الفصل الرابع

مالارميه وميتافيزيقا اللغة

  • (١)

    قصائد الشباب: المرحلة «الصافية» لمالارميه (١٨٦٢–١٨٦٥م).

  • (٢)
    تكوين المذهب الجمالي: الأزمة الميتافيزيقية والخلاص بالجمال، النظرية الهيجلية للانتقالة، مفهوم «المؤلَّف الكبير». دور اللغة في البحث عن المطلق، اللغة الشعرية والصراع ضد الصدفة.
  • (٣)
    «إيجيتور» و«رموز العدم الباذخة». اللغة الرمزية. تقنية الإصاتات.
  • (٤)

    قصائد النثر من ١٨٧٠م حتى ١٨٨٧م. تطور الأسلوب بين عامي ١٨٧٠م و١٨٧٥م: «الموضة الأخيرة». تكوين التركيبة اللغوية المالارميَّة: النزوع إلى التجريد، والنزوع إلى التركيز، والنزوع إلى إعادة بناء الجُملة. قصائد النثر الأخيرة (١٨٨٥–١٨٨٧م).

  • (٥)

    رمية نرد، اكتمال المذهب المالارمي وتركيبة الشعر والنثر.

  • (٦)

    الخلاصة: معنى وقيمة المحاولة المالارميَّة. مكانة منفردة لمالارميه في تاريخ قصيدة النثر. دوره في انتشار النوع.

***

ثمة الكثير من النقاط المشتركة — على نحو ما سبق أن رأينا — بين «لوتريامون» و«رامبو»، أما «مالارميه»، فينتمي إلى عائلة ذهنية أخرى: ففي حين يقترح الأولان — على نفسيهما — أن يقتحما أبواب المجهول، يأخذ الأخير على عاتقه المطاردة شبه اليائسة للمطلق العنيد، ولا شك أن كلًّا منهم — شأنه شأن الآخرين — قد اعتمد فكرة الغموض في الشعر، وهو ما يرجع إلى أنهم حمَّلُوا اللغة بجهد غير مسبوق، في رغبتهم في «ابتكار لغة»، وإعادة جميع الطاقات الأصلية إلى الكلمات، باستعادة الشعر، عمومًا، لقدراته الإبداعية وقيمته الميتافيزيقية. ومثل هذا الطموح — الذي قادهم إلى البحث عن شيء آخر غير الأشكال الشعرية الموجودة، وإلى كتابة قصائد نثر — يخلق بينهم رابطًا لا يمكن تجاهله، ورغم هذا، فإن الأساليب المستخدمة مختلفة جذريًّا، وتم التأكيد — أكثر من مرة — على المسافة الفاصلة بين «منهج رامبو» في «التشويش المدروس لكل الحواس» ومنهج «مالارميه» في «الامتلاك الكامل لكل الملَكات».١
وينبغي أن نضيف أنه إذا كان «رامبو» و«لوتريامون» قد أنجزا أعمالهما على انفراد، فلم تمارس تأثيرها إلا متأخرًا، فإن «مالارميه» — على العكس — قد اختلط، بعمق، بالحركة الرمزية، لقد استُخدِم اسمه كشارة التقاء مجموعة بكاملها، ومنحت مؤلفاته وأقواله — التي تملقها البعض، وسخر منها البعض الآخر بعنف — الإلهام إلى عديد من الشعراء الشبان، وبالعكس، فقد استفادت جماليات وتقنية «مالارميه» من نشاط الطليعة الشعرية، وبشكل خاص، من الثورة الشكلية: وهو نفسه أقر بأن «رمية نرد» قد ساهم «في المحاولات الخاصة والأثيرة لزمننا: الشعر الحر وقصيدة النثر».٢
ومع ذلك، فلم أعتقد أنه من الضروري إرجاء دراسة المرحلة الأدبية الأخيرة لمالارميه إلى الفصل الذي سأدرس فيه التحرر الشكلي الذي أنجزته الرمزية، فقبل كل شيء، فإن قصائد «مالارميه» النثرية — (منذ نثر الشباب، الذي ستنضم إليه — في «هذيانات» — نثريات أخرى، أكثر تأخرًا وغموضًا،٣ وصولًا إلى «رمية نرد»، التي تكاد — إلى حدٍّ ما — أن تكون وصيته الشعرية) — هي أعلام على هذا الطريق الصعب الذي سلكه الشاعر لأكثر من ثلاثين عامًا، عندما كان يعاني من أجل إحداث التفكيك في اللغة الشعرية — المبهمة والجوهرية — وفي اللغة اليومية، وبفضل الوثائق — التي تفوق التقدير — والتي نشرها الأستاذ «موندور» لتضيء — من الآن فصاعدًا — حياة ومؤلفات وفكر «مالارميه»،٤ وأيضًا بفضل الدراسات الحديثة التي سمحت بها هذه المطبوعات،٥ فإننا — الآن — أفضل حالًا لمتابعة مسيرة الشاعر، وستقودنا دراسة تجاربه في النثر — التي تتعاقب بشكل متوازٍ مع مؤلفاته في الشعر المنظوم — إلى هذه النتيجة التي تكمن في أنه سواء أكان نظمًا أم نثرًا، فإننا نجد أنفسنا دائمًا أمام نفس الجهد لخلق لغة شعرية خالصة، ولتطبيق ما ينبغي أن نسميه — حقًّا — «ميتافيزيقا اللغة».

(١) قصائد الشباب

«وأنا طفل، في المدرسة، كنت أكتب حكايات من عشرين صفحة، وكنت مشهورًا بأنني لا أعرف أن أتوقف»، ذلك ما نقرؤه في خطاب كتبه «مالارميه» إلى صديقه «لوفيبور» عام ١٨٦٥م. «كنت أتمتع بإطناب وإسهاب حماسي، وأنا أكتب عفو الخاطر، طبعًا …».٦ والحكاية التي كتبها تلميذ الصف الثاني أو الثالث في «سانس» — «ما قالته اللقالق الثلاثة»، وأعاد البروفيسور «موندور» نشرها في كتابه «مالارميه أكثر حميمية»٧ — هي مثال جيد لهذا الإطناب، الذي لا يُعْتَبَر ابتذالًا مع ذلك، ولا نعلم ما الذي يسترعي الانتباه أكثر في هذا النص — (إحدى وثلاثون صفحة مزدوجة منسوخة بعناية): أهو الظهور المسبق — في نثر الخمسة عشر عامًا هذا — لبعض الموضوعات الأساسية، «الوردة، البياض، الملاك، اللازورد، الزنبق، عويل الشتاء، الصَّدقة، والأناشيد الحالمة …»٨ أم هذا الانسياب الشعري، الشديد البعد عن أنساق الكتابة المالارميَّة في المستقبل؟ «في أي شيء يختلف تلميذ هذه الفترة، الحقيقي، والمندفع، عن الأدب الحالي، الذي يأنف من قول شيء دون تنسيق؟» ذلك ما سيضيفه «مالارميه» — أيضًا — في نفس خطاب عام ١٨٦٥م هذا، بعد سبع أو ثماني سنوات فحسب من كتابة الحكاية. وفعلًا، سنرى التلميذ وقد تحول إلى معنيٍّ بالأدب، خلال بضعة الأعوام هذه، وهي الفترة التي يمكن تسميتها بالمرحلة «الصافية» لمالارميه.
وها نحن الآن في عام ١٨٦٢م: وقد نشر «مالارميه» — البالغ من العمر عشرين عامًا — أول مقال له (عن «أشعار باريسية» للشاعر «أ. دي إيسار»)، وقصائده الأولى المنظومة (مذكرة، الشؤم)، وفي شهر سبتمبر، يحتج — في مقال غريب نُشِرَ في «لارتيست»٩ — على «البدعة الفنية التي تنكر ضرورة ما سيسميه — فيما بعد — «السر الخفي في الآداب»: فهو يطالب ﺑ «لغة نقية» للشعر، وصياغات كهنوتية» تدافع عنه ضد الدنيويين، فهل نقول إن الشاعر الشاب قد بحث — مسبقًا — عن تطبيق تعاليم كهذه، وعبر من الشفافية إلى القتامة؟ إطلاقًا: فالقصائد التي يكتبها «مالارميه» في هذه الفترة — سواء كانت نثرًا أم نظمًا — تتمتع بكتابة صافية، وطريقة صياغة أرثوذكسية، مطمئنة لمتبلدي الذهن الذين يحتقرهم «مالارميه». ونعلم أنه أرسل — في عام ١٨٦٢م — إلى «منديس»، من أجل «المجلة الفانتازية» (التي نشرت — في نفس السنة — عدة قصائد نثر لبودلير)، مجموعة قصائد بعنوان «حفلات تنكرية»، رفضها «منديس» بكياسة.١٠ فهل كانت قصيدة النثر «ربات شعر فرنسا والأقاليم» — التي عثرت عليها السيدة «سوفران»١١ مؤخرًا — من بينهم؟ هذا محتمل جدًّا، وعلى أية حال، فمن الواضح أن هذه القصيدة الرديئة سابقة — على نحو صريح — على قصائد النثر التي كتبها «مالارميه» في «تورنون»، حوالي عام ١٨٦٤م، و«ربة شعر الأقاليم» مستوحاة — مباشرةً — من قصيدة «ميريي» للشاعر «ميسترال» (نُشِرَت «ميريي» عام ١٨٥٩م). أما «ربة شعر فرنسا»، التي تتغنى «بعاهرات ممشوقات، ووحوش قطبية، وقوافل عربية، وبالموت والجحيم، والملل الشاسع، والراحة الأبدية»، فهي قصيدة بودليرية بشكل مرعب: فمالارميه، الذي نقل — اعتبارًا من عام ١٨٦٠م، في مختاراته الشخصية — ثلاثين قصيدةً من «أزهار الشر»١٢ — قد وقع، حقًّا، تحت تأثير «بودلير» حتى عام ١٨٦٥م.
وفي عام ١٨٦٢م أيضًا — وهو العام الذي ظهرت فيه، في «لابريس»، عشرون قصيدة نثر لبودلير — كتب «مالارميه» قصيدة «ظهور» والنسخة الأولى من «صَدَقة»، البودليريتين على نحو صريح. لكن ينبغي — فيما يبدو — انتظار إقامته في «تورنون» (حيث قام بتدريس اللغة الإنجليزية من نوفمبر ١٨٦٣م حتى أكتوبر ١٨٦٦م) كي نراه يكتب أولى قصائد النثر هذه، التي سينشرها صديقه «فييه دي ليل آدام» عام ١٨٦٧م، في مجلته «روفي دي ليتر ايه ديزآر» (مجلة الآداب والفنون)، تحت عنوان «صفحات منسية». ونُشِرَت قصيدة «الرأس»١٣ في «لاسومين دي كوسيه وفيشي» في ٢ يوليو ١٨٦٤م، في نفس وقت قصيدة «أرغن صغير نقال»،١٤ التي نعلم أنها كُتِبَت بتاريخ ١٣ مايو، إضافةً إلى قصيدة ثالثة، هي «الغليون».١٥ وفيما يتعلق بتاريخ تأليف قصيدة «اليتيم»،١٦ فليس معروفًا بدقة، أما في قصيدة «أحاديث شتوية»،١٧ فنقرأ هذه الجملة: «ألم ترغبي، يا أختي ذات النظرة الغابرة، أن تظهر في إحدى قصائدي هذه الكلمات: «نعمة الأشياء الذاوية»،١٨ التي تسمح بتأريخها بعام ١٨٦٤م، تقريبًا: فهذه الكلمات: «بأفضال الأشياء الذاوية» تظهر — في الواقع — في واحدة من قصائد النثر الثلاث، التي شكلت «سيمفونية أدبية»، ونُشِرَت في «لارتيست» في الأول من فبراير ١٨٦٥م، لكنها كانت قد كتبت في شهر أبريل ١٨٦٤م.١٩
ومنذ القراءة الأولى، تدهشنا الطريقة البودليرية لهذه القصائد، وفيما يتعلق بقصيدة «أرغن صغير نقَّال»، تُعلق السيدة «نوليه» بأنه «لا يكفي القول بأننا نشعر فيها بتأثير بودلير: إنها — حقًّا — الإخراج الشعري لمقطع من مقدمة «حكايات عجيبة»، حيث الأفكار عن الأدب، والانحلال، والشمس الغاربة، والشكل المتكلف – تُستَمَد الواحدة من الأخرى».٢٠ وسيُقال إنه ليس من الأصالة الكاملة الربط بين الشمس الغاربة، والخريف والانحلال،٢١ وإنه ليس من الضروري — كي نُشبِع هذه الشهوات السوداوية — أن نكون قد قرأنا «بودلير»: يكفي أن نكون قد فقدنا — مثلما هو الحال مع «مالارميه» — شخصًا غاليًا علينا.٢٢ لكن الصحيح أن أجواء القصيدة كلها بودليرية بما يكفي، وأن المفيد — في هذا الصدد — أن نقارنها بقصيدة النثر الصغيرة ﻟ «لوفيبور» — صديق «مالارميه»، المتأثر هو الآخر ببودلير — التي يُستدعى فيها «الزوال المحجوب» ﻟ «الخريف» و«جماله المحتضر»، وأيضًا بقصيدة «أرغن صغير نقَّال»، التي تطوف «موسيقاها النائحة»٢٣ عبر الشوارع … وفضلًا عن ذلك، فآثار التأثير البودليري على «مالارميه» ليست مقتصرةً على قصيدة «أرغن صغير نقَّال»: وكي نكتفي ببضعة أمثلة، فإننا نجدها في المناداة ﺑ «أختي» الموجهة إلى المحبوبة في «أحاديث شتوية»، وأيضًا — بلا شك — في الهموم الإنسانية في قصيدة «الرأس» التي تتسم بشيء من المخالفة لما هو مألوف لدى «مالارميه»، بما يجعلنا نفكر في «بودلير» عامي ١٨٦١-١٨٦٢م (لنتذكر الفقير الصغير في «الجاتوه»،٢٤ الشديد الشبه بشحاذ «مالارميه» الصغير، بأسماله وهيئته الجائعة وعينيه الشرستين): فإعجاب «مالارميه» ﺑ «سأم باريس» يثبته مشروع مقال بعث به إلى «كولينيون» عام ١٨٦٤م.٢٥
لم يكن «مالارميه» — في هذه الفترة — قد تحقق تمامًا، فما يزال عليه أن ينجز عملًا متأنيًا في التنقيح كي يعثر على نفسه تحت بهرجة الاقتباسات، وفضلًا عن ذلك، فمن العجيب أن نراه — في هذه الفترة — موزعًا بين الأسلوب «الحكائي» وشبه النثري أحيانًا، الذي تبناه «بودلير»، والصيغة «الفنية» لبرتران، التي كان يعرفها ويُعجَب بها أيضًا، وبعض هذه القصائد الخمس يبرر — تمامًا — عنوان «حكايات» الذي سيمنحه لهم عام ١٨٩٧م في ديوان «هذيانات»، لكن — في حين أن أقل حادث في الحياة العادية سيصبح مبررًا له، فيما بعد، كي يرتقي بفعل أسلوب بارع رائع، مكثف واستعاري حتى جوهر الأشياء — فإننا نجد هذا العنصر البيوجرافي مستخدمًا بطريقة مباشرة شبه ساذجة: يتم التعرف — بسهولة — على منزله في «تورنون» و«ساعته الدقاقة من ساكس، التي تؤخر (الوقت) وتدق الساعة الثالثة عشرة بين أزهارها وآلهتها»، في «أحاديث شتوية»،٢٦ وعلى ميدان «بنتون» في «أرغن صغير نقَّال»،٢٧ و— في «الغليون» — على بيت لندن، و«أشجار الميدان المهجور المريضة»،٢٨ و«ماري جيرهار» وهي تُلَوِّح من السفينة البخارية ﺑ «المنديل البشع الذي نلوح به ونحن نتبادل الوداع للأبد».٢٩ ولا يوجد في «الغليون» أي جهد في «التكوين» الفني، والأسلوب موحَّد إلى حد النثرية، والمحاولة الوحيدة هي تلك الخاصة بنوعٍ ما من «الواقعية» الحداثية («الخادمة ذات الذراعين الحمراوين وهي تقلب الفحم، وصوت هذا الفحم المتساقط من الدلو الحديدي، إلى السلة المعدنية في الصباح».)
وفي لحظات أخرى، يكون تأثير «برتران» هو المسيطر: ولا شيء يدهش في ذلك عندما ندرك إعجاب «مالارميه» العميق، الذي أكنه في شبابه لمبدع قصيدة النثر (الذي أحالته إليه مقدمة «قصائد صغيرة» لبودلير، المنشورة في «لابريس» عام ١٨٦٢م): فعندما حُرِمَ — في «تورنون» — من «جاسبار الليلي»، طلب من «فيكتور بافي» نسخةً منه: «إنه صديق، ذلك الذي تقدمه لي»، ذلك ما قاله وهو يتلقى النسخة،٣٠ ومن المحتمل تمامًا — على نحو ما يقترح «موندور» — أن يكون «مالارميه» هو الذي حفز «فييه دي ليل آدام» على أن ينشر، في «روفي دي ليتر إيه ديزار» — مقتطفات كبيرةً من «جاسبار» كانت قد نُشِرَت عام ١٨٦٧م، في نفس الوقت مع خمس «صفحات منسية»، وكل مرة سعى فيها «مالارميه» — خلال هذه الفترة — إلى تنغيم نثره، وتقطيعه إلى مقاطع، فقد كان ذلك — بالتأكيد — تحت تأثير «برتران»: فقصيدتا «أحاديث شتوية» و«الرأس» مقسمتان إلى مقاطع قصيرة، وتقدم «أحاديث شتوية» — فضلًا عن ذلك — مؤثر اللازمة التي تَرِد أربع مرات، بما يذكرنا بمقطوعات من «جاسبار» (البغَّالون، مثلًا).
وسيتمثل نسق آخر في استعادة نفس الكلمات أو نفس الموضوعات خلال المقطوعة الواحدة: هكذا يتكرر — في قصيدة «الرأس» — كلمة «رأس» التي تمثل أيضًا آخر كلمة في النص، ونهاية قصيدة «أرغن صغير نقَّال»، التي تحشد — بطريقة موفقة، يمكن وصفها بأنها «سيمفونية» — كل الموضوعات المطورة من قبل:

