أسلوب غير «سلس»،
١٥٤ لكنه بسيط وخالٍ من اللفظية،
وفي الفقرات ذات النبرة الأخلاقية
والفلسفية، تتوفر نفس الخصائص، مع ميل —
رغم هذا — إلى البلاغي: «زحام، وعزلة:
ألفاظ متساوية وقابلة للتحول …»،
١٥٥ «أراد أن يقوم بالإحسان
وبتجارة رابحة في آن، أن يكسب أربعين فلسًا
وقلب الله، أن يختطف الجنة اقتصاديًّا، وأن
ينال — أخيرًا، ومجانًا — شهادة رجل محسن»
١٥٦ (نفس الفكرة يتم تقليبها في
أشكال مختلفة)، وسيبحث «بودلير»، في النصوص
الحكائية والوصفية، عن المؤثرات «الأدبية»
بشكل خاص: كلمات دقيقة وتصويرية، «الذيول
الحمراء والمغفلون»،
١٥٧ «دانماركي، الملك
شارل، كارلان»،
١٥٨ تعبيرات مزخرفة،
١٥٩ ومؤثرات أسلوبية متنوعة،
١٦٠ طرائق — في أغلبها، كما نرى —
تميز النثر الجيد.
ورغم هذا، فعلينا أن نؤكد إلى أي حد كلما
أصبحت النغمة أكثر شعرية وغنائية صراحةً،
كلما رأينا تزايد عدد الصور والاستعارات:
هذا إلى الحد الذي تنتظم فيه القصيدة كلها
حول رمز ما، وقد سبق لبودلير — في بعض
النصوص، مثل «الكلب والقارورة» و«المهرج
العجوز» و«لعبة الفقراء» — أن جاهد لتوسيع
وتجاوز الحكاية بواسطة الرمز النهائي، لكن
مقطوعات أخرى هي رموز يتم إدراكها
باعتبارها كذلك، وبالتالي فهي شعرية عن
عمد: «الغريب» و«لكل خرافته» و«المجنون
وفينوس»، فلم تعد نقطة الانطلاق لتُستمَد —
هنا — من الواقع، فالمشهد نفسه يصبح رمزًا،
يقدم لنا المعادل المحسوس لشعور أو لفكرة
معينة، وفي «لكل خرافته»، هو:
سهل كبير مترب، بلا طرق، بلا
حشائش، بلا شوكة واحدة، بلا قُراص.
١٦١
(وسنلاحظ الأثر الرائع للإرهاق،
والانعدام، الذي ينتجه هذا التعداد السلبي،
الذي سنجد انعكاسًا له في الوجوه التي —
كما يقول «بودلير» فيما بعد — «لم تكن تكشف
عن أي يأس»). وهو — في «المجنون وفينوس»،
في الملاحظة العظيمة هذه المرة — مشهد
بكامله لا إنساني أيضًا، «فيض صامت» من
الضوء والجمال:
وكأن ضوءًا متزايدًا دائمًا يجعل
الأشياء تتلألأ أكثر فأكثر،
والزهور المستثارة تحترق من الرغبة
في المنافسة مع لازورد السماء
بطاقة ألوانها، والحرارة التي جعلت
الطيور مرئيةً، قادتها إلى الصعود
نحو النجوم مثل الدخان.
١٦٢
فلم يعد الأمر يتعلق — هنا — ﺑ «تجاوب»
بين المشهد الخارجي وروح الشاعر، فالمشهد
لم يعد سوى عرض لهذه الروح، الملتقطة في
بعض نزعات أساسية: شعور بالمنفى والرغبة في
«مكان آخر» (الغريب)،
١٦٣ وسأم مرهق (لكل خرافته)، ويأس
إزاء استحالة الإمساك بالجمال (المجنون
وفينوس). كل قصيدة — إذن — هي تسجيل لهَمٍّ
شديد — ليس شخصيًّا إلى هذا الحد — لبودلير
الذي ينخرط في الوضع الإنساني، ومن هنا،
تستمد هذه القصائد الرمزية صداها العميق
وقوتها الشعرية.
لكنها ليست — فحسب — التعبيرات والصور
التي سوف تتنوع حسب
النغمة المتبناة في كل
قصيدة، فقد كان حلم «بودلير» — ونحن نتذكر
ذلك — أن يكيف نثره «مع حركات الروح
الغنائية، مع تموجات حلم اليقظة، مع
انتفاضات الوعي».
١٦٤ فإلى أي مدًى نجح في خلق نثر
«شعري» و«موسيقي» (وهما الاصطلاحان اللذان
يستخدمهما) سلس بما يكفي ليقترن بحركات
الكائن الداخلي، ويحافظ — في نفس الوقت —
على الفاعلية الشعرية، وعلى «السحر
الإيحائي» للشعر المنظوم؟
(٣) النثر الشعري البودليري. أنماط
الجملة الثلاثة
الأنساق الإيقاعية. قصيدة نثر وقصيدة
نظم
تشكل الجملة داخل القصيدة نوعًا من
العالم الصغير، الخلية المنظِّمة التي تكون
جزءًا من كُلٍّ أوسع، وتنبني طبقًا لقوانين
متماثلة: إنها الكلمات، بأصدائها الصوتية
والبصرية، التي ترسم نوعًا من أرابيسك
مصنوع — في آنٍ — للأذن والروح. وعلى حركة
الجملة أن تقترح وتولِّد — لدى القارئ —
حالةً معينة للروح تتوافق مع حالة الروح
التي نشأت منها القصيدة. إن مصطلح «موسيقى»
— الذي يستخدمه «بودلير» — لا يجب أن
يُفهَم، فحسب، فيما يتعلق بموسيقى لفظية
خالصة، بل — أيضًا — بخصائص إيحاء وخلق
خاصة بالشعر، وهي خصائص تختلف تمامًا عن
الخصائص التعبيرية المطلوبة من النثر
العادي، وبدون هذه الخصائص الشعرية، فلن
تستطيع اللغة أن تصبح «تعويذة إيحائية».
١٦٥ وحده «بودلير»، وهو يتحرر من
عبودية
الإيقاع (نعني إيقاع
الشعر
المنظوم)
والقافية، يزمع
تنويع طقوس هذه التعويذة، بطريقة لا تربط
«الموسيقية» الشعرية بوصفات شكلية خالصة،
بل بخصائص أكثر داخلية، وقدرة على إثارة
انفعالات وإيحاءات أكثر تنوعًا.
وحسب تعريف الشاعر نفسه، نتوقع أن نجد في
نثره تنوعًا بالغًا للحركات، يستجيب لجميع
الحركات الداخلية لروح حديثة ومعقدة،
وتتوافق ثلاثة أنماط من الجملة مع الحالات
الثلاث التي يشير إليها، وسأسردها في ترتيب
معاكس لما يتبناه، بحيث أعبُر من النثرية
الإرادية إلى التحليق الغنائي:
-
(١)
نمط الجملة «المتنافرة»، التي
تتجاوب بوسائل مختلفة (كسر
الإيقاع، إيجاز التعبير، انقطاع
النغمة أو التنافر الصوتي) مع
«انتفاضات» الوعي، وبالتالي —
غالبًا — مع نغمة سخرية أو تهكم
ما.
