الفصل الثاني

رامبو وخلق لغة شعرية جديدة

(١) مهمة الرائي واستكشاف المجهول: البحث عن لغة: «اكتشاف المجهول يستدعي أشكالًا جديدة».

(٢) عن الرؤيا في القصيدة. مشكلة التواريخ ودلالتها. النثريات الأولى. فصل في الجحيم، التخلي عن «الاندفاقات الصوفية» وعن «غرائبية الأسلوب».
(٣) «إشراقات» والقطيعة مع الأشكال الكلاسيكية. رامبو والتيارات الأدبية المعاصرة. «صيغة» إشراقات:
  • (١)

    الشعر الفوضوي.

  • (٢)

    العالم المُعَاد خلقه: الدفقة الإبداعية، التركيبة الرامبوية، اللغة الشعرية.

خلاصة. مكانة رامبو المرموقة في تاريخ قصيدة النثر: منه يبدأ تاريخ لغة شعرية جديدة، يمتد تأثيرها إلى الآن.

***

يحتل «رامبو» — في تاريخ قصيدة النثر — مكانةً ليست مرموقةً فحسب، بل — أيضًا — مركزيةً وفريدةً في نوعها، وذلك لسببين: أولًا، لأنه كان أول من أكد — بقوة — على علاقة الضرورة بين الصيغة الشعرية الجديدة وهذا البحث عن المجهول، الذي يجعل من القصيدة الحديثة محاولةً ميتافيزيقية، أكثر من كونها شكلًا فنيًّا؛ ثم لأنه أراد — وقد قَرن المثالَ بالقاعدة — أن يصبح هو نفسه «سارقَ النار»، وأن يقدم نموذجًا لقصيدة النثر، مكتملَ الأصالة في المفهوم والتقنية، امتد تأثيره إلى الشعر التالي كله، ولا يبدو أنه يقترب من الخمود. ثمة — ولا شك — أسطورة رامبو:١ والمفسرون — من فرط ما أرادوا أن يقرنوا إنتاجه بأنساق موجودة سلفًا، متضاربة تمامًا، على أية حال — انتهى بهم الأمر إلى ألَّا يروا فيه إلَّا ما يأتون هم به، لكن ما لا يمكن إنكاره، هو التوجه الجديد الذي يطبعه «رامبو» على الشعر، وهو — أيضًا — جمال وأهمية اللغة الشعرية الجديدة التي أبدعها هذا الصبي ذو السبعة عشر عامًا.
ودراسة «رامبو» (التي يزيدها تعقيدًا كل هذه التأويلات المتحيزة، التي شهدت هذه الأعوام الأخيرة مولدها) تطرح كافة أنواع الإشكاليات، أولًا فيما يتعلق بالبرهنة، وتحديد التاريخ، وإدراك معنى النصوص، ثم ما يتعلق بقيمتها بالنسبة لرامبو، والتجارب التي عاشها، والمحاولة التي خاضها. كثير من الأشياء تهرب منا، ونفكر في «الصمت المتغطرس والعنيد»٢ الذي أجاب به المراهق الحرون — الذي يقطن في شارع نيكوليه — على توسلات «فيرلين» و«شارل كرو»، فرامبو ليس مستعدًّا — بعد — ليمنحنا كافة أسراره …

ولا يكمن هدفي — هنا، إذن — في تقديم حل نهائي ﻟ «مشكلة رامبو»، التي ما يزال ينقصها الكثير من المعطيات، بل أكتفي بأن أقترح — على نفسي — توضيح كيف أن «إشراقات»، الشديدة البُعد عن النثر «الفني» — بقدر ابتعادها عن النثر «النثري» — قد فجرت كل الأُطر الشكلية، وبأي معنًى سيوجه مفهومها وتقنيتها وجِدَّةُ رؤيتها الشعر الحديث كله.

(١) مهمة الرائي واستكشاف المجهول

إيجاد لغة
لم يعد من الممكن — بعد مقاربات النصوص التي راكمها، في أطروحته، «ج. جينو»٣ — إنكار أن المرحلة الشعرية الأولى لرامبو، المرحلة «النظمية»، كانت مرحلة سرقات أدبية: انتحال لجوتييه وهوجو وجلاتيني وموسيه … إن «سارق النار» لهو — في البدء — سارق عبارات. معارضات قصدية إلى هذا الحد أو ذاك، وساحرة إلى هذا الحد أو ذاك، يبدو فيها «رامبو» — رغم هذا — كأنه لا يسعى إلى تقليد كُتَّاب يعجب بهم (سنراه بالغ القسوة، اعتبارًا من عام ١٨٧١م، إزاء «موسيه» وبعض الآخرين)، بقدر ما يتمرن، بقدر ما يقدم — في نفس الوقت — نوعًا من «النسخة السلبية» للشعر البارناسي، ليجعل من هذا الشعر المنتظم الذي كرسه البارناسيون للجمال التشكيلي، والفن الشكلي، صالحًا للسباب والفُحش والتجديف.
إن القطيعة مع أشكال الشعر القديمة، والهجوم الكبير على من يسميهم رامبو «أدباء، نظَّامين»،٤ اللذين يعود تاريخهما إلى الخطاب الشهير المسمى بخطاب «الرائي» (١٥ مايو ١٨٧١م)، سابقان — إذن — على إقامته في باريس وقتئذٍ، كانت حصيلة المراهق الثقافية محصورةً في قراءاته بشارلفيل (خاصةً لدى أستاذه وصديقه «إيزامبار»، أو في مكتبة البلدية)، وفي الشعر، كان معجبًا — قبل كل شيء — بهوجو وبودلير،٥ كما قرأ لفلاسفة وعلماء اجتماع، هلفيثيوس وبرودون، وربما — أيضًا — إضافةً إلى ميشليه، بعض المنجمين … بقدر ما سمحت له مصادر مكتبة شارلفيل، ولن تكون هذه القراءات وحدها بقادرة على التفسير، لكنها يمكن أن تدعم الملمحين الجوهريين لشخصية «رامبو» اللذين أريد — من الآن — التأكيد على أهميتهما: أعني الفوضوية الهدَّامة، من ناحية، وروح نظام الآخر (في شكل إرادة منظِّمة)، هذه الازدواجية لدى «رامبو» — التي أحيانًا ما تقوده إلى أن يتمنى انفجار العالم في «طبقاتٍ من الدماء والجمر»،٦ وإلى أن يُعَد أحيانًا — كما يقول لنا صديقه «دلاهاي» — مشروعات «دستور» سياسي٧ — هي ما تفسر، أيضًا، الغموض الجوهري لشعره.
وأعتقد أننا — انطلاقًا من «رامبو»/ يانوس٨ (الفوضوي والخالق) سنستطيع أن نتأكد بأنفسنا — بشكل أفضل — من مظاهر العمل المتناقضة، وأيضًا ما يتيحه لنا من تأويلات متضاربة: بعضها يؤكد على «تشوش» رامبو،٩ والآخر يؤكد على «نظامه».١٠ فثمة هنا — في الواقع — قُوى أقل تناقضًا من أن تكون تكميلية: وإذا ما تقبلنا أنه في قلب ازدواجية كهذه بالتحديد (فوضوية هدَّامة/ إبداع منظِّم)، تجد قصيدة النثر — كما سبق أن قلت، وكما سأوضح بالتفصيل فيما بعد١١ — مبدأها وسبب وجودها، فسنكون مهيئين — على نحو أفضل — لإدراك السبب في أن «رامبو»، الذي كانت هذه القُوى — لديه — تصل إلى الذروة، قد دفع هذا النوع إلى تحققه الأكثر تألقًا.
ولا يدهشنا كثيرًا أن نجد — في خطاب ١٥ مايو ١٨٧١م — سمة تمرد واحتجاج عنيف ضد كل «الأفكار المسبقة» الأدبية: إن شباب رامبو، والمرارة المشبع بها من الطغيان الأمومي، وقراءاته، يمكن أن تفسر استيلاءه على «أنا من يتعذب ومن تمرد» — في «رجل عادل»١٢ — لحسابه، ومزاوجته بين التمرد الاجتماعي والتمرد الفني،١٣ وأكثر ما يدهشنا هو الطابع العقلاني والمنهجي للثورة التي يريد صنعها في الشعر: فرامبو يعرض نسقًا على صديقه «دوميني»، هو «منهج الرائي».
التمرد، أولًا: فبعد «أنشودة حرب باريسية»،١٤ الفوضوية الشتامة والكوميونية، ثمة إعلان الحرب على الشعر، الذي يمتد من اليونان حتى الحركة الرومانتيكية — على هذه «الأجيال الغبية التي لا تُحصى» من الأدباء النظَّامين (الذين يضعهم «رامبو» — في نفس الخطاب عام ١٨٧٠م — على النقيض من «الأجيال الأليمة، المأخوذة بالرؤى»)، وعلى هؤلاء «الموظفين» و«الكتاب» الذين لم يستشعروا أبدًا وظيفة الشعر الحيوية والميتافيزيقية.
والآن، المنهج. نعلم أن «رامبو» يطالب الشاعر بأن «يكون رائيًا»، وأن يتوصل — عبر دراسة طويلة تتضمن «تعطيلًا منهجيًّا للحواس كلها» — إلى المجهول، أن يكون «سارقَ نار»، و— عندما يعود من هناك — «يجعلنا نحس ونلمس ونسمع اكتشافاته». لكن، كيف يمكن ترجمة هذه الرؤى في شكل قديم ومبتذل، كيف يمكن إخضاع «أشياء لا تُسمَع ولا تُسمَّى» لقوانين القافية والعروض؟ إن «اكتشاف المجهول يستدعي أشكالًا جديدة». فما يزال شعر الرومانتيكيين «المتحرر» — على سبيل الزعم — عائقًا، وستارًا يمنع الروح من الحديث إلى الروح: فلامارتين «أحيانًا ما يكون رائيًا، لكنه مذبوح بالشكل القديم»، و«بودلير» نفسه، «ملك الشعراء»، يمتلك شكلًا «مسكينًا»، لأنه عاش في وسط «شديد الحِرفية». فعلى الشاعر أن يستخدم — لترجمة رؤاه — طريقةً أكثر مباشرة، ودون الانشغال بالتقاليد الأسلوبية: «إذا كان ما يأتي من هناك يمتلك شكلًا، فإنه يقدم شكلًا، وإذا ما كان بلا شكل، فإنه يقدم اللاشكل. إيجاد لغة». ولنتوخَّ الحذر من هذه الكلمات الأخيرة: فلا يتعلق الأمر — بالنسبة للشاعر — بأن يحكي ما رآه كيفما اتفق، وحسبما تواتيه الكلمات، بل — على النقيض — ثمة ضرورة لبذل جهد شديد الوعي من جانبه في اللغة (أليست هي فكرة الجهد التي يترجمها «رامبو» عندما يتحدث عن «الفكر وهو يعلَق بفكر ويجتذبه»؟) يجب منح الكلمات طاقاتها الدالة، وإيجاد لغة «تختصر كل شيء، الروائح والأصوات والألوان»، وعلينا ألا نتوقع من «رامبو» فنًّا شعريًّا: فذلك سيكون مناقضًا للمبدأ نفسه الذي يتبناه، والقاعدة الوحيدة — في انتظار مستقبل يحلم به، حيث سيكون للشاعر دور من الطراز الأول يؤديه — هي، حتى هذه اللحظة، التحرر من القواعد «الحِرفية»، والخروج من الأخدود: «فلنطالب الشاعرالجديد، أفكارًا وأشكالًا». ولا يتعلق الأمر بالسعي إلى التفرد بأي ثمن، لكن بالعثور على الوسائل التي تسمح بنقل الرسالة التي يأتي بها من المجهول دون المساس بها. مهمة ميئوس منها تقريبًا، و«رامبو» يشعر بذلك جيدًا! فتخيلوا رجلًا يزمع أن يجعل مجموعةً من العميان تشعر بما يرى، يجعلها «ترى»، هذه هي المهمة التي يضطلع به الشاعر عندما يحاول — ذلك «العامل الرهيب» — أن يُعبر عما لا يمكن التعبير عنه، أن يُسمي «الأشياء التي لا تُسمَّى»، جهد سيواصله «رامبو» لحسابه على مرحلتين: أولًا بأن يصبح «رائيًا»، ليصل إلى المجهول، ثم ﺑ «إيجاد لغة» لترجمة رؤاه.
فلنذكر — فحسب، في بضع كلمات — بهذا التقشف الغريب، هذا التفجر الداخلي المنهجي، فنحن نعلم — من خطاب ١٣ مايو إلى «إيزامبار» — أن «رامبو» كان يمارس، في هذه الفترة، «تعطيلًا منهجيًّا لكل الحواس»، الذي ذكره «خطاب الرائي» بعد يومين:
أتفجر الآن إلى الحد الأقصى الممكن، لماذا؟ أريد أن أكون شاعرًا، وأعمل لأصبح رائيًا: لن تفهموا أبدًا، وأكاد ألَّا أستطيع أن أشرح لكم، فالأمر يتعلق بالوصول إلى المجهول، بتعطيل لكل الحواس …١٥
ونعلم، أيضًا — بفضل النص المكتوب عام ١٨٧٣م في «خيمياء الكلمة» — أنه تدرب على ممارسة الهلوسة، ولجأ إلى «كل صوفيات الجنون».١٦ وفي باريس، حيث سيذهب في نهاية سبتمبر، سيستمر — برفقة «فيرلين» — في الوجود المشوش بشكل منهجي، ومثل «بو» — الذي كان السُّكْر بالنسبة له، إذا ما صدقنا «بودلير»، منهجًا في العمل — سيسعى إلى استثارة الرؤى بوسائل مصطنعة، بالأبسنت١٧ والحشيش.١٨ وتشير قصيدة «صباح السُّكْر» — وفقًا لكل احتمالية — إلى «منهج» و«سم» يفتحان الفراديس المصطنعة، والجملة الأخيرة: «ها هو زمن القتلة assassins» تنطوي — كما اعتقدت «أ. ستاركي»، إضافةً إلى معناها الأدبي — على إشارة، من خلال اللعب باشتقاق الكلمة، إلى الحشاشين Haschischins.١٩ الصوم، والعمل الليلي، ووسائل أخرى أيضًا في التشويش، دون حساب التشويش الجنسي، أليس على الشاعر، حسب خطاب «الرائي»، أن يستنفد «كافة أشكال الحب، والمعاناة، والجنون»؟ وسيحسن «إيتيومبل» صنعًا عندما ينسف — مع الأساطير الأخرى — تلك الأسطورة الخاصة برامبو المحصور مع «فيرلين»، ذي «الوساوس» و«القلق الشهواني»، تعذبه «أخلاقياته المسيحية»(؟)، مطالبًا الشعر بأن يجعله ينسى وجوده «الفظيع».٢٠ إن سلوك «رامبو» أكثر إرادية بكثير: فلنُعد قراءة الصورة الشخصية المدهشة، في «فصل في الجحيم» (هذيانات–١)، التي رسمها «رامبو» لرامبو، مثلما كان يراه «فيرلين»، «العذراء الحمقاء»؛ فإذ يتمرد على العالم والمجتمع القائمين (وهذه القوة الفوضوية يمكن أن تجعل منه «خطرًا حقيقيًّا على المجتمع»)، فإنه يبحث «عن أسرار لتغيير الحياة٢١ مجوسي وشيطان، يريد أن يخلق لنفسه عالمًا منفصلًا، أن «يهرب من الواقع»، إنه هو الذي يسوق «فيرلين» إلى حياة الصعلكة في إنجلترا (بدونه، كيف كان سيسافر؟ فلم يكن يملك فلسًا!)؛ ولكن أبدًا، أبدًا لن تستطيع العذراء الحمقاء المشاركة في محاولته المجنونة للخروج من الواقع، ليخلق لنفسه عالمًا منفصلًا، «رأيتُ كل الديكور الذي كان يحيط نفسه به في ذهنه: ملابس، ملاءات، أثاث، كنتُ أعيره أسلحةً وهيئةً أخرى. رأيتُ كل ما يؤثر فيه، كما كان يريد أن يخلقه لنفسه»، على نحو ما تقول، لكن عليها أن تعترف: «كنتُ واثقةً أنني لن أدخل عالمه أبدًا»، وفيما بعد: «مغتاظة بكآبة، كنتُ أحيانًا ما أقولُ له: «إني أفهمك»، وكان يهز كتفيه»، وقد استطاع «رامبو» في شارلفيل، قبل أن يتعرف على «فيرلين» وبعيدًا عنه، أن يعد نظامه في الرؤيا: لم يكن «فيرلين» — بالنسبة له — سوى مجرد أداة، سرعان ما رمى بها.
فهل توصل «رامبو» فعلًا إلى المجهول؟ والرؤى التي يلمح إليها في بعض نصوص «إشراقات» و«خيمياء الكلمة»، أكانت شيئًا آخر سوى هلوسات يسيرة يستثيرها الكحول أو الحشيش؟ الإجابة على أسئلةٍ كهذه تظل ذاتيةً، بنفس القدر الذي يتعلق بحالات النشوة الصوفية، وذلك ما يدفعنا إلى التساؤل عن مدى نجاحه في منحنا الشعور بعالم مجهول، أو — بالأحرى — (وربما بعد أن تخلى عن محاولة الرؤيا بالمعنى الحرفي للكلمة)، بخلق هذا العالم الجديد بفضل «سحر» التعبير و«الشعوذة الإيحائية» للشعر، ولن نستطيع أن نؤكد كثيرًا على الطريقة التي يمر بها «رامبو» من الرؤيا إلى القصيدة.

(٢) من الرؤيا إلى القصيدة

مشكلة التواريخ ودلالتها: فصل في الجحيم

أية قصائد يمكن أن تكون تلك الخاصة براءٍ، ﺑ «إشراقي»؟

مثل الصوفي لدى خروجه من النشوة، على الشاعر الرائي أن يصف تجربةً لا تُوصَف، بالمعنى الدقيق للكلمة، أن يجعل الناس تشعر — من خلال استخدامه للكلمات اليومية — بحالات خارقة للقوانين الإنسانية، إن الكلمات تعوز الصوفيين كي يحكوا عن تجاربهم، فهم مجبرون على استخدام التقريبات والتشبيهات، مدركين أن الجوهري يظل — دائمًا، رغم هذا — مستعصيًا على التوصيل.٢٢ أليست مقامرةً — إذن — أن نجعل من الشاعر رائيًا، وهو الذي تعتبر مشكلة التعبير — بالنسبة له — أمرًا جوهريًّا؟ عندما سيقول لنا «رامبو»، وهو يتذكر محاولاته الأولى، في «فصل في الجحيم»: «كنتُ أكتب صمتًا، وليالي، وأدون ما يستعصي على التعبير»،٢٣ فهو لا يفعل سوى التأكيد على التناقض الداخلي لذلك. فكيف يمكن — عن طريق الكلمات والصور المعروفة — ترجمة المجهول؟ ذلك هو حجر الأساس لكل المتصوفة والشعراء «الرائين» جميعًا: يلخص «دانتي» هزيمتهم المشتركة عندما يعلن أنه رأى في الفردوس أشياء «لا يعرف ولا يستطيع أن يعيد قولها الفاني الذي يهبط من فوق».٢٤ والنجاحات الوحيدة التي يستطيع الشعراء أن يأملوا فيها هي التوصل — لا عن طريق الوصف — بل الإيحاء بالمجهول، تصبح القصيدة نوعًا من الوسيط: «عبر الشعر ومن خلال الشعر، في آن … تستشف الروح البهاء الكامن خلف المقبرة»، حسب الصيغة التي كررها «بودلير» نقلًا عن «بو» في «ملاحظات جديدة حول إ. بو». فعبر تداعيات الأفكار والصور، وعبر الهالة الشعرية التي تحيط بالكلمات، وعبر سحر الإيقاع، بكلمة واحدة، عبر «خيمياء الكلمة»، سيدفع الشاعر القارئ إلى فتح الأبواب العاجية، ليتيح له الدخول إلى عالم مجهول، لكن الشاعر يصبح — عندئذٍ — مجوسيًّا في جوهره وخالقًا، فمن المستوى الصوفي، السلبي، حيث لم يكن سوى مترجم، نراه يعبر إلى المستوى الإيجابي الخالق.
ويؤكد «رامبو» بنفسه — في خطابه عن «الرائي» — على هذا المظهر، مستخدمًا كلمات: «مؤلف، مبدع، شاعر»،٢٥ والانسياب من مستوى إلى آخر محسوس به أكثر — أيضًا — عندما يضيف، بعد أن يتكلم عن «الرؤى»، أن على الشاعر أن يجعلنا «نشعر، ونحس، ونسمع اكتشافاته».٢٦ وبهذا الغموض الأساسي، يعيد «رامبو» الشاعر إلى وظائفه الإبداعية، ويدرس «الرؤيا» كمنهج لاكتشاف أدبي، بقدر ما هي — أيضًا — «نمط جديد للمعرفة».٢٧ والشاعر هو «بروميثيوس»، «سارق النار»: لكن من أجل أن يُحيي — بهذه النار — الكائنات التي صاغها بنفسه، وعندما سيتذكر «رامبو» عام ١٨٧٣م محاولاته الأولى، سيعامل نفسه باعتباره «سيد المشاهد الخارقة»٢٨ و«مكتشفًا أكثر جدارة من كل سابقيه».٢٩
يتعلق الأمر — إذن، في آن — بإيجاد منهج للرؤيا ووسيلة لاستثارة الرؤى، والارتقاء إلى المجهول، ولغة لم يُسمَع بها، نستطيع أن نقول إنها سحرية، والسيطرة على الكلمات المقترنة بالسيطرة على الأشياء: «نومين نومين Nomen Numen». إنها تلك المحاولة التي سيستدعيها «رامبو» في «فصل في الجحيم» تحت هذا العنوان الدَّال: «خيمياء الكلمة»، وسيذكرها باستهزاء باعتبارها «جنونًا» انتهى من الآن فصاعدًا، وفي هذا النص، يسرد «رامبو» — بشكل خاص — «أنواع الرومانس»،٣٠،  ٣١ التي يبدو أنه بحث فيها — حوالي عام ١٨٧٢م — عن «صيغة» له، ولأنه أولع — مثل «نرفال» — بالأغاني الشعبية القديمة — «لازمة بلهاء وإيقاعات ساذجة»،٣٢ حيث موسيقى لازمتها، والنكهة القديمة والسذاجة التي كثيرًا ما تمتزج بالغموض، تصل إلى إنتاج تأثير الافتتان — فقد حاول، في هذه الأشعار الأخيرة (التي سُمِّيَت لفترة طويلة «إشراقات من الشعر») أن يلجأ إلى «طرق شعرية بالية»، في نفس الوقت الذي تظهر علاقات جديدة في الأصوات والصور، وتدخُّل لغير المنطقي، ورغم كل شيء، فقد كانت — أساسًا — «دراسة»، ومحاولةً لتثبيت «الضلالات»،٣٣ والسحر المصاب بالبرد قليلًا، و«التعبير الهزلي والتائه»٣٤ لهذه الأغنيات التي يبدو أنها أحبطته في خاتمة المطاف، وهكذا، توجه نحو النثر.
وهنا، تُطرَح علامة استفهام مخيفة: فإذا ما كانت «صحاري الحب» — كقصيدة نثر، أو بالأحرى كسرد لحلمين، ويحمل مخطوطها الأصلي تاريخ «١٨٧٢م عن يقين كامل»، حسبما يقول «بويان دي لا كوست»٣٥ — معاصرةً ﻟ «أشعار أخيرة»،٣٦ أو — بالأحرى — تاليةً مباشرةً لها،٣٧ فإن تاريخ «إشراقات» يطرح مشكلةً عسيرة على نحو آخر، ويفضي إلى الالتباس: هل كُتِبَت عام ١٨٧٢م وبداية عام ١٨٧٣م، خلال مرحلة «الرؤيا»؟ أم إنها كُتِبَت بعد «فصل في الجحيم»، عام ١٨٧٤م وفيما بعد؟ ونعلم أن تاريخ هذه النثريات قد أُرجع — لزمن طويل، طبقًا لشهادة «دلاهاي» — إلى فترة «رؤيا» رامبو، وأدى ذلك إلى أن يمثل «فصل في الجحيم» — التالي ﻟ «إشراقات» — وداع الكاتب الأخير للأدب، وإلى الاعتقاد بالعثور — في «خيمياء الكلمة» — على إحالات، لا إلى «قصائد الرومانس» لعام ١٨٧٢م، بل أيضًا إلى نصوص «إشراقات»، وقد أعادت أطروحة «ﻫ. دي بويان دي لاكوست» كل شيء للمناقشة: فدراسة خط اليد في المخطوطات قادته إلى أن يؤرخها — في الحد الأقصى — بعام ١٨٧٤م، وأن يبرهن — بالتالي — على صواب «فيرلين» الذي أعلن أن «إشراقات «كتبت» من عام ١٨٧٣م حتى عام ١٨٧٥م، خلال رحلات السفر بلجيكا وإنجلترا وكل المانيا».٣٨ ها هي النتائج: لم يعد فصل في الجحيم «وداعًا للأدب»، بل وداعًا فحسب لشكل معين من الأدب (الأدب الفني والمنظوم، و«غرائبية الأسلوب»)،٣٩ ولم تعد إشراقات قصائد الرائي «الإشراقية»، بل مجرد «نقوش ملونة بسيطة، لوحات ملونة كما كان «فيرلين» يقول.٤٠
ولن أقوم بتلخيص المناقشات الحامية التي أثارتها أطروحة «بويان دي لاكوست».٤١ وإذا كان من الصعب — في الواقع — تفنيد البراهين المستخلصة من دراسة خط اليد، التي أثبتت أن التسع والعشرين مخطوطة، لمجموعة «لوسيان-جرو»، يعود تاريخها إلى ١٨٧٤م على أكثر تقدير، فهناك — رغم هذا — عدة اعتراضات: فلا شيء يثبت أن هذه المخطوطات، المكتوبة بخط اليد، الممحوة إلى حدٍّ ما، ليست نسخًا من قصائد قديمة: ألا يمكن أن يكون «رامبو» — تحت تأثير «نوفو»٤٢ — قد عاد عام ١٨٧٤م إلى قصيدة النثر، وأعاد نقل القصائد المكتوبة عام ١٨٧٢م، وكتب قصائد أخرى؟ ومن ناحية أخرى، فإذا ما كان صحيحًا أن «رامبو» — في «فصل في الجحيم» — لا يأتي بذكر لواحدةٍ من هذه النثريات — بما سينحو إلى إثبات أنها لم تكن قد كُتِبَت بعد٤٣ — فهناك — مع ذلك — إشارات عدة تدفعنا إلى التفكير في موضوعاتٍ معينة، بل في تعبيرات معينة تخص «إشراقات».٤٤
علينا إذن — فيما أعتقد — تأويل اكتشاف «بويان دي لاكوست» بأوسع المعاني الممكنة، والموافقة على أن بعض المقطوعات معاصرة لمحاولة «الرؤيا»، وأنها كُتِبَت قبل «فصل في الجحيم»، وأن هناك مقطوعات أخرى كُتِبَت عام ١٨٧٤م، بعد التخلي عن المحاولة السحرية والهلوسات الإرادية، وتمثل — هذه المرة — مشروعًا جماليًّا بأكثر من كونه ميتافيزيقيًّا، ومن قبل — عام ١٨٤٧م — كانت السيدة «ستاركي» ترى هذا الرأي،٤٥ وكان مظهر المخطوطة، ومغزى بعض المقطوعات، يؤكدان على هذه الفكرة: سبق أن قلت إن من المتفق عليه اعتبار «صباح السُّكْر» هذيانًا مستوحًى من جلسة حشيش حوالي عام ١٨٧٢م بالتأكيد، وأن قصيدة «ليليَّة مبتذلة» تمثل — أيضًا — وضعًا حُلميًّا وهلوسيًّا شديد الخصوصية: والواقع أن الصفحة المزدوجة، المكتوبة فيها «ليلية مبتذلة» — في مجموعة «لوسيان-جرو» — هي الوحيدة المكتوبة على الوجه والظهر،٤٦ بالإضافة إلى أنها مكتوبة — كما يخبرنا «ا. آدام»٤٧ — بحبر باهت للغاية، والأسطر أقصر — بضعفين — مما في المقطوعات الأخرى (هذه الخصائص تفسر الملحوظة المكتوبة بالقلم الرصاص، التي حيرت «بويان دي لاكوست»، على غلاف مخطوطة «لوسيان-جرو»، والتي تعطي الانطباع بأن «ليليَّة مبتذلة» قد كتبها «فيرلين»، وأن الظهر قد كتبه «فينيون»).٤٨ وكما أكد «ا. آدام» — الذي توفر على امتياز الاطلاع على التسع وعشرين مقطوعة من ديوان «جرو» — فإن هذا «الديوان لا يشكل — على أي نحو — كُلًّا مترابطًا، مؤلفًا في تاريخ معين من أجل الدفع به إلى المطبعة».٤٩ وبذلك، فلا شيء يتعارض مع فكرة أن تأليف «إشراقات» قد امتد على عدة سنوات، ونعلم — بالنسبة للباقي — أن «رامبو» كان يكتب قصائد نثر عام ١٨٧٢م، طالما أن «فيرلين» سيطلب من «لوبولوتييه» — من لندن، في نوفمبر ١٨٧٢م — «أشعار وقصائد نثر» لرامبو، كان قد تركها في منزله بشارع نيكوليه.٥٠
ومن ناحية أخرى، وفيما يتعلق ﺑ «الحدود التي يمكن التوصل إليها»، ألا يمكن أن نذهب إلى أبعد مما فعل «بويان دي لاكوست»، ونفترض أن بعض القصائد وخاصةً من بين تلك التي لا نملك مخطوطةً لها (وبشكل خاص قصيدتي «إخلاص» و«ديموقراطية»، اللتين لا تمثل نبرتاهما وموضوعاهما نفس الشيء)، قد كُتِبَت بعد عام ١٨٧٤م، وربما حتى اللحظة التي غادر فيها «رامبو» أوروبا عام ١٨٧٨م؟ ومنذ عام ١٨٩٨م، كان «ج. كان» يعتقد ذلك،٥١ لكن هذه الفرضية استعادها وعضدها — بحجج قوية، مؤخرًا — كل من «ا. آدام» و«د. دي جراف».٥٢ ويبدو لي مقنعًا تمامًا الدليل الذي قدمه «ا. آدام»، فيما يتعلق بقصيدة «ديموقراطية»، التي تبدو — حقًّا — نقدًا لاذعًا استوحاه «رامبو» خلال وجوده عام ١٨٧٦م في فيلق مشاة الاستعمار الهولندي في جاوه.٥٣
وعلينا أن نعترف — بالنسبة لكثير من القصائد، وبسبب صعوبة تفسيرها، وأيضًا بالنسبة للظلال العميقة التي تحيط بحياة «رامبو» اعتبارًا من عام ١٨٧٤م — أن كل تأريخ دقيق يظل افتراضيًّا: فبينما ترى السيدة «ستاركي» أن قصيدة «كائن جميل»٥٤ — كقصيدة «سحرية» وخيميائية — ترجع إلى فترة «الرؤيا»، فإن «ا. آدام» يرى فيها ذكرى ترحال، ويوضح لنا أن «رامبو» إنما «يصف راقصة».٥٥ وعليَّ أن أعود إلى مضمون «إشراقات»، والعناصر التي تتكون منها، واعتبارًا من الآن، نرى أنه من المستحيل — عمليًّا — أن ندرس، بشكل منفصل، القصائد المرتبطة ﺑ «الرؤيا»، والقصائد المكتوبة فيما بعد «فصل في الجحيم»، وسأكتفي مؤقتًا برسم هذا التخطيط الموجز، والاحتمالي فحسب، لتسلسل الوقائع الرامبوية:
  • من عام ١٨٧١م حتى دراما بروكسيل (١٠ يوليو ١٨٧٣م)، يكتب «رامبو» أشعاره الأخيرة، كنوع من «الرومانس»، ويقوم بعدة محاولات في اتجاه شعر أكثر حرية، أو شكل وسيط بين الشعر والنثر، «بَحريَّة» و«حركة»،٥٦ يكتب — أيضًا — عدة قصائد نثر، ومخطوطًا نثريًّا لم يصل إلينا — هو «صيد روحي». وتؤرخ بعام ١٨٧٢م — أيضًا — قصيدة النثر «صحاري الحب»، وفي أبريل/ مايو ١٨٧٣م، في روشي، يبدأ «رامبو» تأليف «حكايات نثرية صغيرة»، ويفكر في أن يعنونها ﺑ «الكتاب الوثني»، أو «الكتاب الزنجي».٥٧ إنها مسودة ما سيصبح «فصل في الجحيم».
  • في يوليو/ أغسطس ١٨٧٣م، يستأنف رامبو «فصل في الجحيم» وينهيه، حين يتنكر لماضيه، ويسخر من «الاندفاقات الصوفية» و«غرابات الأسلوب»،٥٨ ومحاولته «السحرية» («أنا الذي اعتبرتُ نفسي مجوسيًّا أو ملاكًا …».)٥٩ وفي نفس الفترة تقريبًا، ولانشغاله بالمسيحية، وغالبًا لأنه استلهم قراءات توراتية، يكتب ثلاث مقطوعات «إنجيلية» (كانت إحداها — «بيتًا سعيدًا» — معروفةً منذ فترة طويلة، وموجودة في طبعة «البلياد»، ونُشِرَت الأخريان في يناير ١٩٤٨م، في «ميركور دي فرانس»).
  • وفي عام ١٨٧٤م، يذهب «رامبو» إلى إنجلترا مع «جيرمان نوفو»، وهو فنان تشكيلي ومؤلف — أيضًا — لتخطيطات نثرية.٦٠ يستأنف محاولته في قصيدة النثر، ويعيد نسخ (وربما يعدل)٦١ قصائد سابقة، ويكتب قصائد جديدة، تشكل الجزء الأكبر من «إشراقات»، وفي فبراير ١٨٧٥م، نراه مشغولًا بالسعي لنشر ديوانه، ولأن ذلك لم يتحقق، فقد أخذ يكبِّر من ديوانه خلال سياحته عبر أوروبا، ألم يسبق لبودلير أن لاحظ — فيما يتعلق بديوانه من قصائد النثر — أن ميزة ديوان كهذا تكمن في أنه يمكن تكبيره بلا نهاية؟٦٢ وفي عام ١٨٧٩م فقط، بعد أن عاد «رامبو» إلى شارلفيل، ليقضي الشتاء بجوار عائلته ويشفى من التيفويد، رد على «دلاهاي»، الذي كان يحاول أن يحدثه عن الأدب: «لم أعد أفكر في ذلك».٦٣
وهكذا نراه: فتطور «رامبو» إنما ينطلق من الشعر نحو النثر، وفي اتجاه تحرر — دائمًا أكبر — في الشكل، وبعد شعر البدايات الكلاسيكي، وشعر الأغنيات السلس (ربما تحث تأثير «فيرلين» في «قصائد رومانس بلا كلام»)، ثم الشعر الحر، وأخيرًا النثر: أولًا نثر منتظم إلى حدٍّ ما وسلس («صحاري الحب» ونثر إنجيلي)، ثم نثر أكثر تقطعًا وأكثر كثافة في «فصل في الجحيم»، وأخيرًا نثر «إشراقات، حيث يصل «رامبو» إلى السيطرة على فنه، ويخلق تقنية شعريةً جديدةً. وسنرى أن فكرة التطور هذه — في فن «رامبو» — نحو شكل أكثر فأكثر فردية، لكنه في نفس الوقت أكثر فأكثر إتقانًا وتركيبًا، يتم التأكيد عليها بالدراسة المتوالية للنثريات الأولى وﻟ «فصل في الجحيم» و«إشراقات».