آه، أيها الأرغن الصغير النقَّال، عشية الخريف، في الساعة الخامسة، تحت أشجار الحُور المُصفَرة، يا ماري!

وفيما بعد، سيحذف «مالارميه» هذه النهاية، لاعتقاده — بلا شك — أنها مفتعلة إلى حدٍّ ما،٣١ وفيما يتعلق بمؤثرات «الاستعادات» هذه، يمكننا الآن أن نذكر تأثير «بو»، الذي كان «مالارميه» قد بدأ ترجمته في مدرسة «سانس» منذ عام ١٨٦٠م: فثمة هنا بحث عن «المؤثر» الذي ينبغي إنتاجه، بما يذكرنا بنظريات مؤلف «الغُراب»، تلك النظريات التي نرى «مالارميه» يعلق عليها في يناير ١٨٦٤م، ويطبقها في قصيدته المنظومة «اللازورد».٣٢ وقد نُشِرَت «الرأس» و«أرغن صغير نقَّال» في يوليو ١٨٦٤م: ويبدو أنه في هذه النثريات — كما في «اللازورد» — «ما تزال الكلمة الأولى — التي تتلبس الفكرة الأولى، إضافةً إلى أنها تنحو هي بذاتها إلى التأثير العام للقصيدة — تُستَخدَم في التمهيد للكلمة الأخيرة».

وما يزال «مالارميه» يبحث عن «وصفات تقنية»، ولا شك أنه عبر التقليد، وتحت تأثير شواغل غريبة من عبقريته الخاصة، ينكب على أبحاث إيقاعية، هو الذي سيسعى باستمرار — فيما بعد — إلى كسر الجملة، والهرب من كل مؤثر خطابي، وكل تنغيم مفروض من الخارج، لكنه الآن يقاوم تسهيلات التدفق الغنائي، ويتنبأ — بنفسه — بأنه كلَّما تقدم، سيصبح مخلصًا ﻟ «الأفكار الصارمة» لأستاذه «بو»، فيما يتعلق بانتقاء الكلمات وصرامة التكوين.

وفي فبراير ١٨٦٥م، تنشر «لارتيست» — تحت عنوان «سيمفونية أدبية» — ثلاث قصائد نثر لمالارميه،٣٣ كانت مع ذلك — كما سبق أن رأينا — قد كُتِبَت منذ حوالي عام، وتفتتح القصيدة الثانية منهم — المخصصة لبودلير — صيغة «المشهد الرمزي»:٣٤ وسيُعاد نشر القصيدة — بعد تغييرها جذريًّا — في هذيانات».٣٥ ومن المدهش أن نرى كيف تختلط — في النص الأوَّلي — الموضوعات البودليرية الكبرى، والموضوعات التي ستصبح مالارميَّةً خالصة (خصلات الشعر، ريش الطيور، ملائكة موسيقيون):
في جرانيت حوافهم الأسود، الذي يرصع الأحجار الكريمة من الهند، تنام مياه ميتة معدنية مع ينابيع ثقيلة من النحاس، حيث يسقط بحزن شعاع غريب مفعم بأفضال الأشياء الذاوية، ما من وردة، على الأرض، في الجوار، — فقط، بين حين وحين، تتساقط بضع ريشات من أجنحة لأرواح خائرة القوى (…) أية أعجوبة، احمرار فريد، ينتشر حوله أريج مسكر من خصلات الشعر المتحررة، يسقط شلالًا من السماء المعتمة! (…) ملائكة بيضاء مثل خبز الذبيحة تنشد وجدها على قيثارات تقلد أجنحتها، وعلى صنوج من ذهب خام، وأشعة صافية محاطة بأبواق، وطبول، حيث ترن بكارة الرعود الفتية: والقديسات معهن سعف نخيل …٣٦
ويبدو أن هذا العام — ١٨٦٤م — قد حدد أول ظهور، في سماء «مالارميه» الشعرية، لكوكبة نجومه الاستعارية الأساسية. وقد بدأ «مالارميه» في العمل في قصيدة «هيرودياد» في شهر أكتوبر، وفي نهاية الخريف، يكتب — نثرًا — قصيدة «ظاهرة مستقبلية» التي سيبعث بها إلى صديقه «كازاليس» في شهر ديسمبر.٣٧ ومثل «هيرودياد»، تقع قصيدة «ظاهرة مستقبلية» في نقطة التقاطع بين أعمال الشباب ومؤلَّف كبير، الذي لن يتأخر الشاعر عن وضع أسسه، ولا يدهشنا أن نرى — من قصيدة النظم إلى قصيدة النثر — تجاوب نفس الموضوعات، التي ستصبح الموضوعات المالارمية الكبرى، موضوعات خصلة الشعر،٣٨ والأحجار الكريمة (التي تصبح هنا، عيون امرأةٍ أو أخرى)، وأيضًا نفس تأثيرات الاستعارات الجريئة، الإيحائية أكثر من الوصفية، طبقًا للجماليات الجديدة لمالارميه، الذي يريد — من الآن فصاعدًا، على نحو ما يكتب إلى «كازاليس» في شهر أكتوبر — «لا تصوير الشيء، بل الأثر الذي ينتجه».٣٩ وكي نكتفي بمثال واحد، يمكننا أن نعقد مقارنةً بين «النضارة الشجية» للعينين في «هيرودياد»، و«هذه النظرة التي تتجاوز جسدها السعيد» في «ظاهرة مستقبلية».٤٠
ومن المثير للاهتمام أيضًا أن نرى «مالارميه» — انطلاقًا من هاتين القصيدتين — يستخدم الجناس بطريقة منهجية: لا يمثل ذلك — بعد — ثمرة تأملات عميقة في اللغة (وسنراه في «الكلمات الإنجليزية»، عام ١٨٧٧م، يقدم فلسفةً حقيقيةً للجناس)، فالأمر لا يعدو، حتى هذه اللحظة، أن يكون بحثًا فنيًّا، دفعته إليه ترجماته لإدجار آلان بو، فكل ترجمة لشاعر تقود إلى طرح الأسئلة حول آليات اللغة، وتوافق الإصاتات مع المشاعر التي نريد إيقاظها، وحول انتقاء الكلمات بهدف الإيحاء أكثر من التعبير عن المعنى: عديد من المشاكل التي أدت إلى تدعيم ميل «مالارميه» إلى تأمل الحقائق اللغوية ودلالاتها، ألن يعبر عن أسفه — فيما بعد — على أن كثيرًا من الشعراء قد ابتلوا — لأنهم ليسوا متعددي اللغات — ﺑ «عاهة» حقيقية، «ستدعم، لديهم، الوهم بأن شيئًا منطوقًا بالطريقة الوحيدة التي يعرفون أن يسموه بها، إنما يبدو طبيعيًّا».٤١ ومن الغريب أن نرى «مالارميه» — وهو ما يزال تلميذًا في المدرسة، وبعد الترجمة الحرفية لقصيدة «الغراب» لبو — يضيف ملحوظةً في إحدى كراساته، بالقلم الرصاص، للتعبير عن الأسف لأننا، لدى قراءة الترجمة، «لا نشك في جمال الإيقاع الفاجع»، ويسجل — بصدد «لا أبدًا بعد الآن» الشهيرة — «إنها واحدة من أجمل الكلمات الإنجليزية لفكرة حزينة إلى هذا الحد، وإنه لصوت فاجع يحاكي — على نحو رائع — نعيق حنجرة الزائر الغريب».٤٢ والواقع أن دور الجناس — في شعر «بو» — مدهش بشكل خاص، فقد تساءل «مالارميه» — على سبيل المثال — عن كيف يدخل، في الترجمة الفرنسية، رهافة المقاطع اللفظية لقصيدة «آنابيل لي»، أو الإصاتات الخفيضة والغامضة في «أولا لوم»:٤٣ يا لها من مشاكل كثيرة!
ولن نندهش — إذن — من رؤية الجناس الكثير والقصدي تمامًا في «هيرودياد» (pleure parmi l’or vain quelque pleur étranger, etc …: فلتدمع مع الذهب الباطل دمعةً ما غريبة … إلخ).٤٤ لكننا نستطيع التفكير أيضًا في أن الجملة الأولى من «ظاهرة مستقبلية»، مثلًا:

