(١) قصائد الشباب
«وأنا طفل، في المدرسة، كنت أكتب حكايات من
عشرين صفحة، وكنت مشهورًا بأنني لا أعرف أن
أتوقف»، ذلك ما نقرؤه في خطاب كتبه «مالارميه»
إلى صديقه «لوفيبور» عام ١٨٦٥م. «كنت أتمتع
بإطناب وإسهاب حماسي، وأنا أكتب عفو الخاطر،
طبعًا …».
٦ والحكاية التي كتبها تلميذ الصف
الثاني أو الثالث في «سانس» — «ما قالته
اللقالق الثلاثة»، وأعاد البروفيسور «موندور»
نشرها في كتابه «مالارميه أكثر حميمية»
٧ — هي مثال جيد لهذا الإطناب، الذي
لا يُعْتَبَر ابتذالًا مع ذلك، ولا نعلم ما
الذي يسترعي الانتباه أكثر في هذا النص — (إحدى
وثلاثون صفحة مزدوجة منسوخة بعناية): أهو
الظهور المسبق — في نثر الخمسة عشر عامًا هذا —
لبعض الموضوعات الأساسية، «الوردة، البياض،
الملاك، اللازورد، الزنبق، عويل الشتاء،
الصَّدقة، والأناشيد الحالمة …»
٨ أم هذا الانسياب الشعري، الشديد
البعد عن أنساق الكتابة المالارميَّة في
المستقبل؟ «في أي شيء يختلف تلميذ هذه الفترة،
الحقيقي، والمندفع، عن الأدب الحالي، الذي يأنف
من قول شيء دون تنسيق؟» ذلك ما سيضيفه
«مالارميه» — أيضًا — في نفس خطاب عام ١٨٦٥م
هذا، بعد سبع أو ثماني سنوات فحسب من كتابة
الحكاية. وفعلًا، سنرى التلميذ وقد تحول إلى
معنيٍّ بالأدب، خلال بضعة الأعوام هذه، وهي
الفترة التي يمكن تسميتها بالمرحلة «الصافية»
لمالارميه.
وها نحن الآن في عام ١٨٦٢م: وقد نشر
«مالارميه» — البالغ من العمر عشرين عامًا —
أول مقال له (عن «أشعار باريسية» للشاعر «أ. دي
إيسار»)، وقصائده الأولى المنظومة (مذكرة،
الشؤم)، وفي شهر سبتمبر، يحتج — في مقال غريب
نُشِرَ في «لارتيست»
٩ — على «البدعة الفنية التي تنكر
ضرورة ما سيسميه — فيما بعد — «السر الخفي في
الآداب»: فهو يطالب ﺑ «لغة نقية» للشعر،
وصياغات كهنوتية» تدافع عنه ضد الدنيويين، فهل
نقول إن الشاعر الشاب قد بحث — مسبقًا — عن
تطبيق تعاليم كهذه، وعبر من الشفافية إلى
القتامة؟ إطلاقًا: فالقصائد التي يكتبها
«مالارميه» في هذه الفترة — سواء كانت نثرًا أم
نظمًا — تتمتع بكتابة صافية، وطريقة صياغة
أرثوذكسية، مطمئنة لمتبلدي الذهن الذين يحتقرهم
«مالارميه». ونعلم أنه أرسل — في عام ١٨٦٢م —
إلى «منديس»، من أجل «المجلة الفانتازية» (التي
نشرت — في نفس السنة — عدة قصائد نثر لبودلير)،
مجموعة قصائد بعنوان «حفلات تنكرية»، رفضها
«منديس» بكياسة.
١٠ فهل كانت قصيدة النثر «ربات شعر
فرنسا والأقاليم» — التي عثرت عليها السيدة «سوفران»
١١ مؤخرًا — من بينهم؟ هذا محتمل
جدًّا، وعلى أية حال، فمن الواضح أن هذه
القصيدة الرديئة سابقة — على نحو صريح — على
قصائد النثر التي كتبها «مالارميه» في
«تورنون»، حوالي عام ١٨٦٤م، و«ربة شعر
الأقاليم» مستوحاة — مباشرةً — من قصيدة
«ميريي» للشاعر «ميسترال» (نُشِرَت «ميريي» عام
١٨٥٩م). أما «ربة شعر فرنسا»، التي تتغنى
«بعاهرات ممشوقات، ووحوش قطبية، وقوافل عربية،
وبالموت والجحيم، والملل الشاسع، والراحة
الأبدية»، فهي قصيدة بودليرية بشكل مرعب:
فمالارميه، الذي نقل — اعتبارًا من عام ١٨٦٠م،
في مختاراته الشخصية — ثلاثين قصيدةً من «أزهار الشر»
١٢ — قد وقع، حقًّا، تحت تأثير
«بودلير» حتى عام ١٨٦٥م.
وفي عام ١٨٦٢م أيضًا — وهو العام الذي ظهرت
فيه، في «لابريس»، عشرون قصيدة نثر لبودلير —
كتب «مالارميه» قصيدة «ظهور» والنسخة الأولى من
«صَدَقة»، البودليريتين على نحو صريح. لكن
ينبغي — فيما يبدو — انتظار إقامته في «تورنون»
(حيث قام بتدريس اللغة الإنجليزية من نوفمبر
١٨٦٣م حتى أكتوبر ١٨٦٦م) كي نراه يكتب أولى
قصائد النثر هذه، التي سينشرها صديقه «فييه دي
ليل آدام» عام ١٨٦٧م، في مجلته «روفي دي ليتر
ايه ديزآر» (مجلة الآداب والفنون)، تحت عنوان
«صفحات منسية». ونُشِرَت قصيدة «الرأس»
١٣ في «لاسومين دي كوسيه وفيشي» في ٢
يوليو ١٨٦٤م، في نفس وقت قصيدة «أرغن صغير نقال»،
١٤ التي نعلم أنها كُتِبَت بتاريخ ١٣
مايو، إضافةً إلى قصيدة ثالثة، هي «الغليون».
١٥ وفيما يتعلق بتاريخ تأليف قصيدة «اليتيم»،
١٦ فليس معروفًا بدقة، أما في قصيدة
«أحاديث شتوية»،
١٧ فنقرأ هذه الجملة: «ألم ترغبي، يا
أختي ذات النظرة الغابرة، أن تظهر في إحدى
قصائدي هذه الكلمات: «نعمة الأشياء الذاوية»،
١٨ التي تسمح بتأريخها بعام ١٨٦٤م،
تقريبًا: فهذه الكلمات: «بأفضال الأشياء
الذاوية» تظهر — في الواقع — في واحدة من قصائد
النثر الثلاث، التي شكلت «سيمفونية أدبية»،
ونُشِرَت في «لارتيست» في الأول من فبراير
١٨٦٥م، لكنها كانت قد كتبت في شهر أبريل ١٨٦٤م.
١٩
ومنذ القراءة الأولى، تدهشنا الطريقة
البودليرية لهذه القصائد، وفيما يتعلق بقصيدة
«أرغن صغير نقَّال»، تُعلق السيدة «نوليه» بأنه
«لا يكفي القول بأننا نشعر فيها بتأثير بودلير:
إنها — حقًّا — الإخراج الشعري لمقطع من مقدمة
«حكايات عجيبة»، حيث الأفكار عن الأدب،
والانحلال، والشمس الغاربة، والشكل المتكلف –
تُستَمَد الواحدة من الأخرى».
٢٠ وسيُقال إنه ليس من الأصالة
الكاملة الربط بين الشمس الغاربة، والخريف والانحلال،
٢١ وإنه ليس من الضروري — كي نُشبِع
هذه الشهوات السوداوية — أن نكون قد قرأنا
«بودلير»: يكفي أن نكون قد فقدنا — مثلما هو
الحال مع «مالارميه» — شخصًا غاليًا علينا.
٢٢ لكن الصحيح أن أجواء القصيدة كلها
بودليرية بما يكفي، وأن المفيد — في هذا الصدد
— أن نقارنها بقصيدة النثر الصغيرة ﻟ «لوفيبور»
— صديق «مالارميه»، المتأثر هو الآخر ببودلير —
التي يُستدعى فيها «الزوال المحجوب» ﻟ «الخريف»
و«جماله المحتضر»، وأيضًا بقصيدة «أرغن صغير
نقَّال»، التي تطوف «موسيقاها النائحة»
٢٣ عبر الشوارع … وفضلًا عن ذلك،
فآثار التأثير البودليري على «مالارميه» ليست
مقتصرةً على قصيدة «أرغن صغير نقَّال»: وكي
نكتفي ببضعة أمثلة، فإننا نجدها في المناداة ﺑ «أختي» الموجهة إلى المحبوبة في «أحاديث
شتوية»، وأيضًا — بلا شك — في الهموم الإنسانية
في قصيدة «الرأس» التي تتسم بشيء من المخالفة
لما هو مألوف لدى «مالارميه»، بما يجعلنا نفكر
في «بودلير» عامي ١٨٦١-١٨٦٢م (لنتذكر الفقير
الصغير في «الجاتوه»،
٢٤ الشديد الشبه بشحاذ «مالارميه»
الصغير، بأسماله وهيئته الجائعة وعينيه
الشرستين): فإعجاب «مالارميه» ﺑ «سأم باريس»
يثبته مشروع مقال بعث به إلى «كولينيون» عام ١٨٦٤م.
٢٥
لم يكن «مالارميه» — في هذه الفترة — قد تحقق
تمامًا، فما يزال عليه أن ينجز عملًا متأنيًا
في التنقيح كي يعثر على نفسه تحت بهرجة
الاقتباسات، وفضلًا عن ذلك، فمن العجيب أن نراه
— في هذه الفترة — موزعًا بين الأسلوب
«الحكائي» وشبه النثري أحيانًا، الذي تبناه
«بودلير»، والصيغة «الفنية» لبرتران، التي كان
يعرفها ويُعجَب بها أيضًا، وبعض هذه القصائد
الخمس يبرر — تمامًا — عنوان «حكايات» الذي
سيمنحه لهم عام ١٨٩٧م في ديوان «هذيانات»، لكن
— في حين أن أقل حادث في الحياة العادية سيصبح
مبررًا له، فيما بعد، كي يرتقي بفعل أسلوب بارع
رائع، مكثف واستعاري حتى جوهر الأشياء — فإننا
نجد هذا العنصر البيوجرافي مستخدمًا بطريقة
مباشرة شبه ساذجة: يتم التعرف — بسهولة — على
منزله في «تورنون» و«ساعته الدقاقة من ساكس،
التي تؤخر (الوقت) وتدق الساعة الثالثة عشرة
بين أزهارها وآلهتها»، في «أحاديث شتوية»،
٢٦ وعلى ميدان «بنتون» في «أرغن صغير نقَّال»،
٢٧ و— في «الغليون» — على بيت لندن،
و«أشجار الميدان المهجور المريضة»،
٢٨ و«ماري جيرهار» وهي تُلَوِّح من
السفينة البخارية ﺑ «المنديل البشع الذي نلوح
به ونحن نتبادل الوداع للأبد».
٢٩ ولا يوجد في «الغليون» أي جهد في
«التكوين» الفني، والأسلوب موحَّد إلى حد
النثرية، والمحاولة الوحيدة هي تلك الخاصة
بنوعٍ ما من «الواقعية» الحداثية («الخادمة ذات
الذراعين الحمراوين وهي تقلب الفحم، وصوت هذا
الفحم المتساقط من الدلو الحديدي، إلى السلة
المعدنية في الصباح».)
وفي لحظات أخرى، يكون تأثير «برتران» هو
المسيطر: ولا شيء يدهش في ذلك عندما ندرك إعجاب
«مالارميه» العميق، الذي أكنه في شبابه لمبدع
قصيدة النثر (الذي أحالته إليه مقدمة «قصائد
صغيرة» لبودلير، المنشورة في «لابريس» عام
١٨٦٢م): فعندما حُرِمَ — في «تورنون» — من
«جاسبار الليلي»، طلب من «فيكتور بافي» نسخةً
منه: «إنه صديق، ذلك الذي تقدمه لي»، ذلك ما
قاله وهو يتلقى النسخة،
٣٠ ومن المحتمل تمامًا — على نحو ما
يقترح «موندور» — أن يكون «مالارميه» هو الذي
حفز «فييه دي ليل آدام» على أن ينشر، في «روفي
دي ليتر إيه ديزار» — مقتطفات كبيرةً من
«جاسبار» كانت قد نُشِرَت عام ١٨٦٧م، في نفس
الوقت مع خمس «صفحات منسية»، وكل مرة سعى فيها
«مالارميه» — خلال هذه الفترة — إلى تنغيم
نثره، وتقطيعه إلى مقاطع، فقد كان ذلك —
بالتأكيد — تحت تأثير «برتران»: فقصيدتا
«أحاديث شتوية» و«الرأس» مقسمتان إلى مقاطع
قصيرة، وتقدم «أحاديث شتوية» — فضلًا عن ذلك —
مؤثر اللازمة التي تَرِد أربع مرات، بما يذكرنا
بمقطوعات من «جاسبار» (البغَّالون،
مثلًا).
وسيتمثل نسق آخر في استعادة نفس الكلمات أو
نفس الموضوعات خلال المقطوعة الواحدة: هكذا
يتكرر — في قصيدة «الرأس» — كلمة «رأس» التي
تمثل أيضًا آخر كلمة في النص، ونهاية قصيدة
«أرغن صغير نقَّال»، التي تحشد — بطريقة موفقة،
يمكن وصفها بأنها «سيمفونية» — كل الموضوعات
المطورة من قبل:
آه، أيها الأرغن الصغير النقَّال،
عشية الخريف، في الساعة الخامسة، تحت
أشجار الحُور المُصفَرة، يا
ماري!
وفيما بعد، سيحذف «مالارميه» هذه النهاية،
لاعتقاده — بلا شك — أنها مفتعلة إلى حدٍّ ما،
٣١ وفيما يتعلق بمؤثرات «الاستعادات»
هذه، يمكننا الآن أن نذكر تأثير «بو»، الذي كان
«مالارميه» قد بدأ ترجمته في مدرسة «سانس» منذ
عام ١٨٦٠م: فثمة هنا بحث عن «المؤثر» الذي
ينبغي إنتاجه، بما يذكرنا بنظريات مؤلف
«الغُراب»، تلك النظريات التي نرى «مالارميه»
يعلق عليها في يناير ١٨٦٤م، ويطبقها في قصيدته
المنظومة «اللازورد».
٣٢ وقد نُشِرَت «الرأس» و«أرغن صغير
نقَّال» في يوليو ١٨٦٤م: ويبدو أنه في هذه
النثريات — كما في «اللازورد» — «ما تزال
الكلمة الأولى — التي تتلبس الفكرة الأولى،
إضافةً إلى أنها تنحو هي بذاتها إلى
التأثير العام
للقصيدة — تُستَخدَم في التمهيد للكلمة
الأخيرة».
وما يزال «مالارميه» يبحث عن «وصفات تقنية»،
ولا شك أنه عبر التقليد، وتحت تأثير شواغل
غريبة من عبقريته الخاصة، ينكب على أبحاث
إيقاعية، هو الذي سيسعى باستمرار — فيما بعد —
إلى كسر الجملة، والهرب من كل مؤثر خطابي، وكل
تنغيم مفروض من الخارج، لكنه الآن يقاوم
تسهيلات التدفق الغنائي، ويتنبأ — بنفسه — بأنه
كلَّما تقدم، سيصبح مخلصًا ﻟ «الأفكار الصارمة»
لأستاذه «بو»، فيما يتعلق بانتقاء الكلمات
وصرامة التكوين.
وفي فبراير ١٨٦٥م، تنشر «لارتيست» — تحت
عنوان «سيمفونية أدبية» — ثلاث قصائد نثر لمالارميه،
٣٣ كانت مع ذلك — كما سبق أن رأينا —
قد كُتِبَت منذ حوالي عام، وتفتتح القصيدة
الثانية منهم — المخصصة لبودلير — صيغة «المشهد الرمزي»:
٣٤ وسيُعاد نشر القصيدة — بعد تغييرها
جذريًّا — في هذيانات».
٣٥ ومن المدهش أن نرى كيف تختلط — في
النص الأوَّلي — الموضوعات البودليرية الكبرى،
والموضوعات التي ستصبح مالارميَّةً خالصة
(خصلات الشعر، ريش الطيور، ملائكة موسيقيون):
في جرانيت حوافهم الأسود، الذي يرصع
الأحجار الكريمة من الهند، تنام مياه
ميتة معدنية مع ينابيع ثقيلة من
النحاس، حيث يسقط بحزن شعاع غريب مفعم
بأفضال الأشياء الذاوية، ما من وردة،
على الأرض، في الجوار، — فقط، بين حين
وحين، تتساقط بضع ريشات من أجنحة
لأرواح خائرة القوى (…) أية أعجوبة،
احمرار فريد، ينتشر حوله أريج مسكر من
خصلات الشعر المتحررة، يسقط شلالًا من
السماء المعتمة! (…) ملائكة بيضاء مثل
خبز الذبيحة تنشد وجدها على قيثارات
تقلد أجنحتها، وعلى صنوج من ذهب خام،
وأشعة صافية محاطة بأبواق، وطبول، حيث
ترن بكارة الرعود الفتية: والقديسات
معهن سعف نخيل …
٣٦
ويبدو أن هذا العام — ١٨٦٤م — قد حدد أول
ظهور، في سماء «مالارميه» الشعرية، لكوكبة
نجومه الاستعارية الأساسية. وقد بدأ «مالارميه»
في العمل في قصيدة «هيرودياد» في شهر أكتوبر،
وفي نهاية الخريف، يكتب — نثرًا — قصيدة «ظاهرة
مستقبلية» التي سيبعث بها إلى صديقه «كازاليس»
في شهر ديسمبر.