النثريات الأولى

(١) صحاري الحب

يرجع تاريخ المدخل الذي يسبق هاتين النثريتين — بلا أدنى شك ممكن، كما يقول لنا «بويان دي لاكوست» — إلى عام ١٨٧٢م (فشكل الخط يشبه كثيرًا — وبشكل خاص — خط رسالة «جامف» عام ١٨٧٢م إلى «دلاهاي»).٦٤ فهل ينبغي أن نستخلص من ذلك أن هاتين المقطوعتين ترجعان إلى عام ١٨٧٢م، على العكس من تصريحات «دلاهاي» الذي يقول إن قراءة «بودلير — في ربيع ١٨٧١م — قد أوحت إلى صديقه «بمحاولة قصائد نثر»، وأنه كتب — عندئذٍ — «بداية سلسلة بعنوان «صحاري الحب»؟٦٥ ليس هذا مؤكدًا بشكل مطلق؛ إذ حسب الوصف الذي ذكره «بريشون» عن هذا المخطوط الذي يتكون من ثلاث صفحات، ﻓ «كل صفحة بريشة وحبر مختلف»،٦٦ وبالتالي يُحتَمَل أن يكون المدخل قد كُتِبَ عام ١٨٧٢م، والنثريات عام ١٨٧١م، وهو أمر ممكن تمامًا: يمكن — أولًا — أن تكون ذكريات «دلاهاي» غير دقيقة،٦٧ حيث لا نجد علاقةً ذات بال بين هذه النصوص السردية — عن الأحلام وتحولاتها، وتغيرات الديكور الفورية — و«سأم باريس» (أربما ذكرى لقصيدة «شُرفة»؟).٦٨ ومن ناحية أخرى، فإن الاعتراف المقنع في المدخل («لأنه لم يحب امرأةً — رغم أنه يفيض بالحيوية! — كانت روحه وقلبه وكل قواه قد ترعرعت في أخطاء غريبة وحزينة»)، ونبرة وتعبيرات هذين السردين عن الأحلام،٦٩ يدفعوننا إلى الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بنصين كُتِبا بعد مجيء «رامبو» إلى باريس، خلال مرحلة «هذيانات»، التي يقول عنها في «فصل في الجحيم»: «كنت أسقط في النوم عدة أيام، وحينما أنهض كُنت أواصل أكثر الأحلام كآبة».٧٠
فهل يمكن أن نتحدث عن قصائد نثر فيما يتعلق بهذين النصين؟ ﺑ «هذه الكتابات»، كما يقول عنها «رامبو»؟ يبدو أن التأملات التي يمكن ممارستها في محتواهما إنما تنصرف إلى نظام التحليل النفسي بأكثر من الفني: وكما سيقول «إيلوار — فيما بعد — فإن سرد الحلم ليس بقصيدة.٧١ فالعتمات — هنا — كامنة في الحلم نفسه بأكثر من كونها خصائص للأسلوب، واللغة بسيطة، وأحيانًا شبه عرجاء («أصبحت أمام الحواجز الزجاجية، حيث تذهب كل الأمسيات»)، والجُمل غالبًا تعجبية، ورغم هذا، فثمة بعض الغرابة — هل هي متعمدة، أم لا؟ — التي تستوقفنا وتشعرنا بكل ما يملكه فكر «رامبو من تفرد لا يمكن تعويضه: «مضطربًا حتى الموت بخرير لبن الصباح وبلَيل القرن الماضي»، على سبيل المثال، فهل يستمتع «رامبو» — الآن — بأن يحير القارئ و«يحتفظ بالتفسير»؟٧٢ ذلك محتمل، وعلى أية حال، فهو يصنع سردًا، بدلًا من تأليف قصيدة.

(٢) النثريات الإنجيلية

والنصوص التي استلهمها «رامبو»، من إنجيل «سان-جان»،٧٣ ليست — أيضًا — قصائد، بالمعنى الحرفي للكلمة، فهي — بالأحرى — أحلام يقظة شعرية وفلسفية حول نص إنجيلي: «كانت كلمةً كئيبة، كلمة المرأة عند النبع: «أنتم أنبياء، تعرفون ما فعلت» — «سحب عيسى يده، وقام بحركة كبرياء، طفولية وأنثوية». ولأنها وُجِدَت على ظهر مسودات «فصل في الجحيم»، ولأن الكتابة هي نفسها بشكل محسوس، فعلينا أن نتقبل فكرة أنها متعاصرة تقريبًا، والأبسط أن نفكر أنه في الفترة التي كتب فيها «رامبو» — في «روشي»، عام ١٨٧٣م — المسودات الأولى ﻟ «فصل في الجحيم»، استخدم (توفيرًا للورق، «إنه يكلف كثيرًا»)٧٤ ظهر الأوراق التي كتب عليها نثرياته الإنجيلية، وهي مشروع سرعان ما تم التخلي عنه، بلا شك، للتعليق على الإنجيل الرابع، أو على «حياة المسيح»، الذي فكر «رامبو» — بالتأكيد — في الإضافة إليه، كما تثبته كلمات «بيتًا سعيدًا»: «ها هنا قام المسيح بأول فعل خطير.٧٥ هذه النثريات — وخاصة «بيتًا سعيدًا» — لها طابع مضاد للدين بشكل حاد: لقد تمرد «رامبو» على المسيحية بعنف، وتطيب له السخرية من المعجزات.٧٦
ويبدو لي غريبًا أن يتم التفكير في تصنيف «بيتًا سعيدًا» ضمن «إشراقات»: فمن ناحية — كما يلاحظ «بويان دي لاكوست» — لم «تعد الإشراقات تحمل أثرًا لأي انشغال ديني»،٧٧ ويمثل نمط هذه النثريات الثلاث — من ناحية أخرى — سردًا على هامش الإنجيل، أكثر من كونه قصيدة. واعتبارًا من شهر أبريل ١٨٧٣م، يبدأ «رامبو» مشروعًا آخر، هو مشروع «الكتاب الوثني، المؤلَّف — هذه المرة — من «حكايات صغيرة» نثرية، مكتوبة بضمير المتكلم، وهي التي وصفها بأنها «شرسة».٧٨ وقبل السفر إلى لندن برفقة «فيرلين» (في ٢٧ مايو) كان قد كتب ثلاث حكايات،٧٩ ونعلم أنه بعد مأساة بروكسيل، وقد وجد نفسه «على وشك كتابة آخر صوت نشاز»،٨٠ سيستأنف وينهي هذا «الكتاب الوثني» (بتاريخ أبريل / أغسطس ١٨٧٣م)، الذي سيعطيه عنوانًا نهائيًّا: فصل في الجحيم.

فصل في الجحيم

يمكننا أن نتساءل — عندما نفكر في الظروف التي تم فيها تأليف «فصل في الجحيم — عما إذا كانت هذه الأوراق المزدوجة، التي انتزعها «رامبو» من مؤلَّفه «مذكرات ملعون»، يمكن اعتبارها مجموعةً من قصائد النثر، لها — في ذاتها — قيمة فنية، ففي كثير من الأحيان، يتم اعتبارها — في الواقع — مؤلَّفًا وجدانيًّا، واعترافًا مؤثرًا وساخطًا، أكثر من كونه عملًا فنيًّا، وبهذه الصفة، فأحيانًا ما تُوضَع في مكانة أعلى بكثير، وأحيانًا، أقل بكثير، من «إشراقات»، ويقول روشون» إن «فصل في الجحيم» لهو «أكثر ما كتبه رامبو كمالًا، والأكثر اتقادًا، والأكثر إثارة»، ويضيف، (طالما أن أحدًا لم يتصور، عام ١٩٢٩م، أن الفصل يمكن أن يكون سابقًا على «إشراقات»): «إن براعات الأسلوب الباهرة في «إشراقات» قد نُسِيَت، لقد مات الشاعر».٨١ وعلى العموم، فهو لم يكن معجبًا تمامًا — وبشكل أساسي — بالإنجاز الذي خلفه «رامبو» في الأدب … وعلى العكس من ذلك، بالنسبة للآخرين، ممن يقبلون — فعلًا — بأسبقية فصل في الجحيم» على «إشراقات»، فإن اﻟ «فصل» يمثل عملًا مرحليًّا، في جوهره، وفي المقام الأول، من وجهة النظر الجمالية، وإذا ما وضعنا أنفسنا في منظور التحرير التقدمي للشكل، يصبح العمل «الموقع المثالي للتحول، حيث أحس رامبو بأنه قادر على كتابة النثر».٨٢ ويصرح «بريتون» بأن السيرياليين — من جانبهم — لم «يكفوا أبدًا عن وضع إشراقات فوق فصل في الجحيم».٨٣ وللوهلة الأولى، يمكننا الاعتقاد — من وجهة النظر الجمالية — أن «فصل في الجحيم»، كعمل انتقالي، كعمل نتاج أزمةٍ وحُمَّى، طالما أنه نتيجة دراما بروكسيل، لا يمكنه أن يمثل لنا إلَّا أهميةً دُنيا.
يا له — في الواقع — من خليط غريب من تحليل واضح وصياح عنيف! والواقع أن «رامبو» — من ناحية — يسعى إلى عرض حالته كما هي (دم فاسد)، وما يعذبه (ليل الجحيم)، وما يسعَى إليه (المستحيل)، وما جربه (هذيانات ١ و٢)، وما يتبقى له ليفعله الآن: فثمة نوع من الترابط، والتطور من نص إلى آخر ولدينا — هنا، في آن — سرد وتفسير، وعلينا أن نتوقع سيادة اللغة المنطقية على اللغة الشعرية. ومع ذلك، فلا ينبغي أن ننسى أن «رامبو» يحرق ما كان يعبده، ويتخلى عن «غرائبية الأسلوب»، التي جرب تأثيرها في قصائده الرومانس، فيعلن أن «الفن حماقة»،٨٤ وستقدم بعض النصوص (مثل «خيمياء الكلمة») تكوينًا منطقيًّا بشكل صارم، وبرهنةً واضحة، وعلى نفس النحو — في «المستحيل»، حيث يبدأ «رامبو بإعلان: «إنني أُوضِّح نفسي»٨٥ سنرى معاودة ظهور كل العُدَّة المنطقية للأسلوب: «ما دام … الواقع … ليس أن … مع ذلك»، بل حتى الصياغات الخطابية: «رجال الكنيسة سيقولون …»
لكن نفس هذا النص اﻟ «تفسيري» مرصَّع — من ناحية أخرى — بالتعجبات، والانقطاعات، وينتهي بصرخة: «آه أيتها الطهارة! أيتها الطهارة! (…) مصيبةٌ أليمة!» إنها الخاصية الثانية لهذا النثر، والأكثر إدهاشًا: العنف، والصياح، بل التنافر. ودون توقف، تأتي نوبات هيجان ويأس لتعكر صفو التحليل، وتبعث الفوضى في مسيرة السرد أو التفسير. وصرخات كهذه تكاد أن تشكل قصيدة «ليل الجحيم» كلها تقريبًا، إنه حقًّا ملعون يتلوى — فيها — وهو يصرخ، وفي موضع آخر، هو السباب والتهكم الشرس الموجه ضد الآخرين،٨٦ أو ضد الذات: «أأنا حيوان!»٨٧ ويذكِّرنا هذا العنف وفظاظة النبرة بالفظاظات التي نجدها في مراسلات «رامبو»، وعندما تصل الإثارة إلى ذروتها (في «دم فاسد»)، لا تعدو أن تكون صرخاتٍ غير واضحة: «نار! نار على! هنا! وإلَّا استسلمت. — جبناء! إنني أقتلُ نفسي! أُلقي بنفسي تحت حوافر الخيل! آه!» ونشعر بمجيء اللحظة التي ستعجز فيها الكلمات: «ما من كلمات بعد الآن … لم أعد أستطيع الكلام».٨٨
هذه الجمل المتكسرة، المبتورة وغير المكتملة أحيانًا،٨٩ هذا الأسلوب غير المتماسك، المليء بالتصدعات والحذوفات والصياغات المألوفة أو المغلوطة (C’est très certain, c’est oracle, ce que je dis: إنه أمر مؤكد للغاية، وحي، ما أقول)، (Ah ! Cette vie de mon enfance, la grande route par tous les temps, sobre surnaturellement …: آه! حياة طفولتي هذه، الطريق الكبير عبر كل الأزمنة، قنوعًا بشكل فوق الطبيعي …)،٩٠ وهذه الرعونة الصوتية (J’ai tant de temps déjà dans leur troupe: في حوزتي وفرة وقت في زمرتهم)، (Quant au bonheur établi, domestique ou non … non, je ne peux pas: أما عن السعادة المستقرة، البيتية أو لا … لا، لا أستطيع)،٩١ فإنها تكشف، بوضوح أكبر، عن استبعاد المادة اللفظية التي ما تزال في حالة انصهار، والحمم الحارقة والمندفعة، بأكثر من كشفها عن نثر منتظم يهدف إلى إحداث تأثير شعري. «لا تكن شاعرًا في الجحيم»، ذلك ما يعلنه «رامبو».٩٢ فهل علينا — إذن — أن نقبل أننا أمام اعتراف مشوش، فوضوي وشديد البُعد عن كل انشغال أدبي؟
الواقع أن هذه الجُمل المبتورة لم تُطرَح — كما هي — على الورق، فهي ثمرة جهد تعبيري، تحمل علاماته٩٣ المسودات المكتشفة، المشطوبة وغير المقروءة تقريبًا، ولا نستطيع إنكار أننا بإزاء عمل متقن، تم تنقيحه — (باندفاع ربما) — ليصبح أقدر على التعبير، وتمتلك «مسودات» اﻟ «فصل» أهميةً مزدوجة: فهي الوثيقة الوحيدة — في غياب مسودات «إشراقات» — التي تسمح لنا بتكوين فكرة ما عن الطريقة التي كان «رامبو» يصوغ بها أسلوبه، وهي تثبت أن «فصل في الجحيم» ليس عملًا فوضويًّا وعفو الخاطر، بل هو عمل أدبي يتجلى لنا فيه شعر لا شك أنه أكثر وحشية وأقل قصدية مما سيكون في «إشراقات»، لكنه يتمتع بجمال لا يمكن إنكاره، وناتج — رغم ذلك — عن جهد شاق.
وأول إثبات هام هو ما حققه «ريفيير»: فالنص النهائي دائمًا ما يتكون من كلمات أقل مما في المسودة، «لا يضيف رامبو — ولا مرة واحدة — سطرًا واحدًا إلى مسوداته. فحركته هي دائمًا نفسها: إنه يصر، ويتقدم قدر المستطاع، انطلاقًا مما سبق أن ذكره أولًا».٩٤ وهو ما لا يصح — فحسب — فيما يتعلق بالمسودات المعروفة في عهد «ريفيير»، بل يتعلق أيضًا ﺑ «دم فاسد» (التي ربما كُتِبَت مبكرةً ببضعة أشهر)، والتي تم اكتشاف مسودة لها مؤخرًا. ها هي — على سبيل المثال — بداية المسودة، وبداية النص النهائي:
مسودة «دم فاسد» «دم فاسد» (النص النهائي)
نعم، إنها الرذيلة فيَّ، تتوقف وتُستعاد معي، ومفتوح الصدر، رأيت قلبًا بشعًا عاجزًا. في طفولتي، أسمع جذور الآلام ملقاةً على جانبي: واليوم تنامت حتى السماء، إنها أقوى مني بكثير، إنها تغلبني، تجرني، وتطرحني أرضًا. لا نرحل، فلنستَعد الدروب من هنا، محملًا برذيلتي، الرذيلة التي نمت جذورها الأليمة في جنبي، منذ سن الرشد، التي تصعد إلى السماء، تغلبني، تزعزعني، وتجرني.
ويدهشنا بشكل خاص — هنا، وفي «خيمياء الكلمة» — أن نرى نصوصًا تستهدف تحليل حالة روحية، فنتوقع — بالتالي — أن نشهد تزايدًا دائمًا لتفاصيل جديدة (مثلما يحدث عند «بروست» مثلًا)، فإذا بها — في شكلها النهائي — تصبح أكثر إيجازًا، وأكثر اختصارًا مما كانت في حالتها الأولى، وها نحن نجد هذا الميل إلى التكثيف الإيحائي، الذي سيستفيد منه «رامبو» في «إشراقات»، فالجملة التي تختتم «خيمياء الكلمة»: «حدث هذا. أعرف اليوم أن أجيء بالجَمال»،٩٥ أكثر إدهاشًا في إيجازها — وتشعرنا بالهاوية بين «أمس» و«اليوم» — بشكل أفضل مما في التعليقات وظلال المسودات («حدث هذا تدريجيًّا. أكره الآن الاندفاقات الصوفية، إلخ»).٩٦ وعلى العموم، فرامبو لا ينشغل كثيرًا بأن يُفهَم بشكل أفضل، عندما يذكر مزيدًا من التفاصيل، بقدر انشغاله بالإيحاء بقوة أكبر، فالعملية شعرية.
وبالإضافة إلى ذلك، كما يلاحظ «ريفيير» أيضًا، «ليست هناك فحسب كلمات أقل — في النص النهائي — مما في المسودة، بل ثمة — أيضًا — هيئة جديدة لهذه الكلمات، وصرامة في تجميعها، لم تكن محسوسة حتى هذه اللحظة. ويتحكم في الجملة — رغم قصرها — إيقاع يشدها، ويقودها مثل شيطان خفي».٩٧ وفي مقابل الكتلة اللفظية — التي لا تزال غير ملتحمة تمامًا، على ما تقدمها لنا المسودة، حيث نجد عدة أشكال للجُمل، مشوشة وبلا شكل، كأنها كُتِبَت عفو الخاطر دفعة واحدة — فإن الجملة النهائية موقَّعة، مفعمة بالحيوية: ولنقارن نَصي «دم فاسد»، المذكورين فيما سبق (وبشكل خاص النهاية المكتوبة بحيوية بالغة وبطريقة رامبوية تمامًا، في النص الثاني: «التي تصعد إلى السماء، تغلبني، تزعزعني، وتجرني»)، أو فلنقارن — مثلما فعل «ريفيير» — بين نصي «خيمياء الكلمة»:٩٨ ستكون نفس النتيجة، فقد أصبحت الجملة حيويةً وموقعة، وقد اتخذت هذا الإيقاع الخاص، الذي لا هو بسياق خطابي، ولا بتعويذة رخوة، وإنما سلسلة من النغمات العنيفة، ذات النهاية المقتضبة والدامغة، إن «رامبو» يوجز فكره عن عمد، ويقطِّع جُمله، ويعطي نثره طابعًا مفاجئًا، ممزقًا، ومتقطعًا، ولا يستبقي سوى الكلمات الدالة (قارن في «دم فاسد»: «آه، هذا، سأعيش الحياة الفرنسية، وسأتبع طريق الشرف»، ستصبح في النص النهائي: «ستكون الحياة الفرنسية، وطريق الشرف»)، وهو يضاعف من علامات التعجب، وبالتالي من الأزمنة القوية. وتصبح الجملة مضغوطةً ولاهثة: فلنقارن بين نصي «ليل الجحيم»:
المسودة النص النهائي
إنه الجحيم، أبدية الألم. ها كيف تتصاعد النار. فلتذهب، أيها الشيطان، اذهب يا إبليس، اذهب يا إبليس! اضرمها. إنني أحترق تمامًا، وكما ينبغي، إنه جحيم طيب (جميل وطيب). إنه الجحيم، الألم الأبدي! انظروا كيف تتصاعد النار! إنني أحترق كما ينبغي. اذهب، أيها الشيطان!
غير أن بعض مقاطع المسودات تقودنا إلى ملاحظة أكثر غرابة أيضًا: فكثيرًا ما يضفي «رامبو» أهميةً كبيرةً على الكلمات وقوتها الإيحائية،٩٩ إلى حد أنه — عكس ما يمكن افتراضه — ينطلق من الكلمات، يبدأ من الكلمات إلى الفكرة، بدلًا من الذهاب من الفكرة إلى الكلمات، والكل يعرف الجملة الشهيرة في «خيمياء الكلمة» التي علق عليها «كلوديل» بحماس: «كنتُ ناضجًا للموت، وعبر طريق المخاطر، قادني ضعفي إلى تخوم العالم وإلى سميريا،١٠٠ وطن الظل والدوامات».١٠١ والواقع أننا نرى الفكرة — في المسودة — وهي تُولَد وتنتظم انطلاقًا من بعض الكلمات، أو مجموعة كلمات موحية: موت، تخوم العالم، دوامة، سميريا، طريق المخاطر، التي تجمعت — في البداية — في شكل سديمي ما يزال ناقصًا، سيقوم «رامبو» بتوحيدها ووضعها في مكانها في جملة ذات بنية،١٠٢ ليغير — حسب الحاجة — نظامها وقيمتها (هكذا، ستنتقل كلمة «دوامة» وتعبير «طريق المخاطر» من مكانيهما، ولن يرتبطا أبدًا بنفس الموضوعات). ولم يخطئ «ريفيير»، (رغم أن استدلاله يستند على خطأ في القراءة).١٠٣ في قوله إن اختيار «رامبو» للكلمات «لا يأخذ معانيها في الاعتبار إلا جزئيًّا فحسب»:١٠٤ فلنتفق أن «رامبو» لا يستخدم الكلمات — كما في النثر — لقيمتها «النفعية» الوحيدة (وإلَّا فإن التصحيحات ستدور حول نفس الفكرة، وستبحث عما يجعلها أكثر دقة)، بل لما وراء المعنى المحدد، لقيمتها الاستثارية الوُسعى، وإيحائها البصري، والصوتي، والشعوري. ما الذي يمكن قوله إن لم يكن أنه لا يكف عن التفكير والكتابة كشاعر؟
فثمة حقيقة نكتشفها — إذن — بعد المقارنة بين المسودات والنصوص النهائية: إن «رامبو» يصحح مسوداته كفنان، وإن كراهيته للأدب لا تمنعه من «صنع أدب»، وأنه — على نحو أدق — وخاصة وهو يتخلى عن «الاندفاعات الصوفية» و«التعبير الهزلي والضال» ﻟ «هذه النوعيات من الرومانس»١٠٥ (وبلا شك كذلك في قصائده النثرية الأولى ذات الطابع الأكثر صوفية وإشراقية) يبحث عن خلق شكل أدبي جديد بالنثر، قادر — في آن — على ترجمة «قفزات وعيه المفاجئة»، كما قال «بودلير»، وعلى المحافظة على كل القوة الشعرية لاندفاقاته الغنائية، ولا شك أن «فصل في الجحيم» هو — في آن — اعتراف، وتفسير، ورسالة هجاء، لكنه — في نفس الوقت — محاولة شعرية، فكيف — رغم هذا — لا نندهش من غزارة الرموز والصور؟ رمز الزنجي، ورمز الملعون، ورمز العذراء الحمقاء، ورمز ملك المجوس في «صباح» … فالنثر يفيض بالشعر بلا توقف، حتى عندما يريد أن يكون سرديًّا، وينساب بالصور المفاجئة التي لا تُنسَى:
في المدن، كان الطين يبدو لي فجأةً أحمر وأسود، مثل مرآة عندما يدور المصباح في الغرفة المجاورة، مثل كنز في الغابة! حظًّا سعيدًا، صرختُ، ورأيتُ بحرًا من اللهب والدخان في السماء، وإلى اليسار وإلى اليمين، كل الترددات مشتعلة مثل مليار من الرعود.١٠٦
ويقدم لنا الأسلوب تركيبات ذات كثافة مدهشة، تبشر بجرأة «إشراقات»: «لقد لعنني قوس قزح»،١٠٧ «ليركض الضوء ولتزمجر الصلاة»،١٠٨ «نشيد السماوات، مسيرة الشعوب!»١٠٩ ولا شك أن الأمر يتعلق — هنا — ﺑ «نثر غنائي» أو شعري، أكثر من كونه قصائد نثر بالمعنى الدقيق، فثمة قوة اندفاع — في هذا النثر — لا تستطيع احتواءها الحدود الضيقة لقصيدة النثر، والمؤكد أن هذا العمل الصاخب أقل «كمالًا» من اﻟ «إشراقات»، لكنه — رغم هذا، وباعتباره عملًا أدبيًّا — فهو خالق لقيم.
وبعد أن استعاد وضعه في التسلسل الزمني، يمكن اعتبار «فصل في الجحيم» تصفيةً للحساب مع ماضٍ قريب، ومربك: فرامبو يريد — وهو يكتبه — لا أن يقطع نهائيًّا علاقته فحسب مع «فيرلين» (الذي سيهديه — من قبيل السخرية — نسخةً منه)، بل أن ينتزع نفسه من أخدود فني كان يحس أنه انزلق إليه: إنه يتخلى عن محاولته في السحر والإشراق («اعتقدتُ أنني اكتسبتُ قدرات فوق طبيعية …»)؛ لكنه يتخلى — أيضًا — عما يسميه بسخرية «المجد الجميل للفنان والراوي».١١٠ والراوي هو — ربما — هذا الرامبو الذي اقترح على نفسه أن «يروي» — في نثرياته الإنجيلية، منذ عهد قريب — حياة المسيح، والأرجح من كان يصنع للناس «حكايات كاذبة»، «سيد الخوارق»،١١١   فالفنان هو من لجأ إلى طرق مصطنعة، «سحر، عطور زائفة، موسيقى مفتعلة»،١١٢ غير مستجيب للاحتياجات العميقة لطبيعته: إنها «أخطاء تلك التي يُهمَس بها (إليه)»،١١٣ لقد «اقتات بالأكاذيب».١١٤ فماذا؟ ألم يلمح «رامبو» إلى أساليب «فيرلين» الفنية، تلك السذاجة الواضحة، والهمهمة، وإيقاعات الأغاني؟ لقد كُتِبَت «أغنيات لطيفة منسية» عام ١٨٧٢م،١١٥ ويبدو أن «أنماط الرومانس» — التي كتبها «رامبو» في نفس الفترة — شديدة التأثر ﺑ «قصائد رومانس بلا كلام»، التي كتبها صديقه.١١٦ وهو سبب إضافي لإنكارها بعد دراما بروكسيل، و«رامبو» — الذي يعتبر «الفن حماقة»،١١٧ حاليًّا — يتخلى عن كل «الخوارق» لصالح الحقيقة، الكلمة التي تتكرر باستمرار في «فصل في الجحيم»،١١٨ فهو يريد الوصول إلى «امتلاك الحقيقة في روح وجسد».١١٩ فهل ينبغي أن نرى — كما يفعل «ج. جينو» — ارتباطًا وثيقًا، في ذهن «رامبو»، بين الحقيقة والشكل نثر، مثلما هو قائم بين الجمال (الكاذب) والشكل شعر؟١٢٠ وعلى أية حال، فلا يفتقر إلى الأهمية أن نذكر أن «بودلير» — في «ملاحظات» حول «إدجار بو»، الذي يذكره «جينو» — سبق أن أوضح أن ألاعيب الإيقاع، التي لا غنى عنها لجمال القصيدة، كانت — في الحقيقة — عائقًا لا يمكن التغلب عليه:
الإيقاع ضروري لتطوير فكرة الجمال، الذي يمثل أعظم وأنبل هدف للقصيدة، والواقع أن ألاعيب الإيقاع هذه هي عائق لا يمكن التغلب عليه لهذا التطور الدقيق للأفكار والتعبيرات الذي يهدف إلى الحقيقة (…) والحقيقة لا علاقة لها بالأغنيات، فكل ما يصنع سحر ورقة الأغنية ويجعلها لا تُقاوَم، ينتزع من الحقيقة سلطتها وقدرتها.١٢١
ندرك — إذن — أن «رامبو»، في اللحظة التي يتحرر فيها من «الغراميات القديمة الكاذبة»،١٢٢ يضرب صفحًا — في ذات الوقت — عن كل الأوهام الأدبية، بما فيها مفاتن النظم، سيد الخطأ والبطلان، فهل لاحظنا بأية طريقة خفية — وهو ينسخ «أغنيات» في «خيمياء الكلمة» — يقصر أو يطيل من الأبيات، التي تعرج — منذ تلك اللحظة — بشكل بائس؟
إلى الناقوس الشرس
ذُباب قذر
بدلًا من «مائة ذبابة قذرة»،١٢٣
مَا مِن يومٍ تالٍ،
حجرٌ من السَّاتان
حماستكم
هي الواجب

تحل محل الرباعية:

ما دام منكم وحدكم
جمرات من الساتان
يفوح الواجب
دون أن نقول: أخيرًا.١٢٤
في نهاية عام ١٨٧٣م — إذن — تخلى «رامبو»، نهائيًّا، عن «ألاعيب الإيقاع». وبعد أن برئ من «فيرلين»، برئ أيضًا من «فيرلينيته» الأدبية (التي — للغرابة — هاجمت صديقه القادم «جيرمان نوفو» بشكل أشد فتكًا).١٢٥ وكسيد — من الآن فصاعدًا — لشكله هو، النثر، سيستطيع استئناف المحاولة القديمة — المثقلة بأوهام تتعلق بهذه «الرؤيا» التي قادته، في نهاية المطاف — إلى شاطئ الجنون، لم يعد الأمر يتعلق باللجوء إلى «أساليب شعرية قديمة»،١٢٦ بل بأن نكون «حديثين بشكل مطلق».١٢٧ وأن نمضي إلى الأمام.
وفي الفجر، مسلحين بصبر متوهج، سندخل المدن الرائعة.١٢٨