سماء شاحبة، على عالم ينتهي إلى التداعي، ربما سترحل مع السُّحب …

تنطوي على جناس لا يقل قصدية.٤٥ ولن يستغرق الأمر طويلًا ليمنح «مالارميه» — وهو يخطط ﻟ «إيجيتور» — كل اهتمامه إلى البنية الصوتية للجملة.
وسنتوخى الحذر — فيما يتعلق بتركيب الجملة والأسلوب — إذ يبدو أن «ظاهرة مستقبلية» قد عُدِّلَت خلال نشرها في «ريبوبليك دي ليتر» عام ١٨٧٥م، وسنلاحظ — رغم هذا — الملامح الأساسية التي تظهر، في نفس الفترة، في «هيرودياد»: مثل هذا التركيب الذي يفضله «مالارميه»، والذي يكمن في المضاف بحرف الجر de: «le monde qui finit de décrépitude - عالم ينتهي إلى التداعي»، «le cerveau ivre un instant d’une gloire confuse, hantés du Rythme et dans l’oubli d’exister à une époque qui survit à la Beauté - الرأس الثملة للحظة بانتظار غامض، مسكون بالإيقاع، وفي نسيان الوجود في حقبة تُبقي على الجَمال» (قارن، في «هيرودياد»: «ليلة بيضاء من ندف الثلج والجليد الأليم»، «هو أن تكون عذراء») — تركيب يحبذ الصياغات المجردة: «العُرى الدامي لشفتيها»، بدلًا من «شفتاها الداميتان والعاريتان»، و«في نسيان الوجود» بدلًا من: ناسين أنهم موجودون. وبجانب جُمَل ما تزال مسهبةً وخطابية، نرى صياغات شديدة الإيجاز مثل هذا الاختصار الآسر: «الشمس التي (…) تغوص في يأس صرخة». وتظهر أيضًا بعض الكلمات مثل «عديد»، و«لا أحد»، و«بعض»، و«سدى» (وكلها من مقطع واحد، وبالتالي فهي ضد الخطابية)، ستشكل — فيما بعد — عادات حقيقية في أسلوب «مالارميه»، وأيضًا «ساذجة» بمعنى «طبيعية»،٤٦ و«أولية» بمعنى «بدائية»،٤٧ حيث يتكشف الميل إلى قبول النادر، مع صوابه الاشتقاقي.
وثمة نتيجة تفرض نفسها عليها: وهي أن «مالارميه» — في هذا التوقيت من عامي ١٨٦٤-١٨٦٥م — قد بدأ الصراع ضد الاستسهال والتدفق، والكليشيه، فهو يدرك العمل الشعري باعتباره تدريبًا في الصرامة والتكثيف، ولا شك أنه سيستدعي — بصدد الشعر المنظوم — الجهد المضني الذي كبدته له «دراسة صوت ولون الكلمات»٤٨ — المضني إلى حد اعتقاده، أحيانًا، أنه «انتهى»،٤٩ وأصبح عاجزًا عن إكمال «هيرودياد»، وإلى حد أن الشكل الأكثر حرية من قصيدة النثر كان يبدو له — في لحظات معينة — مثل تسلية تقريبًا، وصديقه «كازاليس» — الذي نُشِرَ عام ١٨٦٥م «حياة حزينة Vita Tristis»، وهي قصيدة مكتوبة نظمًا ونثرًا٥٠ — ألم يحصل، نثرًا، على نتائج مرضية بأكثر مما في النظم؟٥١ وصديقه «لوفيبور»، الذي أخذ يتسلى — هو أيضًا، حوالي عام ١٨٦٤م — بكتابة بضع قصائد نثر،٥٢ ألم يشجعه على اعتبار قصيدة النثر نوعًا من صناعة «حُلى أدبية»،٥٣ فنية ومسلية في آنٍ، وأسهل من قصيدة النظم؟ لكن «مالارميه» كان قد ودع — بصورة نهائية — الاستسهال في كافة المجالات. حتى نثره، يتكشف الآن عن فض للُّغة المشتركة، وعن تلخيص وكثافة في التعبير،٥٤ لا يرجعان في شيء من ذلك إلى «بودلير». وتسبق تقنية «مالارميه» — إذا صح القول — جماليته.

(٢) تكوين المذهب الجمالي

مالارميه واللغة
لن يكون على «مالارميه» — حقًّا — أن يتبرأ من السطور التي حدد فيها — إلى «كازاليس» عام ١٨٦٤م — ما هو جوهري في «شعريته» وقتئذٍ: «لا تصوير الشيء، بل الأثر الذي ينتجه٥٥ وسنجد نفس روح رد الفعل — أيضًا — ضد الشعر الوصفي، عام ١٨٩١م، عندما سيؤكد لجول هارت أن على الشعر ألا يسمِّي، بل أن يوحي بالأشياء.٥٦ لكن هذا البحث عن الإيحاء — عام ١٨٦٤م — لم يكن ليزيد عن بحث تقني، لا يستند على صيغة جمالية واضحة، فقط في عام ١٨٦٦م، سنرى «مالارميه» يتخطى هذه المرحلة الأدبية الخالصة، أو — بشكل أدق — سنراه يرتفع بالأدب إلى مستوى الميتافيزيقا، وذلك بعد خروجه من أزمة تورط فيها وجوده كله: «ها قد قضيت — لتوي — عامًا مرعبًا»، على ما كتب إلى صديقه «كازاليس» عام ١٨٦٧م.
ودون الخوض في تفاصيل هذه الأزمة، التي — بعد أن واجه «مالارميه» خلالها العدم — توصل أخيرًا إلى مفهوم عن «الجميل» سيؤسس عليه إنتاجه،٥٧ أريد التأكيد على الطريقة الحميمة التي تمتزج بها الميتافيزيقا بالجمالي لدى «مالارميه». ولأن «مالارميه» — مثل بطله «إيجيتور» — فريسة «مرض المثالية»، ومثله «يعتقد في وجود مطلق وحيد»٥٨ — فسرعان ما وجد نفسه وقد بلغ العدم: إذ إن المطلق هو — بالتحديد — ما لا وجود له، ما دام لا يستطيع التحقق دون وجود مدنس بالصفاء والنسبية. ونجد هذا التعريف — حرفيًّا — لدى «هيجيل»: «المطلق هو اللاوجود»،٥٩ ونعلم الآن، بفضل مراسلات «مالارميه» والدراسات الحديثة،٦٠ أن «مالارميه» — بفضل صديقه «لوفيبور» بلا شك — كان، خلال الفترة التي يتداول فيها «مع المطلق، والوجود والعدم»،٦١ قد ارتبط بهيجل بمثابرة، نشعر معها بتأثيره حتى في مفرداته، وصياغة دعاباته.٦٢ لكن هذا الاكتشاف للعدم لم يكن ذا طابع فلسفي وكتبي، بالنسبة لمالارميه، إنه — على نحو خاص — تجربة معاشة برعب، نوع من الغوص في الفراغ: وسيتحدث — فيما بعد — عن هذا «الانحدار الطويل إلى العدم»،٦٣ مثل احتضار روحي حقيقي.
والواقع أن «مالارميه» يجد نفسه عرضة لليأس عندما يتحقق من ألا وجود سوى للعالم المادي الذي يثير فيه الفزع («نحن لسنا سوى أشكال بلا جدوى للمادة»، هكذا كتب إلى «كازاليس»)،٦٤ وأنه لا يستطيع أن يبلغ عالم «المطلق»، الذي — في تعريفه — بلا وجود، فلا يتبقى له سوى التغني — «كيائس» — بالحلم الذي يعلم أنه «غير موجود».
ورغم هذا، فإن هذا اليائس سيجد الخلاص بعد أسابيع من التأمل الأليم، لم يكف خلالها مع ذلك عن عمله الشعري «الضاري في هيرودياد».٦٥ وسيجده في «الجمال». وسيكتب إلى «كازاليس»، في يوليو ١٨٦٦م:

سأقول لك إنني موجود منذ شهر في أكثر مبردات علم الجمال صفاءً — وإنني بعد أن وجدت «العدم»، وجدت «الجمال» — وإنك لا تستطيع أن تتخيل في أية مرتفعات جلية أغامر.

تصريح سوف يستكمله هذا التأكيد الحاسم، في مايو ١٨٦٧م:

لا يوجد سوى الجمال، وليس له سوى التعبير الأكمل: الشعر.٦٦
كيف استطاع «مالارميه» — إذن — الانتقال من هذا العدم اليائس إلى إيمان سيكون، من الآن فصاعدًا، المرشد والعزاء لكل وجود؟٦٧ يبدو أن الارتباط بهيجل — على وجه التحديد٦٨ — هو الذي كشف كيفية التغلب على هذا التناقض بين عالم المادة وعالم المثال، لقد أوضح «هيجل» لمالارميه — كما يقول «ج. ميشو» — أن «العدم ليس نهاية، لكنه نقطة انطلاق»،٦٩ وأن «اللاوجود» ليس سوى الحالة السلبية، مثل عكس الوجود: «الوجود الخالص والعدم الخالص هما — إذن — نفس الشيء»، وأن «الحقيقة ليست الوجود، ولا العدم، بل حقيقة أن الوجود لا يزول، بل إنه دخل العدم، ودخل العدم في الوجود».٧٠ هكذا يتم تصالح وتجاوز العالمين — عبر التركيب الجدلي (الصيرورة الهيجلية) — عالم الوجود / المادة، وعالم المطلق / العدم، لكن هذا التركيب سيتحقق — بالنسبة لمالارميه — عبر الإبداع الفني: وسيقوده المنهج الجدلي لهيجل إلى مذهب الانتقالة، المفتاح الأساسي لجمالياته:
«الانتقالة الإلهية، التي يوجد الإنسان من أجل اكتمالها، تتجه من الواقع نحو المثال»، على ما سيكتب «مالارميه».٧١ وها هي الأزمنة الثلاثة لهذه الانتقالة: الشيء، أو الحدث الحقيقي، الموجود في زمن أولي، يجد نفسه منفيًّا بعدئذٍ، منعدمًا بفعل لعبة الكلام كوجود مادي، ثم يُعاد خلقه (في تركيبة من هذا اﻟ «وجود» و«عدمه») باعتباره «مفهومًا خالصًا»:

ما جدوى روعة نقل واقعة طبيعية في أفولها المتذبذب تقريبًا طبقًا للعبة الكلام، إن لم يكن من أجل أن يصدر عنها، دون انزعاج من استعادة قريبة أو ملموسة، مفهوم خالص.

ذلك ما سيقوله «مالارميه».٧٢ وبذلك، تسمح لنا النقلة الشعرية بأن نذهب إلى ما وراء ما هو كائن، لتحررنا من العالم المادي، من الملل إزاء الأشياء التي تأسست بصورة راسخة وغالبة،٧٣ وتقدم لنا فكرة الأشياء بدلًا من حقيقتها الطاغية: «وتنبثق موسيقيًّا كفكرة عذبة، غافلة عن كل باقات الورد».٧٤ فالشاعر لا «يعبر» عن الأشياء («فالكلام لا علاقة له بالأشياء إلَّا من الناحية التجارية»)،٧٥ لكنه، على النقيض، وعبر إبداع سلبي، إذا صح القول، يلغيها من واقعها المحسوس، كي لا يحتفظ منها إلا بالجوهري:
يستدعي معه الشيء، في ظل جلي، من خلال كلمات إيحائية غير مباشرة أبدًا، مقتصرًا على صمت متكافئ، يقتضي محاولة قريبة من الإبداع.٧٦
ومن هذا المنطلق، يصبح «الأدب» مثل عرض للعالم في المطلق: فيما وراء الوجود غير الصافي للأشياء، يكتشف (الأدب) نظام علاقاتها، ومن هنا، فبينما يظل الباقي كله — رغم ذلك — احتمالًا وخاضعًا للصدفة، يسمو الأدب على صعيد الضروري والكوني:
لقد أدركت، بفضل حساسية عالية، العلاقة المتبادلة الوثيقة بين الشعر والكون، وبدأت، من أجل أن تصبح علاقةً صافية، مشروع إخراجها من الحلم والصدفة وتقريبها من مفهوم الكون.٧٧
ذلك ما يكتبه «مالارميه» إلى «فييه دي ليل - آدام» في سبتمبر ١٨٦٦م، في خطاب عُثِرَ عليه مؤخرًا: وسندرك بشكل أفضل، ونحن نقرأ هذه السطور لماذا أراد «مالارميه» — عندما استشف «البنية المنطقية للكون»،٧٨ ومن أجل العثور بشكل أفضل في شعره على هذه البنية المنطقية، وهذه العلاقات الجوهرية — أراد أن يتخلى عن «الأنا» الفردية (التي تخصه)، ليصبح «مبنيًّا للمجهول»،٧٩ ألَّا يكون سوى «قابلية على العالم الروحي أن يرى فيها نفسه ويطورها» عبر ما كانه هو.٨٠ هنا أيضًا نجد ما يسميه «شيرر» ﺑ «المعطى الجوهري الهيجلي»، أي معرفة «الإنسان وقد كف عن الحياة كإنسان فردي كي يشعر بالعالم وهو يعيش فيه».٨١ لكن «مالارميه» يضع نفسه على الصعيد الأدبي البحت، ويقترح على نفسه، ترك العالم يعيد تكوين نفسه في إنتاجه، ذلك النتاج الذي يكمن طموحه الأعلى غير القابل للتحقق — دون شك — في «التفسير الأورفي للأرض».٨٢