٣٧ ومثل «هيرودياد»، تقع قصيدة «ظاهرة
مستقبلية» في نقطة التقاطع بين أعمال الشباب
ومؤلَّف كبير، الذي لن يتأخر الشاعر عن وضع
أسسه، ولا يدهشنا أن نرى — من قصيدة النظم إلى
قصيدة النثر — تجاوب نفس الموضوعات، التي ستصبح
الموضوعات المالارمية الكبرى، موضوعات خصلة الشعر،
٣٨ والأحجار الكريمة (التي تصبح هنا،
عيون
امرأةٍ أو أخرى)، وأيضًا نفس تأثيرات
الاستعارات الجريئة، الإيحائية أكثر من
الوصفية، طبقًا للجماليات الجديدة لمالارميه،
الذي يريد — من الآن فصاعدًا، على نحو ما يكتب
إلى «كازاليس» في شهر أكتوبر — «
لا تصوير الشيء، بل الأثر الذي
ينتجه».
٣٩ وكي نكتفي بمثال واحد، يمكننا أن
نعقد مقارنةً بين «النضارة الشجية» للعينين في
«هيرودياد»، و«هذه النظرة التي تتجاوز جسدها
السعيد» في «ظاهرة مستقبلية».
٤٠
ومن المثير للاهتمام أيضًا أن نرى «مالارميه»
— انطلاقًا من هاتين القصيدتين — يستخدم الجناس
بطريقة منهجية: لا يمثل ذلك — بعد — ثمرة
تأملات عميقة في اللغة (وسنراه في «الكلمات
الإنجليزية»، عام ١٨٧٧م، يقدم فلسفةً حقيقيةً
للجناس)، فالأمر لا يعدو، حتى هذه اللحظة، أن
يكون بحثًا فنيًّا، دفعته إليه ترجماته لإدجار
آلان بو، فكل ترجمة لشاعر تقود إلى طرح الأسئلة
حول آليات اللغة، وتوافق الإصاتات مع المشاعر
التي نريد إيقاظها، وحول انتقاء الكلمات بهدف
الإيحاء أكثر من التعبير عن المعنى: عديد من
المشاكل التي أدت إلى تدعيم ميل «مالارميه» إلى
تأمل الحقائق اللغوية ودلالاتها، ألن يعبر عن
أسفه — فيما بعد — على أن كثيرًا من الشعراء قد
ابتلوا — لأنهم ليسوا متعددي اللغات — ﺑ «عاهة»
حقيقية، «ستدعم، لديهم، الوهم بأن شيئًا
منطوقًا بالطريقة الوحيدة التي يعرفون أن يسموه
بها، إنما يبدو طبيعيًّا».
٤١ ومن الغريب أن نرى «مالارميه» —
وهو ما يزال تلميذًا في المدرسة، وبعد الترجمة
الحرفية لقصيدة «الغراب» لبو — يضيف ملحوظةً في
إحدى كراساته، بالقلم الرصاص، للتعبير عن الأسف
لأننا، لدى قراءة الترجمة، «لا نشك في جمال
الإيقاع الفاجع»، ويسجل — بصدد «لا أبدًا بعد
الآن» الشهيرة — «إنها واحدة من أجمل الكلمات
الإنجليزية لفكرة حزينة إلى هذا الحد، وإنه
لصوت فاجع يحاكي — على نحو رائع — نعيق حنجرة
الزائر الغريب».
٤٢ والواقع أن دور الجناس — في شعر
«بو» — مدهش بشكل خاص، فقد تساءل «مالارميه» —
على سبيل المثال — عن كيف يدخل، في الترجمة
الفرنسية، رهافة المقاطع اللفظية لقصيدة
«آنابيل لي»، أو الإصاتات الخفيضة والغامضة في
«أولا لوم»:
٤٣ يا لها من مشاكل كثيرة!
ولن نندهش — إذن — من رؤية الجناس الكثير
والقصدي تمامًا في «هيرودياد»
(
pleure parmi l’or vain
quelque pleur étranger, etc
…: فلتدمع مع الذهب الباطل
دمعةً ما غريبة … إلخ).
٤٤ لكننا نستطيع التفكير أيضًا في أن
الجملة الأولى من «ظاهرة مستقبلية»، مثلًا:
سماء شاحبة، على عالم ينتهي إلى
التداعي، ربما سترحل مع السُّحب
…
تنطوي على جناس لا يقل قصدية.
٤٥ ولن يستغرق الأمر طويلًا ليمنح
«مالارميه» — وهو يخطط ﻟ «إيجيتور» — كل
اهتمامه إلى البنية الصوتية للجملة.
وسنتوخى الحذر — فيما يتعلق بتركيب الجملة
والأسلوب — إذ يبدو أن «ظاهرة مستقبلية» قد
عُدِّلَت خلال نشرها في «ريبوبليك دي ليتر» عام
١٨٧٥م، وسنلاحظ — رغم هذا — الملامح الأساسية
التي تظهر، في نفس الفترة، في «هيرودياد»: مثل
هذا التركيب الذي يفضله «مالارميه»، والذي يكمن
في المضاف بحرف الجر
de:
«
le monde qui finit de
décrépitude - عالم ينتهي
إلى التداعي»، «
le cerveau ivre
un instant d’une gloire confuse, hantés
du Rythme et dans l’oubli d’exister à une
époque qui survit à la
Beauté - الرأس الثملة
للحظة بانتظار غامض، مسكون بالإيقاع، وفي نسيان
الوجود في حقبة تُبقي على الجَمال» (قارن، في
«هيرودياد»: «ليلة بيضاء من ندف الثلج والجليد
الأليم»، «هو أن تكون عذراء») — تركيب يحبذ
الصياغات المجردة: «العُرى الدامي لشفتيها»،
بدلًا من «شفتاها الداميتان والعاريتان»، و«في
نسيان الوجود» بدلًا من: ناسين أنهم موجودون.
وبجانب جُمَل ما تزال مسهبةً وخطابية، نرى
صياغات شديدة الإيجاز مثل هذا الاختصار الآسر:
«الشمس التي (…) تغوص في يأس صرخة». وتظهر
أيضًا بعض الكلمات مثل «عديد»، و«لا أحد»،
و«بعض»، و«سدى» (وكلها من مقطع واحد، وبالتالي
فهي ضد الخطابية)، ستشكل — فيما بعد — عادات
حقيقية في أسلوب «مالارميه»، وأيضًا «ساذجة»
بمعنى «طبيعية»،
٤٦ و«أولية» بمعنى «بدائية»،
٤٧ حيث يتكشف الميل إلى قبول النادر،
مع صوابه الاشتقاقي.
وثمة نتيجة تفرض نفسها عليها: وهي أن
«مالارميه» — في هذا التوقيت من عامي
١٨٦٤-١٨٦٥م — قد بدأ الصراع ضد الاستسهال
والتدفق، والكليشيه، فهو يدرك العمل الشعري
باعتباره تدريبًا في الصرامة والتكثيف، ولا شك
أنه سيستدعي — بصدد الشعر المنظوم — الجهد
المضني الذي كبدته له «دراسة صوت ولون الكلمات»
٤٨ — المضني إلى حد اعتقاده، أحيانًا،
أنه «انتهى»،
٤٩ وأصبح عاجزًا عن إكمال «هيرودياد»،
وإلى حد أن الشكل الأكثر حرية من قصيدة النثر
كان يبدو له — في لحظات معينة — مثل تسلية
تقريبًا، وصديقه «كازاليس» — الذي نُشِرَ عام
١٨٦٥م «حياة حزينة
Vita
Tristis»، وهي قصيدة
مكتوبة نظمًا ونثرًا
٥٠ — ألم يحصل، نثرًا، على نتائج
مرضية بأكثر مما في النظم؟
٥١ وصديقه «لوفيبور»، الذي أخذ يتسلى
— هو أيضًا، حوالي عام ١٨٦٤م — بكتابة بضع
قصائد نثر،
٥٢ ألم يشجعه على اعتبار قصيدة النثر
نوعًا من صناعة «حُلى أدبية»،
٥٣ فنية ومسلية في آنٍ، وأسهل من
قصيدة النظم؟ لكن «مالارميه» كان قد ودع —
بصورة نهائية — الاستسهال في كافة المجالات.
حتى نثره، يتكشف الآن عن فض للُّغة المشتركة،
وعن تلخيص وكثافة في التعبير،
٥٤ لا يرجعان في شيء من ذلك إلى
«بودلير». وتسبق تقنية «مالارميه» — إذا صح
القول — جماليته.
(٢) تكوين المذهب الجمالي
مالارميه واللغة
لن يكون على «مالارميه» — حقًّا — أن يتبرأ
من السطور التي حدد فيها — إلى «كازاليس» عام
١٨٦٤م — ما هو جوهري في «شعريته» وقتئذٍ:
«
لا تصوير الشيء، بل
الأثر الذي ينتجه.»
٥٥ وسنجد نفس روح رد الفعل — أيضًا —
ضد الشعر الوصفي، عام ١٨٩١م، عندما سيؤكد لجول
هارت أن على الشعر ألا
يسمِّي، بل أن
يوحي بالأشياء.
٥٦ لكن هذا البحث عن الإيحاء — عام
١٨٦٤م — لم يكن ليزيد عن بحث تقني، لا يستند
على صيغة جمالية واضحة، فقط في عام ١٨٦٦م، سنرى
«مالارميه» يتخطى هذه المرحلة الأدبية الخالصة،
أو — بشكل أدق — سنراه يرتفع بالأدب إلى مستوى
الميتافيزيقا، وذلك بعد خروجه من أزمة تورط
فيها وجوده كله: «ها قد قضيت — لتوي — عامًا
مرعبًا»، على ما كتب إلى صديقه «كازاليس» عام
١٨٦٧م.
ودون الخوض في تفاصيل هذه الأزمة، التي — بعد
أن واجه «مالارميه» خلالها العدم — توصل أخيرًا
إلى مفهوم عن «الجميل» سيؤسس عليه إنتاجه،
٥٧ أريد التأكيد على الطريقة الحميمة
التي تمتزج بها الميتافيزيقا بالجمالي لدى
«مالارميه». ولأن «مالارميه» — مثل بطله
«إيجيتور» — فريسة «مرض المثالية»، ومثله
«يعتقد في وجود مطلق وحيد»
٥٨ — فسرعان ما وجد نفسه وقد بلغ
العدم: إذ إن المطلق هو — بالتحديد — ما لا
وجود له، ما دام لا يستطيع التحقق دون وجود
مدنس بالصفاء والنسبية. ونجد هذا التعريف —
حرفيًّا — لدى «هيجيل»: «المطلق هو اللاوجود»،
٥٩ ونعلم الآن، بفضل مراسلات
«مالارميه» والدراسات الحديثة،
٦٠ أن «مالارميه» — بفضل صديقه
«لوفيبور» بلا شك — كان، خلال الفترة التي
يتداول فيها «مع المطلق، والوجود والعدم»،
٦١ قد ارتبط بهيجل بمثابرة، نشعر معها
بتأثيره حتى في مفرداته، وصياغة دعاباته.
٦٢ لكن هذا الاكتشاف للعدم لم يكن ذا
طابع فلسفي وكتبي، بالنسبة لمالارميه، إنه —
على نحو خاص — تجربة معاشة برعب، نوع من الغوص
في الفراغ: وسيتحدث — فيما بعد — عن هذا
«الانحدار الطويل إلى العدم»،
٦٣ مثل احتضار روحي حقيقي.
والواقع أن «مالارميه» يجد نفسه عرضة لليأس
عندما يتحقق من ألا وجود سوى للعالم المادي
الذي يثير فيه الفزع («نحن لسنا سوى أشكال بلا
جدوى للمادة»، هكذا كتب إلى «كازاليس»)،
٦٤ وأنه لا يستطيع أن يبلغ عالم
«المطلق»، الذي — في تعريفه — بلا وجود، فلا
يتبقى له سوى التغني — «كيائس» — بالحلم الذي
يعلم أنه «غير موجود».
ورغم هذا، فإن هذا اليائس سيجد الخلاص بعد
أسابيع من التأمل الأليم، لم يكف خلالها مع ذلك
عن عمله الشعري «الضاري في هيرودياد».
٦٥ وسيجده في «الجمال». وسيكتب إلى
«كازاليس»، في يوليو ١٨٦٦م:
سأقول لك إنني موجود منذ شهر في أكثر
مبردات علم الجمال صفاءً — وإنني بعد
أن وجدت «العدم»، وجدت «الجمال» — وإنك
لا تستطيع أن تتخيل في أية مرتفعات
جلية أغامر.
تصريح سوف يستكمله هذا التأكيد الحاسم، في
مايو ١٨٦٧م:
لا يوجد سوى
الجمال، وليس له سوى
التعبير الأكمل: الشعر.
٦٦
كيف استطاع «مالارميه» — إذن — الانتقال من
هذا العدم اليائس إلى إيمان سيكون، من الآن
فصاعدًا، المرشد والعزاء لكل وجود؟
٦٧ يبدو أن الارتباط بهيجل — على وجه التحديد
٦٨ — هو الذي كشف كيفية التغلب على
هذا التناقض بين عالم المادة وعالم المثال، لقد
أوضح «هيجل» لمالارميه — كما يقول «ج. ميشو» —
أن «العدم ليس نهاية، لكنه نقطة انطلاق»،
٦٩ وأن «اللاوجود» ليس سوى الحالة
السلبية، مثل عكس الوجود: «الوجود الخالص
والعدم الخالص هما — إذن — نفس الشيء»، وأن
«الحقيقة ليست الوجود، ولا العدم، بل حقيقة أن
الوجود لا يزول، بل إنه دخل العدم، ودخل العدم
في الوجود».
٧٠ هكذا يتم تصالح وتجاوز العالمين —
عبر التركيب
الجدلي (الصيرورة الهيجلية) — عالم
الوجود / المادة، وعالم المطلق / العدم، لكن
هذا التركيب سيتحقق — بالنسبة لمالارميه — عبر
الإبداع الفني: وسيقوده المنهج الجدلي لهيجل
إلى مذهب الانتقالة، المفتاح الأساسي
لجمالياته:
«
الانتقالة
الإلهية، التي يوجد الإنسان من
أجل اكتمالها، تتجه من
الواقع نحو
المثال»، على ما
سيكتب «مالارميه».
٧١ وها هي الأزمنة الثلاثة لهذه
الانتقالة: الشيء، أو الحدث الحقيقي، الموجود
في زمن أولي، يجد نفسه منفيًّا بعدئذٍ، منعدمًا
بفعل لعبة الكلام كوجود مادي، ثم يُعاد خلقه
(في تركيبة من هذا اﻟ «وجود» و«عدمه») باعتباره
«مفهومًا خالصًا»:
ما جدوى روعة نقل واقعة طبيعية في
أفولها المتذبذب تقريبًا طبقًا للعبة
الكلام، إن لم يكن من أجل أن يصدر
عنها، دون انزعاج من استعادة قريبة أو
ملموسة، مفهوم خالص.
ذلك ما سيقوله «مالارميه».
٧٢ وبذلك، تسمح لنا النقلة الشعرية
بأن نذهب إلى ما وراء ما هو كائن، لتحررنا من
العالم المادي، من الملل إزاء الأشياء التي
تأسست بصورة راسخة وغالبة،
٧٣ وتقدم لنا فكرة الأشياء بدلًا من
حقيقتها الطاغية: «وتنبثق موسيقيًّا كفكرة
عذبة، غافلة عن كل باقات الورد».
٧٤ فالشاعر لا «يعبر» عن الأشياء
(«فالكلام لا علاقة له بالأشياء إلَّا من
الناحية التجارية»)،
٧٥ لكنه، على النقيض، وعبر إبداع
سلبي، إذا صح القول، يلغيها من واقعها المحسوس،
كي لا يحتفظ منها إلا بالجوهري:
يستدعي معه الشيء، في ظل جلي، من
خلال كلمات إيحائية غير مباشرة أبدًا،
مقتصرًا على صمت متكافئ، يقتضي محاولة
قريبة من الإبداع.
٧٦
ومن هذا المنطلق، يصبح «الأدب» مثل عرض
للعالم في المطلق: فيما وراء الوجود غير الصافي
للأشياء، يكتشف (الأدب) نظام علاقاتها، ومن
هنا، فبينما يظل الباقي كله — رغم ذلك —
احتمالًا وخاضعًا للصدفة، يسمو الأدب على صعيد
الضروري والكوني:
لقد أدركت، بفضل حساسية عالية،
العلاقة المتبادلة الوثيقة بين الشعر
والكون، وبدأت، من أجل أن تصبح علاقةً
صافية، مشروع إخراجها من الحلم والصدفة
وتقريبها من مفهوم الكون.
٧٧
ذلك ما
يكتبه «مالارميه» إلى «فييه دي ليل - آدام» في
سبتمبر ١٨٦٦م، في خطاب عُثِرَ عليه مؤخرًا:
وسندرك بشكل أفضل، ونحن نقرأ هذه السطور لماذا
أراد «مالارميه» — عندما استشف «البنية
المنطقية للكون»،
٧٨ ومن أجل العثور بشكل أفضل في شعره
على هذه البنية المنطقية، وهذه العلاقات
الجوهرية — أراد أن يتخلى عن «الأنا» الفردية
(التي تخصه)، ليصبح «مبنيًّا للمجهول»،
٧٩ ألَّا يكون سوى «قابلية على العالم
الروحي أن يرى فيها نفسه ويطورها» عبر ما كانه هو.
