الفصل الثالث

لوتريامون والشعر الجنوني

  • (١)

    عالم لوتريامون. الجنون الفعَّال. الشعر يتحول إلى فعل تحريري. من هنا، شكله الخاص.

  • (٢)
    أناشيد مالدورور: رواية أم قصيدة نثر؟ النزعات الغنائية والفانتازية؛ الانقطاع. بنية المقاطع الشعرية.
  • (٣)

    نثر لوتريامون: الأسلوب والإيقاع. العنصر المخادع. الثراء المجازي.

  • (٤)

    الخلاصة: تأثير لوتريامون: على الجيل الثاني من الرمزيين، على السيرياليين، على قصيدة النثر. الشكل الأدبي يبقى رغم الرغبة المدمرة للعمل الأدبي. لوتريامون والانتحال.

***

من العبث البحث عن تلك المؤثرات الأدبية التي استطاعت دفع «لوتريامون» — في «أناشيد مالدورور» — إلى تبني شكل اﻟ «نشيد» المقسَّم إلى فصول بلا روابط كبيرة واضحة، ذات طابع سردي أو غنائي، ويمكن منحها — عن حق تمامًا — اسم قصائد نثر، ونعلم — على سبيل المثال — أن «جاسبار الليلي» كان موجودًا في مكتبة والده في «مونتفيديو»، لكن إذا ما كانت الشيطانية الفانتازية للعملين تستدعي المقارنات، فإن الشكل والأسلوب لا يطرحان سوى نقطة مشتركة وحيدة، ألا وهي اختيار النثر كوسيلة تعبير، ويمكن — بشكل أكثر مشروعية — افتراض تأثير «ليالي» يونج وغنائيتها الطنانة،١ والتوراة — وبشكل خاص رؤيا القديس يوحنا اللاهوتي — (التي تمثل — بالنسبة لناقد حديث — المصدر الرئيسي ﻟ «أناشيد مالدورور»).٢ ولنذكر — بصدد التقسيم إلى «أناشيد» – التأثير المؤكد الذي مارسه «ميلتون»٣ على «لوتريامون»، بالإضافة إلى «بايرون»، ﮐ «واحد من أربع أو خمس منارات للإنسانية».٤ وفيما يتعلق بصيغة «الرواية – القصيدة»، أو — بشكل أدق — الرواية المكونة من سلسلة من اللوحات أو القصائد القصيرة، فلن يكون من العبث أن نذكر أن الاسم المستعار ﻟ «إيزيدور دو كاس»: «لوتريامون»، مستمد من «لاتريومون» لأوجين سو، المنشور عام ١٨٣٨م، وهو كتاب، كما يقول «أ. سو» في المقدمة، مكون من «سلسلة من اللوحات المنفصلة ظاهريًّا، وإن تكن مترابطةً فيما بينها بالفكرة أو — بالأحرى — بإرادة «لاتريومون» التي لا تُرَوَّض».٥ ولكن — بعد كل هذه التشابهات، رغم مبرراتها — إلامَ سنصل؟ إلى نتيجة مفادها أنها لا تكفي لإدراك الشكل الأدبي لعمل يحطم كل معايير الأدب، فما يتعلق بلوتريامون لا يماثل حالة «برتران»، الذي اختار — على سبيل المثال — عن قصد، أن يكتب «أناشيد غنائية» نثرًا، فارضًا على نفسه إطارًا ثابتًا، أو «لامنيه» الذي اختار الشكل التوراتي والآيات، فالشكل الشديد الخصوصية ﻟ «أناشيد مالدورور»، الوسيط بين شكل الرواية ذات الفصول وشكل ديوان قصائد غنائية، قد فرض نفسه — بشكل طبيعي، حسبما يمكننا القول — على مؤلفه، باعتباره الشكل العضوي لشعره. ويستجيب هذا الشكل للرغبة في إبداع صيغة أدبية جديدة بأقل من استجابته لضرورات عالم شعري مستقل، علينا الآن أن نحاول الولوج إليه، إذا ما أردنا فهم أية قوانين عميقة تشكل وتنظم «أناشيد مالدورور».

(١) عالم لوتريامون

الوجود الفعال: الشعر «فعل» تحريري
وعمل كهذا — كما يلاحظ أحد النقاد — «لا ينطوي على الإضاءات النقدية المعتادة، إنه يهرب من التفسير المنطقي».٦ فما من شيء في الحياة يفسر لنا القصيدة، وذلك، أولًا، لسبب بسيط يكمن في أن ظلًّا عميقًا يحيط بحياة «إيزيدور دو كاس»، سواء في «مونتفيديو» أو في فرنسا — حيث جاء وعمره ١٤ عامًا لمواصلة دراسته في «تارب»، ثم في «بو»، فلا نعرف في أية ظروف ألَّف — في باريس، بين عامي ١٨٦٧م و١٨٧٠م — «أناشيد مالدورور»٧ — ولا لماذا أحرق، عام ١٨٧٠م، ما كان يعبده، وتخلى عن «شعر الشك»،٨ وكتب «مقدمة لكتاب قادم»، وهي قصيدة تراجعية عن حق، ووفاته — في ٢٣ نوفمبر ١٨٧٠م — هي أيضًا أكثر غموضًا من حياته، فلا أحد تقريبًا٩ من معاصريه يتذكره، أو يعرفه، وكل ما تبقى من مراسلاته بضعة خطابات إلى صرافه وإلى ناشريه: لقد عبر مثل شهاب، وغاص في الليل، دون أن يترك أثرًا، لا شيء سوى العمل الذي يظل غامضًا، غريبًا ومستغلقًا، وتظل كل الفرضيات الأدبية، والنفسية، والخاصة بالتحليل النفسي، التي تمت لتفسير الكتاب ومؤلِّفه، جزافيةً تمامًا. وإحدى الملاحظات القيمة، التي يمكن ذكرها، تكمن في أنه «ليس عن طريق الخطأ أن وُلِدَ دو كاس خلال ثورة،١٠ وأنه مات قبل سقوط الكوميونة، خلال حصار باريس»، فمثل بطله «مالدورور»، ربما تكمن عبقريته في أنه لم يستطِع أن يجد مناخًا يمكن التنفس فيه إلا في رياح العواصف، وأعاصير الكوارث، وعلينا ألا ننسى أن «رامبو» قد كتب الجزء الأساسي من إنتاجه في نفس الفترة تقريبًا، صبيحة الحرب. «ثمة شيء مدهش، بشكل مطلق، يكمن في حقيقة أن إيزيدور دو كاس قد قام في عشية الحرب نفسها بتجربة مماثلة للتجربة التي سيقوم بها رامبو بعد ذلك مباشرة».١١

«لوتريامون» - «رامبو»: التشابه يفرض نفسه، وقد فرض نفسه بسرعة بالغة، وعندما نتعمق فيه فسنتكتشف أنه يتجاوز ما كنا نعتقد في البداية، شاعران شابان (عمر «دوكاس» عشرون عامًا، و«رامبو» سبعة عشر)، جاء كلاهما إلى باريس لينضجا رائعتيهما، يتميزان كلاهما بالعنف، والتهكم، والمزاج الفوضوي، وفجَّرا كلاهما جميع الأعراف الأدبية، ولجآ — من أجل التعبير عن نفسيهما — إلى قصيدة النثر في أكثر أشكالها حرية، وودَّعا — على عجل بالغ — دورهما الأدبي، وتخليا عن ماضيهما. وداع ليس بعده سوى الموت، الموت للأدب كله من جانب «رامبو»، الذي أصبح تاجر عبيد، بما لا يقل في حقيقته — بمعنًى ما — عن موت «لوتريامون» في شارع «فيفيين»، والعملان اللذان حازا على فاعليتهما واعتبارهما — بعد وفاة مؤلفيهما بوقت طويل — يكشفان عن مقاومة متعادلة لأي تعليق.

ما يدهشنا — عندما نقرأ العملين — هو رؤية شابين يقفان بكل قواهما، وبعنف، ضد كل ما يشكل الحياة الاجتماعية: ضد الناس، ضد الحب، ضد الأخلاق البرجوازية، وضد الله، وضد كل هذه العناصر الاجتماعية، استخدما أدوات نزعة فردية محتدمة: البربرية، والسادية، والحقد، والتهكم، والفوضوية. والعملان يمثلان تمردًا هائلًا لمراهقين غير متكيفين مع عالمنا، ومجاهدةً عنيفة — في نفس الوقت — لخلق عالم آخر لنفسيهما، على مقاسيهما، وربما يكون «تيبوديه» أول من أوضح أهمية هذه الرغبة الصبيانية في الاستقلال: «إن مالدورور وإشراقات — كما يقول — عملا مراهقين، يستمدان قوانينهما الأدبية من نفسيهما، ويطبقان — على الفور — رؤيتيهما الصبيانية على الحياة، ويرفضان اعتبار عمريهما مرحلةً انتقالية، ولا يكتشفان أي مبرر ليتصرفا كالرجال».١٢ وسأضيف أن الرفض المضاد — من جانب هذين المراهقين — لأشكال الحب الطبيعية، يعمق أيضًا من الهوة بينهما وبين الرجال: فشذوذهما الجنسي — (الذي برهنت عليه، بالنسبة للوتريامون، دراسة «م. بلانشو» اللافتة للنظر)١٣ — يفصلهما، بعنف، عن الحياة الاجتماعية الطبيعية: فلنقرأ تعاليم «مقدمة لكتاب قادم» التي تقدم لنا — وقد تم «تشذيبها‍» بسخرية — المعطيات الرئيسية ﻟ «الأناشيد»، وتدعونا إلى ألا نتنكر ﻟ «حب العائلة، والزواج، والمؤسسات الاجتماعية»:١٤ وهو جميع ما حاربه «مالدورور».
ألا يمكن أن نستخلص من كل ذلك أن قصيدة النثر — التي سبق أن أكدت على جوهرها الفردي والفوضوي — تقدم هنا (مثلما في حالة «جاري» وشعراء آخرين كثيرين فيما بعد)١٥ — الشكل الأدبي لتمرد مراهقَين ضد عالم رفضا الانضمام إليه؟ ولأنهما — على الأرجح — شهدا الحياة بشكل مختلف عن أغلب الرجال، بحث هذان الصبيان — أيضًا — عن لغة أخرى لترجمة العالم المختلف، عالمهما. وقد رفضا قيود البحر السكندري مع رفضهما لباقي القيود الاجتماعية، كتعبيرات مجتمع لم يكن معدًّا لهما، وإذا ما كانا قد قبلا بأية قوانين، فقد كانت — فحسب — قوانين العالم المعزول الذي عاشا فيه، وأن تكون اللحظة الأخيرة لهذا التمرد هي صرخة عجز، وإقرار بالهزيمة، فهو ما يمكن التنبؤ به: فلوتريامون يستنكر «مالدورور»، و«رامبو» يستنكر «إشراقات».١٦ إن الصمت والموت ينتظرهما في نهاية محاولتيهما، ورغم هذا، فقد تركا خلفهما مؤلَّفًا، وخلقا كفنانين عالمهما، دون أن يعيا ذلك بشكل واضح. ثمة عالم للوتريامون، كما أن ثمة عالمًا لرامبو: عالم مغلق، يبدو أن كلًّا منهما قد جاهد — عن قصد — ليجعله غير قابل للاختراق، لكننا نشعر أنه — حتى لو ظل غير مفهوم لنا — يمتلك منطقه الخاص، ووحدته، وقوانينه الحيوية.
ولا شك أن الجانب الهدَّام — لدى «لوتريامون» — يبدو أكثر وضوحًا، هذا النوع من الوحشية، التي سيترك «رامبو» نفسه لها — أحيانًا (في «دُوَار»، وبعض قصائد «إشراقات» مثل «بربري» أو «ليلة تاريخية») — إنما هي من الوضوح إلى حد أننا، في «أناشيد مالدورور»، استطعنا دراسة هذا العمل القاصم مثل «آلة جهنمية»١٧ حقيقية: هادم للعائلة، والمجتمع، والله، و— من الناحية الأدبية — هادم لكل أدب: فالعمل بكامله يعتبر سخريةً من أساليب التعبير المختلفة التي يقدمها الأدب للكاتب، ويصل إلى نفي كل تقنية أدبية. ثمة — بالفعل — في «أناشيد مالدورور»، نوع من السخرية الواسعة، والتهكم الدائم، وبشكل خاص في النشيد الأخير، لكن هذه السخرية شديدة الاختلاف عن السخرية الباردة، المثقفة للغاية لأحد مريدي «فولتير» مثلًا: فلوتريامون نفسه تحدث عن مؤلَّفه باعتباره «شعرًا متمردًا»، وتباهى بأنهم سيدرسونه باعتباره من «الشعراء الملعونين».١٨ ولا شك أن القارئ سيتشوش إلى حدٍّ ما («يفسد عقله»، كما سيقول «لوتريامون»)١٩ من التهكمات الدائمة، والنقد الذاتي الاستهزائي للمؤلف، ومن نبرة السخرية الواضحة في بعض المقاطع: فهو لم يعد يعرف — على سبيل المثال — إلى أي حد ينحدر البطل «مالدورور» من سلالة الشيطان الرومانتيكي، والتمجيد المرعب لكل قوى الشر، أم إنه مجرد السخرية منها. ماذا نظم بهذا اﻟ «مالدورور» الذي يعشق سمكة القرش، التي تفكر في أن ترسل، في هجوم على الإنسانية، بكتائب من القمل، ربتهم لهذا الغرض في حفرة، وترمي لهم — من حين لآخر — كطعام، ﺑ «طفلِ سِفاح وُلِدَ لتوه»، أو بذراع مقطوعة لفتاة أثناء الليل؟٢٠ ونتذكر هجائية «لاتوش» الشهيرة، «الكلاسيكيون المنتقمون»:
«أعلِّق الأطفال! لقد أكلتهم أحياء!»
ها هو الرومانتيكي وميوله المنحازة.٢١
ثم نقول لأنفسنا إنه ما من شيء خارق في أن يكون «لوتريامون» — الذي غذاه أكثر الرومانتيكيين كآبة، «ليالي» يونج والروايات السوداء٢٢ — قد استُدرِجَ إلى المزايدة، أيضًا، على هؤلاء، وها هي فقرة من «راهب» ﻟ «لويس»، تشهد واقعيتها المفرطة — في عام ١٧٩٥م — على ميل سائد إلى البشاعة: والموضوع يتعلق بموت الراهب، الذي يلقي به الشيطان من فوق حافة صخرية:
تدحرج من جرف إلى جرف، مهشمًا، مرضوضًا، ممزقًا، إلى أن توقف على حافة جدول، لم تكن الحياة قد انطفأت بعد في جسده الممزق. عبثًا حاول النهوض: فأعضاؤه المفصولة والمحطمة رفضت أن تطيعه، ولم يستطِع مغادرة المكان الذي هوى إليه … ملايين الحشرات توافدت — وقد أيقظتها الحرارة — لترتشف الدم الذي كان يسيل من جروح أمبروزيو … نهشت نسور الجبال لحمه إلى أشلاء، وانتزعت مناقيرها المدببة حدقتي عينيه …٢٣

وهل علينا أن نُذكِّر بأن «بودلير» — قبل بداية الحضور الأدبي للوتريامون بأعوام قليلة — قد اعتُبِرَ مخادعًا ذي مبالغات تمردية بسبب واقعية وعنف و«شيطانية» مؤلَّفاته؟

والواقع أن بعضًا من مبالغات «أناشيد مالدورور» يمكن النظر إليها — في آن — كتعبير عن اتجاه أدبي للفترة (إنها الشيطانية والواقعية الرومانتيكية في حدها الأقصى: «لقد غنيت الشر مثلما فعل ميكيفيتش وبايرون وميلتون وساوثبي وأ. دي موسيه وبودلير … إلخ. وبالطبع فقد بالغتُ إلى حدٍّ ما في النغمة لتحقيق الجديد …» كما اعترف «لوتريامون»)،٢٤ وكميل خاص في مزاج «لوتريامون».
وقراءة «أناشيد مالدورور» تمنحنا الإحساس بضيق شبيه بذلك الذي نشعر به عند قراءة التراجيديات الإليزابيثية،٢٥ التي يدفعنا عنفها وجنونها إلى أن نؤمن — حقًّا — بمقصدها المخادع، في حين أن هذه الأجواء المتوترة، التي يعبرها البرق والصواعق، هي المناخ الطبيعي لرجال هذه الفترة.
وإذا كان من غير الممكن إنكار الجانب التهكمي والساخر لدى «لوتريامون»، فلا ينبغي — لهذا — أن نعتقد في انتفاء أي صدق في عنفه أو مبالغاته، وعلى العكس، فمن المدهش أن نلاحظ أن نزعة السخرية الهدَّامة لا تسيء — هنا — إلى أصالة العمل، فبدونها لن يكون للعمل القوة الشعرية، وإمكانية التأثير فينا بعمق، ولا شك أن ذلك يطرح مشكلة معرفة كيف يمكن لهذا البُعد الهدَّام والسلبي أن يتعايش مع خلق عالم شعري، عالم غامض لكنه مخترق بالإشراقات. وكيف يمكن لقوة التهكم العقيمة ألا تصيب بالموت مخلوقات هذا العالم الدوكاسي٢٦ الغريب، الذي نشعر فيه — على النقيض — بالتعبير عن ارتعاشة حيوية فياضة؟ علينا — فيما يبدو — الذهاب إلى أبعد من هذا التناقض الظاهري، إلى النقطة التي يُحَل فيها: بعبارة أخرى، علينا البحث في العمل عن تفسير يمكن أن يقبل الصدق والتهكم معًا: هذا التفسير يبدو لي — هنا — هو ما سأسميه ﺑ «الجنون الفعال» ﻟ «لوتريامون».
ثمة إيقاع معين للحدث، وضراوة معينة، يمنحان الكتاب — بالفعل — حيويةً وقوة مدهشتين: إنها هذه الضراوة الفعالة التي بحثها أحد النقاد — «باشلار» — في مظهرها اﻟ «عدواني». فهو يقول — على سبيل المثال — إن هذا الشعر هو «شعر العنف الخالص»؛٢٧ ويدرس «جنون التحول»٢٨ في «أناشيد مالدورور»، ويكشف عن أن «الصورة الدوكاسية فاعلة كصورة جوهرية، فهي لحظة الرغبة في الهجوم، وتحقيق عنفوان تحولي …»٢٩ والواقع أن هذا الجنون — في العدوان والتحول — تصحبه نشوة ديونيسية، حتى — وبالذات — في الفقرات الأكثر قتامة، والأكثر قسوة في العمل. وبعد أن يذكر «أ. جالو» فصل المشنوق — الذي عذبته أمه وزوجته٣٠ — يعبر عن دهشته من أن «في هذه الصفحة الرهيبة، التي يبدو أنها تتماس مع الحد الأقصى من التشاؤمية وكراهية الإنسان، نجد نوعًا ما من الحيوية شبه المرحة».٣١ و«مالدورور» — الذي يمثل تجسيدًا للشر وقوى الموت لا يسعى إلَّا إلى إفناء، وهدم، وضرب كل الأشياء الأليمة والمميتة، والواقع أن موضوع الموت والهدم هذا يرتبط (على ما لاحظ ناقد آخر) ﺑ «واقع فترة استثنائية، بزمن الحماس، والقوة والإبداع الذي يشبه مبالغات الواقع».٣٢ ومن هنا — بشكل خاص — ينفصل «لوتريامون» عن الشعراء الرومانتيكيين الذين تغنوا ﺑ «الملل، والعذابات، والأحزان، والكآبة المبهمة، والموت والظل، والكئيب».٣٣ وحتى لو كان إلهامه الأوَّلي متشائمًا وكئيبًا، فيبدو أن جنون الفعل قد جرف كل شيء في قوته الإعصارية، وأن ضراوة العنف والهدم — التي تنفخ الحياة في الكتاب، وقد دُفِعَ بها إلى نقطة معينة — قد أصبحت فرحة فعل صافية، ونشوة حيوية خالصة. وإذا ما عكسنا تعبير «باشلار»، لأمكننا القول بأن «الرغبة في الهجوم» تتحول — هنا — إلى «الرغبة في الحياة»:٣٤ وكلما هدم «لوتريامون»، راكم الأنقاض حوله، وكلما شعر بأنه يعيش، أقنع نفسه بوجوده وبحيويته الفردية؛ وهذه النشوة الهدَّامة، التي تدفع بكل القوى الحيوية إلى النشاط، تصحبها بهجة خاصة، بهجة وحشية وشيطانية بالتأكيد، بهجة هي — رغم كل شيء — بهجة تحرر إلى حدٍّ ما، وأن يكون الكتاب فعلًا تحرريًّا، فهو ما يبدو حقيقيًّا — هنا — بشكل مزدوج. فمن ناحية، يتحرر «لوتريامون» — وهو يكتب — من كل ما قمعه، حتى هذه اللحظة، في المجتمع: إنه يبيد العائلة، ويسحق الأخلاق بقدميه بعنف، ويُفني الوعي والأمل (غذاء الضعفاء)، وهو يحمل حتى على الله وملائكته بالخيال — ولا شك — الذي يمنحه قوة محقِّقة، ومن ناحية أخرى، يتم توجيه الحدث — في نفس الوقت — ضد تعقيداته الخاصة، ونحو تحريره — بالكتابة (مثلما أوضح «بلانشو») — من «ماضٍ فتان».٣٥ هذه المجاهدة التي تدور في أعماق اللاوعي، بين ما هو واضح وما لا يريد أن يصبحه، يقودنا من فصل إلى آخر، بتبادل بين «حركات اقتراب وحركات تراجع»،٣٦ نحو نتيجة حتمية، نحو تحرر نهائي.
دينامية العمل هذه، وحقيقة أنه — في أساسه — فعل، تفسران الشكل الخاص الذي يتخذه، فهذه القصيدة — المكونة من ستة أناشيد — تتخذ، نظرًا لطولها، مكانةً منفردةً تمامًا في مجال قصيدة النثر: ولن يكون من الخطأ اعتبارها نوعًا من الرواية، يستمر الحدث فيها على امتدادها. لكن لن يكون خطأً أكبر اعتبارها ديوانًا لقصائد نثر، من مقاطع شعرية مبنية بطريقة مستقلة، تترك، وتستعيد، وتحول الموضوعات المختلفة، على نحو يحقق — في آن — حلًّا للاستمرار من مقطع شعري إلى آخر، والاستطراد المستمر — رغم هذا — من أول نشيد إلى الأخير. وفيما يتعلق بإسهام «لوتريامون» الشخصي في مفهوم قصيدة النثر، فثمة ما هو أصيل تمامًا، ويليق بدراسته عن كثب أكبر.