المؤلف الكبير

«شاعرًا أكثر من هيجل، وفيلسوفًا أكثر من الشعراء السابقين، استخلص «مالارميه» نتيجةً شعرية من المقدمات المجردة للمثالية الهيجلية»، على ما كتب «ل. ج. أوستين» مؤكدًا على الأصالة المزدوجة لمالارميه،٨٣ الإنسان الذي يصل فيه الكون إلى أقصى درجات الوعي، والإنسان الوحيد القادر على التعبير عن هذا الوعي هو الشاعر: من هنا، يكمن هذا التصريح (رغم مظهره المتناقض):
كل شيء، في العالم، موجود كي يئول إلى كتاب.٨٤
هذا الكتاب سيكون «الكتاب»، الذي تنحو إليه — في حيرة — كل المؤلفات الأدبية الجديرة بهذا الاسم،٨٥ «مؤلَّف» كلي ومطلق، يفسر ويبرر العالم، «ترتيل، وانسجام وبهجة للعلاقات بين كل الموجودات»،٨٦ أفيمكن أن يكون شيئًا آخر سوى حلم؟ ويعترف «مالارميه» — في نهاية حياته — أنه «لا تكفي حياة واحدة»٨٧ من أجل الكتابة، وسينحصر طموحه في «كشف مقطع تنفيذي منه»، ويمكننا أن نعتقد — مع «فاليري» — أن ذلك «كان — من حيث تعريفه — غير قابل للتحقق»،٨٨ وأن كلمة «فشل» — بالتالي — المستخدمة كثيرًا إزاء العمل المكتوب بالفعل، لا معنى لها على الإطلاق.
لكن «مالارميه» عندما بدأ لأول مرة «المؤلَّف الكبير»٨٩ — عام ١٨٦٦م — لم يكن لديه شك في أنه سينجزه بكامله: «أتوقع أنني محتاج إلى عشرين عامًا للكتب الخمسة التي ستكون العمل»، على ما كتب إلى صديقه «أوبانيل» في ٢٨ يوليو، بالتحديد في الفترة التي توصل فيها إلى يقين راسخ وإلى إدراك «العلاقة المتبادلة الوثيقة بين الشعر والكون». ويشرح لأوبانيل، الذي كان قد طلب منه في خطاب سابق بعض التوضيحات لتعبيرات غامضة إلى حدٍّ ما:
أردت أن أقول لك ببساطة إنني أرسيت لتوي خطة مؤلفي بكامله، بعد أن عثرت على مفتاح نفسي — مفتاح أساسي أو مركزي، إن أردت، كي لا نخلط الاستعارات — مركز نفسي، حيث أعكف كعنكبوت مقدس على الخطوط الرئيسية التي خرجت لتوها من عقلي، والتي سأنسج بمساعدتها في نقاط الالتقاء دانتيلا رائعة، أتخيلها، وهي موجودة في قلب الجمال٩٠
ويبدو — رغم هذا — أن فكر «مالارميه» قد تحدد، أيضًا، خلال الشهور التالية، التي قادته إلى إدراك شعره بوضوح أكبر، باعتباره إعادة بناء للعالم، وفي ٢٤ سبتمبر، يحدث «فييه دي ليل - آدام» لا عن خمسة كتب، بل عن اثنين جديدين وخالدين في آنٍ، أحدهما مطلق، جمال، والثاني شخصي، الرمز الباذخ للعدم»،٩١ وفي مايو ١٨٦٧م، وبعد أن يحكي لكازاليس الجهد الشاق الذي يبذله ليترك الكون — إذا صح التعبير — كي يُعاد تشكيله في داخله، يقدم له إشارات أكثر دقة وأكثر تحديدًا:

هش مثلما مظهري الأرضي، لا يمكنني أن أتعرض إلا للتطورات الضرورية بشكل مطلق، من أجل أن يجد الكون نفسه هويته فيَّ. وهكذا، أجيء في لحظة تركيب، لحظة تحديد المؤلَّف الذي سيكون صورة هذا التطور. إنها ثلاث قصائد منظومة، تمثل «هيرودياد» افتتاحيتها، لكنها ذات صفاء لم يصل إليه إنسان وربما لن يصل إليه أبدًا؛ إذ يبدو لي أنني لم أكن سوى وهم ما، وأن الآلة الإنسانية ليست متقنة تمامًا إلى حد التوصل إلى نتائج كهذه، وأربع قصائد نثر، حول المفهوم الفكري للعدم.

ويضيف: «أحتاج إلى عشرة أعوام: هل سأحصل عليها؟»٩٢
وكما نرى، يتقبل «مالارميه» إدراج قصيدة النثر في المؤلف، بنفس طريقة قصيدة النظم، بأن تكون — إذا صح القول — نظيرًا لها، هل فكر في هذه الفترة في «إيجيتور»؟ (نعلم ما أورده الدكتور «بينيو» — طبقًا ﻟ «دي ليل» — من أن «مالارميه» سيميز فيما بعد — في «إيجيتور» — أربع مقطوعات)، وعلى أية حال، فإن هذه الغبطة الإبداعية — التي نراها تتبدى أيضًا في خطاب كتبه، بعد ثلاثة أيام إلى «لوفيبور»٩٣ — لن تدوم طويلًا: فسرعان ما يجد «مالارميه» نفسه أسيرًا للهلع، وكأنما قد شلَّه سمو هذا العمل «الصافي» الذي حلم به. يكتب إلى «كوبيه»، في أبريل ١٨٦٨م: «بعد أن توصلت إلى الرؤية الرهيبة لمؤلَّف صافٍ، فقدت تقريبًا منطق ومعنى الكلمات الأكثر ألفة».٩٤ وأحيانًا ما ينقاد إلى كتابة قصائد «بها مسحة فحسب من المطلق»،٩٥ فيسلم «كازاليس» السوناتا الشهيرة (المقفاة) ﺑ yx، مؤكدًا أن الأمر لا يتعلق — بأية حال — ﺑ «مقطع» من «المؤلَّف «البالغ» الإعداد والتراتب»، بحيث لا يمكن «حذف أي شيء منه».٩٦ وفي النهاية، وبعد أزمة أوشك عقله خلالها — وقد «غزاه الحلم»٩٧ — على التلاشي، ها هو يقوم بالمشروع من أجل أن تعيد كينونته تكوينها ببطء، و«ليعاود عيش حياة الإنسانية منذ طفولتها» خلال بضعة أعوام، وكي يربط سنوات الدرس هذه ﺑ «هدف عملي»: يتعلق الأمر بالدراسات اللغوية التي ظهرت أول إشارة لها في خطاب فبراير ١٨٦٩م، تحت اسم «مصريات».٩٨ «ربما بعد الليل الذي عرفه، وكي يحدد الطريق الجديد ببعض المنارات الواضحة، فإنه يفكر الآن في القيام بدراسات مرتبة، وتدريجية، في التدريب على أفعال بسيطة»، كما يكتب البروفيسور «موندور»٩٩ — عن صواب بالغ — بشأن هذه الدراسات التي ستتخذ، لوهلة ما في ذهن «مالارميه»، مظهر رسالة دكتوراه، وينبغي أن نضيف أن «مالارميه» — وهو يعكف على هذه الدراسات اللغوية — يبعد مؤلَّفه عن ذهنه: ففي معرض حديثه إلى «لوفيبور» عن هذه الأبحاث التي ستستغرق منه «خمسة أعوام»، يضيف:
وبجانب كل هذا، ينبني ببطء مؤلَّف قلبي وعزلتي، الذي ألمح بنيته: والحق يُقال أن العمل الآخر، المتوازي، ليس — هو أيضًا — إلا الأساس العلمي.١٠٠
فالشاعر لا يملك — فعلًا — سوى وسيلة واحدة ليصبح «من يعيد تشكيل الكون»:١٠١ إنها التأثير على عالم اللغة، ولهذا، ينبغي أولًا دراسة دور اللغة وإمكانياتها، فالتأمل والدراسة العميقة لطاقات اللغة مرتبطان ارتباطًا وثيقًا — لدى «مالارميه» — بإعداد مؤلَّف «مطلق»، هو تفسير وإعادة خلق للعالم في آنٍ، وليس من المبالغة أن نقول إن «مالارميه» يسعى إلى بناء ميتافيزيقا حقيقية للغة.