-
(٢)
نمط الجملة «المتموجة»،
إذا صح التعبير، أي الجملة الطويلة
والمتعرجة، التي تقدم نفس
تعرجات أحلام
اليقظة.
-
(٣)
نمط الجملة «الغنائية»،
المتصاعدة والديناميكية، التي
تتوافق مع المشاعر الحادة،
والاندفاقات السعيدة أو
الأليمة.
-
(١)
والواقع أن — من بين هذه
الأنماط الثلاثة — ثمة نمطًا لم
يمنحه «بودلير» — حقًّا — وجودًا
أسلوبيًّا، وهو الأول، فالجملة
المتنافرة، المبتورة، المتوقدة،
التي سيمنحها «رامبو» حق المواطنة
في الشعر، والتي تقدم إيقاعًا بالغ
الخصوصية، إنما هي غائبة من «سأم
باريس»، فعندما يستخدم «بودلير» —
في مذكراته الخاصة — أسلوبًا
موجزًا ذا اختصارات مدهشة، فذلك
للتعبير عن أفكار يمنحها — طواعيةً
— شكل الحِكَم: «الله فضيحة، فضيحة رابحة»،
١٦٦ «كثير من الأصدقاء،
كثير من القفازات».
١٦٧ لكنه — عندما يمنح
موضوعًا ما شكلًا أدبيًّا — فإنه
دائمًا ما يستخدم جملًا تامة،
واضحةً، ومبسوطةً تمامًا، بل مع
نوعٍ ما من الترف في الإبدالات
والعبارات الاعتراضية،
١٦٨ وعلى أية حال، فأعتقد
أن «بودلير» — عندما يتحدث عن نثر
«متنافر» — فهو لا يعني الكثير من
الجمل المهشمة، أو انقطاعات في
البناء داخل الجملة، بل انقطاعات
في النغمة (من جملة إلى أخرى) تنتج
أثر القفزة أو التنافر الذي يمكن
للنثر، على عكس الشعر، أن يتقبله،
بل أن يسعى إليه من أجل قيمته
المفاجئة، ويستخدم «بودلير» مصطلح
«قفزة» هذا بطريقة دالة على
«الشجرة السوداء» ﻟ «بابو»، وهي
قصيدة مجازية كبيرة، في أسلوب
نبيل، تنتهي — على نحو مفاجئ —
بجملة ساخرة، قاطعة ومحددة: «وحتى
روح سيبريس وقعت: فييو!». لقد وجد
«بودلير» المقطوعة كلها جميلةً
للغاية، «عدا كلمة «فييو»، كملحوظة
ساخرة، كقفزة من نوعٍ ما».
١٦٩ وربما لتجنب تنافر
مماثل (كما يفترض «ج. كريبيه»)،
فإنه يلغي النداء الختامي الوارد
في مخطوط «لنقتل الفقراء»: «ما
قولكَ في ذلك أيها المواطن
برودون؟». لكنه يقبل — في مواضع
أخرى — «قفزات» معبرة، تجعل القارئ
ينتقل، بشكل مفاجئ، من مدى إلى آخر
مختلف عنه تمامًا، ويصاحبها — بشكل
عام — تغير في مظهر الجملة: وهكذا،
ففي «الغرفة المزدوجة» تُتَرجَم
القفزة التي تسمى استعادة الوعي،
والعودة إلى العالم الحقيقي، بجمل
قصيرة وتعبيرات واقعية: «ها هي
الأثاثات الغبية، المتربة،
والمهشمة: المدفأة بلا لهب ولا
جمر، ملوثة بالبصاق، النوافذ
الحزينة، حيث شق المطر أخاديد في
التراب، المخطوطات المشطوبة أو غير
المكتملة، الروزنامة حيث حدد القلم
تواريخ كئيبة!».
١٧٠ وبالطبع، يمكن للقطع —
في النغمة وفي الأسلوب — أن يؤدي
إلى تأثيرات كوميدية مطلوبة
تمامًا، حيث تحدث المفاجأة — بشكل
آلي — ضحكةً «شيطانية» إلى حدٍّ
ما: تأثير مدهش — بشكل خاص — في
«الحساء والسحب»، وهي قصيدة بالغة
القصر، تبدأ بجملة طويلة وشعرية:
«محبوبتي الصغيرة المجنونة كانت
تقدم لي العشاء وعبر النافذة
المفتوحة لحجرة الطعام، كنتُ أتأمل
الحركات المعمارية التي يصنعها
الله بالأبخرة والتكوينات الرائعة
لغير المحسوس»، وتنتهي بتنافر
بالغ، بجملة موجزة وفجة: «ألم
يَحِن أوان احتساء حسائكم … يا
بائع السُّحب».
١٧١ وعبر تنافر أصوات من
نفس النسق (سقوط مفاجئ للحلم في
الواقع)، تنتهي — أيضًا — قصيدة
«عيون الفقراء».
١٧٢
ونشعر تمامًا أن مقدمة هذه
«الملاحظات الصاخبة» — كي نتحدث
على طريقة «بودلير» — ترتبط بنبرة
التهكم اللاذع، وهي نبرة
حديثة
أساسًا، ما دامت تمثل انتقام الفكر
من عالم مبتذل رمادي، وتنافر أصوات
كهذا، رغم تعبيريته — مع ذلك — ألا
يتناقض مع «قانون الانسجام العام
الأعلى» الذي طرحه «بودلير» نفسه،
والذي نُشِرَ في الشعر مثلما في
التصوير — على كل درجات لون اللوحة
— وحدة «المناخ المهيمن»؟
١٧٣ ففي «الغرفة المزدوجة»
— حيث يطل التناقض بين الجزأين
المتماثلين شعريًّا، لأنه يطابق
فكرة المقطوعة نفسها، ولأن
الواقعية لا تحظر نوعًا ما من
الغنائية — نندهش، رغم هذا، من
التأثير المتنافر الذي ينتجه في
الجزء الأول — ووسط انسجام درجات
رقيقة متمازجة
١٧٤ — استخدام كلمة «هدف
صغير» للإشارة إلى عيني المحبوبة،
«المعبودة، ملكة الأحلام»،
والتأثير (المقصود، ربما) هو الخاص
بملاحظة مزيفة: أيمكن أن نتخيل
لحظةً يتحدث فيها «بودلير» عن «هدف
صغير» في «المِشعل الحي»؟ إن
الرغبة في «التحديث» تقود «بودلير»
— هنا — إلى ارتكاب خطأ
فني.