(٣) اﻟ «إشراقات» والقطيعة

مع الأشكال الكلاسيكية
ثمة سؤال يطرح نفسه أولًا: هل محاولة «رامبو» — التي يبدو أنها بدأت، كما رأينا، عام ١٨٧٢م تقريبًا — هي محاولة معزولة وخارجة عن المألوف؟ ألا نستطيع أن نعتقد — على العكس من ذلك — أنه إذا ما كان الإنجاز يجعل «رامبو» بلا نظير، فإن نيته في كتابة قصائد نثر تلحقه بالاتجاهات التي حملت الشعراء — بعد حرب ١٨٧٠م — على تجديد اللغة الشعرية الفرنسية؟ سأتحدث عن هذه الاتجاهات بتفصيل أكبر في فصل تالٍ،١٢٩ وعلينا الآن الإشارة إلى توجهات معينة — جلية إلى حدٍّ ما — كانت تتبدى في الوسط الأدبي الذي يغشاه «رامبو» في باريس. كانت «قصائد نثر صغيرة» لبودلير، المنشورة عام ١٨٦٩م، قد اجتذبت — بسرعة بالغة — كل الطليعة الأدبية التي أصابها الملل من أكاديمية البحر السكندري الكلاسيكي،١٣٠ وعندما وصل «رامبو» إلى باريس، في سبتمبر ١٨٧٢م، وجد نفسه غريقًا في وسط يمتلئ بالجيشان الثقافي، ويشرع في القيام برد فعلٍ ضد شعر الذوق السائد (قارن بالمعارضات الماكرة التي جُمِعَت في «ألبوم زوتيك»، متهكمةً على «كوبيه» و«ديير» و«اكس دي ريكار»)،١٣١ وحيث كانت الرغبة في تجديد الشكل والموضوعات الشعرية في عنفوانها، وعلينا أن نلاحظ: أن كل الشعراء المحيطين برامبو كانوا يكتبون وقتئذٍ قصائد نثر: «فيرلين» و«كرو»، وصولًا إلى الرسام «فوران»، «جافروش»،١٣٢ صديقهم الذي لا يفارقهم. وفيما بعد، سأتناول نثر «فوران» المنشور في «رينسانس ليترير» و«أرتيستيك»١٣٣ (التي نشرت، في سبتمبر ١٨٧٢م، قصيدة «الغربان» لرامبو)، وأولى قصائد النثر التي كتبها «فيرلين» منذ عام ١٨٧٠م: فكلاهما — «فيرلين» و«فوران» — خضعا بقوة للتأثير البودليري، وحافظا، بشكل خاص، على الشعور بالغرابة الأساسية، والغموض، الخاصين ببعض مظاهر الوجود الحديث،١٣٤ أما «كرو»، الذي أثار التساؤل — منذ أمد بعيد، نظرًا للعلاقات التي ربطت بين الرجلين، وبعض التشابهات في النبرات المثيرة للدهشة فيما بين «فانتازيا» المكتوبة نثرًا في «صندوق مزخرف من الصندل» و«إشراقات» — عما إذا كان قد أثر على «رامبو»، أو — بالعكس — ما إذا كان «رامبو» هو الذي أثر على «كرو» … فسأتناول هذه المسألة فيما بعد، بالتفصيل.١٣٥ ولنذكر — مؤقتًا، وببساطة — أنهما، حوالي عام ١٨٧٢م، كانا صديقين حميمين إلى حدٍّ بعيد، وأن «صندوق مزخرف من الصندل» قد نُشِرَ عام ١٨٧٣م.١٣٦
وعلينا أن نشير — على أية حال — إلى أن المجلات الشابة١٣٧ في هذه الفترة — وخاصةً «لارينسانس ليترير» و«أرتيستيك» ﻟ «بليمون وايكار»، التي كان «رامبو» يعرفها جيدًا١٣٨ — كانت تنشر العديد من قصائد النثر، التي لم يكن من الممكن أن يجهلها، فثمة ميل شديد إلى اعتبار «رامبو» شهابًا أدبيًّا، ونسيان أنه كان يقرأ الجرائد والمجلات: فلن يكون مستحيلًا — على سبيل المثال — عند فحصنا «لارتيست» عامي ١٨٧٢م و١٨٧٣م (غادر «رامبو» فرنسا في مارس ١٨٧٤م) أن نعثر على بعض «نثريات»، ستعاود موضوعاتها الظهور، مع اكتشافات معينة في التعبير — ولمَ لا؟ — في اﻟ «إشراقات»، ذكريات قصدية — إلى هذا الحد أو ذاك — لقراءات تمت في منزل «شارل كرو»، أو في مكان آخر،١٣٩ وكيف لا نذكر — أيضًا — أن «رينسانس» قد نشرت، عام ١٨٧٢م، سلسلةً كاملةً من المقالات عن «والت ويتمان» مع ترجمة (في شكل «آيات» نثرية تفصل بينها شرطة) لأجزاء من أشهر القصائد، «إلى العمال»، و«تحية إلى العالم» — المكتوبة بإتقان لنيل إعجاب الشباب «الكوميوني» — وأيضًا ترجمات «مالارميه» لقصائد «بو»؟١٤٠
ويمكننا الاعتقاد — أيضًا — بأن الأسلوب المتقطع، في شكل إشارات مقتضبة ومبتورة — الذي كان قد بدأ في الانتشار في مقالتا اﻟ «منوعات variétés» وفي «أشياء مرئية choses vues»، وكانت تنشره وقتئذٍ كل المجلات الشابة — كان له تأثير ما على «رامبو»، وقد سبق لهوجو أن قدم — في رواياته — أمثلة على هذا الأسلوب المتنافر، والمتقطع، و«المفكك»،١٤١ الذي سيذهب به آل «جونكور» إلى حد التنقيطية الفنية، والذي يتخلل الانطباعات والأحاسيس، وفيما يبدو، لم يتمكن «رامبو» من قراءة «أفكار وأحاسيس» التي نُشِرَت كمقتطفات من «جورنال» للأخوين «جونكور»، ووُزِّعَت منها أعداد قليلة عام ١٨٨٨م، لكنه استطاع أن يقرأ — في «روفي دي لينز إيه دي آرت» — «المنزل الذي أحبه» للأخوين.١٤٢ وعلى أية حال، فقد كان بوسعه الشعور — في كل مكان حوله — باللغة القديمة وهي تقرقع تحت ضغط القوى الجديدة، الانطباعية حاليًّا.
وفيما يتعلق بجيرمان نوفو — الذي سيسافر معه «رامبو» إلى إنجلترا في مارس ١٨٧٤م١٤٣ — فيبدو أنه لم يستطع أن يمارس تأثيرًا كبيرًا على تقنية «رامبو» الأدبية، التي نراها الآن وقد تشكلت تمامًا في «فصل في الجحيم»، بل العكس هو الصحيح. وكان «د. دي جراف» أول من أكد على الهيئة «الرامبوية» ﻟ «علامات باريسية»، التي جُمِعَت في نهاية «فالنتين».١٤٤ والمؤكد أن «نوفو» قد ساعد «رامبو» — في لندن — على نسخ بعض من «إشراقات»:١٤٥ يبدو أنه تأثر بأسلوبها ونبرتها الخاصين، وحقق الاستفادة منها، لكنه — من ناحية أخرى — استطاع أن يوحي إلى «رامبو» ببعض الموضوعات، وبطرائق معينة في الرؤية، ومن المحتمل — تمامًا — أن «نوفو»، الذي كان رسامًا، قد أثار اهتمام صديقه بمحاولات الانطباعيين، ودفعه إلى زيارة المتاحف ومعارض الفن التشكيلي (ثمة إشارة في «إشراقات» إلى متحف «هامبتون كورت»،١٤٦ وإلى «صينيات بوشيه»،١٤٧ وأنه قد وجهه — على نحو خاص — نحو رؤية انطباعية للواقع، رؤية متجددة ومتحررة من المفاهيم الثقافية التي تفرض حدودًا وعلاقات منطقية على الأشياء.١٤٨ وسنلاحظ — على سبيل المثال — في المقطوعة الثالثة من «ملاحظات باريسية»، أصالة زاوية الرؤية في ذلك الوصف للمسرح:
في يناير، هو «المسرح»، ثلاثة آلاف قوس (كمان) أصم، مع طنين أرواح، قرية إيلليرية في أعماق المشهد، وحواف شرفات المسرح العالية، المليئة، كأنها مزينة برءوس المحكوم عليهم بالإعدام.١٤٩
وسنرى — فيما بعد — أهمية المسرح، و«النظرة المسرحية» في «إشراقات».١٥٠
وبعد هذا، علينا أن نضيف أنه من «رامبو»، ومن «رامبو» وحده، يبدأ التاريخ، لا لرؤية شعرية جديدة فحسب، بل — أيضًا — لأسلوب نثري جديد، أصبحا علامةً على انعطافة في الأدب، أردت أن أذكر بأن باريس كانت تقدم إلى المراهق تيارات أفكار، واتجاهات جمالية قادرة على حفز محاولته.١٥١ لكن هذه المحاولة واصلها بمفرده، بإصرار، متخذًا مسيرةً يستعصي علينا فهمها، وسواء ما إذا عاد تاريخها إلى ربيع ١٨٧٤م، أو أن تأليفها امتد على مدار عدة أعوام — وهو الأرجح — فإن قصائد «إشراقات» كلها تحمل — على أية حال — نفس المسعى الجمالي، وتقنية فنية مؤكدة: لقد عثر «رامبو» على «صيغته».١٥٢

«صيغة» إشراقات

(١) الشعر الفوضوي

صيغة «إشراقات» هي النثر — المنغم بلُطف من قبل عدد ممن سبقوا «رامبو»، لكنه نثر شديد البعد عن «النثر الشعري» — بقدر ما هو أيضًا بعيد عن النثر النثري المقصود والواقعي، الذي ذرفه أكثر من معاصر، تقليدًا لبودلير وشعره «الباريسي»، ونستطيع أن نتخيل أي انطباع مدهش تثيره القراءات الأولى لهذا النثر الذي لم يكن يشبه أي نثر آخر، والذي يدهشنا — للوهلة الأولى، واليوم أيضًا — بمظهره المشوش، المحير لنفسٍ اعتادت على القواعد القديمة للُّعبة الأدبية.

فلنستبعد — على الفور — الفرضية التي تقول إن مظهر «إشراقات» المتنافر والمشوش إنما يرجع إلى حقيقة أن «رامبو» لم يكن يملك لا الوقت ولا الإمكانيات لتنقيحها، لينحو بها نحو حالة الإنجاز الكامل.١٥٣ إن الخط المُعتنَى به — في المسودات التي وصلتنا — يدفعنا إلى الاعتقاد، اليوم، بأنها نُسَخ، وأنها تبييضات لأعمال منتهية (ما من تشابه مع المسودات غير المقروءة تقريبًا ﻟ «فصل في الجحيم»)، فرامبو «يقدم ما لا شكل له»١٥٤ — بصورة إرادية تمامًا — كما سبق أن قال في «خطاب الرائي»، ويجعل من الفوضوية مبدأً جماليًّا.
وقد قُلت فيما سبق إن هذه الفوضوية كانت جزءًا من مزاجه وطريقته كلها في الوجود،١٥٥ وسنرى أنها ستصل في عمله الشعري إلى حد رفض لا القوانين الفنية المقبولة بشكل عام فحسب، بل أيضًا الترابط البسيط لكل ما قد يبدو «تشكيلًا»، وذلك حقيقي أيضًا فيما يتعلق بتنظيم (بالأحرى بعدم تنظيم) الديوان، وبالبنية «المفتوحة» لكل قصيدة، التي تكشف — مع رفض إنهائه — نزوعًا نحو اللامحدَّد، وهو نفس النزوع الذي نجده — أيضًا — في قَطع الجُمل، هنا يكمن النصف الفوضوي والهدام في عبقرية «رامبو»، الذي يفجر كل الأطر، بتأثير نزعة تحررية إعجازية لتقدم إلى الأذهان آفاقًا مجهولة (النصف الآخر، الذي يأتي ليكمل ذلك، يقدم لنا الوجه الآخر من العملة بشكل ما، إنه الجانب الخالق البنَّاء، الذي سنتناوله فيما بعد).
ولا يجدي التأكيد على ما هو ثوري في جماليات كهذه، فمن المتفق عليه دائمًا — حتى ذلك الحين — ألَّا وجود لجمال بدون انسجام ودون اكتمال: فالتوزيع المنظَّم للأجزاء، و«إكمال» التنفيذ، كانا من الضرورات التي لم يستطِع الرومانتيكيون أنفسهم التخلص منها، وأكثر الأعمال جرأةً — التي تتخذ من القبيح، والجروتيسك، والشر موضوعًا لها — قد وضعت كلًّا منهم في شكل يسمو به إلى مستوى الفن، من خلال توازن التكوين ووحدة الغاية والتعبير،١٥٦ ويتباهى «بودلير» — عن حق — بالحرية البنائية في «سأم باريس» الذي لا نستطيع أن نقول «إنه بلا رأس ولا ذَنَب، ما دام كل شيء فيه — على العكس من ذلك — هو رأس وذَنَب في آنٍ»،١٥٧ و«شرائح ثعبان» يمكن الإضافة إليها بلا نهاية: إنه مفهوم يتأكد فيه حب الأجزاء، وقد وُلِدَ وتنامى مع المجلات والدفاتر التذكارية، و«مقاطعها» الأدبية، وعلى الأقل، يمتلك «بودلير» خطًّا عامًّا، ويزعم أنه يكوِّن — من هذه الأجزاء — لوحةً للإنسان الحديث وللوجود الحديث، أما لدى «رامبو»، فكما سبق أن لاحظ «فيرلين»، «لا وجود للفكرة العامة، أو هي ضئيلة جدًّا».١٥٨ ولنفهم من ذلك أن «رامبو» لا يقترح حكاية حياته وتجاربه، ولا وصف مشاهد أو مدن حقيقية، ولا يفرض — أساسًا — وحدةً ما على كتابه، إنه يظل في حالة تهيؤ لكل مصادر إلهاماته.
ونلاحظ أن اختيار النثر يسمح له بمزج أنواع شديدة الاختلاف (من بينها قصيدة النثر التي سنراها تتردد — فيما بعد — في أغلب الأحيان): خرافات أخلاقية،١٥٩ وصف،١٦٠ ذكريات،١٦١ اندفاقات غنائية١٦٢ أو نبوية:١٦٣ ومثل «بودلير» (الذي كان ذلك يمثل له — إلى حدٍّ ما — طريقةً في حشو ديوان شديد النحافة)، يرى «رامبو» في قصيدة النثر شكلًا مفتوحًا، يقبل أنواعًا وطرائق تعبير بالغة التنوع، لكن فيما نثر «بودلير» — الصافي دائمًا والموحَّد بشكل إرادي — يمنح مقطوعاته، على الأقل، وحدةً شكليةً، فإن «رامبو» ينطلق من الشعر الحر («بَحرية» و«حركة» مقطوعتان تشكل الأولى منهما جزءًا من مخطوط «جرو Graux»، ولم تُلحَق — إذن — مصادفةً ﺑ «إشراقات») إلى النثر الأكثر «نثرية»، مرورًا بأنواع من المقاطع المسجوعة عن عمد («أمسيات–١»، و«رحيل»)، دون أن نتحدث عن «القصائد» التي تعتبر — على ما يشير عنوانها — «جُمَلًا Phrases» بسيطة.١٦٤ إن تباين النبرة يتجاوب — بداهةً — مع هذا التباين في الشكل، وأحيانًا ما يتنبأ «رامبو» على طريقة الأنبياء … أو مثل مندوب متجول،١٦٥ وأحيانًا أخرى ما يسخر بوحشية خاصة به،١٦٦ وأحيانًا ثالثة ما يُغَني بلهجة منتشية وعذبة بشكل إعجازي عن «العذوبة المزدهرة للنجوم والسماء».١٦٧
ولا شك أننا سنفسر بشكل أفضل هذه الانقطاعات، وهذه القفزات في المستويات، إذا ما قبلنا بأن قصائد «إشراقات» قد كُتِبَت في مراحل وظروف شديدة الاختلاف، لكن، فلنتأمل كُلًّا من هذه النصوص في ذاته، لا في علاقته بالكل: إن الانطباع الذي يخلقه الشكل «المفتوح» والفوضوي ليس أقل إبهارًا، ونستطيع الافتراض أن عمل «رامبو» لا يستند إلى تجميع نصوص متنافرة تحت عنوان مشترك (مثلما هي حالة «جُمَل» و«أمسيات» و«شباب»).١٦٨ لكن ما الذي سنعتقده بالنسبة لنص من قبيل «طفولة–٣»، الذي يرى «روشون» فيه شعرًا «بلا سياق»؟١٦٩
في الغابة عصفور، يستوقفكم غناؤه ويجعلكم تَحمرُّون خجَلًا.
هناك ساعة حائط لا تدق.
هناك مستنقع بعُش دواب بيضاء.
هناك كاتدرائية تهبط وبحيرة تصعد … إلخ١٧٠

والسياق الناقص — هنا — هو السياق المنطقي الذي يسمح بالحديث عن تتابع للأفكار، فكل ما يشبه التكوين الخَطِّي يثير كراهية «رامبو»: وحتى عندما نظن أنه يتخذ من مشهد حقيقي موضوعًا له، فإنه يلجأ إلى لمسات منفصلة، وهذا القَطع يعطي الانطباع بالتنافر، ويصعب من فهم القصيدة، حتى بالنسبة للقارئ الحديث، الذي عوده خلفاء «رامبو» على تقنية التجاور هذه (التي يمكن الحديث بصددها عن تقنية «النبرة المنقسمة»، الأثيرة لدى الانطباعيين).

فالعقلية المعتادة على المنطق القديم تجد صعوبةً أكبر في متابعة نهج «رامبو»، وخاصةً أنه ينتقل — دون توقف — من بُعد إلى آخر، ومن مستوًى إلى آخر: من المرئي إلى الموسيقي (في «جسور» و«كائن جميل»)، ومن الملموس إلى المجرد،١٧١ بل حتى — وهو الأكثر تفردًا — من مستوى «الرؤيا» إلى مستوى الواقع، حيث الرؤيا مستنكرة، على نحو يجعل البناء الشعري — بطريقةٍ ما — ملغومًا من الداخل: إنها اﻟ «هُن لا يوجدن» المتكررة في كل إشارة إلى «زهور شمالية» في «بربري».١٧٢

والطريقة التي يختم بها «رامبو» قصائده مميزة: إنه غالبًا ما يتجنب كل ما يمكن أن يبدو كخاتمة (بالمعنى المنطقي والفني)، خاتمة يمكنها أن تجعل من القصيدة كُلًّا مغلقًا، يحصر موضوعًا شديد التحديد، انظروا إليه وهو يستعيد صيغة الخاتمة — المركزة والباهرة — لفيكتور هوجو، الذي يحب إنهاء سياق كامل ببيت واحد، منفصل تمامًا:

عَجَبًا، تقول وهي تفتح الستائر، ها هُم!

بل حتى أقل من ذلك:

في صباح اليوم التالي، اتجهت «آمري» إلى المدينة.

ولدى «رامبو»، فإن جملة الختام هذه، المكثفة، غالبًا ما لا «تختتم» شيئًا، إنها — على العكس — تؤدي إلى عودة انطلاق القصيدة نحو آفاق جديدة، وتفتح دروبًا إلى بقاع أخرى مختلفة عن تلك التي تأسست القصيدة عليها، كما أن الجُمَل الغامضة، التي تنهي «حكاية» غير متوقعة:

الموسيقى البارعة لا تفي برغبتنا.١٧٣

أو «طفولة–١»:

أي ملل، ساعة «الجسد العزيز» و«القلب العزيز»!١٧٤

والأكثر غرابة — أيضًا — هذه الجملة الختامية، السلبية ظاهريًّا، التي تُدخل — واقعيًّا، في اللوحة — عنصرًا جديدًا يهدد كل التكوين السابق:

لماذا كان يشحب مظهر النافذة
في ركن القبة؟١٧٥
التي يكشف فيها «ريفيير» — عن حق — «شيئًا ما يعتدي على صلابة» اللوحة، «صدع ينفتح وينتشر».١٧٦
وإذا ما كُنت لا أستفيض فيما يتعلق بهذه الانقطاعات في المستوى، وهذا التفكيك الدائم للديكور، اللذين — بفضلهما — «يعثر» العالم «على تنافره الرئيسي القديم»، و«يهرب من التصنيفات»،١٧٧ فلم يعد هناك الكثير ليُقال بعد الصفحات الفاتنة التي خصصها «ريفيير» — عام ١٩١٤م — ﻟ «تشوش» رامبو، ومع ذلك،: لا بد — فيما يبدو لي — من تخطي موقف «ريفيير» الازدواجي، الذي يضع — على طَرَفي نقيض — «العقليات الجمالية» و«العقليات الميتافيزيقية»،١٧٨ فالأوائل لم يستطيعوا أن يروا في «إشراقات» سوى «نوع من الخوارق المصطنعة»١٧٩ «الواقع المشوهة رؤيته عن عمد»)،١٨٠ في حين يرى الآخرون فيها مدخلًا إلى «هذا العالم الغامض الذي يُراد لنا أن نعتقد أنه لم يكن إلا ابتكارًا شعريًّا».١٨١ والواقع أن «رامبو» يعلِّمنا — بحق — التغلب على هذا التعارض بين الشعر-الغاية (الفن للفن) والشعر-الوسيلة (الذي سيعلي من شأنه السيرياليون): فالشعر والميتافيزيقا — لديه — متعايشان في الجوهر، وإذا ما قبلنا فكرة أنه كتب غالبية «إشراقات» بعد أن تخلى عن طموحاته الكبرى في «الرؤيا»، فمن المستحيل أن نعتقد أنه قد تخلى عن كل مسعًى ميتافيزيقي، ليتسلى — فحسب — بأن يقدم لنا الفواكه الغريبة لرؤية مشوشة بشكل منهجي، «نحن لا نهرب من فكرة أن المضمون الحقيقي للعمل الفني … هو مضمون ميتافيزيقي»، حسب ما يكتب — عن حق تمامًا — «ا. سوريو»:١٨٢ فبقدر ما يقودنا الشعر إلى غاية أبعد من نفسه، حيث يجعلنا نحس بوجود عالم غامض لا يستعصي على التعبير، بقدر ما يكتسب مزيدًا من القيمة الخاصة به، والروعة الوجودية، لكنه لا يستطيع، على العكس، أن يقودنا إلى ذلك إلا بوصوله إلى اكتماله كشكل: وهي حقيقة تتكشف — بتعبير «رامبو» — «في روح وجسد».١٨٣
وجماليات «رامبو» — (هذه الجماليات التي تثيرها الآفاق الميتافيزيقية) — تميل إلى تخليص الروح والفن أيضًا «من التحديدات التي فرضها الواقعي»:١٨٤ فحذف المقولات (الخاصة بالزمان والمكان)،١٨٥ وإلغاء المبادئ الكبرى لتحقيق الهوية وعدم التناقض، والفوضى التي تهدم كل العلاقات القائمة — منذ الأزل — بين الأشياء، ينبغي — بلا شك — أن تسمح لنا، ما إن نتخطى «الواقع الخشن»،١٨٦ شديد الوطأة، بهذا «الاندفاع الجنوني واللانهائي إلى البهاءات الخفية»،١٨٧ الذي لم يكفَّ «رامبو» عن أن يتمناه، وبدلًا من «الصوفيات السحرية» للهلوسة، أو مفاتن «الأساليب الشعرية القديمة»، فإنه سيلتمس تحقيق التغريب الضروري من خلال مؤشرات تقنية جديدة للغاية.
وقد سبق أن ذكرت أن «إشراقات» تقترح علينا «جمالية المتقطِّع»، بدلًا من الأساليب القديمة في التشكيل الأدبي، ومن المدهش — أيضًا — أن نرى كيف أن الضرورة الداخلية — المتمثلة في عدم ترك انطباع الاستقرار والثبات لدى القارئ — تقود هذا الشعر إلى أن يستبدل بجماليات البارناسيين «الثابتة»، وفكرة الجمال المستقر، السكوني إلى حدٍّ ما — («أكره الحركة التي تنقل الخطوط») — دينامية يمكننا قياسها، على سبيل المثال، بعدد أفعال الحركة: يقول لنا «رامبو» إن «الألوان الخاصة بالحياة تندفع، ترقص، وتنفلت»،١٨٨ وإن «نكهة الرماد ترفرف في الهواء»،١٨٩ وإن «توافقات صغرى تتلاقى وتنسحب»،١٩٠ وهو يستخدم — بصورة دائمة — أفعال «يدور» و«يحوم»،١٩١ فيعطينا — بذلك — انطباع التحول الدائم لأشكال في حالة تطور أبدي، فلا تتمتع الأشكال الأكثر ثباتًا بالحركة فحسب («كاتدرائية تهبط وبحيرة تصعد»)،١٩٢ لكن المجردات نفسها أيضًا: الموسيقي، «تحول الدوامات»،١٩٣ والصمت «المتلاطم بشراسة»،١٩٤ ونرى «انتفاض» «أساطير السماء».١٩٥ وفي العالم الرامبوي، كل الأشياء محكومة بالدوار وعدم الثبات ودائمًا على أُهبة الانحلال، والذوبان الواحد في الآخر، والانهيار، أو الانبثاق: «انهيار التمجيد يبلغ حقول الأعالي»،١٩٦ «صفير موت ودوائر موسيقى صماء، تجعل الجسد المعبود يصعد، ينتفخ ويرتعد مثل شبح».١٩٧ وفكرة عدم الاستقرار، والتحول هذه، مدهشة — بشكل خاص — في «ليلية مبتذلة»، وهي قصيدة حُلمية (يعود تاريخها — كما هو محتمل — إلى فترة «المنامات»)،١٩٨ ويقول عنها «رولان دي رونفيل» إن ما من قصيدة — ربما — لدى «رامبو» «أكثر تبشيرًا بالتقنية السيريالية من هذه».١٩٩
فهل من الضروري التأكيد على أنه ما من شكل — أفضل من النثر — كان بمقدوره تمثيل هذا التمزق الأساسي واللاتنظيم اللذين يميزان العالم الرامبوي في بنية الجمل نفسها؟ ولأنه انطلق من الشعر الكلاسيكي والخطابي (أُلِّفَت قصيدة «شمس وجسد» — كما نعلم — على نسق «البارناسيين»)،٢٠٠ ينكر «رامبو» — الآن — إيقاعات أغانيه الحرة، كي يتبنى شكل النثر الأكثر تصادمية والأقل «فنية»، بدون مؤثرات بلاغية، أو نوافذ زائفة، وهو يتحاشى كل ما يمنح جملته مظهرًا خطابيًّا متزنًا، ويعيد البحث — على النقيض — عن كسر التماثلات، والانقطاعات المفاجئة في التركيب:
عندئذٍ، رفعتُ الأستار واحدًا واحدًا، في الرواق، وأنا أُحرك ذراعي. وعبر السهل، حيثُ كشفتُ سرها إلى الدِّيك، وإلى المدينة الكبيرة، كانت تهرب بين أبراج الأجراس والقباب٢٠١
هي الجُمل التي تدور باقتضاب كي تنتهي بفظاظة ببضع كلمات موجزة:
في شائبة من الصقيع إلى اليمين دارت الوجوه الشاحبة القمرية، وأوراقُ شجر، وأثداء.٢٠٢
أو — على العكس — الجُمل التي تعاود الانطلاق، عندما نعتقد أنها بلغت ذروتها، لحظة انتظار الأذن والذهن ﻟ «الخاتمة»:
اصطفق باب، وفي ساحة الضيعة، أدار الصبي ذراعيه، وقد فهمته دواراتُ الريح وديوكُ أجراس في كل مكان، تحت الوابل الساطع …٢٠٣
وقد ذكر «ريفيير»، عن حق تمامًا، أنه يمكن القول — دون مبالغة شديدة — إن إشراقات «مكتوبة بأسلوب اليوميات»:٢٠٤ لدينا هنا — في الواقع — «دفتر ملاحظات» جَوَّال، على نحو ما، فلنفكر في «يوميات» «جونكور» و«دي فيني»، و«أشياء مرئية» لهوجو: يصل «رامبو» بحركة المعارضة للأسلوبية القديمة إلى منتهاها الشعري، حركة تنحو إلى تفكيك الجملة، إلى فصم كل ما هو موجود لتتوحد فيها العناصر، والروابط، وأدوات الوصل:
موكب من الجان. فعلًا: مركبات محملة بحيوانات من خشب مذهب.٢٠٥
أو:
خلف الحافة اليمنى، خط المشارق والتقدم.٢٠٦
فالإلغاء المتكرر للفعل، والتركيب من خلال التجاور، يؤدي بالجملة إلى ألَّا تكون — في أغلب الأحيان — إلَّا تعدادًا خالصًا وبسيطًا: في هذا الأسلوب «المفكك»، تصبح للكلمات قيمة في ذاتها، بطاقاتها الإيحائية، في حين أنها — في تركيب الجملة القديمة — ليست سوى أوتاد للفكر، الذي يسري من كلمة إلى أخرى:
هذا الجسر الخشبي، المقوس، آخر بساتين الخضروات هذا، هذه الأقنعة الملونة تحت القناديل المجلودة بالليل البارد، وحورية البحر الحمقاء ذات الثوب الصارخ، أسفل النهر، هذه الجماجم اللامعة في سهول الحُمص، والخوارق الأخرى — الريف.٢٠٧
هكذا تجد الجملة نفسها — على ما يكتب «إيتيومبل» — «متحررةً من ضرورات التركيب»،٢٠٨ ومتحررةً — في نفس الوقت — من مقتضيات المنطق، ما دام «رامبو» لا يكتب من أجل أن نفهم فكرًا مجردًا، بل ليقترح علينا انطباعات، ليجعلنا «نرى»، بذلك، سيكون من العبث الإصرار على تحديد «معنى» عباراته، على الأقل حسب المنطق العادي.

بالإضافة إلى هذه «المؤشرات» المتعلقة بالانطباعات أو الرؤى، فينبغي الإشارة أيضًا إلى الانفجارات الغنائية المفاجئة، واللحظات التي تنفجر فيها الجملة — بمعنًى ما — تحت وطأة دفقة شعورية عنيفة.

آه يا خَيري! يا جَمالي! أبواقٌ بغيضة أتعثر فيها أبدًا! منصات جنية! مرحَى للعمل الخارق والجسد الرائع، للمرة الأولى!٢٠٩
في هذه الجُمل المتقطعة — وكلها تعجبية متنافرة تقريبًا — يعتقد «ريفيير» أنه يشعر بعنف «البراءة المرعبة» ﻟ «رامبو»:٢١٠ فالكلمات — كما يقول — «تقرقع وتتباعد وتنفصل فيما بينها تحت وطأة الظلمات الساطعة». وأظن أنه يمكن تطبيق هذه الصورة الجميلة — بدقةٍ أكبر — على الدفقة العنيفة، الفوضوية، لفردية ظافرة:
أيا نخيل! يا ماس!– حُب، قوة!– أعلى من الأفراح والأمجاد! في جميع الحالات– في كل مكان، شيطان، إله،– فتوةُ هذا الكائن: أنا!٢١١
إن شخصية «رامبو» — هنا — تفجر كل الأُطر، وتخترق كل الحدود، «رامبو» الذي أصبح — بقوة التعبير — «المجوسي أو الملاك» الذي كان «فيرلين» يقول عنه:
آه سأكون هذا الذي سيكون الرب!٢١٢
وذلك ما يقودنا إلى التأكيد على وجود ما هو متعجرف، وقصدي، وإيكاري في هذا التحدي الذي طرحه «رامبو» على الواقع، في هذا «التدمير الكلي» للمادة وللفكر الذي تقوم به «إشراقات». ثمة هوة بين توجه «رامبو» وتوجه الصوفي الذي يدون رؤاه (بتواضع)، أو توجه العَرَّافين القدامى الذين تلهمهم الآلهة: فكم يبدو سلبيًّا توجه هؤلاء في مقابل الحيوية الخارقة الإرادية لذلك الذي عزم — منذ أن أصبح عمره خمسة عشر عامًا — على أن يكون «مؤلفًا، وخالقًا، وشاعرًا».٢١٣
علينا إذن أن نمنح كلمة «فوضوية» — هنا — كل معناها الضمني، على نحو ما سيفعل كُتَّاب الجيل الثاني من الرمزيين:٢١٤ لا رفض النظام القائم فحسب، بل أيضًا المطالبة بالفرد في مواجهة حالة من أشياء لا تحترم استقلاله الذاتي، وبذل الجهد — بالتالي — لاستعادة الفرد لحقوقه، سواء في المجال الاجتماعي أو المجال الأدبي. الفوضوية الهدَّامة ليست — إذن — إلا مرحلة أولى في إعادة تنظيم الكون (وهو ما يعني — بنفس القدر — الكون الشعري، أيضًا)، ففوضاها ليست إلا ضرورة انتقالية، سابقة على إقامة نظام جديد، وينبغي أن نضيف أنه في مادة الأدب (وقد قُلتُ ذلك في مقدمتي) تستعصي الفوضوية الخالصة واللاشكل المطلق على التصور، طالما أن الفعل الأدبي يكمن في «منح شكل» إلى شيء ما، بلا وجود سابق على التعبير عنه، ولننتبه إلى أن «رامبو» — بإثارته الفوضى في الكون، وتفكيك القصيدة والجملة نفسها — إنما يقوم بفعل هدَّام بالتأكيد إزاء الشعر القديم، لكنه — خلال ذلك — يقيم أُسس شعر (وشعرية) جديدة، فثمة خَلق في نفس وقت الهدم.
وقد سبق أن قُلت إن «رامبو» كان ينزلق — منذ عام ١٨٧١م — من المستوى السلبي ﻟ الرؤيا إلى المستوى الإيجابي ﻟ الخلق الشعري،٢١٥ ويبدو أنه قد تخلى — أكثر فأكثر، بعد عام ١٨٧٣م — عن استثارة الرؤى بشكل مصطنع، وعن «الهروب من الواقع»،٢١٦ وأنه — على العكس — أراد التأثير على الواقع المتاح كمادة شعرية ولا أعتقد — على النقيض من «ا. آدام» — أن قصيدة «شباب–٤» ترسم برنامجًا ﻟ «الرؤيا» مثقفًا بشكل منهجي،٢١٧ فرامبو — بالأحرى — يقاوم، في هذه القصيدة، الإغواءات السهلة ﻟ «الرؤى» التي حاولت مراودته (مثل موكب الحيوانات الخرافية الذي ظهر أمام ناسِك «فلوبير»)، وبث «الكبرياء» و«الهلع» فيه، ويؤكد فيها على قراره ﺑ «الشروع في العمل»، واستخدام «كافة الإمكانيات التناغمية والمعمارية» للقيام بعمل إبداعي انطلاقًا من عناصر الكون الواقعي:
لن تكون ذاكرتُك وحواسُّك إلَّا غذاءً لاندفاعتك الخلاقة.٢١٨
وهذا المسعى الخلاق، الوجه الآخر من العملة الفوضوية الرامبوية، هذه الإرادة في بناء عالم جديد على أنقاض الظواهر القديمة، يعلن عنه — بوضوح — في «شباب–٤»:

أما العالم، فما الذي سيصبح عليه، عندما سترحل؟ على أية حال، لا شيء من المظاهر الحالية.