(٢) «أناشيد مالدورور»

رواية أم قصيدة نثر؟
في بداية النشيد السادس، يعلن «لوتريامون»:
على أمل أن أرى عاجلًا، ذات يوم أو آخر، تكريس نظرياتي من قبل هذا الشكل الأدبي أو ذاك، فإنني أعتقد أني عثرت أخيرًا، بعد بضعة ترددات، على صيغتي النهائية. إنها أفضلهم: إذ هي الرواية!٣٧

ويبدأ — على الفور — في «كتابة رواية صغيرة من ثلاثين صفحة»، يقود «مالدورور» حبكتها.

لكن، إذا ما كان النشيد السادس هو — بالفعل — تمجيد حقيقي للرواية، بل حتى للرواية المسلسلة (بترابط حلقاتها الغريبة، وهذيانها الميلودرامي المبتكر)، فإنه لا يعدو أن يكون نتيجةً لجهد امتُحن — على امتداد الكتاب — في اتجاه القصة الخيالية، وأحيانًا ما يبدو لنا أن «لوتريامون» إنما كان يهدف إلى كتابة رواية «خالصة»، تتخلص من البلادة، والبطء، والرصد النفسي. وما من شيء مدهش في ذلك، فإذا ما اعتبرنا أن الرواية، قبل كل شيء، حدث ذو سلسلة من الفصول، التي «يحدث شيء ما» خلالها، فإن هذا الشكل الأدبي كان وحده الكفيل بإطلاق طاقة الجنون لدى «لوتريامون».

وقد لوحظ أن «أجزاء من الرواية»، و«الفصول الأولى»، لم تكن نادرةً في «أناشيد مالدورور»:٣٨ فهي تشهد على ميل غريب لابتكار كائنات وأحداث، حتى لو أدت إلى قطع الحلقة المعدة على نحو مفاجئ. والأغلب — أيضًا — أن تقدم لنا حلقات أخرى — في إيجاز آسر — سلسلةً متواليةً من أحداث عنيفة، متراكمة على نحو جنوني: مثل حكاية المشنوق الذي تأتي والدته وزوجته الهائجتان لتمزيقه بوحشية، لأنه لم يكن متسامحًا مع رذائلهما،٣٩ ومثل حكاية الفتاة التي اغتصبها «مالدورور»، ونهشها كلب «البولدوج»، وانتُزِعَت في النهاية أحشاؤها.٤٠ ومثل حكاية «مالدورور» الذي تحول إلى عُقَاب، وصرع تنينًا، لم يكن سوى الأمل،٤١ وأغلب هذه الحلقات — التي تتخطى، في البشاعة والفانتازية، أكثر «الروايات السوداء» سوادًا — لا تفتقر إلى رابط بالحدث العام للكتاب (رغم أنها ترد بطريقة منفصلة، ولا تشكل تسلسلًا ما): إنها تدمج في «رواية» مالدورور رواية يقوم موضوعها على صراع «مالدورور» ضد الجنس البشري وضد الله، فعلى سبيل المثال، ينتهي الجزء الخاص بالصراع ضد التنين بهذا النداء إلى «مالدورور»، الذي يُستَخدَم كمدخل لتطورات الحدث التالية:
هكذا إذن، هزمت الأمل! من الآن فصاعدًا، سيتغذى اليأس من مادته الأصفى! من الآن فصاعدًا، تعود، بخطوات إرادية، إلى مهنة الشر!٤٢

ثمة إذن — في «أناشيد مالدورور» — حدث متتابع، وحلقاته المختلفة، رغم مظهرها المتنافر أحيانًا، ليست متروكة — بشكل مطلق — للصدفة، وذلك حقيقي، بشكل خاص، بالنسبة للأناشيد الأولى، حيث نجد منطقًا ما، وضرورةً ما تنحو إلى أن تجعل، لا كل جزء فحسب، بل كل نشيد، كُلًّا متكاملًا.

فإيجاز النشيد الأول مثلًا — وهو، فضلًا عن ذلك، الأكثر رومانتيكية، والأكثر «أدبية»٤٣ — شديد الوضوح: فالمؤلف يعرض مشروعه في الإنشاد للشر («أنا، أضع عبقريتي في خدمة تصوير ملذات القسوة»)،٤٤ ويقدم بطله «مالدورور» باعتباره «الشر» في ذاته، والتجسيد لكل قوى الشر («كان قد وُلِدَ شريرًا … وألقى بنفسه — بتصميم — في مهنة الشر»)،٤٥ والقسوة التي يبررها — من ناحية أخرى — باتهام سوء نية البشر، التي يعارضها بسكينة «المحيط القديم». والمقاطع التي يتغنى فيها «لوتريامون مالدورور» بالقسوة،٤٦ وانعدام الأخلاق،٤٧ وكراهية البشر،٤٨ تعبر عن المظاهر المختلفة لتمرده ضد الكون، تليها حلقتان دراميتان، حيث نشهد «مالدورور» يدخل مسار الحدث. وللختام، ثمة ضفدع مجنح يُنهي أول نشيد: فخلال مقابلته لمالدورور، يندد بجنونه وبكلماته «التي لا معنى لها، رغم أنها مفعمة بعظمة جهنمية»،٤٩ ويدين الصراع الذي يخوضه ضد الجنس البشري: «بأي حق تأتي على هذه الأرض، ألكَي تسخر من ساكنيها، أيها الحثالة العفنة، المضروب بالشكوكية؟»٥٠
وبالمثل، فالنشيد الثاني (الذي أُعلِنَ عنه في نهاية الأول، والمنشور على نحو مستقل عام ١٨٦٨م) يقدم وحدةً ما، وإرادةً بنائية، وهو يبدأ بسلسلة من اللوحات التي تستعير الكثير من الواقع، لكن لمسخ هذا الواقع بالمعنى الفانتازي، ويمكن أن نمنحها — حسب «ا. سو» — اسم «خفايا باريس»:٥١ الأوتوبيسات — الفتاة في الشارع — طفل التويليريه المخنَّث hermaphrodite؛٥٢ لوحات تساهم كلها في رسم صورة «مالدورور» في صراعه ضد المجتمع، وفي هذا الجزء الأول، الخاص بصراع «مالدورور» ضد الخالق — الذي يعلن عن كراهيته له،٥٣ وضد انبعاثه — سيصبح الوعي فاعلًا.٥٤ وفي وسط أناشيد التمرد هذه، تتفتح — كما الواحة — ترتيلة الرياضيات، والملكات والمعبودات، ملاذ وعزاء التمرد:
آه أيتها الرياضيات المقدسة، أيمكنك بتجارتك الدائمة، أن تعزِّي باقي أيامي عن شرور الإنسان وانعدام عدالة الأعظم!٥٥
وكما نرى، يرسم مجمل هذين النشيدين — بطريقة متكاملة — شخصيات الدراما الأساسية الثلاث: مالدورور — الإنسان، في مظاهر مختلفة (وسنلاحظ — بشكل خاص — أهمية الطفل الذي يهاجمه «مالدورور» بإيثار)، والله، والمظاهر الأساسية لصراعهما: سيلمح «لوتريامون» بنفسه — في بداية النشيد السادس — إلى هذه «الشخصيات الثلاث» التي اعترف بها — ضمنيًّا — كأبطال لعمله الدرامي.٥٦ لقد بدأ حدث تتتابع فيه القفزات — بدقة أقل بكثير، رغم هذا — في الأناشيد التالية.
وفيما يتعلق بالتفاصيل، فمن المفيد أن نرى «لوتريامون» وهو يستخدم (وخاصة خلال الأناشيد الأولى) أساليب رئيسية — في التكوين وفي التقديم — تخص الروائيين: فالحدث يُقَدَّم سواء مباشرةً، بطريقة موجزة وسريعة (واقعة الغريق)،٥٧ أو بحيلة المونولوج الذي يلي المراحل المختلفة ويعلق عليها (معركة «مالدورور» ضد التنين)،٥٨ أو الديالوج (محادثة «مالدورور» واللحاد، «الضائع في لوحة حدث سيجري في نفس الوقت»؛٥٩ ويمكن للحدث أن يكون موضوعًا لمشهد درامي ذي عدة شخصيات (مشهد العائلة في النشيد الأول)،٦٠ أو لسرد يدور بعد فوات الأوان بواسطة إحدى هذه الشخصيات (قصة المشنوق،٦١ والرَّجُل السَّمكة،٦٢ ومخطوط المجنونة.)٦٣ وكأن «لوتريامون» يستمتع باستعراض كافة أنواع السرد الممكنة.
وسيستخدم أيضًا كافة أنواع «الخدع» والمؤثرات المستعارة من تقنية الرواية: البدايات التي ترمي بنا في «خضم الشيء»:
عائلة تحيط بمصباح موضوع على المائدة:
– يا بني، أعطني المقص الموجود على هذا المقعد …٦٤
أو التي تتخذ السرد المعكوس، فتجعلنا نرى — مسبقًا — نتيجة الأحداث، قبل أن تعود بنا إلى الوراء، لترويها لنا (إنها — مثلًا — طريقة يستخدمها «بلزاك» كثيرًا):
ها هي المجنونة التي تمر وهي ترقص، فيما تتذكر — بغموض — شيئًا ما.٦٥
وفي حالة أخرى، يتم الإعلان عن نوايا «مالدورور» منذ البداية: «كنتُ أبحث عن روح تشبهني، ولم أكن لأستطيع العثور عليها»، ذلك ما يعلنه في البداية،٦٦ ثم يعود السرد، بعد استطراد واضح (لوحة السفينة التي تغرق) مثل سلاح مرتد boomerange٦٧ إلى نقطة انطلاقه، ويعثر على خاتمته الغريبة، لكن المنطقية: ظهور أسماك القرش المتوحشة وهي منكبة على الغرقى، بما يجعل «مالدورور» يدرك أن سمكة القرش هي هذا «الأنا الآخر» الذي طالما بحث عنه:
أخيرًا، ها قد عثرت على من يشبهني! … ومن الآن فصاعدًا، لن أكون وحيدًا في الحياة بعد ذلك! … كان لها نفس أفكاري! … كنتُ أمام أول حُب لي!٦٨
وأحيانًا ما يبحث «لوتريامون» عن إنتاج أثر التناقض، فيتوقف طويلًا عند وصف الطفولة المرهفة «بين أشعة الشمس والطيران الدائري للحشرات العابرة»٦٩ للفتاة التي سيحكي لنا — بواقعية — عن موتها الدامي. وفي مرات أخرى، لا ينفك الضيق الأليم — الذي يتولد منذ البداية — أن يتضاعف حتى النهاية (واقعة الأتوبيس).٧٠
وهو لا يهمل حتى الخيوط الجليلة، مثل خيط التعرف (يتعرف «مالدورور» على «هولزير» في الغريق الذي كان قد أنقذه لتوه)،٧١ أو الذكرى التي تنتعش فجأةً خلال لقاء غير منتظر، ويستثيرها عراف deus ex machina: فمالدورور، وهو يقرأ مخطوط المجنونة الذي يُذكِّره بجرم شبابه،
لم يعد بإمكانه الحفاظ على قواه، ويُغمى عليه. يستعيد وعيه ويحرق المخطوط. كان قد نسي ذكرى شبابه هذه (فالعادة تنهك الذاكرة)، وبعد عشرين عامًا من الغياب عاد إلى هذا البلد المشئوم.٧٢

النزعات الغنائية والفانتازية

ومع ذلك، وبالرغم من، أو بسبب هذه الأنساق الواضحة إلى حد أنها تتاخم المحاكاة الساخرة، فإن «لوتريامون» أبعد ما يكون عن المفهوم التقليدي للرواية! فاستخدام الألاعيب البالية، ألا يتخذ شكل الإنذار؟ فعن إهمال، وعن لا مبالاة واستهزاء، أيضًا، يلجأ «لوتريامون» — بطريقة مستخفة — إلى هذه التقاليد الأدبية العتيقة، الملائمة تمامًا لمن لا ينشغل بالإمكانية ولا بالحقيقة النفسية.٧٣ والمفردات الميلودرامية التي يستخدمها في هذه الحالات — («كم هو جميل إنقاذ حياة شخص ما!»)٧٤ «عاد إلى هذا البلد المشئوم»)٧٥ — إنما هي كرفَّة العين التي تحذرنا من الخديعة، ولا يهم «لوتريامون» أن يكون أكثر صدقًا، وأكثر عمقًا، وبراعةً من الروائيين السابقين، بل — على العكس — أن يكتب روايةً رفيعةً متحررةً من كل هذه العناصر المدنسة: التحليل النفسي، والأخلاق، ورصد التقاليد. ومن أجل أن يضرب مثالًا — أصبح شهيرًا بفضل «فاليري» — فإنه لن يحرم نفسه من أن يكتب (بابتسامة خفية): «خرجت الماركيزة في الساعة الخامسة»، دون أن يشرح لنا لا الأسباب، ولا الحالة النفسية للماركيزة، وعلينا ملاحظة: أن شخصيات «أناشيد مالدورور» هذه — تلك «الكائنات الخيالية» التي يعمر بها المؤلف قصصه الخيالية، «ليمان» و«لوهينجران» و«لومبانو» و«ماريو» … — تظل غير متماسكة، غير مرصودة، ولا تملك أية شخصية ولا أي قَوام: فما إن تولد حتى تتلاشى من ذهننا، مثلما يحدث مع الكتاب الذي تعبره بطريقة خاطفة:

إنهم يموتون في لحظة ميلادهم، مثل هذه الشرارات التي تجد العين صعوبةً في تتبع اندثارها الخاطف على الورق المحترق.

مثلما يلاحظ — بصددها — «لوتريامون» نفسه.٧٦
ومبدع هؤلاء الأبطال — الباهتين — لا يعنينا أمره، في الواقع، ولا يعنيه أمرهم حقًّا: فهو لا يُعنَى إلا بنفسه في علاقته بهم، أي بقسوته تجاههم، وسلوكياته الفظَّة التي يرتكبها ضد شخوصهم: فهم موجودون — فحسب — من أجل الخضوع للانتهاكات المادية أو المعنوية التي يقترفها «مالدورور». فمن خلالهم يُشبع «لوتريامون» حقده على الإنسانية، وأيضًا مشاعره الأخرى (الرغبة، والندم، والانتقام.)٧٧ ما من شيء هنا عن الحب التقليدي للراوي تجاه شخصياته: وكمبدع جهنمي، لا يستخرج «لوتريامون» مخلوقاته من العدم إلا كي يعيد إغراقها فيه بجنون. فبأية سلبية — من ناحية أخرى — تخضع كل هذه الشخصيات لمصيرها! فكلها، حتى «ميرفين» — «الممثل الرئيسي في هذه الحبكة الملتبسة»،٧٨ في النشيد السادس — لا يملك أية حقيقة شخصية، رغم أنه يستمر على مسرح الأحداث فترةً أطول من الآخرين، وليس إلا دُميةً بين يدي «مالدورور». فدراسة الطبائع، والتحليل النفسي، الأثيران لدى الروائيين الفرنسيين، هما أقل ما يشغل مؤلف «أناشيد مالدورور».
و«مالدورور» نفسه — تجسيد الشر، والملاك الشرير الذي يتصف بصفات فوق طبيعية — لا يملك وجودًا أدبيًّا مستقلًّا، رغم أن «لوتريامون» يسميه «طفلَ خيالي»:٧٩ فالحبل السُّري غير مقطوع، وهو كثيرًا ما يختلط بمبدعه إلى حد أن يتحدث «لوتريامون» عنه — بلا تمييز — بضمير الغائب أو المتكلم: على سبيل المثال، خلال لقاء «مالدورور» بسمكة القرش، نقرأ، دون تحويل للضمائر: «واجتمعا في وصال طويل، عفيف وشائن! … ها قد عثرتُ لتوي أخيرًا على من يشبهني!».٨٠ وبشكل أكثر غرابة أيضًا، نرى «لوتريامون» — الكاتب — يصرح: «آخذ الريشة التي ستبني النشيد الثاني»،٨١ وعلى أثر ذلك، تقريبًا، يظهر مضروبًا بالصاعقة، التي رماه بها الخالق؛ ويشير إلى نفسه باسم «مالدورور»، ويضيف: «لستُ أقل تصميمًا على قراري بالكتابة».٨٢ وقد كانوا على صواب أن رأوا في «مالدورور»: «عرضًا أحيانًا» لكل الغرائز الشريرة للوتريامون (أربما من أجل التخلص منها، عبر تعويذة ما؟) «وأحيانًا، إعادةً للتحقق الذاتي».٨٣
ويتوفر عمل كهذا على ركيزة من الغنائية، لا من الرصد، وهو لا يدين بحركته إلا لقوة داخلية، لا للدوافع النفسية. إنه عمل — كما يلاحظ «باشلار» — «يُولَد من رصد الآخرين، كما لم يُولَد — على وجه التحديد — من رصد الذات. فقبل أن تتم مراقبته، كان قد خُلِق».٨٤ ألا يؤكد تعريف كهذا — بشكل محدد — على القيمة الشعرية للعمل؟ وسأقارنه هنا — عن طيب خاطر — بالقَدْح الذي وجهه «ج. بندا» ضد الروائيين المعاصرين وموقفهم «المضاد للعقلانية»:
كانت الرواية تستهدف أن تكون — حتى ذلك الحين — رصدًا للحياة، وحُكمًا ضمنيًّا على الحياة، وفاعليةً إيجابيةً باختصار، وعملًا نقديًّا … والواقع أن مدرسةً بكاملها تريد، اليوم، أن تكون، قبل كل شيء … تأكيدًا على حساسية المؤلف، وسيرةً ذاتية، وعملًا شعريًّا.٨٥

رواية شعرية هي — إذن — «أناشيد مالدورور»، وبسبب الكثافة الغنائية التي تجعل منها عملًا وجدانيًّا لا «فاعليةً موضوعيةً» أبدًا. ولا يمكننا الزعم أبدًا بأننا مشغولون ﺑ «سرد» و«شخصيات»: سيكون أكثر دقةً أن نقول إننا منجرفون في حركة لا يمكن مقاومتها، في نوع من دائرة جهنمية تفضي بنا إلى قلب عالم ليلي، أكثر غرابةً — دائمًا — من عالمنا.