ولا شك أن «بودلير» قد استشف
إمكانية إدخال الإيقاعات المتنافرة
وانعدام توافقات العصر والوعي
الحديث في الشعر، ليبدو — بذلك —
سابقًا لزمنه تمامًا، لكننا علينا
أن نفكر أن مجاله كان — بالأحرى —
هذا القطر الأدبي — «حيث كل شيء
نظام وجمال» — ولقد زعزع الوجود
كيانه بعنف بالغ، ولم يكن فنه
مهيئًا لقبول الصدمات والتناقضات
العنيفة: فالتنافرات الفظة،
ومؤثرات الصدمة — التي سيقوم
«رامبو»، مثل كتاب القرن العشرين
بالاستفادة منها — تخالف، بجدَّة،
النثر البودليري المتماوج
والصافي.
-
(٢)
وقد تمثلت جهود «بودلير» —
الأكثر قيمة — في نثره ﻟ «تموجات
أحلام اليقظة»، من ناحية، وﻟ «الحركات الغنائية» للروح، من
ناحية أخرى: يتعلق الأمر في هاتين
الحالتين — في الواقع — بميول روح
ملائمة للشعر، وبما أسميته
بالموسيقية: فيكفي أن يصبح نطاق
الجُمل متجاوبًا مع الحركة
الداخلية، التي تنشأ منها (هذه
الجمل)، وأن تتوفر على وظيفة إعادة
الخلق.
ويشعرنا «بودلير» — وبأفضل
شكل، عبر إبداع جملة سلسة، متماوجة
ومتعرجة — إلى أي حد تختلف الجملة
الشعرية عن الجملة الخطابية:
وبدلًا من المرحلة المعمارية
الكبرى، المتزنة تمامًا،
والمتماثلة، لبوسييه مثلًا، أو
بدلًا من البنيات الثلاثية لهوجو،
فإن هذه الجملة المتعرجة تدفعنا
إلى التفكير في تلك التي استخدمها
«سانت-بوف» في «لذة»، وإذا ما كنا
نتذكر إلى أي حد خضع «بودلير» — في
بدايات شبابه — إلى سحر:
هذا الكتاب الأثير لدى
الأرواح التي فترت همتها.
وإلى أي حد
— بشكل خاص — دفعه إلى الحلم
ﺑ:
الاشتباكات
الطويلة للجُمل الرمزية.
١٧٥
فإننا يمكن أن نفكر — على
وجه الاحتمال — أنه قد امتلك، بشكل
واعٍ إلى حدٍّ ما، هذا الأسلوب
(أسلوب اللذة والفتور وأحلام
اليقظة) عندما كان ذلك يتلاءم مع
غاياته الفنية.
١٧٦ إن الجملة الطويلة،
التي تسير ببطء عبر العبارات
الاعتراضية المتعددة، وتمتد —
أيضًا — في اللحظة التي نعتقد أنها ستنتهي،
١٧٧ تلائم — تمامًا، وبشكل
خاص — الإيحاءات الكسولة، يتجلى
هذا في «الميناء»، حيث حركة الجملة
و«تموجات» أحلام اليقظة تبدو كأنها
تقلد:
الهدهدة الأبدية للتموجات
المسكرة
عندما يكتب «بودلير» — على
سبيل المثال — «… ثمة نوع من اللذة
الغامضة والأرستقراطية، لمن أصبح
بلا فضول، في أن يتأمل — وهو ممدد
في المقصورة، أو مطل على رصيف
الحاجز — كل هذه الحركات لمن
يرحلون ولمن يعودون، لمن ما زالوا
يملكون رغبة الإرادة، والرغبة في
السفر والإثراء.»
١٧٨ (وسنلاحظ، في هذه
الجملة: الأرابيسك المرسوم حول
الفكرة الرئيسية: «ثمة نوع من
اللذة في تأمل كل هذه الحركات»، من
خلال العبارات الاعتراضية، وتكرار
التركيبات الثنائية، والتوسع
الحادث للجملة، كخاتمة، بواسطة
تركيب ثلاثي).
وعلينا أن نضيف أن «بودلير»
— في كثير من الحالات — يستخدم
بكثرة ما يمكن أن نطلق عليه «قطعًا
متعديًا» (وهو — على أية حال —
متكرر في الفرنسية) يتمثل في وضع
علامة النبرة الأخيرة لتركيبةٍ ما
على المقطع اللفظي الذي يسبق حرف
e
الصامت: هذا الحرف —
e
— يجد نفسه مندمجًا في تركيب تالٍ،
ليتحقق — من ذلك — تأثير المنحنى،
والموجة المتماوجة: «حرف
e
الصامت، الموجز بطبيعته، يعمق من
الإيقاع»، كما يكتب عن حق «مورييه»
في هذا الموضوع.
١٧٩ وكلما ازداد عدد
النهايات المؤنثة، كلما أصبح
الإيقاع — بشكل عام — متوازنًا:
Cependant
Dorothée, /forte et fiè/re comme
le soleil, /s’avan/ce dans la rue
déserte, /seu/le vivante à
cette heu/re sous l’immense
azur, /et faisant sur la
lumière/une tache éclatante et
noire.
رغم هذا فدوروتيه/ القوية
والفخورة/ مثل الشمس/ تتقـ/ ﺪم في
الشارع المهجور، /الوحيـ/ ﺪة الحية
في هذه الساعة/ تحت اللازورد
الهائل/ وتشكل في الإضاءة/ بقعةً
مبهرةً وسوداء.
١٨٠
ولنلاحظ أن بضع فاصلات
إضافية تكفي لتدمير الإيقاع، لا
«النحوي» فحسب، بل — أيضًا —
الإيقاع الموسيقي للجملة، إذا ما
كان «بودلير» قد كتب على سبيل
المثال: «تتقدم، في الشارع
المهجور» و«الوحيدة الحية، في هذه
الساعة …»
١٨١ وعن «دوروتيه الجميلة»
بالتحديد، كتب الشاعر إلى مدير
«لاروفي ناسيونال» التي جرؤت على
أن تُجري على نصه «تغييرات غريبة»:
لقد قلتُ لكم: فلتحذفوا
مقطعًا
كاملًا، إذا ما كانت
هناك فاصلة لا تعجبكم، لكن لا
تحذفوا الفاصلة، فثمة سبب
لوجودها.
وأضاف، وهو ما يثبت الأهمية
التي كان يوليها إلى بنية عباراته:
لقد أمضيتُ حياتي كلها في
تعلم بناء الجمل، وأقول — دون أن
أخشى الضحك مني — أن ما أسلمه إلى
المطبعة
مكتمل بشكل محكم.