إنه البُعد الثاني من «إشراقات» — العالم «المعاد خلقه» — الذي سندرسه الآن.

(٢) العالم المعاد خلقه

لا يتعلق الأمر — هنا — بالقيام باستدراك ما لصالح قصيدة أو أخرى، حيث يعثر النقاد — ليس بلا عزاء — على وحدةٍ ما في البنية، وترابطٍ ما في الفكر،٢١٩ بل حتى على طرق تنبع من أسلوبية مختبرة: هذا ما يتحقق في قصيدة «رحيل»،٢٢٠ حيث يعجب «م-فونتين» ﺑ «أية مهارة» يلعب «رامبو» بتكرار الكلمات («ضوضاءات» و«رؤى»)، ويبدأ كُلًّا من فقراته الثلاث بنفس التركيب الإعرابي، ونفس المفعول الذي ينتهي ﺑ u.٢٢١ ملاحظات كهذه لا تفتقر إلى التبرير، خاصةً إذا ما وافقنا على أن «إشراقات» قد أُلفت على فترات متباعدة في الوقت إلى حدٍّ ما، بما يمكن لها أن تعكس مفاهيم جمالية شديدة الاختلاف، لكن علينا أن نضيف — على الفور — أن القصائد المعنية، مهما كانت إغراءاتها بالنسبة للمدافعين عن الجماليات «الامتثالية»٢٢٢ — ليست «منطقيةً» بدرجة كافية، ولا «فنية» بما يكفي لأن تخرج على مجمل الديوان؛ إذ تتوفر على نقاط مشتركة مع اﻟ «إشراقات» الأخرى، بأكثر مما مع الشعر الأكاديمي: فعلى العكس من ذلك، سيتفكك الديوان إذا ما تخلى — في بعض مقاطعه — عن المفهوم الشعري الذي صدر عنه. فالتركيز، والصياغات المقتضبة في قصيدة «رحيل»، وتوقفها المفاجئ على كلمتين أحاديتي المقطع، كل هذا يحمل علامة «رامبو» الخاصة، وأي صاحب أسلوب سيجرؤ على أن يكتب «نال ما يكفي Assez eu»، وأن يربط بين «العاطفة والصخب الجديدين»؟
هناك — حقًّا — نمط في الرؤية والتعبير خاص برامبو، وبعبارة أخرى، عالم شعري يُبنَى عبر ومن خلال — (كي نتكلم على طريقة «بودلير»)٢٢٣ — فوضى أشعاره، والعالم الرامبوي — الذي يفرض علينا وجوده على هذا النحو — لا يمكن، بطبيعة الحال، رغم هذا، وصفه بطريقة سلبية خالصة، إنه ليس عالمنا العادي فحسب، المفكك إلى عناصره المشوشة، إنه يحمل — حقًّا — علامة عبقرية خالقه.
ما يدهشنا — بدايةً — في «عالم» رامبو هو فائض الحياة، والثراء، والحيوية المذهلة، وإذا ما قارنا «إبداعاته» للمشاهد الطبيعية — على سبيل المثال — بإبداعات كُتَّاب سابقين («بودلير» في «الحُلم الباريسي»، و«بو» في «أملاك» آرنهايم)، لرأينا أنه بدلًا من الاستمتاع بحلم بجمال منتظم ثابت، و«تماثلية غامضة واحتفالية»، حيث لا يمكن أن نلمح «حصاةً واحدةً تائهة»،٢٢٤ وحيث يصل «بودلير» إلى حد نفي «النبات غير المنتظم»،٢٢٥ فإن «رامبو» الفياض بالحيوية، ينادي جميع أشكال الوجود، لا ينفي شيئًا، ولا يختار شيئًا، إنه لا يبني بالإلغاء، بل بالترحيب بأكبر قدر من العناصر الممكنة، فيدعم هذه المؤثرات ﺑ «نكهة ضارية»٢٢٦ — (في قصيدة «مدن» مثلًا)٢٢٧ — بكل الأزمنة وكل البلاد.
السمة الأولى للعالم الرامبوي — إذن — هي رحابته الرائعة (وهي نتيجة طبيعية لفوضويته): متحررةً من الزمان والمكان، ومن كل ما يحدد، يمكن للروح الشعرية أن تنطلق عبر أثير بلا تخوم، وتحتضن الكواكب في امتدادها وفي تطورها، أن تلتقط الجمال في أشكاله الأكثر مفاجأةً، والأكثر عنفًا:
هذا الوثن، ذو العينين السوداوين والعُرف الأصفر، دون أهل ولا حاشية، والأكثر نبلًا من الخرافة المكسيكية والفلمندية: مجاله اللازورد والخضرة الوقحان، يركض على شواطئ منحتها أمواجٌ بلا مراكب أسماء يونانية، وسلافية، وسلتية بشكل طبيعي.٢٢٨
إن حيوية «رامبو» وسلوكه الغازي يضعانه أبعد بكثير من «بودلير»: من المدهش أن نرى «بودلير» — مثلًا — يحاول الهروب خارج «الزمن»، وفقدان معرفته في شعور عذب باللانهائي،٢٢٩ فيما يبحث «رامبو» عن السيطرة على «الزمن»، السيادة عليه من أعلى ليمسك بكل تلاحقاته تحت بصره، وحيث بودلير «يطيل الساعات» في حلم يقظة بطيء،٢٣٠ يختصرها «رامبو» إلى حد أن يحتضن، بلمحة واحدة، زمن الإنسانية كله: «ألمانيا تستعد للأقمار، الصحاري التترية تستنير، والتمردات القديمة تصطخب في قلب الإمبراطورية السماوية …»٢٣١ إنها — إلى حدٍّ ما — رؤية ما هوجوية، لكن مع «دمج» يقلص أوسع المشاهد إلى أبعاد قصيدة نثر موجزة.
لا يجهد «رامبو» نفسه — إذن — في «الهروب» إلى خارج الواقع، بل في اقتناص الواقع في تعدديته، ومنح التحقق الشعري لكل الممكنات، فتكرار كلمة من قبيل «كل» — في مؤلفاته — لهو أمر دال في هذا الصدد: «قابلتُ كلَّ نساء الرسامين القدامى»،٢٣٢ «كُل الأساطير تتطور»،٢٣٣ «إنتاج … كل روائع المعمار الكلاسيكي»،٢٣٤ «كائنات بكل السمات وسط كل المظاهر»،٢٣٥ «كل القتلة وكل المعارك»،٢٣٦ «كل الإمكانيات التناغمية والمعمارية».٢٣٧ وأكثر العناصر تباعدًا، وأكثرها تناقضًا — حتى — ستجتمع معًا، «نار الجمر والزَّبد»،٢٣٨ البحر والسماء،٢٣٩ والملموس والمجرد.٢٤٠ وندرك أن إلغاء كل ما يحدد يصل برامبو — أيضًا — إلى إلغاء حدود الشخصية: ألم يقُل في «فصل في الجحيم» إنه حدث له أن حلم ﺑ «حيوات أخرى متعددة» لكل كائن؟٢٤١ من هنا تكمن لا هذه الهيولانية لدى «رامبو»، وهذا الفيض من الذكريات الخيالية التي أحيانًا ما تجعل التحقق من الذكريات الواقعية أمرًا بالغ الصعوبة، ومثل «بودلير»، يستدعي «رامبو» «حيوات» سابقة،٢٤٢ لكن يحدث أن تكون إحدى هذه الحيوات أكثر ثراءً من الأخريات إلى حدِّ أن تبدو تكثيفًا لوجودات عدة.٢٤٣ وفي آن آخر، تتعدد شخصية «رامبو» في الحاضر:
أنا القديسُ، المُصَلِّي على الشُّرفة …
أنا العالِمُ ذُو المقعد القاتم …
أنا مشَّاء الدرب الطويل …٢٤٤
فداخله غليان من الإمكانيات، لا الإنسانية فحسب، بل أيضًا الحيوانية: والشاهد هذه القصيدة الغريبة «حضيض» (التي تحل — في المخطوط — محل هذا العنوان الآخر: تحولات،)،٢٤٥ حيث يطور «رامبو» موضوعًا يبدو أنه يسيطر عليه.٢٤٦ وليس ضروريًّا — في هذا الصدد — الحديث عن تحول الأشياء، ويمكننا — بشكل أصح — أن نتذكر أن «بودلير» يشير إلى الانسكاب خارج الشخصية، باعتباره من المؤثرات الممكنة للحشيش:
يحدث أحيانًا أن تختفي الذاتية وأن تتطور الموضوعية — التي تمثل هدف الشعراء الحلوليين٢٤٧ في داخلكم — بشكل لا طبيعي، إلى حد أن تأمل الأشياء الخارجية يدفعكم إلى نسيان وجودكم الخاص، وإلى الذوبان السريع فيها …٢٤٨
علينا أن نرى جيدًا — رغم هذا — أن الأمر لا يتعلق، في حالة «رامبو»، بتشتت، وانعدام للكائن في عالم متسع إلى ما لا نهاية، (كما يفترض «رولان دي رونيفيل» عند تفسيره ﻟ «أنا الآخر»٢٤٩ في اﻟ «باجافاد جيتا»).٢٥٠  ٢٥١ إنه — على العكس — العالم الذي يعيده «رامبو» إلى ذاته، ويكثفه في قصائده بجهد هائل في التركيب. وعلينا دائمًا العودة إلى هذا البُعد الفعال والقصدي لدى شاعر يبدو أنه اعتبر مهمته أن يحقق أمنية «نرفال»: «قيادة حُلمي الأبدي لا الخضوع له».٢٥٢
ولن نفهم شيئًا من «رامبو» طالما أننا نجهل طابع التركيبي — بصورة جوهرية — والفعال بحدة، ﻓ «فوضى» قصائده لا ينبغي أن تجعلنا ننسى بأي تركيز وأية مفاجأة خاطفة تفرض نفسها هذه اﻟ «إشراقات» بتسميتها الصائبة تمامًا.٢٥٣ فكل قصيدة — في إيجازها — نقطة إشعاعية، وبرقها — حسب تعبير «فاليري» — «يرسل ومضات نحو نظام آخر أو «عالم» لا يمكن لنور دائم أن يضيئه».٢٥٤ برق لن يستطيع أي نثر وصفي أو استطرادي أن يجعله ينبثق، فهذه «الإشراقة»، ما أبعدَها عن عمل الموزاييك الدءوب الذي وصفه «دلاهاي» الطيب! فرامبو، وفقًا له:
يستخدم — بالأحرى — الأشياء الواقعية التي عرفها، لكنه كثيرًا ما يفصلها عن الكل المختبر، ويقسمها إلى أجزاء يمكن استخدامها في معنًى جديد، ويوفق بين التفاصيل التي كانت شديدة البُعد، في الواقع، ويوحد بينها، وينزع عن فاعلٍ ما صفته ليمنحها إلى آخر … إلخ.٢٥٥
نرى — هنا — كيف يمكن، انطلاقًا من ملاحظات صائبة (وربما من اعترافات أدلى بها «رامبو» نفسه) تكوين فكرة خاطئة تمامًا عن الطريقة التي «تتبلور» بها قصيدة، والدليل أن جملة «دلاهاي» تقود «م. فونتين» إلى الحديث — بعد ذكرها — عن «جهد تحليلي غير مسبوق،٢٥٦ مناقض تمامًا للحقيقة. وإذا ما عدنا مرةً أخرى إلى «شباب–٤»، وهو نص أساسي يلخص فيه «رامبو» — بشكل ما — طموحاته الأبدية، ويعلن «لن تكون ذاكرتُك وحواسك إلَّا غذاءً لاندفاعاتك الخلاقة»،٢٥٧ فسنتفق — بالتأكيد — على أن الكاتب مجبر تمامًا على أن يستمد من الواقع — عن طريق الحواس والذاكرة — العناصر التي «يغذي» بها قصائده،٢٥٨ لكننا سنتفهم — بشكل أفضل — عدم لجوء «رامبو» إلى صنع عالم «مجهول» بشكل مصطنع، بمزق من «المعلوم»، متقطع على نحو عشوائي، لتصبح (المزق) عصيةً على التعرف عليها: بتعبير آخر، لا يتعلق الأمر — على وجه الإطلاق — بجهد تحليلي، بل — على العكس — بحدوس تركيبية أساسًا: فنقطة الانطلاق هي «الدفقة المبدعة».
لا يهم كثيرًا — إذن — أن نعلم، مثلًا، أن موكب السيرك الموصوف في قصيدة «أخاديد» مصدره السيرك الأمريكي الذي أتى إلى شارلفيل عام ١٨٦٨م،٢٥٩ أو السيرك الذي رآه «رامبو» بصحبة «فيرلين»، وهو يتوجه إلى سان-جيل عام ١٨٧٢م،٢٦٠ وهنا يمدنا العنوان — كما يحدث مرارًا عند «رامبو» — بنقطة الانطلاق: فكلمة orniéres rapides لا تستدعي إلى الذهن — مثلما يحدث في أغلب الأحيان — كلمة «أخاديد»، والانغراز، بل أثر عجلات العربات المندفعة بأقصى سرعة،٢٦١ وحول هذه الفكرة تتجمع عناصر «موكب الجن»، وسرعته — («ركض هائل») — تؤكد على التأثير الفانتازي: وهو ما يفسر الظهور المفاجئ — في النهاية — ﻟ «النعوش» المحمولة «عدْوًا»، في تناقض مع بطئها التقليدي المهيب، ولا يفتقر إلى الفائدة — في هذا الصدد — أن نتذكر الرؤية الكابوسية التي وصفها «فيرلين» تحت عنوان «عربة موتى في حالة ركض»، في «مذكرات أرمل».
ومن الضروري أن نرى أن التركيب الشعري — عند «رامبو» — ليس خطِّيًّا وتعاقبيًّا، لكنه — على العكس — تركيبي، بل «تراكمي»، إنه نوع من البَلْورة التي تجتذب — حول النواة الأساسية — عددًا من العناصر، وإذا ما وضعنا في الاعتبار التنوع القصدي للعناصر المتراكمة على هذا النحو، فيمكننا تفسير تنوع التأويلات التي تثيرها بعض القصائد، على سبيل المثال «بعد الطوفان»،٢٦٢ لكن لا ينبغي أن يغيب عن بالنا — ما دمت أتخذ هذه القصيدة كمثال — أن ثمة «بَلْورة» حول كلمة «طوفان» المطروحة — هنا — في كل تعقيداتها الخاصة بالتلقي: معنى ميتافيزيقي (هو موضوع الماء، والجريان الذي نراه يمتد من خلال استدعاء البحر، والدم، واللبن، الذين يسيلون، والقنادس التي تُبْنَى على حافة المياه؛ فرامبو لا يجهل ذلك، وهو القارئ النهم لكتب الرحلات، والحانات، والبيت «الذي ما يزال يرشح ماءً»)، ومعنى أخلاقي، توراتي، يتضح — بعد أن كان كامنًا في البداية — على ضوء تطور فكرة «حضارة» (تنتشر آلاتها من البيانو وفنادقها، حتى «الألب» وليل القطب)، سيتخذ كل قوته خلال المقطع الكبير، الذي يحاول فيه الساحر المبتدئ، المسمى «إيتومبل»: «ترتيل تعاويذ لتطهير كبير جديد»:٢٦٣

فلتنبجس، أيها المستنقع، ولتتدحرج أيها الزَّبد على الجسر وفوق الغابة– أيتها الملاءات السوداء والأراغن، يا بروق ويا رعود انهضي وتدحرجي،– أيتها المياه والأحزان، تصاعدي وأكملي الطوافين.

ثمة — إذن — وحدة مفهوم بأكثر من وجود وحدة شكلية — (رغم أن «رامبو» لا يرفض — منهجيًّا — هذه الوحدة الشكلية).٢٦٤
وجهد التركيب أكثر إثارة للدهشة، إلى حد أنه يدمج وقائع بالغة التباعد ليجعل منها كتلةً لا يمكن تفكيكها: في «بربري»، حيث تمتزج المتنافرات، العنف والرقة، النار والثلج، وفي «جنية»، حيث يستخدم رامبو «الإمكانيات التناغمية»٢٦٥ لعدة موضوعات يركبها — بشكل ما — أوركستراليًّا: قصيدة قصيرة لكنها كثيفة وإيحائية بشكل غير عادي، حيث «تتواطأ» موضوعات الظل والضوء («من أجل هيلين تضافرت الأنساغ الزخرفية في الظلال العذراء والالتماعات الساجية في صمت النجوم»)،٢٦٦ الحر والبرد، الصمت والصخب، ورغم تنوع الإيحاءات المترابطة بهذه الطريقة تظل وحدة الانطباع شديدة المتانة، وحدة الانطباع ﺑ «عالم جني» أسطوري وكهنوتي، يستدعي جماله وصفاؤه المافوق إنساني — في مكان ما في أعماقنا — «هيروديا ذات النظرة الماسية الصافية».٢٦٧
ويفترض «ا. آدام» احتمال أن يكون «رامبو» قد استلهم قصيدة «جنية» من مشهد للرقص (مثل قصيدة «كائن جميل»).٢٦٨ ونحن نعلم أية مكانة يحتلها المسرح، والمشهد في كافة أشكاله، في «إشراقات»:٢٦٩ إنها — دائمًا — مسألة ممثلين مسرحيين،٢٧٠ و«مشاهد»٢٧١ وديكورات،٢٧٢ والواقع أنني أعتقد أنه بالتعمق في الدراسة في هذا الطريق، سنلاحظ أن عددًا لا بأس به من الرؤى «فوق الطبيعية» أو الجنِّية التي وصفها «رامبو»، يمكن أن نكتشف أصلها في العروض التي شاهدها في باريس أو لندن٢٧٣ (تبدو لي قصيدة «أزهار» — على سبيل المثال — الانتقالة الرفيعة لا للمشهد فحسب، بل لصالة المسرح: «مقعد ذهبي»، «حبال من حرير»، «غازات رمادية»، «قطيفة خضراء»، و«أسطوانات (نجف؟) من كريستال»).٢٧٤ وبالنسبة لخيال طفل، فالمشهد — بالتأكيد — هو المكان المفضل لعالم الجن: «عبره نصل إلى الخيالي، وموقعه موجود خارج عالمنا، وتعدد الديكورات المحتملة يفتح إمكانيات بلا حصر»، كما يكتب «إيتيومبل» عن حق تام.٢٧٥ يتمثل فن «رامبو» — إذن — في أنه عرف كيف يحافظ على دهشته الطفولية من العمل الذهني المجدب للكبار، الذي يقتل السحر بمساعدة «المفاهيم»، لكن تنبغي الإشارة، بشكل خاص، إلى مدى تجاوب سحر المسرح — الذي يجمع عناصر غريبة، وخيالية، ومتغربة، ترتبط معًا على خشبة المسرح، وتحت أضواء الكشافات، كرؤية مضاءة بكثافة، لكننا نعرف أنها مؤقتة وهاربة تمامًا — مع البُعد الفجائي والتركيبي ﻟ «رؤى» رامبو: «حلم باهر خاطف»، مثلما يقول هو نفسه،٢٧٦ «إشراقة» تنبثق أمامنا بقوة، لكن لوقت بالغ القصر (أكدت فيما سبق على سمة عدم استقرار هذه الرؤى)،٢٧٧ مشهد جني، عناصره متأهبة دائمًا للانفلات، فلا يمسكها معًا إلا بإرادة الشاعر الذي يقبض عليها — إذا جاز القول — تحت كشافه.٢٧٨ وانطلاقًا من ذلك، يمكننا أن نوافق على أن «رامبو» يسعى إلى استخدام هذا «السحر البورجوازي» الذي يكمن في الكوميديا٢٧٩ فيما يتخطاه: ومثلما تدخل الخوارق — التي رآها في المسرح — إلى عمله كوقائع جديدة وأكثر إبهارًا، فسنرى الواقع — بالمثل، بدوره — يتخذ مظهر الخوارق المسرحية. هكذا يمكننا أن نرى في «استعراض»٢٨٠ و«مدن–١»٢٨١  مونتاجًا مدهشًا للذكريات الحقيقية. وبشكل خاص، غالبًا ما يتم تقديم المشهد كديكور مسرح، حيث المستويات المختلفة مرتبة في أعلى لا في العمق: يمكن رؤية «بحيرة تصعد» على ديكور، مثلما يلاحظ «إتيومبل»،٢٨٢ إنه يتوافق مع ما نراه في المسرح، لا ما نعرف عن المشهد. وبالمثل، عندما يظهر البحر «فوق مستوى أعلى المرتفعات البحرية».٢٨٣
تكمن المقدرة الفائقة — هنا — في «نزع العقلنة» عن الرؤية. فرامبو، الذي ما تزال ملكات الطفولة لديه في عنفوانها، يمتلك هذه الموهبة الرائعة في القدرة على نسيان كل ما يعرف، وكل المفاهيم التي تعلمها، والتي قد تدخل بين عينيه واللوحة التي يقدمها له الواقع. ونعلم أنه في شارلفيل كان يهتف، إذا ما صدقنا «دلاهاي»: «يا له من عمل! لا بد من تقويضه كله، لا بد من محوه كله من رأسي!»، وأنه كان يحسد الطفل «المهجور في ركن من إحدى المنارات، وقد شب كيفما اتفق، وبلغ سن الرجولة، دون أن يغرس المعلمون أو الأسرة فكرةً واحدة في ذهنه: جديد، نظيف، بلا مبادئ ولا مفاهيم …».٢٨٤ ويلقي أيضًا — عن عمد — بنظرة جديدة على الأشياء، ويحترم «الأوهام البصرية التي تقوم بها نظرتنا الأولى»، مثل الانطباعيين، الذين تحدث عنهم «بروست».٢٨٥ وقد حاولت — في موضع آخر — أن أبين أن غرابة عالم يندمج فيه البحر والسماء،٢٨٦ ولم يعد العقل يتدخل فيه أبدًا لإقامة خطوط التحديد بين العناصر، إنما تأتي — في جانب منها — من هذه الرؤية «الانطباعية» لرامبو.٢٨٧ وسواء تعرض لتأثير التشكيليين الانطباعيين أم لا، فإن «رامبو» يقدم لنا — على أية حال، مثلهم — عالمًا «أُعيد خلقه»: إن شعره بنائي، لا بمعنى أنه ينسق وينظم ويطوع عناصره على مستويات مختلفة، لكن بمعنى أنه يراكمها، ويدخلها — عنوةً — الواحد في الآخر، ليقدم لنا «رؤيةً» مباشرة وتركيبية وليس وصفًا تعاقبيًّا — «لقطة» في كتلة هذه العناصر المتنوعة، مثلما يتداخل البحر والأرض،٢٨٨ وتجد القنوات نفسها «مشنوقةً خلف الشاليهات».٢٨٩
«إنه عالم أُعيدَ بناؤه. وهو ليس عالمًا متخيلًا ومختلفًا»، على ما يكتب — عن حق، تمامًا — «روشون»، مؤكدًا إلى أي مدى — أمام انسيابات وشفافيات الرؤى الحُلمية في «أوريليا»، مثلًا — تملك رؤى «مدن» و«رأس بحري» و«متروبوليتان»، «كثافة المادة ونبرة الواقع».٢٩٠ ومن السهل تبيان كل ما تدين به «إشراقات» إلى لندن أو غابات الآردن، ومن المحتمل تمامًا أن قصيدة «تصوف» قد استلهمها رامبو — على ما يفترض «أ. دوتيل» — من منحدر سكك حديدية.٢٩١ وهو ما لا يمنع أن في «إعادة التكوين» هذه للواقع، في هذه الرؤية التركيبية والتلسكوبية للعالم، ثمة شيئًا ذاتيًّا للغاية وإبداعيًّا، فرامبو يقود رؤيته ولا يخضع لها، وعندما يختار زوايا للرؤية غير متوقعة، عندما يقترب ويخلط المستويات المختلفة، فإنني أشبهه — عن طيب خاطر — بمصوري السينما الذين يطرحون علينا رؤيةً جديدة للعالم. وسواء ما إذا كان مسرحًا أم سينما، فالأمر يتعلق — دائمًا – بعالم أكثر حقيقية من الحقيقي، في آن، وأقل صلابة، وأقل ثباتًا، «إشراقة» ساطعة، لكنها غير مستمرة.
وأؤكد — هنا، عن قصد، مرةً أخرى — على آنيَّة الشعر الرامبودي، وهي كلمة تلائم، في آن، الاندغام الإعجازي الذي جعل (شعره) يستمر على مدى قرون كاملة، كما رأينا ذلك في لحظة من الحاضر («الحاضر هو زمن «رامبو» المفضل»،)٢٩٢ وإيجاز الرؤية، التي تتسم بالكثافة والانخطاف، والواقع أن هذه الخصائص المتمثلة في الاختصار والكثافة والإيجاز هي ثوابت قصيدة النثر، إلى حد أنها وحدها تكفي — تقريبًا — لتحديدها، ولأول مرة — مع «رامبو» — تنفصل قصيدة النثر عن النثر بطريقة لا سبيل إلى تغييرها، ولن نستطيع أن نلتقط من قصائد النثر — في «إشراقات» — كلمة واحدة بلا فائدة، ولا أيضًا كلمة تعليق أو توضيح. ما من شائبة ولا ابتذال، كأن ما يُقدَّم لا الشعر فحسب، بل النثر «المتعدد»: الكل ضروري، مفعم بالنسغ، ثري بالجوهر والإيحاء، ما من مرة تطول فيها القصيدة لتملأ إطارًا محددًا سلفًا: ستُختَزَل — مع ذلك — في «جُملة» واحدة، وفي جميع الحالات، تصل الكثافة والتركيز إلى حد أننا لا نستطيع الموافقة — مطلقًا — على حُكم الإدانة الذي أصدره «ماكس جاكوب»: «القصيدة هي شيء مبني وليس واجهة محل صائغ. ورامبو هو واجهة الصائغ، وليس الجوهرة: قصيدة النثر هي الجوهرة».٢٩٣ فأن تكون قصيدة النثر — بالنسبة للبارناسيين، مثلًا — جوهرة (مصقولةً ومتقنةً بعناية فائقة)، فهو ما أوافق عليه تمامًا، لكن القصيدة الرامبوية ليست الجوهرة، ولا الواجهة في حالة فوضى: إنها الماسة النقية («نثر من ماس»، كما قال «فيرلين»)، التي تتركز فيها روعة النهار.
وعلينا أن نضيف أن أعمال «رامبو» — بقدر ما هي ليست بفوضى وتشتت — فهي ليست التطبيق الصارم ﻟ «نظام» بنائي يسمح بالعثور — في كل قصيدة — على نفس المخطط، مثلما أكد مؤخرًا «ج. جينو».٢٩٤ فهذه المرة، لم يعد الأمر يتعلق بواجهة صائغ، بل ببقالة مرتبة جيدًا: الدرج A للأسود، والسخونة، والخمول، والجُبن الجريير (!)، والدرج E، للأبيض، والماء، وكل ما هو مدهش ومؤنث … إلخ، فلنقل — فحسب — إن من المدهش أن يريد أحد العثور، بأي ثمن، في كل قصيدة من «إشراقات»، على «جدلية الجُمل الخمس»، عندما نرى تنوع موضوعاتها وبنياتها (لا وجه للمقارنة بينها وبين مقاطع «أ. برتران» السبعة). وإذا ما كانت عقلية «رامبو» — بطبيعتها — تركيبية، فلا يعني ذلك أنه أعد كل شعره «انطلاقًا من مخطط جدلي في التوافقات والتعادلات الرمزية»،٢٩٥ بل إن شعره — بالأحرى — يسعى إلى القبض على الواقعي في كُلِّيته، وأن يصنع تركيبةً من عناصره المتعددة في قصائد شديدة الكثافة والتعقيد في آنٍ ومن هنا، يكشف «رامبو» عن نزوع أساسي إلى الرمزية.٢٩٦

يتبقى لنا أن نرى كيف أن إرادة التركيب والتركيز هذه — عند تطبيقها على لغة النثر — تجعل منها أداةً جديدة، وتشحنها — إذا شئنا — بطاقة شعرية كامنة، مجهولة حتى ذلك الحين.

خلق لغة شعرية

يشير لنا «رامبو» نفسه إلى الطريق بإصبعه: «هذه اللغة (على ما يقول عام ١٨٧١م، عن اللغة الشعرية) ستكون من الروح إلى الروح، تلخص كل شيء، الروائح والأصوات والألوان، والفكر الذي يعلَق بالفكر ويجتذبه».٢٩٧ ومن هذه الكلمات، نرى أي شاغل تركيبي يسود — بدءًا من نقطة الانطلاق — محاولته لخلق لغة شعرية جديدة، سيجد فيها الواقعي نفسه محاصرًا وملخَّصًا، إلى حد أنها ستنحو إلى أن تصبح في قمة الاكتمال، «لغة عالمية».٢٩٨ و«رامبو» الذي يستلهم «بودلير» بشكل واضح («الروائح، والألوان والأصوات تتجاوب»)، سيبذل قصارى جهده — كما نعتقد — لخلق كلمة شعرية بالغة الثراء، تمتزج فيها كل عناصر الواقع:

في وحدة غامضة وعميقة.