إنه خلق عالم فانتازي: هنا يكمن العنصر الآخر الذي يجعل من «لوتريامون» شاعرًا، بأكثر من كونه روائيًّا لما هو واقعي. فلا علاقة للوتريامون برصد الواقع، مثلما لا علاقة له برصد الطبائع، ومن المدهش أن نلاحظ أنه حتى في المشاهد الروائية، نشعر على الفور بأننا «مغتربون»، ومنقادون خارج عالمنا المألوف. وتقدم لوحة العائلة — لدى عودة «ميرفين» إلى منزله بعد لقائه بمالدورور— خليطًا من أغرب الكليشيهات في مجال الروايات المسلسلة («أثبت الصوت المعدني للعميد البحري أنه ظل قادرًا، مثلما خلال أيام شبابه المجيد، على السيطرة على جنون الرجال والعواصف»،٨٦ «الأم تسند يديها على جبينها والأب يرفع عينيه نحو السماء»)،٨٧ وصورًا غرائبيةً مقصودة، تمنح المشهد كله طابعًا غير واقعي: يحاول «ميرفين» العزف على البيانو، لكن «الأوتار النحاسية لا تصدر أي رنين».٨٨ وتريد أمه أن تقرأ بصوت عالٍ:
لكن بعد بضع كلمات، يغزوها فتور الهمة وتكف من تلقاء نفسها عن شرح العمل الأدبي. ويصيح أول مولود: «سأذهب إلى النوم». ينسحب، والعينان شاخصتان في تحديق بارد، دون أن يضيف شيئًا، ويأخذ الكلب في إصدار نباح مفجع؛ إذ لا يجد هذا السلوك طبيعيًّا، ورياح الخارج، وقد أخذت تندفع بشكل متفاوت في الشق الطُّولي للنافذة، دفعت الشعلة إلى الارتجاف، وقد ذوت بفعل قبتين من الكريستال الوردي للمصباح البرونزي.٨٩
ولا شك أن هذا النسق ليس من ابتداع «لوتريامون»، فنحن نجده في تلك «الروايات السوداء» (التي عرفها جيدًا)، حيث تخلق البروق وصفير الرياح المفجع أجواء الألم النفسي: ففي «أسرار أدولف» ﻟ «آن راد كليف» (١٧٩٤م)، «تصفر الرياح بلا انقطاع عبر الممرات الطويلة».٩٠ لكن «لوتريامون» يذهب إلى أبعد من ذلك أيضًا، ويتفكك العالم الحقيقي — تحت نظرته — وقد ضربته، فجأةً، الغرابة، والتنافر، وما إن يشعرنا «مالدورور» بوجوده، حتى تُشْحَن اللوحة — التي بدأت بدقة عادية — بنوعٍ ما من غموض عالم آخر، وها هو شارع «فيفيين» (حيث عاش «دوكاس» في باريس):

تعرض محلات شارع فيفيين نفائسها للأنظار المذهولة، وصناديق خشب الأكاجو والساعات الذهبية، وقد أضاءتها مصابيح الغاز العديدة، تنشر عبر الواجهات باقاتٍ من الضوء الساطع.

تدق الساعة الثامنة، وفجأةً:

يحث المتنزهون الخُطَى، وينسحبون مهمومين إلى بيوتهم. يُغمى على امرأة وتسقط على الأسفلت. لا أحد يرفعها: فلم يلبث كل واحد أن ابتعد عن هذه الناحية … وفجأةً أصبح شارع فيفيين متجمدًا بنوع من التحجر.٩١
إنه قانون من قوانين الفانتازيا، يتمثل في إدخال الخليط، والتراكب بين عالمين، أو (كما في الاستعارة) وعهدين مختلفين: لقد اعتُبر «لوتريامون» أستاذًا في فن «قلب» العالم الحقيقي، الذي يرفعه ويشقه ضغط قُوى لا مرئية، فلنُعد قراءة وصفه لأحد الأتوبيسات، وقد أصبح مكمنًا للكوابيس.٩٢
ويتزايد ضغط العالم تحت الأرضي — من النشيد الثالث حتى الخامس — وتغزو السرد عناصر ضالة، ومسوخٍ، تنبعث عنوةً في وضح النهار، وكأن المؤلف لم يعد قادرًا على فرض قانونه عليهم، وكثيرًا ما دارت المقارنات بين عالم الحلم والعالم الدوكاسي، حيث نعثر — كما يكتب «ل. ب. كينت» — «على الخصائص الغريبة التي تميز الحلم: التحولات الفورية للشخصيات، والتلاشيات الخفية للديكورات، والرفرفات الصامتة للجسد في الفضاء، والسقوط بلا نهاية في الفراغ، ومشاعر الدُّوار أو الاختناق»، التي قابلها كلٌّ منا في الكوابيس.٩٣ ومن هنا، فلا شك أن ثمة شعرًا خاصًّا يُولَد، لكن يتولد — أيضًا لدى القارئ — انطباع بالضيق والاختناق يفسران لماذا اعتُبِرَ «لوتريامون» مجنونًا حقيقيًّا.٩٤ والواقع أن عالم الحلم هذا لا يُقارَن — على الإطلاق — بعالم «نرفال» أو بعالم الرومانتيكيين الألمان: فهو مسكون برؤى ليست جهنمية فحسب، لكنها وحشية وكريهة، حيث القسوة تتضاعف بالرغبة في الإذلال والتدنيس، ويدهشنا — عند قراءة «أناشيد مالدورور» — هذا الحشد من الحيوانات الكريهة، الذين منحهم المؤلف — فيما يبدو — طاقته العدوانية،٩٥ والذين يعضُّون — في كل صفحة — ويحاصرون، ويخنقون، ويمصُّون، وتهاجم الحيوانات الخالق الذي فقد وعيه من السُّكر:٩٦ فالقنفذ «يغرس أشواكه في ظهره»، والنقَّار الأخضر والبومة يغرسان «المنقار في البطن»، ويغطيه الضفدع باللعاب، وفي موضع آخر، يصبح «مالدورور» نفسه فريسةً للحيوانات الأكثر إثارةً للاشمئزاز، القمل، والضفادع، والأفاعي، والقنافذ، والسرطانات، والميدوسات.٩٧  ٩٨ ونتذكر إحدى استعارات العصور الوسطى — وهي الملحوظة التي كتبها «بودلير» أيضًا — وكأنها تصلح نبوءةً للوتريامون:
كثيرًا ما فكرت في أن الحيوانات الشريرة والمقززة لم تكن إلا إحياءً وتجسيدًا وتفتحًا للأفكار السيئة للإنسان على الحياة العادية.٩٩
فكلما أوغلنا في الكتاب، نرى تجليات الكوابيس تتضاعف، مثلما في لوحات «جيروم بوش»، كائنات فانتازية، مخلوقات من عالم تختلط فيه الكائنات: شعرة «طويلة من رجل»،١٠٠ رجُل سمكة،١٠١ وجعران «ليس أكبر من بقرة» يجرجر كرةً بلا شكل، ليست سوى الجسد المتحول لامرأة.١٠٢ وكل شخصيات الكتاب فريسة هذيان حقيقي من التحولات، بدءًا بمالدورور (أحيانًا سمكة قرش، وأحيانًا أخطبوط، وأحيانًا ثالثة خنزير)، دون استثناء الله، الذي يلجأ — في صراعه مع «مالدورور» — إلى «التحولات المتعددة»،١٠٣ فيتحول — مثلًا — إلى ثعبان أصلَة أو كركدن.
وسُعار التحول هذا، هذا الهذيان الهيولاني — (المحسوس، كما سنرى، حتى في الأسلوب، حيث الاستعارات — التي تحدد، بالفعل، الانتقال من شكل إلى آخر — لها طابع «تحولي» حقًّا) — ينبغي تفسيره — دون شك — بالاحتياج المزدوج، لدى «لوتريامون»، إلى هدم مستمر وخلق مستمر. هذا التفتح للأشكال، التي تتلاشى دائمًا، وتُبعث دائمًا، تجعل التعبير الذي استخدمه «باشلار» — عن «أناشيد مالدورور»١٠٤ — «سينما متسارعة»، شديد الصواب. بل أحيانًا ما يحدث أن نشهد — تحت أعيننا — كائنًا وقد ظل معلقًا في قلب تحوله، متخذًا شكلًا مزدوجًا، وكأنه في حالة توازن في نقطة تقاطع عالمين، وذلك شارة على إيثار «لوتريامون» للحالات الملتبسة، غير المحددة، للرموز والصور المتعددة المعاني:
مصباح وملاك يشكلان جسدًا واحدًا، ذلك ما لا نراه كثيرًا. إنه «مالدورور» يتعرف على شكل المصباح، ويتعرف على شكل الملاك، لكنه لا يستطيع أن يفصلهما في ذهنه …١٠٥

ومن الطريف — فيما يتعلق بهذا المشهد — أن نقارن صراع «مالدورور» في الكنيسة ضد المصباح الملاك بالصراع الذي خاضه «لورنزو» — في الحلم — في «قس لويس» (١٧٩٦م) داخل كنيسة أيضًا، لينتزع من المسخ (الشبق) الفتاة التي يحبها:

انطفأت المصابيح، وانطوى المذبح، ونرى مكانه الهاوية … حيث المسخ يحاول جرجرة الفتاة، لكنها تنفلت وتصعد إلى السماء في سحابة لامعة.١٠٦
شيء غريب! فمن الوصفين، نجد — فيما يُقدَّم باعتباره وصفًا لحلم — الكثير من المنطق، والرموز الأكثر وضوحًا، والأقل فانتازية على العموم، وفي «أناشيد مالدورور»، نحن في قلب الحلم نفسه، مغمورون في عالم رخو، حيث الأشكال تنحل دائمًا، وحيث الدلالات تظل كامنةً، والرموز مبهمة؛١٠٧ فالذهن المنحرف يكابد تأثير هذا «السائل المغناطيسي»، الذي يدَّعي «لوتريامون» أنه بفضله يضع قارئه «في الاستحالة المنومة للتحرك»:١٠٨ ثابتًا، ومبهورًا، يشعر — رغم هذا — بأن توازنه يختل.

التقطيع

تقطيع السرد، والطريقة الفظة التي تنبثق بها الرؤى وتُمحى، يفاقمان أيضًا — من ناحية — هذا الانطباع الفانتازي المهدد، ويشكلان — من ناحية أخرى — مورفولوجية العمل نفسه، بتقويضهما — في كل صفحة — مفهوم الرواية هذا، الذي يبدو متأهبًا لفرض نفسه.

وينبغي أن نشير — بشكل خاص — إلى أن كل مشهد (ولنسمه قصيدةً، رؤيةً، سردًا) ينبثق مع الفجائية والآنية الغنائية، في قلب فترة غير محددة، شاسعة مثل الأبدية نفسها، فالزمن لا يلعب — هنا — الدور المألوف الذي يقوم به في الرواية، حيث تُرصَد الأحداث المختلفة على طول خط متسلسل تاريخيًّا وشديد التحديد: بل سيكون من السهل أن نوضح كيف أن المشاهد المختلفة لا «تندمج» وفقًا لمنظور متماسك،١٠٩ حتى عندما نأخذ بالاعتبار حقيقة أن «مالدورور» — ككائن فوق طبيعي، أبدي، «مثل البازلت»١١٠ — يواصل، عبر الأجيال المتتالية، صراعه ضد الإنسان وضد الله.١١١ ودون أن تكون خارج الزمن — تمامًا — تسبح القصائد في زمن سائل، يملأ الفجوات المتروكة بينها، وهي تنبثق منها مثل شُهب معزولة وخاطفة.
ولا شك أنه قد تمت الإشارة إلى أن ثمة موضوعات كبرى في «أناشيد مالدورور» تعاود الظهور، مرةً بعد أخرى، وتتحول، وتتحدد، مثلما يحدث في بناء موسيقي:١١٢ بعضها واضح للغاية، مثل الصراع ضد الله، والبعض الآخر أكثر غرابة، كلازمة رمزية أساسية تأتي لتلامس — من آن لآن — سطح الكتاب، صور رئيسية مثل تلك الخاصة بخُصلة الشَّعر١١٣ أو «الزوجين الجهنميين»، ولعبة الموضوعات هذه المتكررة والمطوَّرة في تنغيمات مختلفة، لا يجب أن تدهشنا من جانب مؤلف كان — إذا ما صدقنا الناشر «جنونسو» — يكتب ليلًا، وهو يجلس إلى البيانو، ويجعلنا نستشف — هنا وهناك — معارف موسيقية.١١٤ لكن ينبغي ألا ننسى أن لا ترابط بين هذه الموضوعات المختلفة، بل انقطاع وحَل للاستمرارية، فنحن نرى ظهور كل اللوحات على انفراد، ونستطيع أن نقرأها وندرسها، كُلًّا على حدة: فهي تشكل — تقريبًا — جُزرًا شعريةً، تمثل كل منها فرديتها، وشكلها الخاص بها، منفلتةً على «بياض» الصمت مثل جُزر أرخبيل، تتبدى منعزلةً على سطح الأمواج، رغم أننا نعرف أنها مرتبطة بقاعدتها التحت مائية، ولا تشكل — في العمق — إلا نفس القارة. استمرارية عميقة، وانقطاع على السطح: ذلك ما يفسر أننا نستطيع — مع ذلك — أن نتأمل اﻟ «كتلة» المالدورورية في وحدتها العضوية، وأن نبحث فيها عن قوانينها العميقة، أو أن نتوقف أمام مظهرها الخاص، المستقل، المكون من خمس وستين قصيدة نثر.
ومن المفيد — في هذا الصدد — أن نُذكِّر بأنه إذا كان «لوتريامون» لا يتحدث، في أي موضع، عن «قصيدة نثر»، فهو دائمًا ما يستخدم — في حديثه عن أناشيده — كلمة شعر،١١٥ ويشير — بشكل أكثر وضوحًا أيضًا — إلى أشعاره.١١٦ ومن ناحية أخرى، فعندما يتحدث عن «حذف بضع مقطوعات جهيرة للغاية» كي لا يفزع النقد،١١٧ فإنه يعتبر كتابه — حقًّا — ديوان شعر، يمكن إدانة بعض قصائده، مثلما فعل القضاء مع «أزهار الشر»، وأفضل صورة عن شعره قدمها هو بنفسه في بداية النشيد الخامس: إنها صورة طيران الزرازير، التي تحتدم كتلتها الطنانة — مرةً — ﺑ «الحركات الخاصة بدوران كلٍّ من أجزائها»، و— مرة — بحركة مجموع لا يكف عن التوجه «نحو نفس النقطة الممغنطة»:١١٨ صورة يطبقها «لوتريامون» — بالتحديد — بنفس «الطريقة المدهشة» التي ينشد بها «كُلًّا من هذه المقاطع الشعرية»، ويقدم هذه الفكرة المزدوجة عن استقلالها الشعري واندماجها — رغم هذا — في حركة المجموع.

بنية المقاطع الشعرية

يدرك «لوتريامون» — بالتأكيد — قصيدة النثر باعتبارها شكلًا شديد الحرية: ما دام يقبل بالسرد، والحوار، و«المقطع الكبير» الغنائي أو الخطابي،١١٩ أو المناجاة الساخرة من القارئ، الذي يصبح موضع خصام دائم. ورغم هذا، فليس لدينا الانطباع بأن المؤلف منقاد، يمضي حسبما اتُّفق، دون أن يعرف إلى أين يقودنا: فثمة — على العكس — شاغل يجب تسميته فنيًّا، يحدد دائمًا جرعة المؤثرات، وتكوين كل مقطع، ويحدث — في النشيد الأول بالذات (الأكثر خضوعًا للمؤثرات الأدبية، والأكثر «شعرية» بشكل إرادي) — أن يستعيد «لوتريامون»، من أجل تأكيد التوازن والبناء الدائري لمقاطعه، أنساقًا يمكن اعتبارها «كلاسيكية» — تقريبًا — في قصيدة النثر، وبشكل متوسع: استعادات، وتكرارات، وتوازيات … «لقد رأيت — كما يكتب — خلال حياتي كلها، وبدون أن أستثني أحدًا، جميع الرجال ذوي الأكتاف الضيقة … رأيت الرجال ذوي الرءوس القبيحة والعيون البشعة … رأيتهم جميعًا مرةً واحدة … رأيتهم أيضًا …»١٢٠ وكل بداية مشهد العائلة، قبل التدخل الفعال لمالدورور، يتم وزنها شعريًّا باللازمة التي تتكرر أربع مرات: «كنت أسمع من بعيد الصرخات المديدة للألم الموجع».١٢١ فهل ينبغي أن نذكر المقاطع الشهيرة، والأكثر فأكثر اتساعًا، والمنفذة بكاملها طبقًا لنفس النموذج، التي تبدأ كلها وتنتهي بنفس الكلمات: «أيها المحيط العجوز … إنني أحييك، أيها المحيط العجوز!» والميل إلى اللازمة بتكرارها على فترات محسوبة — بما يفرض على النص بنيةً إيقاعية — لهو واضح على امتداد العمل: في «مقطع» أتوبيس، من النشيد الثاني، حيث تقطع اللازمة الهرب الذي لا يكل وركض عربات القطار: «يهرب! … يهرب …»١٢٢ وفي «مقطع» غرق السفينة، حيث تطول اللازمة وتتباطأ لتنسجم مع ابتلاع السفينة: «وأخذت السفينة تطلق مدفع الإنذار في استغاثة، لكنها غرقت ببطء … بعظمة»،١٢٣ وفي بداية النشيد الثالث، حيث تعود اللازمة بشكل أقل تكرارًا وأكثر خفاء، لتفرض على الذهن — مع ذلك — صورة نزهة مستمرة على الجياد: «كانت جيادنا تركض بمحاذاة الشاطئ، وكأنها تهرب من العين البشرية …».١٢٤ وسنلاحظ في جميع هذه الأمثلة أن انطباع الحركة المستمرة — التي تتتابع، وتتلاحم من لازمة إلى أخرى — يتم التأكيد عليه بالاستخدام البارع لنقاط الإرجاء.