مالارميه واللغة

ولا شك أن «مالارميه» كان مدفوعًا بمتطلبات مهنته — في نفس وقت شواغله الجمالية والفلسفية — إلى دراسة الكلمات، عن كثب شديد، ودراسة بنيتها، والعلاقات بين صوتها ومعناها.١٠٢ وقصيدة النثر العجيبة «شيطان التماثل»، التي أرسلها إلى «فييه» في سبتمبر ١٨٦٧م، تشير إلى هذا «الجهد اللغوي الشاق»، الذي بسببه — كما يقول «مالارميه» — «ينتحب يوميًّا خشية أن يقطع عني موهبتي الشعرية النبيلة».١٠٣ وأيًّا ما كان ما يعتقده «موكلير» و«ج. دلفيل»،١٠٤ فلا يمكن للأمر أن يتعلق إلا بمهمة أستاذ مهموم بشكل ونبر الكلمات الإنجليزية، ما دام «مالارميه» لم يفكر — إلا في حوالي عام ١٨٦٨م — في القيام بدراسات في اللغويات العامة (ومن ناحية أخرى، فإن عبارة «ينتحب من أن يقطع عني» واضحة للغاية …). وبالمقابل، تأتي لنا هذه القصيدة بتصوير غريب وشعري لهذه الفكرة القائلة بأن الجملة يمكنها ألا تكتفي بأن تعني، بل تشرع في الحياة «بشخصيتها»،١٠٥ كي تثري حلم اليقظة الداخلي، وتأتي لنا بهواجس داخلية تستعصي على التفسير، ولا شك أن تأثير «إدجار آلان بو» و«ملاك الغرابة» يتداخلان في تكوين هذه القصيدة، ويمكننا الاعتقاد أيضًا بأن السيرياليين سيرون فيها تجليًا ظافرًا ﻟ «الصدفة الموضوعية».١٠٦ لكن من المفيد على نحو خاص أن نرى فيها «مالارميه» هذه الفترة، وهو يقيم تماثلات بين عالم الكلمات وعالم الخيال وعالم الحقائق، ويستخدم هذه التجاوبات بواسطة ما سيسميه ناقد — بطريقة سيئة النية، وإن تكن ليست مغلوطة إلى حد بعيد — ﺑ «هذيان النحوي».١٠٧
لكن «مالارميه» لم يفكر — إلا في شتاء ١٨٦٩ / ١٨٧٠م، كما رأينا — في القيام بدراسات لغوية متعمقة١٠٨ (هو مشروع سرعان ما سيُجْهَض)، ويخطط لأطروحة حول اللغة، وإلى هذه الفترة — بالتحديد — يرجع تاريخ ملاحظات «مالارميه» من أجل إعداد «علم اللغة»،١٠٩ التي تعكس — كما أوضح «ج. ديفيز»١١٠ — شواغله الهيجلية، وتستحق هذه الملاحظات الانتباه، فكل الفلسفة المالارمية عن اللغة ملخصة فيها (في شكل مجرد بلا شك وصعب)، ولن تتغير هذه الفلسفة أبدًا حتى موت الشاعر. ﻓ «مقدمة» دراسة الكلمة ﻟ «غيل» — على سبيل المثال — لن تقوم إلا باستعادة نفس الأفكار، في شكل أكثر سهولة. فمالارميه — الذي تبنى الجدل الهيجلي ومنهج التوفيق بين الأضداد — يرى، في اللغة، التركيب والتوفيق بين هذه المصطلحات المتناقضة، التي هي الكلمة — كمبدأ أساسي ومطلق — والمادة، والوجود العارض: اللغة هي «صيرورة» الكلمة في دخولها الوجود، أو كما يقول «مالارميه»:
اللغة هي تطوير الكلمة، وفكرتها، في الوجود، والزمن الذي أصبح نمطًا لها: وذلك عبر مراحل الفكرة والزمن في الوجود، أي طبقًا للحياة والفكر.١١١
ومن هنا، يكمن «مظهرا اللغة، الكلام والكتابة»، والأول أكثر مادية ويخلق «تماثلات للأشياء عبر تماثلات الأصوات»، فيما الثانية أكثر روحانية، وتحدد «شارات الفكرة»، بحيث «تنجزها في الراهن (عبر القراءة)»، وتثبتها بطريقة تسمح — ذات يوم — بأن «تظهر الكلمة خلف أسلوبها اللغوي، وقد أصبحت — بالنسبة للفيزياء وعلم النفس — مثل مبدأ، مستخلص، وملائم للزمن والفكرة».١١٢ فعلى الكتابة — إذن — تقع مهمة إظهار الفكرة، واستدعاء الكلمة بوسائل اللغة، وبأن تعكس بها الفكر.
وندرك — منذ ذلك الحين — أن على علم اللغة أن يتخذ «موضوعًا له: المادة والفكر»،١١٣ وأن «يفسر اللغة المستخدمة في علاقتها بالفكر»:١١٤ وقد اقترح «مالارميه» أن يدرس — من ناحية — «عبر التحليل النفسي، ماهية الإنسان بالنسبة لأشياء الفكر والمادة»، و— من ناحية أخرى — «ماهية الفكر بالنسبة لتعبيره المزدوج عن المادة والإنسانية، وكيف يمكن لعالمنا أن يرتبط مرة أخرى بالمطلق». وتكشف لنا هذه الكلمة الأخيرة أن «مالارميه» (الذي كان وقتئذٍ يكتب مسودات «إيجيتور») لم يكف عن مطاردة المطلق، والسعي إلى «العبور من خلال المرآة»،١١٥ التي تفصل بين عالم الوقائع وعالم الماهيات.
وانطلاقًا من تأملات عام ١٨٦٩م هذه، توصل «مالارميه» — فيما يبدو — إلى إدراك اللغة كأداة «انتقال» توفق بين «المطلق» و«المادة»: فمن أصلها، وحتى قبل أن تصبح أدبية، تسمح اللغة فعلًا للفكرة وللكلمة بالتجسيد من خلال أداة الكلام (لتعبر بذلك من المطلق إلى الموجود) في نفس الوقت الذي تعبر الأشياء المادية التي تشير إليها على العكس، وقد تحررت من ثقلها ومن مادتها، من الوجود إلى المطلق، من خلال أداة التجريد: إنها — كي نستعيد تعبير «مالارميه» — فكرة الزهرة التي تظهر بدلًا من كل الأزهار العينية، الورد أو الزنبق:
أقول: زهرة! و– خارج النسيان حيث يقصي صوتي كل تحديد، كشيء آخر غير كئوس «الزهرة» المعرفة، تنهض — موسيقيًّا — كفكرة عذبة، غافلة عن كل الباقات …١١٦
ورغم هذا، فطاقة اللغة ليست محصورة، وبشكل خاص عندما نضع في اعتبارنا اللغة الشعرية، فهذه اللغة الشعرية لا تكتفي بإلغاء الشيء الحقيقي لتحل محله فكرتها الخالصة — فهي لن تتميز، في هذه الحالة، عن اللغة الفلسفية أو العلمية١١٧ — لكنها توحي بوجوده المثالي (ﮐ «فكرة عذبة»): فالكلمة — بقدرتها الإيحائية، وإصاتاتها، وبالقيمة الرمزية للحروف التي تشكلها — تصبح نوعًا من الهيروغليفية الصوتية، القادرة على استدعاء الواقع، وإعادة خلقه — إذا شئنا — بطريقة يمكن أن نسميها موسيقية («على نحو موسيقي»، كما يقول «مالارميه» بالفعل).١١٨
يتعلق الأمر — إذن — باستدعاء الأشياء، بأن نجعل حضورها المثالي «ينتصب» أمامنا: «شعوذة إيحائية» كما يقول «بودلير»، ويفكر «مالارميه» أساسًا في اللغة الشعرية، «العلم والأنشودة»،١١٩ في عمله «مقدمة»، لكن الدور الذي يلقى — هنا — على عاتق الشعر هو عودة إلى الوظيفة البدائية للغة، كأداة للاستدعاء والسحر، وعلى الشاعر أن يعاود العثور على الطاقات المقدسة للكلمة، والوظيفة التعويذية للكلمات. ويبدو حقًّا أن «مالارميه» — المشغول، هنا، باللغات البدائية وبدراسة أصول اللغة١٢٠ — قد تأثر بشدة بنظريات «القبلانية» التي نراه يهتم بها منذ عام ١٨٦٦م.١٢١ «القبلانية» التي من أجلها «وبالاثنين وعشرين حرفًا، وبإعطائهم شكلًا وهيئة، وبخلطهم وتركيبهم بطرق متنوعة، صنع الله روح ما له شكل وكل ما سيكون كذلك».١٢٢ وبالنسبة لمالارميه — كما بالنسبة لكل العبرانيين القدامى — فإن حروف الهجاء هي الوسيط بين العالم الروحي والعالم الفيزيقي، وهو يحلم بعالم للكلام، حيث الحروف وتوافقاتها المتنوعة في كلمات وجمل وأبيات «نظام محكم مثل فلك روحي».١٢٣ يعيد إنتاج البنية الأساسية للكون.
وببلوغ هذه النقطة، فإن «مالارميه» — الذي فكر عام ١٨٦٩م في الوصول، خلال مؤلَّفه، «بحث في اللغة»، «من «الجملة» إلى «الحرف» عبر الكلمة، باستخدام العلامة أو الكتابة، التي تربط الكلمة بمعناها»١٢٤ — قد وجد نفسه منقادًا إلى التأمل في «أحد الأسرار المقدسة أو الخطرة للغة»:١٢٥ هي مسألة رمزية الحروف، والرابط الضروري لا العرضي الذي يعيد التواصل بين عناصر الكون و«الكلام المشحون بالتعبير عنها».١٢٦ فهل توجد أسماء طبيعية للأشياء تجعلنا نشهد استعادة ﻟ «اللغة البدائية» التي يتحدث بها البشر؟ فبعد «فابردوليفيه»،١٢٧ بفترة طويلة، تناول «مالارميه» هذا الموضوع في مؤلفه حول «الكلمات الإنجليزية» بخصوص الجناس:
جهد عظيم مماثل ﻟ «الخيال» الراغب، لا في إرضاء نفسه فحسب بالرمز الباهر في مشاهد العالم، بل أيضًا بأن يعقد رابطًا بين هؤلاء والكلمة المشحونة بالتعبير عنهم، ليلامس أحد الأسرار المقدسة والخطرة للغة، التي سيكون من الحكمة التمعن في اليوم الذي سيكون للعلوم فيه — وقد امتلكت الرصيد الكبير من المصطلحات المنطوقة أبدًا على الأرض — أن تكتب تاريخ حروف الأبجدية عبر كل العصور، وماذا كانت دلالتها المطلقة تقريبًا، المتنبأ بها أحيانًا، والمجهولة أحيانًا أخرى من قبل البشر، خالقي الكلمات …١٢٨
وكما يلاحظ «ديلفيل»، فإننا نجد «صعوبة في تصديق أن مالارميه كان يجهل «كراتيل Cratyl»،١٢٩ حيث يعترف «أفلاطون» بجانب من الحقيقة في أطروحة «كراتيل» التي توجد وفقًا لها «أسماء طبيعية للأشياء»، لكنه يقر أيضًا مع «هيرموجين» أن جانبًا من الخطأ والعرف يدخل اللغة، وذلك بعد أن درس لا الأسماء فحسب، بل أيضًا عناصرها التكوينية، أي الحروف، فينسب إليها أحيانًا قيمة المحاكاة (مثل حرف R الراء، الذي يعبر عن الحركة، لأن اللسان يتحرك للنطق به)، وأحيانًا أخرى قيمة رمزية خالصة (مثلما لحرف A الألف، المكلف بالتعبير عن القامة).١٣٠ ويسعى «مالارميه» — وقد اندفع بعيدًا في هذا الاتجاه — إلى تحديد «الدلالة المطلقة» لكل حرف، ليرى في حرف R مثلًا «الإعلاء، والهدف المدرك، حتى لو كان الاغتصاب هو الثمن، والامتلاء»،١٣١ وفي حرف B المعاني «المتنوعة والمرتبطة خفية — رغم هذا — بالإنتاج والولادة، بالخصب والاتساع، بالانتفاخ والتقوس والتباهي، ثم بالكتلة والاحتدام، وأحيانًا بالطيبة والمباركة (…)، وهي دلالات متضمنة — إلى هذا الحد أو ذاك — بفعل الحرف الشفاهي الأولي».١٣٢
ومع ذلك، فمالارميه لا ينخدع: فهذه النظرية التي لا يطبقها — فضلًا عن ذلك — إلا على حروف الاستهلال الساكنة (حيث «تكمن حقًّا الدلالة»)،١٣٣ إذا ما طُبِّقَت على لغة أخرى غير الإنجليزية، فستعطي نتائج مختلفة. ومن لا يعرفون سوى لغة واحدة، يمكنهم وحدهم تصور «أن شيئًا منطوقًا بالطريقة الوحيدة التي يعرفونها، إنما يُسمِّي نفسه، وينبثق بنفسه، على نحو طبيعي».١٣٤ هذه اللغة المثالية، التي يتحقق فيها التوافق الكامل بين الصوت والمعنى، تلك اللغة الضرورية التي لا يمكن فيها تغيير أي حرف، لا وجود لها على الأرض، حيث تنوع اللسانيات «يمنع أي شخص من نطق الكلمات التي — إذا ما وُجِدَت بضربة فريدة — هي نفسها الحقيقة بشكل مادي».١٣٥ ويعبر «مالارميه» عن أسفه لغياب هذه اللغة الجوهرية (التي لم توجد بلا شك، أبدًا حتى فيما قبل بابل):
ويأسف وعيي على عجز الخطاب عن التعبير عن الأشياء بلمسات تستجيب له فيها عبر التنغيمات والهيئة، الموجودة في أداة الصوت الخاصة باللغات، وأحيانًا بلغة واحدة، فبجوار «ظل  ombre» داكن، لا تعتم «الظلمات  ombres» إلا قليلًا، ويا لها من خيبة أمل إزاء الانحراف الذي يمنح «نهار jour» مثلما يمنح «ليل nuit» — على النقيض — جرسًا مظلمًا هنا ومضيئًا هناك.١٣٦
ورغم هذا، فإن لغة مطلقة لا تترك أي موضع للصدفة، لن تترك أيضًا أي موضع للأدب، ويضيف «مالارميه» أن «علينا أن نعلم فحسب أن الشعر ما كان سيوجد: فهو الذي يكافئ عيب اللغات (على المستوى الفلسفي) كاستكمال أعلى». وعلى الشاعر — بالتالي — أن يتدخل لإلغاء الصدفة الباقية في الكلمات، كي ينزع اللغة من الاحتمالات العرضية، ويعيدها إلى الأبدي، إلى الفكرة فنحن نعبر — كي نستخدم تمييز «مالارميه» — من الكلام الذي يخلق «تماثلات الأشياء بفعل تماثلات الأصوات»،١٣٧ إلى الكتابة التي يجب أن تطبع «إيماءات الفكرة»، وتظهر الكلمة خلف الأدوات الناقصة للغة. وفي مواجهة اللغة الشائعة، «الفظة والمباشرة»، على اللغة الشعرية، «الجوهرية»١٣٨ وحدها، أن:

تمنح معنًى أكثر صفاءً لكلمات القبيلة،

وأن تنظم عالم الكلمات طبقًا لقوانين الروح، وتصل إلى مطلق الكلمة.

اللغة الشعرية

والكلمة، بالفعل، ولا سيما في الأدب، لا توجد في ذاتها وبذاتها: فهي تنتظم في كتلة الجملة، وتتلون بانعكاسات الكلمات المجاورة، والصورة مستمدة من «مالارميه» نفسه: «تشتعل» الكلمات «من الانعكاسات المتبادلة، مثل خيط مضمر من النار على الأحجار الكريمة».١٣٩ وكي نستعيد الأمثلة التي اختارها الشاعر، فسنلاحظ إلى أي مدى تكفهر كلمة «nuit ليل» بالإصاتات الخفيضة والمفتوحة للكلمات المجاورة في بيت «راسين»:
C’était pendant l’horreur d’une profonde nuit

كان هذا خلال هول ليلة ليلاء

وإلى أي حد — على العكس — يتم تخفيف كلمة «jour نهار»، وتصفيتها من خلال تقارب الإصاتات المضيئة وتتالي الكلمات ذات المقطع الواحد، في البيت الآخر لراسين، الذي يذكره «تيبوديه»
Le jour n’est pas plus pur que le fond de mon cœur
ليس النهار أكثر صفاءً من أعماق قلبي.١٤٠
و«مالارميه» نفسه — في «افتتاحية قديمة لهيرودياد»، التي كلفته كثيرًا من الجهد الشاق١٤١ — «يعتم» كلمة ظلمات عندما يتحدث عن «ظلمات سوداء»، بعد أن ينزع عن كلمة ظل كثافتها، بأن يتحدث عن «ظل سحري».