وعندما نقرأ — بعد هذا — الأسطر التي يخصصها، في «فصل في الجحيم»، لمحاولته «خيمياء الكلمة»، نرى مشروع الرائي يتقلص بغرابة:

كنتُ أخترع لون الحروف المتحركة! – A أسود، E أبيض، I أحمر، O أزرق، U أخضر. كنت أضبط شكل كل حرف ساكن وحركته، وبإيقاعات غريزية، كنتُ أزهو باختراع كلمة شعرية تناسب، ذات يوم أو آخر، كلَّ المعاني. واحتفظت لنفسي بالتفسير.٢٩٩
أينبغي أن نعتقد — إذن — أن «رامبو» قد اقتصر على بحث «التوزيع الموسيقي اللفظي»، مثلما سيفعل فيما بعد «رينيه غيل»،٣٠٠ وتنظيم ألحان كورس الحروف المتحركة التي يرتبط كلٌّ منها بلون، بصوت، بشعور ما؟ الواقع أنه — رغم الأبحاث التي جرت في هذا المجال — فلم يتم التمكن — أبدًا — من التوصل إلى التوافقات المشار إليها في سوناتا «حروف متحركة»:٣٠١ في هذا الصدد، سيكون النثر أكثر إحباطًا — أيضًا — من الشعر، وثمة سبب وجيه لذلك: فرامبو — عندما يذكر في «خيمياء الكلمة» حكاية «إحدى جنوناته» — فإنه يتحدث بإحباط عن محاولاته السابقة، دون أن تكون لديه — بالتأكيد — النية في القيام بمحاولات جديدة في نفس الاتجاه، والقصائد التي سيكتبها فيما بعد (أي غالبية «إشراقات» تقريبًا) لا تكشف — وهو ما نستطيع أن نتوقعه — عن أي انشغال ﺑ «لون الحروف المتحركة». وذلك من حسن الحظ؛ إذ إن «رامبو» كان سيتقلص إلى حركات أكروباتية عقيمة للكفاح ضد هذا «الانحراف» للغة الفرنسية، الذي يتحدث عنه «مالارميه»،٣٠٢ والذي يجعل — مثلًا — حرف I غير موجود في كلمة أحمر، أو O في كلمة أزرق، وU في كلمة أخضر
والأكثر إمتاعًا أن نتساءل إلى أي مدًى تحقق «إشراقات» هذه اللغة التي «تلخص كل شيء، الروائح والأصوات والألوان»، التي يتحدث عنها «خطاب الرائي». إن التداعيات التلقائية — التي استعار «رامبو» فكرتها، بالتأكيد، من «بودلير»٣٠٣ — ليست تداعيات عشوائية، إلى هذا الحد أو ذاك، عن انطباعات ناشئة من أحاسيس مختلفة، تداعيات ربما استطاع «رامبو» العثور عليها، بعد «بودلير»، لدى مؤلفين يعرفهم جيدًا، مثل «روسو»٣٠٤ و«فرجيل»،٣٠٥ وقد سبق لدواوين «فيرلين» الأولى أن قدمت عدة أمثلة منها،٣٠٦ فهي (اﻟ «إشراقات») — في أساسها — جهد للوصول، حسبما يكتب «ج. بلان»، إلى النقطة التي منها «لا تأتي الحواس بشواهد متراصة، لكنها تُنتج — بلا جهد — وحدة منظور للموضوع».٣٠٧ إنه نسق في التركيب — إذن — يستخدمه «رامبو» بالطريقة الأكثر تركيبية، أعني بالاستخدام المنهجي للاستعارة، لا للتشبيه، التي تدمج — في واقعة واحدة فحسب — الواقعتين المذكورتين، وقد قدَّم «إيتيومبل» و«ياسو جو كلير» عدة أمثلة — وبشكل كافٍ — على هذه الاستعارات المتداعية (التي تنبثق في كل سطر)، لذا، فلا يفيد أن نكرر نفس العمل.٣٠٨ وعلينا — فحسب — ملاحظة حدة وحيوية التعبيرات، مثل: «إنه يدق جرسًا من نار وردية في السحب»،٣٠٩ و«دوائر موسيقى صماء»،٣١٠ و«عطور أرجوانية لشمس القطبين».٣١١ فعالم «رامبو» — كما يكتب «إيتيومبل» — «يفرض نفسه بقوة الإدراكات الحسية الظاهرة، ويعرض نفسه لكل المعاني — في آن — لا بالقصور الذاتي للصور المنقوشة».٣١٢ فالأمر يتعلق — فعلًا — بعالم يُعاد خلقُه، من خلال تداعيات غير متوقعة، وغريبة (أحيانًا ما تقبل التفسير انطلاقًا من الأشياء الواقعية، لكن ليس دائمًا)،٣١٣ وتمنحنا الشعور بالجديد والمجهول. وهكذا، فإن «رامبو»، الذي كان يلوم الشعراء الفرنسيين بشراسة على زهورهم وزنابقهم الأبدية:
من غاباتكم ومن مراعيكم،
أيها المصورون الوديعون للغاية،
النباتات متنوعة فيما يشبه
تقريبًا سدادات دورق!٣١٤
لم يخترع، في الحقيقة، «زهورًا جديدة»،٣١٥ بحصر المعنى، في «إشراقات». لكن الانطباع — بزهور جديدة، مجهولة — تمنحه التداعيات غير المتوقعة لكلمات تستدعي «الغائب من الباقات»،٣١٦ و«أزهار حلم تدق، تنفجر، تضيء»،٣١٧ و«أزهار سحرية كانت تطن»،٣١٨ و«أضاميم من أزهار كبيرة، مثل أذرعتنا ورءوسنا، تخور»،٣١٩ و«أزهار دافئة».٣٢٠ ومن الشائق أن نلاحظ — في هذا الصدد — أن «رامبو» الذي طالب الشاعر — عام ١٨٧١م — باختراع:
أزهار من أحجار تقريبًا، شهيرة!٣٢١
مدمجًا بذلك — مثل «بودلير» — النباتي بالمعدني،٣٢٢ يجمع — هو، أيضًا — الجواهر بالأزهار في «إشراقات»، لكن مع فارق أن ما يحدث لدى «بودلير» هو أن الواحدة والأخرى — التي نُفِخَت فيها الحياة — تنظر وتتحدث:
آه! الأحجار الكريمة المختبئة، – الأزهار التي كانت تنظر.٣٢٣
نظرت الأحجار … كان المشروع الأول، في الممر الممتلئ بالتماعات غامضة وشاحبة، زهرةً تبوح لي باسمها.٣٢٤
وذلك ما يقودنا إلى الحديث عن «إحيائية» رامبو. ففي شعره، ثمة حقًّا:
لغة الأزهار والأشياء الصامتة٣٢٥
لا كنسق في الأسلوب فحسب — كما يبدو — لكن، أيضًا، كنتيجة إيمان عميق بالحياة الموضوعية للأشياء (الشبيه ﺑ «فيثاغورية» هوجو أو نرفال): «روح صافية تنمو تحت قشرة الأحجار».٣٢٦ وسيحدثنا «رامبو» عن «انفجارات إتنا الرخوة»،٣٢٧ عن «الزهور الشرسة»٣٢٨ و«العطور المتلاشية».٣٢٩ وتحت سن قلمه، ستعثر الأشياء الجامدة على روح، وتستعيد الحياة والحركة: الأحجار الكريمة تختبئ، والمنافذ «تهدر متناغمة»، والسماء «تنثني وتتراجع، وتهبط»:٣٣٠ كل الكون متحول ويصبح ذا روح.
وامتزاج الملموس والمجرد — عدا ذلك — دائم لدى «رامبو»، وأحيانًا ما يرينا مجردات في حالة حركة، «فكرة الطوفان» التي «استقرت»،٣٣١ والصمت «المتلاطم بشراسة»،٣٣٢ وأحيانًا ما يضع الملموس والمجرد على نفس المستوى، كما لو أنهما حقيقة واحدة: «أيتها المياه والأحزان، تصاعدي وأكملي الطَّوَافين»،٣٣٣ «سماء العاصفة وآيات النشوة».٣٣٤ وأحيانًا (مثل «بودلير» عندما يتحدث عن «سماء مأساوية»،٣٣٥ و«فيرلين» عن «لازورد صموت»،٣٣٦ ولكن بجرأة» أكبر بكثير) يمنح الكائنات المادية صفات مجردة: دواب «رشاقتها خرافية»،٣٣٧ نظرات «تمتلئ بالمزارات».٣٣٨ ويصل به الأمر إلى حد أن يكتب: «السور أمام السهران سلسلة نفسية متوالية من أجزاء أفاريز، وأشرطة جوية، وحوادث جيولوجية»،٣٣٩ وكأن ورق الحائط نفسه يصبح حيًّا تحت عينيه.
وموقف «رامبو» — هنا — هو، في آن، موقف فنان يسعى إلى خلق تعبيرات جديدة، مكثفة وتركيبية (وهو انشغال ظاهر على امتداد «إشراقات»)، وموقف مُريد لبودلير (هل يجب أن نقول موقف صوفي؟) يرى في العالم «كُليةً مركبة لا تنقسم».٣٤٠ وقد رأينا أية تجاوبات يقيمها «بودلير» — باستمرار — بين المادي والروحي، بين الإنسان والبحر، بين المشهد الهولندي والمرأة التي تتوجه إليها «دعوة إلى السفر». هل يمكن أن نجد لدى «رامبو» رمزيةً مماثلة؟ يبدو من المستحيل أن نوافق — مع «جينو» — على أن كل عنصر من الواقع ذو دلالة لديه على شيء آخر، وعلى أن كل قصيدة لها مفتاحها القياسي ومعناها المزدوج، ولكن بين من لا يريدون أن يروا في «إشراقات» سوى فوضى للمظاهر، وصور لا تهدف إلا إلى لألأة الألوان أمام عيوننا، أولئك الذين يجعلون منها كتابةً شعرية وتجميعًا حاذقًا من كلمات جوهرية، يبدو أن ثمة مكانًا لتفسير يأخذ بالاعتبار — بشكل أفضل — الشروط الحقيقية للإبداع الشعري، بالاستناد إلى الميل الدائم للشعر الرامبوي إلى التركيب والتركيز، ونتخيل عبر أية عملية استطاع «رامبو» التوصل إلى تكثيف مجموعة كاملة من الإيحاءات في كلمة واحدة، ليجعلها تقول أكثر بكثير مما تقول: وهو ميل طبيعي — فضلًا عن ذلك — لدى الشعراء الذين ينتهي بهم المطاف إلى خلق «رمزية» خاصة بكل منهم (يعرف الجميع بأية ظلال عاطفية يثري «فيكتور هوجو» الكلمات أصهب، أسود، فزع). وكي نكتفي بمثال واحد، فإن كلمة «نخيل» تقترن — في «إشراقات» — بأفكار التفوق، والمَلَكية المادية والروحية، من خلال استعارة — على أية حال — مألوفة.٣٤١ في قصيدة «ملَكية»، «رجل وامرأة رائعان»، يتقدمان وقد أصبحا ملكين «في اتجاه بساتين النخيل».٣٤٢ والأقل شيوعًا هو رؤية هذه الكلمة المستخدمة بطريقة تعجبية (ومقترنة بكلمة ذات رمزية قياسية، ماس)، متخذةً قوةً تعبيريةً بالغة إلى حد تفجر أفكار الانتصار، والملَكية، والحماس الغنائي بطاقة لا يمكن أن تصل إليها جملة مركبة:
أيا نخيل! يا ماس! — يا حُب، يا قُوة! — أعلَى من كُل الأفراح والأمجاد!٣٤٣
وثمة ملحوظة أخرى هامة: فلدى كل كاتب صور يستدعي بعضُها البعض بالتبادل، وتظهر مجمعةً وهي تدور حول بعض الأفكار المسيطرة — (وهو ما يسميه «مورون» ﺑ «الاستعارات الملحة»، التي يقدم — كمثال لها، لدى «مالارميه» — العلاقة «زهرة – لازورد – طفولة»، المرتبطة بفكرة الفردوس المفقود)٣٤٤ — بحيث تحدد التداعيات ذات المظهر الاعتباطي، غالبًا، الشكل العميق لشواغله الخفية: هكذا نجد لدى «رامبو» الامتزاج الحاد والمتكرر بين النار والجليد (أو النار والماء)، الذي يبدو رمزًا جيدًا لنزعته في خلط العناصر المتناقضة، ولرد ثنائية المادة — بقدرة الذهن — إلى الوحدة.٣٤٥ ولا يقل عنه غرابة الربط بين النار والطين، اللذين يبدوان مرتبطين باستدعاء المدينة الكبيرة، مثل لازمة حقيقية: «مدينة هائلة ذات سماء ملطخة بالنار والطين».٣٤٦ «الطين أحمر وأسود. مدينة وحشية، ليل بلا نهاية!»٣٤٧ والعواصم الحقيقية التي تسكع فيها (تخطر لندن ببالي، وخاصة ضبابها وأبعادها الساحقة التي أذهلت «فيرلين» و«رامبو») — بأضوائها التي يعكسها الطين، وربما أيضًا عربداتها المتوهجة٣٤٨ — تناقض اﻟ «مدن» التي يشيدها بطريقة مثالية، من الجليد والكريستال.

وإذا ما كنتُ أُلح طويلًا على القيمة التركيبية والإيحائية للمفردات الرامبوية، فذلك لأن «رامبو»، وهو يدون «رؤى» (أشكال، ألوان، حركات)، إنما ينطلق — فعلًا — من الكلمات ويمنح الكلمات الأولوية والدور الرئيسي (أكثر من المعنى العام للجملة)، طبقًا لنمط تأليف شعري خاص، وفي حين أن الكلمات — في النثر الاستدلالي — لا تعدو أن تكون أوتادًا للفكرة، التي تجري من واحدٍ إلى آخر، فإن الجملة كلها — هنا — تنتظم بطريقة تبرز بعض الكلمات الأساسية، وخاصة الأسماء، المفعمة والموحية بذاتها دون احتياج إلى أي تعليق. فعندما يكتب «رامبو»:

إنه الصَّديق لا محتدمًا ولا واهيًا، الصديق.
إنها الحبيبة لا معذَّبة ولا معذِّبة. الحبيبة.٣٤٩
ألا يجعلنا ندرك أن الاسم، المستخدم في انعزال — في مفهومه الأكثر اكتمالًا — أكثر ثراءً والأكثر امتلاءً بالاحتمالات مما لو حددناه بالصفات، عندئذٍ، يصبح الاسم — أحيانًا — المحور الذي تدور حوله الجملة — (من خلال عملية تكرار) — كما يحدث بالنسبة لكلمتي «صوت» و«بحر»:
تعلَّقي بنا بصوتك المستحيل، صوتك! المتملِّق الوحيد لهذا اليأس الحقير.٣٥٠
فوق مستوى أعلى الذُّرى، بحر مضطرب بالميلاد الأبدي لفينوس، محمَّل بأساطيل موسيقية، وضجيج اللآلئ والأصداف النفيسة، — يعتم البحر أحيانًا بومضات قاتلة.٣٥١
وأحيانًا نتيجة قَطع بكامله، وتوليف سلسلة كاملة من الإيحاءات:
من صحراء القار تهرب على خطٍّ مستقيم مدحورةً مع غُلَالات الضباب المتدرجة في شرائط كريهة إلى السماء التي تعاود الانحناء، تتراجع وتهبط مجبولةً من أتعس دخان أسود يمكن أن يصنعه محيطٌ في حداد، الخوذات، العجلات، القوارب، الأرداف — المعركة!٣٥٢
ونصل — هنا — إلى ما قُلته عن البناء من خلال التجاور: وبالفعل اتخذت الكلمات — الموحية بالصور — أهميةً على حساب التفكير المنطقي، كلما أصبح من الواجب تحريرها من متطلبات التركيب، ومنحها استقلالها. وقد ذكرتُ من قبل فقرةً دالة من قصيدة «متروبوليتان»، مجردةً تمامًا من الأفعال.٣٥٣ ويحدث أن يذهب «رامبو» إلى أبعد من ذلك أيضًا، فيُعَرِّي الجملة لصالح الاسم، وتختفي كل المحددات، ونصل إلى الجملة التعجبية: «يا نخيل! يا ماس!»٣٥٤ «أيا عذوبة، يا عالم، يا موسيقي!»٣٥٥ أو بشكل أكثر غرابة: «أيا فرسان وطواحين الصحراء، أيتها الجزر والرَّحى»،٣٥٦ التي تنجح في الإيحاء بكل رحابة مشهد معزول من خلال تعداد بسيط. فالكلمات — وقد استعادت كل قوتها الإيحائية — يكفي لها أن تُسمِّي الأشياء كي ينهض كلٌّ منهم فاتحًا أمام عيوننا كل باقة الصور والمشاعر، والأفكار التي كانت مسجونةً فيه.
ولا ينبغي — رغم هذا — أن نستنتج أن «إشراقات» ليست إلَّا ألعابًا ناريةً بالكلمات، تنبثق — صدفةً — بشكل متتالٍ، وينبغي تصحيح الانطباع الأول بالفوضوية الناجمة من هذا الأسلوب في «السرد»، بأن نلاحظ إلى أيِّ حدٍّ — في هذا النثر — «تعمل» كل كلمة وتلعب دورها: أولًا بأن تساهم في الإيحاء الكلي، المرتبط بأداءات أخرى، فلا يوجد عنصر بلا فائدة، في هذه الجمل المختزلة إلى الحد الأساسي (وهكذا في جملة قصيدة «طفولة–٢» — المذكورة فيما سبق — التي تندرج في كُلٍّ يتبارى فيه كل شيء للإيحاء بالعزلة والهجران: «تصعد الحقول إلى النجوع بلا ديكة، بلا سنادين. ارتفع هويس القناة. أيا فرسان وطواحين الصحراء، أيتها الجُزر والرَّحَى!») ثم تساهم — بموقعها في الجملة — في إنتاج مؤثرات إيقاعية معينة، فجملة «رامبو» ليست تناثرًا خالصًا وبسيطًا للكلمات: إنها تمتلك قوانينها وضروراتها الداخلية، لكنها ليست قوانين وضرورات النسق الخطابي أو الاستدلالي، أو النثر «الغزير»، ولا بد من الحديث — هنا — من خلال التقابل مع «النثر الشعري»، حيث يسود العدد والانسجام والأسلوب الدوري لنثر إيقاعي، وهنا، يتجلى «رامبو» أستاذًا.
وبعد انطلاقه — كما رأينا — من البحر السكندري الكلاسيكي الكبير، أخذ يتحرر، تدريجيًّا، من «الشكل المربَّع» والعروضي، متخذًا منحًى يمر عبر «أغنيات» عام ١٨٧٢م، وصولًا إلى «الشعر الحر» في «إشراقات» (بحرية وحركة)، وانتهاءً بالنثر، ونراه — بشكل متوازٍ — يخلق لنفسه لعبةً جديدة من «الثوابت الإيقاعية»، من خلال توليفات السجع وتنافر الأصوات، والمجموعات النحوية، والنبرات والوقفات الموزعة، بشكل حر وبارع للغاية، في آن.٣٥٧ فنثر «إشراقات» شديد الحرية، فوضوي، حتى بذلك المعنى الخاص الذي يعني أنه لا يخضع أبدًا — (مثلما لدى «آلويزيوس برتران») — إلى ضرورات «قالب» واحد، وأنه يقلل من شأن كل «القواعد» الأسلوبية، ويبدو — أحيانًا — أنه يستمتع بصدم آذاننا التي اعتادت على «شاتوبريان» و«فلوبير»، وعلى «انسجام» و«هدهدة» الجملة. ولن تقودنا الدراسات في الإيقاع الحسابي والنبري إلى أبعد من ذلك، هنا: فبعدما نلتقي — في قصيدة «متشردان» — بهذا البحر السكندري: «كنا نهيم مشبعين بنبيذ الكهوف وبسكويت الطريق، وأنا متلهف على إيجاد المكان والصيغة»،٣٥٨ تكون دهشتنا من وجود هذه المقاطع اللفظية الاثني عشر أقل من دهشتنا إزاء إيجاز العبارة، الشديدة الحيوية والكثافة، إلى حد أن نكون مجبرين على رصد خمس نبرات في هذا الجزء من الجملة: «وأنا متلهف على إيجاد المكان والصيغة Moi pressé de trouver le lieu et la formule». وفي الواقع، فإن إيقاع هذا النثر — حتى إذا ما كشف، من بعض الجوانب، عن نفس اتجاهات نثر «هوجو»،٣٥٩ وبشكل خاص «برتران» — لهو إيقاع أصيل للغاية. وقد أحس «رامبو» — مثل «هوجو» و«برتران» — بضرورة أن يُدخل، على النثر، تماثلات أقل اصطناعًا من التماثلات العروضية، وأكثر تنوعًا، لكنها خالقة — أيضًا — للإيقاعات، سواء تعلق الأمر بالتماثلات النحوية أو الصوتية، أو — حتى، بشكل أكثر ندرة — الحسابية (متشابهة المقاطع). لكن، فيما يراكم «هوجو» سلاسل من التماثلات «الثلاثية» في أنساق واسعة تلائم عبقريته الخطابية، يسعى «برتران» و«رامبو» إلى خلق تكرارية إيقاعية، داخل قصيدة قصيرة أو فقرة موجزة، من خلال تماثلات محددة، وأيضًا واضحة، وغالبًا من خلال الشَّرطة. يقول «برتران»، على سبيل المثال:
وكنتُ أتساءل ما إذا كنتُ سهرانَ أم نائمًا، — ما إذا كان هذا هو شحوب القمر أم «لوسيفير»، — ما إذا كان منتصف الليل أم مطلع الفجر!٣٦٠
(تماثل مزدوج، وكل جزء من الثلاثية — هو نفسه — منقسم)، أو حتى:
وصلَّيت، وأحببت، وأنشدت، شاعرًا فقيرًا ومعذَّبًا!٣٦١
(تماثل نحوي وصوتي (ثلاث كلمات تنتهي ﺑ é) وحسابي). وفضلًا عن ذلك، فهو يعمم هذه القصدية في التماثل — كما رأينا — على القصيدة كلها:٣٦٢ وهكذا، فإن كُلًّا من الأفعال — «يصلِّي»، «يُحب»، «يغنِّي»، في المثال الثاني — يستعيد موضوع أحد المقاطع السابقة (المتماثلة هي نفسها):
لا، الله (…) لا أبدًا …
لا، الحُب (…) لا أبدًا …
لا، المجد (…) لا يكون …
ويكمن ضرر نظام كهذا في أنه سرعان ما يصبح مصطنعًا وآليًّا، ويفرض على الذهن الشعري قالبًا جاهزًا، في نفس تصلب النظم، وتفوق «رامبو» يكمن — بالتحديد — في الاستخدام الأكثر حرية بكثير والأكثر تعقيدًا لهذه التماثلات الإيقاعية. وها هو مثال للتجميع الثنائي — «مرهف الحساسية»، كما يقول «روشون»٣٦٣ — لكن شديد التنوع رغم هذا، حيث يتوحد التماثل النحوي بالاتساع المتزايد ثم المتناقص للمجموعات:
فلتنبجس، أيها المستنقع، ولتتدحرج أيها الزَّبَد على الجسر وفوق الغابة — أيتها الملاءات السوداء والأراغن، يا بروق ويا رعود انهضي وتدحرجي، — أيتها المياه والأحزان، تصاعدي وأكملي الطَّوَافين.٣٦٤
وفي هذا المثال الآخر، تجد لعبة التماثلات نفسها — فجأةً — وقد انقطعت بتدفق آخر جزء من الجملة:
أن نتدحرج في الجراح، عبر الهواء المُضني والبحر، في العذابات، – عبر صمت المياه والهواء القاتلين، في العذابات التي تضحك، في صمتها المتلاطم بشراسة.٣٦٥
وعلينا أن نضيف أن «برتران» — فيما يقوم بالتقسيم، بشكل منتظم، والتوزيع طبقًا لنظام تحليلي — فإن «رامبو» يؤلف بفن أكثر تركيبية، وغالبًا ما ينجح في أن يمنحنا هذا الانطباع بالكلية التي يهدف إليها كل نثره: مثلًا، في نهاية «عبقرية»، عندما يوازن الكتل النحوية من الجهتين في جملة متلاحقة (هي التي أؤكد عليها):
فلنعرف، في هذه الليلة الشتائية، من رأس بحري إلى رأس بحري، من القُطب الصاخب إلى القصر، من الحشد إلى الشاطئ، من النظرات إلى النظرات بقوى ومشاعر منهكة، أن نناديه ونراه ونستعيده، وتحت الموج وأعلى صحاري الجليد، أن نتبع نظراته – أنفاسه – جسده، – نهاره.٣٦٦
لكن براعة «رامبو» تتجلَّى — أساسًا — عندما يجمع التماثلات النحوية مع التماثلات الصوتية، التي تتمتع — في نثره — بتعقيد وثراء بلا مثيل، فالسجع البسيط الذي استخدمه في «أغنيات» — عن وعي — ما يزال يتكرر في نثره، مثلما في نهاية «أمسيات–١»:
– أكان هذا إذن؟ (ccci)
– والحلم يترعرع (frichit).٣٦٧
وبالمثل، نقرأ في «جُمل»:
عندما نكون أقوياء جدًّا، — مَن يتراجع؟ في غاية المرح، — مَن الذي سقط من السخرية.٣٦٨
وفي «متروبوليتان»، هذه الجملة المدهشة، حيث يبدو أن نوعًا من الجنون اللفظي يستثير — بشكل لا يُقَاوَم — اختيار الكلمات المتماثلة صوتيًّا: الكلمات المتماثلة صوتيًّا:
… les atroces fleurs qu’on appellerait cœurs et sœurs, Damas damnant de longueur.
… الأزهار الشرسة التي سندعوها القلوب والأخوات، دمشق الهالكة من الخمول.٣٦٩
ويحدث — على أية حال — أن يكرر «رامبو» نفس الكلمة للحصول على تأثير القافية (مثلما فعل «فيرلين» في أشعاره):
ذات مساء، كان يركض في خيلاء. ظهر جني يفوق جمالُه الوصف، بل لا يمكن البوح به. ومن محياه ومن هيئته كان ينبثق الوعد بحب متعدد ومركَّب! بسعادة لا تُقال، بل تفوق الاحتمال!٣٧٠
بل يحدث أن يبني جملةً على قافية مزدوجة:
Sa solitude est la mécanique érotique; sa lassitude, la dynamique amoureuse.
عزلته هي الآلية الشبقية، وضجره، الدينامية العاطفية.٣٧١
لكن هذا النسق في السجع، الذي ينحو إلى خلق مؤثرات الاستعادة في نهاية أجزاء الجُمل، ويعلن عن الشعر الحر، يبدو بدائيًّا حقًّا أمام التوازنات الصوتية الأكثر براعة التي يقيمها «رامبو»، «إن مبدأ «القافية الداخلية»، والتوافق المسيطر، الذي وضعه باسكال، قد تطور — بثراء دون نظير — في التنغيمات والحلول»، على ما يكتب «كلوديل» عن النثر الرامبوي.٣٧٢ وبالإضافة إلى التماثل الصوتي في البداية، الذي يشكل نوعًا من القافية المعكوسة: Les Sodomes et les Solymes،٣٧٣gazes grises … velours verts،٣٧٤ فكثيرًا ما نجد جملةً أو فقرةً مبنية بكاملها على اللعب المعقد بالتوافقات والإصاتات التي تتجاوب، وهكذا، ففي جملة قصيدة «ضيق أليم Angoisse» المذكورة في الصفحة السابقة، نجد — في آن — السجع blessures – tortures، وتكرار كلمات air وsilence، والتماثل الصوتي في supplices – silences، ولعبًا بارعًا بالسَّجع والمحارفات التي تخلق علاقةً بين air وmer وبين rouler وhouleux، فيما يتضاعف عدد الحروف الصامتة r وi وs على طول المقطع، وليس ذلك سوى مثال، ويمكننا القيام بدراسة مشابهة — إلى حدٍّ ما — لأي نص من «إشراقات». وهكذا، يذكر «ريفيير» — كمثال على توظيف «الحرف O، المستخدم بالتناوب في كل تنويعاته الصوتية» — هذا المقطع من «ليلية مبتذلة»:
Ici va-t-on siffler pour l’orage et les sodomes et les bêtes féroces et les armées.
(–Postillon et bêtes de songe reprendront-ils sous les plus suffocantes futaies, pour m’enfoncer jusqu’aux yeux dans la source de soie?)
Et nous envoyer, fouettés à travers les eaux clapotantes et les boissons répandues, rouler sur l’aboi des dogues٣٧٥٣٧٦
ويرى فيها — بالأساس — نسقًا موسيقيًّا: «يعرف رامبو الذبذبة الخاصة بكل حرف متحرك، وهو يستخدم كل حرف كعلامة ويكتب تناغمات».٣٧٧ وخلافًا لبرتران، يلجأ «رامبو» — إلى حدٍّ ما، في الواقع — إلى المحارفات المسماة «تعبيرية»، لكنه يستخدم — باستمرار — الاستعادات الصوتية باعتبارها نسقًا توافقيًّا ونسقًا إيقاعيًّا في آن، وكي يمنح جملته — أيضًا — حبكةً أكثر توترًا ووحدةً أكبر.
إنه أيضًا الميل نحو الإيجاز — (الذي رأيناه يتبدى باستمرار في «إشراقات») — الذي سيمنح إيقاع هذا النثر طابعين مميزين. الأول، هو تعدد النبرات، من خلال حذف كل الأجزاء المحايدة من الجملة، فلا يبقى سوى الكلمات الدالة وحدها: ثمة إذن خمس نبرات في: «أيا فرسان وطواحين الصحراء، أيتها الجُزر والرَّحى»،٣٧٨ وثمة ست نبرات في جملة: «وهنا، الأشكال والعرق، والشَّعر والعيون، طافية».٣٧٩ واقعة مميزة، عندما نرى تجارب «ج. لوت» و«ر. دي سوزا» وهي تقودهما إلى تسجيل أن «من النثر إلى النَّظم يتجه الإيقاع إلى الإيجاز. تتقارب النبرات، دون عودة أبدًا إلى المسافات المنتظمة بشكل مطلق. وتصبح الجملة أكثر تركيزًا وتوترًا. ويختفي كل ما هو غير مفيد أو شديد الحياد».٣٨٠ وهكذا، فإن هذا الإيجاز في الإيقاع، الذي يصاحب هذا الإيجاز في الجملة، هو طابع شعري صرف، وستُتاح لنا الفرصة لنرى أن القصائد القصيرة والقصائد التحررية libristes ستكون وسيلةً لزيادة عدد النبرات.٣٨١
وفي المقام الثاني، وبعيدًا عن البحث عن «الإيقاع الأكبر cadence majeure» المتكرر بكثرة في النثر الفرنسي٣٨٢ — وبفضله يتجه الإيقاع نحو الاتساع — فإن الجملة الرامبوية تنتظم في كتل غير متزايدة، بل متناقصة، تنتهي — غالبًا — بأجزاء موجزة للغاية. وقد سبق أن رأينا مثالًا مميزًا في «متروبوليتان»، وها هو مثال آخر من «ليليَّة مبتذلة»:٣٨٣
في عيب بأعلى المرآة على اليمين تحوم صور قمرية شاحبة، وأوراق، وأثداء.٣٨٤
هذه الخاتمة المفاجئة، المختلفة تمامًا عن الأجزاء الأخيرة الأثيرة لدى النثر الإيقاعي وغزارته التناغمية، تلفت انتباهنا هنا، وتركزه على كلمات الختام الموجزة: فكل قوة الجملة ترجع إليها (بالإضافة إلى أننا مجبرون على تحميل عدة نبرات متتالية على هذه الكلمات الموجزة: «قمرية، أوراق، أثداء»، «رحيل في المحبة والصوت الجديدين»).٣٨٥ فمن خلال تركيب مشابه، يركز «رامبو» الاهتمام على الأفعال، في هذا النص من «جُمل»، المركب بطريقة تماثلية، حيث تقود كل فقرة إلى جملة رئيسية موجزة:

عندما سيُختَصَر العالم إلى غابة سوداء واحدة لعيوننا الأربع المندهشة — إلى شاطئ لطفلين مخلصين، — إلى منزل موسيقي لمحبتنا الصافية المضيئة — سأجدكم.

ألا يوجد هنا في الأسفل سوى عجوز وحيد، هادئ وجميل يحوطه «ترف غير مسموع» — وسأتدله بكم.

أن أكون قد حققت كل ذكرياتكم، – أن أكون من يعرف تقييدكم، — سأخنقكم.٣٨٦
ولنضف أنه إذا ما تأملنا المقطع في مجمله، فسنلاحظ — هذه المرة — أن الفقرات، هي أيضًا، ذات أطوال متناقصة، وأن «رامبو» ينهي القصيدة ﺑ «مقطع» موجز، حيث تسود أفعال الحركة، وقد سبق أن ذكرت ولع «رامبو» بالنهايات السريعة المتنافرة: «قادمًا من الأزل، ستذهب إلى كل مكان»،٣٨٧ «عند الاستيقاظ كانت الظهيرة»،٣٨٨ «ها هو زمن القتلة»:٣٨٩ اللافت للنظر أن هذه النهايات الشديدة التركيز والبالغة الغموض غالبًا، بدلًا من أن «تقفل» القصيدة نهائيًّا، فإنها توسِّع — على العكس — من الأفق، وتطيل الرنين الإيحائي إلى أبعد من النقطة النهائية: أية حقبة فسيحة ستمنحنا الإحساس بالفضاء بشكل أفضل من هذه الكلمات الثلاث الموجزة التي توازن أجزاء الجملة الثلاثة في قصيدة من سطرين: «مددتُ حبالًا من قبة ناقوس إلى قبة ناقوس، وأكاليل من شباك إلى شباك، وسلاسل ذهب من نجمة إلى نجمة، وها أنا ذا أرقص».٣٩٠ ويتمكن «رامبو» — من خلال الإيقاع، كما بالمفردات — من أن يقول الأكثر بالأقل، وأن يأسر — في بضع كلمات، وبكيفية استخدامه لها، وبالمكانة التي يمنحها لها — عالمًا بكامله من الإيحاءات.

وهو يمنح النثر طاقةً شعريةً مجهولةً فيما قبله: من خلال التركيز الذي يفرضه عليه، وبالطريقة التي يكونه بها، وبالطاقة الإيحائية والإيقاعية التي يمنحها له، يصنع منه — حقًّا — أداة شعر جديد. وعلينا — كختامة — أن نؤكد على أهمية اللغة الشعرية الجديدة التي خُلِقَت بهذه الطريقة، وأن نكشف ما يدين به لرامبو لا قصيدة النثر فحسب، بل الشعر بشكل عام، الذي منحه توجهًا حاسمًا.