ومن ناحية أخرى، يثري «لوتريامون» المعمار الشعري بأنساق أكثر تعقيدًا، وبفضلها يتبدَّى المقطع الشعري — المفتقر، ظاهريًّا، إلى النظام — بعد التأمل، مبنيًّا على نحو بالغ البراعة. وسأذكر نسقين منها:

نسق التطويق  enveloppement، حيث ترسم الفكرة دائرةً واسعة، وبعد أن تبتعد عن أنظارنا (وقد قادتها — فيما يبدو — أمواج لفظية جانحة)، تعود لمحاصرة الموضوع الأساسي، الذي يريد «لوتريامون» أن يضيئه: والمثال في الجملة الهائلة التي تبدأ بهذه الطريقة:
تركت الكلاب آذانها ساكنة، ورفعت رءوسها، ونفخت الرقبة البشعة، وأخذت تنبح بالتناوب، أحيانًا مثل طفل يصرخ من الجوع، وأحيانًا مثل قط جريح مصاب بطاعون في المستشفى، أحيانًا مثل شابة تغني لحنًا ساميًا، ضد نجوم الشمال، ضد نجوم الشرق، ضد نجوم الجنوب، ضد نجوم الغرب، ضد القمر، ضد الجبال، الشبيهة، من بعيد، بالنجوم العملاقة، الراقدة في الظلام، ضد الهواء البارد الذي يتنفسونه بملء رئاتهم، والذي يجعل باطن منخارهم يحمر، حارقًا، ضد صمت الليل … إلخ.١٢٥
هذا السيل اللفظي، الذي ينقل — بلا نظام — ابتذالات مضجرةً وصورًا رائعة، تجعلنا نفكر — للوهلة الأولى — في التطورات البنتاجرويلية١٢٦ لرابليه أو هوجو، لكننا عندما ننظر عن كثب أكثر، سنرى أن «لوتريامون» — كما يقول «ل. ب. كينت» — «ينقطع نَفَسه بلا شك، لكنه لا يفقد أبدًا المغزى المنطقي للجمل»:١٢٧ فهو لا يبحث — فحسب — عن التأثير الذي يريد إنتاجه، طبقًا للقاعدة التي صاغها «إ. بو»، من خلال المغالاة في هذه الجُمل الكونية، حيث يدخل نباح الكلاب ضد الطبيعة كلها، بما يُظهِر نهمها المرعب للحرية وللَّانهائي،١٢٨ بل — فضلًا عن ذلك — وبعد أن يعيد إلى شباك نصه مظاهر العالم المحسوس، والرؤى والأصوات، والبوم «بطيرانه المنحرف»، والأشجار المورقة «المهدهدة برخاوة»، و«ضجيج الأمواج الأصم»، يغلق شباكه على الفكرة التي يسعى إلى تطويقها وأسرها بشكل نهائي، فكرة الكلاب التي تنبح «ضد الإنسان الذي يجعل منها عبيدًا»: هكذا يمضي حقد الإنسان على نفس مستوى الحاجة إلى اللانهائي، وهكذا يتم إعداد المشابهة بين الكلاب و«مالدورور»، الذي يكره البشر بفعل عطشه للَّانهائي، وبعد أن استشهد «ليون بلُوي» بهذا المقطع عن الكلاب، يذكر أنه يجده في جمال «الماس، الماس الأسود».١٢٩ وكمثال آخر للتطويق، يمكننا أن نذكر مقطع الغرق (الذي سبق أن ألمحت إليه)،١٣٠ حيث ينطلق «لوتريامون» من موضوع الروح الشقيقة، ليعود بنا إليه في الختام، بعد ست صفحات مخصصة للوحة الغرق.
أما نسق الموزاييك، فيتمثل في تقديم عدد معين من التفاصيل — في شكل متشظٍّ ومتنافر ظاهريًّا، مع تكرارات وعودات إلى الوراء — لتنتهي بأن تتجمع لتشكل رسمًا كاملًا: و«لوتريامون» يستخدمه ببراعة في المونولوج الذي يختتم النشيد الرابع، حيث ترافق الفوضى الظاهرة للاستداعاءات فوضى أفكار «مالدورور» المجرم:

كل ليلة، واتساع أجنحتي يغوص في ذاكرتي المعذبة، كنت أستحضر ذكرى «فالمير» … كل ليلة.

والواقع أن «مالدورور» قد سبق له، في سورة جنون، أن حَلَّق — في الهواء — بجسد صديقه «فالمير»، الذي تحطَّم عندما صُدِمَ بشجرة، فيما ظل شَعره في يد القاتل. وها هي كيفية التعبير عن وسواس وندم «مالدورور»، حيث يتبدَّى — من خلالهما — شيئًا فشيئًا، رسم الحدث:
هذه الصدمة، هذه الصدمة، هل قضت عليه؟ وعظامه هل تحطمت بفعل الشجرة … بما لا يمكن جبره؟ هل قتله هذا الصدم الذي اقترفه عنفوان مصارع؟ هل بقي حيًّا، رغم أن عظامه تحطمت بما لا يمكن جبره … لا يمكن جبره؟ هذه الصدمة هل قتلته؟ أخشى أن أعرف ما لم تشهده عيناي. والواقع … وخاصة شَعره الأشقر. الواقع، أنني أهرب بعيدًا بوعي شديد من الآن فصاعدًا. كان عمره أربعة عشر عامًا. بوعي شديد من الآن فصاعدًا. كل ليلة.١٣١

وعلينا أن نؤكد هنا: إن هذا التقديم — «الذاتي»، وبلا نظام منطقي، للوقائع والأسباب (في شكل تداعيات للأفكار والمشاعر التي تتبع تقلبات المونولوج الداخلي) — يتطلب من الكاتب البراعة التقنية القصوى، والانتباه الأقصى، ما دام يجب دمج كل أجزاء المتاهة بدقة، وتشكيل رسم متكامل.

مزيد من البراعة أيضًا، وسنحصل على تنسيق ميكانيكي صرف للوقائع، وبناء بلا أية ركيزة واقعية: إنها الرواية المسلسلة في النشيد السادس، حيث يحرك «لوتريامون» دُمًى وهميةً كقطع الشطرنج: ذيل السمكة الطائرة، «فتاة الجليد»، المجنون المتوج بمبولة. عندئذٍ، تصل البراعة إلى حد أن تدمر نفسها، وتصل بالمؤلف إلى حد السخرية التامة مما يحكيه، وفي نفس الوقت، لا ترتكز بنية المقاطع على الضرورة الداخلية، بل على القرارات الاعتباطية للكاتب، أن تصبح فانتازيةً بجرأة: «فما دمتم تنصحونني بأن أختم في هذا الموضع المقطع الأول، فإنني أُذعن حقًّا لرغبتكم»، كما يقول «لوتريامون» — على سبيل المثال — للقارئ.١٣٢ وهكذا تُقْفَل الدائرة التي تصل بين أقصى درجات الصرامة والمجانية الكاملة: فالرابط بين الاثنين هو ما يمكن أن نسميه «إرادة الهيمنة» للمؤلف، الذي يدعي أنه متحرر تمامًا من قوانين الواقع، والسيد الوحيد للعالم الذي يخلقه، الذي يفرض عليه قوانين نظام فني خاص به. هذا الانفصال، وهذا الخلق في الفراغ، اللذان يترافقان وأكثر الابتكارات المخادعة خبثًا١٣٣ — فضلًا عن ذلك — هما من خصوصيات النشيد السادس، حيث يكف «لوتريامون» عن العمل على المادة الحية والجوهرية التي تمثلها عُقده الخاصة، وعالمه الداخلي المضطرب، ليفرض إرادته الواضحة — ككاتب — على حبكة مبتكرة تمامًا وتقليدية جدًّا: فهو — كروائي — «يشد خيوط»١٣٤ العرائس المحرومة من الحياة، ويموت كتابه باسفكسيا الاختناق.
وإحدى المشكلات الرئيسية — التي يجبرنا «لوتريامون» على تأملها — هي العلاقات القائمة بين الكاتب وكتابه، فهذه الفوضى السائدة، التي تتبدَّى من خلالها نزعة فردية ساخطة، تقوده إلى الرغبة في التحرر من كل تبعية ﻟ «القواعد» — التي أرستها الممارسة الأدبية (مشابهة الحقيقة، والوحدة، وقواعد العروض والأوزان) — أو العقل،١٣٥ ببساطة، بل أيضًا إزاء العمل الذي يُكتَب. وعادةً وانطلاقًا من مفهومها، فإن القصيدة المستشفة تنم عن ضرورات داخلية خاصة بها، لا يستطيع الكاتب أن يتملص منها دون الإضرار بإمكانات حيوية، فعلى العكس، يريد لوتريامون أن يكون حرًّا كالعاصفة١٣٦ في كل لحظة من لحظات الصياغة، وهو يتمسك بتسجيل أنه دائمًا سيد توجيه سرده مثلما يريد، في قطعه أو تغيير مساره، وفي القيام — عن قصد تام — باستطرادات وقفزات من فكرة إلى فكرة: موقف نشعر فيه بتحدٍّ لضرورات غامضة تُمارَس — رغم كل شيء — ضغطها الذي لا يُقاوَم، ويشعر الكاتب — بقسوة — بأثر هذه «التعددية الملتبسة» التي كان يأبى القبول بها.١٣٧

وبين الإرادة الواضحة التي تُخضِع العمل موضع التأليف — باستمرار — إلى نقد ذاتي لاذع، للتأكيد على سيادته الحرة، والقوة الغنائية المنبثقة من الأعماق التي تفرض عليه اندفاعاته الشعرية، يتأسس صراع خفي ومأساوي، فكلما تزايد شعور «لوتريامون» بأنه واقع — على نحوٍ ما — في شَرك الضرورات العميقة لمؤلَّفه، بفعل الموضوعات التي تتخلق رغمًا عنه، وكلما تظاهر بالوقاحة والسخرية، لجأ إلى الفوضى والموضوعات المتهافتة المطلوبة (بداية النشيد الرابع بكاملها متميزة في هذا الصدد)، ليفرض على القارئ فكرة حريته الكاملة السيادة.

هذا المسعى الشديد الخصوصية — الذي يقود «أناشيد مالدورور» — من رومانتيكية معتدلة إلى حدٍّ ما ومتوقعة، إلى فوضى جامحة لا تخشى أن تُهدَم، كي تؤكد — بشكل أفضل — فرديتها، وجميع احتمالات «الأدب»، هو ما يفسر الانتقال من قصيدة النثر، التي ما تزال شديدة الأدبية، إلى انفلات متفجر، لكنه إرادي، للوقائع، والاستطرادات، ومخاطبة القارئ. فوحدة العمل وقوته الشعرية لا تستمران إلا رغمًا عن أغرب جهد للتدمير الذاتي، معروف — في ذلك الحين — في الآداب.

وجميع هذه الملاحظات — حول موضوع وبنية العمل والقصائد التي تكوِّنه — تنطبق، بطبيعة الحال، على الأسلوب وهيئة الجملة: هذه القوة الفوضوية — التي تقود الكاتب، بفعل إرادة الاستقلال، إلى رفض القيود، بما فيها القيود الشائعة للكتابة — تمارس، وبنفس المعنى، على لغة «أناشيد مالدورور»: إنها تفسر، فيما سنرى بعد ذلك، الخطوط الأساسية، وتطور هذا النثر، الفريد — بلا شك — في تاريخ قصيدة النثر، بل في تاريخ الأدب.

(٣) نثر لوتريامون

كثيرًا ما تحدثوا — بإعجاب — عن العنفوان والروعة اللفظية عند «لوتريامون»: فعلى سبيل المثال، يبدي «أ. جالو» دهشته من هذه «الأستاذية المذهلة» التي تشير إليها — لدى هذا الشاب، ذي العشرين عامًا — لغةٌ قوية، متوازنة، ورفيعة،١٣٨ إلى هذا الحد. ويمتدح «باشلار» أيضًا «الدِّقة اللفظية» للمؤلَّف، و«تلاحمه الصوتي».١٣٩ ولنخفف هذا المديح بأن نتذكر — مع ذلك — أن «ل. بلُوي» قد تحدث، عام ١٨٩٠م، عن «المبتذل التافه» فيما يتعلق بأسوب «أناشيد مالدورور».: «ستكون أصالةً بلا قيمة، يضيف، دون الذروة الخاصة بنبرة معينة تدهش حتى الجِنِّي، وهي نبرة لم يسبق لي أن قابلتها — حتى الآن — في أي أدب».١٤٠
والواقع أن ذلك هو — أساسًا — ما يدهش ويحير القارئ: هذه الوحدة من العنف العدواني المدفوع حتى الجنون، ومن اللغة الجليلة، الاحتفالية، المتناوبة عن قصد، التي يتناقض بطؤها التفخيمي مع جنون المؤلف، ولا ينبغي أن ننسى أن «لوتريامون» يعتبر مؤلَّفه — حتى النشيد السادس بالتحديد — مسبةً هائلةً بأكثر من اعتباره رواية:١٤١ فلا شيء يدهش — آنئذٍ — في استخدامه التعنيف، والتهكم، واللعن إزاء الإنسان، والخالق، أو حتى نفسه. وبالتأكيد، فهو لا يحرم نفسه من ذلك! فالتعنيف المقذع أو الساخر منتشر في العمل: «أنتما مُحقَّان في الاحمرار خجلًا، أيتها العظْمة والدهن …»١٤٢ «أنت، أيها الجاسوس الكريه لسببيتي»،١٤٣ أو عندما ينقلب السباب على «مالدورور»: «أيتها الحثالة العفنة، المضروب بالشكوكية»:١٤٤ فالسباب، الوفير، إنما هو من أسوأ فاعليات القدرة الأخيرة:
سلالة حمقاء وغبية! ستندم على ذلك، هَيَّا! ستندم على ذلك. ولن يقوم شعري إلا على الهجوم بكل الوسائل، على الإنسان، هذا الحيوان المتوحش، والخالق، الذي ما كان عليه أن يوجد حشرةً كهذه.١٤٥
والمدهش أننا — رغم عنف المشاعر المعبَّر عنها — لا يتملكنا أبدًا الانطباع بأن «لوتريامون» منقاد لأمواج إلهامه المفعم بالغضب، حتى لو كتب بطريقة سريعة ومشوشة: من الجدير بالملاحظة في هذا الأسلوب — الخطابي بأكثر من كونه شفاهيًّا — أن العنف لا يستبعد الاحتفالية، وأعلم تمامًا أن التعبيرات المألوفة ليست غائبة («لكن أخيرًا، إنه هكذا»، «هذه الشرائط تضجرني»)،١٤٦ «أجدها سيئة»؛١٤٧ لكننا عند التأمل، نجد العبارات — المجردة أو التفخيمية — وهي تتضاعف، لتثبت إرادة الابتعاد عن لغة الكلام: «يوقف المثابرة المتنامية لخرابه»،١٤٨ «النفور المتحدي لتعاطفي المرير»،١٤٩ «فلتظهري إذن، أيتها الاتساعات الهازئة للعقوبات الأبدية»،١٥٠ «السفينة وهي تغوص تحدث دوامة قويةً من الأمواج الصاخبة التي تدور حول نفسها».١٥١ والمفردات ليست ثريةً فحسب، لكنها أيضًا نادرة: وستكون الأمثلة — هنا — أكثر من أن يجدي ذكرها، سأشير — فحسب — إلى ميل «لوتريامون» الملحوظ إلى الأسماء النادرة للنباتات والحيوانات.١٥٢
لكن ما أريد التأكيد عليه — على نحو خاص — هو أن هذا التفخيم في الكلام، وهذا الميل إلى العبارات التفخيمية أو المنتقاة، الذي يبدو كميل طبيعي — لدى «لوتريامون» — يتوافق مع موقف ذهني معين — (ألا يتحدث — في إحدى رسائله — عن إجراء بدا له «مترعًا بكمية معتبرة من الأهمية الفارغة»؟)١٥٣ — يتطور خلال «أناشيد مالدورور»، ويغير من التوجه والمغزى، في النشيد الأول، وغالبًا في النشيدين التاليين أيضًا، فإن اللغة الدوكاسية تُسْتَخْدَم لغايات أدبية وشعرية. كيف يمكن، مثلًا، ألَّا نعجب — في التأنيب التالي — بالطريقة الشيشرونية١٥٤ التي يوحد «لوتريامون» بها عظمة الأسلوب بعنف الشعور:
عواصف، شقيقات الأعاصير، سماء مائلة للزرقة أعترف بجمالها، بحرٌ منافق، صورة قلبي، أرض، ذات ثدي غامض، سكان الأفلاك، كون بكامله، يا ألله، الذي خلقه بعظمة، إنه أنت من أبتهل إليه: أرني إنسانًا طيبًا!١٥٥
ولنلاحظ الاتساع الذي يضفيه «لوتريامون» على كل اسم عندما يلحق به بدلًا يعمق من رنينه في الأذن والخيال، ولنعجب بتوازن الجملة التي، بعد تسلسل أجزائها ذات الأطوال المتناقصة، تعاود الانطلاق من الكلمة المركزية، الكلمة / مفتاح السماء، الله، لتنتهي بتمجيد، دون أن تخشى أي قطع، يمنح دائرة الكلام حركةً مشبوبة: من الناحية الفنية، ألا يتبدَّى «لوتريامون» — هنا — ككاتب شديد الوعي، وسيد لكل مصادر فنه؟

وهذا الانطباع غير محسوس — في أي موضع آخر — إلا عندما نقرأ المقاطع الشهيرة التي يوجهها «لوتريامون» إلى المحيط، والتي تستدعي عظمتها وحركتها المهيبة والمستمرة حركة البحر نفسه؛ وهذه الأمواج التي — فيما ترتمي الواحدة على الأخرى — تنتهي بأن توقِظ الإحساس بالثبات واللانهائي.

متأرجحًا في متعة بفعل الشهور التي تفوح ببطئك المهيب، الأعظم من الصفات التي أنعمها عليك السلطان الأعظم، تبسط، وسط سر خفي، على سطحك الأسمى كله، أمواجك التي بلا نظير، مع الشعور بقوتك الأبدية.١٥٦
وانطباع السكينة، والكمال، لا يتحقق — هنا — من معنى الكلمات فحسب، بل أيضًا من توازن الجملة (مع التنظيم التماثلي حول الفعل الرئيسي، والبَدَل، والمضاف إليه)، وانسجامها وتلاحمها الصوتي: هذه الإصاتات المزدوجة الملتبسة التي ترسم انحناءة الموجة نفسها: veluptueusement بمتعة، majestueuse المهيب، grandiose الأعظم، وهذه الحروف الصامتة الملائمة، ذات الإصاتات المكتملة والمتحركة: mois effluves شهور تفوح، incomparable بلا نظير، calme سكينة … كل هذا يكشف عن أذن مرهفة. وكما يقول «باشلار»:١٥٧ «بدون مساعدة القافية، وبدون سياج العَروض الصارم، تترابط الأصوات وكأنها منقادةٌ بقوة طبيعية.»
وإذا ما كان «لوتريامون» يرفض الخضوع لقيود العروض، فإنه لا يزدري دائمًا زخارف النثر الموزون: «أيها اللحَّاد، كم جميلٌ تأمل أطلال البشر!»،١٥٨ «الطريق اللبني الشاحب للحسرات الأبدية»،١٥٩ لكننا نشعر لديه — على نحو خاص — بشاغل اكتمال الجُملة: فهو يُدخِل — على سبيل المثال — صفةً من أجل تحاشي إنهاء الجملة بسلسلة متوالية من الكلمات ذات المقطع الواحد: Les anges qui habitent dans la magnificence et la paix des agréables cieux (الملائكة التي تقطن العظمة وسلام السماوات السائغة١٦٠ أو يوسع الجملة عن طريق التكرار: nourris-toi, nourris-toi avec confiance des larmes et du sang de l’adolescent (تغذَّ، تغذَّ في ثقة بدموع ودم المراهق).١٦١

وكل أنساق الأسلوب هذه — (التي يجب أن نضيف إليها البناء بالمحارفة، والاستعادات والتكرارات، التي سبق أن تحدثتُ عنها فيما يتعلق ببنية القصائد في الأناشيد الأولى) — تمنحنا الانطباع بطريقة متقنة الصنع، وبإعداد فني واعٍ، يستهدف ويقصد الشعر بفعل الطاقة الغنائية — (حيث الصور، التي سأتحدث عنها فيما بعد، ذات أهمية كبرى) — والانسجام وعظمة اللغة، في آنٍ.