١٨٢
وفي كثير من الأحيان، يزداد
بطء جُمل من هذا النمط، بسبب
استخدام الشَّرطة التي توقف من
سيرها («نعم، في هذا المناخ سيكون
لنا أن نحيا جيدًا - هناك، حيث
الساعات الأكثر بطئًا تحتوي على
أفكار أكثر»)،
١٨٣ أو بنقاط إطالة حقيقية
تجعل وقفات التذكر الحالم محسوسة:
على شاطئ البحر، كوخ جميل من
الخشب، محاط بكل هذه الأشجار
الغريبة الساطعة التي نسيتُ
أسماءها … وفي الأثير، أريج مسكر
وغامض … وفي الكوخ شذى ورد ومسك
قوي … أكثر بعدًا، خلف أملاكنا
الصغيرة، أطراف صوارٍ تؤرجحها
الأمواج …
١٨٤
وثمة طريقة مدهشة أيضًا
أثيرة لدى «بودلير»، تكمن في
«استعادة» الكلمات التي تطيل
الجملة، والتي تجعلها تعاود
الانطلاق بشكل حلزوني:
العالم المتخدر يتهاوى ببطء
وينام القيلولة، /
قيلولة هي
نوع من الموت اللذيذ حيث النائم،
وهو نصف مستيقظ، يتذوق لذات عدمه.
١٨٥
… هؤلاء الذين يحبون
البحر/
البحر الهائل، الصاخب والأخضر.
١٨٦
… ما كنت أغرق في عينيك
الجميلتين للغاية، والعذبتين
بغرابة، في
عينيك الخضراوين،
المسكونتين بالكبرياء ويلهمهما
القمر …
١٨٧
طريقة الاستعادة هذه — التي
تخلق، في آن، تعويذةً وإيقاعًا،
وتسمح للجملة بالانطلاق من جديد مع
دفقة جديدة — أكثر موسيقية من
كونها منطقية، فقد مررنا بها —
فيما سبق — في «أزهار الشر»،
١٨٨ وهي تختلف عن اللازمة،
التي سندرسها فيما يتعلق بالجملة
الغنائية.
-
(٣)
وعندما نعبر من تعرجات أحلام
اليقظة إلى التدفق الغنائي (من
«تبخر» إلى «تكثيف» الذات، إن شئنا)،
١٨٩ فثمة دينامية داخلية
معينة تتدخل لتنظيم الجملة بطريقة
أكثر فاعلية، وتوجيهها نحو حركة
صاعدة: فنهايات الجمل — بدلًا من
أن تسقط بطراوة، أو تموت في موجات
تطوي نفسها — تشير، على النقيض،
إلى تصاعد الطاقة، وغالبًا ما
تنطلق في صرخة: «طبيعة ساحرة بلا
رحمة، غريم منتصر دائمًا، اتركيني!».
١٩٠ وتُراكم الفقرة
الأخيرة من «صولجان باخوس» — في
جزئها المتصاعد الذي لا يقل عن
ثمانية أسطر — سلسلةً كاملةً من
الجمل الظرفية، كي تترك الجملة
الرئيسية تتفتح — في النهاية —
كسهم ناري: «… أحييكم في الأبدية»!
١٩١
وثمة
تصاعد مماثل، لكنه
يتعلق — هذه المرة — بقصيدة أخرى،
هي «الرماية والمقبرة»، حيث تتطور
الاندفاقة الداخلية انطلاقًا من
بداية نثرية، في جمل قصيرة لتوسع —
تدريجيًّا — من الإيقاع، حتى
الانفجار الأخير في مناجاة مسهبة،
من أنسنة «الموت»، وعلينا أن نضيف
أن العودة الملحة لكلمة «الموت» —
في نهاية الجملة — ثلاث مرات، تنتج
نفس تأثير اللازمة المشئومة التي
ترن مثل ضربة حزن، مثل «لا أبدًا
ثانية»، لإدجار بو في قصيدة
«الغراب» الشهيرة.
١٩٢ إيقاعات، وأصوات، وصور
(«عطور الموت المحتدمة»، «كم كل
شيء عدا الموت عدم») تتزاوج هنا
لتمنح هذا التأمل حركةً غنائيةً
مؤثرة، وتصبح أكثر تأثيرًا ربما،
عندما نتذكر أن «بودلير» قد بلغ
ضفاف الموت المظلمة، بالضبط في
الفترة التي استأنف فيها صرخته في
«موت الفقراء»:
إنه الموت ما يُعَزِّي، وا
أسفاه! ويُحيي.
وبديهي أن الاندفاقة
الغنائية كثيرًا ما تقربه —
وأحيانًا بشكل خطر — من حركة
الفصاحة الخطابية الكبرى، وهو ما
يحدث في القصيدة القصيرة
«فلتسكروا»، حيث يخاطب الشاعر
القارئ (وهو أمر دال الآن) ضمن
حركة واسعة على طريقة «هوجو»، دون
أن تفتقر إلى البلاغة:
وأحيانًا إذ تستيقظون، على
عتبات قصر، على العشب الأخضر لقبر،
في العزلة الكئيبة لغرفتكم،
١٩٣ وقد خفتت الثمالة الآن
أو تلاشت، فتسألوا الريح، والموجة،
والنجمة، والعصفور، وساعة الحائط،
وكل ما يفر، كل ما يئن، كل ما
يدور، كل ما يغني، كل من يتكلم،
١٩٤ اسألوا كم الساعة،
والريح، والموجة، والعصفور، وساعة الحائط
١٩٥ سيجيبونكم: «إنها ساعة
الثمالة …»
١٩٦
ولا فائدة من التأكيد على ما
في تركيب كهذا من اصطناع، سنشعر
بذلك — على نحو أفضل — إذا ما
وضعنا في مقابله التماثلات ذات
الدلالة التامة، والبلاغة المؤثرة
للغاية! في الحركة الغنائية الكبرى
التي تُخْتَتَم «في الساعة الواحدة
صباحًا»:
ساخطًا على كل شيء وساخطًا
على نفسي، كنتُ أريد أن أعيد شراء
نفسي وأن أزهو قليلًا بنفسي في صمت
ووحدة الليل، يا أرواحَ من
أحببتهم، ومن تغذَّيتُ بهم،
فلتمنحيني القوة، سانديني، أبعدي
عني الكذب وأبخرة العالم المفسدة،
وأنتم، سيدي يا إلهي! فلتمنحني
نعمة إنتاج بضعة أشعار جميلة تثبت
لنفسي أنني لستُ آخر الرجال، وأنني
لستُ أقل من هؤلاء الذين أحتقرهم.
١٩٧
الأنساق الأسلوبية
والإيقاعية
يقودنا ذلك إلى أن نطرح — بشكل أكثر
عمومية — مسألة أنساق الأسلوب، وخاصةً
التماثلات في النثر
البودليري، وفي دراسته لقصائد «سأم
باريس»، يولي «جيران» أهميةً — أعتقد
أنها زائدة — للأنماط المختلفة للتماثل
التي نقابلها،
١٩٨ تماثل الأسماء والصفات،
والأفعال والقضايا، وتنحصر قيمة
الأمثلة التي يطرحها — في الواقع — في
حقيقة أن:
وأن يكون «بودلير» — كما يقول
«دانييل-روبس» — «قد بحث بعناية عن
الأوزان الفردية والتوافقات المتقطعة»،
٢١٢ فإن الدراسة التفصيلية —
لأيٍّ من القصائد الغنائية — ستثبت ذلك
بأكثر مما يكفي، وها هي كي نكتفي بمثال
واحد، بداية «الغرفة المزدوجة»:
غُرفة تشبه حلم يقظة،
غرفة حقًّا روحية،
حيث الأجواء الراكدة
ملونة بخفة
بالوردي والأزرق.