٨٠ هنا أيضًا نجد ما يسميه «شيرر» ﺑ «المعطى الجوهري الهيجلي»، أي معرفة «الإنسان
وقد كف عن الحياة كإنسان فردي كي يشعر بالعالم
وهو يعيش فيه».
٨١ لكن «مالارميه» يضع نفسه على
الصعيد الأدبي البحت، ويقترح على نفسه، ترك
العالم يعيد تكوين نفسه في إنتاجه، ذلك النتاج
الذي يكمن طموحه الأعلى غير القابل للتحقق —
دون شك — في «التفسير الأورفي للأرض».
٨٢
المؤلف الكبير
«شاعرًا أكثر من هيجل، وفيلسوفًا أكثر من
الشعراء السابقين، استخلص «مالارميه»
نتيجةً شعرية من المقدمات المجردة للمثالية
الهيجلية»، على ما كتب «ل. ج. أوستين»
مؤكدًا على الأصالة المزدوجة لمالارميه،
٨٣ الإنسان الذي يصل فيه الكون
إلى أقصى درجات الوعي، والإنسان الوحيد
القادر على التعبير عن هذا الوعي هو
الشاعر: من هنا، يكمن هذا التصريح (رغم
مظهره المتناقض):
كل شيء، في العالم، موجود كي
يئول إلى كتاب.
٨٤
هذا الكتاب سيكون «الكتاب»، الذي تنحو
إليه — في حيرة — كل المؤلفات الأدبية
الجديرة بهذا الاسم،
٨٥ «مؤلَّف» كلي ومطلق، يفسر
ويبرر العالم، «ترتيل، وانسجام وبهجة
للعلاقات بين كل الموجودات»،
٨٦ أفيمكن أن يكون شيئًا آخر سوى
حلم؟ ويعترف «مالارميه» — في نهاية حياته —
أنه «لا تكفي حياة واحدة»
٨٧ من أجل الكتابة، وسينحصر طموحه
في «كشف مقطع تنفيذي منه»، ويمكننا أن
نعتقد — مع «فاليري» — أن ذلك «كان — من
حيث تعريفه — غير قابل للتحقق»،
٨٨ وأن كلمة «فشل» — بالتالي —
المستخدمة كثيرًا إزاء العمل المكتوب
بالفعل، لا معنى لها على الإطلاق.
لكن «مالارميه» عندما بدأ لأول مرة
«المؤلَّف الكبير»
٨٩ — عام ١٨٦٦م — لم يكن لديه شك
في أنه سينجزه بكامله: «أتوقع أنني محتاج
إلى عشرين عامًا للكتب الخمسة التي ستكون
العمل»، على ما كتب إلى صديقه «أوبانيل» في
٢٨ يوليو، بالتحديد في الفترة التي توصل
فيها إلى يقين راسخ وإلى إدراك «العلاقة
المتبادلة الوثيقة بين الشعر والكون».
ويشرح لأوبانيل، الذي كان قد طلب منه في
خطاب سابق بعض التوضيحات لتعبيرات غامضة
إلى حدٍّ ما:
أردت أن أقول لك ببساطة إنني
أرسيت لتوي خطة مؤلفي بكامله، بعد
أن عثرت على مفتاح نفسي — مفتاح
أساسي أو مركزي، إن أردت، كي لا
نخلط الاستعارات — مركز نفسي، حيث
أعكف كعنكبوت مقدس على الخطوط
الرئيسية التي خرجت لتوها من عقلي،
والتي سأنسج بمساعدتها في نقاط
الالتقاء دانتيلا رائعة، أتخيلها،
وهي موجودة في قلب
الجمال …
٩٠
ويبدو — رغم هذا — أن فكر «مالارميه» قد
تحدد، أيضًا، خلال الشهور التالية، التي
قادته إلى إدراك شعره بوضوح أكبر، باعتباره
إعادة بناء للعالم، وفي ٢٤ سبتمبر، يحدث
«فييه دي ليل - آدام» لا عن خمسة كتب، بل
عن اثنين جديدين وخالدين في آنٍ، أحدهما
مطلق،
جمال، والثاني شخصي،
الرمز الباذخ
للعدم»،
٩١ وفي مايو ١٨٦٧م، وبعد أن يحكي
لكازاليس الجهد الشاق الذي يبذله ليترك
الكون — إذا صح التعبير — كي يُعاد تشكيله
في داخله، يقدم له إشارات أكثر دقة وأكثر
تحديدًا:
هش مثلما مظهري الأرضي، لا
يمكنني أن أتعرض إلا للتطورات
الضرورية بشكل مطلق، من أجل أن يجد
الكون نفسه هويته فيَّ. وهكذا،
أجيء في لحظة تركيب، لحظة تحديد
المؤلَّف الذي سيكون صورة هذا
التطور. إنها ثلاث قصائد منظومة،
تمثل «هيرودياد» افتتاحيتها، لكنها
ذات صفاء لم يصل إليه إنسان وربما
لن يصل إليه أبدًا؛ إذ يبدو لي
أنني لم أكن سوى وهم ما، وأن الآلة
الإنسانية ليست متقنة تمامًا إلى
حد التوصل إلى نتائج كهذه، وأربع
قصائد نثر، حول المفهوم الفكري
للعدم.
ويضيف: «أحتاج إلى عشرة أعوام: هل سأحصل عليها؟»
٩٢
وكما نرى، يتقبل «مالارميه» إدراج قصيدة
النثر في المؤلف، بنفس طريقة قصيدة النظم،
بأن تكون — إذا صح القول — نظيرًا لها، هل
فكر في هذه الفترة في «إيجيتور»؟ (نعلم ما
أورده الدكتور «بينيو» — طبقًا ﻟ «دي ليل»
— من أن «مالارميه» سيميز فيما بعد — في
«إيجيتور» — أربع مقطوعات)، وعلى أية حال،
فإن هذه الغبطة الإبداعية — التي نراها
تتبدى أيضًا في خطاب كتبه، بعد ثلاثة أيام
إلى «لوفيبور»
٩٣ — لن تدوم طويلًا: فسرعان ما
يجد «مالارميه» نفسه أسيرًا للهلع، وكأنما
قد شلَّه سمو هذا العمل «الصافي» الذي حلم
به. يكتب إلى «كوبيه»، في أبريل ١٨٦٨م:
«بعد أن توصلت إلى الرؤية الرهيبة لمؤلَّف
صافٍ، فقدت تقريبًا منطق ومعنى الكلمات
الأكثر ألفة».
٩٤ وأحيانًا ما ينقاد إلى كتابة
قصائد «بها مسحة فحسب من المطلق»،
٩٥ فيسلم «كازاليس» السوناتا
الشهيرة (المقفاة) ﺑ
yx،
مؤكدًا أن الأمر لا يتعلق — بأية حال — ﺑ «مقطع» من «المؤلَّف «البالغ» الإعداد
والتراتب»، بحيث لا يمكن «حذف أي شيء منه».
٩٦ وفي النهاية، وبعد أزمة أوشك
عقله خلالها — وقد «غزاه الحلم»
٩٧ — على التلاشي، ها هو يقوم
بالمشروع من أجل أن تعيد كينونته تكوينها
ببطء، و«ليعاود عيش حياة الإنسانية منذ
طفولتها» خلال بضعة أعوام، وكي يربط سنوات
الدرس هذه ﺑ «هدف عملي»: يتعلق الأمر
بالدراسات اللغوية التي ظهرت أول إشارة لها
في خطاب فبراير ١٨٦٩م، تحت اسم «مصريات».
٩٨ «ربما بعد الليل الذي عرفه،
وكي يحدد الطريق الجديد ببعض المنارات
الواضحة، فإنه يفكر الآن في القيام بدراسات
مرتبة، وتدريجية، في التدريب على أفعال
بسيطة»، كما يكتب البروفيسور «موندور»
٩٩ — عن صواب بالغ — بشأن هذه
الدراسات التي ستتخذ، لوهلة ما في ذهن
«مالارميه»، مظهر رسالة دكتوراه، وينبغي أن
نضيف أن «مالارميه» — وهو يعكف على هذه
الدراسات اللغوية — يبعد مؤلَّفه عن ذهنه:
ففي معرض حديثه إلى «لوفيبور» عن هذه
الأبحاث التي ستستغرق منه «خمسة أعوام»،
يضيف:
وبجانب كل هذا، ينبني ببطء
مؤلَّف قلبي وعزلتي، الذي ألمح
بنيته: والحق يُقال أن العمل
الآخر، المتوازي، ليس — هو أيضًا —
إلا الأساس العلمي.
١٠٠
فالشاعر لا يملك — فعلًا — سوى وسيلة
واحدة ليصبح «من يعيد تشكيل الكون»:
١٠١ إنها التأثير على عالم اللغة،
ولهذا، ينبغي أولًا دراسة دور اللغة
وإمكانياتها، فالتأمل والدراسة العميقة
لطاقات اللغة مرتبطان ارتباطًا وثيقًا —
لدى «مالارميه» — بإعداد مؤلَّف «مطلق»، هو
تفسير وإعادة خلق للعالم في آنٍ، وليس من
المبالغة أن نقول إن «مالارميه» يسعى إلى
بناء
ميتافيزيقا
حقيقية للغة.
مالارميه واللغة
ولا شك أن «مالارميه» كان مدفوعًا
بمتطلبات مهنته — في نفس وقت شواغله
الجمالية والفلسفية — إلى دراسة الكلمات،
عن كثب شديد، ودراسة بنيتها، والعلاقات بين
صوتها ومعناها.
١٠٢ وقصيدة النثر العجيبة «شيطان
التماثل»، التي أرسلها إلى «فييه» في
سبتمبر ١٨٦٧م، تشير إلى هذا «الجهد اللغوي
الشاق»، الذي بسببه — كما يقول «مالارميه»
— «ينتحب يوميًّا خشية أن يقطع عني موهبتي
الشعرية النبيلة».
١٠٣ وأيًّا ما كان ما يعتقده
«موكلير» و«ج. دلفيل»،
١٠٤ فلا يمكن للأمر أن يتعلق إلا
بمهمة أستاذ مهموم بشكل ونبر الكلمات
الإنجليزية، ما دام «مالارميه» لم يفكر —
إلا في حوالي عام ١٨٦٨م — في القيام
بدراسات في اللغويات العامة (ومن ناحية
أخرى، فإن عبارة «ينتحب من أن يقطع عني»
واضحة للغاية …). وبالمقابل، تأتي لنا هذه
القصيدة بتصوير غريب وشعري لهذه الفكرة
القائلة بأن الجملة يمكنها ألا تكتفي بأن
تعني، بل تشرع في الحياة «بشخصيتها»،
١٠٥ كي تثري حلم اليقظة الداخلي،
وتأتي لنا بهواجس داخلية تستعصي على
التفسير، ولا شك أن تأثير «إدجار آلان بو»
و«ملاك الغرابة» يتداخلان في تكوين هذه
القصيدة، ويمكننا الاعتقاد أيضًا بأن
السيرياليين سيرون فيها تجليًا ظافرًا ﻟ «الصدفة الموضوعية».
١٠٦ لكن من المفيد على نحو خاص أن
نرى فيها «مالارميه» هذه الفترة، وهو يقيم
تماثلات بين عالم الكلمات وعالم الخيال
وعالم الحقائق، ويستخدم هذه التجاوبات
بواسطة ما سيسميه ناقد — بطريقة سيئة
النية، وإن تكن ليست مغلوطة إلى حد بعيد —
ﺑ «هذيان النحوي».
١٠٧
لكن «مالارميه» لم يفكر — إلا في شتاء
١٨٦٩ / ١٨٧٠م، كما رأينا — في القيام
بدراسات لغوية متعمقة
١٠٨ (هو مشروع سرعان ما سيُجْهَض)،
ويخطط لأطروحة حول اللغة، وإلى هذه الفترة
— بالتحديد — يرجع تاريخ ملاحظات
«مالارميه» من أجل إعداد «علم اللغة»،
١٠٩ التي تعكس — كما أوضح «ج. ديفيز»
١١٠ — شواغله الهيجلية، وتستحق هذه
الملاحظات الانتباه، فكل الفلسفة
المالارمية عن اللغة ملخصة فيها (في شكل
مجرد بلا شك وصعب)، ولن تتغير هذه الفلسفة
أبدًا حتى موت الشاعر. ﻓ «مقدمة»
دراسة الكلمة ﻟ «غيل» — على سبيل المثال — لن تقوم إلا
باستعادة نفس الأفكار، في شكل أكثر سهولة.
فمالارميه — الذي تبنى الجدل الهيجلي ومنهج
التوفيق بين الأضداد — يرى، في اللغة،
التركيب والتوفيق بين هذه المصطلحات
المتناقضة، التي هي الكلمة — كمبدأ أساسي
ومطلق — والمادة، والوجود العارض: اللغة هي
«صيرورة» الكلمة في دخولها الوجود، أو كما
يقول «مالارميه»:
اللغة هي تطوير الكلمة، وفكرتها،
في الوجود، والزمن الذي أصبح نمطًا
لها: وذلك عبر مراحل الفكرة والزمن
في الوجود، أي طبقًا للحياة والفكر.
١١١
ومن هنا، يكمن «مظهرا اللغة، الكلام
والكتابة»، والأول أكثر مادية ويخلق
«تماثلات للأشياء عبر تماثلات الأصوات»،
فيما الثانية أكثر روحانية، وتحدد «شارات
الفكرة»، بحيث «تنجزها في الراهن (عبر
القراءة)»، وتثبتها بطريقة تسمح — ذات يوم
— بأن «تظهر
الكلمة خلف أسلوبها
اللغوي، وقد أصبحت — بالنسبة للفيزياء وعلم
النفس — مثل مبدأ، مستخلص، وملائم
للزمن
والفكرة».
١١٢ فعلى الكتابة — إذن — تقع مهمة
إظهار الفكرة، واستدعاء
الكلمة بوسائل
اللغة، وبأن تعكس بها الفكر.
وندرك — منذ ذلك الحين — أن على
علم
اللغة أن يتخذ «موضوعًا له:
المادة والفكر»،
١١٣ وأن «يفسر اللغة المستخدمة في
علاقتها بالفكر»:
١١٤ وقد اقترح «مالارميه» أن يدرس
— من ناحية — «عبر التحليل النفسي، ماهية
الإنسان بالنسبة لأشياء الفكر والمادة»، و—
من ناحية أخرى — «ماهية الفكر بالنسبة
لتعبيره المزدوج عن المادة والإنسانية،
وكيف يمكن لعالمنا أن يرتبط مرة أخرى
بالمطلق». وتكشف لنا هذه الكلمة الأخيرة أن
«مالارميه» (الذي كان وقتئذٍ يكتب مسودات
«إيجيتور») لم يكف عن مطاردة المطلق،
والسعي إلى «العبور من خلال المرآة»،
١١٥ التي تفصل بين عالم الوقائع
وعالم الماهيات.
وانطلاقًا من تأملات عام ١٨٦٩م هذه، توصل
«مالارميه» — فيما يبدو — إلى إدراك اللغة
كأداة «انتقال» توفق بين «المطلق»
و«المادة»: فمن أصلها، وحتى قبل أن تصبح
أدبية، تسمح اللغة فعلًا للفكرة وللكلمة
بالتجسيد من خلال أداة الكلام (لتعبر بذلك
من المطلق إلى الموجود) في نفس الوقت الذي
تعبر الأشياء المادية التي تشير إليها على
العكس، وقد تحررت من ثقلها ومن مادتها، من
الوجود إلى المطلق، من خلال أداة التجريد:
إنها — كي نستعيد تعبير «مالارميه» — فكرة
الزهرة التي تظهر بدلًا من
كل الأزهار العينية، الورد أو الزنبق:
أقول: زهرة! و– خارج النسيان حيث
يقصي صوتي كل تحديد، كشيء آخر غير
كئوس «الزهرة» المعرفة، تنهض —
موسيقيًّا — كفكرة عذبة، غافلة عن
كل الباقات …
١١٦
ورغم هذا، فطاقة اللغة ليست محصورة،
وبشكل خاص عندما نضع في اعتبارنا اللغة
الشعرية، فهذه اللغة الشعرية لا تكتفي
بإلغاء الشيء الحقيقي لتحل محله فكرتها
الخالصة — فهي لن تتميز، في هذه الحالة، عن
اللغة الفلسفية أو العلمية
١١٧ — لكنها توحي بوجوده المثالي
(ﮐ «فكرة عذبة»): فالكلمة — بقدرتها
الإيحائية، وإصاتاتها، وبالقيمة الرمزية
للحروف التي تشكلها — تصبح نوعًا من
الهيروغليفية الصوتية، القادرة على استدعاء
الواقع، وإعادة خلقه — إذا شئنا — بطريقة
يمكن أن نسميها موسيقية («على نحو موسيقي»،
كما يقول «مالارميه» بالفعل).