العنصر المخادع

ومع ذلك، يتملكنا الشعور، في وقت مبكر، بأن هذا الاتجاه الطبيعي للوتريامون نحو المغالاة يتعرض لانحرافٍ ما، لانزلاقٍ ما نحو استخدامات مربكة. هكذا، فالمناجاة الرائعة إلى البقَّة في النشيد الثاني: «أحييك، أيتها الشمس المشرقة، المحرِّرة السماوية، أنتِ العدو الخفي للإنسان»،١٦٢ ألا تنطوي على ذكرى ساخرة، أكثر من كونها لا إرادية، لجملة «لامارتين» الشهيرة في الخلود: «أحييك، أيها الموت، المحرر السماوي!»؟ وحتى المقطوعات المعتنى بها، و«الشعرية» عن عمد، مثل «ترتيلة إلى الرياضيات»، ألا نشعر — هنا وهناك — ببعض السخرية الخفيفة التي تقضم باطن الفخامة المفرطة للكلمات؟ (الروح الأعلى التي «تدفن رأسها، المبيضة في يد عارية من اللحم»،١٦٣ أو الموت — الذي «يهدف، كما ترى العين المجردة، إلى إسكان التوابيت» — وهو يدمر ساحات المعركة.) ولنذكر أيضًا — الآن — بأي مرح يستخدم «لوتريامون»، وخاصةً في الأناشيد الأخيرة، الانتحال لخداع القارئ، وكي يجعل نثر «بوفون» المتأنق والكلاسيكي يخدم أهدافًا هدَّامة، في آن، وسأعود إلى ذلك في الخاتمة.١٦٤
وبشكل خاص، فإن ميل «لوتريامون» الطبيعي للإطناب والغزارة،١٦٥ هو الذي سيدفع به — سريعًا — إلى مستوى النظام، فمنذ النشيد الأول، يمكننا أن نلاحظ اتجاهًا إلى إبطاء الجملة التي يتغير مسارها — دائمًا — بفعل حوادث تتخذ هيئةً احتفاليةً ومهيبة:
آه! عندما تتقدم، والرأس عالٍ ومخيف، محاطًا بطياتك الأليمة مثلما فِناء ممغنط وشرس، وأنت تدحرج الموجات الواحدة على الأخرى، واعيًا بما تكون، فيما تدفع، من أعماق صدرك، مثل مرهق بحسرات حادة لم أستطِع اكتشافها، هذا الهدير الأصم الدائم الذي كثيرًا ما رَوَّع البشر، حتى عندما يتأملونك، في أمان، وهم يرتجفون على الشاطئ، عندئذٍ، أقول إنه ليس لي الحق الكبير في أن أعتبر نفسي ندًّا لك.١٦٦
وسيتزايد هذا الاتجاه — أكثر فأكثر — في الأناشيد التالية: ستبطئ الإبدالات، والجُمل الاعتراضية، والعبارات المحصورة بين قوسين — أكثر فأكثر — من الجملة، وستنتج أغرب تناقض مع الحركة الجنونية، إيقاع الحدث المتسارع. واعتبارًا من النشيد الرابع — على نحو خاص — سينتهي «لوتريامون» إلى أن يستخدم، عمدًا، هذا البطء الاحتفالي كنسق: «أريد — على ما يصرح — تطوير براهيني ومقارناتي ببطء وبكثير من العظمة»،١٦٧ وسنراه، منذ ذلك الحين، يستخدم ويفرط في استخدام الجُمل «ذات الأدراج à tiroirs»١٦٨ وتقدم لنا الجملة التالية مثالًا جيدًا للهُرَاء العمدي الذي يصل إليه في النهاية، مستمتعًا بلغو الكلام، والمراوحة في نفس المكان:
وكي نختتم هذا الحدث الصغير، الذي تجرد هو نفسه من غطائه، بخفة يُرثَى لها بقدر ما تمتلئ بالفائدة (وهو أمر لن يفوته أن يتحقق منه بشرط أن يتسمع ذكرياته الأحدث)، وإنه لجيد أن نمتلك قدرات في اتزان كامل، أو بالأحرى إذا ما كانت كفة البلاهة لا ترجح كثيرًا على الكفة التي ترقد عليها صفات العقل النبيلة والرائعة، أي، حتى نكون أكثر وضوحًا (إذ إنني حتى الآن لم أكن إلا وجيزًا، وهو ما لا يتقبله الكثيرون، بسبب إسهاباتي، التي ليست إلَّا خيالية، ما دامت تحقق هدفها، ألا وهو البحث عن التجليات الهاربة للحقيقة، بمبضع التحليل، حتى معاقلها الأخيرة)، إذا ما كان العقل يسود بما فيه الكفاية على العيوب التي اختنقت تحت أقدامها إلى حدٍّ ما العادة، والطبيعة، والتربية، وإنه لجيد، فيما أكرر للمرة الثانية والأخيرة؛ إذ بقوة التكرار، سينتهي بنا الحال، وهو ما ليس خطأً في أغلب الأحيان، إلى ألَّا نتفاهم أبدًا، وأن نعود مجرجرين ذيولنا (لو كان لي في الحقيقة ذيل) إلى الموضوع الدرامي الراسخ في هذا المقطع.١٦٩
ويضيف «لوتريامون»: «إن المفيد أن أشرب كوب ماء، قبل أن أواصل استكمال عملي». ونحن ندرك ذلك عن طيب خاطر! فمقطع كهذا، يجعلنا — على الأقل — نلتقط، تطبيقيًّا، استخدام التفكيك المنهجي للجُملة والمبالغة في التحليل، كنسق تهكمي يصل إلى تدمير كل حركة: فالجملة — من فرط المراوحة في المكان — تتجمد وتتدبق، والانطباع المقبض الذي تتركه لدى القارئ ليس فكريًّا بقدر ما هو جسدي، كما لو أننا نشعر — بشكل مادي — بالإحساس بالزمن الذي يستغرقه الكاتب في ترجمة حدث يهرب، على الورق، جهد بخس لأسر الواقع — الحيوي والهارب — للأحداث في شباك الجُمل، وسيتحدث «لوتريامون» — في موضع آخر — عن «الزمن البعيد — كما يقول — حيث كُنت أبدأ، وأنا مفعم بالهلع، الجملة السابقة»:١٧٠ دائمًا نفس فكرة الزمن الذي ينساب، ومُدَّة الجُمل، وتخلف الكاتب عن الحدث.
هنا — أيضًا — يتبدَّى ذهن أحس بعمق المشكلة، وما تطرحه من أمر لا يمكن حله: شبه استحالة أن نجعل القارئ يلتقط، دون التضحية بأي شيء، كل تعقيد الواقع، وحالات الكاتب الذاتية على نحو خاص.١٧١ مشكلة — في هذا المظهر الاجتماعي — تراجيدية بشكل خاص: ولا تستطيع الكلمات، والجمل، إلا أن تمنحنا انعكاسًا غامضًا ومتأخرًا لواقع أكثر ثراءً، لا يمكن التواصل، ولن يمكن أبدًا التواصل مع الآخرين. ﻓ «كثافة صفحة الورق» هذه، التي يُلمِّح إليها «لوتريامون»،١٧٢ ستفصل الكاتب — أبدًا، ونهائيًّا — عن قارئه. ومن هنا، بُطلان الأدب. فحيث ينتقد «لوتريامون» وضع الكاتب من خلال مفهوم كِتاب مثالي، كنجم منفرد، موجود بذاته لذاته و«لا يدعي الاقتراب من القارئ»،١٧٣ فإنه «لوتريامون» يغوص في يأس الإنسان الذي يريد أن يفهم نفسه، وأن يتواصل مع نظرائه، والذي يشعر بلا جدوى جهوده، وبعجز الأدب، من هنا، يكمن هذا الشعور بالعزلة المأساوية، التي لا ينبغي أن يخفيها عنا لا التأنيب — الدائم (والساخر) — الموجه إلى القارئ، وكأن «لوتريامون» يريد أن يمارس ضده ثأرًا شخصيًّا، ولا الجنون الهدَّام الذي سيأخذ — في الأناشيد الأخيرة — في التفكيك الساخر لكل الأنساق التقنية للمؤلَّف. وبرفضه الدائم للخضوع للُّعبة، وبطريقته في الكتابة وهو يشاهد نفسه في المرآة («أكتب، وأرى نفسي وأنا أكتب، وأكتب أنني أرى نفسي وأنا أكتب … إلخ»)، وبدوران الفكرة المستمر حول نفسها بشكل يبشر بالسيد «تيست Teste»، يؤكد «لوتريامون» — باستمرار — على صحوه، وعلى وجوده اليقظ والإرادي خلف الجملة المتنافرة في ظاهرها، وما دام محكومًا بأن يظل غير مفهوم، فليكن ذلك — على الأقل — بلا أوهام، وما دام الأدب لا يستطيع أن يخدمه، فليكن له — على الأقل — إشباع المعرفة. وإذ يجعلنا نشعر بأنه ليس مخدوعًا بالأدب، عندئذٍ، يصبح تفخيم الكلام، واحتفالية الجُمل نفسها، أدوات مكيدة تهكمية، بأن يضعنا في استحالة معرفة ما إذا كان المؤلف يسخر منا أم لا، وبدءًا من أية لحظة يخدعنا. وإنها لدالة تلك الطُّرفة التي ذكرها أحد زملاء الدراسة، عن موضوع الإنشاء الفرنسي في مدينة «تارب»، الذي تسببت «جُمله الأولى، الشديدة التفخيم، في البدء، في إثارة ضحك» الأستاذ، الذي حلا له أن يسخر من تلميذه، قبل أن يتساءل ما إذا كان تلميذه — بالمصادفة — قد سخر منه (وقد انتهت الحكاية — فيما يبدو — بأن وُضِع «دوكاس» الشاب في الحجز).١٧٤
هكذا، يصل «لوتريامون» — المنقاد بالغريزة نحو الطنطنة — عندما يبالغ في تفخيم الأسلوب، إلى إزالة الانتفاخ فجأة، وتصبح الجُمل — التي كانت تنحو، تلقائيًّا، نحو التطويل، والانتظام في جمل ذات أدراج، عندما يضاعف الأحداث بالاستطراد — محاكاةً ساخرة، ومعارضةً أدبية — ذاتية. وبنفس الطريقة، يصبح ميله إلى الأنساق الخطابية: التوازيات، وأساليب التعجب، والتساؤل — عندما يبالغ فيها — هجاءً ساخرًا لهذه الأنساق الخطابية، بالتحديد؛ على سبيل المثال، ففي هذا الاستخدام الساخر للاستفهام الخطابي، الذي يشبهه «ل. كينت» ﺑ «الفقراء» لفيكتور هوجو:
ألا يمكن لعقبةٍ ما غير متوقعة أن تعوقه في طريقه؟ وهذا الظَّرف، هل سيكون قليل التكرار إلى حد أنه سيكون عليه أن يعتبره كاستثناء؟ ألا نتأمل بالأحرى …؟ بأي حق في الواقع …؟١٧٥

إنه نسق، على كل «كاتب مرهف»، يعرف الحد الأدنى من «مهنته»، أن يستفيد منه، حسبما يضيف «لوتريامون».

فلوتريامون حاضر دائمًا — (في الأناشيد الأخيرة خاصة) — مستعدًّا لممارسة التعليق الساخر — باستمرار — على مؤثرات أسلوبه الخاصة. وكلما تقدمنا في الكتاب، رأيناه يدفع — إلى مستوى النظام — بهذا الموقف الذي يتمثل في الانقسام، على هذا النحو، كي يُقَيم نفسه، من الخارج، وفنه ككاتب، والأنساق الأدبية التي يستخدمها. وهكذا، ففي بداية النشيد الرابع، وبعد تشبيه الأعمدة بأشجار الحُمَيرة، يدافع عن استخدام هذا «التشبيه الذكي»، باعتباره «صورةً بلاغيةً يزدريها عديدون، لكن الكثيرون يمتدحونها».١٧٦ وبعد أن يتحدث عن بجعة «كبيرة مثل جبل أو على الأقل مثل نتوء جبلي»، يضيف: «فلتعجبوا — من فضلكم — من رهافة هذا التحديد، الذي لا يتقهقر قيد أنملة».١٧٧ وفي النشيد السادس، ستصبح هذه التدخلات مستمرة، وسنرى — تحت أبصارنا — «لوتريامون» وهو «يختلق»١٧٨ روايته باللجوء إلى كل خيوط النوع الأدبي: «كل وسيلة مؤثرة ستظهر في مكانها»، كما يعلن لنا.١٧٩ والواقع أن «مالدورور» يحبس «ميرفين» في حقيبة ويضربه بسياج الجسر: «مشهد فريد، لن يتوصل إليه أي روائي!»١٨٠ هكذا يكون الكاتب أول من يهتف، ثم يعلن لنا أن «الحبكة ستنطلق»،١٨١ ونرى الأحداث الخارقة تتتالى كشلال، شيء غريب! فكلما ازدادت السخونة، وهذيان خيال «لوتريامون» الكاتب، نرى تضاعف الانفلات الساخر — للوتريامون الناقد — من مؤلَّفه. ومن الصواب حقًّا أن ينفصل عما يكتب، وأن يكف عن «المشاركة» في الحدث، وفي نهاية النشيد السادس، ومع انطفاء هذه الألعاب النارية المذهلة التي قادها صانع أسهم بارع، لن يتبقى ملاذ آخر للوتريامون سوى الصمت، أو التراجع، وهو ما ستمثله «مقدمة لكتاب قادم».
هذه الفكاهة «على البارد»، وهذه المحاكاة الساخرة للأدب، التي تمثل الاستهزاء الأعلى، وهذه التهكمات الهدَّامة التي لا يتبقى بعدها شيء، لا من الفن ولا من الجمال،١٨٢ لا تعترف بجريرتها، إذن، إلا في الأناشيد الأخيرة، إنها لا تمثل سوى مظهر لفكاهة «لوتريامون»، ومرحلة من تمرده، ويمكننا — على أية حال — أن نتساءل ما إذا كان يمكن للشعر أن يبقى ابتداءً من اللحظة التي يمارس فيها الكاتب — على مؤلَّفه — قصديةَ هدمٍ واضحةً كهذه: ويبدو أن بداية النشيد الرابع — على سبيل المثال — أو «المقاطع» المختلفة من النشيد السادس، ما يزال ممكنًا تعميدها — بصعوبة — ﮐ «قصائد نثر»، وقد استطاعت هذه الفكاهة — عبر مظاهر أخرى — أن تبدو كأداة لنمط جديد من الإبداع الشعري — هذه الفكاهة السوداء، التي سيمنحها «لوتريامون» — على نحو نهائي — حق المواطنة في الشعر.
لقد سبق أن ذكرت ذلك في بداية هذا الفصل: إن تهكم «لوتريامون»، بفعل التمرد العميق الذي يعبر عنه، وأيضًا بفعل جنونه الهدَّام (والمحرِّر)، يُلحق بالرومانتيكية: غنائية سوداء، ساخطة، لكن اندفاقتها الشعرية لا تقبل الجدل: هذا الجنون الفعَّال الذي يتحرر عبره «لوتريامون» من كافة الضغوط، الاجتماعية أو الدينية، يمارس — على الأسلوب أيضًا — فعلَه المحرِّر: فلوتريامون يفرض إرادته الفوضوية على علاقات الكلمات فيما بينها، ويخضعها — (مثلما يخضع أيضًا مخلوقات عالمه الشعري، وهي في حالة تحول دائم) — إلى ما يسميه «أندريه بريتون» ﺑ «مبدأ التحول الدائم»:١٨٣ أقصد — هنا، على نحو خاص — توظيفه للاستعارة، الذي يحتاج إلى دراسة خاصة للتغلغل في جوهر العبقرية الدوكاسية.

الثَّراء الاستعاري

أذهل الثراء الاستعاري — في «أناشيد مالدورور» — من البداية، جميع النقاد، ومنهم — على سبيل المثال — «ر. دي جورمون»، الذي يرى أن قيمة هذا الشعر ترجع — قبل أي شيء — «إلى جدَّة وأصالة الصور والاستعارات ووفرتها وتسلسلها المنتظم منطقيًّا في قصيدة …».١٨٤ وكانت الدهشة — من ناحية أخرى — ممتزجةً بالإعجاب، لأن كثيرًا من هذه الصور يمكن اعتبارها — أيضًا — نتاج فكاهة يشارك فيها الهزل، والفانتازيا، والرغبة في إثارة الحيرة. «وإذا ما كانت هناك استعارات تبدو مستمدةً من رومانتيكية ساخطة، وهي الأقل إجمالًا، فإن استعارات أخرى — في المقابل — تنبثق وكأنها تجليات لعالم مجهول»، كما يكتب «أ. جالو».١٨٥ والواقع أن «لوتريامون» يهب نفسه إلى خلق عالم شعري حقيقي: عالم تُنسَج فيه التشابهات الأعمق، والأغرب، والأبعد — أيضًا — وأحيانًا، الأكثر افتعالًا.
ويبدو أن «لوتريامون» قد أمعن النظر — بشكل خاص — في توظيف ودلالة الاستعارة: فأحيانًا ما يبدو أنه يلتقي مع أفكار «بودلير» حول «التشابه الكوني»،١٨٦ لينفتح الطريق للرمزيين عندما يقول: «هذا التعبير البلاغي يخدم الطموحات الإنسانية نحو اللانهائي أكثر بكثير مما يعتقد المشربون بالآراء المسبقة أنهم يقدمونه عادة»،١٨٧ وهو أحيانًا ما يحاول — قبل الحالة النهائية — تحديد الصورة السيريالية، التي تقيم رابطًا بين كلمتين بعيدتين تمامًا عن بعضهما:١٨٨
إنه — إذا ما تحدثنا بشكل عام — شيء فريد هذا الاتجاه الجذاب الذي يدفعنا إلى البحث (كي نعبر فيما بعد) عن التشابهات والاختلافات، التي تحتويها — في حالتها الطبيعية — الأشياء الأكثر تعارضًا فيما بينها، وأحيانًا الأقل قدرة — ظاهريًّا — على تحمل هذا النوع من الترتيبات في جاذبية …١٨٩

الثراء، والتدفق الدائم للصور في «أناشيد مالدورور» (حيث نجد كافة أشكال الموازنات، من أغرب الاختصارات إلى الصور الهومرية الكبرى المطورة بتوسع)، هما — إذن — ليسا نتاجًا فحسب لاتجاه طبيعي، لكن — أيضًا — لمسعًى قصدي، ويبدو لي — فضلًا عن ذلك — أن هذا الاستخدام للاستعارة، منذ بداية العمل إلى نهايته، قد أصبح أكثر فأكثر موضع وعي وقصدية، وأن التناول الاضطراري ﻟ «الأشياء الأكثر تعارضًا فيما بينها» قد انتهى إلى التحول إلى نظام، وإلى أن يصبح مجانيًّا ومفتعلًا على نحو مؤكد: نسق ميكانيكي تمامًا في الفكاهة، ينتمي إلى تلك الأنساق التي يستخدمها «لوتريامون» — وهو ما سبق أن ذكرته — كي يمارس قريحته الهدَّامة ضد التقنية الأدبية.