الروح تأخذ فيها حمام
كسل،
معطر بالندم والرغبة.
إنه شيء غسقي،
مائل للزرقة مائل
للوردي،
حلم باللذة
وسيادة الفردي بديهية
هنا، ودراسة قصائد أخرى لن تؤدي إلَّا
إلى تدعيم هذا الانطباع.
ويبدو أن «بودلير» تجنب — بشكل خاص —
نهايات الجمل، وبالذات في نهايات
الفقرات لا الإيقاعات الزوجية فحسب، بل
— أيضًا — الإيقاعات العريضة و«الأوزان الكبرى».
٢١٤
وهكذا، في «دعوة إلى السفر»: «إنها
أيضًا أفكاري الخصبة/ التي تعود من
اللانهائي/ نحوك».
٢١٥ (والأثر الناتج هو تقريبًا
أثر رفض، بنزع الكلمة الأساسية)، ونفس
الأمر في قصيدة «لكلٍّ خرافته»؛ إذ
أعتقد أنه يجب حذف الكلمة الأخيرة، ذات
النهاية المذكَّرة، التي تتحطم عليها
الجُمل الختامية، وقد توقف
انطلاقها:
… قابلتُ رجالًا كثيرين/ كانوا
يسيرون/ منحنين.
… هؤلاء المحكوم
عليهم/ بأن يأملوا/ دائمًا.
٢١٦
إيقاع مكسور يتوافق — هنا — مع اليأس
الكئيب للشخصيات.
وبشكل عام، يبحث «بودلير» — من ناحية
— عن إيقاع تعبيري، ويحترس — من ناحية
أخرى — من «الشعر المنظوم داخل النثر»،
ومن «النهايات الجميلة للجُمل» على
طريقة «شاتوبريان»، ومن كل أنساق النثر
— «الشعري» و«الموزون» —
المتكلفة.
وبالمثل، فليست الموسيقى اللفظية
والتوافقات البارعة للصوتيات من مآثره،
فهو يقتصر على البحث عن الجناس الصوتي
التعبيري، فيكتب،
مثلًا:
les eaux
elles-mêmes sont comme
endormie (المياه
نفسها كأنها نائمة)،
٢١٧ le bruit
éclatant d’un palais de cristal
crevé par la
foudre (الصوت
المدوي لقصر من الكريستال، وقد دمرته الصاعقة)،
٢١٨ La Lune
descendit moëlleusement son
escalier de
nuages (ينزل
القمر بنعومة سُلَّمه الغيمي)،
٢١٩ (تصحيحًا لكلمة
lestement
— بخفة — التي كانت أقل إيحاءً بكثير)،
وعلى أية حال، لا يتعلق الأمر بنسق
منتظم (مثلما لدى «برتران»)،
والتجانسات الصوتية، أو السجع، أقل
بكثير — هنا — عما في «أزهار الشر».
٢٢٠ وعندما يكتب «بودلير»
«إنها نوع من الطاقة التي تنبع من
الملل
ennui
أو من حلم يقظة»
rêverie»،
٢٢١ فهذا الشلال من اﻟ
i
لا يبدو مقصودًا ولا معبرًا عن شيء سوى
عن نوع من اللامبالاة بالترخيم الصوتي،
وهي نفس اللامبالاة التي تتضح عندما
نقرأ: «محبوس في أعماق قوتي العقلية
confiné au fond de
mon intellect»،
٢٢٢ أو: «السؤال الوحيد
l’unique
question»
٢٢٣ وهو أمر حقيقي، في قصائد
متأخرة، شأن تكديس
qui
(مَن)
و
que
(ما) في «الكلاب الطيبة»:
ces pauvre diables
qui ont à affronter
tous les jours l’indifférence du
public et les injustices d’un
directeur qui se fait la grosse
part et mange à lui tout seul
plus de soupe que quatre
comédiens (هؤلاء
الشياطين البائسون
مَن عليهم
كل يوم مواجهة لامبالاة الجمهور
وانعدام عدالة مدير،
مَن يجعل
لنفسه النصيب الضخم ويتناول وحده من
الحساء
مَا لأربعة من ممثلي الكوميديا).
٢٢٤
علينا — إذن — أن نقبل أن «بودلير»
إذا ما تمسك بتبني الحركة الداخلية في
حركة الجملة، التي يجب أن توحي بها،
وإذا ما كان يبحث عن الإيقاعات
والأصوات المعبرة، فإنه يرفض البحث عن
الموسيقية في ذاتها، وإضفاء أهمية على
الشكل
في
ذاته، وسنلاحظ — بالمثل
— أن استخدام اللازمة يتوافق في أغلب
الأحيان (وحتى في قصائد عام ١٨٥٧م) مع
غاية نفسية أكثر منها جمالية، ويصطنع —
مثلما لدى «بو» — «استحواذ الكآبة
المبهمة أو الفكرة الثابتة»، إن لم
يلعب، بتنويعاته على «البلادة واللامبالاة».
٢٢٥ ولا شيء مشترك بين تكرار
التعبيرات أو الجمل في «سأم باريس»
واللازمة المجلوبة بعناء في «أغنية
صانع الزجاج» لهوساي، وقد سبق أن أشرت
إلى القيمة الإيحائية لهذا «الموت»
المتكرر ثلاث مرات في «الرماية والمقبرة».
٢٢٦ واستعادة كلمات «إنه أنتِ
… إنه أنت أيضًا … نحوك» في «دعوة إلى السفر»،
٢٢٧ تكشف «الفكرة الثابتة» لدى
الشاعر، ألا وهي إقامة
التطابق
بين المشهد والمرأة المحبوبة، وفي
«الرامي الأنيق»، هو استحواذ المرأة
«الحتمية»، «الشهية، والكريهة» في آن،
الذي يترجمه تكرار الصفات «امرأته
العزيزة، الشهية والكريهة».
٢٢٨ وفي قصيدة «سابقًا»، حيث
يتكرر في الخاتمة — بشكل مختلف — مقطع
شعري بكامله مملوء بالإيحاءات
الشهوانية، نستطيع أن نرى فيه البحث عن
حركة متكاسلة ومهدهدة:
«ورغم هذا كانت الأرض، الأرض
بصخبها وأهوائها، بترفها وأعيادها،
كانت أرضًا خصبةً ورائعة، تحفل
بالوعود، التي تبعث لنا أريجًا
غامضًا من الورد والمسك، ومنها
كانت موسيقى الحياة تصلنا في همهة عاشقة».