١١٨
يتعلق الأمر — إذن —
باستدعاء
الأشياء، بأن نجعل حضورها المثالي «ينتصب»
أمامنا: «شعوذة إيحائية» كما يقول
«بودلير»، ويفكر «مالارميه» أساسًا في
اللغة الشعرية، «العلم والأنشودة»،
١١٩ في عمله «مقدمة»، لكن الدور
الذي يلقى — هنا — على عاتق الشعر هو عودة
إلى الوظيفة البدائية للغة، كأداة
للاستدعاء والسحر، وعلى الشاعر أن يعاود
العثور على الطاقات المقدسة للكلمة،
والوظيفة التعويذية للكلمات. ويبدو حقًّا
أن «مالارميه» — المشغول، هنا، باللغات
البدائية وبدراسة أصول اللغة
١٢٠ — قد تأثر بشدة بنظريات
«القبلانية» التي نراه يهتم بها منذ عام ١٨٦٦م.
١٢١ «القبلانية» التي من أجلها
«وبالاثنين وعشرين حرفًا، وبإعطائهم شكلًا
وهيئة، وبخلطهم وتركيبهم بطرق متنوعة، صنع
الله روح ما له شكل وكل ما سيكون كذلك».
١٢٢ وبالنسبة لمالارميه — كما
بالنسبة لكل العبرانيين القدامى — فإن حروف
الهجاء هي الوسيط بين العالم الروحي
والعالم الفيزيقي، وهو يحلم بعالم للكلام،
حيث الحروف وتوافقاتها المتنوعة في كلمات
وجمل وأبيات «نظام محكم مثل فلك روحي».
١٢٣ يعيد إنتاج البنية الأساسية
للكون.
وببلوغ هذه النقطة، فإن «مالارميه» —
الذي فكر عام ١٨٦٩م في الوصول، خلال
مؤلَّفه، «بحث في اللغة»، «من «الجملة» إلى
«الحرف» عبر الكلمة، باستخدام العلامة أو
الكتابة، التي تربط الكلمة بمعناها»
١٢٤ — قد وجد نفسه منقادًا إلى
التأمل في «أحد الأسرار المقدسة أو الخطرة للغة»:
١٢٥ هي مسألة رمزية الحروف،
والرابط الضروري لا العرضي الذي يعيد
التواصل بين عناصر الكون و«الكلام المشحون
بالتعبير عنها».
١٢٦ فهل توجد أسماء طبيعية للأشياء
تجعلنا نشهد استعادة ﻟ «اللغة البدائية»
التي يتحدث بها البشر؟ فبعد «فابردوليفيه»،
١٢٧ بفترة طويلة، تناول «مالارميه»
هذا الموضوع في مؤلفه حول «الكلمات
الإنجليزية» بخصوص الجناس:
جهد عظيم مماثل ﻟ «الخيال»
الراغب، لا في إرضاء نفسه فحسب
بالرمز الباهر في مشاهد العالم، بل
أيضًا بأن يعقد رابطًا بين هؤلاء
والكلمة المشحونة بالتعبير عنهم،
ليلامس أحد الأسرار المقدسة
والخطرة للغة، التي سيكون من
الحكمة التمعن في اليوم الذي سيكون
للعلوم فيه — وقد امتلكت الرصيد
الكبير من المصطلحات المنطوقة
أبدًا على الأرض — أن تكتب تاريخ
حروف الأبجدية عبر كل العصور،
وماذا كانت دلالتها المطلقة
تقريبًا، المتنبأ بها أحيانًا،
والمجهولة أحيانًا أخرى من قبل
البشر، خالقي الكلمات …
١٢٨
وكما يلاحظ «ديلفيل»، فإننا نجد «صعوبة
في تصديق أن مالارميه كان يجهل «كراتيل
Cratyl»،
١٢٩⋆
حيث يعترف «أفلاطون» بجانب من الحقيقة في
أطروحة «كراتيل» التي توجد وفقًا لها
«أسماء طبيعية للأشياء»، لكنه يقر أيضًا مع
«هيرموجين» أن جانبًا من الخطأ والعرف يدخل
اللغة، وذلك بعد أن درس لا الأسماء فحسب،
بل أيضًا عناصرها التكوينية، أي الحروف،
فينسب إليها أحيانًا قيمة المحاكاة (مثل
حرف
R
الراء، الذي يعبر عن الحركة، لأن اللسان
يتحرك للنطق به)، وأحيانًا أخرى قيمة رمزية
خالصة (مثلما لحرف
A
الألف، المكلف بالتعبير عن القامة).
١٣٠ ويسعى «مالارميه» — وقد اندفع
بعيدًا في هذا الاتجاه — إلى تحديد
«الدلالة المطلقة» لكل حرف، ليرى في حرف
R
مثلًا «الإعلاء، والهدف المدرك، حتى لو كان
الاغتصاب هو الثمن، والامتلاء»،
١٣١ وفي حرف
B
المعاني «المتنوعة والمرتبطة خفية — رغم
هذا — بالإنتاج والولادة، بالخصب والاتساع،
بالانتفاخ والتقوس والتباهي، ثم بالكتلة
والاحتدام، وأحيانًا بالطيبة والمباركة
(…)، وهي دلالات متضمنة — إلى هذا الحد أو
ذاك — بفعل الحرف الشفاهي الأولي».
١٣٢
ومع ذلك، فمالارميه لا ينخدع: فهذه
النظرية التي لا يطبقها — فضلًا عن ذلك —
إلا على حروف الاستهلال الساكنة (حيث «تكمن
حقًّا الدلالة»)،
١٣٣ إذا ما طُبِّقَت على لغة أخرى
غير الإنجليزية، فستعطي نتائج مختلفة. ومن
لا يعرفون سوى لغة واحدة، يمكنهم وحدهم
تصور «أن شيئًا منطوقًا بالطريقة الوحيدة
التي يعرفونها، إنما يُسمِّي نفسه، وينبثق
بنفسه، على نحو طبيعي».
١٣٤ هذه اللغة المثالية، التي
يتحقق فيها التوافق الكامل بين
الصوت والمعنى،
تلك اللغة الضرورية التي لا يمكن فيها
تغيير أي حرف، لا وجود لها على الأرض، حيث
تنوع اللسانيات «يمنع أي شخص من نطق
الكلمات التي — إذا ما وُجِدَت بضربة فريدة
— هي نفسها الحقيقة بشكل مادي».
١٣٥ ويعبر «مالارميه» عن أسفه
لغياب هذه اللغة الجوهرية (التي لم توجد
بلا شك، أبدًا حتى فيما قبل بابل):
ويأسف وعيي على عجز الخطاب عن
التعبير عن الأشياء بلمسات تستجيب
له فيها عبر التنغيمات والهيئة،
الموجودة في أداة الصوت الخاصة
باللغات، وأحيانًا بلغة واحدة،
فبجوار «
ظل ombre»
داكن، لا تعتم «
الظلمات ombres»
إلا قليلًا، ويا لها من خيبة أمل
إزاء الانحراف الذي يمنح «نهار
jour»
مثلما يمنح «ليل
nuit»
— على النقيض — جرسًا مظلمًا هنا
ومضيئًا هناك.
١٣٦
ورغم هذا، فإن لغة مطلقة لا تترك أي موضع
للصدفة، لن تترك أيضًا أي موضع للأدب،
ويضيف «مالارميه» أن «علينا أن
نعلم فحسب أن الشعر ما كان
سيوجد: فهو الذي يكافئ عيب
اللغات (على المستوى الفلسفي) كاستكمال
أعلى». وعلى الشاعر — بالتالي — أن يتدخل
لإلغاء الصدفة الباقية في الكلمات، كي ينزع
اللغة من الاحتمالات العرضية، ويعيدها إلى
الأبدي، إلى الفكرة فنحن نعبر — كي نستخدم
تمييز «مالارميه» — من
الكلام الذي
يخلق «تماثلات الأشياء بفعل تماثلات الأصوات»،
١٣٧ إلى
الكتابة التي يجب أن تطبع
«إيماءات
الفكرة»، وتظهر الكلمة خلف
الأدوات الناقصة
للغة. وفي مواجهة اللغة
الشائعة، «الفظة والمباشرة»، على اللغة
الشعرية، «الجوهرية»
١٣٨ وحدها، أن:
تمنح معنًى أكثر صفاءً لكلمات
القبيلة،
وأن تنظم عالم الكلمات طبقًا لقوانين
الروح، وتصل إلى مطلق الكلمة.
اللغة الشعرية
والكلمة، بالفعل، ولا سيما في الأدب، لا
توجد في ذاتها وبذاتها: فهي
تنتظم في كتلة الجملة، وتتلون بانعكاسات
الكلمات المجاورة، والصورة مستمدة من
«مالارميه» نفسه: «تشتعل» الكلمات «من
الانعكاسات المتبادلة، مثل خيط مضمر من
النار على الأحجار الكريمة».
١٣٩ وكي نستعيد الأمثلة التي
اختارها الشاعر، فسنلاحظ إلى أي مدى تكفهر
كلمة «
nuit
ليل» بالإصاتات الخفيضة والمفتوحة للكلمات
المجاورة في بيت «راسين»:
C’était pendant
l’horreur d’une profonde
nuit
كان هذا خلال هول ليلة
ليلاء
وإلى أي حد — على العكس — يتم تخفيف كلمة
«jour
نهار»، وتصفيتها من خلال تقارب الإصاتات
المضيئة وتتالي الكلمات ذات المقطع الواحد،
في البيت الآخر لراسين، الذي يذكره
«تيبوديه»
Le jour n’est
pas plus pur que le fond de mon
cœur
ليس النهار أكثر صفاءً من أعماق قلبي.
١٤٠
و«مالارميه» نفسه — في «افتتاحية قديمة
لهيرودياد»، التي كلفته كثيرًا من الجهد الشاق
١٤١ — «يعتم» كلمة
ظلمات عندما
يتحدث عن «ظلمات سوداء»، بعد أن ينزع عن
كلمة
ظل
كثافتها، بأن يتحدث عن «
ظل
سحري».
ولا يتعلق الأمر فحسب — كما نرى —
بتوافقات صوتية، بل — أساسًا — بإيحاءات
تترابط أو تتطابق. ومنذ عام ١٨٦٦م، وبعد
لوم «مالارميه» لكوبيه على استخدام الكلمات
كأحجار كريمة تستمد بريقها من نفسها، ومن
نفسها فقط، يكتب إليه:
ما علينا أن نستهدفه — بالأساس —
في القصيدة هو: أن الكلمات
المكتفية بذاتها — دون تأثير من
خارجها — تنعكس الواحدة على
الأخرى، إلى حد أن تبدو كأنها لم
تعد تملك لونها الخاص، بل لا تكون
سوى جسور في سلم موسيقي، ودون أن
تكون ثمة مسافة بينها، ورغم أنها
تتماس بروعة، فإنني أعتقد أن
كلماتك تعيش أحيانًا حياتها الخاصة
بإفراط ما، مثل جواهر موزاييك
الحلي …
١٤٢
على الكلمات الشعرية — إذن — أن
تُستَخدَم مثل «نسب الأضواء والظلال» في
لوحة ما، والعلامات في مقطوعة موسيقية، كي
تخلق انسجامًا معينًا ولعبة علاقات. ومن
هنا، تكمن جملة «مالارميه» في نفس الخطاب:
«لا تقيم الصدفة بيتًا من الشعر، إنه الشيء
العظيم». وتجسد جملة عام ١٨٦٦م هذه التصريح
الشهير لعام ١٨٨٥م:
بيت الشعر الذي يتألف من عدة
كلمات يعيد صياغة كلمة كلية،
جديدة، غريبة على اللغة مثل
تعويذة، محققةً هذه العزلة للكلام:
فهي تلغي، بجرة قلم سامية، الصدفة
التي تسكن الكلمات رغم حيل تنشيطها
المتناوبة في المعنى والإصاتة،
التي تسبب لك هذه المفاجأة في ألا
تكون قد سمعت أبدًا بمثل هذا
المقطع العادي في الصياغة، في ذات
الوقت الذي تسبح أصداء الشيء
المسمَّى في أجواء جديدة.
١٤٣
استمرارية تفكير رائعة: فمنذ ١٨٦٦م، قدم
الشاعر — ذو الأربعة وعشرين عامًا — إلى
الشعر مبرره الميتافيزيقي، وإلى الشاعر
التقنية التي لا بد أن تسمح له بهزيمة
«الصدفة»، وبعد عشرين عامًا، لن يضيع أية
فرصة للتأكيد على المبدأ الروحي للشعر،
الذي «يجتذب بقدر ما يطلق من أجل تفتحه
(اللحظة التي يلمعون فيها ويموتون في زهرة
خاطفة على شفافية ما مثل الأثير) عناصر
الجمال الألف المدفوعة إلى المبادرة
والانتظام في قيمتهم الجوهرية».
١٤٤ فليس للشعر أن يعيد إنتاج أو
«وصف» الواقع، وهو ليس قالبًا ﻟ «أي شيء موجود»،
١٤٥ لكنه يؤسس لعبة بارعة للعلاقات
والانعكاسات والومضات الكامنة، التي ينبثق
منها واقع جديد وجوهري. «الأشياء موجودة،
فليس علينا أن نخلقها، كما قال «مالارميه»
إلى «جول هوريه»، ليس علينا سوى إدراك
العلاقات بينها، وخيوط هذه العلاقات هي
التي تشكل الأبيات والأوركسترا».
١٤٦
وبوصولنا إلى هذه النقطة، نرى إلى أي حد
يترابط كل شيء في جماليات «مالارميه»: فهي
مرتبطة بالشواغل الميتافيزيقية للشاعر،
الذي يريد عبر الشعر الوصول إلى المطلق و—
في نفيه للصدفة — بناء «الكتاب» الذي سيكون
تفسيرًا وإعادة بناء للكون في آنٍ، ليستجيب
لمتطلباته إزاء اللغة، التي ينبغي —
بطاقاتها التجريدية — أن ترتقي إلى جوهر
الأشياء، وأن تعيد تركيب البنية الروحية
للكون، عبر الترتيب البارع للكلمات.
نظام متسق وتركيبي على نحو رائع! وكما أن
الحروف هي عناصر الكلمة، فإن الكلمات تصبح
عناصر بيت الشعر، «كلمة كلية»، لكن بيت
الشعر يصبح بدوره عنصرًا في القصيدة، حيث
يجد مكانه الصحيح والضروري، «المساهم في
الإيقاع الكلي»،
١٤٧ وعلى القصائد بدورها أن تجد
مكانها في الكتاب، مثلما الأبيات في
القصائد:
ينبثق ترتيب كتاب الشعر غريزيًّا
أو في كل مكان، ويستبعد الصدفة:
وهو أيضًا ضرورة لإغفال المؤلَّف،
والواقع أن موضوعًا ما محتومًا،
إنما ينطوي على مثل هذا الانسجام
فيما بين المقطوعات كافة، فيما
يتعلق بالمكان، في الجزء الذي يناظره.
١٤٨
وبذلك يستطيع «مالارميه» — في نهاية
المطاف — أن يدرك الكتاب باعتباره «التوسع للحرف».
١٤٩ ومثل هذا الكتاب، التركيبي
والمنظم بصرامة، يستطيع
وحده
الادعاء بأنه يمثل الكون: ومثلما في الكون،
حيث كل شيء متماسك، وحيث كل جزء ينتظم في
عالم صغير، مثلما في «الكتاب» — كصورة
وإعادة خلق للعالم — ستصبح جميع العناصر
مترابطة وكاملة رغم هذا عضويًّا، من هنا،
تكمن تعبيرات «مالارميه» في حديثه إلى
«كازاليس» عن هذا «المؤلَّف» الكوني الذي
كان يطمح إلى تحقيقه ذات يوم: «إن مؤلَّفي
جاهز ومتراتب جيدًا، ويمثل — قدر استطاعته
— الكون، الذي ما كنت لأستطيع، دون أن أفسد
أحد انطباعاتي المرتبة، أن أحذف منه شيئًا
أبدًا …»
١٥٠ وكتاب كهذا، «هندسي ومخطط»،
١٥١ لن يحتاج أبدًا إلى قارئ،
مثلما لن يحمل البصمة الشخصية للمؤلف: «لا
شخصيًّا ونابضًا بالحياة»، سيوجد بذاته، في
بهائه كنجم منفرد: وسنطبق عليه — أفضل من
أي شيء آخر — ملحوظة «مالارميه»: «بما أنه
لا شخصي، لا يتطلب الكتاب — بقدر انفصالي
عنه كمؤلف — اقترابًا من القارئ. هكذا،
فلتعلم أنه يتوفر على مكانة منفردة وسط
اللوازم الإنسانية: ناضجًا وكائنًا».
١٥٢
لكن سيُقال إن «مالارميه» إنما يتحدث
دائمًا عن
الشعر
المنظوم وعن كتاب من الشعر
المنظوم: فما الذي ستصبح عليه — في كل هذا
— قصيدة النثر؟ وماذا نفعل كي نمنحها مكانة
في هذا الكون بلا فجوات، حيث تنتظم الكلمة
في بيت الشعر، وبيت الشعر في القصيدة،
والقصيدة في الكتاب؟ إنه لأمر واقع — رغم
هذا — أن «مالارميه» سبق أن أعلن، بوضوح،
عام ١٨٦٧م، عن نيته إدراج قصائد نثر في مؤلَّفه،
١٥٣ وفي أواخر حياته — وتلك واقعة
أخرى لا جدال فيها — بحث، بوعي شديد، عن
تحقيق تركيبة من الشعر والنثر، في مؤلفه
الأخير، «رمية نرد». وهنا ثمة مشكلة لا
نستطيع التملص منها، وأحد أهداف هذا الفصل
بالتحديد تكمن في توضيح المكانة التي منحها
«مالارميه» إلى النثر في جماليته، وكيف
توصل في النهاية — عبر توفيق حقيقي بين
الأضداد — إلى تركيبة «جدلية» للشعر
والنثر، وعلينا أن نقر — هذه المرة — بوجود
تطور، في فكر «مالارميه»، يُبقي دائمًا على
أسس نظريته الجمالية كاملة، إلا أنه يؤدي
إلى تنوع التطبيقات. فمالارميه، فضلًا عن
ذلك، يظل لا مباليًا إزاء التجارب التي قام
بها الرمزيون من حوله، وكانت مرحلته — وذلك
ما لا يجب أن ننساه — هي تلك التي «ضُرِب
فيها النظم في الصميم».