خلاصة

لماذا قام «رامبو» — (في تاريخ يظل علينا أن نحدده) — «ببتر نفسه حيًّا من الشعر»، حسب التعبير الجميل لمالارميه؟٣٩١ يمكننا أن نجد كافة أنواع التفسيرات لقطيعته الشاملة مع الأدب: أبسطها هو أن «رامبو» قد انبتر عن الشعر مثلما عن عضو ميت، لن يكون وجوده غير عائق له، فعندما بلغ سن الرجولة، لم يعد يريد، ولم يعد بإمكانه — أساسًا — أن ينعزل عن إعادة خلق عالم جديد. لقد كان يأمل في الدخول في اللعبة الاجتماعية.٣٩٢
ورغم هذا، فقد صنع — خلال مساره الشعري الخاطف — ما يكفي ليعيد الحياة إلى الشعر الذي كان يختنق في الدواوين البارناسية، كان الشعر، وقد فرغ من محتواه الميتافيزيقي، كما يكتب عن صواب تام «إيتيومبل»، «قد انغلق في الذخيرة الشعرية، وفي قواميسنا الخاصة بالقافية»، فأعاد «رامبو» تركيب «الوحدة الأولية للميتافيزيقا والشعر»،٣٩٣ وصنع من الشعر وظيفةً حيوية، كأداة تحرير وغزو، و«أعاد تركيب ميتافيزيقا الملموس»، وجعلنا نشعر بمجهول يختبئ في المادة نفسها، ويمكن لنا الاعتقاد بأن «رامبو» — بعد أن تخلى عن تلقي «رؤى» جاهزة لعالم مجهول — قد اكتشف — في خاتمة المطاف — أن المجهول كان موجودًا هنا، متأصلًا في الواقع المحسوس، تحت عينيه، وأن الأمر لا يتعلق إلا بتخليصه من غشاوة العادة والأفكار الجاهزة، للعثور على المدهش، على «الكنوز التي تنبثق من كل محاولة».٣٩٤ والطريقة التي «يبث بها الحيوية» في المادة، ويحرر بها عالمنا الجامد بفعل رؤيتنا التصورية — (لا باللجوء المزعوم إلى «كتابة آلية») — تجعل من الممكن أن نقول عن «رامبو» إنه رائد السيريالية.٣٩٥
ولإنجاز هذا العمل التحرري — «إعادة خلق» العالم هذه — كان «رامبو» بحاجة إلى لغة جديدة، متحررة — هي أيضًا — من الضرورات المنطقية، ومن المتطلبات النحوية أو العروضية، ويمكننا اعتبار تطوره الأدبي كانعتاق تدريجي: فإذا ما كان قد تخلى — مبكرًا — عن القوالب الجاهزة وزخارف النظم، فقد انتصر نهائيًّا — في «إشراقات» فقط — على الاتجاه الطبيعي للغة نحو التطور والتراكيب والصياغات التي تمنحها لنا — على نحو جاهز — عادتنا النحوية: لقد اضطر كل شاعر — لكن بأي موقف قبلي واضح! — أن يستخدم اللغة ويخوض الصراع ضدها في آن، ويكتب «روشون» أن مؤلفات رامبو «كانت محاولةً يائسةً لتحطيم القيود المنطقية للغة».٣٩٦ وسيكون من الظلم ألَّا نضيف أن محاولته — من وجهة النظر الأدبية — كانت ناجحة، أيضًا؛ فالنسق الأدبي لإشراقات قابل — في الواقع — للاستمرار عضويًّا، وهو من العنف إلى حد أنه من الممكن (وبأي نجاح لا أمل فيه!) معارضة «طريقة الصنع» الرامبوية،٣٩٧ ومن التماسك أيضًا (في فوضويته المقصودة) إلى درجة أن تتخذ «إشراقات» — رغم المعارضة «الاتباعية» — مكانةً مرموقةً في تاريخ الأدب بشكل عام، وتاريخ قصيدة النثر، بشكل خاص، فهي تقدم لنا التركيب الذي تحقق أخيرًا — وبأية براعة باهرة! — للمبدأين الرئيسيين — (الهدَّام البنَّاء، أو — إذا ما فضلنا — الفوضوي والفني) — لقصيدة النثر: وبين النثر، السقيم للغاية، واﻟ «نثري» للغاية لبودلير ما، والتماثلات الشكلية، والمصطنعة للغاية لبرتران ما، اكتشف «رامبو» نقطة التوازن، ومنح قصيدة النثر — «المكثفة والخاطفة»٣٩٨ — شارات النبالة الشعرية.
وقد اكتشف «رامبو» — كما يكتب «فاليري» — قوة «التنافر المنسجم»،٣٩٩ وهو تعبير يلخص — فعلًا، وتمامًا — الجهد المزدوج في الهدم وإعادة البناء الذي يطبقه «رامبو» على اللغة، ويكمن هنا إسهام لا يمكن تقديره، وتجديد للأدوات الشعرية: فالنثر «الشعري» والموزون، الذي يحاول — من خلال أنساق إيقاعية ودائرية — إنتاج تأثير الافتتان الذي يتشابه مع تأثير النظم، يقوم «رامبو» باستبداله بنثر يؤثر من خلال الصدمة، والانقطاع، والوميض، نثر فوضوي عن قصد ومبني بهدف إحداث مؤثرات «انسجامية» لا «منسجمة». إنه يحرر الكلمة من العبوديات التي تفرضها عليها الجملة المنطقية، ويمنحها استقلالها وقوتها المفجرة، وبين قصيدة النثر والنثر، لا شبهات محتملة، من الآن فصاعدًا. وهكذا، نستطيع القول إنه ابتداءً برامبو، يبدأ — في آن — اتجاه شعري جديد، ينطوي على تمرد ميتافيزيقي ضد عالمنا الجامد، والمتعقلن، ولغة شعرية جديدة، كأداة للتمرد، ولا يمكن إنكار أنه دمغ الشعر بتوجه دائم وحاسم.٤٠٠ ولن ننتهي من ذكر كل ما يدين به الشعر الحديث إلى «رامبو»، وعلينا أن نقرر — يومًا ما — أن ندرس، بالتفصيل، أصالة ودلالة مؤلفاته (وهي ليست «أساطير»).٤٠١ واعتبارًا من الجيل الرمزي الثاني — (طالما أن «إشراقات» و«فصل في الجحيم» لم يُنشرا في طبعة عادية إلا عام ١٨٩١م) — ستكون لدينا فرصة تَقَصِّي آثار «رامبو»: ﻓ «الرجل ذو النعلين الهوائيين» قد فتح — حقًّا — دروبًا جديدة في الغابات المعتمة للغة، وسرعان ما سنرى شعر القرن العشرين كله يسير على إثره.
وثمة كاتب آخر — في نفس مرحلة «رامبو» تقريبًا، ونفس سنه تقريبًا — أنجز من جانبه تجربةً مماثلة: تجربة تمرد ميتافيزيقي ستقوده — هو أيضًا — إلى خلق شكل أدبي أصيل تمامًا. وليس مصادفةً أن «لوتريامون» — مثل «رامبو» — قد اختار النثر للتعبير والتحرر: هكذا ساهم الاثنان في تهيئة طرق جديدة للشعر، وأدوات فعل أكثر ملاءمة له ولطموحاته الجديدة، وطموحه في تغيير الحياة.
١  نعلم أن ذلك هو موضوع أطروحة «إيتيومبل» الحديثة («أسطورة رامبو  Le Myth de Rimbaud»)، التي ظهر جزؤها الثاني — «بنية الأسطورة» — لدى «جاليمار»، عام ١٩٥٢م.
٢  قارن ﺑ J.-M. Carré, La vie aventureuse de Jean-Arthur Rimbaud, Plon. 1926, p. 71.
٣  انظر أطروحة «ج. جينو» La pensée poétique de Rimbaud, Nizet. 1950، وبشكل خاص ص٦١٩، حيث رصد قائمةً بأهم «الانتحالات».
٤  خطاب إلى «دوميني»، ١٥ مايو ١٨٧١م، Œuvres de Rimbaud, Pléiade, p. 254 (وسترجع جميع الإحالات إلى هذه الطبعة).
٥  لن نجد — في «خطاب الرائي» — أحكامًا على «رؤية» هوجو وبودلير فحسب، بل — أيضًا — ذكريات عن هوجو: ويمكن ملاحظة أن «هوجو» كان يتحدث — اعتبارًا من عام ١٨٦٤م — عن الشاعر، في «ويليام شكسبير»، باعتباره «رائيًا visionnaire».
٦  Œuvres, Pléiade, p. 123.
٧  Delahaye, Rimbaud, l’artiste et l’être moral, Messein, 1923. p.38؛ وقارن — في «فصل في الجحيم» — ﺑ «هذيانات–١»: «ستكون القواعد والتقاليد قد تغيرت — بفضل قدرتي السحرية …» (Œuvres, p. 217).
٨  يانوس: إله روماني، يحرس المداخل والمخارج، والبدايات والنهايات. له وجهان في رأسه، يتوجه كل منهما إلى اتجاه معاكس للآخر.
٩  مثل «ماكس جاكوب» في مقدمة «رمية نرد»، «ج. ميشو» في أطروحته عن «رسالة الرمزية الشعرية»، Le Message poétique du Symbolisme, t. I, ch. 4.
١٠  الأحداث زمنيًّا والأكثر منهجية، هو «ج. جينو» (La pensée poétique de Rimbaud, Nizet), 1950.
١١  قارن بالقسم الثاني، الفصل الثالث: جمالية قصيدة النثر، من هذا الكتاب.
١٢  كُتِبَ في يوليو ١٨٧١م (Œuvres, p. 93). ونعلم أن فكرة العدالة قد استُخدِمَت كقاعدة لفوضوية «برودون»، وهو أحد الكتاب الذين قرأ لهم «رامبو» في شارلفيل.
١٣  قارن بالخطاب المكتوب في ١٣ مايو ١٨٧١م، قبل يومين، إلى «إيزامبار»، الذي كان يرى أن «لدينا التزامًا تجاه المجتمع» (Œuvres, p. 251).
١٤  أُضيفَت — بعد ذلك — إلى أشعار «رامبو» (Œuvres, p. 73). وقد أثبت «إيتيومبل» — بعد «ج. م. كاريه» — أن «رامبو» لم يكن باستطاعته ماديًّا الاشتراك في الكوميونة. (قارن، إيتيومبل، أسطورة رامبوEtiemble, Le Mythe de Rimbaud, t. II: structure du Mythe, pp. 196–205). ورغم هذا، فما تزال مدام نوليه تعتقد أن «رامبو» قد تمكن من الانضمام إلى رجال الكوميونة، لكن في نهاية أبريل، لا في مايو ١٨٧١م. وأيًّا ما كان الأمر — كما تذكر عن حق — فإن عاطفة «رامبو السياسية ومشاركته الأخلاقية لا يمكن إنكارها بأية حال» (Le premier visage de Rimbaud, Bruxelles, Palais des Académies, 1953, p. 19).
١٥  Œuvres, p. 252. ويشير «إيزامبار» إلى أنه سأل «رامبو»، بعد أن تلقى هذا الخطاب: «كم من الوقت ستستغرق تجربتكم؟» وأنه أجابه، في خطاب آخر فُقِدَ للأسف: «الوقت الضروري بالضبط» (Bulletin de la société des Amis de Rimbaud, n°1. Janvier 1931).
١٦  Œuvres, p. 223. ويضيف رامبو: «إنني أسيطر على النظام.»
١٧  الأبسنت: شراب مُسكِر.
١٨  «كان ينتشي — بصورة منتظمة — بالكحول، والحشيش، والتبغ»، على ما يذكر كُتَّاب سيرته الأوائل، «بورجينيون» و«هوان» (Revue d’Ardenne et d’Argnne, Janvier-Fév. 1897). انظر أيضًا «دلاهاي»، في Souvenirs familiers. Messein, 1925, p. 162، وتلميحات «رامبو» نفسه إلى L’académie d’absomphe في خطابه  de Jumphe عام ١٨٧٢م (Œuvres, p. 270).
١٩  E. Starkie, Rimbaud, (2° édition). London, Hamish Hamilton, 1947, p. 205.
٢٠  Rimbaud, N.F.R., 1936, p. 136. (وبدون تعديل في عام ١٩٥٠م). ويبدو تمامًا أن «إيتيومبل» يُرجِع هنا — إلى «رامبو» — وساوس وقلق وضعف «فيرلين»، نفسه، «العذراء الحمقاء»، الذي كُتِبَ في ٢ أبريل ١٨٧٢م: «فلتحببني، واحمني، وامنحني الثقة. ولأنني شديد الضعف، فأنا بأمسِّ الحاجة إلى الطيبة» (Rimbaud, Œuvres, p. 266). ويقدم لنا «ا. آدام» وجهة نظر أكثر صوابًا حول المشكلة، عندما يعارض احتياج «فيرلين» إلى الحُنو (الذي يتم تفسيره ﺑ «طفولية الشعور») بسلوك «رامبو»: فهذا الأخير «لم يمنح نفسه، بل أعارها» (La vrai Verlaine, Droz, 1936, pp. 40 et 48).
٢١  هذيانات–١ (العذراء الحمقاء، عنوان فرعي: الزوجة الجهنمية)، في «فصل في الجحيم» (Œuvres, p. 216).
٢٢  قارن بالتقابل الذي أجراه «رولان دي رينيفيل» بين «رامبو» والصوفيين، في Rimbaud le Voyant, Denoël et steelen, 1929, p. 145.
٢٣  خيمياء الكلمة، فصل في الجحيم (Œuvres, p. 219). وقد يكون مفيدًا أن نذكِّر بأن «سان جان دي لاكروا» — من أجل أن يعبر عن تجربته في الدمار الداخلي — ينتهي، بالضرورة، إلى اتخاذ الليل كصورة للصمت وغياب الصور (انظر Baruzi, Saint Jean de la Croix et le problème de l’expérience mystique, Alcan, 1929).
٢٤  Paradis, chap. 1. ويشير «دانتي» — فيما بعد — إلى «الكتابة» التي تُستَخْدَم — من أجل أن يفهمها البشر — الصور التي في حوزتهم، وتمنح الإله — على سبيل المثال — قدمين ويدين (eod. Loc., chap. 4).
٢٥  Œuvres, p. 254.
٢٦  Œuvres, p. 254.
٢٧  قارن Rolan de Renéville, Rimbaud le Voyant, Au sans Pareil, 1929, p. 57.
٢٨  ليل الجحيم، فصل في الجحيم (Œuvres, p. 213).
٢٩  إشراقات، حيوات–٢ (Œuvres, p. 174).
٣٠  الرومانس  romance: قصة شعرية أو نثرية تنتمي إلى القرون الوسطى، تقوم على الأسطورة، أو الحب الطاهر، أو المغامرات الفروسية.
٣١  فصل في الجحيم، خيمياء الكلمة، ص٢٢٠.
٣٢  Eod. loc., p. 218.
٣٣  «وكانت في البداية دراسة. كنتُ أكتب صمتًا، وليالي، وأسجل ما لا يمكن التعبير عنه. كنت أثبِّت ضلالات» (Eod. loc., p. 219).
٣٤  Eod. loc., p. 222.
٣٥  Rimbaud et le problème des Iliuminations (Mercure de France, 1949, p. 148)؛ وانظر ما سيلي ص٢١٠.
٣٦  القصائد التي جُمِعَت بعنوان «أشعار أخيرة» في طبعة «لابلياد»، وبعض منها مذكور في «خيمياء الكلمة»، يرجع تاريخها — في الواقع، بالنسبة لغالبيتها — إلى عام ١٨٧٢م.
٣٧  في «الشعراء الملعونون»، يضيف «فيرلين»، بعد أن تحدث عن قصائد عام ١٨٧٢م، وذكر مقطعًا شعريًّا من «أبدية»: «ناثر مدهش يخرج منه. إنه مخطوط نفتقر إلى عنوانه، وكان يضم صوفيات غريبة، ولمحات سيكلوجية حادة، وقد وقع في يدي من أضاعه …» هل يتعلق الأمر ﺑ «صيد روحي» الذي وصلنا منه العنوان فحسب؟ أم — كما يقترح «بويان دي لاكوست» — يتعلق ﺑ «صحاري الحب»؟ وهذه الفرضية الأخيرة — في الواقع — مغرية. وينبغي — في جميع الحالات — ملاحظة أن مفهوم وأسلوب «صحاري الحب» بعيدان تمامًا عن مفهوم وأسلوب «إشراقات».
٣٨  مقدمة الطبعة الأولى من «إشراقات» La Vogue, 1886. قارن Bouillane de Lacoste, Rimbaud et le problème des Illuminations, Mercure de France, 1949, p. 173.
٣٩  قارن مسودات «فصل في الجحيم»: «إنني أكره الآن الاندفاقات الصوفية وغرابات الأسلوب. وأستطيع الآن أن أقول إن الفن حماقة» (Œuvres, p. 235).
٤٠  كلمة «إشراقات» — كما يشرح «فيرلين»، في مقدمة الطبعة الأولى — كلمة إنجليزية تعني «لوحات ملونة  coloured plates»؛ وكان «رامبو» يريد — حسب قوله — أن يمنح مخطوطه عنوانًا فرعيًّا هو coloured plates (أو — حسب خطاب «فيرلين» إلى «ش. دي سيفري»، في أغسطس ١٨٧٨م — painted plates).
٤١  قارن مقالات Pastoureau, Paru, n°. 53; Etiemble, Temps Modernes, n°. 49: Patri, Paru, n°. 57; Decaunes, Cahiers du Sud, n°. 295; Rolland de Renéville, Cahiers de la Pléiade, printemps 1950, etc. et l’opuscule de Breton, Flagrant Délit, Thésée, 1949.
٤٢  الذي تعرف عليه في نهاية عام ١٨٧٣م، وتواجد معه في لندن في بداية ١٨٧٤م.
٤٣  الشائع — عمومًا — اعتبار النص المذكور ص٢٢١: «أيها الجنرال، إذا ما تبقى مدفع قديم …» قصيدة نثر قديمة، وهو ما لا يبدو لي صائبًا؛ إذ لدينا — في مسودات «فصل في الجحيم» — حالة أولية لهذا النص مشطوبة ومصححة.
٤٤  «صالون في أعماق بحيرة»، ص٢٢٠، هل تُلمح إلى «نلعب الورق في أعماق المستنقع» من «أمسية تاريخية» (ص١٩٢)؛ «لقد خلقتُ كل الأعياد، كل الانتصارات، كل الدرامات» (ص٢٢٨)، هل يمكن أن تُرَد إلى شيء آخر غير «إشراقات»؟ كثير من الأسئلة المزعجة.
٤٥  إنها تميز بين قصائد كُتِبَت خلال فترة الرؤيا وقصائد تالية، مستوحاة من «رؤية للعالم المعاصر» (Rimbaud, London, Hamish Hamilton, 1947, p. 215, et passim).
٤٦  إنه يحمل على ظهره «بَحرية» و«حفل شتائي».
٤٧  L’énigme des Illuminations, Revue des Sciences humaines, Décembre 1950, p. 239.
٤٨  قارن Rimbaud et le problème des Illuminations, p. 169. والواقع أن الخط هو خط «رامبو» بالفعل، على ما يؤكد «بويان دي لاكوست» دون تعليق آخر.
٤٩  L’énigme des Illuminations, Revue des Sciences humaines, Décembre 1950. وكان من الضروري — كأساس للدراسة والمناقشة — الحصول على نسخة مصورة كاملة من مخطوطات القصائد الباقية …
٥٠  قارن أيضًا Œuvres de Rimbaud, p. 691. ولا يتعلق الأمر بقصيدة «صيد روحي» المذكورة جانبًا.
٥١  «نحن نعتقد أنه إذا ما كان «فصل في الجحيم» — الذي يشكل كُلًّا بطريقته — تاليًا لبعض اﻟ «إشراقات»، فإنه قد اكتمل قبل كتابة كل اﻟ «إشراقات». وهذه اﻟ «إشراقات» (ما نملكه منها) لم تشكل كتابًا، وما كان ينبغي أن تشكل كتابًا متسلسلًا، بل ديوانًا لقصائد نثر، يمكنه أن يتنامى إلى ما لا نهاية، أو — على الأقل — بالتناسب مع الأفكار الجديدة البارعة، وغير المتوقعة، التي يمكن أن تخطر على بال رامبو» (Revue Blanche, 15 Août 1898, p. 597).
٥٢  قارن بالمقالين المنشورين في Revue des Sciences humaines، في ديسمبر ١٩٥٠م: A. Adam, L’énigme des Illuminations; D. de Graaf, Les Illuminations et la date exacte de leur composition. وليس مؤكدًا — في الواقع — أن كل «إشراقات» قد سُلِّمَت إلى «فيرلين» عام ١٨٧٥م. وبالمقابل، فإذا ما كان سفر «رامبو» إلى دول الشمال، عام ١٨٧٧م، قد أُثبِتَ بشكل قطعي. قارن بخطابات «دلاهاي» التي نشرها «د. جراف» في Revue des Science humaines، أكتوبر / ديسمبر ١٩٥١م، فربما يمكنها أن تفسر لغز «سيرسيتو Circeto الثلوج العالية» الموجود في «إخلاص …»
٥٣  Revue des Sciences humaines, Décembre, 1950, pp. 222–225.
٥٤  E. Starkie, Rimbaud, London, Hamish Hamilton, 1947, p. 174.
٥٥  مقال مذكور ص٢٣٣-٢٣٤. ولكن — بعد كل شيء — لماذا لم يذكر، بصدد البداية اللغز: «أمام جليد، كائن جميل فارع القوام …» قصيدة «متحف الجليد»، وهي أحد الاستكشافات التي كتبها «ت. جوتييه» خلال حصار باريس، والمنشورة في «لارتيست»، أكتوبر ١٨٧١م؟ يصف «جوتييه» فيها تمثالين هائلين من الجليد، صنعهما «فالجيير» و«مولان»، في حصن ٨٥، ذات يوم توليا فيه الحراسة، ويمثل أحدهما المقاومة والآخر الجمهورية
٥٦  قصيدة «بَحرية» موجودة — كما نذكر — على ظهر قصيدة «ليلية مبتذلة»، وهي قصيدة تقدم طابعًا مختلفًا عن الإشراقات الأخرى في ديوان «جرو».
٥٧  خطاب إلى «دلاهاي»، مايو ١٨٧٣م (Œuvres, p. 271)، وقد تساءل «بويان دي لاكوست» «ما إذا لم يكن من الممكن تطابق هذه الحكايات الثلاث المكتوبة في مايو مع النثريات «الإنجيلية»: «بيت– سعيدا»، و«إلى ساماراي …»، و«هواء الجليل العليل والفاتن …»، التي عُثِرَ عليها في ظهر مسودات «فصل في الجحيم» (قارن Découvertes de deux nouvelles ébauches de Rimbaud, Mercure de France, 1er Jan. 1948, p. 18). رغم هذا، فالخط ليس — تمامًا — هو نفس الخط، ونحن لا نفهم — أساسًا — لماذا تحدث «رامبو» — بصدد هذه النثريات — عن «حكايات بشعة».
٥٨  مسودات فصل في الجحيم (Œuvres, p. 235).
٥٩  وداعًا (Œuvres, p. 229).
٦٠  قارن بما سبق في الفصل الثاني من القسم الأول.
٦١  والواقع أنه يمكننا الاعتقاد بأن «رامبو» ربما لم يستطع — رغم جهوده — استرداد قصائده النثرية منه، التي ظلت، عام ١٨٧٢م، في شارع نيكوليه، فأعادها من الذاكرة، ما هي هذه اﻟ «مقتطفات» النثرية التي طلبها «رامبو» من «فيرلين»، وكانت موضوع رسائلهما في شهر مايو ١٨٧٣م (Œuvres, pp. 272 et 274)؟ وفيما بعد، سيتحدث «فيرلين» عن «إشراقات» باعتبارها «سلسلة مقتطفات رائعة» (عام ١٨٨٤م)، في «الشعراء الملعونون».
٦٢  قارن، بودلير، مشروع إهداء (Œuvres, Pléiade, t. I, p. 637)؛ ويقول إن هذا النوع من الأعمال يأتي من de la vis et du kaléidoscope
٦٣  قارن Delahaye, Rimbaud, L’Artiste et I’être moral, Messein, 1923, p. 72.
٦٤  Rimbaud et le problème des Illuminations, p. 148.
٦٥  Rimbaud, L’Artiste et l’être moral, Messein, 1923, p. 36؛ وفي (Souvenirs familiers, Messein, 1925)، يعلن «دلاهاي» أنه في منزل «بريتاني»، «كنا نقرأ الأشعار، أو بضع قصائد أولى لرامبو»، ص١٤٦.
٦٦  قارن هذا الوصف بما ذكره «بويان دي لاكوست»، مرجع سابق، ص١٤٥.
٦٧  كما في حالة «كوميديا العطش» و«صبر» و«حفلات الجوع»، التي يؤرخها بعام ١٨٧٣م، بينما تعود — في الواقع — إلى عام ١٨٧٢م؛ لذا فهو يعتبر هذه الأشعار تاليةً ﻟ «إشراقات»، مما يبدو مثيرًا للدهشة (وقارن «بويان دي لاكوست»، مرجع سابق، ص٢٠٩ و٢١٣). والمحتمل أن «رامبو» ألف وقرأ على «دلاهاي» — اعتبارًا من عام ١٨٧٢م — بضع قصائد نثر ستشكل، فيما بعد، جزءًا من «إشراقات».
٦٨  يمكن لقصيدة «فاصل» التي تصبح «ظل الأشجار الغامض» (Œuvres, p. 163) أن تُذكَر بقصيدة «شرفة»: «كان الليل يزداد كثافة مثل فاصل …»
٦٩  هل استحضر «رامبو» «مدينة بلا نهاية» قبل أن يعرف باريس (قارن «مدينة وحشية، ليل بلا نهاية» في قصيدة «طفولة–٤»)؟
٧٠  قارن ﺑ «خيمياء الكلمة» (Œuvres, p. 223). كيف لا نفكر — أيضًا — أن «رامبو» — وهو يعلن، في وصف جنوناته: «لكل كائن حيوات أخرى كثيرة بدت لي كأنها دَين لي … هذه العائلة هي وجر كلاب» (نفس الصفحة) — إنما يتذكر «صحاري الحب»: «اقتربت خادمة مني: يمكنني أن أقول إنها كانت كلبًا صغيرًا» (ص١٦٣)؟
٧١  قارن Eluard, Donner à voir, Gallimard, 1939, p. 147.
٧٢  قارن «خيمياء الكلمة»: «وكنت أحتفظ بالتفسير».
٧٣  «بيت سعيدا»، Œuvres, p. 201، ونُشِرَت «إلى ساماراي» و«هواء الجليل العليل والفاتن»، في Mercure de France، في الأول من يناير ١٩٤٨م. وهذه النثريات الثلاث — التي لا عنوان لها — هي، بشكل واضح، مسودات، وقد تشكك «بويان دي لاكوست» — الذي اعتبر «بيت سعيدا» إشراقة، في البداية — في هذه الفكرة مع اكتشاف نثريتين أخريين (قارن بالملحوظة المضافة إلى فهرس أطروحته عن (Rimbaud et le problème des Illuminations, p. 255).
٧٤  قارن برسالته إلى «دلاهاي»، Œuvres, p. 272. ونعلم إلى أي حد كانت والدة «رامبو» تتشدد على ابنها فيما يتعلق بمصروف جيبه: «لم تكن تعطيني سوى عشرة «سنتيمات» كل يوم أحد، كي أدفع ثمن مقعدي في الكنيسة»، حسبما كتب «رامبو» إلى «فيرلين» (وقارن Œuvres, pp. 265 et 728). وفضلًا عن ذلك، فإن مسودات «فصل في الجحيم» مكتوبة بطريقة شديدة التراص على نحو ما لاحظ «بويان دي لاكوست» في طبعته المحققة.
٧٥  Œuvres, p. 201. والتشديد من عندي.
٧٦  قارن بالملاحظات التي أوحتها «بيت سعيدا» إلى «إيتيومبل»، في كتابه Rimbaud, Gallimard, 1936, pp. 45–51.
٧٧  Découverte de deux nouvelles ébauches de Rimbaud (Mercure de France, 1er Janvier 1948, p. 20).
٧٨  خطاب إلى «دلاهاي»، مايو ١٨٧٣م، Œuvres, p. 272.
٧٩  كيف كانت هذه «الحكايات» الثلاث المكتوبة؟ أوضح «بويان دي لاكوست» أن قصيدة «دم فاسد»، بموضوعها المزدوج، «الزنجي» و«الوثني»، قد تطورت بشكل كبير لتشكل — بالتأكيد — جزءًا منه (Une Saison en Enfer, éd. Critique, Mercure de France, 1946, p. 16)، لكنه أحس بالارتباك إزاء المقطوعتين الأخريين، وإذا ما لاحظنا — رغم هذا — أن نص «دم فاسد» الذي ينقسم، اليوم، إلى ثماني مقطوعات، قد عدل «رامبو» فيه كثيرًا (كما تثبت المسودة المكتشفة مؤخرًا، والمنشورة في Mercure de France، يناير ١٩٤٨م، حيث ترتبط معًا مقطوعتان، ستنفصلان — في النص النهائي — بفاصل طويل)، فإننا نميل بشدة إلى الاعتقاد بأن «دم فاسد» كانت مكونة — في شكلها الأوَّلي — من ثلاثة نصوص، تنطلق، حسب فهمي، من جملة: «لديَّ من أسلافي …»، و«وطفلًا صغيرًا ما يزال …»، و«الملل لم يعد حُبي». ويبدو لي أنه قد سبق التعبير عن هذه الفكرة.
٨٠  قارن «فصل في الجحيم» (Œuvres, p. 205).
٨١  Jean-Arthur Rimbaud, Champion. 1929, p. 195.
٨٢  Luc Decaunes, Rimbaud ou le Jules Verne de la poésie (Cahiers du Sud, 1949, pp. 295, 499).
٨٣  Flagrant Délit. thésée, 1949, p. 41.
٨٤  مسودة «خيمياء الكلمة» (Œuvres, p. 235): «أكره الآن الاندفاقات الصوفية وغرائبية الأسلوب. الآن أستطيع أن أقول إن الفن حماقة».
٨٥  المستحيل (Œuvres, p. 225).
٨٦  «أيها البائع، أنت زنجي، أيها القاضي، أنت زنجي، أيها الجنرال، أنت زنجي، أيها الإمبراطور، يا حكَّةً قديمة، أنت زنجي …» (دم فاسد، ص٢٠٩).
٨٧  دم فاسد، ص٢٠٨.
٨٨  «لم تعد ثمة كلمات» (دم فاسد، ص٢٠٩)، «لم أعد أستطيع الكلام» (صباح، ص٢٢٨).
٨٩  «آه يا صديقاتي! … لا، لستن صديقاتي … ما من هذيان ولا تعذيب أبدًا كهذا … يا لها من رعونة!» (العذراء الحمقاء، ص٢١٤). وانقطاع الأفكار والارتدادات مستمران: «أتعرف هنا على تربية طفولتي القذرة. ثم ماذا! … هيا يا سنواتي العشرين، إذا ما عاش الآخرون عشرينهم … لا! لا! أنا أتمرد الآن على الموت!»
٩٠  «دم فاسد»، ص٢٠٧، «المستحيل»، ص٢٢٣، التشديد من عندي.
٩١  «المستحيل»، ص٢٢٣، «دم فاسد»، ص٢١١، التشديد من عندي.
٩٢  Fausse conversion (brouillon de Nuit de l’Enfer). Œuvres, p. 231.
٩٣  مسودات «اعترافات مزيفة» (ليل الجحيم) و«خيمياء الكلمة»، نشرها «بريشون» في Nouvelle Revue Française، في أغسطس ١٩١٤م، وأُعيدَ نشرها ضمن مؤلفات رامبو، ص٢٣١، ٢٣٥، مع تصحيحات القراءة التي قام بها «بويان دي لاكوست» في طبعته المحققة ﻟ «فصل في الجحيم». وفي Mercure de France، يناير ١٩٤٨م، نشر «ﻫ. ماتاراسو» و«بويان دي لاكوست» (في نفس فترة نشر مسودات مقطوعتين نثريتين «إنجليتين») مسودةً ثالثة اكتُشِفَت حديثًا، تتضمن مقطوعتين من «دم فاسد».
٩٤  Rimbaud, kra, 1930, p. 209.
٩٥  Œuvres, p. 224.
٩٦  مسودة «خيمياء الكلمة» (Œuvres, p. 235).
٩٧  Rimbaud, kra, 1930, pp. 205-206.