٢٢٩
ومن المؤكد — على أية حال — أن هذه
الاستعادات، والتكرارات، واللازمات،
رغم «تعبيريتها»، تلعب — أيضًا — دورًا
في بنية القصيدة، وتساهم في تحقيق
وحدتها، في طابعها المركب «كله»
والجمالي، وفي قصيدة «نصف كرة في خصلة
شعر»، تعبر لازمة «شعركِ … خصلة شعركِ»
— بلا شك — عن استحواذ شَعر امرأة،
والقوة المسكرة للأحاسيس والأحلام التي
يمنحها للشاعر، لكنها تسمح — أيضًا —
بخلق إيقاع سيفرض على هذه الأحاسيس
شكلًا فنيًّا. وهذه القيمة المزدوجة،
التعبيرية والفنية، التي أكد عليها من
قبل «ج. رينولد» — عن حق — فيما يخص
التكرارات واللوازم الكثيرة في «أزهار الشر»،
٢٣٠ تقودنا إلى بعض التأملات
الأكثر عمومية حول نثر «بودلير»
الشعري.
والنثر الشعري — كما يدركه «بودلير»
— عليه أن يحقق «معجزةً» حقيقية (إنها
الكلمة التي يستخدمها): معجزة التوازن
بين النثر والشعر، بين التعبير
والإبداع، فبودلير — فيما يعارض، من
ناحية، المفهوم الشكلي الصرف عن الجمال
— يرفض أن يفرض على نثره أُطرًا جاهزةً
سلفًا وزخارف مموهة، ويبحث — عبر جُمل
سلسة شفافة، بلا زوائد — عن اقتران
أكبر قدر ممكن من الدقة بحركات الكائن
الداخلي، وهو — من ناحية أخرى — يشعر
تمامًا بأن العمل الفني لا يمكن أن
يوجد بدون «قدرٍ ما من التعقيد، أو —
على نحو أدق — من التركيب»،
٢٣١ الذي يكشف التدخل الفني
للشاعر، الذي يفرض على المادة شكلًا
وانسجامًا، وربما يمكن تلخيص هذا
الطموح المزدوج في الصفة «موسيقي» التي
يسم بها هذا النثر الشعري المثالي،
القادر على التوفيق بين تموجات الحياة
والتماثلات الثابتة لخطوط الجمال.
٢٣٢
وهكذا، سيبدو لي من المفيد — بشكل
خاص — المقارنة بين القصائد التي تعالج
نفس الموضوعات، الواحدة نظمًا والأخرى
نثرًا، فهي تمكننا من أن نرى كيف يسعى
«بودلير» — وهو يعبُر من النظم إلى
النثر (والعكس أكثر ندرة)، محافظًا على
الفكرة الشعرية،
وبواسطة تقنيات شديدة الاختلاف — إلى
انتظام هذا النثر في قصيدة، محافظًا
على سلاسته، وقد سبق أن أشرت
٢٣٣ إلى أن «بودلير» كان يفكر
— عام ١٨٥٧م — في كتابة نثر «مناظر» ﻟ «أزهار الشر» وفي عام ١٨٦٦م، سيقول —
أيضًا — إن «سأم باريس» يجب أن «يكون
مناظرًا» ﻟ «أزهار الشر»،
٢٣٤ وتُظهر قصائد ١٨٥٧م هذه،
حسبما قلت، انشغالًا بالمعمار والإعداد
الفني البالغ الخصوصية، ولا يقل عن ذلك
أهمية أن نكشف اختلاف التقنيات
والنتائج بين النظم والنثر. وسأحاول
الإشارة إلى ما يتعلق بقصائد «نصف كرة
في خصلة شعر» و«دعوة إلى السفر» و«حافز مزدوج»،
٢٣٥ باعتبارها ذات أهمية
كبيرة، لا بالنسبة لدراسة «بودلير»
فحسب، بل أيضًا لدراسة قصيدة النثر،
واحتمالاتها ومخاطرها.
قصائد نثر وقصائد نظم
ليس مؤكدًا أن «خصلة الشعر»
(المنظومة) قد سبقت «نصف كرة في خصلة شعر»،
٢٣٦ لكن الموضوعات الشعرية
واحدة، ورغم هذا، «فبنفس الصور، ونفس
الإشارات، ونفس النغمات، ينجح النظم
والنثر في إصدار أصوات مختلفة»، كما
يكتب «كريبيه» و«بلان» اللذان قاما —
في طبعتهما المحققة من «أزهار النثر»،
وبطريقة شديدة التحديد — بالمقارنة بين
النصين (النصوص الثلاثة بالأحرى)؛ إذ
تحتوي «نصف كرة في خصلة شعر» على بعض
الآثار الواضحة للغاية من «عطر
غرائبي»، وهي قصيدة سابقة — هذه المرة،
ولا شك — على قصيدة النثر،
٢٣٧ وتكشف هذه المقارنة —
تمامًا — مسيرة الشاعر المزدوجة، الذي
ينحو — أحيانًا — نحو القصيدة ويستعير
— من النظم — بعض الأدوات الشكلية
(لازمة، سجع، جناس، ترتيب في مقاطع
غنائية)، ويقف — أحيانًا، على النقيض —
ضد الأساليب الشكلية، وتماثلات الإيقاع
والرطانة الشعرية، بما يسمح
— بالتالي — ﺑ «مسحات ملموسة لا يستطيع
الشعر المنظوم أن يتحملها دون انفجارات
تصويرية خالصة».
٢٣٨
ولا شك أن النثر لا يمكنه أن يفكر في
منافسة الشعر على أرضه الخاصة به، أرض
النظم: فنسيجه الأقل انشدادًا يمنعه من
تبلورات معينة، وتراكيب ساطعة معينة،
وفي مواجهة هذه القصائد المنظومة، التي
يمتدح فيها «ج. رومان» — عن حق —
«الكثافة التي لا نظير لها»:
٢٣٩
شعور زرقاء، وسُرادق من الظُّلمات
الممدودة،
تمنحونني لازورد السماء الهائلة
والمستديرة.
يكتب «بودلير»، بشكل مسطَّح إلى حدٍّ
ما: «في لا نهائية شَعرك، أرى تألق لا
نهائي اللازورد الاستوائي»، فيلغي
الصفة المدهشة «زرقاء»،
٢٤٠ وصورة السماء «الهائلة
والمستديرة»، التي كانت تحدد — جيدًا —
«قبة السماء» هذه، التي كثيرًا ما
ذكرها «بودلير».
٢٤١ وعلى نفس النحو، وأمام
إشارات تصويرية عن «الساعات المحسوسة
للميناء، بين آنية الزهور والقلل
المنعشة» (إنه السفر إلى جزيرة موريس)،
فأي ثراء معنى وإيقاع في هذه
الهدهدات اللانهائية لوقت
الفراغ المعطَّر
حيث ينجح «بودلير» في أن يحشد — في
المساحة الضيقة لبيت من اثنتي عشرة
تفعيلة — توليفةً من العطر، والحركة،
والإحساس بالكسل، والشعور باللانهائي!