ولنضرب صفحًا عن الصور الرومانتيكية، العديدة في بداية الكتاب، دون أن تكون دائمًا أصيلة: «بحر منافق، صورة قلبي»،١٩٠ (صورة لافتة — رغم هذا — بسبب اقتران الكلمة الملموسة بالنعت المجرد)، «الموجودات البشرية، هذه الأمواج الحية»،١٩١ وحدث يغمرك في «بحيرة اليأس»،١٩٢ وسرعان ما يدهشنا اتجاه مزدوج: أولًا، دينامية الصورة الدوكاسية التي لا تكتفي برصد التقارب — الذي يقيمه الذهن — بين فئتين جامدتين وثابتتين، بل تعمل بشكل حقيقي، وتشعرنا بالانتقالة من واحدة إلى أخرى — (من المجرد إلى الملموس، على نحو خاص) — مما يسمح بالقول بأن الاستعارة — عند «لوتريامون» — هي حقًّا «تحولية». و«لوتريامون»، وقد انطلق من ملاحظة من هذا النوع: «كم نشبه العنزة عندما نضحك»،١٩٣ سرعان ما يتمكن من تفريخ المجردات الحيوانية (في مؤلَّفه: «بلاهة خَطم الخنزير»،١٩٤ «سرطان الفجور، دجاجة ضعف الشخصية وسمك قرش الحقارة الفردية …»١٩٥ … إلخ). وسنراه — في الحد الأقصى — يمنح الحياة والحركة إلى الصرخات التي يطلقها الخالق، والتي — وقد تحولت إلى أفاعٍ — تذهب «للاختباء في أشواك الغابات».
هذه الصرخات، وقد أصبحت زواحف، وتتمتع بحلقات بلا حصر، برأس صغيرة مسطحة، وعينين غادرتين، قد أقسمت على أن تتخذ موقفًا إزاء السذاجة البشرية …١٩٦
ونتحدث — عن طيب خاطر — عن كلمات «خبيثة»، وعند الضرورة، سنذهب إلى حد الصفة «ثعباني»، لكننا نظل دائمًا دون النقطة التي يأخذ فيها التجريد، بعد أن يتجسد، في الحركة والفعل لحسابه الخاص، وحيث نتكلم عن «صوت» الضمير، فإن «لوتريامون» يشخصه بقوة، إلى حد أن نرى «مالدورور» وهو ينزع الرأس ويقرض الجمجمة:١٩٧ تحقيقًا وعصرنة مرعبين للرمز، وصالحين — تمامًا — لإثارة قلق القارئ.١٩٨
وينبغي أن نضيف أن آنيَّة النقلة، والقفزة المفاجئة من فئة إلى أخرى،١٩٩ تجعلان الاستعارة أكثر إدهاشًا وأكثر تشويشًا أيضًا، وهنا يكمن الملمح الثاني المؤثر للصورة الدوكاسية: هذه الفجائية في التقارب، وهذا الرابط المباغت، المفروض — عنوةً — على ذهننا، الذي يشوشنا في البدء، ثم يبدو لنا كعنصر جمالي وشعري، من خلال شعور الاكتشاف الذي يثيره فينا، ومن خلال الجِدة الخصبة للرؤية، بل حتى بغربة المسعى التشابهي (الذي لا يتضح دائمًا لدى التأمل). وعندما يعتبر «لوتريامون» المحيط «أعزب كبيرًا»،٢٠٠ أو يقول عن «مالدورور» إنه «حُر كالعاصفة»،٢٠١ فإننا نجد — بالتأكيد — صوابًا ما في هذه التشبيهات، لكنه لا يتضح لنا دائمًا من أول وهلة، وعندما يقول لنا إن ثمة وجهًا «جميلًا كالانتحار»،٢٠٢ فسنجد صعوبةً في تفسير هذا التقارب بين تعبير وجه معين والجمال المطلق تمامًا لفعلٍ ما، نجد فيه — رغم هذا — جمالًا ما، فنحن هنا على طريق التقارب بين شيء ملموس وفكرة مجردةً، والمشابهة مجانية تمامًا، وستتطور كلما تقدمنا في العمل.
ومرةً أخرى، سنرى «لوتريامون» يؤكد على حريته القديرة ككاتب، وإرادته الفوضوية في تحرير نفسه من كل ضرورة منطقية: سيستمتع بأن يقوم بتشبيهات اعتباطية تمامًا، تستهزئ بالأدب في نفس الوقت الذي تخدع القارئ، أي ابتهاج في إقامة «تشبيه ماكر» بين طيران الحدأة الملكية ووجه طفل ميت، عندما نعرف جيدًا أنه لا يمكن لأحد أن يدرك «من أول وهلة العلاقة، وذلك لبعدها الشديد»٢٠٣ عما يمكن أن يوجد بين الاثنين. بذلك، سنصل إلى المشابهة الساخرة تمامًا، التي تربط — بطريقة منتظمة ومفتعلة، بالتحديد — بين أشياء يستحيل رؤية أي رابط بينها: مثلما في هذه المشابهة المذكورة مرارًا:
إنه لجميل مثل انقباضة مخالب الطيور الجارحة، أو أيضًا، مثل ريبة الحركات العضلية في جروح الأجزاء الرخوة من المنطقة العنقية الخلفية، أو بالأحرى، مثل فخ الفئران الدائم هذا، الذي دائمًا ما يُعَاد شَده بفعل الحيوان المأسور الذي يمكن أن يأخذ وحده قوارض بلا نهاية، ويعمل حتى وهو مختبئ تحت القش، كاللقاء العَرَضي على مائدة التشريح بين ماكينة حياكة ومظلة!٢٠٤
ماكينة الحياكة هذه وهذه المظلة، هما — إذا ما جرؤنا على القول — البذرة الخصبة التي سيخرج منها الكثير من قصائد «بريتون» أو «بنجامين بيريه»، والكثير من لوحات «شيريكو» أو «مان ري»، إنها الباب المفتوح لأغرب التقاربات، وللرقصة الفانتازية للاستعارات.٢٠٥ ولنسجل أن تحرير الذهن هذا — (الذي تخلص في النهاية، كما سيقول السيرياليون، من قواعد المنطق الضيقة) — قد أنجزه «لوتريامون» بوعي كامل: سنلاحظ أن الأمر هنا لم يعد يتعلق ﺑ «استعارات»، بل ﺑ «تشبيهات» حيث يتم التشديد — (بفعل أدوات الربط) — على الدور الفعال للكاتب في التقاربات المصنوعة بهذه الطريقة، هكذا — وبهذه الطريقة الأكثر قصدية — يقدم لنا «لوتريامون» الأدب باعتباره لعبةً مجانية للذهن: لكن هل سيترك القارئ نفسه أسير لعبة كهذه؟ إننا نصل — مرةً أخرى — إلى نقطة الحرية الراديكالية هذه، حيث المؤلف، وقد تخلص من كل رابط، ومن كل قانون، لم يعد لديه سوى استهلاك نفسه بنفسه على نيران سخرية ضارية.
وبذلك فالمنحنى الجمالي والنفسي، الذي يرسمه استخدام الصور — من أول «الأناشيد» إلى آخرها — هو نفس المنحنى الذي تسلكه لا العناصر المختلفة للأسلوب فحسب (بنية الجُمل والمقاطع)، بل — أيضًا — مفهوم القصائد، وموقف المؤلف من عمله، وبعد انطلاقه من الرومانتيكية، ومن موقف ما يزال شديد الأدبية، يوجه «لوتريامون» — رويدًا رويدًا — مسيرته نحو مجالات فانتازية، يخلق فيها لنفسه شكلًا خاصًّا للشعر، جنونيًّا وطنانًا، عدوانيًّا وإبداعيًّا، في آنٍ، لكن تمرده ورغبته في الاستقلال يقودانه — في النهاية — إلى الاعتباطية، وإلى التهكم والشطط، وإلى تدمير ذاتي أدبي، يجد شكله الأخير في عدمية تامة، تلك التي سيتم التعبير عنها في «العودة إلى الخير» في «أشعار» و«مقدمة لكتاب قادم». ولا يخلو من الأهمية أن نلاحظ أن ما سيكون، بالنسبة للسيرياليين، نقطة الانطلاق، النفي المطلق للمقولات المنطقية، ورفض كل سيطرة للعقل، والطموح إلى حرية مطلقة، هو — بالنسبة للوتريامون — اكتمال، وأي اكتمال! نقطة قصوى لجدل مرعب، بعدها لا يمكن لأي شيء أن يوجد. وسيهدم السيرياليون من أجل البناء، أما «لوتريامون»، فهو يهدم من أجل الهدم.

(٤) الخلاصة: تأثير لوتريامون

ورغم هذا، يبقى العمل. فهذا العالم من الرفض والهدم يحتفظ بمذاق وجود بلا مثيل، وهذه «الآلة الجهنمية» الموجهة ضد الأدب تفتتح شكلًا جديدًا للأدب، فقصيدة النثر — على نحو ما أدركها «لوتريامون» — هي شيء جديد تمامًا، يأخذ من الرواية، ومن الهجاء الغنائي، ومن القصيدة الملحمية، ولا شك أننا يمكننا القول بأن «أناشيد مالدورور» تدمر الأُطر الصارمة لقصيدة النثر المدركة كنوع أدبي شديد التحديد، لكنها — فيما تصنع ذلك — فإنه يفتح لها، وهو ما سيكشفه المستقبل، آفاقًا ما تزال مجهولة.

فلوتريامون يثبت أولًا — وبطريقة نهائية (بعد ما أدخل «بودلير»، على ما نتذكر، نبرةً ما ساخرةً في الشعر، على إثر «بو» إلى حدٍّ ما) — عهد الفكاهة في المجال الشعري، والأمر يتعلق — هنا — بفكاهة سوداء، كفاعلية ذهنية حقيقية، تحرر الفرد، و«تقترح فلسفةً كاملةً عن العالم»، كما يقول «أ. جالو».٢٠٦ ولا يمكننا أن نفصل هذه الفكاهة عن فانتازيا معينة، تحاكي الواقع المحيط، وتمزج أو تحول أشكالًا سبق أن حددنا لها — مرةً وللأبد — مكانةً ثابتةً في سُلَّم الكائنات، وتعيد — باستمرار — مساءلة القواعد الاجتماعية أو المنطقية الأكثر رسوخًا في الظاهر، وإذا ما لاحظنا أن تأثير «رامبو» سيتحقق بنفس المعنى تقريبًا، لهدم المقولات الجيلية التي كانت تطمئن ذهننا، فإننا نرى أن دفعةً جديدةً قد مُنِحَت إلى الشعر مع هذين الشاعرين: لسوف تُشحَن بكهرباء «تفكيكية»، ستفتح هزاتها فجوةً واسعةً في قشرة العالم المرئي، وسيجعلنا وميضها نستشف — تحت هذه القشرة الظاهرة — عوالم مجهولة.
لن يحقق الشعر — بعد ذلك — فاعليته ﺑ «السحر»، ولا بالوزن، ولا بالتوازن المنسجم للأبيات، لكن — على العكس تمامًا — بإثارة الشعور بالقطيعة، وفقدان التوازن الخصب. ويبدو أن النثر — أكثر من النَّظم — قابل للتعبير عن فانتازيا ما، ورؤية شخصية للعالم منذورة لزعزعة المظاهر الاعتيادية للواقع، بالإضافة إلى أشكال فكاهة كهذه، تُظهِر «تمردًا أسمى للذهن»٢٠٧ في مواجهة هذا الواقع المُعطَى، وكان بمقدورنا أن نتوقع ذلك: ألا يمثل النثر — بالتحديد — رد فعل فرداني individualiste للكاتب، وتمردًا ضد كل ما هو مفروض عليه من الخارج من أشكال فنية أو أفكار مسبقة؟ وهكذا، فإن المفهوم الشعري الجديد، الذي أرساه — تقريبًا في نفس الوقت — «لوتريامون» و«رامبو»، سيوجه ضربةً حاسمةً لأشكال النظم القادرة — خاصةً — على خلق شعور بالتوافق والانسجام بين إيقاع الشاعر والإيقاع الكوني.

يحقق هذا الشعر فاعليته — كما رأينا — في اتجاه التمرد والفوضوية. ونستطيع القول إن تأثير «لوتريامون» الأدبي، كي نقصر الحديث عليه، هو — أولًا — تأثير تحرري. ومن هذا المنطلق، فسيملك في الزمن مناطق فعل ممتازة، وستكون دائمًا تلك اللحظات التي سيتم فيها الشعور بضرورة التمرد ضد واقع قابض للنفس، وضد عالم لم يعد الذهن يحصل فيه على حقوقه، والعصور التي «تتفاعل» بالاتصال بلوتريامون، هي عهود الفوضى والفردية الساخطة: نهاية القرن التاسع عشر، أو الفترة التي ستلي حرب ١٩١٤م.