١٥٤ فإذا ما تتبعناه من الفترة
التي بدأ فيها العكوف على مسودات «إيجيتور»
— بعد أن وعى تمامًا ضرورات «الكتاب» — حتى
ذلك العام (١٨٩٨م) الذي ظهر فيه «رمية
نرد»، فسنراه يتبنى إزاء النثر ثلاثة مواقف
على التوالي، تتوافق مع ثلاث تقنيات شديدة
الاختلاف:
-
في فترة أولى، يقبله في
«المؤلَّف» لتقديم الدراما الروحية
للفرد، وهو مشغول بالبنية الصوتية
للجملة.
-
في فترة ثانية، يستبعد النثر
من «المؤلَّف»، ليكتب مع ذلك — في
شكل قصائد أو حكايات — نصوصًا ذات
نثر أكثر كثافة دائمًا وذات تقنية
— إذا صح القول — «نحوية»
وذهنية.
-
في فترة ثالثة — أخيرًا —
يحقق تركيبة النثر والشعر، عبر
محاولة طباعية جريئة، ويجد فيها —
فيما يبدو — الشكل الممتاز للقصيدة
الذهنية والميتافيزيقية التي كان
يحلم بكتابتها، والتي يعتبر ديوان
«رمية نرد» المحاولة الأولى
لها.
وعند تتبعنا لقصيدة النثر المالارمية، في
مختلف تجلياتها، سنرى أن الطريق الذي تم
عبوره هو — في واقع الأمر — الطريق الذي
يقود الشاعر إلى إبداع لغة جوهرية، وأن
«مالارميه» لا يبعد عن نظره المثال الذي
اقترحه لنفسه منذ كان عمره خمسة وعشرين
عامًا، والذي سيظل يجتذب أبحاثه الشعرية
وهو في سن الخامسة والستين.
(٥) «رمية نرد»
خلاصة النظرية
المالارميَّة
وتركيبة الشعر والنثر
في الفترة التي كان «مالارميه» يؤلف قصائده
النثرية الأخيرة، من عام ١٨٨٥م إلى عام ١٨٨٧م،
كان ثمة ثورة تُجرى في الشعر: ويمكننا أن نؤرخ
أولى محاولات الشعر الحر بعام ١٨٨٦م، وسرعان
٣٣٢ ما سنرى الطليعة الشعرية — بعد بحث
استغرق وقتًا طويلًا في اتجاه قصيدة نثر موقعة
أكثر فأكثر، ومسجوعة، و— إذا جاز القول —
«منظومة»، بتحريض من «كان» و«لافورج» و«موريا»،
وهي تتجه — في النهاية — إلى التحول نحو شعر
يمنحها حرية وتنوع النثر، بإبداع ما سيحتفظ
باسم
الشعر
الحر، ولم يكن بمقدور
«مالارميه» أن يظل مالارميًّا إزاء محاولة
تُلحَق بتأملاته الخاصة، لا في الشعر فحسب، بل
أيضًا في الصفحة وفي التطور الفراغي للقصيدة.
وعن طيب خاطر زائد، يتم نسيان أنه وضع نفسه —
إلى جانب «فيرلين» — في أصل الثورة الشكلية
لعام ١٨٨٦م: ولنذكِّر بأن قصيدة «أصيل إله
الريف» قد «دفعت الشعر البارناسي بأكمله إلى
الصراخ»، ويضيف (إلى «ج. هورت» الذي كان يسأله
عن «التطور الأدبي»):
٣٣٣
لقد حاولتُ فيها بالفعل أن أضع إلى
جانب البحر السكندري، في كل هيئته،
نوعًا من اللعب المألوف المعزوف عزفًا
رديئًا حوله، مثلما يُقال بالنسبة
لمصاحبة موسيقية يقوم بها الشاعر نفسه،
ولا تسمح للشعر الرسمي بالخروج إلا في
المناسبات الكبرى.
وبالفعل، فعندما نقرأ على
سبيل المثال:
هذه الحوريات، أريد تخليدَهُن.
صافية للغاية،
ورديتهن الشفيفة، حتى أنهن يرفرفن في
الهواء
الساكن بنعاس كثيف.
هل كنتُ أحبُّ حُلمًا؟
نتحقق من أنه — بالاستخدام
المترابط ﻟ «الفراغات» وللتفاوت
٣٣٤ — يتم كسر البحر السكندري بالنسبة
للعين، إن لم يكن للسمع (إضافةً إلى أن الفراغ
يوحي بوقفات، وصمت)، إنه يخلق لنفسه — كما يقول
«مالارميه» أيضًا — «نوعًا من السلاسة بين
الأبيات ذات الدفقات القوية»
٣٣٥ التي ستنتج تأثيرًا أكبر في عدم
الخروج «إلا في المناسبات الكبرى».
وسنرى أن هذا «الكسر للإيقاعات الأدبية الكبرى»
٣٣٦ بعيد — رغم هذا، في ذهن «مالارميه»
— عن أن يكون، مثلما أراد الشعراء الشبان،
ضربةً عنيفةً موجهةً إلى «المبدأ» العجوز
للنظم، وتستهدف مهاجمة البحر السكندري
الكلاسيكي بعنف. بل الأكثر: إنه يرى في استخدام
الشعر الحر هذه المزية التي تجعل الشعر
الكلاسيكي — المدرك باعتباره نوعًا من مطلق
النظم، «حليةً نهائية»
٣٣٧ — يظل، من الآن فصاعدًا، شكلًا
استثنائيًّا لن يخاطر أبدًا بأن يتشوش. وعبر
إطراء ذي حدين — في مقالاته وخطاباته، في
الفترة من ١٨٨٧م إلى ١٨٩٥م — يمتدح «مالارميه»
الشعراء الذاتيين لعثورهم على «إيقاعهم الذاتي»،
٣٣٨ ولأن كلًّا منهم قد فتح لنفسه
طريقه «الفردي» في الغابة الشعرية:
٣٣٩ تاركًا الشكل القديم «اللافردي»
٣٤٠ تحت تصرف من يفكرون في «مؤلَّف»
مطلق ذي طاقة كونية، وسيكتب — في عام ١٨٩٤م
أيضًا — «في الشعر اللافردي أو الخالص ستتوافق
الغريزة التي تستخلص من العالم نشيدًا، كي تضيء
فيه الإيقاع الجوهري وتلفظ، سُدى، النفاية»
٣٤١
كيف نفسر لأنفسنا — إذن — أن الشاعر قد
يتوصل، عام ١٨٩٧م، إلى شكل مبتدع، بهذه الجرأة،
مثلما في شكل «رمية نرد»؟
ينبغي
التأكيد — أولًا — على أنه رغم العقيدة التي ظل
مؤمنًا بها تجاه الشعر الكلاسيكي، فإن
«مالارميه» يتركنا نلاحظ — في السنوات الأخيرة
من حياته — زوال محبته لما كان يسميه «القالب
القديم المتعب»،
٣٤٢ وهو ما سيبوح به إلى «كازاليس» عام
١٨٩٣م:
سنختلف، أنت وأنا، على إخلاصك لهدهدة
مستمرة لأشعار أتغافل عنها إلى حدٍّ ما
بفعل الضجر …
٣٤٣
والواقع أنه سيكتب — اعتبارًا من هذه الفترة
— القليل من القصائد المنظومة، لا سيما قصائد
المناسبات، وهذا الشعور بالضجر إزاء الشعر
الرسمي، الذي يحس به أحد المدافعين عنه، يستحق التسجيل.
٣٤٤ وينبغي أن نضيف أن «مالارميه» كان
يعتقد أن كل قصائده المنظومة أو النثرية — خارج
«المؤلَّف»، هدف حياته — ما هي إلا «لتمرين اليد»،
٣٤٥ انتظارًا لإحالته إلى المعاش (كانت
ستتم في أكتوبر ١٨٩٣م) التي كانت ستسمح له بأن
يكرس نفسه تمامًا — في النهاية — إلى «تطريز بينيلوب»
٣٤٦ الخاص به. وها هو يكتب إلى «ش.
موريس» — عام ١٨٨٣م — أنه «طالما ينقصني وقت
الفراغ هذا، فإنني أشغل نفسي بهيكل مؤلَّفي النثري».
٣٤٧ فما الذي كانه هذا العمل التمهيدي
الخفي؟ ومن المشروع تمامًا — على أية حال — أن
نرى انعكاسًا لتأملات «مالارميه» حول
«المؤلَّف»، في عديد من المقالات التي يكتبها:
إنه يتساءل عن الأدب، وعلاقاته بالفكرة،
وبالمسرح، والموسيقى (بعد ما قاده أصدقاؤه
الفاجنريون (نسبةً إلى فاجنر) في البداية، أصبح
يذهب بانتظام إلى الحفلات الموسيقية، اعتبارًا
من عام ١٨٨٥م)، ويلقي عام ١٨٩٤م محاضرةً عن
«الموسيقى والآداب»، ويكتب عام ١٨٩٥م سلسلةً من
المقالات حول «الكتاب» ﮐ «أداة روحية»، وحول
الشكل الذي يجب منحه له.
وسنرى تأملات «مالارميه» — لا سيما خلال عامي
١٨٩٤-١٨٩٥م هذين — وقد غذتها عناصر جديدة من
جراء محاولات الأشعار التحررية التي لم يكن
بخفي أبدًا «اهتمامه الحار» بها،
٣٤٨ وهي تتوجه صوب فكرة تركيبة من
الشعر
و
النثر،
هذين النمطين الخاصين بتطور
الكلمة عبر «مراحل
الفكرة والزمن».
٣٤٩ وتؤكد ملحوظة أساسية في «الموسيقى
والآداب» على تنافر هذين الشكلين، بما أحدهما
ضرب من العمارة الروحية، اللازمنية، فيما الآخر
— الذي يتطور في الزمن — هو، حقًّا (الرواية
مثال على ذلك)، فن الزمن:
الشعر المنطلق بدرجة أقل في سهام
تتعاقب في شبه تزامن نحو الفكرة، يختزل
المدة إلى تقسيم روحي خاص بالموضوع:
يختلف عن الجملة أو التطور العارض،
الذي يقوم به النثر، وهو يخفيه، بألف حيلة.
٣٥٠
فهل من الممكن — إذن — القيام ﺑ «مصالحة بين
المتناقضات»، حسب صيغة الجدل الهيجلي، بين
الشعر
و
النثر؟
و«مالارميه» الذي تحقق، عام ١٨٩٢م — من «أن كل
محاولة معاصرة من القارئ تكمن في أن تنتهي
بالقصيدة إلى الرواية والرواية إلى القصيدة»
٣٥١ — قد تابع بالتأكيد، باهتمام
مشبوب، محاولة التركيب المزدوجة التي قادها
الرمزيون: فأحيانًا ما يتخلل الشعر النثر،
لينزع — بلا توقف — إلى تحويل النثر إلى شعر،
إلى
إخراجه من
الزمن بفعل لعبة الإيقاعات والسجع،
٣٥٢ وأحيانًا ما يتخلل النثر الشعر،
ليفرض عليه تقطيعاته إلى أجزاء منطقية ومسيرته
المتعاقبة. وفي الحالة الأولى،
لدينا «قصيدة النثر» (يدرك «مالارميه»، مثل
الرمزيين، هذا التعبير بمعنى «نثر إيقاعي»)،
٣٥٣ وفي الحالة الثانية، الشعر الحر،
الذي ليس سوى «نثر ذي تقطيع مدروس»،
٣٥٤ كما يقول «مالارميه».
وقد صرح «مالارميه» عام ١٨٩٤م — فيما يتعلق ﺑ «قصيدة النثر» — في «الموسيقى والآداب»:
أسلوب، ونظم، إذا ما كان ثمة وزن،
ولهذا فكل نثر لكاتب معجب بنفسه، يخرج
من هذا الانقياد إلى المألوف،
والزخرفي، يمتلك قيمته كنظم متقطع
يتلاعب بجرسه وأيضًا بالقوافي الخفية:
وفقًا لعنقود أكثر تعقيدًا. التألق
الجيد لما نال حديثًا لقب قصيدة النثر.
٣٥٥
وبالفعل، لا تنعدم أمثلة النثر
الموزون، في هذا
التاريخ الذي «تتألق» فيه — عن طيب خاطر،
بالتحديد — قصيدة النثر في أعمال أوسع من النثر
«الزخرفي»، والحكايات أو السرديات: «رحلة
الإيرياني»، «مذبح الطواف»، و«حكايات رينييه» …
وفي عام ١٨٩٤م، ستُنشَر «أناشيد بيليتيس»،
و«كتاب مونيل» و«دقائق من رمل تذكاري»، ذلك
العمل الغريب الذي سيطري «مالارميه» على مؤلفه
الشاب المبتدئ، «الفريد جاري».
٣٥٦ ورغم هذا، فالأمر لا يتعلق باعتبار
أن هذا الشكل الجديد ينبغي أن يلغي الشعر
الكلاسيكي: «فالوزن السابق يبقى إلى
جواره».
ونفس
التحفظ إزاء الشعر الحر، وتعبيرات «الموسيقى
والآداب»، تجعلنا نعتقد أن «مالارميه» يعتبر
تجربة الشعر التحرري — في عام ١٨٩٤م هذا —
منتهيةً فرضيًّا بالقوة:
اكتشاف سعيد، يبدو معه بحث الأمس شبه
منتهٍ، ألا وهو
الشعر الحر، تغيير
كثيرًا ما أقول إنه فردي، لأن كل روح
هي عقدة إيقاعية.
٣٥٧
وهذا
البحث — وقد «انحل الانصهار نحو الكمال» — ألم
تكن له فائدة أخرى سوى أن يتيح وقتًا للراحة
للشعر الكلاسيكي، ﮐ «أداة منهكة»، وأن يدفع
أيضًا، رغم كل شيء، ﺑ «مؤلفات حقيقية»، «بمعزل
عن السجال حول الشكل»؟ يمكننا أن نعتقد
ذلك.
والواقع أن «مالارميه» — في هذه النقطة
الميتة بالتحديد — سيعاود المحاولة لحسابه
الشخصي، ويقودها إلى ما هو أبعد بكثير من
سابقيه، إنه يعيد التأمل لكن على مستوى آخر، في
نظريات الرمزيين الذين كانوا يحلمون بأن
يصهروا، في شكل واحد متغير أبديًّا، أشكال
التعبير المتنوعة، وأن يتوصلوا أيضًا إلى
تركيبة من «الأنواع» المختلفة، الرواية والمسرح
والشعر، إنه يحلم بأن يجعل من
الكتاب «أداةً
روحية»، ذلك «المؤلَّف» الأسمى، الذي يزاوج في
آنٍ بين وسائل فنون الفراغ (العمارة والرسم)،
وفنون الزمن (الموسيقى والرواية).
٣٥٨ ولأن «الكتاب» سيكون تركيبةً من
كافة الأنساق الفنية، فيبنغي لا أن يوحد
الأشكال القديمة فحسب، بل أن يتخطاها — أيضًا —
ليخلق لنفسه شكله الخاص، العضوي والضروري، الذي
ينبغي فيه — على كافة عناصره — أن تتآزر «في
إيقاع كلي».
٣٥٩
سبق وقلت أن «الكتاب» — ضمن جماليات مالارميه
— هو كلٌّ متراتب بصرامة، حيث ترقى الكلمة إلى
بيت من الشعر، وبيت الشعر إلى قصيدة، والقصيدة
— أخيرًا — إلى كتاب «مبني ومستهدف»، «ممثلًا
الكون، قدر استطاعته».
٣٦٠ لكن يبدو أن «مالارميه» — اعتبارًا
من عام ١٨٩٥م — يعلق أهمية متزايدة على الوحدة
الفراغية في هذا الكل، ألا وهي
الصفحة:
إنني أتجاهل الكتاب وثمة معجزة تقود
بنيته، إذا ما كنت لا أستطيع بتبصر،
تخيل عنصر كهذا في موضع خاص، من حيث
الصفحة والارتفاع، نحو التوجه الخاص بي
الآن أو بالمؤلَّف.
٣٦١
وسيكون مستعدًّا لأن يجد الترتيب المتشابه
دائمًا للأسطر مضجرًا، «الذهاب والإياب
المتعاقبان بلا توقف للبصر، ما إن ينتهي السطر
حتى ينتقل إلى التالي، للبدء من جديد»، عندئذٍ
يتساءل: «هل يمكن أن ينتهي الأمر إلى أن يكون
كذلك». ويُدلي بهذا الاقتراح المدهش، الذي
نستطيع أن نرى فيه الإعداد للفكرة الأولى ﻟ «رمية نرد»:
لماذا – دفقة من عظمة، من فكر أو
قلق، جدير بالاعتبار، جملة متلاحقة،
بحروف كبيرة، سطر في صفحة ذات موقع
متدرج، لن تجعل القارئ لاهث الأنفاس،
مدة الكتاب، مع استدعاء لمقدرته
الحماسية: وحولها، وجبات، ومجموعات
تفسيرية أو مشتقة، بصورة ثانوية حسب
أهميتها – مشتل من الزخارف.