ولا يتعلق الأمر فحسب — كما نرى — بتوافقات صوتية، بل — أساسًا — بإيحاءات تترابط أو تتطابق. ومنذ عام ١٨٦٦م، وبعد لوم «مالارميه» لكوبيه على استخدام الكلمات كأحجار كريمة تستمد بريقها من نفسها، ومن نفسها فقط، يكتب إليه:

ما علينا أن نستهدفه — بالأساس — في القصيدة هو: أن الكلمات المكتفية بذاتها — دون تأثير من خارجها — تنعكس الواحدة على الأخرى، إلى حد أن تبدو كأنها لم تعد تملك لونها الخاص، بل لا تكون سوى جسور في سلم موسيقي، ودون أن تكون ثمة مسافة بينها، ورغم أنها تتماس بروعة، فإنني أعتقد أن كلماتك تعيش أحيانًا حياتها الخاصة بإفراط ما، مثل جواهر موزاييك الحلي …١٤٢
على الكلمات الشعرية — إذن — أن تُستَخدَم مثل «نسب الأضواء والظلال» في لوحة ما، والعلامات في مقطوعة موسيقية، كي تخلق انسجامًا معينًا ولعبة علاقات. ومن هنا، تكمن جملة «مالارميه» في نفس الخطاب: «لا تقيم الصدفة بيتًا من الشعر، إنه الشيء العظيم». وتجسد جملة عام ١٨٦٦م هذه التصريح الشهير لعام ١٨٨٥م:
بيت الشعر الذي يتألف من عدة كلمات يعيد صياغة كلمة كلية، جديدة، غريبة على اللغة مثل تعويذة، محققةً هذه العزلة للكلام: فهي تلغي، بجرة قلم سامية، الصدفة التي تسكن الكلمات رغم حيل تنشيطها المتناوبة في المعنى والإصاتة، التي تسبب لك هذه المفاجأة في ألا تكون قد سمعت أبدًا بمثل هذا المقطع العادي في الصياغة، في ذات الوقت الذي تسبح أصداء الشيء المسمَّى في أجواء جديدة.١٤٣
استمرارية تفكير رائعة: فمنذ ١٨٦٦م، قدم الشاعر — ذو الأربعة وعشرين عامًا — إلى الشعر مبرره الميتافيزيقي، وإلى الشاعر التقنية التي لا بد أن تسمح له بهزيمة «الصدفة»، وبعد عشرين عامًا، لن يضيع أية فرصة للتأكيد على المبدأ الروحي للشعر، الذي «يجتذب بقدر ما يطلق من أجل تفتحه (اللحظة التي يلمعون فيها ويموتون في زهرة خاطفة على شفافية ما مثل الأثير) عناصر الجمال الألف المدفوعة إلى المبادرة والانتظام في قيمتهم الجوهرية».١٤٤ فليس للشعر أن يعيد إنتاج أو «وصف» الواقع، وهو ليس قالبًا ﻟ «أي شيء موجود»،١٤٥ لكنه يؤسس لعبة بارعة للعلاقات والانعكاسات والومضات الكامنة، التي ينبثق منها واقع جديد وجوهري. «الأشياء موجودة، فليس علينا أن نخلقها، كما قال «مالارميه» إلى «جول هوريه»، ليس علينا سوى إدراك العلاقات بينها، وخيوط هذه العلاقات هي التي تشكل الأبيات والأوركسترا».١٤٦

وبوصولنا إلى هذه النقطة، نرى إلى أي حد يترابط كل شيء في جماليات «مالارميه»: فهي مرتبطة بالشواغل الميتافيزيقية للشاعر، الذي يريد عبر الشعر الوصول إلى المطلق و— في نفيه للصدفة — بناء «الكتاب» الذي سيكون تفسيرًا وإعادة بناء للكون في آنٍ، ليستجيب لمتطلباته إزاء اللغة، التي ينبغي — بطاقاتها التجريدية — أن ترتقي إلى جوهر الأشياء، وأن تعيد تركيب البنية الروحية للكون، عبر الترتيب البارع للكلمات.

نظام متسق وتركيبي على نحو رائع! وكما أن الحروف هي عناصر الكلمة، فإن الكلمات تصبح عناصر بيت الشعر، «كلمة كلية»، لكن بيت الشعر يصبح بدوره عنصرًا في القصيدة، حيث يجد مكانه الصحيح والضروري، «المساهم في الإيقاع الكلي»،١٤٧ وعلى القصائد بدورها أن تجد مكانها في الكتاب، مثلما الأبيات في القصائد:
ينبثق ترتيب كتاب الشعر غريزيًّا أو في كل مكان، ويستبعد الصدفة: وهو أيضًا ضرورة لإغفال المؤلَّف، والواقع أن موضوعًا ما محتومًا، إنما ينطوي على مثل هذا الانسجام فيما بين المقطوعات كافة، فيما يتعلق بالمكان، في الجزء الذي يناظره.١٤٨
وبذلك يستطيع «مالارميه» — في نهاية المطاف — أن يدرك الكتاب باعتباره «التوسع للحرف».١٤٩ ومثل هذا الكتاب، التركيبي والمنظم بصرامة، يستطيع وحده الادعاء بأنه يمثل الكون: ومثلما في الكون، حيث كل شيء متماسك، وحيث كل جزء ينتظم في عالم صغير، مثلما في «الكتاب» — كصورة وإعادة خلق للعالم — ستصبح جميع العناصر مترابطة وكاملة رغم هذا عضويًّا، من هنا، تكمن تعبيرات «مالارميه» في حديثه إلى «كازاليس» عن هذا «المؤلَّف» الكوني الذي كان يطمح إلى تحقيقه ذات يوم: «إن مؤلَّفي جاهز ومتراتب جيدًا، ويمثل — قدر استطاعته — الكون، الذي ما كنت لأستطيع، دون أن أفسد أحد انطباعاتي المرتبة، أن أحذف منه شيئًا أبدًا …»١٥٠ وكتاب كهذا، «هندسي ومخطط»،١٥١ لن يحتاج أبدًا إلى قارئ، مثلما لن يحمل البصمة الشخصية للمؤلف: «لا شخصيًّا ونابضًا بالحياة»، سيوجد بذاته، في بهائه كنجم منفرد: وسنطبق عليه — أفضل من أي شيء آخر — ملحوظة «مالارميه»: «بما أنه لا شخصي، لا يتطلب الكتاب — بقدر انفصالي عنه كمؤلف — اقترابًا من القارئ. هكذا، فلتعلم أنه يتوفر على مكانة منفردة وسط اللوازم الإنسانية: ناضجًا وكائنًا».١٥٢
لكن سيُقال إن «مالارميه» إنما يتحدث دائمًا عن الشعر المنظوم وعن كتاب من الشعر المنظوم: فما الذي ستصبح عليه — في كل هذا — قصيدة النثر؟ وماذا نفعل كي نمنحها مكانة في هذا الكون بلا فجوات، حيث تنتظم الكلمة في بيت الشعر، وبيت الشعر في القصيدة، والقصيدة في الكتاب؟ إنه لأمر واقع — رغم هذا — أن «مالارميه» سبق أن أعلن، بوضوح، عام ١٨٦٧م، عن نيته إدراج قصائد نثر في مؤلَّفه،١٥٣ وفي أواخر حياته — وتلك واقعة أخرى لا جدال فيها — بحث، بوعي شديد، عن تحقيق تركيبة من الشعر والنثر، في مؤلفه الأخير، «رمية نرد». وهنا ثمة مشكلة لا نستطيع التملص منها، وأحد أهداف هذا الفصل بالتحديد تكمن في توضيح المكانة التي منحها «مالارميه» إلى النثر في جماليته، وكيف توصل في النهاية — عبر توفيق حقيقي بين الأضداد — إلى تركيبة «جدلية» للشعر والنثر، وعلينا أن نقر — هذه المرة — بوجود تطور، في فكر «مالارميه»، يُبقي دائمًا على أسس نظريته الجمالية كاملة، إلا أنه يؤدي إلى تنوع التطبيقات. فمالارميه، فضلًا عن ذلك، يظل لا مباليًا إزاء التجارب التي قام بها الرمزيون من حوله، وكانت مرحلته — وذلك ما لا يجب أن ننساه — هي تلك التي «ضُرِب فيها النظم في الصميم».١٥٤ فإذا ما تتبعناه من الفترة التي بدأ فيها العكوف على مسودات «إيجيتور» — بعد أن وعى تمامًا ضرورات «الكتاب» — حتى ذلك العام (١٨٩٨م) الذي ظهر فيه «رمية نرد»، فسنراه يتبنى إزاء النثر ثلاثة مواقف على التوالي، تتوافق مع ثلاث تقنيات شديدة الاختلاف:
  • في فترة أولى، يقبله في «المؤلَّف» لتقديم الدراما الروحية للفرد، وهو مشغول بالبنية الصوتية للجملة.

  • في فترة ثانية، يستبعد النثر من «المؤلَّف»، ليكتب مع ذلك — في شكل قصائد أو حكايات — نصوصًا ذات نثر أكثر كثافة دائمًا وذات تقنية — إذا صح القول — «نحوية» وذهنية.

  • في فترة ثالثة — أخيرًا — يحقق تركيبة النثر والشعر، عبر محاولة طباعية جريئة، ويجد فيها — فيما يبدو — الشكل الممتاز للقصيدة الذهنية والميتافيزيقية التي كان يحلم بكتابتها، والتي يعتبر ديوان «رمية نرد» المحاولة الأولى لها.

وعند تتبعنا لقصيدة النثر المالارمية، في مختلف تجلياتها، سنرى أن الطريق الذي تم عبوره هو — في واقع الأمر — الطريق الذي يقود الشاعر إلى إبداع لغة جوهرية، وأن «مالارميه» لا يبعد عن نظره المثال الذي اقترحه لنفسه منذ كان عمره خمسة وعشرين عامًا، والذي سيظل يجتذب أبحاثه الشعرية وهو في سن الخامسة والستين.

(٣) «إيجيتور» و«رموز العدم الباذخة»

تقنية الإصاتات
سبق ورأينا أن «المؤلَّف» — مثلما أدركه «مالارميه» في مايو ١٨٦٧م — كان من المقرر أن يضم «ثلاث قصائد منظومة»، منها «هيرودياد» كافتتاحية، و«أربع قصائد نثر، حول المفهوم الروحي للعدم».١٥٥ وكان قد تحدث من قبل إلى «فييه دي ليل آدام» عن «كتابين، جديدين وخالدين في آنٍ»، أحدهما «جمال» مطلق، والآخر شخصي، «رموز العدم الباذخة».١٥٦ ويبدو أن علينا حقًّا أن نرى، في ذلك، المشروع الأولي ﻟ «إيجيتور»، حيث سيتجرع البطل — لينهي الموضوع — القارورة «التي تحتوي على مادة العدم».١٥٧ ويمكننا الاعتقاد بأن «مالارميه» — إذا ما كان قد انتوى، في الكتاب المنظوم، «المطلق» كله واللاشخصي، أن يلألئ جمالًا يمكنه أن «يجد في الكون كله مظاهره المترابطة»، كما كتب إلى «لوفيبور»١٥٨ — فإنه، في قصائد النثر الأربع، أراد أن يقدم — بصورة مجازية — المغامرة الشخصية لروحه في مسيرتها نحو «الفكرة» الخالصة. ولا شك أن الشعر المنظوم ما كان بإمكانه أن يتحمل تأملات شديدة التجريد بالضرورة، وفي هذه الفترة، كان «مالارميه» يظن — على الأرجح — أنه لا يستطيع أن يتوافق مع موضوعات خيالية صرف أو ذهنية، أنه لا يوجد — رغم هذا — «أي سبب للحرمان من الشعر»:١٥٩ وسيستخدم هذه القرائن — فيما بعد ذلك بكثير — عندما سيستعيد ويزيد من ثراء موضوع «إيجيتور» في «رمية نرد»، ليبرر لنفسه عدم تبنيه النظم الكلاسيكي، إنه — إذن — يلجأ، كما سنرى، إلى نثر شديد التعقيد والإتقان، مضاعفًا المسودات الخاصة بنفس المقطوعة.
لكن ها هو «مالارميه» — بعد عدة شهور — معذب بفعل أزمة جسدية وذهنية في نفس عنف أزمة ١٨٦٦م، وقد أثارتها — هذه المرة، فيما يبدو — «الرؤية المرعبة لمؤلَّف خالص»،١٦٠ والشعور الرهيب بعجزه عن تحقيقه. وبعد «تماسكه أمام القصائد التي بدأها بيأس عقيم»،١٦١ يمر — كما كتب إلى «لوفيبور» عام ١٨٦٨م — «بلحظات قريبة من الجنون نحو نشوات متوازنة».١٦٢ وفي النهاية — في عام ١٨٦٩م، وخلال إجازته في «ليك» — نراه يستأنف العمل ويعكف على «إيجيتور»، الذي سيقول عنه لكازاليس، في نوفمبر، إنه «حكاية، أريد أن أصعق بها الوحش القديم ﻟ «العجز»، وباعثها — فضلًا عن ذلك — أن أترهبن في عملي الكبير الذي سبق أن أُعيدَت دراسته. وإذا ما صنعتها (الحكاية) فسأشفى، similia, similibus».١٦٣ وهكذا، فلم يعد الأمر يتعلق الآن بقصيدة، بل بحكاية ليس مقررًا أن تشكل جزءًا من «المؤلَّف»، بل أن تجعل «مالارميه» قادرًا على كتابتها، بأن تحرره من عجزه العصبي، «عصابية، ملل (أو مطلق!)».١٦٤ فهل ينبغي الاعتقاد بأن الشاعر — الذي كان مبدؤه الذي صرح به، أنه «يجب قبل كل شيء البحث عن نقاء الأنواع»١٦٥ — قد ارتأى، بصورة نهائية، أن العنصر السردي كان مفرط الأهمية في «إيجيتور إلى حد أنه يمكن أن يسميه «قصيدة»؟ وعندما نعلم أنه قد فكر أيضًا في أن يمنحه شكلًا دراميًّا،١٦٦ نستطيع الافتراض أنه إذا ما كان قد ترك — في النهاية — مسودات «إيجيتور» تنام في أحد الأدراج، فذلك لأنه لم يتمكن من منح هذا النثر شكلًا يرضيه تمامًا، ويتوافق مع كل مقاصده. لكننا نستطيع أيضًا الاعتقاد بأن «مالارميه» لم يتخلَّ أبدًا — حقًّا — عن محاولته، وأن النص الذي نشره الدكتور «بونيو» يمكنه أن يكون لا حكاية غير مكتملة، بل — مثلما يقترح «ج. ديفيز» — ديوانًا يضم «الحالات المختلفة الوسيطة لمؤلَّف مصمم في شكل حكاية، ودراما، وقصيدة نثر، على التوالي، وسيكون «رمية نرد» النسخة النهائية له».١٦٧
وفي عام ١٨٧٠م، بعد شهور من الجهد والعمل، قرأ «مالارميه» إيجيتور على «فييه دي ليل آدام» و«منديس»، مثيرًا الذهول الإعجابي لدى الأول، والذهول الاستنكاري لدى الآخر:
«ماذا!» — على ما كتب «منديس» فيما بعد١٦٨ — «أكان هذا، هذا المؤلَّف الذي لا يعترف به أبدًا موضوعه نفسه، وهذا الأسلوب حيث كان الفن بالتأكيد جليًّا، لكن حيث الكلمات، وكأنها عبر نوع من المراهنة، وا أسفاه! منتظمة، لم تكن تفيد معناها الخاص بها، الذي توصل إليه جهد طويل ومستمر في الفكر!»
خيبة أمل دالة: فمنذ هذه الفترة و«مالارميه» يبذل جهده ليخلق لنفسه — حتى في النثر — لغةً شعرية متميزة عن اللغة الدارجة، لغة كل ما فيها رمزي، وإيحائي، وحيث لا تكمن قيمة كل كلمة في معناها الخاص بها، بل في قيمتها داخل الجملة، لتلون الكلمات الأخرى بألوان قوس قزح من نيرانها، وتتلون بها. لقد قام بالخطوة الأولى في اتجاه «المؤلَّف»، وأبدع فكرة «كاتب صعب».١٦٩