٩٨  Rimbaud, kra, 1930, p. 206. وينبغي أن نذكر أن «ريفيير» يلتزم قراءة «بريشون»، والنص الذي ذكره «بويان دي لاكوست» في طبعته المحققة ﻟ «فصل في الجحيم»، التي روجِعَت بعناية على الأصل (وهو النص الذي أعادت «لابلياد» نشره) هو أفضلهم بالتأكيد، لكن استخلاصات «ريفيير» بشأنه لم تتغير.
٩٩  وهو أمر دال أن نراه — في «ليل الجحيم» — يضع ألفاظًا ملموسة وأكثر إيحاءً: «آه! الطفولة، العشب، المطر، البحيرة على الصخور …» بدلًا من التعبيرات العادية إلى حدٍّ ما في المسودة: «أيا طفولتي، يا قريتي، يا حقول، يا بحيرة على الساحل الرملي».
١٠٠  سميريا: عالم ليلي، سرمدي، يجاور الجحيم، في الأساطير اليونانية.
١٠١  Œuvres, p. 223. «لقد انتهى! إنه في الهواء! لا يستند على شيء! ولم يعد محمولًا إلا بالموسيقى، مثل بجعة جميلة تطير وجناحاها يمتدان في وسط فردوس!» ذلك ما يقوله «كلوديل» فيما يتعلق بهذه الجملة (Positions et propositions, Gallimard, 1928, t. I, p. 75).
١٠٢  ها هو نص المسودة (والكلمات التي شطبها «رامبو» موضوعة بين قوسين): «وجدت نفسي ناضجًا ﻟ (الموت) الوفاة، ووهني يشدني حتى تخوم العالم والحياة (حيث الأعاصير)، في «سميريا» السوداء، وطن الموتى، حيث … كبير قد اتخذ طريق المخاطر المهجور كله تقريبًا (غير مقروء) (إلى) لدى … مهولة» (Œuvres, pp. 234-5).
١٠٣  يُشَبِّه «الجنون الذي نسجنه» في «خيمياء الكلمة» (ص٢٢٣) ﺑ «الجنون الذي لا شكل له» في المسودة. لكن «رامبو» كان قد كتب «الجنون المسجون» (ص٢٣٤).
١٠٤  Rimbaud, kra, 1930, p. 193. سنرى — فعلًا — «رامبو» وهو يغير تمامًا، خلال نقله لإحدى القصائد، المعنى من نسخة إلى أخرى: البيت الأخير من «دمعة»: «وأنا الذي لم أبالِ بالشرب!» سيصبح، في «خيمياء الكلمة»: «باكيًا، كنت أرى الذهب، ولم أستطِع الشرب» (Œuvres, pp. 125 et 219). والطريقة مألوفة بالنسبة لشاعر.
١٠٥  Brouillons, p. 235. Alchimie du Verbe, pp. 220 et 222.
١٠٦  دم فاسد، ص٢٠٩.
١٠٧  خيمياء الكلمة، ص٢٢٤.
١٠٨  البرق، ص٢٢٧.
١٠٩  صباح، ص٢٢٨.
١١٠  وداعًا، ص٢٢٩.
١١١  قارن «ليل الجحيم»، ص٢١٣.
١١٢  ليل الجحيم، ص٢١٢. ويمكننا مقارنة مسودة هذا النص: «السحر، والخيمياء، والصوفيات، والعطور الزائفة، والموسيقات الساذجة» (٢٣٢) بالتصريح: «أكره الآن الاندفاقات الصوفية وغرابات الأسلوب» الذي يختم مسودة «خيمياء الكلمة» (ص٢٣٥).
١١٣  ليل الجحيم، ص٢١٢.
١١٤  وداعًا، ص٢٢٩.
١١٥  قارن A. Adam, Verlaine, Hatier, 1953, p. 92.
١١٦  يرى «ب. جيرو» — الذي درس مؤخرًا تطور أسلوب «رامبو» بمساعدة المعطيات الإحصائية — أن «نصوصًا من قبيل كوميديا العطش، وأغنية من فوق الأبراج، وفكرة طيبة في الصباح، وأنصت كيف يشتكي، وأيا فصول، يا قصور، إنما تقع، من الناحية الأسلوبية، ضمن مناخ «أناشيد غنائية بلا كلمات»، ويضيف: «كما أن المجالات المشتركة — على صعيد النَّظم والإلهام — لا تقل عنها وضوحًا» (L’évolution statistique du style de Rimbaud, Mercure de France, 1er Octobre 1954, p. 207).
١١٧  قارن مسودة «خيمياء الكلمة»، ص٢٣٥.
١١٨  «أمسك بالحقيقة» (ليل الجحيم)، «الحقيقة التي ربما تحيط بنا بملائكتها الباكين» (المستحيل).
١١٩  وداعًا، ص٢٣٠.
١٢٠  La pensée poétique de Rimbaud, Nizet, 1950, p. 290 et pp. 305-306.
١٢١  Notes nouvelles sur Edgar Poe, Nouvelles Histoires extraordinaires ؛ وقد أوضحت — فيما سبق (ص١٠٩) — أن حكايات «بو» دفعت «بودلير» إلى البحث — في نثر «سأم باريس» — عن مزيد من الحرية والحقيقة.
١٢٢  قارن «وداعًا»، ص٢٣٠.
١٢٣  خيمياء الكلمة، ص٢٢١: أغنية أعلى الأبراج، ص١٣٢.
١٢٤  خيمياء الكلمة، ص٢٢٣: أبدية، ص١٣٣.
١٢٥  قارن بالأبيات التي نشرها «بليمون» في Renaissance، ٢٤ مايو ١٨٧٣م، بعنوان قليل من الموسيقى:
موسيقى عاشقة
تحت أصابع عازف جيتار،
استيقظت حزينةً قليلًا،
مع النسمة المذعورة …
و«فانتازيات» (المنظومة أيضًا) عن «الباحثين»، في عدد ٣٠ نوفمبر ١٨٧٣م.
١٢٦  خيمياء الكلمة، ص٢٢٠.
١٢٧  «يجب أن نكون حديثيين بشكل مطلق» (وداعًا، ص٢٢٩).
١٢٨  وداعًا، ص٢٣٠.
١٢٩  قارن بما سيلي تحت عنوان «من بودلير إلى الرمزية»، وما بعد.
١٣٠  نتذكر أن قراءة «بودلير» — إذا ما صدقنا «دلاهاي» — قد «أوحت» إلى «رامبو»، أيضًا، «بمحاولة كتابة قصائد نثر» (قارن بما سبق ص٢١٠).
١٣١  انظر الفصل الأول من القسم الثاني من هذا الكتاب، ملحوظة ١٠٧، وما يتعلق بها في المتن.
١٣٢  جافروش — الأريب، نسبة إلى بطل «البؤساء» لهوجو.
١٣٣  انظر ما سيلي، بالبند III في الفصل الأول من القسم الثاني.
١٣٤  انظر ما سيلي، بالبند III في الفصل الأول من القسم الثاني. هل ثمة ذكرى ساخرة من «الهستيري» لفيرلين: «العينان الجاحظتان ببشاعة، الفم المفتوح كما من مجاعات مرعبة» (La Parodie, 2–9 Janvier 1870)، في «شقيق يدعو للرثاء»، من «صعاليك»، و«الفم المتعفن، والعينان المفزوعتان» (إشراقات، ص١٨٢)؟
١٣٥  انظر ما سيلي، بالبند III في الفصل الأول من القسم الثاني.
١٣٦  قدمت مجلة Renaissance تحليلًا لها في ٢٣ يونيو؛ وقد نُشِرَ العديد من قصائد «فانتازيات» (Le Meuble, Madrigal, La Distrayeuse) في هذه المجلة عام ١٨٧٢م.
١٣٧  ألم يدفع «فيرلين» «رامبو» إلى قراءة Revue des Lettres et des Arts التي سبق أن نشرت — عام ١٨٦٧م — نثريته «أبدًا بعد ذلك  Nevermore»، وأيضًا أناشيد غنائية لآلويزيوس برتران و«صفحات منسية Pages oubliées» لمالارميه؟
١٣٨  كانت العلاقات أحيانًا متوترة (قارن خطاب «جامف»، ١٨٧٢م، Œuvres, Rimbaud, p. 271)، لكن مجلة Renaissance نشرت «الغربان»، وقد أعطى «رامبو» مخطوط «حروف متحركة  Voyelles» إلى «بليمون» عام ١٨٧٢م.
١٣٩  نستطيع الافتراض أن «رامبو» قد تذكر بضع جُمل ﻟ «ت. جوتييه» عن «القمر»: «عالم جديد يتبدَّى فجأة (…) وعندما نتأمل الكوكب في أوجه، تنبسط النتوءات» (L’Artiste, Mai 1872)؛ وهو يصف في «أمسية تاريخية»: «عالم صغير شاحب ومنبسط»، والأكثر أهمية وقيمة أيضًا (رغم أن مقارنات كهذه بعيدة عن أن تكون حاسمة، وهو ما لا بد أن ندركه تمامًا) تلك المقارنة التي نستطيع القيام بها مع نثر «ا. بيجين»، الإعصار، المنشورة في «لارتيست  L’Artiste»، يناير ١٨٧٣م: «كانت السماء مثل بحر متحجر (…) تصادم الهاوية مع الهاوية (…) سيول من البروق (…) الأرض التي اندفنت تحت الحمم الملتهبة (…) والسيول والبروق تتعاقب مع المطر والريح»، حيث نسمع — بعد الإعصار — «نسمة رهيفة، مبينة، ناعمة، ترتعش سيمفونياتها عبر الفضاءات»، والإشارات المتضادة في «بربري»: «ركام الثلوج الذي يمطر هباتٍ من عذوبة»، «تحولات اللجج واصطدام الجليد بالكواكب»، «أيا عذوبة، يا عالم، يا موسيقى!» (Œuvres, p. 190). ويلاحظ «دي جراف» أن «رامبو» قد قرأ — في «لارتيست»، في منزل «شارل كرو» — مقاطع من «غواية القديس أنطوان»، رواية «فلوبير» التي لم تُنشَر في كتاب إلا عام ١٨٧٤م، والتي منحت «إشراقات» بعض الإلهامات» (انظر de Graaf, Les Illuminations et la date exacte de leur composition, Revue des Sciences humaines, Décembre 1950, p. 247).
١٤٠  وبالمقابل، فإنني لا أعتقد، مطلقًا، أن قصائد «جوديت جوتييه» — بنماذجها المنشورة في مجلة Renaissance (قارن بما سيلي في الفصل الأول من القسم الثاني) — قد قدمت إلى «رامبو» نموذجًا ما، كما تعتقد السيدة «ستاركي». فهذه القصائد ترتكز على مفهوم فني يبدو لي مختلفًا — جذريًّا — عن مفهوم «رامبو».
١٤١  أضرب مثالًا ﺑ «الرجل الذي يضحك»، المنشورة عام ١٨٦٩م، التي كان «رامبو» يعرفها جيدًا (هذا الزقاق الشتائي من الغربان على جثة، هل أوحى له ببداية فكرة «الغربان»؟): «ضربات مخالب، ضربات منقار، نعيق، انتزاع المزق التي لم تعد إلا لحمًا، قرقعة المنصة، صلصلة الحديد المتهالك، صرخات هَبة العاصفة، جلية، لا مجاهدة أكثر كآبة. طيف في مواجهة شياطين. معركة شبحية».
١٤٢  ها هي الخاتمة: «هواء ثقيل، مُحَمَّلٌ بالراتينج والورد. تحت الشجرة قط عجوز وكلب عجوز يجلسان القرفصاء، يستجديان الشمس، يرتجفان في مكانهما. لم يعد للقط مواء. والكلب بالٍ مثل قبعة قديمة.
امرأة شابة، بشفتين عريضتين مفلطحتين، حمراوين، تجلس شاحبةً وعيناها منهكتان، تنظر بلا اكتراث أمامها في ثبات» (Revue des Lettres et des Arts, 1867, n° 21).
١٤٣  انظر Richepin, Revue de France, 1er Janvier 1927, et Delahaye, Préface des Valentines de Nouveau, Messein, 1921؛ وفقًا للأخير، فقد تقابلا في نهاية عام ١٨٧٣م، حول العلاقة بين «رامبو» و«نوفو»، ورحلتهما إلى إنجلترا، انظر D. de Graaf, Rimbaud et la durée de son activité littéraire, Amsterdam, 1948, pp. 96–103.
١٤٤  يجب اعتبار هذه اﻟ «نثريات» الأربع «أشياء مرئية» بأكثر من كونها قصائد نثر، وقد كتبها «نوفو» إما قبل سفره إلى إنجلترا بقليل أو بعده: وكان قد ساهم — حوالي ١٨٧٣ / ١٨٧٤م — في جرائد مختلفة (قارن بما سبق في الفصل الثاني من القسم الأول).
١٤٥  تعرف «بويان دي لاكوست» على خط «ج. نوفو» في موضعين من مخطوطة «إشراقات». قارن (Rimbaud et le problème des Illuminations, pp. 168–172).
١٤٦  مدن، إشراقات، ص١٨٣.
١٤٧  حفل شتائي، إشراقات، ص١٨٨. هل عرف «رامبو» — من خلال «نوفو» — «الطرائف الصينية» الشهيرة ﻟ «ف. بوشيه»؟ أم من خلال «لارتيست» التي كانت قد نشرت أعدادًا منها؟ وحقيقة أن «رامبو» قد زار — في لندن — متاحف الفنون التشكيلية، هي حقيقة مؤكدة، على أية حال، في مذكرات أخته «فيتالي» (قارن Œuvres, Appendice, pp. 543 et 545).
١٤٨  أشرت إلى مسألة علاقات «رامبو» بالانطباعية في مقال «رامبو وبروست والانطباعيون»، الذي نُشِرَ في العدد الخاص من Revue des Sciences humaines, Autour du Symbolisme, 2° trimester 1955, pp. 257–262.
١٤٩  G. Nouveau, Notes parisiennes, à la suite des Valentines, Messein, 1921, p. 215.
١٥٠  قارن بما سبق في الفصل الثاني من القسم الأول.
١٥١  وأعتقد — في المقابل — أنه يجب اللجوء إلى الكثير من النصوص، كي نكتشف — مثل السيدة «ستاركي» — حافزًا كهذا المذكور في Michelet, Introduction à l’Histoire Universelle de، حيث يعارض «ميشليه» النثر (نثر بوسوييه، ومونت كيو، وفولتير) بالشعر، ويحتفي — في الانتقال من الشعر إلى النثر (النثر النثري) — ﺑ «التسوية الثقافية» (Michelet, Œuvres, Flammarion, t. XXXVIII; E. Starkie, Rimbaud, Hamish Hamilton, London, 2° éd., 1947, p. 293).
١٥٢  قارن ﺑ «أنا مدفوع لإيجاد المكان والصيغة»، متشردان، Œuvres, p. 182.
١٥٣  هو رأي السيدة «ستاركي» التي تعتقد أن «رامبو» — عند مراجعته «إشراقات» — قد جعلها أكثر صفاءً وبساطة، وتنظيمًا (مرجع سابق، ص٢٠٠).
١٥٤  إذا كان «ما يأتي به «الشاعر» من هناك له شكل، فإنه يقدم شكلًا، وإن كان بلا شكل، فإنه يقدم اللاشكل».
١٥٥  قارن بما سبق في الفصل الثاني من القسم الأول. وفي هذا الصدد، يمكننا اعتبار الحكاية التي يرويها «دلاهاي» عرضية: عندما علما بانتصار الثورة واستتباب الكوميونة في باريس، عام ١٨٧١م، كان — هو و«رامبو» — ينطقان ﺑ «وحشية شيطانية» — خلال مرورهما أمام أصحاب الدكاكين — بهذه «الكلمات البشعة»: «انهزم النظام …!» (Souvenirs Familiers à propos de Rimbaud, Verlaine et Germain Nouveau, Messein, 1925, p. 103). تصرفات صبيانية بلا شك، لكن هذه «الكلمات البشعة» يمكنها أن تُسْتَخْدَم كحاشية في إشراقات.
١٥٦  «إنه أحد الامتيازات الاستثنائية للفن أن يصبح البشع — عند التعبير عنه بشكل فني — جمالًا، والألم الموقع والموزون يملأ الروح بفرحة هادئة»، على ما يكتب «بودلير» عن «ت. جوتييه» (Œuvres, éd. de la Pléiade, t. II, p. 475).
١٥٧  في خطاب إلى «هوساي» اسْتُخدِمَ كمقدمة إلى قصائده النثرية، وتمكن «رامبو» من قراءته والتمعن فيه.
١٥٨  Notice ، في بداية «إشراقات»، ١٨٨٦م.
١٥٩  حكاية، ص١٧٠.
١٦٠  إنها — بشكل أو آخر — «رؤى» عن عالم خيالي، وبشكل خاص وصف ﻟ «المدن».
١٦١  متشردان، الأعمال.
١٦٢  صباح السُّكر، ضيق أليم … إلخ.
١٦٣  جنيَّة، ص١٩٧.
١٦٤  ص١٧٧. بعد الإثبات الباهر الذي قدمه «ا. آدام» عن «القارب النشوان» Mars 1951, n° 7-8، يبدو مؤكدًا أن «جُمل» مكونة لا من قصيدة واحدة، بل من قصيدتين. وفي مخطوط «جرو»، تنتهي القصيدة الأولى في نهاية الصفحة المزدوجة رقم ٢، مع كلمات «المادح الوحيد لهذا اليأس الحقير». ويبدأ القصيدة الثانية أعلى الصفحة المزدوجة رقم ١٢. والقصيدة الأولى وحدها هي التي يناسبها العنوان الذي يسخر من «جُمَل» الحب التقليدي، «هذا الثغاء الصبياني، وحلمه بالطهارة والعزلة لاثنين»، وللسخرية، سوف يستعيد «رامبو» نفس ألفاظ «فيرلين» الذي كان قد تحدث في «أغنية طيبة» عن «غابة سوداء»، والذي قال، في «أغنية لطيفة منسية»: «لنكن طفلين …»
١٦٥  قارن Solde, p. 200.
١٦٦  كما في «متشردان» التي يتعرف فيها «فيرلين» — «الطبيب الشيطاني» — على نفسه (قارن Rimbaud, Œuvres, Notes, p. 692).
١٦٧  صوفية، ص١٨٥.
١٦٨  تسمح دراسة المخطوطات بالاعتقاد بأن «أمسيات–٣» و«شباب–٤» كانت تشكل أجزاءً مستقلةً: انظر — بهذا الصدد — إشارات «ا. آدام» المفيدة (Revue des Sciences humaines, Décembre 1950, pp. 239 et 250).
١٦٩  Jean-Arthur Rimbaud, sa vie, son œuvre, son influence, Champion, 1929, p. 179.
١٧٠  طفولة–٣، ص١٦٩.
١٧١  وذلك بشكل دائم: سنرى بضعة أمثلة فيما بعد، ص٢٣٩.
١٧٢  Œuvres, p. 190.
١٧٣  Œuvres, p. 171.
١٧٤  Œuvres, p. 168.
١٧٥  طفولة–٤، ص١٧٠.
١٧٦  Rimbaud, Kra, 1930, p. 131 (Premiére édition, 1914)؛ وقد حاول «إيتيومبل» إلغاء غموض هذا التساؤل (Rimbaud, N.R.F., 1936, pp. 72-73; cf. Le Myth de Rimbaud: structure du mythe, Gallimard, 1952, p. 385)؛ وإذا ما كان «مظهر العاشق المتأوه» هذا مستنكرًا منطقيًّا، فهو موجود — رغم هذا — شعريًّا، فقط بفعل ذكره.
١٧٧  Riviére, Rimbaud, p. 140. (ترجع إحالاتي إلى طبعة «كرا Kra» عام ١٩٣٠م).
١٧٨  Rimbaud, Kra, 1930, p. 147.
١٧٩  المرجع السابق، ص١٤٥.
١٨٠  المرجع السابق، ص١٤٦.
١٨١  المرجع السابق، ص٢١٣. ونعلم أن «ريفيير» قد كف — منذ عام ١٩٢٣م — عن الاندهاش من «الطابع الصوفي» ﻟ «إشراقات» (قارن Etiemble, Le Mythe de Rimbaud, structure du mythe, p. 170). وعبثًا حاول «إيتيومبل» السخرية من مؤيدي «رامبو صوفي» (مرجع سابق، ص١٦٥، ١٧١)، لكن «شعر ميتافيزيقي» له معنى شديد الاختلاف.
١٨٢  La Correspondance des arts, Flammarion, 1947, p. 274.
١٨٣  قارن «فصل في الجحيم، وداعًا، ص٢٣٠.
١٨٤  Etiemble, Rimbaud, N.R.F., 1936, p. 169؛ وفصل «الشعر أداة» يدرس — بشكل متكامل — الأدوات التي «تخلص» رامبو بها من الواقع.
١٨٥  تقدم لنا «مدينة–١» نموذجًا جيدًا للطريقة التي يمزج بها «رامبو» العناصر المستمدة من كل الأزمنة (رولان، ماب، ديانا وفينوس) وكل البلدان (شاليهات خشبية، آنية رومانية، نخيل، شوارع فسيحة …) وقد وضع كل شيء على نفس المستوى (ص١٨١).
١٨٦  وداعًا، ص٢٢٩. ورغم ما قاله بعض المعلقين، فلا نرى كيف يمكن ﻟ «إشراقات» أن تمثل عودةً إلى هذا «الواقع الخشن» الذي يتحدث عنه «فصل في الجحيم»، ربما تحت تأثير الإقامة في «روش» (ﮐ «فلاح!» حسبما يضيف «رامبو»).
١٨٧  إشراقات، رصيد، ص٢٠١.
١٨٨  كائن جميل، ص١٧٣.
١٨٩  جُمل، ص١٧٧.
١٩٠  الجسور، ص١٧٩.
١٩١  «أدار الطفل ذراعيه» (طوفان، ص١٧٦)، «الملائكة تلف ملابسها الصوفية» (صوفية، ص١٨٥)، «سيدات يحومن» (طفولة–١، ص١٦٨) … إلخ، ونتذكر أن «بودلير» سبق أن كتب: «الأصوات والروائح تلف في هواء الليل …»
١٩٢  طفولة–٣، ص١٦٩.
١٩٣  بربري، ص١٩٠.
١٩٤  ضيق أليم، ص١٨٩.
١٩٥  جنية، ص١٩٦.
١٩٦  مدن–١، ص١٨١.
١٩٧  كائن جميل، ص١٧٣.
١٩٨  قارن في «خيمياء الكلمة»: «كنتُ أسقط في النوم لعدة أيام» (ص٢٢٣). يمكننا التفكير أيضًا في «تأثير الحشيش».
١٩٩  Rimbaud le voyant, Denoël et steele, 1929, p. 123. ورغم هذا، فلا نستطيع اعتبار هذه القصيدة إنتاجًا لبعض من «الكتابة الآلية»، وأعتقد — على النقيض من ذلك، بالاتفاق مع «دي جراف» — أن هذا النص «ليست له أية صلة بإنتاج تخطيطي»، وأن تقنيته شديدة البراعة (قارن A. Rimbaud et la durée de son activité littéraire, Amsterdam, 1948, p. 81).
٢٠٠  قارن Œuvres, notes, p. 632.
٢٠١  فجر، ص١٣٦. التشديد من عندنا.
٢٠٢  ليلية مبتذلة، ص١٨٧.
٢٠٣  بعد الطوفان، ص١٦٧. ويذكر «ماكس ريبي» — Essai d’une rythmique des “Illuminations” d’A. Rimbaud (Thése d’Université, Zurich, 1948) — أن «الشاعر يعلق نهاية المقطع، وإذا صح القول، فإنه يعيد توجيهها إلى الوراء، بعيدًا، بأن يغير دائمًا من موقع الذروة، وذلك بإدخال أجزاء جديدة من الجُملة في أماكن لا نتوقعها»، إنه ما يسميه جُملًا ذات «قمم مبهمة» (ص٤٤).
٢٠٤  Rimbaud, Kra, 1930, p. 183.
٢٠٥  آثار عجلات، ص١٨٠.
٢٠٦  صوفية، ص١٨٥.
٢٠٧  متروبوليتان، ص١٨٩. تصحيح «سهول البازلاء» بدلًا من «شتلات» قام به «بويان دي لاكوست» في طبعته المحققة من «إشراقات» عام ١٩٤٩م.
٢٠٨  Rimbaud, N.R.F., 1936, p. 221.
٢٠٩  صباح السُّكر، ص١٧٦.
٢١٠  Rimbaud, p. 75.
٢١١  ضيق أليم، ص١٨٩. وقد لاحظنا — في جُملة «صباح السُّكر» المذكورة من قبل — التأكيد على ضمير الملكية: «خيري، جمالي».
٢١٢  في Crimen Amoris، المستلهم من «رامبو»، كما نعلم.
٢١٣  خطاب الرائي، ص٢٥٤. وقد كتب «روشون» عدة صفحات — صائبة تمامًا — عن المسافة التي تفصل — أيضًا — سلوك رامبو «الإيجابي» عن سلوك السيرياليين «السلبي» بشكل منهجي (J.-A. Rimbaud, sa vie, son œuvre, son influence, Champion, 1929, pp. 248–251).
٢١٤  قارن بما سيلي، القسم الثاني، الفصل الرابع، تحت عنوان «الفوضوية الاجتماعية والأدب».
٢١٥  قارن بما سبق في الفصل الثاني من القسم الأول.
٢١٦  قارن ﺑ هذيانات–١ (العذراء الحمقاء) في «فصل في الجحيم»، ص٢١٥.
٢١٧  A. Adam, L’énigme des Illuminations (Revue des Sciences humaines, Déc, 1950, p. 240).
٢١٨  ها هو نص «شباب–٤» كاملًا (Œuvres, p. 200): «ما تزال في إغواء أنطوان. لعبة الإخلاص انقطعت، ورجفات الكبرياء الصبياني، والوهن والهلع. لكنك ستشرع في هذا العمل: جميع الإمكانيات التناغمية والمعمارية ستتأثر حول مقعدك. كائنات كاملة غير متوقعة ستهب نفسها لتجاربك، وحولك سينساب حالمًا فضول الحشود القديمة والترف المتبطل. وذاكرتك وحواسك لن تكون إلا غذاءً لاندفاعاتك الخلاقة، أما العالم، فماذا سيصبح عندما تكون قد رحلت؟ لا شيء، بأية حال، من المظاهر الحالية».
والإشارة إلى إغواء القديس أنطوان تدفعنا إلى التفكير في أن هذا النص قد كُتِبَ بعد مارس ١٨٧٤م: فقد ظهرت رواية «فلوبير» في المكتبات — فعلًا — في أبريل ١٨٧٤م. والواقع أن «رامبو» ربما قرأ مقتطفات منها في «لارتيست» عند «شارل كرو» — منذ عام ١٨٧١م — إذا ما افترضنا أن الفضول قد تملكه لتصفح أعداد قديمة تعود إلى عامي ١٨٥٦-١٨٥٧م.
٢١٩  قصيدة فجر «تملك وحدة بديهية»، وفي صوفية «فإن النظام محسوس به» (Ruchon, J. A. Rimbaud, Champion, 1929, p. 180)، وفي «حكاية» و«ملكية» و«رحيل» و«فجر» و«متشردان»، «تظل الفكرة شبه متماسكة» Bouillane de Lacoste, Rimbaud et le probléme des Illuminations, Mercure de France, 1949, p. 243.
٢٢٠  ولأن النص قصير، فإنني أعيده هنا بكامله:
رأيت ما يكفي. قوبلت الرؤية على كل النغمات.
نلت ما يكفي. ضوضاءات المدن، في المساء، وفي الشمس، ودائمًا.
عرفت ما يكفي. مواقف الحياة. — يا للضوضاءات والرؤى!
رحيل في العاطفة والصخب الجديدين.
وتبدو هذه القصيدة كأنها قد كُتِبَت لحظة الرحيل مع «جيرمان نوفو».
٢٢١  Génie de Rimbaud. Delagrave, 1934, p. 60. يقول «م. فونتين»: «أي كاتب أنيق العبارة ذلك الذي لن يعتبر نفسه سعيدًا بشيء ثمين كهذا؟» وقد سبق أن رأينا كل هذه الأساليب شائعةً للغاية لدى شعراء النثر، ومن بينهم «بودلير» (قارن «نصف كرة في خصلة شعر»).
٢٢٢  هذه النثريات — وفقًا ﻟ «بويان دي لاكوست» — هي «الأكثر إثارة للإعجاب بشكل عام»، وليست النثريات الأخرى سوى «شعوذة لفظية خالصة» (op. cit., p. 243).
٢٢٣  «عبر الشعر ومن خلال الشعر، في آن، عبر الموسيقى ومن خلالها، تستشف الروح الروائع الكامنة وراء القبر» (Notes Nouvelles sur Edgar Poe).
٢٢٤  Poe, Le Domaine d’Arnheim (Nouvelle Histoires extraordinaire, trad. Baudelaire).
٢٢٥  Rêve parisien, Œuvres, éd., de la Pléiade, t. I, p. 115.
٢٢٦  قارن ﺑ «كائن جميل»، ص١٧٥: «العذوبة المحتدمة لهذه المؤثرات».
٢٢٧  قارن بما سبق في الفصل الثاني من القسم الأول.
٢٢٨  طفولة–١، ص١٦٨.
٢٢٩  «لا! لم تعد ثمة دقائق، لم تعد ثمة ثوانٍ! اختفى الزمن، إنها الأبدية التي تحكم، أبدية من المباهج!» (الغرفة المزدوجة، سأم باريس، Œuvres, Pléiade, t. I, p. 410).
٢٣٠  «نعم، إنه هنا (حيث) يجب الذهاب للتنفس، للحلم وإطالة الساعات بلا نهائية الأحاسيس» (دعوة إلى السفر، نفس المرجع، ص٤٣٢).
٢٣١  أمسية تاريخية، ص١٩٢.
٢٣٢  حيوات–٣، ص١٧٤.
٢٣٣  مدن، ص١٨٢.
٢٣٤  مدن، ص١٨٣.
٢٣٥  أمسيات–٢، ص١٨٥.
٢٣٦  صوفية، ص١٨٥.
٢٣٧  شباب–٤، ص٢٠٠.
٢٣٨  بربري، ص١٩٠.
٢٣٩  حول هذا المزج للبحر والسماء، انظر Chisholm, French Quarterly, Mars 1929.
٢٤٠  قارن بما سيلي في الفصل الثاني من القسم الأول.
٢٤١  خيمياء الكلمة، ص٢٢٣.
٢٤٢  قارن «حيوات–١»، ص١٧٣: «ما الذي فعلوه بالبراهما الذي شرح لي الأمثال؟» (…) «أتذكر ساعات من الفضة والشمس نحو الأنهار …»
٢٤٣  إنه الانطباع الذي تمنحه — على أية حال — «حيوات–٣»، ص١٧٤ («لقد صورت الكوميديا الإنسانية (…) قابلت جميع نساء الرسامين القدامى (…) أنجزت عملي الهائل …»)، حتى لو قبلنا — مثلما هو محتمل — بأن «رامبو» يستخدم ذكريات حقيقية (قارن A. Adam, L’énigme des Illuminations, Revue des Sciences humaines, Décembre, 1950, p. 227). cf. Baudelaire, La vie antérieure.
٢٤٤  طفولة–٤، ص١٦٩.
٢٤٥  قارن بإعادة إنتاج المخطوط في أطروحة «بويان دي لاكوست»، ص١٦٧.
٢٤٦  «تجيء خادمة إلى جواري، (…) أستطيع القول إنها كانت كلبًا صغيرًا» (صحاري الحب، ص١٦٣)، «هذه العائلة وجر من الكلاب (…) لقد أحببت خنزيرًا» (خيمياء الكلمة، ص٢٢٣). ويمكننا أن نلاحظ — بالمقابل — أن «رامبو»، بعد أن قال إن «الشاعر محمل بالإنسانية، بل بالحيوانات نفسها» (خطاب الرائي، ص٢٥٥)، لا يمنح هذه الأخيرة إلا مكانًا محدودًا — نسبيًّا — في شعره.
٢٤٧  الحلولية  Panthéisme: مذهب يرى أن الله والطبيعة شيء واحد، وأن الكون المادي والإنسان ليسا إلا مظهرين للذات الإلهية.
٢٤٨  الفراديس الاصطناعية، ٣: مسرح سيرافيم (Œuvres, Pléiade, t. I, pp. 293-294). وهناك أكثر من مقارنة — علينا القيام بها — بين الهلوسات التي يصفها «بودلير» والأشكال التي تتخذها — أحيانًا — «رؤى» رامبو (في قصائد مكتوبة — ولا شك — حوالي عام ١٨٧٢م.) ولنسجل أنه في طبعة «كالمان-ليفي» لعام ١٨٦٩م، كانت «فراديس اصطناعية» تالية لقصائد نثر صغيرة لبودلير.
٢٤٩  خطاب بتاريخ ١٥ مايو ١٨٧١م (Œuvres, p. 254)، وتم توضيحه بخطاب إلى «إيزامبار» بتاريخ ١٣ مايو ١٨٧١م (Œuvres, p. 252).
٢٥٠  أغنية السيد، هي قصيدة فلسفية ضمن الملحمة الكبرى «ماهابهاراتا» الهندية، والنص الرئيسي من «فيدانتا»، حيث يعرض الإله «كريشنا» — على «آرجونا» — نظرية الفعل. وتمثل «أغنية السيد» أحد النصوص الفلسفية الهندية الأساسية.
٢٥١  Rimbaud le Voyant, p. 51. Cf. Etiemble, Rimbaud, N.R.F., 1936, pp. 18-19.
٢٥٢  ملاحظات منشورة في L’Artiste، ٢ يونيو ١٨٤٤م.