٣٦٢
فكيف لا يمكننا التعرف — هنا — على التأثير
المزدوج للبناء السيمفوني (الذي يلمح
«مالارميه» إليه من قبل في نفس المقال)، والشعر
الحر؟ فمالارميه نفسه — من ناحية أخرى — يبرر
فكرته بأن يلاحظ لدى بعض معاصريه، «مع مجيء
الموهبة التي جعلتهم يرتبون كتاباتهم بطريقة
غير شائعة، وبشكل زخرفي، فيما بين الجملة وبيت
الشعر، بضعة ملامح شبيهة بهذا»،
٣٦٣ «بين الجملة وبيت الشعر»: نجد —
مرة أخرى — اﻟ «مصالحة» بين الشعر والنثر،
«النثر ذي المقاطع المدروسة»، التي كانت مؤلفات
الشعر التحرري تقترحه على تأملات
«مالارميه».
وقد أشرت — في موضع آخر
٣٦٤ — إلى الأهمية التي يوليها
«مالارميه»، في الشعر الحر، إلى
العنصر البصري، أو
— إذا شئنا — الطباعي: فهو — من ناحية — يحب
رؤية «مساحات البياض» تتضاعف فيه، هذه «الأدلة
الزفافية للفكرة»،
٣٦٥ مثلما قال بكياسة، كتشكيل مرئي
لهذا «الصمت الخصب بين الكلمات» الذي — كما كتب
إلى «فيليه جريفان» — «يغذي الروح في صفاء»،
٣٦٦ ويجد — من ناحية أخرى — في تقسيم
الجملة إلى أجزاء قصيرة جدًّا، «التفريعات
الطيفية للفكرة»،
٣٦٧ كشيء ما شبيه بهذا التقطيع للنصوص
الذي كان يدهشه — منذ فترة طويلة — في طباعة
الملصقات. «كثيرًا ما جعلتني أحلم مثلما أمام
كلام جديد»، مثلما يقول عن الملصق عام ١٨٩٤م،
٣٦٨ وقد أكد «فاليري» على هذا التصريح:
«كان قد درس بعناية فائقة (حتى بالنسبة
للملصقات والجرائد) فعالية توزيع الأبيض
والأسود، والكثافة المقارنة للحروف الطباعية»،
على ما يقول بصدد «رمية نرد».
٣٦٩ فالملصق لا يقدم — فحسب —
استخدامًا ذا سمات طباعية مختلفة بالنسبة ﻟ «العنصر الرئيسي» و«العناصر الثانوية»، لكنه
—
مثل «الصفحة»، من ناحية أخرى — وحدة فراغية،
يتم فيها توزيع الحروف «بشكل زخرفي»، وسنرى أن
«مالارميه» لن يكتفي — في «رمية نرد» — بالبحث
عن تماثل ممتع للعين، بل سيبحث عن خلق نوع من
«الإيقاع البصري»، بالتوافق مع إيقاع الجمل
والأفكار، وأنه سيذهب حتى إلى حد الرغبة في جعل
نصه رمزًا فكريًّا حقيقيًّا.
ولنعد إلى استخدام «مساحات البياض»، التي
استخدمها «مالارميه»، كما نذكر، في «أصيل إله
الريف». ومن العجيب — وإن يكن ذا مغزًى — أن
نراه يقوم بمحاولة عام ١٨٩٥م في نفس الاتجاه،
لكن بالتطبيق على نثر «تنويعات حول موضوع ما»،
الذي أعطاه إلى «روفي بلانش». وكان على قراء
هذه المقالات أن يشعروا بأنهم مرتبكون إلى حدٍّ
ما أمام فقرات من هذا النوع:
أفضل، إزاء العدوان، أن أرد بأن
المعاصرين لا يعرفون القراءة إلا في
الجريدة، التي تُعفى، بالتأكيد، من
ميزة عدم مقاطعة جوقة
الانشغالات.
قراءة –
هذه الممارسة –
تدعيم الأبيض، حسب الصفحة التي يفتتح
براءتها، على طبيعتها، المنسية حتى من
العنوان الذي قد يُنطَق بصوت بالغ
الارتفاع … إلخ.
٣٧٠
و«مالارميه»، الذي يجهل «الاضطراب» الذي
يسببه «التوزيع الطباعي» الجريء، قد برأه في
بيبليوجرافيا ديوانه
«هذيانات»، وهي نص ينبغي تأمله عن كثب شديد،
إذا ما أردنا فهم أية ضرورات قادت الشاعر في
النهاية إلى صيغة «رمية نرد». وها أنا أورده
كاملًا:
غرض الفواصل، أو الفراغات، أو الحشو
— على امتداد المقال الطويل العادي
لمجلة — يشير، بالضرورة، إلى العين
التي تلاحظها في بعض المواضع، ومع ذلك،
فلمَ لا نحشر بضع قشور من الاهتمام في
هذه العناصر الإجبارية حيث تجلَّى
الموضوع، ثم نحل، ببساطة، الانتقالات
أيًّا ما كانت محل براءة الورقة؟ إن
مطبوعًا حيويًّا، يحدد – في الفهرس،
الموضع الصحيح بين المقالات القصيرة
للجريدة والكتلة الفارغة حيث تتماوج
دوريات عدة، إنما يقود (هذه) الطريقة.
إن شقوق النص — فلنطمئن — تراعي
التنسق، بوعي، ولا تدرج فراغًا عاريًا
إلا في نقاط الإشراق: ربما يخرج منها
شكل ما، حقيقي، يسمح لما ظل طويلًا
قصيدة نثر ولمسعانا أن يصل — إذا ما
ربطنا بين الكلمات بشكل أفضل، إلى حدٍّ
ما — إلى قصيدة نقدية. إنه حشد الومضات
المختلفة للروح حول فكرة معينة، على
مسافات مقصودة، عبر جُمل: وكأن هذه
النماذج لتركيب الجملة، حتى وهي
مُوسَّعة، يختصرها — حقًّا — عدد محدود
للغاية، وكل جملة — إذ تبرز في فقرة —
تنجح في عزل نمط نادر بحرية أكبر من
النقل بفعل تيار ذلاقة اللسان، وتظهر —
عند الاستخدام — ألف ضرورة، شديدة
التفرد، في معالجة الكتابة هذه، أدركها
رويدًا رويدًا: لا شك أن ثمة وسيلة،
هنا، لشاعر لا يمارس الشعر الحر بحكم
العادة، لأن يكشف — فيما بعد بحكم
الخبرة — تلك الإيقاعات المباشرة
للفكرة وهي تضبط منظومةً شعرية في هيئة
مقطوعات جامعة وموجزة.
٣٧١
ولا شك أن هذا النص يدل — من ناحية — على
خلاصة النزعات الكبرى للتركيبة المالارمية:
إيجاز أقصى، سيصل إلى أن يحل محل «براءة
الورقة» كافة الانتقالات «أيًّا ما كانت»، كل
ما ليس جوهريًّا بشكل مطلق، كرد فعل ضد «النقل»
المألوف «بفعل تيار ذلاقة اللسان»: كل هذا لا
يسجل منعطفًا في الفكر المالارمي، لكن
«انفصامات النص»، التي تعزل أجزاءً من الجملة،
أو كلمة أحيانًا، تفتتح، حقًّا، «معالجة» جديدة
ﻟ «الكتابة»: إنه لدال أن نرى «مالارميه» يتحدث
إزاءهم أولًا عن قصيدة النثر، ثم عن الشعر
الحر. «ما ظل طويلًا قصيدة نثر ومسعًى لنا»:
فأحد الأنساق الأساسية لقصيدة النثر يتمثل —
بالفعل — في «وضع البياض» بين الفقرات أو
المقاطع، ليجعل من النص متتاليةً من «نقاط
الإشراق»، حيث توحي مساحات البياض فيما بينها
للقارئ بأكثر مما يمكن أن تعبر عنه الجمل، لكن
النسق الذي استخدمه «برتران» — فيما بين مقاطعه
— قد أصبح أكثر مرونة، على سبيل المثال، في
نثريات «موكيل» التي تنحو نحو الشعر الحر،
٣٧٢ ولا يفعل «مالارميه» سوى نشر صيغة
طباعية كانت قد ظهرت مسبقًا في «عروس النيل
البيضاء»، حيث تنفصل — بشكل ظاهر — اللحظات
الرئيسية الأربع للقصيدة (أربع جمل قصيرة)،
(«ما الذي حدث، أين كنت؟» – «كنت أستدعيها
مطهرة بكاملها» – «توقفت الخطوة، لماذا؟» –
«النصيحة، يا حلمي، ما العمل؟»). غير أنه ينبغي
ملاحظة أنه ليس في متناول النظر — هنا، على
الأقل في
الحالة
الحاضرة — إلا مقال المجلة،
باعتباره «قصيدة»، بالمعنى الذي كتبه إلى صديقه
«موكيل» عن أن قصيدة «حديث الأدب» بدت له «أكثر
القصائد النقدية حدة»، وهي التي «كثيرًا ما حلم
أن يتوفر على بعض منها».
٣٧٣
وعلى أية حال، فإن الجملة الأخيرة من
«بيبليوجرافيا» تجعلنا نستشف — بوضوح — الاتجاه
الذي يتوجه إليه بحث «مالارميه»: إنه يرى
إمكانية خلق شكل شعري جديد، «فيما بعد، بحكم
الخبرة»، وأن يكشف «هذه الإيقاعات المباشرة
للفكر التي تنسق منظومة شعرية ما»، طبقًا لمبدأ
في التقطيع يمكن تشبيهه بذلك الخاص بالشعر
الحر، قابل للتشبيه، لكنه ليس متماثلًا: فعندما
يتحدث «مالارميه» عن «حشد الومضات المختلفة
للروح حول فكرة معينة، على مسافات مقصودة من
الجمل»، نرى كيف يرتسم — في فكره — المعمار
المدهش ﻟ «رمية نرد»: يعود تاريخ
«بيبليوجرافيا» إلى نوفمبر ١٨٩٦م، ونُشِرَت
الطبعة الأولى من «رمية نرد» في مايو ١٨٩٧م، في
مجلة «كوزموبوليس».
ويؤكد «مالارميه» — مرة أخرى، في مقدمة «رمية
نرد»، وهو الذي كان يعلم أن مؤلَّفه سيبدو،
لعديد من الناس، «فعلًا جنونيًّا»
٣٧٤ — على التشابه الذي يمكن أن نجده
بين مساعيه ومساعي الكتَّاب الشباب في عصره:
… تسهم المحاولة — مع غير المتوقع —
بمسعيين متفردين وأثيرين على عصرنا،
الشعر الحر وقصيدة النثر.
٣٧٥
ويبدو حريصًا — بشكل خاص — على إقناع القارئ
بأن مؤلَّفه، رغم هيئته الفريدة، لا يقدم
عمومًا أية «جدة» أخرى، مهما بدا، «سوى توسيع
القراءة». وحتى هذه «الفراغات»، التي تحتل
المكان الأكبر في نصه، فإنه يلفت النظر إلى
أنها دائمًا «ما يتطلبها نظم الشعر، كصمت
محيط»، إلى حد أن المقطوعة الشعرية لا تحتل
إطلاقًا أكثر من ثلث الصفحة؛ وكما يضيف: «فإنني
لا أنتهك المعيار، فقط أنثره».
٣٧٦ والحجة خادعة: فالواقع أن توزيع
النص يثير الحيرة، فثمة شذرات من الجمل
المتنافرة، ظاهريًّا، تنتشر على الصفحة، راسمة
عليها أشكالًا لباليه غريب، تفصل بينها فراغات
هائلة. والقارئ «الساذج» — الذي ألف «مالارميه»
من أجله مقدمته — يظل مذهولًا. «إننا نرى في بث
الفراغات في النص — وخاصة عندما نتطلع إلى هذه
الحيلة — وسيلة لرفع قيمة الثمن الباهظ
للقصيدة»، كما يوضح «فاليري» إلى «مالارميه».
٣٧٧ وفي عام ١٩١٢م، كان ما يزال هناك
عديد من النقاد ممن كانوا معجبين بمالارميه،
يقولون — عن «رمية نرد» — إنه عندما كتبها
مالارميه «كانت روحه تضطرب».
٣٧٨ ومع ذلك، فالصحيح أن هذه المحاولة
تشهد — بطريقتها — على الانشعالات الأدبية لهذا
العهد، وأنه ليس من المستحيل أن نشبهها
بمحاولات أخرى «تزامنية» أو «سيمفونية»: سبق أن
أشرت — بنفسي — إلى التوزيعات الطباعية العجيبة
التي استخدمها «غيل» في قصيدة «إيماءة ساذجة»
التي أطرى فيها «مالارميه» — وإن يكن مع
التحفظ! — «اللعب المركب والسيمفوني بالفعل».
٣٧٩ إن الطموح إلى صياغة تركيبية من
كافة أشكال الفن، وكتابة قصيدة تكون — في آنٍ —
لوحة وسيمفونية، بأن تتلاقى في «الكتاب» كافة
الأساليب التي أراد «فاجنر» أن يجعلها تتلاقى
في «الدراما»،
٣٨٠ قد راود الرمزيين: ونجد لديهم —
مثلما نجد لدى «مالارميه» — الرغبة في العثور،
من خلال الفن، على الوحدة الجوهرية للعالم،
وجعل الكتاب مؤلَّفًا كونيًّا، صورة عن
الكون.
ورغم هذا، فإذا ما نظرنا عن كثب أكثر إلى
بنية «رمية نرد»، فإننا نتبين أن «مالارميه» قد
ذهب إلى أبعد من أي شعار آخر في الجرأة
التجديدية، وأنه — من ناحية أخرى، وذلك ما
يهمنا هنا — قد حقق، بالفعل، «شكلًا جديدًا»،
لا هو بالنثر ولا بالشعر الحر، في حين أن
المؤلفات «التركيبية» للرمزيين، من «أنطونيا»
إلى «العابرة»،
٣٨١ تظل إنتاجًا هجينًا، من النثر
المحشو بالشعر.
فهل يمكن القول بأن «رمية نرد» قصيدة نثر؟
بالتأكيد، لا. فهي ستتقدم — بالأحرى، وللوهلة
الأولى — كنثار على صفحة الشعر (الشعر الحر)،
إذا ما قبلنا أن الشعر هو — كما قال «كلوديل» —
«فكرة معزولة بفراغات»،
٣٨٢ و«مالارميه» — الذي يفضل أن يحتفظ
باسم الشعر ﻟ «السمات الصوتية المنتظمة»، أي
الشعر الكلاسيكي — يتحدث، بنفسه، عن «تفريعات
طيفية للفكرة».
٣٨٣ ومقطع كهذا — إذا ما عزلناه —
سيبدو مكتوبًا وفق الأبيات الحرة:
ريشة الدوار الصافية النبيلة
على الجبين الخفي
تتلألأ
ثم تعتم
قامة صغيرة معتمة منتصبة
في انحنائها كجنية بحر
ويتخلى النص — بطبيعة الحال —
عن علامات الترقيم، طالما أن «الفراغات» في نظم
الشعر، حسب نظريات «مالارميه»، تقوم مقامها.
٣٨٤
لكن إيقاع هذه «الأبيات» — من ناحية أخرى —
لا يتوجه إلا إلى العين والذهن، لا إلى الأذن
إطلاقًا: فلن نجد هنا «ثوابت إيقاعية» ولا سجعًا،
٣٨٥ (السجع المقلد في صفحة ٤٧٣: هل
وُجِد العدد … هل بدأ وتوقف … هل ترقم … هل
أشرق، يذكرنا — بالأحرى — بالتركيبات الدورية
للفن الخطابي، والتكرار الذي يجب أن يفاجئ
الذهن لا أن يهدهد الأذن)، و«مالارميه» — الذي
كان الشعر الحر بالنسبة له، فضلًا عن ذلك،
«نثرًا ذا تقطيع مدروس» — قد أدرك بنية قصيدته
كلها اعتبارًا من العنوان / الجملة: «
رمية نرد لن تلغي أبدًا
الصدفة»، التي تلحق بها كافة
أنواع الجمل الاعتراضية ذات النسق الذهني أو
الوصفي، فالعنصر الأولي للقصيدة هو — إذن —
الجملة، «أو التطور الوقتي»،
٣٨٦ مثلما يحدث لمؤلف سردي وذهني في
آنٍ.
وإذا ما وافقنا — مثلما هو محتمل — على أن
«مالارميه» إنما يستعيد هنا الموضوع الذي لم
يتمكن من معالجته في «إيجيتور»، فيبدو أنه قد
تمكن حقًّا — هذه المرة — من العثور على حل
للمشكلة الفنية التي كانت توقفه: كيف يمكن أن
ينتج سردًا يظل قصيدة، أو — إذا فضلنا — كيف
يتم توحيد العنصر التتابعي، الزمني للسرد،
واللازمنية الضرورية للقصيدة؟ «كل شيء يحدث
بفعل الإيجاز، في فرضية ما، فيتم تجنب السرد».