اللغة الرمزية

وفيما يتعلق بالمعنى والدلالة الدقيقة لإيجيتور، الذي أجمع نقاد اليوم على أهميته،١٧٠ فإن الاتفاق يبدو بعيدًا: فهذه الدراما الميتافيزيقية (التي كانت، فيما يبدو، ستتألف من أربعة أجزاء تحت عناوين: منتصف الليل، والسلم، ورمية نرد، والنعاس على الرماد بعد انطفاء الشمعة)١٧١ هي، بالفعل، من الهرمسية١٧٢ والثراء الرمزي، إلى حد أنها تحير المعلقين. إن «إيجيتور» هو الروح الإنسانية وقد بلغت نقاء المطلق: وهو — في نفس الوقت — «مالارميه» نفسه، وأفضل تعليق على القصيدة هو — بلا شك — خطاب «مالارميه» إلى «كازاليس» في عام ١٨٦٧م، الذي يصف فيه هبوطه إلى العدم:
قضيت لتوي عامًا مرعبًا: إن فكري قد تأمل وتوصل إلى مفهوم صافٍ، وكل ما تعذب به وجودي، بطريقة غير مباشرة خلال هذا الاحتضار الطويل، يستعصى على الحكي، ولكني — لحسن الحظ — ميت على أكمل وجه، والمنطقة الأكثر تلوثًا حيث تستطيع روحي المخاطرة، هي الأبدية، روحي، تلك المتوحدة المألوفة بصفائها الخاص بها، الذي لا يعتمه حتى انعكاس الزمن.١٧٣

ولم يكن من الممكن — بالتأكيد — تقديم هذه الدراما الروحية إلا بطريقة رمزية، ويبدو أن «مالارميه» يطبق — هنا، في رد فعله ضد الشعر «الوصفي» — النظرية الجمالية التي سيصوغها عام ١٨٩١م:

تسمية شيء ما هي إلغاء لثلاثة أرباع بهجة القصيدة التي كُتِبَت لتتحقق تدريجيًّا، أن توحي، ذلك هو الحلم، إنه الاستخدام الأكمل لهذا الغموض الذي يؤسس الرمز: الإيحاء تدريجيًّا بشيء ما لإظهار حالة روحية، أو — على العكس — اختيار شيء ما واستخلاص حالة روحية منه، عبر سلسلة من حل الرموز.١٧٤
ولا شك أن الغرفة المنعزلة — حيث يرى «إيجيتور» المهدد بعذاب أن يظل أبديًّا وجهه وهو يتلاشى في المرآة١٧٥ — هي الغرفة المعروفة بحروفها وسوناتاتها، الخاصة بمالارميه في «آفينيون».١٧٦ لكن كل هذه الأثاثات المألوفة هي أكثر من مجرد ديكور بسيط: إنها تشارك في الحدث، وتصبح شخصيات صامتة، لكنها محملة برسائل غامضة، وهي تغذي المشادة الداخلية للبطل بتوسلات وإجابات يوجهها لها العالم الخارجي: إنها تكتسب قيمة الرموز، والمرآة ليست مجرد مرآة بسيطة، إنها الملل الراسخ، زمن راسخ في ملل،١٧٧ والشمعة تمثل الفكر والعلم، فالأثاث يريق على «إيجيتور» سره الخفي، المجهول، وذاكرته، وصمته، وملكاته وانطباعاته الإنسانية.١٧٨ ولدينا حقًّا، الشعور — لدى قراءة «إيجيتور» — بأن العناصر المرئية، والملموسة، والموضوعات المجردة إنما تظهر وتتعادل بالتبادل، كما لو أن العالم المحسوس لم يكن إلا شكلًا آخر من العالم الروحي، حيث يتحرك البطل، وهو ما يفسر استخدام بعض التعبيرات التي — ولا شك — قد أذهلت «منديس»، والتي تضمر تعادلًا ملموسًا / مجردًا: «الأبسطة المثقلة الآن في شكل دائم للأبد»،١٧٩ «النجمة الصدفية لعلمهم السديمي التي تمسك بها يد» (الشمعة هي المقصودة)،١٨٠ «على التشابكات النجمية والبحرية لإحدى المصوغات كان يمكن قراءة الصدفة اللانهائية للروابط» (المقصود ساعة الحائط).١٨١ وفي «هيرودياد»، أبدى «مالارميه» نزوعًا حادًّا نحو المجاز المرسل، الذي — بفضله — ينحو لفظا المقارنة المجرد والملموس إلى التماثل:
في العطر المقفر لهؤلاء الملوك الغابرين …
… أرى نفسي في طهارتي المرتجفة بنجمة.١٨٢
وهو يتخطى مع «إيجيتور» مستوى الاستعارة: فبين العالم المحسوس والعالم الروحي، ليس ثمة «تماثل» فحسب (إذا ما استخدمنا تعبير «بودلير»)، بل تطابق كامل، حيث الأول ليس إلا التصوير المرئي للثاني، وكما يقول «كلوديل»، يضع «مالارميه» نفسه أمام العالم الخارجي «مثلما أمام نص، مع هذا السؤال: ما الذي يعنيه هذا؟»١٨٣ ولا يفتقر إلى الفائدة — على أية حال — أن نذكر أن هذه الصيغة الفكرية تولد وتبرز تدريجيًّا عبر المسودات المختلفة التي نقلها لنا الدكتور «بونيو».١٨٤ فمن مسودة إلى أخرى، ندرك كيف «يعمق» مالارميه منها، بعد أن انطلق من معطى ملموس، ويتوصل إلى أن يجعل منها التجسيد لفكرة.١٨٥
وهكذا، فإن «مالارميه» — الذي سيقول عام ١٨٨٦م إن الشعر هو «التعبير عن المعنى الخفي لمظاهر الوجود»١٨٦ — يرسم الطريق، ابتداءً من عام ١٨٧٠م، للحركة الرمزية، وهو يجتهد لا في الهرب من العالم المسمى «واقعيًّا»، بل في إدخاله ضمن عالم الفكر، ذلك الواقع الوحيد (بالمعنى الأفلاطوني): فعبر هذه الأشكال المتناثرة لهذا العالم، يكشف الأدب ويساهم في سطوع الحقيقة الوحيدة الدائمة، الفكرة.١٨٧

التنظيم الموسيقي للموضوعات والإصاتات

هذه «الغابة من الرموز»، التي نرى «مالارميه» ملتحمًا فيها، هي مظلمة بطبيعتها، لكنه يستمتع — فضلًا عن ذلك — بزيادة تعقيدها من خلال الجهد الخارق في التنسيق الموسيقي، الذي يستجيب لنزعته في التركيب، ويُطَبَّق على الموضوعات الشعرية والقيم الصوتية في آنٍ، فكل موضوع — حسب منهج في التكوين يمكن أن نصفه بأنه موسيقي — يظهر، ويتطور، ويزداد ثراءً بالعناصر (الموتيفات) الثانوية، ويتلاشى ويعود ليشكل — مع موضوعات أخرى — لعبة تعدد أصوات حقيقي، لعبة ليست فقط شكلية ببساطة، لكن كفيلة بتفسير لعبة القوى العميقة التي تتعقد وتنحل في روح البطل، ولا شك أن أفضل مثال على ذلك هو «السلم» (أو «الخروج من الحجرة»)، حيث يتجاوب، ويتشابك، ويتواصل أو ينفصل موضوعا «الدق البندولي» و«حفيف الأجنحة»، ويمثل كلٌّ من هذه الموضوعات — في المقام الأول — إحساسًا جسديًّا خالصًا (مدركًا ربما في قلب نوع ما من الحلم)،١٨٨ ثم يصفو إلى أن يرمز إلى تقدم «إيجيتور» وهو يهبط «سلالم الروح الإنسانية»، و«الحفيف الغامض لازدواجيته»،١٨٩ أو بالأحرى لأنه الواحد والآخر في آنٍ، عبورًا أيضًا بدلالات أخرى، و«تحويرات» يحددها الدكتور «بونيو» على النحو التالي:
الدق المزدوج لبندول ساعة الحائط — وقد أصبح في البداية الإشارة على «الليل» الخالص — يتحول شيئًا فشيئًا إلى سقوط أبواب القبر، ثم إلى الإحساس المشوش بالذات الذي يعذب البطل، مع شيء ما — رغم هذا — يفصله عنه مثل حفيف أجنحة بضع عصافير ليلية، ثم يُعَرَّى ويُضاء حتى ظهور ضربات قلبه هو.١٩٠
ألا يأخذ تخطيط كهذا بالاعتبار أيضًا كل الدلالات الكامنة وكل الرموز الثانوية التي تعبر أو تلون الموضوعات الرئيسية بألوان قوس قزح.١٩١ فهذه المقطوعة «المنسقة موسيقيًّا» على هذا النحو (التي نملك ما لا يقل عن أربع حالات لها، ذات تعقيد متصاعد) تقدم كثافةً قصوى وتعددًا متكافئًا في الدلالات، ومن خلال التحول المستمر للموضوعات، وتلاشي صورة في أخرى، تقدم — في نفس الوقت — سلاسةً موسيقية حقيقية (عنصر التلاشي هذا، والسلاسة، سيصبحان فريدين في «أصيل إله الريف»).١٩٢
وإذا ما انتقلنا الآن من «موسيقية» الصور إلى موسيقية الأصوات، بالمعنى الحرفي للكلمة، فسنرى أن «إيجيتور» يمثل — في مؤلفات «مالارميه» — جهدًا فريدًا تمامًا لاستغلال إصاتات اللغة. فالأمر يتعلق — هنا — بشيء آخر تمامًا غير البحث البسيط عن الجناس الصوتي والمحارفات، ولا شك أن الجناس الصوتي والمحارفة موجودان في «إيجيتور»، ويزدادان تأكيدًا أكثر فأكثر كعنصر أساسي في اللغة المالارمية، ولن أذكر — في ذلك — سوى مثالين، يمثل الأول تناغمًا (هارموني) تقليديًّا، في المقطوعة الخاصة ﺑ «حفيف الأجنحة»:
Même frôlement: mais comme tout a abouti, rien ne peut plus m’effrayer: nom effroi qui avait pris les devants sous la forme d’un oiseau est bien loin.
نفس الحفيف: لكن مثلما آل كل شيء، فلم يعد أي شيء بقادر على أن يخيفني: إن خوفي الذي سبقني في شكل عصفور لبعيد حقًّا.١٩٣