«كثافة بلا نظير»، بالتأكيد، لكنها —
بالأساس — خلق ﻟ «كلمة شاملة، وجديدة»،
كما سيقول «مالارميه»،
٢٤٢ حيث تتحد الإيحاءات
وصوتيات الكلمات المترابطة، وتمتزج بلا
انفصال، خالقة بذلك «موضوعًا» شعريًّا
جديدًا، والنثر — وخاصة نثر «بودلير»
التحليلي عن عمد — لا يمكن أن يستفيد
من تضييق كهذا. وعلى الجهد الإبداعي أن
يتوجه نحو بنية القصيدة ككل (والقصيدة
القصيرة للغاية بالضرورة)، كي يخلق
منها كُلًّا، وحدةً منسجمةً ومكثفة،
هنا يلجأ «بودلير» — من أول القصيدة
حتى آخرها — إلى استدعاء ﻟ «أفكار»
(تجسيد الذكريات الغرائبية في الشعر)
و«صور» (صورة المحيط مثلًا، تمتد عبر
استدعاء «ميناء» و«شواطئ») و«كلمات»
و«صوتيات» (تكرار كلمة «خصلة شعر»، وهي
مدهشة بشكل خاص)، و«إيقاعات» (يتم خلق
الإيقاع — هنا — عن طريق البدايات
المتشابهة، مثل بناء وإصاتة المقاطع ٤
و٥ و٦، مع نوع من
الخاتمة في
المقطع الأخير، كنوع من تضييق الإيقاع:
«في بؤرة شَعرِك الحارة … في ليل شَعرك
… على ضفاف شَعرك الزغبية …»). وكما في
قصيدة النظم، تنتهي قصيدة النثر
باستدعاء للعلاقة
«
chevelure-souvenirs
— شَعر/ ذكريات» (اندماج الملموس
بالمجرد: «آكل الذكريات» ترد على
التعبير الجميل للبداية: «كي أهز
ذكريات في الهواء»)، ولا أتردد — لدى
المقطع الأخير من القصيدة المنظومة،
الضعيفة والمفتعلة — في تفضيل هذه
الجملة الأكثر أُلفة وحميميةً في آن:
«عندما أعضعض شَعرك الطَّيع والمتمرد،
يبدو لي أنني آكل ذكريات».
وجدير بنا أن نذكر — فضلًا عن ذلك —
نغمة البوح الحميم،
والشخصي، التي تتبناها قصيدة النثر
(لاحظ وفرة الصياغات الشخصية: ألمح،
أجد ثانية … إلخ)، والتي تجعل منها
شيئًا مختلفًا تمامًا — في النهاية —
عن قصيدة النظم، التي تحتفي بالغنائية
الصوتية، والاستدعاءات البراقة وذلك
رغم أن الموضوعين مُركَّبان، فالنظم
الشعري يميل إلى الألفاظ الصاخبة،
الفخيمة أو العتيقة: «غابة معطِّرة»،
«في الذهب وفي تموج النسيج»، «عنق،
كسل، نشوة»، والمفردات — في النثر —
أكثر بساطة (سفر، في مقابل
اندفاع،
بحار كبيرة في مقابل
بحر أبنوس،
روائح في مقابل
عطور)، فالكلمات
الملموسة والتصويرية سائدة: «ريح
موسمية، جلد إنساني، آنية الزهور وقُلل
منعشة …». وتميز هذه المفردات — الأكثر
بساطة، وتحديدًا — قصائد «سأم باريس»،
بالمقارنة مع قصائد «أزهار الشر» وبشكل
عام، فن النثر (ولا أقول النثر
الشعري!) بالمقارنة مع الشعر المنظوم،
وعلى أية حال، فلا يخلو شعر «بودلير»
المنظوم — دائمًا — من أوتاد معينة،
وبعض الحشو، وبعض التواءات الأفكار
التي تقود إليها متطلبات الوزن
والقافية، فجملة «عالم بكامله بعيد،
غائب، ميت» خطابية إلى حد ما، والترنح
لا «يلاطف» على وجه الإطلاق، فهو —
بالأحرى — «يهدهد» (كما يقول النثر)،
ولن أعود إلى اليد التي تبذر «الياقوت
واللؤلؤ والياقوت الأزرق»، في المقطع
الشعري الأخير … ولنرصد — أخيرًا — أن
«ضفاف» أكثر إيحاءً بكثير من «أطراف»
(«على الأطراف الزغبية لخصلاتكم
الملتوية»)، الضرورية بسبب طول بيت
الشعر.
لدينا هنا — إذن — شهادة مفيدة عن
جهد «بودلير» المزدوج، للهروب — من
ناحية — من عبوديات ليست خاصة بالوزن
فحسب، لكن — أيضًا — ﺑ «النغمة
الشعرية»، وللعبور من المناجاة
الخطابية، إلى حدٍّ ما («أيها الشعر …
أيتها الخصلات!») إلى البوح همسًا
(«فدعيني أتنفس طويلًا … إذا ما
استطعتِ أن تعرفي …»)
٢٤٣ — ولكي يضفي — من ناحية
أخرى بفضل قوة الرمز والبنية المحكمة
للمقطوعة، شكل القصيدة، العضوي — قبل
كل شيء — على هذا الإيحاء البالغ
الجمال.
وفي حالة «دعوة إلى السَّفر»، تستعيد
قصيدة النثر لعام ١٨٥٧م موضوعًا سبقت
معالجته نظمًا عام ١٨٥٥م (يبدو أن
الملهمة هي «ماري دوبران»)،
٢٤٤ بروح شديدة الاختلاف،
فالفكرة — الواردة ببساطة في «دعوة»
الأولى عن التشابه بين المرأة والوطن
(«في الوطن الذي يشبهك») — تصبح الفكرة
المنظمة، الخلية الأم لقصيدة النثر:
منذ بداية ظهور هذه اللازمة المستعادة
بلا كلل: «حيث كل شيء يشبهك … قُطر
يشبهك … هذه اللوحة التي تشبهك»،
وصولًا إلى المقطوعات الشعرية الأخيرة،
التي تطور الفكرة طويلًا، والأثيرة لدى
«بودلير»، عن التطابقات
٢٤٥ بين الإنسان والكون، فإننا
نرى الموضوع يتسع، ونمر من التشابه إلى
الهوية المكتملة، وفي ختام هذا
التصاعد، يوحد «بودلير» — أولًا، من
خلال رمز مزدوج وشعري — المرأة
بالوردة: («وردة بلا نظير، توليب
مستعادة، داليا مجازية … هنا … يجب
الذهاب للعيش والازدهار»)، ثم يوحد —
فيما يعكس الكلمات — الوطن بالمرأة:
هذا الوطن الرائع، هذا الأثاث الفاخر،
«إنه أنتِ»، كما قال لها، هذه الأنهار،
هذه القنوات، «إنها أيضًا أنتِ»، طريقة
بلاغية؟ طبعًا هناك ما هو أكثر في فكرة
التطابق هذه بين أصغر وأكبر ما في
الكون، التي تنطلق من المبدأ الأعلى
للوحدة الكونية، التي ستخصب — فيما بعد
— النظرية الرمزية كلها.