٢٥٣  حتى لو كانت إشارات «فيرلين» عن «إشراقات» صائبة — «زخارف»، «نقوش ملونة» — فيبدو لي مستحيلًا ألا يكون حاضرًا في ذهن «رامبو» المعنى العادي، «رؤى ساطعة»، وربما كاشفة. وليس ضروريًّا — لذلك — أن نجعل من «رامبو» صوفيًّا، وسيكون الأصوب أن نقول إن هذه الإشراقات — المفاجئة والتركيبية أساسًا — تمثل خصائص الحدس الشعري نفسه. (قارن Hans Larsson, La logique de la poésie, trad. H. Philipot, Leroux, 1919, pp. 22–24).
٢٥٤  التشديد من «فاليري» Mélange, N.R.F., 1941, p. 192.
٢٥٥  Rimbaud, l’artiste et l’être moral, Messein, 1923, p. 37.
٢٥٦  Génie de Rimbaud, Delagrave, 1934, p. 25.
٢٥٧  Œuvres, p. 200؛ قارن بما سبق في الفصل الثاني من القسم الأول.
٢٥٨  يعيد «هلفيثيوس» — الذي قرأه «رامبو» بدأب في شارلفيل — التعرف فينا على خاصيتين «سلبيتين» هما «الحساسية الجسدية» و«الذاكرة»، التي «ليست سوى إحساس مستمر أصابه الوهن» (De l’Esprit, Discours 1, chap. 1: cité par Rolland de Renéville, Rimbaud le Voyant, p. 118).
٢٥٩  كما يشير إلى ذلك «دلاهاي» Les Illuminations et une Saison en Enfer d’A. Rimbaud, Messein, 1927, p. 48.
٢٦٠  قارن ﺑ Les Chevaux de bois de Verlaine, dans les Romances sans paroles.
٢٦١  أشير إلى أتباع «شارل شاسيه» القادمين، الذين أرادوا تفسير «رامبو» من خلال «ليتريه Littré» (مثلما حاول «شاسيه» مع «مالارميه»)، بأن أصل الكلمة التي ذكرها «ليتريه» ﻟ «أخدود – Orbitaria» مشتق من Orbita، بمعنى عجلة العربة.
٢٦٢  أثارت هذه القصيدة هذيانًا حقيقيًّا في التفسير: في مقابل «جوفان»، الذي يرى فيها «رؤى عدنية» لعالم يتجمل بحب فيرلين (Rimbaud vivant, Corréa, 1947, p. 169)، يقدم «هاكيت» تفسيرًا على صعيد التحليل النفسي، حيث يرمز قوس قزح — مثلًا — إلى الحبل السُّري … (Le lyrisme de Rimbaud, Nizet, 1938, p. 112). ويجد فيها «إيتيومبل» — عن دقة أكبر — وصفًا ﻟ «كافة قاذورات» العالم الذي يُقال إنه متحضر: «التجارة، الجرائم، الأديان»، كل ما يستدعي طوفانًا جديدًا (Rimbaud, N.R.F., 1936, p. 95).
٢٦٣  Rimbaud, p. 95.
٢٦٤  ها هنا، على سبيل المثال، تؤكد العودة الأخيرة ﻟ «أحجار كريمة» و«أزهار» — المذكورين في البداية — على وحدة المقطوعة، طبقًا لطريقة التكرار الشائعة في قصيدة النثر (بعد الطوفان، ص١٦٧-١٦٨).
٢٦٥  قارن «شباب–٤»: «كل الاحتمالات التناغمية والمعمارية ستتأثر حول مقعدك». ويمكننا — في الواقع — القول إن البنية الشعرية لدى «رامبو» ليست ميلودية بل هارمونية، أو — إن شئنا — إن طريقته في التفكير وفي التركيب ليست — كما سبق أن قلنا — خطِّيَّة، تعاقبية، بل تركيبية، أوركسترالية.
٢٦٦  جنية، ص١٩٦. واستخدام النزعة الإنجليزية الزخرفية هو حقًّا الدرس الصائب (قارن بالطبعة المحققة من «إشراقات» ﻟ «بويان دي لاكوست»، Mercure de France, 1949, p. 113).
٢٦٧  ألا يمكن ﻟ «هيرودياد» التي ألفها «مالارميه» — ونُشِرَت عام ١٨٦٩م في Parnasse contemporain — أن تكون قد قدمت تذكيرًا ﺑ «عيني» و«رقصة» هيلين، «وهي ما تزال متميزةً بالانفجارات المفتعلة، بالتأثيرات الباردة»؟ ومن ناحية أخرى، فاسم هيلين، وذكر «قارب متكاسل» و«روائح هابطة»، يمكن أن يكون قد جاء من «مقاطع إلى هيلين» لبو، التي ترجمها «مالارميه» عام ١٨٧٢م في Renaissance ﺑ «بليمون»، التي يقول مقطعها الأول: «هيلين، جمالك بالنسبة لي يشبه مراكب نيس في القديم، التي كانت تحمل، الهوينى، على بحر معطر، المسافر الشاحب والمتعب إلى شاطئ مولده».
٢٦٨  Revue des Sciences humaines, Décembre 1950, p. 233.
٢٦٩  مثلما أوضحه «إيتيومبل» جيدًا في Rimbaud, N.R.F., 1936, pp. 163–168.
٢٧٠  «ممثلون صغار» (طفولة–٤)، «عصافير ممثلة» (مشاهد) … إلخ.
٢٧١  مشاهد، ص١٩١.
٢٧٢  «الشلال يقرقع خلف أكواخ الأوبرا الكوميدية» (حفل شتائي)، «متعة الديكور والوقت الفريدين» (جنية).
٢٧٣  فيما يتعلق بلندن، ألا يمكن أن نفكر أنه بالنسبة لغريب مثل «رامبو» — الذي لا يفهم كلمات الأوبرا الكوميدية جيدًا (ما دام الأمر يتعلق بأوبرا كوميدية في «مشاهد» و«حفل شتائي) — فإن الافتتان المرئي هو الأساس؟ ولنسجل أن «رامبو» لا يبدو ضليعًا في الموسيقى، وقد تعرف في باريس على رسامين وكتاب، لا موسيقيين)، قارن ﺑ «باردي» المذكور في بداية طبعة (Pléiade, p. XXVIII). قارن — مع ذلك — ﺑ Rimbaud et la musique ضمن S. Briet, Rimbaud notre prochain, Nouvelle édition latines, 1965.
٢٧٤  وإذا ما فكرنا أن «رامبو» كان يشاهد المسرحيات — ولا شك — بالطابق الثاني أو الثالث، ويرى ردهة المسرح من أعلى، ألا يمكن أن نرى — في ذلك — تفسيرًا لهذا الوصف الغريب ﻟ «سجاد من الخيوط الفضية ومن عيون ومن خصلات شعر»؟ هي فرضية بسيطة، مثل كل الفرضيات التي يمكن القيام بها …
٢٧٥  Rimbaud, N.R.F., 1936, p. 164.
٢٧٦  «أمسيات»، ص١٨٤. ألا يُذكِّر هذا النص — هو أيضًا — بمشهدٍ ما؟ «الإضاءة تعود إلى شجرة البناء. ومن طرفي الصالة، ديكورات ما، وتصاعدات هارمونية تتلاقى».
٢٧٧  قارن بما سبق في الفصل الثاني من القسم الأول.
٢٧٨  قارن — في «الجسور» — ﺑ: «شعاع أبيض، يسقط من أعلى السماء، يُغني هذه الكوميديا» (Œuvres, p. 179).
٢٧٩  أمسية تاريخية، ص١٩٣.
٢٨٠  حيث نستطيع أن نرى — في شبه يقين — رسمًا كاريكاتوريًّا للمراسم الكاثوليكية، على نحو ما أوضح «ا. آدام» (المركب النشوان، ٦ سبتمبر ١٩٥٠م).
٢٨١  ومن المغري تمامًا أن نرى — في «مدن–١»، مع «ا. آدام» — مشهد الجبل العالي (قارن Revue des Sciences humaines, Décembre 1950, pp. 236-237). لكن «رامبو» — فيما يبدو لي — يثري المشهد الحقيقي بذكريات مسرحية مستعارة، سواء من شيكسبير («موكب مابز»)، أو فاجنر («ركب المغنين»، كتذكير ﺑ «مغنين صغار»، و«قبو الحدادين والنُّساك»، كتذكير ﺑ «سيجفريد»): ونعلم أن «رامبو» في «ليل الجحيم» من «فصل في الجحيم»، يُلمح إلى «خاتم» نيبلونجين (ص٢١٣).
٢٨٢  (والاستشهاد مستمد من «طفولة–٣») Rimbaud, N.R.F., 1936, p. 167.
٢٨٣  مدن–١، ص١٨١.
٢٨٤  Rimbaud, l’artiste et l’être moral, Messein, 1923, p. 23.
٢٨٥  A l’ombre des jeunes filles en fleurs, t. III, éd. Gallimard, 1919, p. 103.
٢٨٦  عن هذا المزج بين البحر والسماء، انظر Chisholm, French Quarterly, Mars 1929.
٢٨٧  قارن بمقالي عن Rimbaud, Proust, et les impressionnistes في العدد الخاص من Revue des Sciences humaines, Autour du Symbolisme (2° trimestre 1955), pp. 257–262.
٢٨٨  في «بَحرية»، على سبيل المثال، حيث يستخدم «رامبو» طريقةً تتمثل في استخدام ألفاظ بحرية للمشهد الأرضي والعكس بالعكس.
٢٨٩  مدن–١، ص١٨١.
٢٩٠  Jean-Arthur Rimbaud, Champion, 1929, p. 140؛ وينبغي ملاحظة ألَّا وجود — في «إشراقات» — إلا لقصيدة «حُلمية» واحدة، هي «ليلية مبتذلة».
٢٩١  Rimbaud et la révolte moderne, N.R.F., 1952, pp. 62-63؛ قارن ﺑ «مراعي الفولاذ والزمرد»، «تراب القمة»، «الضوضاء المفجعة تتبع منحدرها». وبالنسبة ﻟ «تيبوديه»، فإن «صوفية» (بسبب الفقرة الأخيرة: «العذوبة المزدهرة للنجوم والسماء وما تبقى تهبط أمام المنحدر مثل سلَّة») هي — ببساطة — «رؤية رجل مستلقٍ، ينظر إلى المشهد وقد قلب رأسه» (Mallarmé et Rimbaud, Reflexions sur la littérature, Gallimard, 1938, p. 162).
٢٩٢  وهو أمر طبيعي، ما دام يتعلق ﺑ «رؤًى» لا بسرد، في أغلب الأحيان. لكنه أينما يقوم بالسرد، فيا له من تتابع متسارع يفرضه على الأحداث! وكي ندرك ذلك، علينا بإعادة قراءة «حكاية» أو «حيوات–٣».
٢٩٣  مقدمة Cornet à Dés, 1916، وقد أُعيدَ نشرها في طبعة Stock, 1923, p. 16.
٢٩٤  La pensée poétique de Rimbaud, Nizet, 1950. في هذه الأطروحة، فإن «التحليل الظاهري للتفصيلة، الذي كان للبنية الفوقية أن تستند عليه، ليس سوى المراجعة المنتظمة، المصطنعة تقريبًا، القسرية دائمًا، لفرضية لن نستطيع وصفها بالميتافيزيقية، بل بالماوراء نفسية، حقًّا» (Etiemble, Rimbaldisme et Rimbaldite, Les Temps Modernes, Novembre 1949, p. 915)، وقارن لنفس الكاتب (Le mythe de Rimbaud, Structure du mythe, Gallimard, 1950, pp. 120–122).
٢٩٥  أستعير العبارة من «أو. نادال» (Revue d’Histoire littéraire, Avril–Juin 1951, p. 224). ويبرز هذا التقرير — جيدًا — المزايا والمبالغات في عمل «جينو».
٢٩٦  قارن بأطروحة «ميشو» عن Le message du symbolism, Nizet, 1947. وقد أوضح «نادال» جيدًا (في مقال سبق ذكره) أن فكرة وجود شعر رامبوي رمزي مسبقًا، لا يمكنها أن تتفق مع أسبقية «المخطط الجدلي».
٢٩٧  خطاب الرائي (إلى «دوميني»، ١٥ مايو ١٨٧١م)، Œuvres, p. 255.
٢٩٨  «ولأن كل قول فكرة، فسيأتي زمن للغة عالمية» (خطاب ١٦ مايو ١٨٧١م، ص٢٥٥). ونعلم أن هذه الفكرة — عن لغة عالمية — الأثيرة لدى الخفائيين occultistes، قد راودت كثيرًا من الشعراء، من بينهم «نرفال» الذي يشير إليها في «أوريليا»، و«مالارميه» فيما بعد، ومع ذلك، فلم يثبت — إطلاقًا — رغم جهود «جينو»، أن «رامبو» استطاع قراءة كتب عن «الخفائيين» و«القبلانيين»، في مكتبة شارلفيل، قارن ﺑ Etiemble, Rimbaud, N.R.F., 1936, pp. 32-33, et Le mythe de Rimbaud, Structure du Mythe, chap. sur Rimbaud et la Kabbale, pp. 115–123. ويمكننا — فحسب — الاعتقاد بأن تلميذًا عمره سبعة عشر عامًا — مهما كانت عبقريته — ما كان بمقدوره إدراك فكرة «لغة عالمية»، دون أن تكون قد لفتت انتباهه بضع قراءات: ربما «بالانش» لا «فيجييه» و«ليفي».
٢٩٩  Œuvres, p. 219. وعن سوناتا «الحروف المتحركة» و«الاستماع الملون»، سيفيدنا أن نقرأ الدراسة الحديثة والمتكاملة ﻟ «أ. نوليه» في Noulet, Le premier visage de Rimbaud, Bruxelles, 1953, pp. 109–187.
٣٠٠  تنطلق محاولة «غيل» من سوناتا «الحروف المتحركة»، التي نشرها «لوتاس» عام ١٨٨٣م (قارن بما سيلي، القسم الثاني، الفصل الثاني، تحت عنوان «موسيقى وتأثير فاجنر».)
٣٠١  «إن التطبيق المنهجي لمعايير سوناتا الحروف المتحركة أمر مستحيل»، كما يكتب «روشون» (J. A. Rimbaud, Champion, 1929, p. 123).
٣٠٢  «يا له من إحباط إزاء الانحراف الذي يمنح الليل مثلما يمنح النهار — بصورة متناقضة — وقعًا معتمًا هنا، ومنيرًا هناك» (Crise de Vers, Œuvres, éd. de la Pléiade, p. 364).
٣٠٣  فيما يتعلق ببودلير، أحيل إلى كتاب «ج. بومييه» الأساسي La Mystique de Baudelaire, Belle-Lettres, 1932 الذي يطور كل النتائج الجمالية لسوناتا «توافقات» والبيت الشهير:
الروائح والألوان والأصوات تتجاوب.
٣٠٤  قارن ﺑ «الارتعاشات الفضية» للماء، Nouvelle Heloïse, IV partie, Lettre XVII.
٣٠٥  نعرف اﻟ Frigus opacum في الرعوية الأولى.
٣٠٦  يقول «ج. بومييه» (مرجع سابق، ص١٤٠) إن «مؤلفات فيرلين تستحق — في ظل هذه العلاقة — دراسة كاملة»، ويقدم — كمثال — مقطوعة «حفلات أنيقة» و«إلى كليمين»، حيث يربط «فيرلين» بين الأحاسيس البصرية والشمية:
ما دام العبير ينم
عن شحوبك البجعي،
وما دامت طهارة
شذاك … إلخ.
ونعلم أن «رامبو» — منذ عام ١٨٧٠م — كان شديد الإعجاب بهذا الديوان (قارن Correspondance, Œuvres, p. 243).
٣٠٧  Baudelaire, Corti, p. 108.
٣٠٨  Rimbaud, Gallimard, 1936, p. 198 et sq..
٣٠٩  جُمل، ص١٧٨.
٣١٠  كائن جميل، ص١٧٣.
٣١١  متروبوليتان، ص١٩٠.
٣١٢  Rimbaud, p. 206.
٣١٣  نقبل بموجات موسيقية تتسع «في دوائر»، ويباغتنا «جرس ناري وردي»، لكن ما الذي يمكن اعتقاده في قمر «يصيح ويحرق» أو «زهور» «تخور» (مدن–١، ص١٨١)؟
٣١٤  Ce qu’on dit au poéte à propos de fleurs (قصيدة موجهة إلى «بانفيل» بتاريخ ١٤ يوليو ١٨٧١م)، Œuvres, p. 96.
٣١٥  قارن — في «فصل في الجحيم» — ﺑ: «حاولت ابتكار زهور جديدة» (وداعًا، ص٢٢٩) إشارةً — ربما — إلى زهور «بنية» و«زرقاء» الواردة في «ذكرى» (ص١٢٢).
٣١٦  قارن Mallarmé, Crise de Vers (Œuvres, Pléiade, p. 368).
٣١٧  طفولة–١، ص١٦٨.
٣١٨  طفولة–٢، ص١٦٩.
٣١٩  مدن–١، ص١٨١.
٣٢٠  رأس بحري، ص١٩١.
٣٢١  Ce qu’on dit au poéte à propos de fleurs, p. 99.
٣٢٢  ترجع الملحوظة إلى «م. كولون» M. Coulon, Au cœur de Verlaine et de Rimbaud, Le Livre, 1925, p. 148؛ قارن ﺑ «حلم باريس» لبودلير (Œuvres, Pléiade, p. 115). والواقع أن «بودلير» يحل محل النبات المعدن أو الرخام:
كنتُ قد طردتُ من هذه المشاهد.
النبات غير المنتظم …
٣٢٣  بعد الطوفان، ص١٦٧.
٣٢٤  فجر، ص١٨٦.
٣٢٥  Baudelaire, Elévation. انظر فصل «ج. بومييه» الذي جعل من هذا البيت عنوانًا له، في La Mystique de Baudelaire, pp. 71–80.
٣٢٦  «كل شيء حساس» لفيثاغورس، انظر — في هذا الصدد — P. Berret, La philosophie de V. Hugo, Paulin, 1910, et Les Chimères de Nerval, avec exégèses de J. Moulin, Texte littéraire français, 1949.
٣٢٧  رأس بحري، ص١٩١.
٣٢٨  متروبوليتان، ص١٨٩.
٣٢٩  جنية، ص١٩٦. قارن «تبدد الروائح»، في «صباح السُّكر»، ص١٧٦.
٣٣٠  صوفية، ص١٨٥.
٣٣١  بعد الطوفان، ص١٧٦.
٣٣٢  ضيق أليم، ص١٨٩.
٣٣٣  بعد الطوفان، ص١٧٦.
٣٣٤  جنية، ص١٩٧.
٣٣٥  يقول «بودلير» في يومياته (Œuvres, Pléiade, t. II, p. 629): «سماء مأساوية. صفة لنظام مجرد مطبق على كائن مادي». انظر — في هذا الصدد — J. Pommier, op. cit., p. 86.
٣٣٦  في Nocturne Parisien des Poèmes Saturniens.
٣٣٧  طفولة–٢، ص١٦٩.
٣٣٨  طفولة–١، ص١٦٨.
٣٣٩  أمسيات، ص١٨٤. وذلك دون ذكر تأثيرات الهلوسة الناجمة عن الحشيش مثلما وصفها «بودلير»: «ستتخذ تصاوير السقوف حياةً مرعبة … تعرجات الخطوط لغة واضحة بالقطع، حيث تقرءُون الإثارة وشهوة الأرواح» (قصيدة الحشيش، ٤، Œuvres, Pléiade, t. I, p. 305).
٣٤٠  Baudelaire, Richard Wagner et Tannhaüser (Œuvres, Pléiade, t. II, p. 487).
٣٤١  منذ العصور الموغلة في القدم، والنخلة رمز للقوة والانتصار، وفي اللغة الدارجة، تعبيرات من قبيل remporter la palme وdonner la palme.
٣٤٢  Royauté, Œuvres, p. 175. وسوف نلاحظ الطريقة التي يعيد بها الحيوية إلى كليشيهات قديمة، بأن يمنحها مظهرًا ملموسًا باستخدام كلمتي «بساتين النخل».
٣٤٣  ضيق أليم، ص١٨٩. ولنذكر — على عجل — حسن الحظ الذي ستشهده كلمة «نخلة»، في نفس الصيغة التعجبية لدى «مالارميه» (هبة القصيدة) و«فاليري» (نخلة) و«سان جون بيرس» (مديح).
٣٤٤  Mallarmé l’Obscur (Denoël, 1941, pp. 39 et 80). ومن الغريب أن نجد — لدى «رامبو» — (وقد خرج لتوه من الطفولة)، العلاقة «زهرة – لازورد»، «العذوبة المزدهرة للنجوم والسماء … الهوة المزدهرة الزرقاء» («صوفية»، ص١٨٥). وفي «فصل في الجحيم»: «السماء الزرقاء والعمل المزدهر للريف» (ص٢٠٩).
٣٤٥  «المجامر، وهي تهمي هباتِ ريحٍ جليدية» (بربري، ص١٩٠)، «ملائكة من لهب وجليد (صباح السُّكر، ص١٧٥). قارن — في «أبدية»:
إنه الممشى البحري
مع الشمس.
(Derniers Vers, Œuvres, p. 132)
وحسب «رولان دي رونيفيل»، فإن «اقتران الماء بالنار» يرمز إلى «مشاركة الطيبين والأشرار في الحب المطلق»، ويمثل الفكرة الأساسية في «إشراقات» (Cahier de la Pléiade Printemps 1950, p. 108). وأترك له مسئولية تأكيدات كهذه.
٣٤٦  أذكر هنا — كما نرى — «فصل في الجحيم» (وداعًا، ص٣٠٦)، وأيضًا «إشراقات»: طالما أن التداعيات — بالتحديد — قد استبدت برامبو على مدى حياته الأدبية.
٣٤٧  طفولة–٥، إشراقات، ص١٧٠.
٣٤٨  قارن — في «فصل في الجحيم» — هذا المقطع الدال: «في المدن، كان الطين يبدو لي — فجأةً — أحمر وأسود، مثل مرآة عندما يدور مصباح في الغرفة المجاورة، مثل كنز في غابة! حظًّا سعيدًا صرختُ، ورأيتُ بحرًا من اللهب والدخان، في السماء، وإلى اليسار وإلى اليمين، كل الثروات مشتعلة مثل مليارات من الرعود» (ص٢٠٩)، إنه، في آن، رؤيا رمزية وانطباعية (فكرة المصباح وانعكاسه الأحمر، ذكريات طفولة ربما نجدها — من قبل — في «صحاري الحب»، الأعمال، ص١٦٢).
٣٤٩  أمسيات، ص١٨٤.
٣٥٠  جُمل، ص١٧٧.
٣٥١  مدن، ص١٨١.
٣٥٢  متروبوليتان، ص١٨٩. والتضييق التدريجي للجملة ملحوظ — هنا — بشكل خاص.
٣٥٣  قارن بما سبق في الفصل الثاني من القسم الأول.
٣٥٤  ضيق أليم، ص١٨٩.
٣٥٥  بربري، ص١٩٠. وهذه القصيدة مؤسسة بكاملها — تقريبًا — على التداعيات أو صدمات الأسماء المشحونة بكهرباء شعرية.
٣٥٦  طفولة–٢، ص١٦٩. وفيما يتعلق بهذه الجملة، يلاحظ «ا. بالاكيان» — بعبقرية — أننا نجد فيها تداعيات بصرية بين صليب الفارس والصليب الذي تشكله أجنحة الطاحونة (Literary origins of Surrealism, King’s Crown, New York, 1947, chap. IV, 2: Rimbaud, p. 82).
٣٥٧  حول إيقاع ما تم تسميته — لفترة طويلة — «إشراقات منظومة» (ما يسمى الآن «أشعار أخيرة»)، و«إشراقات» النثرية، سنجد إيضاحات قيمة — رغم أنها متعجلة إلى حدٍّ ما — في الأطروحة التي قدمها «ماكس ريبي» عام ١٩٤٨م إلى جامعة زيورخ Essai d’une Rythmique des Illuminations d’Arthur Rimbaud.
٣٥٨  متشردان، ص١٨٢.
٣٥٩  انظر Dû, Le Groupement ternaire dans la prose de Victor Hugo romancier, de 1818 à 1831, Hachette, 1929.
٣٦٠  Mon Bisaïeul, Gaspard de la Nuit (Mercure de France, 1911, p. 110).
٣٦١  M. David, statuaire, eod. loc., p. 219.
٣٦٢  حول «تماثلات» برتران، قارن بما سبق في [قصيدة النثر قبل بودلير].
٣٦٣  Jean-Arthur Rimbaud, Champion, 1929, p. 167.
٣٦٤  بعد الطوفان، ص١٦٧.
٣٦٥  ضيق أليم، ص١٨٩.
٣٦٦  جنية، ص١٩٨.
٣٦٧  أمسيات–١، ص١٨٤ (التشديد من عندي). وقصيدة «أمسيات–١» مكتوبة بنفس حبر قصيدة «ليلية مبتذلة»، وهذه القصائد — كما أوضح «ا. آدام» — قد كُتِبَت، فيما يبدو، في فترة أخرى مغايرة لفترة اﻟ «إشراقات» الأخرى المنشورة في مجموعة «جرو»، ربما عام ١٨٧٢م. قارن بما سبق في الفصل الثاني من القسم الأول.
٣٦٨  جُمل–١، ص١٧٧.
٣٦٩  متروبوليتان، ص١٨٩.
٣٧٠  حكاية، ص١٧١. وفيرلين، الذي يقول في «قصائد زحلية»:
ودائمًا ما أكره المرأة الجميلة،
والقافية السجعية والصديق الحذر!
يمكن أن يكون «رامبو» قد هداه إلى القافية السجعية (قارن Champion, Ruchon, Jean-Arthur Rimbaud, 1929, pp. 215-216).
٣٧١  H., p. 194.
٣٧٢  في مقدمته لأعمال رامبو (Mercure de France, 1913).
٣٧٣  ليلية مبتذلة، ص١٨٧.
٣٧٤  أزهار، ص١٨٦. وقد سبق لهوجو أن استخدم — مرارًا — «الثالوث المتماثل صوتيًّا في بداية الكلمات»: «أحدب، أعور، أعرج»، «قابلوه، وشاهدوه وجهًا لوجه، وتعرفوا عليه». أينبغي أن نذكر إلى أي حد تتكرر هذه الطريقة في نثر رجال الخطابة اللاتينيين، الذين — إذا ما صدقنا «دلاهاي» — تأثر بهم «رامبو» قدر تأثر «هوجو» بهم؟ راجع (Le Dû, Le groupement ternaire dans la prose de Victor Hugo romancier, Hachette, 1929).
٣٧٥  أهُنا سيصفرون للعاصفة، والسودومات، والأورشليمات، والحيوانات المفترسة والجيوش.
(– أيعود الحوذي وحيوانات الحلم تحت أضخم الأشجار، لإغراقي حتى العينين في نبع الحرير)
– ودفعنا، عبر المياه الهادرة والأدغال المتنشرة، متدحرجين فوق نباح الكلاب …
٣٧٦  Œuvres, p. 187.
٣٧٧  Rivière, Rimbaud, Kra, 1930, pp. 189-190. وفي نفس الوقت الذي نرى تنويعات حرف O «نرى الصوائت s أو d أو c، وهي تمر مثل رسم ثانوي، عابرةً — بصورة مكتومة — سلسلة التوافقات الرئيسية»، على ما يلاحظ ريفيير.
٣٧٨  طفولة–٢، ص١٦٩.
٣٧٩  بربري، ص١٩٠.
٣٨٠  A. Spire. Sur la technique du vers Français (Mercure de France, 1912, t. 78, p. 502). يتعلق الأمر — بطبيعة الحال — بالنثر الاستدلالي والشعر الحر. قارن G. Lote, L’alexandrin d’aprés la phonétique expérimentale, Crés, 1912, p. 106.
٣٨١  قارن بما سيلي، تحت عنوان «إيقاعات قصيدة النثر»، الفصل الثالث من القسم الثاني.
٣٨٢  قارن Cressot, Le style et ses techniques, P.U.F., 1947, p. 168.
٣٨٣  قارن بما سبق في الفصل الثاني من القسم الأول.
٣٨٤  ليلية مبتذلة، ص١٨٧.
٣٨٥  رحيل، ص١٧٥.
٣٨٦  جُمل، ص١٧٧.
٣٨٧  إلى عقل، ص١٧٦.
٣٨٨  فجر، ص١٨٦.
٣٨٩  صباح السُّكر، ص١٧٧.
٣٩٠  جُمل، ص١٧٨. التشديد من عندي.
٣٩١  Arthur Rimbaud, Œuvres de Mallarmé, éd. de la Pléiade, p. 516.
٣٩٢  يصعب الاعتقاد — مثلما يقترح «إيتيومبل» في طبعته الأخيرة من مؤلفه «رامبو» — بأن «رامبو» كان يسعى إلى «البحث عن دور» في هراري، بأن يحول نفسه إلى تاجر للعبيد ومهرب أسلحة (Rimbaud, 1950, p. 222). فهو لم يسعَ إلى «الدخول في لعبة أخلاقية»: اجتماعية، نعم. ويقدم «إيتيومبل» نفسه — فضلًا عن ذلك — بعض التحفظات الحكيمة (قارن في الفصل الثاني من القسم الأول).
٣٩٣  Etiemble, Rimbaud, N.R.F., 1936, p. 234. أسمح لنفسي بالشعور بالأسف لأن «إيتيومبل» — الذي كثيرًا ما قال الكثير من الأشياء الصائبة عن «رامبو»، في هذه الطبعة الأولى — قد شعر، منذ ذلك الحين، بالحاجة — في نفس وقت هدم «الأساطير» — إلى هدم فكرة شعر ذي طموحات ميتافيزيقية، وأن يعدل خاتمته كلها، فهو يعلن أنه كان — عام ١٩٣١م — «ضحية هذا النمط الذي يجعلنا نعتبر الشعر أسلوبًا في المعرفة والنشاط الأسمى» (Introduction à l’édition de 1950, p. 14). أفينبغي أن نستخلص من ذلك أنه يرى حاليًّا — مثل طبعته من كتابه «رامبو»، أحدث موديل — أن «من أجل تغيير الحياة»، من أجل تغيير العالم في جميع الحالات، فإن مُحولًا واحدًا لهو أقوى من مائتي ألف استعارة» (Rimbaud, 1950, p. 223)؟ لم يعد الشاعر أكثر نفعًا من لاعب بولينج، سبق أن قرأنا ذلك في مكان ما.
٣٩٤  رامبو، رصيد، إشراقات (Œuvres, p. 200).
٣٩٥  لقد أوضحت «ا. بالاكيان» — جيدًا — فكرة أن أزمة روحية يمكن أن تؤدي إلى السيريالية وتجدد الشعر، «فتمنح جوهرًا لمفهوم الوجود اللانهائي» (ص٩٨). لكنها — فيما يبدو لي — تنتقص من دور «رامبو» الأساسي.
٣٩٦  Jean-Arthur Rimbaud, Champion, 1929, p. 262.
٣٩٧  لن ألخص هنا حكاية الطبعة المزعومة «غير المنشورة»، التي عُثِرَ عليها عام ١٩٤٩م، من «الصيد الروحي»، وأحيل إلى النص الذي قدمه مؤلفو العمل المعارض في Figaro Littéraire, 28 Mai 1949: Histoire d’une Chasse qui ne voulait être que spirituelle، وأستعير منهم النتيجة التي نستخلصها من هذه المسألة: «نستطيع معارضة طريقة الصنع، لا عبقرية المؤلف». ومن البداية، فلم يخطئ في ذلك أحد، ومن بينهم أندريه بريتون، وجان بولان، ورولان دي رونيفيل، وآخرون.
٣٩٨  «حلم كثيف وسريع لجماعات عاطفية مع كائنات من جميع الطباع خلال كل المظاهر» (سهرات–٢، ص١٨٤).
٣٩٩  خطاب إلى «ج. كاريه» (٢٥ فبراير ١٩٤٣م).
٤٠٠  إن «رامبو» — في الوقت الحالي — «أكثر إرباكًا من هوجو»، هكذا كتب «كوكتو»، عام ١٩٢٦م، في Lettre à J. Maritain, stock, 1926, p. 53.
٤٠١  ولا غرابة في أنني لم أذكر — في هذا الفصل — مؤلَّف «إيتيومبل» الهام حول Le mythe de Rimbaud (t. I, Structure du Mythe, Gallimard, 1952; t. II, Genèse du Mythe)، الذي ظهر عام ١٩٥٤م، ويكمل المجلد الأول بيبليوجرافيا محققة بالغة الأهمية، تتألف من أكثر من خمسمائة صفحة، فقد كان فصلي شبه مكتمل عندما ظهر الكتاب، ولم ألجأ إليه إلا للمراجعة أو التأكد من بعض النتائج. و«مجموعة الحماقات» الهائلة هذه، إذا ما كانت تعيد مناقشة كثير من المسائل، فإنها لا تدعي — فضلًا عن ذلك — إلا القيام بإزالة للعوائق. وفيما يتعلق بالبيبليوجرافيا — بشكل خاص — فإننا نستسلم للأحلام إزاء المكانة التي تحتلها الدراسات والتأويلات الميتاأدبية عن «رامبو»، فيما تشغل الدراسات التي تتعلق بالشعرية والأسلوب واللغة ما يقل عن مائتي صفحة (ص٥٢٩-٥٣٠). وكان «ب. بيتيتفيتش» قد سبق أن اشتكى في «بيبليوجرافيا» (L’Œuvre et le visage d’Arthur Rimbaud, Nizet, 1949) من هذا الفقر الغريب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