وفي انتظار دراستنا لتأثيرات هذا الفعل — في موضعها — فلنسجل أنه، بالفعل، كان على مؤلَّق «لوتريامون» — مثل «رامبو» — أن ينتظر اللحظة الملائمة، «في الساعة التي أكتب فيها — كما يقول — تسري ارتعاشات جديدة عبر الأجواء الثقافية».٢٠٨ لكن الوقت — حوالي عام ١٨٧١م — كان ما يزال مبكرًا للغاية على أن تنتشر، في الوسط الأدبي كله، هذه الارتعاشات الجديدة وارتجافات التمرد ونفاد الصبر هذه التي تسري في قصائد «لوتريامون» و«رامبو». ففي حوالي عام ١٨٩١م،٢٠٩ بعد إعادة نشر «إشراقات» رامبو و«أناشيد مالدورور»، بعدد كافٍ من النُّسخ، عادا إلى الظهور في سماء الرمزية، ليوجها — بضوئهما المزدوج والباهر — الكُتَّاب الشبان للجيل الرمزي الثاني، في دروب الشعر الفوضوي. وبعد ذلك، سيتعرض نجم «لوتريامون» لفترة من الخسوف، قبل أن يعاود الظهور، لكن بأي بريق! في السماء القاتمة لما بعد الحرب، كي يقود السيرياليين نحو التحرير الشامل للشعر، ولن يكف السيرياليون عن إعلان انتمائهم للوتريامون بأكثر من انتمائهم إلى «رامبو»: «لقد كان حقًّا — أكثر من أي شخص آخر — مؤسس الحركة»، ذلك ما سيكتبه «م. نادو».٢١٠ وفي عام ١٩٤٠م، أيضًا، سيؤكد «أ. بريتون» على التأثير الأدبي للُغة هي «في آنٍ، هادمة وبلازما مولِّدة بلا نظير».٢١١
هل نحتاج إلى التأكيد على أنه في هذه الفترات، التي التمع فيها النجم الدوكاسي ببريق حاد بشكل خاص، فإن الطريق الذي ينيره يقود — مباشرةً — إلى قصيدة النثر؟ إنها الصيغة الشعرية الأكثر ملاءمة للحظات كهذه: الفوضوية، التي تدفع — بجرأة — إلى تفضيل أشكال فردية تمامًا، بدلًا من قيود الأوزان والقوالب الفنية الجاهزة، بالإضافة إلى البحث عن الجديد، والميل إلى الخروج على المعايير المعتمدة، والأهمية الممنوحة إلى الفانتازيا، في شكل يقترب — كثيرًا — من الرواية أو القصة، وشبه الاستحالة في انفتاح النَّظم على الفكاهة، فكل شيء يبعد الشعراء «الفوضويين» عن الأشكال المكرسة للنَّظم، فهم لم يعد يرضيهم حتى الشعر الحر، الذي ما تزال مقاصده الفنية واضحة جدًّا: فالأمر لم يعد يتعلق تمامًا بالفن — هنا — قدر تعلقه بتمرد روحي، و— كما يمكننا القول — تمرد ميتافيزيقي، يكشف الروح الجديدة للشعر، ومن هذه الروح، سننجذب إلى رؤية المظاهر المتنوعة طبقًا للأجيال الأدبية. ومن الآن، أعتقد أننا لا يمكن أن نحدد النبضات الجديدة التي جلبها «لوتريامون» — بشكل أفضل — إلا بإعادة نشر هذه السطور التي خصصها «بريتون» — عام ١٩٢٢م — لأشعاره:
لا نعرف ما تريده، فهي تمنحكم الوعي بعوالم أخرى عديدة في آنٍ، إلى حد أنكم سرعان ما لن تعودوا تعرفون كيف تتصرفون في ذلك. عندئذٍ، سيكون ذلك قضية كل شيء، ودائمًا ما سينبغي البدء من جديد …٢١٢
وثمة مسألة أخيرة تظل مطروحة: فنحن نعلم أن «م. فيرو» قد أثبت — مؤخرًا «وكان هذا الفصل قد كُتِبَ» — أن «لوتريامون» قد سرق «بوفون»؛ إذ نقل عنه — بالنص — مقاطع أوردها الدكتور «شنو» في «موسوعة التاريخ الطبيعي»:٢١٣ لا تترك المقارنات بين النصوص أي شك في هذا الصدد: فوصف طيران الزرزور في بداية النشيد الخامس، وطيران الحدأة الملكية فيما بعد بقليل — حتى نقتصر على ذكر هذين المثالين — قد نسخهما «لوتريامون» كلمةً كلمة. فهل ينبغي، كما يقترح «م. فيرو»، ألَّا نرى في «لوتريامون» — منذ ذلك الحين — سوى «صبي ماهر، قرر سرقة بعض الكتاب المجيدين، الذين تقترن لديهم الدقة بالرشاقة»،٢١٤ وأن نراجع — كليةً، بالتالي — آراءنا حول طريقته في الكتابة ومفاهيمه الأدبية؟ أعتقد — بالأحرى — أن الأمر سيكون على العكس من ذلك.
فعلينا — بالأحرى — أن نندهش، في الواقع، من أن هذه السرقات قد احتاجت كل هذا الوقت لاكتشافها، فيما يتعلق بكاتب صرح بلا مراوغة: «السرقة ضرورية».٢١٥ والمجال متاح للاعتقاد بأن الأبحاث الأكثر تطورًا ستسمح بالكشف الدقيق عن أصول وصف طيران الكركي، في النشيد الأول، أو الجُمل من ذلك النوع الذي يصف بها «العيب ذا الشكل الوراثي للأعضاء الجنسية للإنسان، الذي يتمثل في القصر النسبي لقناة مجرى البول وتقسيم أو غياب الحاجز السفلي، إلى حد أن تنفتح هذه القناة على مسافات متنوعة من الحشفة أو تحت القضيب»، وهي جملة تسبق — مباشرةً — الإشارة إلى الزائدة الجلدية للديك الرومي، المنقولة عن «بوفون»، على نحو ما أوضح «م. فيرو».٢١٦ والمؤكد أنه مزعج — إلى حدٍّ ما — أن يُقال إننا نقرأ عملًا محشوًّا بالاستشهادات، وهو انزعاج مرغوب فيه — بالتأكيد — من جانب «لوتريامون» الذي يمكن أن نتخيل سعادته بتشويش القارئ؛ فالأمر يتعلق بالفعل باقتباسات تخص وقائع يمكن التحقق منها عمليًّا، كتلك التي يمكن لهوجو أن يقتبسها من قاموس «موريري» لكتابة «أسطورة القرون»، مما يبدو أسهل في التبرير من اقتباس الأفكار الأخلاقية أو الفلسفية، لكن عندما يتم التوقيع على مقال القاموس باسم «بوفون»،٢١٧ وعندما يُنقَل كلمةً كلمة، فعلينا أن نتحدث عن السرقة، سرقة قصدية، واعية، شبه معترف بها.
ويرى «موريس ساييه» — الذي كتب مقالًا عن اكتشافات «م. فيرو» — أن أمرًا واحدًا فحسب هو ما يهمنا: «أينبغي إرجاع مقتطفات عالم الطبيعة الشهير إلى الشاعر الشهير، أم إنها — بالأحرى — تشكل، من الآن فصاعدًا، جزءًا من مالدورور؟»٢١٨ والجواب ليس موضع شك: فمقتطفات «بوفون» تشكل — من الآن فصاعدًا — جزءًا مكملًا لأناشيد مالدورور — وسأضيف: إنها تشكل جزءًا منها بقدر ما تشكل سرقات، ستُضاف إلى قيمتها الخاصة بها — من الآن فصاعدًا — قيمةٌ برهانية تعزز كل ما نعرفه عن المقاصد الهدَّامة للوتريامون تجاه الأدب والفكر المنطقي.
ونستطيع — في المقام الأول — أن نلاحظ إلى أي حد تختلط «مقطَّعات الموسوعة»،٢١٩ التي استخدمها «لوتريامون»، بالنثر الدوكاسي، وتندمج بنص الأناشيد، إلى حد الاحتياج إلى ثمانين عامًا لاكتشاف الانتحال، وقد اعترف «م. فيرو» نفسه بذلك، حيث «الفقرات الموسوعية تندمج — بإحكام — في نثر «لوتريامون»، مما يكاد أن يعوق تحديد سلالة الكُتَّاب التي يرتبط بها كاتبنا».٢٢٠ لكن كيف لا نرى أن «لوتريامون» يثبت — بذلك — أن الأصالة في مجال الأسلوب لا وجود لها، طالما أنه من الممكن — تمامًا — إدخال مقتطفات كبيرة من كاتب في نثر كاتب آخر، وربما نستطيع أن نرى هنا تطبيقًا للحكمة الشهيرة: «على الشعر أن يصنعه الجميع، وليس شخص واحد …»٢٢١ ويجب أن نضيف أن «لوتريامون» — مثلما يستمتع، كما رأينا، باستخدام مؤثرات الخطابة ضد الخطابة — فإنه يستمتع — بالتأكيد — بلذة شريرة في استخدام النثر الأكثر كلاسيكية، والأكثر عقلانية، ضد الكلاسيكية والعقلانية: بذلك، فهو يستعيد وصف طيران الحدأة الملكية لدى «بوفون» كي يجعل منه العنصر الأول لمقارنة خرقاء مع وجه طفل ميت.٢٢٢ فثمة — هنا — جرعة طيبة من الفكاهة السوداء.
لكن ثمة استخدامًا للسرقة الأدبية أكثر تخريبًا أيضًا، وهنا تعمل «الآلة الجهنمية» — التي ركبها «لوتريامون» — بطريقة شيطانية حقًّا: فالحقائق الصادقة — المقتطفة سواء من «بوفون» أو من عدة كتب علمية متنوعة (في علم الطبيعة، أو علم التشريح، مثلًا) — تمتزج باستمرار بأخرى، فانتازية تمامًا، وتجد نفسها — على هذا النحو — موثقةً بهذا التقارب، وبنفس الجدية الرصينة، يستخدم «لوتريامون» الواحدة منها أو الأخرى، لتدعيم مزاعمه، أو كي تمده بصور شعرية: إلى حد أننا نجد أنفسنا وقد نقلنا إلى عالم مزعزع، حيث الباطل والحقيقي لهما نفس القيمة، ونفس القوة البرهانية، حيث الحقيقي يجد نفسه — بالتالي — ملغومًا، متآكلًا من الداخل، والحقيقة الثابتة الوحيدة — في هذا العالم المضروب بالوهم — تظل، بالتأكيد، الشخصية الخادعة لإيزيدور دوكاس، المشرف على هذه اللعبة، ولن أذكر من ذلك سوى مثال واحد: في «جميل مثل» التي تختتم النثرية الثانية من النشيد الخامس، نجد التشبيه — «جميل مثل ارتعاشة اليدين في إدمان السُّكْر» — استخدامًا لحقيقة معروفة، و«جميل مثل قانون توقف تطور الصدر لدى البالغين الذين لا علاقة بين نزوعهم الطبيعي للنمو، وكمية الجزيئات التي يتمثلها جسمهم» تطبيقًا خادعًا لمفاهيم الطبيعيات والبيولوجيا، و«جميل مثل مذكرة عن المنحنى الذي يرسمه كلب خلال ركضه وراء سيده» الذي يتاخم المزحة.٢٢٣ وهكذا يقودنا «لوتريامون» إلى أن نفكر، لا بمقدرتنا فحسب على جعل أية جملة تقول أي شيء (وهو يحاول — من ناحية أخرى — أن يثبت في «أشعار» أنه بقلب جملةٍ ما، فإننا نحصل على معنًى جديد، في نفس معقولية الجملة السابقة)، بل — أيضًا — أن المعقول والأخرق، الواقعي والخيالي، لهم نفس القيمة، ويساهمون بأنصبة متساوية في الإبداع الشعري، ولدى قراءتنا للوتريامون، نشعر أن يقيننا كله يهتز، ويصبح كل شيء موضع سؤال: وهذا بلا شك — على الصعيد الأدبي، مثلما على الصعيد الميتافيزيقي — ما يعطي أهمية لشعره. ولنشكر «موريس فيرو» لأنه جاء ليؤكد لنا ذلك.
١  «أيا ليالي يونج! لقد سببت لي كثيرًا من الصداع النصفي!» كما سيقول «لوتريامون» في «مقدمة لكتاب قادم» (Lautréamont, Œuvres complètes, Corti, 1938, p. 292؛ وسترجع إحالاتي إلى هذه الطبعة).
٢  Linder, Lautréamont, Sein Werk und sein Weltbild, Bâle, 1947.
٣  أوضح «مارسيل جان» و«أرباد ميزي»، في بحثهما حول «مالدورور» — Maldoror, éd. du Pavios, 1947 — أن شيطان «ميلتون» — (الذي يقول في بداية «الفردوس المفقود»: «ارتكاب الشر سيكون دائمًا لذتنا الوحيدة») — قد أثر، بوضوح، على «مالدورور» لوتريامون. وفضلًا عن ذلك، فإن «لوتريامون» — نفسه — يذكر «ميلتون»، إضافةً إلى «بايرون»، من بين أسلافه الذين «تغنوا بالشر» (Œuvres, p. 36).
٤  Œuvres, p. 296. وفي خطاب إلى «م. داراس» — صراف والده — يقول «لوتريامون» إن مؤلَّفه كان «شيئًا ما من قبيل» مانفريد «لبايرون»، و«كونراد» لميكيفيتش (Œuvres, p. 36).
٥  هذه الجملة ذكرها «مارسيل جان» و«أرباد ميزي» في دراستهما حول «مالدورور» (مرجع سابق). وهذا اﻟ «لا تريومون»، روح مؤامرة «روهان» ضد لويس الرابع عشر، هو كائن مرعب وغامض، شخصية «شيطانية».
٦  L.-P. Quint, “Le Comte de Lautréamont et Dieu” (Cahiers du Sud, 1929, p. 28).
٧  نُشِرَ النشيد الأول — وحده — عام ١٨٦٨م، وفي عام ١٨٦٩م، وجد «دوكاس» ناشرًا لكل الأناشيد، هو «لاكروا» الذي رفض — بعد طبعها — توزيعها، «لأن الحياة فيها رُسِمَت بألوان بالغة المرارة، ولخشيته من النائب العام»، كما كتب الشاب إلى «داراس» عام ١٨٧٠م (Œuvres, p. 39). إنه خليفة «لاكروا» الذي سيفرج عن النسخ المخزونة عام ١٨٧٩م.
٨  خطاب إلى «م. داراس»، ١٢ مارس ١٨٧٠م، Œuvres, Corti, 1938, p. 39.
٩  انظر — مع ذلك — ذكريات «ليسبيز»، زميل الدراسة في «بو» (Mercure de France, 1er Janvier 1928) وكتاب C., et A. Guillot-Munoz, Lautréamont et Laforgue, Montevideo, 1925، ويشير «جان» و«أرباد ميزي» إلى بعض المعلومات الجديدة في كتابهما Genése de la Pensée moderne, Corréa, 1950, pp. 65–67، لكنها — بالأساس — تخص والد الشاعر ووالدته.
١٠  Soupault, Lautréamont, Cahiers libres, 1927, p. 24. يتحدد ميلاد «إيزيدور دوكاس» — بالفعل — بعام ١٨٤٦م، خلال حصار الكونفدرالية الأرجنتينية لمونتفيديو، الذي استمر عشر سنوات.
١١  Introduction aux Œuvres de Lautréamont, Corti, p. 21.
١٢  Nouvelle Revue Française, Septembre, 1929, p. 386.
١٣  Lautréamont et Sade, Editions de Minuit, 1949.
١٤  Œuvres, p. 301.
١٥  يمثل «جاري» نفس نمط المراهق المضطرب، الواقف «على هامش» المجتمع. لكن «ألويزيوس برتران»، وهو شاعر آخر ملعون، ألم يكن — هو أيضًا — شابًّا عندما كتب «أناشيد غنائية»؟ على الطرف الآخر، نلتقي بكُتَّاب تمثل قصيدة النثر لهم — في نهاية حياتهم الأدبية — الخاتمة، والنقطة القصوى لسلسلة كاملة من المساعي الجمالية، مثل «بودلير» و«مالارميه».
١٦  نعلم أنه في «هراري» — عندما سيحاولون سؤاله عن مؤلفاته الأدبية — سيجيبهم: «أمر مثير للسخرية! عبثي! مقزز!».
١٧  إنها وجهة نظر L. P. Quint (Le comte de Lautréamont et Dieu, Cahiers du Sud, Marseille, 1929).
١٨  خطاب إل الناشر «فرويرو كخوفن»، ٢٧ أكتوبر ١٨٦٩م، Œuvres, p. 38.
١٩  «أريد على الأقل لقارئي الحزين، أن يستطيع القول لنفسه: «علينا الاعتراف بحقه. لقد شوشني كثيرًا».» (Œuvres, Chant VI, p. 282).
٢٠  Œuvres, Chant II, p. 110.
٢١  ذكرته السيدة «كيلين» (Le Roman Noir, Crés, 1915, p. 191)، التي تتذكر تأثير الروايات السوداء على الرومانتيكيين.
٢٢  يذكره «لوتريامون» في «مقدمة لكتاب قادم»، «آن دار كليف»، «الشبح الممسوس»، و«ماتوران، شريك الظلمات المتواطئ» (Œuvres, p. 303).
٢٣  ذكرته السيدة «كيلين»، Le Roman Noir, pp. 71-72.
٢٤  خطاب إلى الناشر «فريرو كخوفن»، ٢٣ أكتوبر ١٨٦٩م، Œuvres, pp. 36-37.
٢٥  قارن Jean Cassou, Pour la Poésie, Corréa, 1935, p. 74: «ما يميز هؤلاء الشعراء هو توترهم الرائع، والجنون الأقصى للأحداث المذكورة والتعبير عنها. وأول شعور يوحون به هو عدم التصديق و— إلى حدٍّ ما — التهريج. فنحن غير معتادين على مثل هذه النبرة. وبالمثل، فإن قراءة «صاد» والروايات السوداء تقودنا إلى ما بين البشع والفكاهي، حيث لا يعرف فكرنا، المنزعج، أي اتجاه يجب عليه أن يسلكه».
٢٦  الدوكاسية: نسبةً إلى «دوكاس»، الاسم الأصلي للوتريامون.
٢٧  Bachelard, Lautréamont, Corti, 1939, p. 12.
٢٨  نفس المرجع، ص١٤.
٢٩  نفس المرجع، ص٢٢.
٣٠  النشيد الرابع، ص١٨٣–١٨٩.
٣١  Œuvres, Introduction, p. 22.
٣٢  M. Blanchot, Lautréamont, Revue Française des idées et des œuvres, Avril 1940, p. 70.
٣٣  خطاب إلى «م. داراس»، ١٢ مارس ١٨٧٠م، Œuvres, p. 40.
٣٤  «الرغبة في الحياة هي — هنا — رغبة الهجوم …» (Lautréamont, p. 6).
٣٥  Blanchot, Lautréamont et Sade, éd. de Minuit, 1949, p. 164. وهذا التحرر يُرمَز له بالحلقة الأخيرة من النشيد الخامس، حيث يستيقظ «مالدورور» في النهاية من نوم يصيب بالشلل، «متحررًا» من «تعذيب» الزوجين الأخوين «ريجينال – السينور» (Œuvres, p. 247).
٣٦  بلانشو، مرجع سابق، ص٩١.
٣٧  النشيد السادس، ص٢٥١.
٣٨  E. Jaloux, Introduction, (Œuvres, p. 22). والنموذج الجديد لهذه البدايات في الرواية قد يكمن — في النشيد الثاني — في «ظهور الفتاة الممشوقة» التي تتبع «مالدورور»، كل يوم عن بعد (ص٩١، وما بعدها).
٣٩  النشيد الرابع، ص١٨٣–١٨٩.
٤٠  النشيد الثالث، ص١٤٩–١٥٥.
٤١  النشيد الثالث، ص١٥٥–١٥٨.
٤٢  النشيد الثالث، ص١٥٨. وهنا، يشير «مارسيل جان» و«أرباد ميزي» — عن صواب تام — في الفصل الثامن من دراستهما حول «مالدورور»، إلى تأثير «ميلتون» وكلمات الشيطان في النشيد الرابع من «الفردوس المفقود»: «وداعًا، أيها الأمل، ومع الأمل، وداعًا أيها الخوف، وداعًا أيها الندم، أيها الشر، كُن خيري».
٤٣  يبدو من الصعب — رغم هذا — الاعتقاد، مثل «مارسيل جان» و«أرباد ميزي»، بأن هذا النشيد الأول يستعرض ويبدل من مكانة الروائع الأدبية (الإلياذة، والأوديسا، ومانفريد، وهاملت … إلخ).
٤٤  النشيد الأول، ص٤٤.
٤٥  نفس المرجع، ص٤٣.
٤٦  نفس المرجع، ص١٤٦: «نغرس أظافرنا في صدر طفل، ثم نشرب الدم ونحن نلعق الجراح …»
٤٧  نفس المرجع، ص٤٨: «أبرمتُ حلفًا مع الدعارة …»
٤٨  نفس المرجع، ص٦٢: «ها هي حيوانات الأرض تتحد مع البشر، وتجعل صخبها الصادم مسموعًا. لم يعد هناك حقد متبادل، لقد تحول الحقدان نحو العدو المشترك، أنا، إنه الاقتراب من قبولٍ كوني».
٤٩  النشيد الأول، ص٧٨.
٥٠  نفس المرجع. وقد تم تقديم «مالدورور» كملاك شرير، فهو يمتلك — مثل الشيطان — «جوهرًا إلهيًّا» (ص٧٨)، ويجوب الفضاء، مثل «شهاب مرعب» (ص٦٢).
٥١  كان «لوتريامون» — الذي اهتم تمامًا ببودلير إلى حد مطالبته، عام ١٨٧٠م، باستكمال «أزهار الشر» (انظر المؤلفات، ص٣٨) — قد قرأ، بالتأكيد، «لوحات باريسية» المنشورة في طبعة ١٨٦١م، حيث يؤكد «بودلير» على خفايا «العواصم القديمة»؛ لذا، ليس من المستحيل أن تكون حلقة الفتاة، التي تتم مقابلتها بشكل عابر (النشيد الثاني، ص٦٢: «لن تراني بعد ذلك أبدًا، ولن أراك بعد ذلك أبدًا!») — قد تأثرت بسوناتا «إلى عابرة». أما بالنسبة ﻟ «سأم باريس»، المنشور عام ١٨٦٩م، فلا شيء يدل على تأثيره.
٥٢  مخلوق أسطوري مزدوج الجنس.
٥٣  النشيد الثاني، ص١٢٤.
٥٤  النشيد الثاني، ص١١٦ (واقعة المصباح)، وص١٣٥، الصراع ضد الوعي «المرسل من الخالق» (ص١٣٨).
٥٥  النشيد الثاني، ص١١٦. كان الشاب «دوكاس» قد ذهب إلى باريس للإعداد لامتحانات الهندسة ومدرسة «مين».
٥٦  النشيد السادس، ص٢٤٩: «هل ستدَّعون إذن أن مهمتي قد أُنْجِزَت، لأنني أَهنت — فيما يشبه اللعب مع نفسي — الإنسان والخالق وأنا نفسي، في مبالغاتي القابلة للتفسير؟ لا: فالجانب الأهم من عملي ما يزال مستمرًّا، باعتباره مهمةً يجب إنجازها: ومن الآن فصاعدًا، ستحرك خطوط الرؤية الشخصيات الثلاث المذكورة فيما سبق: هكذا ستصل إليهم طاقة أقل تجريدًا».
٥٧  النشيد الثاني، ص١٣٣.
٥٨  النشيد الثالث، ص١٥٥.
٥٩  النشيد الأول، ص٦٩.
٦٠  النشيد الأول، ص٦٣.
٦١  النشيد الرابع، ص١٨٨؛ وقد تمت صياغة السرد بأسلوب غير مباشر.
٦٢  النشيد الرابع، ص٢٠٥–٢٠٧؛ وقد تمت صياغة السرد بأسلوب مباشر.
٦٣  النشيد الثالث، ص١٥٠–١٥٤.
٦٤  النشيد الأول، ص٦٣.
٦٥  النشيد الثالث، ص١٤٩.
٦٦  النشيد الثاني، ص١٢٥.
٦٧  سلاح قاذف من خشب يستعمله الأستراليون الأصليون، من خصائصه الارتداد إلى قُرب مطلقه إن لم يصب الهدف.
٦٨  النشيد الثاني، ص١٣٣.
٦٩  النشيد الثالث، ص١٥٢.
٧٠  النشيد الثاني، ص٨٨–٩١.