٢٤٦ ولا تتبدى لي البلاغة إلا
في مجاز الخاتمة، حيث تصبح الزوارق
أفكار الشاعر التي تمضي نحو «البحر
الذي هو اللانهائي»، ثم تدخل «إلى
ميناء البلاد»، أي «تعود مرة أخرى من
اللانهائي نحوك». هذه المرة، نشعر
بالجهد في هذا النسق الاستعاري، الذي
يحل محل اللوحة المضيئة والهادئة
المستدعاة في ختام القصيدة
المنظومة.
وإذا ما كانت القصيدة المنظومة أرفع
شأنًا، فلا يرجع ذلك فحسب — كما أعتقد
— إلى إيقاعها الذي لا يمكن تقليده،
والناتج عن ترابطات الأبيات
الفردية، وهذه الأرجحة التي وصف «ج. دي
رينولد» سحرها،
٢٤٧ وحاول «دوبارك» إعادة
إنتاج أرابيسكها موسيقيًّا، بل لأنها —
أيضًا — تحقق انسجامًا نادرًا في
الإيحاءات والتصورات المنتظمة، لخلق
عالم من الجمال الشهواني والهادئ، عالم
لا تتعكر فيه الروعة المثالية بأي
استدعاء بالغ التحديد، أما الموضوع
المختلف إلى حدٍّ ما، الذي قدمه
«بودلير» نثرًا، فكان بمقدوره — أيضًا
— أن يبني عالمًا منسجمًا من التوافقات
الرمزية: فأي شيء أكثر شعرية — للوهلة
الأولى — من فكرة إثراء لوحة بالأصداء
والتوافقات الروحية؟ وهذه الاستدعاءات
التي لا تنتهي — للفكرة الرئيسية التي
يتزايد تأكيدها دائمًا — ألم تكن
ملائمة لإبداع «كُلٍّ» إيحائي؟ والواقع
أن أسباب فشل «بودلير» (النسبي) تعود
إلى سبب واحد: التطور، فكل ما كان
مُوحى به — ببساطة — أو في ابتدائه، في
القصيدة المنظومة يوجد مستعادًا،
ممتلئًا بالتفاصيل، وواضحًا في النثر:
فوطن الحلم، المشار إليه في غموض، نجده
محدد الموقع — جغرافيًّا — بالإشارة
إلى «الفلورين»، وأزهار التوليب،
والكلمات المجردة للَّازمة الشهيرة:
هنا كل شيء ليس سوى نظام
وجمال،
رفاهية، وسكينة، ونشوة
تتلقى تعليقًا غير متوقع — إلى حدٍّ
ما — من خلال وصف «بلاد النعيم»
حيث تستمتع الرفاهية بأن
تتملَّى نفسها في النظام، حيث
الحياة دسمة وعذبة في استنشاقها،
ومنها تُستبْعَد الفوضى والصخب
والمفاجئ، وحيث تقترن السعادة
بالهدوء، حيث المطبخ نفسه شعري،
ودسم ومثير في آن …
وبعد! كان ذلك هو كل حلم الجمال
الشهواني لبودلير. حياة مريحة، وهادئة،
ومطبخ «دسم ومثير»!
٢٤٨ وبدلًا من إدانة المادية
الرجولية، أُفضل أن أعتقد أن هذا الوصف
لبلد «حيث كل شيء يشبهك، يا ملاكي
العزيز» — كما يضيف الشاعر — لا يخلو
من تهكم لاذع على الملهمة، ولا يقل عن
ذلك حقيقيةً أن هذه السخرية غير
المتوقعة وبالمثل، المبالغة إلى أبعد
حد في التفاصيل (في وصف المنازل؛ إذ
ربما حصل «بودلير» على بعض الذكريات من «بو»)،
٢٤٩ والميل إلى الاستطراد
(بخصوص الحلم)، أو الاستدلالات المجردة
التي تُسهب في التحليل، في حين أن
«الروح الغنائية تقوم بقفزات واسعة نحو التركيب»
٢٥٠ كل هذا يطيل القصيدة،
ويقحم فيها — على نحو ما — عناصر غريبة
مستمدة من النثر، تعوق «البلورة
الشعرية، ولا شك أنه سيكون شاقًّا
وظالمًا أن نطبق على «بودلير» نتائج
«بو»: «إنها المبالغة في التعبير عن
المعنى الذي لا يجب
إلا أن يكون
موحى به، إنها طريقة
التنفيذ، والتيار التحتي للكتاب،
والتيار المرئي والأعلى، الذي يُحَول
الشعر المزعوم للاستعلائيين المزعومين
إلى نثر، وإلى أكثر أنواع النثر تسطيحًا».
٢٥١ لكن، إذا ما كان نثر «دعوة
إلى السفر» ليس «من أكثر أنواع النثر
تسطيحًا»، فإنه يبدو لنا — بالأحرى —
أشبه بحلم يقظة، أكثر من كونه عملًا
جميلًا،
نثرًا جميلًا للغاية
أكثر من كونه
قصيدة،
٢٥٢ إن تكرار التعبيرات
والأفكار التي بحث عنها «بودلير» عن
عمد (قارن فيما سبق) يظل غير كافٍ لمنح
الوحدة والتماسك لهذه القصيدة الطويلة
جدًّا، وهي — على أية حال — ملاحظة لا
يمكن تعميمها إلا على «سأم باريس»، حيث
أفضل القصائد (صلاة اعتراف الفنان، لكل
خرافته، نصف كرة في خصلة شعر، محاسن
القمر … إلخ) هي — أيضًا — أقصرها، هذه
القاعدة المتعلقة بالقصيدة
القصيرة —
التي سبق أن عرضها «بو»، والتي تمثل
أحد القوانين الأساسية لقصيدة النثر —
أثبتت صحتها إخفاقاتُ ونجاحاتُ
«بودلير»، وربما لن يكون من المبالغة —
على أية حال — الاعتقاد بأن تنظيمه
الشعري كان يتطلب — في النثر، كما في
النظم — أُطرًا مختصرةً وصارمةً إلى
حدٍّ ما (في السوناتا، على ما كتب إلى
صديق: «لأن الشكل إجباري، تنبعث الفكرة
بشكل أقوى»).
٢٥٣ وبالنسبة له، كانت حرية
النثر خطرًا دائمًا.
خطر أكثر رعبًا، وهو أمر واضح لكل ذي
عينين، في القصائد «الباريسية» ذات
الشكل المفتوح والرابسودي عمدًا، وأكثر
خطورة — أيضًا — بقدر ما لم يعد
«بودلير» — الذي يشيخ، والمستهلَك،
والمريض — قادرًا على المحافظة، في
قصائده، على نفس الصرامة الفنية، وفي
الختام، علينا — في لحظة «الحساب
النهائي» لبودلير — أن نراعي جميع هذه
العناصر.