٣٨٧ ولا يتحقق ذلك باستخدام أشكال
افتراضية فحسب، «حتى مع ذلك»، «سواء أكان»، «إذا»
٣٨٨ لكن — أيضًا — بفضل الإيجاز،
والمظهر الهارب للرؤى التي تتلاشى ما إن
تُقتَرَح، تلك التي لا تتأسس أبدًا «راسخة
وفائقة» على الصفحة،
٣٨٩ لكنها تُخلي مكانها أيضًا إلى عنصر
آخر، في حركة متماوجة تتخفى وتنتهي بمنح
الانطباع بالثبات، «سيتلامس الخيال، وسيتشتت،
سريعًا، حسب حركية المكتوب، حول وقفات جزئية
لجملة رئيسية منذ العنوان مفتتحة ومستمرة».
٣٩٠ ونرى إلى أي حد هو مالارمي هذا
التوفيق بين «الوجود» و«اللاوجود»، بين «الزمن»
و«الأبدية».
إن
استخدام الصفحة المزدوجة كوحدة واحدة
٣٩١ — بالإضافة إلى استخدام الحروف
الطباعية المختلفة (ثمانية أنواع) — قد أتاحت
لمالارميه أن يضع ما يسميه ﺑ «إخراج ذهني
دقيق»، بتوزيع عناصره الدرامية أو الأيديولوجية
المختلفة، «في مواضع متنوعة، قريبة أو بعيدة من
السلك الموصل المستتر».
٣٩٢ ويسمح اختلاف الحروف الطباعية
بالتمييز بسهولة بين «العناصر» المختلفة،
وبالتعرف — كل مرة — على من «يدخل المشهد»،
مثلما تتيح لنا العناصر الرئيسية الصوتية
لفاجنر التعرف على عودة شخص أو فكرة. هذا
«الإخراج»، وهذه القصدية في
التوسيع بين
مجموعات الكلمات أو الأفكار، تبين لنا رغبة
«مالارميه» في إلحاق مؤلفه بفنون الفراغ،
المسرح أو الباليه. لكن «مالارميه»
يواصل:
الفائدة الأدبية — إذا ما كان لي
الحق في قول ذلك — لهذه المسافة
المطبوعة التي تفصل ذهنيًّا فيما بين
مجموعات الكلمات، أو فيما بين الكلمات،
تبدو في الإسراع حينًا أو الإبطاء من
الحركة، فتؤكدها، بل تأمرها حتى طبقًا
لرؤية متزامنة ﻟ «الصفحة» …
٣٩٣
وتحيلنا هذه الأهمية الممنوحة إلى الحركة إلى
فن الزمن بامتياز، الموسيقي. ويشير «مالارميه»
— بنفسه — إلى التأثير الذي مارسته «الموسيقى
المسموعة في المجال الموسيقي» على مفاهيمه،
ويشبه نصه بمقطوعة موسيقية: مقابلة لا ينبغي أن
تدهشنا، في عهد كان الرمزيون لا يتحدثون إلا عن
«التوزيع الأوركسترالي للقصيدة»،
٣٩٤ ويزعمون المنافسة الظافرة مع
الموسيقى، وقد أراد «مالارميه» أكثر من أي شخص
آخر — وهو ما نعلمه — «أن يسترد ثروته» من
الموسيقى، وأن «يحقق نقل السيمفونية إلى
الكتاب».
٣٩٥ وعلينا أن نقر — مع «ج. ديفيز» —
بأن فكرة قراءة هذا النص، بصوت عالٍ، برفع أو
خفض نبرة الصوت حسب موقع الكلمات، «أعلى وأسفل
الصفحة»، مثل علامات على سلم موسيقي، لا يمكن
إطلاقًا أخذها مأخذ الجد: وحيث إن القراءة تبدأ
— بالنسبة لكل صفحة مزدوجة — من أعلى اليسار،
وتنتهي أسفل الصفحة اليمين، فعلينا أن نقر بأن
نبرة الصوت، «الشديدة الارتفاع للكلمات الأولى
من الصفحة، ستنخفض تدريجيًّا حتى نهايتها، دون
أدنى تغيير ينحو إلى إعادة تصعيدها»!
٣٩٦ لكنه سيكون من السخرية الاعتقاد
بأن «مالارميه» قد وضع حدًّا لمحاولته في
«الموسقة» (إضفاء الموسيقية) بقراءة نصه
كمقطوعة موسيقية، بتنويعات من الارتفاع
والحدَّة. ونعلم (وحول هذه النقطة لا أملك إلا
أن أحيل إلى أطروحتي الثانوية) أن «مالارميه»،
بعيدًا عن الرغبة في جعل الأدب نوعًا من
التوزيع الموسيقي الصوتي، كان يزمع أن يستعيد
من الموسيقى أساليبها الأكثر عقلانية، وأن
يستعير من السيمفونية بنياتها المركبة، وفكرة
«كلٍّ من العلاقات».
٣٩٧ وفيما يتعلق ﺑ «رمية نرد»، فإن
الشاعر يتحدث بنفسه عن
طباق، ويتمثل ابتكاره الرئيسي
في أنه يجعلنا نشهد — في آنٍ — تطور عدة عناصر
(«العنصر المهيمن، والثانوي، والعناصر المجاورة»)،
٣٩٨ التي يشكل دخولها، وتراكبها،
و«تعديلها» أو تفاوتها، تعدد أصوات أدبي حقيقي،
وذلك ما يعني المكابرة فيما هو بديهي من الرغبة
في إحالة هذه البنية البارعة إلى مجرد جملة
نثرية بسيطة، محملة — إلى حدٍّ ما — بالجمل
الاعتراضية، وتشبيهها، مثلما يفعل «ج. ديفيز»،
ﺑ «مرحلة
هذيانات التي لا تنتهي».
٣٩٩ وحتى لو تخيلنا سلسلةً من الأقواس
وما بين الأقواس، فلن نتمكن من إقحام هذا النص
في السلسلة الميلودية للنثر: فما الذي يمكن
اعتقاده — على سبيل المثال — في جملة نثرية
تنطوي على نفس الكلمة:
الصدفة، تُستَخدَم — في آنٍ —
كمفعول به لجملة رئيسية (
رمية نرد لن تلغي أبدًا
الصدفة)، وكخبر
لهذه في الجملة
الاعتراضية: «أتكون هذه هي الصدفة»؟ لكننا إذا
ما أدركنا هاتين الجملتين — باعتبارهما
«عنصرين» موسيقيين (عنصرًا أساسيًّا، وعنصرًا
مجاورًا) — فسنجد من الطبيعي أن يتمكن عنصران
متراكبان (نتحدث أيضًا عن «جمل» موسيقية) من
التلاقي، ومن الانتهاء إلى نفس العلامة
المشتركة بينهما، ونسخ هذين العنصرين في حروف
طباعية مختلفة يجعل هذه البنية المتعددة
الأصوات أكثر وضوحًا بكثير من «ترجمتها» نثرًا،
وهو ما ليس مقروءًا، ولا شك أنه يمكن العثور —
في «رمية نرد»، مثلما يريد «س. روليه»
٤٠٠ — على تكرارات لحنية، أو على
«تناغم صوتي متقهقر»، كما أنه لا يقل عن ذلك
صوابًا أن «مالارميه» قد أراد — في «رمية نرد»،
مثلما يقول «س. روليه» — تحقيق «طباق بنيوي»،
وإذا ما كان قد استخدم في عمله، لتحقيق طموحاته
الموسيقية، أساليب
بصرية بالأساس، فإن
التناقض لا يعدو أن يكون ظاهريًّا، فالأمر
يتعلق فعلًا، بالنسبة له، بامتلاك وتنظيم
الانسياب الوقتي، وﺑ «توليد أبدية الشكل في
حركية الوقت»،
٤٠١ مثلما تفعل الموسيقى بفضل الإيقاع،
في تصميم الموضوعات وفي العلاقات القائمة
بينها، لكن لأن الصفحة هي مجال الفراغ الذي
يملكه الأدب، فإن هذه الأشكال وهذه البنيات
ستتخذ — بطبيعة الحال — مظهرًا مكانيًّا
مدركًا، مباشرة، من العين. ويتحدث «فاليري» —
في هذا الصدد — عن «قراءة
ظاهرية» «يربطها»
«مالارميه» ﺑ «القراءة
الخطية»، ويضيف: «كان هذا
إثراءً لمجال الأدب ببعد ثانٍ».
٤٠٢
وإذا ما أضفنا — فضلًا عن ذلك — أن هذا
التشخيص للموضوعات على الورق كان يجب أن يشكل —
حسب رغبة «مالارميه» الواضحة — متتالية من
الرموز الفكرية، كان ينبغي — على سبيل المثال —
أن تتخذها كوكبة الصفحة الأخيرة، بالقدر الذي
يسمح به لنص مطبوع، بشكل حتمي، أن يتخذ هيئة
الكوكبة، والفراغ المسقوف الذي يوفره الشريط
الأبيض أعلى الصفحة وأسفل الأخرى،
٤٠٣ وبنوع من العودة إلى الكتابة
التشخيصية للحضارات القديمة، فإننا يمكننا أن
نتصور تعقيد بنية قصيدة كهذه، دراما وسيمفونية
ولوحة، في آنٍ. ولا شك أن «مالارميه» قد أنتج
هنا، حقًّا، كتابًا «معماريًّا مدروسًا»،
٤٠٤ دون أن يترك أدنى مكان للصدفة،
ونحن منقادون — أيضًا — إلى التفكير بأن معنى
كتاب كهذا لا ينفصل عن بنيته، وأن الشكل
والفكرة لا يشكلان سوى شيء واحد، وأن تعقيد
المؤلَّف هو تعقيد داخلي وليس مجرد تعقيد شكلي،
أي — بعبارة أخرى — لدينا هنا مقاربة أولى
للمؤلف الحلم، ﻟ «التفسير الأورفي للأرض»،
٤٠٥ الذي كان الهدف الحقيقي لحياته
كشاعر، وطبقًا ﻟ «ر. ج. كون»، ﻓ «البنية
التحتية المعرفية» هي التي تفسر، وبالأحرى
تشكل، «هيكل القصيدة»:
٤٠٦ فلدينا — هنا، طبقًا لقوله — على
قصيدة كونية مبنية على فكرة «المعادلة
السيمفونية الخاصة بفصول العام»،
٤٠٧ على إيقاع
رباعي الأقطاب يتوافق مع بُعدي
الصفحة، البعد الممتد من أعلى إلى أسفل الصفحة،
والآخر الممتد من اليسار إلى اليمين
(وبالامتداد من الصفحة الأولى حتى الأخيرة)،
وتتطور القصيدة طبقًا لحركة تماوجية (تقدم
وتماثل رباعي الأقطاب، في آنٍ)، يتسق لا مع
الإيقاع الفصلي فحسب، بل أيضًا «مع كافة
الإيقاعات الوقتية»، ومع الأعمار الأربعة لبعض
نظريات نشأة الكون،
٤٠٨ على سبيل المثال، ولن أخوض في
تفاصيل تفسيرات «ر. ج. كون»، فهذا الناقد له —
في جميع الأحوال — «فضل معارضة كل من يدعي
تقليص العمل إلى دلالة خطية وحيدة»، مثلما يقول
«ج. ميشو»،
٤٠٩ وهو — من ناحية أخرى — قد أوضح
جيدًا حقيقة أنه في قصيدة كهذه، كان كل شيء
يتماسك ويزدهر انطلاقًا من العنوان / الجملة،
وأنه ليس ثمة أي شيء شكلي، في اختيار أو توزيع
الكلمات، بل إن كل شيء — على النقيض — ضروري
وعضوي. وقد سبق أن قال «فاليري» إن محاولة
«مالارميه» ما كان مقدرًا لها أن تكون ما لم
تكن قد تمثلت ببساطة في توزيع نص، موجود سلفًا،
على الصفحة: «فهي تقع في
لحظة المفهوم»، وهي نمط المفهوم،
٤١٠ وذلك ما يمنحها أهميتها.
وفضلًا عن ذلك، فثمة ميل، يتزايد أكثر فأكثر،
إلى قبول ضرورة تخطي التفسير التبسيطي بإفراط
للعنوان الجملة:
رمية
نرد لن تلغي أبدًا الصدفة،
باعتباره تصريحًا بفشل (تفسير تقليدي من
«تيبوديه»)، ولا سيما أنه ليس بالفشل الشخصي.
ولا يمكن الشك — إطلاقًا — في أن الأستاذ هو
رمز للإنسان، وللإنسانية كلها في كفاحها ضد
المصير الأعمى، في محاولتها اليائسة للانتصار
على الصدفة بواسطة العلم، أو الفن. «لتعلموا
تمامًا أنه ليس هناك إطلاقًا موضوع آخر»، كما
كتب «مالارميه»:
٤١١ «تعارض حلم الإنسان مع مصائر وجوده
التي يوزعها الشقاء.» كل تلخيص للقصيدة سيخونها
حتمًا، ما دام سيقلصها إلى دلالة سطحية، دون
اعتبار للتعقيد المدهش للعلاقات القائمة بين
الكلمات والأفكار، حسب توزيعها وموضعها على
الصفحة، ولم يكن المعلقون متفقين حتى في معرفة
ما إذا كان «الظل الصبياني» — الذي يظهر في
ظلمات الغرف، على سبيل المثال — يمثل
الفكرة النقية
للبطل (ج. ديفيز)، أم
للابن، الذي يعني تعاقب
الأجيال (و. ج. كون). لكن الغرق النهائي
للمحاولة الإنسانية، المدفونة في «الزُّبد
الأصلي»، والممتصة في المادة، في «الحيادية
المطابقة للهاوية»،
٤١٢ لا تدع مجالًا للشك – وهو ما يعوض
بظهور
كوكبة
النجوم، في الصفحة الأخيرة،
التي تنقش نجومها
على سطح ما خالٍ وراقٍ
الصدمة المتتالية
فلكيًّا
لحساب ختامي في حالة تكوين
وبعبارة أخرى، رمية النرد
الكبرى، التي تلقيها الروح الإنسانية على
امتداد تاريخ العالم.
ونرى إلى أي حد نفقر دلالة القصيدة بتقليصها
إلى ألَّا تكون سوى مجرد نوع من الاعتراف
الشخصي، والإقرار بإخفاق «مالارميه» وعجزه عن
إنجاز المؤلَّف، فما نستخلصه، من كل ما باح به
الشاعر، هو النقيض — على سبيل المثال — لما باح
به إلى «كلوديل»، الذي يصرح لنا بأنه «في ذهن
مالارميه، لم يكن هذا العمل سوى المحاولة
الأولى لقصيدة كبرى، أرادها — على غرار فلاسفة
اليونان القدامى — أن تنطوي على تفسير للعالم»،
٤١٣ أو إلى «ج. كان»، الذي تحدث إليه —
فيما يبدو — عن تسع قصائد أخرى ستلي هذه
القصيدة (مكتوبة مثلها، على ما يضيف «كان»،
«بالشعر الحر» …)
٤١٤ يبدو من الثابت — إذن — أن «رمية
نرد» كانت، في ذهن «مالارميه»، محاولةً أولى
لتحقيق
المؤلَّف الكبير، الذي حلم به
طول حياته.
هل يمكن لنا — مثلما يفعل «ج. ديفيز» — أن
نستخلص الحجة من الشكل الذي تبناه الشاعر،
فنعترض ﺑ «أنه يصعب الاعتقاد بأن مالارميه قد
تخلى عن الشعر التقليدي في عمل كان عليه أن
يمثل النموذج المثالي للكتاب»؟
٤١٥ والواقع أننا قد رأينا — في
الصفحات السابقة — إلى أي حد، على النقيض،
تتلاءم البنية المعقدة و«السيمفونية» ﻟ «رمية
نرد» مع مؤلَّف يتم إدراكه كعالم، وينبغي فيه
للإيقاع أن يتبدى «حتى في ترقيم صفحاته».
٤١٦ وأود — كختام — أن أؤكد على
الأهمية التي دعانا «مالارميه» بنفسه إلى منحها
لمحاولته في مقدمة «رمية نرد»، وأن أبين أن
الفكرة — شأنها شأن تقنية الشاعر — قد وصلتا،
فيما يبدو، إلى خاتمة كان يمكنها — لو لم
يختطفه الوقت بعد ذلك بقليل — أن تمثل بداية
ما.
وإذا ما كان «مالارميه» قد لاحقته وقادته
دائمًا فكرة الكتاب الأسمى، فإنه قد تردد
طويلًا في المقابل، كما رأينا، في اختيار
الأساليب المستخدمة لتحقيق المؤلَّف، وكثيرًا
ما نوَّع سواء في الشكل أو في النوع، مثلما
يلاحظ «أوستان»: «أحيانًا هي مسألة قصائد،
وأحيانًا مسألة مؤلفات نثرية، وأحيانًا مقطوعات
مسرحية، وأحيانًا قصائد غنائية …»
٤١٧ وليس في هذا ما يثير الدهشة، لأن
المرء — في مؤلف عليه أن يعكس الكون — يسعى إلى
إنتاج مؤلف كوني، يستقبل
كافة الأنواع، وكافة الأشكال.
ولهذا، يمكننا أن نفهم لماذا سعى «مالارميه» —
في خاتمة المطاف — إلى إنتاج مؤلَّف تركيبي،
ناقلًا إلى الكتاب بعض أساليب المسرح
والموسيقى، ونفهم أيضًا أنه أراد إنتاج تركيبة
من الشعر والنثر، وهو الذي كتب إلى «ج. كان»
عام ١٨٩٧م (ألم يكن يفكر في نفسه؟): «سيأتي
مؤلف أسمى يحل محل الشكلين».