٧١  النشيد الثاني، ص١٣٤.
٧٢  النشيد الثالث، ص١٥٤.
٧٣  نستطيع أن نتذكر — هنا — حل العقدة، الشديدة التقليدية والمرح، لدى «موليير».
٧٤  النشيد الثاني، ص١٣٤.
٧٥  النشيد الثالث، ص١٤٥.
٧٦  النشيد الثالث، ص١٤٣.
٧٧  يمارس «مالدورور» اعتداءاته الرهيبة — دائمًا — ضد هذه الكائنات الشابة والفاتنة «ذات الطبيعة الملائكية» (قارن في الفصل الأول من القسم الأول).
٧٨  النشيد السادس، ص٢٧٩.
٧٩  النشيد الثاني، ص٦٢.
٨٠  النشيد الثاني، ص١٣٢.
٨١  النشيد الثاني، ص٨٣.
٨٢  نفس المرجع، ص٨٥.
٨٣  Marcel Jean et Arpad Mezei, Maldoror, éd. du Pavois, 1947, p. 51.
٨٤  Bachelard, Lautréamont, Corti, 1939, p. 133.
٨٥  Confluences, n. 3, Avril 1945, p. 247؛ وهكذا، فإن روايات «مالرو» — وفقًا ﻟ «بندا» — «ترتكز على نزعة مالرو — البطولية، فحسب — وهي، في مجملها فحسب، مؤلفات شعرية» (ص٢٤٨). ومن الطريف أن نرى «بندا» وهو يُعرِّض — بنفس الحدة — ببروست، وجيد، وجيرودو، الذين يرفعهم إلى الذروة، «المعادون للعقلانية» من قبيل «كليبر هايدينس» — على سبيل المثال — الذي يدين إفلاس الرواية الواقعية، ويعلن أنه «ينبغي الارتقاء بالرواية إلى مستوى الفن» (Revue Française des Idées et des Œuvres, Avril 1940, p. 37). ولكن أليست التهجمات الأولى ضد الرواية الواقعية — وأسلوبها «الإخباري»، ووصفها، «كصور نقية مستمدة من الكاتالوج»، ومزاعمها في التحليل النفسي — قد انطلقت على يد السيرياليين (Premier Manifeste du Surréalisme, p. 17)، الذين ادعوا — بالتحديد — أن «لوتريامون» رائدهم؟
٨٦  النشيد السادس، ص٢٦٤.
٨٧  نفس المرجع، ص٢٦٥.
٨٨  نفس المرجع، ص٢٦٢.
٨٩  نفس المرجع، ص٢٦٤-٢٦٥.
٩٠  A. Killen, Le Roman noir, Crés, 1915, p. 61.
٩١  النشيد السادس، ص٢٥٤.
٩٢  النشيد الثاني، ص٨٨. وهذا الأتوبيس — الشبح «الذي يظهر فجأةً، كأنه قد خرج من تحت الأرض»، لا يفتقر إلى التشابه مع المربط الفانتازي في «طبيب من الأرياف»، إحدى قصص «كافكا» الأكثر «دوكاسية» (المنشورة في La Métamorphose, N.R.F., 1946).
٩٣  L.-P. Quint, Le comte de Lautréamont et Dieu, Cahiers du Sud, Marseille, 1929, p. 114.
٩٤  إنها أطروحة «ل. بلُوي» عام ١٨٩٠م (La plume, 1er Sept. 1890)، «مات المؤلف في كوخ صغير، وهذا كل ما نعرفه عنه»، التي كررها «ر. جورمون» في Premier livre des Masques (1896)، وأنصفه «ل. ب. كينت» عندما أوضح (مرجع سابق، الفصل الخامس) أنه لا يمكن أن نأخذ كلمة جنون — هنا — إلا بمعنى عصابية: وضرورة أن يخضع «لوتريامون» للتحليل النفسي ليست موضع شك أبدًا.
٩٥  يقول «مالدورور» — الذي يدعي أنه «يوجه» أحلامه — بطريقة دالة: «فلتعلموا أن الكابوس … والحُمى … وكل حيوان ملوث يُشرع مخلبه الدامي، حسنًا! إنها إرادتي التي — من أجل توفير غذاء ثابت لفاعليتها الدائمة — تدفعهم إلى الدوران في دائرة» (النشيد الخامس، ص٢٢٢). دائرة غريبة في الحقيقة، حيث يبدو سيد اللعبة كقائد لها ومنقاد فيها، في آن.
٩٦  النشيد الثالث، ص١٥٩.
٩٧  حيوان هلامي بحري يضيء في الليل.
٩٨  النشيد الرابع، ص١٨٩–١٩٣. وقارن بالفصل الذي خصصه «باشلار» في (Lautréamont, chapitre, 2).
٩٩  خطاب إلى «توسينيل»، ٢١ يناير ١٨٥٦م. وقد يمكننا — في هذا الصدد — أن نستفيض طويلًا حول واقعة أن «لوتريامون»، في الطبعة الثانية من النشيد الأول، قد وضع بدلًا من اسم صديقه «دازيه» أسماء حيوانات «شريرة ومقززة»، أخطبوط، بقَّة، قملة، ضفدع.
١٠٠  النشيد الثالث، ص١٦٣.
١٠١  النشيد الرابع، ص٢٠١ وما يليها.
١٠٢  النشيد الخامس، ص٢١٥ وما يليها.
١٠٣  النشيد الخامس، ص٢٢٦ (وقارن ص٢٢٥ و٢٨٣).
١٠٤  Bachelard, Lautréamont, Corti, 1939, p. 24.
١٠٥  النشيد الثاني، ص١١٨.
١٠٦  Le Moine, t. I, pp. 39–41. أستعير هذا الاقتباس من أطروحة السيدة «كيلين» عن Le Roman Noir. ومن الشائق أن نلاحظ أن الملاك، وقد أصابه «مالدورور»، ينفلت — هو الآخر — ويصعد نحو السماء و«مناطق الخير الهادئة» (ص١١٩).
١٠٧  وعلى سبيل المثال، فإن نتيجة معركة «مالدورور» ضد الملاك ليست واضحة؛ إذ إن «مالدورور» منتصر ومهزوم في آنٍ، ويعقد — في نهاية المعركة — «صداقةً أبديةً» بنظرة مع من كان قد صرعه توًّا.
١٠٨  النشيد السادس، ص٢٨٢.
١٠٩  يقدم لنا لوتريامون «مالدورور» ثابتًا، مغروسًا في الأرض منذ أربعة قرون (النشيد الرابع، ص١٨٩، ١٩٠)، لكنه طوال الخمسة عشر عامًا، كما يُقال لنا في النشيد الثاني، يقذف الإنسانية بموجاتٍ من البق (ص١١٠). ويعلن أنه لم ينم منذ ثلاثين عامًا (ص٢٢٢). ويتحدث — في نهاية النشيد الخامس — عن النوم المغناطيسي الذي أثقله «طوال ليالي أعوام التكفير العشرة» (ص٢٤٧).
١١٠  النشيد الرابع، ص١٧٦.
١١١  يعلن «مالدورور» أنه «منذ الأزمنة البعيدة، فيما قبل التاريخ»، حيث كان يخرب «أقطار الأرض بالغزوات والمذابح»، «كان قد سبق له أن سحق أجيالًا بكاملها» (النشيد السادس، ص٢٥٣). لكن لا ينبغي البحث في «الأناشيد» عن أية لوحة جدارية تاريخية: فكافة التفاصيل معاصرة.
١١٢  يؤكد «م. بلانشو» — بشكل خاص — على فكرة أنه بفضل التقسيم إلى مقاطع، بلا رابط ظاهر بينها، استطاع «لوتريامون» — دائمًا — التخلي عن موضوع ما، في اللحظة التي يوشك أن يتخذ معنًى شديد الوضوح (Lautréamont et Sade, 1949, p. 97).
١١٣  هذا الموضوع — الذي ظهر منذ النشيد الأول، عندما يبدي اللحاد إعجابه بشَعر رأس «مالدورور» (ص٧٣)، ويُستعاد مرتين في شكل «موضوع سلخ الجمجمة» في النشيد الرابع — هل هو رمزي، أم مرتبط بفكرة محددة؟ وعلى أية حال، فإن مظهره، الملح ليس موضع شك.
١١٤  انظر — على سبيل المثال — في النشيد السادس، استشهادًا ما بصدد نظام السلالم والمقامات الموسيقية، الذي يرجع ولا بد إلى دراسة في «الهارموني» (ص٢٦٨).
١١٥  في بداية النشيد الرابع بشكل خاص، حيث يدين «لوتريامون» — بعنف — شطط شعر السابقين عليه، ويأمل في تجاوز «كل ما اعتبره الشعر من أكثر الأشياء عظمةً وقداسةً، حتى الآن» (ص١٨٢).
١١٦  «كتبتُ عملًا شعريًّا للنشر لدى م. لاكروا»، على نحو ما كتب في ١٢ مارس ١٨٧٠م إلى صرافه «م. داراس» (المؤلفات، ص٣٩).
١١٧  (خطاب إلى الناشر فريرو كخوفن) Œuvres, p. 37.
١١٨  النشيد الخامس، ص٢١١. ونعلم أن «م. فيرو» قد أعاد — مؤخرًا، في مقال Mercure de France (1er Décembre 1952) — أبوة هذا الوصف إلى «بوفون» المذكور في Encyclopédie d’Histoire naturelle du Dr Chenu وأن يكون «لوتريامون» قد انتحل «بوفون» فهو — مع ذلك — ما لا يقلل من القيمة الرمزية التي يمنحها لهذا الوصف. قارن بما سبق في الفصل الرابع من القسم الأول.
١١٩  «أقترح على نفسي، دون أن أكون ساخطًا، أن أنشد بصوت عالٍ المقطع الشعري الكبير والجاد والبارد الذي ستسمعونه» (النشيد الأول، ص٥٣).
١٢٠  النشيد الأول، ص٤٤.
١٢١  النشيد الأول، ص٦٤-٦٥.
١٢٢  النشيد الثاني، ص٨٨-٨٩.
١٢٣  النشيد الثاني، ص١٢٦–١٢٨.
١٢٤  النشيد الثالث، ص١٤٤–١٤٩.
١٢٥  النشيد الأول، ص٥٠-٥١.
١٢٦  نسبة إلى «بانتاجرويل»، إحدى شخصيات «رابليه».
١٢٧  Le comte de Lautréamont et Dieu, p. 113.
١٢٨  «عطشهم للَّانهائي لا يرتوي»، كما سيقول فيما بعد، ص٥٢، ومن هذه الفكرة المفصلية، سينطلق الجزء الثاني من التطوير، المتمحور — هذه المرة — على «مالدورور»، الذي «يعاني الحاجة للَّانهائي»، هو أيضًا. ومن المحتمل تمامًا — فيما يبدو لي — أن يعود هذا الجزء، الذي يدور حول الكلاب النابحة، في أصوله، إلى قصيدة ﻟ «لو كونت دي ليل» بعنوان «النابحون» (قصائد وحشية)، حيث الكلاب المتوحشة وهي تنبح على شاطئ البحر، تحت ضوء القمر، فريسة «ضيق مجهول».
١٢٩  مقال منشور في La Plume، الأول من سبتمبر ١٨٩٠م، وأُعيدَ نشره في Belluaires et Porchers, Stock, 1905, p. 11.
١٣٠  راجع ما سبق في الفصل الرابع من القسم الأول.
١٣١  النشيد الرابع، ص٢٠٩.
١٣٢  النشيد السادس، ص٢٥٧.
١٣٣  انظر ما يقوله «لوتريامون» نفسه حول طريقة «بناء حكاية منومة بصورة آلية» و«إفساد عقل» القارئ.
١٣٤  «من الآن فصاعدًا، ستقتل حبال الرؤية الشخصيات الثلاث المذكورة من قبل» (النشيد السادس، ص٢٤٩).
١٣٥  «سيكون، في أناشيدي، دليل دامغ على المقدرة على احتقار الآراء المعتمدة»، كما يقول «لوتريامون» بكبرياء، ليعلن بعد ذلك — على الفور — أنه لا يضع «مقياس إلهامه في الميزان البشري» (النشيد الرابع، ص١٨٢).
١٣٦  النشيد الرابع، ص١٨٢.
١٣٧  «إذا ما كنتُ موجودًا، فلستُ آخر»، كما يقول «لوتريامون» (على النقيض من «رامبو»). «لا أقبل بهذه التعددية الملتبسة في نفسي. أريد أن أقيم بمفردي في منطقي الحميم. الاستقلال … أو فلأتحول إلى فرس نهر» (النشيد الخامس، ص٢٢٣). وهذا المقطع بكامله بالغ الأهمية لفهم إرادة الاستقلال والصفاء اللذين يميزان «لوتريامون».
١٣٨  Lautréamont, Œuvres, Corti, 1940, Introduction, p. 10.
١٣٩  Bachelard, Lautréamont, p. 112.
١٤٠  مقال La Plume المعاد نشره في Belluaires et Porchers, p. 9.
١٤١  «هل ستدَّعون إذن أن مهمتي قد أُنجِزَت، لأنني أهنت — فيما يشبه اللعب مع نفسي — الإنسان والخالق وأنا نفسي، في مبالغاتي القابلة للتفسير؟» (النشيد السادس، ص٢٤٩).
١٤٢  النشيد الرابع، ص١٩٨: والعبارة موجهة إلى الجنس البشري.
١٤٣  النشيد الخامس، ص٢٢٣: هذه المرة، يتوجه «لوتريامون» إلى الخالق.
١٤٤  النشيد الأول، ص٧٨.
١٤٥  النشيد الثاني، ص٩٠-٩١.
١٤٦  النشيد الثاني، ص٨٥.
١٤٧  النشيد الأول، ص٥٩.
١٤٨  النشيد الثاني، ص١٣٥.
١٤٩  النشيد الثاني، ص٨٨.
١٥٠  النشيد الثاني، ص٨٧.
١٥١  النشيد الثاني، ص١٢٧.
١٥٢  على سبيل المثال: «عُقاب أصهب» (ص٨٣) (panoccos de l’Arkansas, p. 193), l’anarnak groënlandais et scorpène-horrible (p. 201).
١٥٣  Œuvres, p. 36 (خطاب موجه إلى «م. داراس» في ٢٢ مايو ١٨٦٩م).
١٥٤  نسبةً إلى «شيشرون»، الخطيب الروماني المشهور.
١٥٥  النشيد الأول، ص٤٥.
١٥٦  النشيد الأول، ص٥٩.
١٥٧  Lautréamont, Corti, 1939, p. 112.
١٥٨  النشيد الأول، ص٧٥.
١٥٩  النشيد الرابع، ص٢٠٠.
١٦٠  النشيد الأول، ص٤٣.
١٦١  النشيد الأول، ص٤٧.
١٦٢  النشيد الثاني، ص١٠٩.
١٦٣  النشيد الثاني، ص١١٣.
١٦٤  عن هذه السرقات التي برهن عليها — مؤخرًا — السيد «فيرو» في مقال له في Mercure de France (1er Décembre 1952)، قارن أيضًا بما سيلي في الفصل الرابع من القسم الأول.
١٦٥  نجد في «الأناشيد» بعض مظاهر الإطناب المميزة، التي تكاد أن تنتج نفس تأثير الإهمال؛ إذ لا يبدو عليها القصدية: «هذا الزمن الذي يجب أن يستمر قدر استمرار الأبدية» (ص٤٦)، «لم يكن لي أن أتكلم هكذا» (ص٢٠٥).
١٦٦  النشيد الأول، ص٦٠ (مناجاة إلى المحيط).
١٦٧  النشيد الرابع، ص٢٠١. والغرض الساخر واضح للغاية في هذه الصفحة، حيث يشكو «لوتريامون» — بين تطورين لحدثين لا ينتهيان ومهذارين بما لا يطاق — من أنه يمكن «انتزاع ورق جماليات الأدب» بفعل «التطور المفرط السرعة» لجُمله.
١٦٨  phrase à tiroirs: جملة تختزن تفصيلات غريبة، فرعية، عن الحدث الرئيسي.
١٦٩  النشيد الرابع، ص١٨٦-١٨٧.
١٧٠  النشيد الخامس، ص٢٣٥.
١٧١  إنه الأسى الذي يمنحه «لوتريامون» — في بداية النشيد السادس — شكلًا مجازيًّا في تعبيره عن «الأمنية المحتدمة» في أن يجد القارئ نفسه «سجينًا في الغُدد العرقية» لجلده هو، «لوتريامون»، ليتحقق من صدق ما يؤكده (ص٢٥١).
١٧٢  النشيد الخامس، ص٢٣١.
١٧٣  L’Action restreinte, Œuvres complètes. éd. de la Pléiade, p. 372.
١٧٤  زميل الدراسة كان اسمه «ليسبيس»، أما الأستاذ، فهو «هينستين»، انظر Dédicace de la Préface à un Livre Futur, Œuvres, p. 290.؛ ذكريات أوردها F. Alicot (Le vrai visage d’Isidore Ducasse, Mercure de France, 1er Janu. 1928).
١٧٥  النشيد السادس، ص٢٥٦. وقارن ﺑ «الفقراء»:
فما الذي فعلته إذن «جانيي» لدى هذه المتوفاة؟
ما الذي تحمله إذن في ردائها ذي الطيات الطويلة؟ … إلخ.
١٧٦  النشيد الرابع، ص١٧٧-١٧٨.
١٧٧  النشيد الرابع، ص٢٠٣.
١٧٨  «اليوم، سأختلق روايةً صغيرةً من ثلاثين صفحة …» (ص٢٥١).
١٧٩  النشيد السادس، ص٢٧٥.
١٨٠  المرجع السابق، ص٢٨٠.
١٨١  المرجع السابق، ص٢٨١.
١٨٢  أحيل إلى الفصل الذكي والبالغ التعمق، الذي كتبه «ل. ب. كينت» عن «فكاهة لوتريامون» (Le comte de Lautréamont et Dieu, 1929, ch. 4)، والذي ينتهي منه إلى أن «لوتريامون» يسخر من «كل ما له علاقة بعمل الكاتب» (ص١٣٠)، ويثبت — بمحاكاته الساخرة — أن «جُملةً جميلة لا تمثل قيمةً مطلقة» (ص١٣١).
١٨٣  Anthologie de l’Humour Noir, Sagittaire, 1940, p. 101.
١٨٤  مقال عن «لوتريامون» في 1erLivre des Masques, 1896.
١٨٥  في مقدمته ﻟ Œuvres, Corti, 1940, p. 25.
١٨٦  انظر المقال المكتوب عن «هوجو» في L’Art Romantique (Œuvres de Baudelaire, Pléiade, t. II, p. 517).
١٨٧  النشيد الرابع، ص٢٠٤.
١٨٨  ينبثق «ضوء» الصورة — بالنسبة لبريتون — من التقارب العارض بين كلمتين متباعدتين، وكلما ازدادت المسافة بينهما، كانت الشرارة ساطعة: «والصورة الأقوى هي تلك التي تقدم أعلى درجات الاعتباطية، لا أخفي ذلك …» ذلك ما يعلنه في «البيان الأول للسيريالية» (ص٦٤). وحول هذا الاستخدام للصورة، قارن بما سيلي في الفصل الثاني من القسم الثالث.
١٨٩  النشيد الخامس، ص٢٣٦.
١٩٠  النشيد الأول، ص٤٥.
١٩١  المرجع السابق، ص٥٩.
١٩٢  المرجع السابق، ص٦٤.
١٩٣  النشيد الرابع، ص١٨١.
١٩٤  النشيد الثالث، ص١٥٩.
١٩٥  النشيد الثالث، ص١٧٠-١٧١.
١٩٦  النشيد الثاني، ص١٣٦.
١٩٧  النشيد الثاني، ص١٣٩.
١٩٨  وغرابة هذه «الطاقة الحيوانية» لدى «لوتريامون» — بالنسبة للقارئ — أكد عليها «باشلار» في كتابه «لوتريامون»، فيما يتعلق ﺑ «كتاب الضواري لدى لوتريامون» (الفصل الثاني، ص٧٦–٧٨).
١٩٩  فيما يتعلق بالانتقالة (بفعل الاستعارة والتحول في آن) من شكل إلى آخر، فمن الشائق أن نرى «لوتريامون» وهو يتحدث عن «هيئة كبقَّة»، أحيانًا مثل سائل ينتشر «في جداول» عبر المساكن، وأحيانًا مثل شيء صلب، مكون من «كتل من البق، كبيرة مثل الجبال» التي «يفتتها» مالدورور إلى أجزاء / كتل مكونة من «مادة متحركة»، وطاقة «عناصرها الحية» — البق — تجعلها تقفز أحيانًا حتى السماء (النشيد الثاني، ص١١٠-١١١).
٢٠٠  النشيد الأول، ص٥٩.
٢٠١  النشيد الرابع، ص١٨٢.
٢٠٢  النشيد الأول، ص٧٦.
٢٠٣  النشيد الخامس، ص٢٣٦. والحقيقة أن «لوتريامون» يدَّعي — فيما بعد — أنه يرى بين الاثنين «علاقة عظَمة هادئة» ليست، كما يقول، «إلا شائعة للغاية، وذات رمز قابل للإدراك إلى حدٍّ ما»: وهو ما لا يعدو أن يكون — بلا شك — سخرية إضافية.
٢٠٤  النشيد السادس، ص٢٥٥.
٢٠٥  أعلم جيدًا أنه قد تم البحث لإثبات المعنى الخفي، الخاص بالتحليل النفسي لهاتين الأداتين، وأرادوا اعتبارها رموزًا جنسية: رمز ذكوري يكمن في المظلة، ورمز أنثوي يكمن في ماكينة الحياكة، انظر — بشكل خاص — نص «سلفادور دالي» الذي ذكره «نادو» في (Documents Surréalistes, éd. du Seuil, pp. 248–251). ومن جهة أخرى، فالمجانية الكاملة لا وجود لها بالنسبة للسيرياليين، فكل تقارب ذو مظهر اعتباطي له سببه العميق في الحياة اللاواعية للفرد، وحتى لو قبلنا بهذا المبدأ، فلا يقل عن ذلك حقيقة أن «لوتريامون» يبحث عن المجانية، ويختار — بشكل عمدي — الصور الأكثر اعتباطية (في الظاهر، على الأقل).
٢٠٦  Introduction aux Œuvres de Lautréamont, p. 25.
٢٠٧  يستعير «أ. بريتون» — في كتابه Anthologie de l’Humour Noir (Préface, dite Paratonnerre, p. 10) — من كتاب «ل. ب. كينت» Le comte de Lautréamont et Dieu — هذا التعريف للفكاهة، ويعتبره أفضل التعريفات.
٢٠٨  بداية النشيد الخامس، ص٢١٣.
٢٠٩  نهاية عام ١٨٩١م، بالنسبة ﻟ «إشراقات» و«فصل في الجحيم»، المنشورين لدى «فانييه»، وعام ١٨٩٠م، بالنسبة ﻟ «أناشيد مالدورور»، المنشور لدى «جينونسو» (الذي كان أول من سينشر «أشعار» رامبو في نوفمبر ١٨٩١م). قارن بما سبق في الفصل الرابع من القسم الأول.
٢١٠  Histoire du Surréalisme, éd. du Seuil, 1945, p. 67.
٢١١  Anthologie de l’Humour Noir, notice sur Lautréamont, p. 101.
٢١٢  Caractéres de l’evolution moderne، محاضرة أُلقيت عام ١٩٢٢م، ونُشِرَت في Pas Perdus, 1924, p. 199.
٢١٣  Lautréamont et le Docteur Chenu, Mercure de France, 1er Décembre 1952, pp. 632–642.
٢١٤  المرجع السابق، ص٦٣٥.
٢١٥  «السرقة الأدبية ضرورة. فالتقدم يفرضها. وهي تلازم جملة المؤلف، وتستخدم عباراته، وتمحو فكرة خاطئة، وتُحل محلها فكرة صائبة» (Poésies, Œuvres, p. 312).
٢١٦  Œuvres, p. 268; cf. l’article de Viroux, Mercure de France, p. 639.
٢١٧  من المثير — من ناحية أخرى — أن نسجل أن الكاتب الحقيقي للوصف الشهير لطيران الزرزور، المنقول عن «بوفون»، إنما هو مساعد «بوفون»، «جينو دي مونتبيار»، وهو ما ينبغي أن يدفعنا إلى التأمل في تقلبات فكرة الملكية الأدبية …
٢١٨  Défense du Plagiat, Les Lettres Nouvelles, Avril 1953, p. 208.
٢١٩  التعبير ﻟ «م. فيرو»، في مقاله عن Lautréamont et le docteur Chenu (Mercure de France, 1er Décembre 1952, p. 642, note 15).
٢٢٠  المرجع السابق، ص٦٤٠.
٢٢١  Poésies, Œuvres, p. 317.
٢٢٢  قارن بما سبق في الفصل الرابع من القسم الأول.
٢٢٣  Œuvres, chant V, p. 202؛ والخلط بين الوقائع الحقيقية والخارقة لافت جدًّا للنظر — أيضًا — في النثريتين الأوليين اللتين تفتتحان النشيد الخامس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