٤١٨
وينبغي أن نؤكد أن مقدمة «رمية نرد» توضح لنا
أن «مالارميه» قد كف — في نهاية حياته — عن
اعتبار البحر السكندري ﮐ «شعر لا شخصي»، وشكل
مخصص بطبيعته لأن يستخلص «من العالم نشيدًا،
وكي ينير فيه الإيقاع الجوهري».
٤١٩ وتنتهي المقدمة بهذه الكلمات:
النوع الذي يصبح واحدًا مثل
السيمفونية يترك، تدريجيًّا، إلى جانب
النشيد الشخصي، الشعر العتيق بلا مساس،
ذلك الذي ألتزم إزاءه بالعبادة وأمنحه
إمبراطورية العاطفة وأحلام اليقظة،
فيما ستكون موضع معالجة وتفضيل (على
نحو ما يلي) موضوعات كهذه من الخيال
الخالص والمركب أو الذهني: التي ما من
سبب سيبقى لاستبعادها من
الشعر –
المصدر الوحيد.
٤٢٠
وهكذا، يعزل «مالارميه» — في ختام حياته
الأدبية — الشعر الكلاسيكي في مجال الغنائية
الشخصية، و«العاطفة وأحلام اليقظة»، ويبحث عن
خلق شكل أكثر تركيبًا و«سيمفونية» كي ينشد ما
أسماه «ترتيلة … العلاقات بين الكل».
٤٢١ وتتضح الإشارة إلى السيمفونية
بالفعل عندما نقرأ الخطاب الذي وجهه «مالارميه»
إلى «فاليري» عام ١٨٩١م:
ينبغي، من أجل إدراك الأدب، وكي يكون
له معنى، الوصول إلى هذه السيمفونية
السامية التي ربما لن يصنعها أحد:
لكنها طاردت حتى أكثر اللاشعوريين …
٤٢٢
مؤلَّف
سيمفوني، هذه الترتيلة
اللاشخصية التي يمكن «ألا
تحتوي على أي موقع»، هو أيضًا نشيد
ذهني رفيع لروح
تصعد إلى جوهر الأشياء كي تستشف — بشكل أفضل —
لعبة علاقاتها، وتعيد خلق الكون في كتاب.
حينئذٍ، يتحقق «نقل السيمفونية إلى كتاب»: إذ —
كي نسترجع، مرة أخرى، نص «أزمة الشعر» — «ينبغي
أن ينتج من الكلام العقلي في ذروته، في اكتمال
وجلاء، وكمجمل للعلاقات الموجودة في الكل، الموسيقي».
٤٢٣ وكان لموضوع المؤلَّف أن يصبح —
ولا نشك في ذلك — موضوعًا «من الخيال الخالص
والمركب»، وبعبارة أخرى، موضوعًا
ذهنيًّا.
لم يقم «مالارميه» — في «رمية نرد» — إلا
«بمحاولة أولى»، ﺑ «تلمس»، مثلما يكتب إلى «جيد»،
٤٢٤ «بهدف تحقيق هذه السيمفونية
السامية»، لكنه يشك — فيما يبدو — في أن يحقق،
من الآن فصاعدًا، وفي مستقبل قريب، المؤلَّف
النهائي. وفي عام ١٨٩٨م، وخلال استعداده لقضاء
الصيف في «فالفان»، بدا مفعمًا بالثقة، وتحدث
إلى «ﻫ. دي. رينيه» عن «انتصاره» القريب.
٤٢٥ وجاء الموت أكثر تبكيرًا من أن
يسمح له بأن يحقق — بشكل جيد — محاولات جديدة:
ففي ٩ سبتمبر ١٨٩٨م، قضى تشنج حنجري على
«مالارميه». واستطاعت زوجته وابنته أن تقرآ —
على ورقة مكتوبة ليلتها — وصاياه الأخيرة:
الأمر بحرق كومة ملاحظاته: «بما أنه ولا صفحة
مزدوجة يمكن أن تكون مفيدة، كما يقول
«مالارميه»؛ إذ إنني أنا الوحيد الذي يمكنه أن
يستخلص منها ما فيها … وهو ما كنت سأفعله، لو
لم تخُني السنوات الأخيرة الناقصة»، ويضيف
«مالارميه»: «صدقوني، لا بد أنه كان سيصبح
جميلًا للغاية».
٤٢٦
(٦) خلاصة معنى وقيمة المحاولة
المالارميَّة
المكانة المنفردة لمالارميه في
تاريخ قصيدة النثر
دوره في انتشار النوع
ألم يكن «مالارميه» يخدع نفسه؟ ألا يمكننا
الاعتقاد (هو نفسه اعتقد ذلك) بأن «المؤلَّف
الكبير» الذي حلم به، كان — بحكم تعريفه — غير
ممكن التحقق، وأن شاعرًا محصورًا في قدراته
الوحيدة ما كان بمقدوره أن يأمل شيئًا أفضل من
«عرض مقطع منفذ»، و«إفساح مكان للأصالة المجيدة
كي تتلألأ»؟
٤٢٧ علينا — في جميع الحالات — أن
نبتهج لامتلاك هذه المقاربة الأولى — «رمية
نرد» — التي كان من المستحيل بدونها متابعة
مسيرة فكر وتقنية «مالارميه» طوال مسارها، منذ
اللحظات الأولى التي يتم فيها إدراك المؤلَّف،
حتى النقطة الأخيرة التي يصل إليها عام
١٨٩٧م.
والواقع أن هذه المسيرة نموذجية: فهي تسمح
لنا — في الواقع — بمتابعة جهود شاعر ينحو إلى
مطلق اللغة، ويصطدم — باستمرار — بالمقاومة
التي تواجهه بها المادة اللغوية الشائعة التي
يضطر إلى استخدامها. صراع أبدي للشاعر
ضد
الكلمات
وبواسطة الكلمات: وقد خاضه
«مالارميه» بشكل أكثر وعيًا، وأكثر ألمًا —
حسبما يمكننا أن نقول — من أي شخص آخر.
والمحاولة الأولى «إيجيتور» – للتسامي بالنثر،
بمنحه طاقة مجهولة حتى الآن، من الإيحاءات وشبه
التعويذة لم تصل إلى إنجاز مُرضٍ. عندئذٍ،
التفت «مالارميه» إلى النظم، ﮐ «كلمة شاملة»
توحد عدة ألفاظ لتؤسس عنصرًا شعريًّا جديدًا،
وكأنه «غريب عن اللغة»، وهو يحلم طويلًا
بمؤلَّف من النظم إلى حد أنه من بيت الشعر إلى
القصيدة، ومن القصيدة إلى «الكتاب»، ستكون هناك
شبكة علاقات ضرورية، تنظيم يعكس نظام الكون،
لكنه — مرة أخرى، فيما يبدو — يواجه مقاومة لا
تُقهَر، تلك الخاصة بنظم الشعر نفسه، الذي تفرض
عليه قوانينه الصارمة مطلقًا شكليًّا صرفًا،
وحيث شكله الخطي («الذهاب والمجيء المتعاقب بلا
انتهاء للبصر، سطر ينتهي فإلى التالي، كي نبدأ
من جديد»)،
٤٢٨ لا يتحمل التعقيد «الكوني» الذي
يحلم به «مالارميه». وفي ذلك الحين، يستشرف
نمطًا آخر في تنظيم اللغة: إنه التركيب اللغوي،
الذي يُطَبَّق — هذه المرة — على الجملة، على
النثر — إذن — مثلما على الشعر المنظوم: وخلال
الصراع ضد تركيب الجملة الشائع، وبتنظيم
الكلمات في جملة وفق قوانين جديدة، يصبح من
الممكن التغلب على الاستسهال، والتدفق و«اطراد»
اللغة الشائعة، وأن نفرض على الكلمات تنظيمًا
يحكمه الذهن.
وفي هذه النقطة من أبحاثه، يلتقي «مالارميه»
— من ناحية — بالموسيقى وبشكل خاص، السيمفونية،
ومحاولات الشعر الحر، من ناحية أخرى. ويستخلص
منهما — في آن — عناصر لتأملاته ومساعيه
التقنية. وسيتوجه نحو تركيبة من الشعر المنظوم
والنثر (أو الجملة، إذا شئنا)، وسيحاول — من
خلال بناء قصيدة «رمية نرد»، «بشكل سيمفوني» —
تحقيق بنية معقدة يتماسك خلالها كل شيء، حيث كل
شيء ذو مغزًى وقيمة، لا في حد ذاته فحسب، بل في
العلاقة بالكل: جهد عظيم من أجل ألا يترك أي
شيء للصدفة، ومن أجل استخدام كافة مصادر اللغة،
و— في نفس الوقت — لخلق لغة جوهرية، قريبة من
المطلق بقدر ما يمكن أن تقترب به لغة
إنسانية.
ويمكننا — بالتأكيد — مناقشة القيمة الأدبية
ﻟ «رمية نرد»، وأن نتساءل ما إذا لم تكن محاولة
إيكارية، وبالتالي منذورة للفشل، تلك المحاولة
الخاصة بإرادة تخطي الإمكانيات الطبيعية للغة:
وبشكل خاص إرادة تطوير عدة عناصر بشكل
متزامن،
كما في توليفة موسيقية: ذلك أن الأذن إذا ما
كانت تستطيع التقاط عدة أفكار، فإن الذهن لا
يتابع أبدًا عدة أفكار في نفس الوقت، ورغم هذا،
فيمكن ملاحظة أن «مالارميه» لا يفعل سوى دفع
بعض الاتجاهات الأساسية للأدب إلى نقطة قصوى،
ونجد تكوينات «في حالة توازٍ» في النصوص الأقدم
— على سبيل المثال، في «أغنية رولان» — حيث
التطور المتوازي بين احتضار رولان الذي ينفخ في
بوقه، ومسيرة شارلمان وجيشه بعيدًا، ونعلم إلى
أي حد تجلى هذا «الاتجاه التزامني» لدى
الروائيين المعاصرين، من «سارتر» (طريق الحرية)
إلى «فوكنر» (بينما أحتضر)، دون حاجة لذكر
«عوليس» لجيمس جويس.
٤٢٩ فثمة ميل هنا إلى مقاومة الانسياب
الخطي للزمن، وإلى إثراء الأدب ببعد جديد،
فراغي، إذا جاز القول.
وينبغي أن نضيف أن «تزامنية»
رمية نرد، إذا ما
كانت قد وجدت أصداءً كثيرة في الشعر (مع
«تزامنية» بارزون، بطبيعة الحال، وبعض قصائد
«أبوللينير» و«كوكتو» و«سوبو»،
٤٣٠ على سبيل المثال)، فإنها لم
تُمارَس، ولم يكن بمقدورها أن تمارس تأثيرًا
مباشرًا على قصيدة النثر: فقصيدة النثر — وخاصة
الحديثة — أقصر، بإفراط، من أن تستخدم نسق
التسلسل التزامني لعدة موضوعات، فهي — بالأحرى
— تبدو كومضة، كاندغام شعري شديد الكثافة،
بأكثر من كونها بناءً في الزمن.
فأية مكانة — إذن — يحتلها «مالارميه» في
تاريخ قصيدة النثر، وأي تأثير مارسه على
تطورها؟
كما رأينا، لا يمكن اعتبار «رمية نرد» قصيدة
نثر، لكنها شهادة دالة، رغم هذا، على المساعي
التي جربها الشعراء — وقتئذٍ — لإسقاط الحاجز
الفاصل بين الشعر المنظوم والنثر، ولإيجاد شكل
من التركيب يستجيب لمحاولتهم الفنية «الشاملة».
لكن «مالارميه» يتبدى — على مستوى الفكر
الجمالي، كما على صعيد التقنية الشكلية — أكثر
عمقًا وجرأةً، في آنٍ، من معاصريه (فهو يترك
بعيدًا وراءه — على سبيل المثال — تركيبات
«غيل»، «المتعلقة بنشأة الكون» والطموحة). إن
مكانته منفردة، بالغة البعد والارتفاع، على
نقطة متقدمة من صخرة الشاطئ، حيث كان من الصعب
على شعر عصره أن يتبعه. وفضلًا عن ذلك، فإن
الرمزية أطلقت نيرانها عام ١٨٩٧م، وكان القرن
العشرين هو الذي حصد واستثمر الميراث الأدبي ﻟ «رمية نرد». لقد لعبت قصائد «مالارميه»
النثرية
دورًا في التاريخ الأدبي، منذ وقت مبكر تمامًا،
ويمكننا القول — عمومًا — أن التأثير الذي
مارسته كان متناسبًا طرديًّا مع أصالتها، وليس
في هذا ما يثير الدهشة: فخارج كل قيمة كامنة،
فإن تقدير قصائد «مالارميه» النثرية الأخيرة —
بالنسبة لنا — محكوم بقدر ما تحدد اتجاه خط سير
روحاني رائع، ومن الصعب تقييمها من وجهة النظر
التقنية الشكلية وحدها، وأيضًا تخيل اعتبارها
نماذج أدبية، بفصل شكلها عن دلالتها العميقة،
والواقع أن المقطوعات الأكثر إعدادًا، والأصعب
أيضًا، تلك التي أسس فيها «مالارميه» لغة داخل
اللغة، ما كان لها وما كان بمقدورها أن يكون
لها سوى تأثير مباشر ضعيف: القصائد الخماسية ﻟ «فونتينا»،
٤٣١ والتكوينات المنمقة ﻟ «فرايران» في
أولى قصائده النثرية،
٤٣٢ توضح تمامًا ما يمكن أن يصبح عليه
الشكل الشخصي البالغ الصرامة لمالارميه، عندما
يصبح نسقًا. وينبغي — وهو أمر حقيقي — أن نعترف
بأن تأثير هذه النثريات قد تحقق، مع ذلك في
العمق، وبصورة متأخرة تقريبًا، وأن «كلوديل» —
على سبيل المثال — لن ينسى، في «معرفة الشرق»،
درس تركيب الجملة بأسمى معانيه، والكتابة
المدروسة، التي قدمتها القصائد المجموعة عام
١٨٩١م في «صفحات».
٤٣٣
وبالمقابل، فإن أولى القصائد ذات البنية
والكتابة السهلتين نسبيًّا، والقابلة للتمثل
بالتالي، والمندرجة في خط «بودلير» (المنقحة
بذكرى من «مقاطع» برتران)، قد أتاحت انطلاق
أسراب من قصائد النثر، في فترة كان الشعراء
الشبان يبحثون خلالها عن التحرر من طغيان
الأشكال الكلاسيكية: مرة أولى عام ١٨٦٧م خلال
نشرهم في «روفي دي ليتر إي ديزار» ومرة ثانية
عام ١٨٨٦م، عندما نشرت «لافوج»، مجلة الرمزيين
المقبلين، ثلاثًا منها ﮐ «نوع من البيان العام»،
٤٣٤ فقد «حددت» هذه اﻟ «
صفحات» اﻟ «
منسية»
— على ما يقول «ر. دي جورمون» — «تفتحًا كاملًا
لقصائد النثر، التي سرعان ما امتلأت بها
المجلات الصغيرة». مصير غريب في الحقيقة:
فنثريات (وأشعار) فترة الشباب هذه — المنشورة
قليلًا أينما كان، في كل مرة ظهرت فيها الأعداد
الأولى من
مجلة
أدبية»
٤٣٥ — قد مارست تأثيرًا، حاسمًا
أحيانًا، على عدد من الشعراء الشبان، في اللحظة
التي كان مؤلفها — وقد أصبح لا مباليًا بهذه «المزق»
٤٣٦ — مستغرقًا في إعداد عمله المعماري
الكبير، ويجد في الهرب من «المكيدة المدرسية».
٤٣٧ وسنجد في الصفحات التالية اسم
«مالارميه» في كافة منعطفات تاريخ الرمزية،
وقصائده النثرية — التي سيهجرها القرن العشرون
لفترة طويلة، لصالح الشعر المنظوم
٤٣٨ — وقد احتلت في هذا التاريخ، وخاصة
في البحث عن شكل شعري، مكانة هامة. وفضلًا عن
ذلك، ألم يجمع «مالارميه» في ديوان — كي يستجيب
للعديد من الالتماسات — صفحاته النثرية
أربع
مرات؟
٤٣٩
وهكذا، فإن «مالارميه» — الذي أضعه إلى جوار
«بودلير» و«رامبو» و«لوتريامون»، مع عدد من
الشعراء الذين ترتبط مشكلة اللغة الشعرية لديهم
بالبحث الميتافيزيقي — قد وجد نفسه مشتبكًا في
أبحاث أكثر شكلية بكثير من عهد الرمزيين؛ إذ
استمرت حياته عشرين عامًا بعد الشعراء الثلاثة
المذكورين، ولن ننسى — مع ذلك — أننا سنراه،
خلال الفصول التالية، وقد أصبح مؤسس مدرسة دون
قصد منه، وأن نتاجه الحقيقي قد تم اقتفاؤه
«بغموض من أجل إدراكه فيما بعد، أو – أبدًا»،
٤٤٠ وأن صراعه الحقيقي لم يكن ضد هذا
أو ذاك، بل ضد «الصدفة»، أو — إذا ما فضلنا —
ضد المادة باسم «الروح»، «التي ليس لديها ما
تفعله أبدًا غير موسيقية الكل».
٤٤١