والمثال الآخر أكثر غرابة؛ إذ يذكرنا بالقيمة الرمزية التي يمنحها الشاعر لحروف الهجاء (ونحن نعلم أن «مالارميه»، في حوالي عامي ١٨٦٩م و١٨٧٠م تقريبًا، بدأ في دراسة علم اللغة، وأخذ يستعلم من صديقه «لوفيبور» عن جذور اللغة):

(…) l’ameublement accompli qui se tassera en ténèbres comme les tentures, déjà alourdies en une forme permanente de toujours …
(…) الأثاث المكتمل الذي سيتكدس في الظلمات مثل الأبسطة، المثقلة الآن في شكل دائم للأبد …١٩٤
لكن «مالارميه» يذهب إلى أبعد من تلك المؤثرات البسيطة نسبيًّا، فنراه يوفق بين الجناسات ويختار الكلمات، كأنه يكتب مقطوعة موسيقية، لا حسب معناها فقط، بل — أيضًا — حسب قيمتها الصوتية، ولنرجع إلى الصفحة الفريدة — المسودة التمهيدية، التي نشرها الدكتور «بونيو» في طبعته عام ١٩٢٥م: سنرى فيها كيف يرتب «مالارميه» على الصفحة «التوافق الجوهري»، ويبحث عن الكلمات التي ستزوده بالأصوات الضرورية (فعلى سبيل المثال، بعد أن خط الحرفين الساكنين t وc، يرص كلمات مثل acte وchoc وchute، حيث يبدو له أن المعنى والصوت يملكان هذا التخصيص الضروري والغامض، الذي يتطلبه من اللغة الشعرية).١٩٥ سخف لغوي؟ ربما، لكنه — في خاتمة المطاف — يذهب بعيدًا، لأنه يلمس «أحد الأسرار الخفية والخطرة للغة»، لأنها محاولة أولى من أجل خلق نظام، وإعادة صنع لغة جوهرية تعثر فيها جميع الحروف على «دلالتها المطلقة».١٩٦
وبنفس الروح، يبدو أن «مالارميه» يتعلق باستدعاءات لم تعد مجرد إصاتات فحسب، بل كلمات بكاملها، وينبغي أن نذكر هنا أنه — في افتتاحية «هيرودياد»، المكتوبة عام ١٨٦٦م، دون أن تُنشَر أبدًا — كان يستخدم التكرار بانتظام. وقد درست السيدة «نوليه» بالتفصيل١٩٧ مختلف أشكال التكرار في هذه «الافتتاحية»: استعادات، وأصداء، وعودة إلى الوراء، وموضوعات متروكة ومستعادة، وتأثيرها السحري:
زائلًا، وجناحه الكريه في دموع
الحوض، الزائل، الذي يسدد الإنذارات،
ذهب عار يسوط الفضاء القرمزي
فجر، ريش طائر من شعارات، قد اختار
دورتنا الدموية والقربانية،
قبر ثقيل هرب منه عصفور جميل، نزوة
معزولة لفجر ريش طائر وهمي أسود …١٩٨
ونعلم — من ناحية أخرى — ما الذي استفاده «بو» من هذه التكرارات الملحة، ولا شك أن «مالارميه» قد استعار منه هذا النسق مثلما استعار منه نسق السجع.١٩٩ فثمة — في «إيجيتور»، كما في «أُولالوم»، على سبيل المثال — بحث واعٍ عن التكرار لقيمته المزدوجة، الإيحائية والبنائية،٢٠٠ وقد أكد الدكتور «بونيو» على هذا «البحث عن الكلمات ذات الصدى، محبذًا ارتداد الفكر على نفسه وتقديم انطباع بالحشو».٢٠١ وأحيانًا ما يستخدم «مالارميه» كلمات ذات إصاتات متقاربة وجناسات كاملة أو ناقصة:
la nuit resta avec une douteuse perception de pendule qui va s’atteindre et expirer en lui, mais à ce qui luit et va, expirant en soi, s’éteindre, elle se voit qui le porte encore.٢٠٢
ظل الليل على وعي مستريب بندولي سيصيب نفسه وينقضي في نفسه، لكن إلى ما يومض ويمضي، منقضيًا في نفسه، يذوي، ويرى نفسه لا زال يحمله.
وهو يكرر أحيانًا — على فترات شديدة التقارب — نفس الكلمة، إلى أن ينتج، بتأثير رتابة مهيمنة، نوعًا من التعويذة. وها هو مثال بالغ الغرابة:
الماضي المندرج ضمن سلالته التي تثقل عليه في الشعور بالنهائي، ساعة البندول التي تطيح بهذا الملل إلى زمن ثقيل، خانق، وانتظاره لتحقق المستقبل، يشكلون زمنًا صافيًا، أو مللًا، أصبح مزعزعًا بفعل مرض المثالية: هذا الملل، في عجزه عن الوجود، تصبح عناصره مرةً أخرى، أحيانًا، كل الأثاث الموصد الذي يمتلئ بسره، وإيجيتور، وكأنه مهدد بعذاب أن يكون أبديًّا وهو ما يشعر به بغموض، يبحث عن نفسه في مرآةٍ أصبحت مللًا ويرى نفسه مشوشًا وعلى وشك التلاشي كأنه سيغشى عليه في الزمن، ثم وهو يستدعي نفسه، ثم عندما أعاد صنع نفسه من كل هذا الملل، والزمن، وهو يرى المرآة بلا قيمة ببشاعة …٢٠٣
وسنلاحظ — في هذه الفقرة — إلى أي حد يصل التكرار المهيمن لهاتين الكلمتين: زمن – ملل، اللتين تستدعي إحداهما الأخرى، وتتكرران على امتداد المقطوعة مثل دقات كئيبة لساعة حائط، إلى اللحظة التي تربطهما بصورة نهائية فاعلية العطف («عندما أعاد صنع نفسه من كل هذا الملل، والزمن»)، ليشعرنا بالطريقة التي يسجن بها الزمن «إيجيتور»، «الزمن غير المحدد»،٢٠٤ الذي يتخثر حوله ليبقيه أسيرًا لركود خفي، وهو يظل ساكنًا، مثل البجعة في السوناتا الشهيرة التي أسرتها المرآة التي انغلقت على ريشها.
عندما سطع الملل من الشتاء العقيم.٢٠٥
وبشكل أعم، فإن هذا النثر الشديد الكثافة والقصدي — حيث تشبه الكلمات نسيجًا، الواحدة مع الأخرى، وحيث استعادة الإصاتات، وتكرار التعبيرات المتشابهة (وأحيانًا الالتباسات المقصودة)،٢٠٦ التي يتم اختيارها وحسابها بصرامة٢٠٧ — إنما هو حقًّا صورة هذا العالم المغلق، بلا ثغرات، حيث البطل «المعزول عن الإنسانية» يظل «عاجزًا عن الحركة»، لأنه بلغ المطلق٢٠٨ — إلى اللحظة التي سينجز فيها، أخيرًا، الفعل العبثي الذي سيحرره، بأن يرمي النرد («أما الفعل، فهو عبثي على أكمل وجه، عدا حركة (شخصية) ترجع إلى اللانهائي»).٢٠٩

وهكذا، نجد الرمزية — رمزية ثانية تضاعف الأولى: لم يعد العالم المادي فحسب — هذه المرة — (ديكور وأكسسوارات) — هو الذي يرمز إلى عالم ذهني معين، بل أيضًا المادة الصوتية للجملة والكلمات، فمالارميه يكوِّن جملته كموسيقي مثل عالم منطق، وإن يكن بطريقة ليست مجانية أبدًا: وكلما ازداد نصه تجريدًا، أحس — كما يُقال — بضرورة شخصية على نحو أكثر تجسيدًا، ليدفع بنا إلى الالتحام — بشكل أكثر حميمية — بالدراما الداخلية، التي هي دراما بطله، وأيضًا دراماه.

لماذا أوقف «مالارميه» محاولته؟ (الجزءان الأولان وحدهما من القصيدة يمكن اعتبارهما مكتملين). وقد قلت فيما سبق إنه — بلا شك — لم يتمكن من العثور على شكل مرضٍ تمامًا ﻟ «إيجيتور»: ويمكننا أن نتساءل — بالفعل — عن هذا النثر الموسيقي، بتأثيره الخاص في «الحشو» الذي يصلح تمامًا لتقديم جمود البطل أو انطوائه على نفسه في لحظة استكشاف «لولب» «هارب أبدًا»٢١٠ — وعما إذا كان، على العكس — غير ملائم لتقديم الحركة، والفعل التحرري. ورغم هذا، فثمة تفسير آخر يتطابق مع السابق، دون أن يناقضه: وهو أن «مالارميه» — بعد أن تحرر من عجزه، بأن صوره، وبعد أن عثر مثل بطله على الحركة — سيستأنف، بعد عام ١٨٧٠م بالتحديد، حركة عقلية ستقوده إلى تخطي هذا المستوى في الأبنية الصوتية، وسيظل «إيجيتور» و«افتتاحية هيرودياد» محاولتين معزولتين في سياق مؤلفاته، وشاهدين على مرحلة ذهنية وتقنية مكتملة. فالجانب الحسي والصوتي للكلمات أصبح يهمه — من الآن فصاعدًا — بدرجة أقل من الجانب الثقافي والفكرة التي ينطوي عليها: وكي نستعيد استعارةً قام بتطويرها عن طيب خاطر، فإن «اللحم» و«الهيكل العظمي» للكلمة، أي واقعها الجسدي،٢١١ أصبحا يبدوان له — في النثر — أقل أهمية من الفكرة و«الروح» اللتين ينطوي عليهما. إن «مالارميه» يمر — إذا جاز القول — من الكلام إلى الكتابة.٢١٢ عندئذٍ، ستصبح الكتابة — بالنسبة له — «طيرانًا ضمنيًّا للتجريد».٢١٣ ومنذ ١٨٧٢م، سيعرب عن بعض التحفظات إزاء استخدام التكرار،٢١٤ وسنراه — فيما بعد — يرفض الإغواءات الشهوانية ﻟ «الإصاتات الأولية»، وقتما سيطالب ﺑ «إبدال السيمفونية إلى كتاب»:
ليست إصاتات أولية بفعل آلات النفخ والوتريات وآلات النفخ الخشبية، بما لا يقبل الجدل، بل بفعل الكلمة العقلية في أوجها، التي ينبغي أن تنتج الموسيقى بكمال وجلاء، كمجمل للعلاقات الموجودة في الكل.٢١٥
لا يكفي إذن — بالنسبة للكاتب — أن يبني جملته باستخدام الكلمات كقيم صوتية، وهي إشارة واضحة إلى «غيل» الذي يرى في الحروف المتحركة — بالتحديد — «أراغن» و«هاربات» و«كمانات» و«آلات نفخ» و«نايات»، يحقق بها «التوزيع الموسيقي اللفظي». وللروح أن تستعيد حقوقها: ذلك مغزى العتاب الذي يوجهه «مالارميه» إلى «غيل» عام ١٨٨٥م: «إنكم تكتبون كمؤلف موسيقي، أكثر من كونكم كاتبًا».٢١٦ ويضيف، ملمحًا، وهو الأرجح، إلى «إيجيتور» و«افتتاحية هيرودياد»: «أعلم جيدًا رغبتكم الرهيفة، بعد أن مررتم بهذا، في أن تقوِّموا منه، مثلما ستفعلون ربما بنفسكم!»
هكذا، نرى مالارميه «يعاود الكرَّة» غير راضٍ عن محاولته في النثر الموسيقي، فهو لم يستطِع العثور في الأبنية الصوتية لقصيدة النثر على وسيلة لتشكيل «المفهوم الروحي للعدم» الخاص به، ولم يتمكن — فضلًا عن ذلك، وهو ما سبق أن قلته — من تحقيق التركيب الصعب للقصيدة، والسرد الدامي والتأمل الفلسفي: وسرعان ما كف «مالارميه» عن الحديث أبدًا عن قصيدة، وإنما عن حكاية، وفي عام ١٨٧١م، يصف مؤلَّفه في حديثه إلى «كازاليس» على هذا النحو: «سِفر مُشتهى من الحكايات، سِفر من الشعر مستشف ومنغم. سِفر من النقد، أي ما كان يسمى بالأمس «الكون»، من وجهة نظر أدبية بحصر المعنى».٢١٧ لم يعد الأمر يتعلق — مطلقًا — بإدخال قصائد نثر في المؤلَّف، والواقع أن «مالارميه» — بعد «إيجيتور» — قد تخلى، تقريبًا، وطوال خمسة عشر عامًا، عن هذا الشكل الذي لم يستجِب لمتطلباته،٢١٨ ولن تكون هناك أية علاقة بين المؤلَّف وقصائد النثر المكتوبة خلال عام ١٨٨٥م وعام ١٨٨٧م، التي تعتبر نقطة انطلاقها حكائية.
ولا يقل عن ذلك إدهاشًا أن نرى «مالارميه» — خلال الأعوام ١٨٧٠م / ١٨٨٧م — يضفي أهميةً متزايدة، في نثره وفي شعره، على البنية «النحوية» للجملة، ويقيم بين الكلمات علاقات ليست صوتية، بل نحوية، ويتقصى دور وقيمة وسائل التعبير. إنه — حسبما يمكننا القول — «يعيد التفكير» في النحو، ويسعى إلى الذهاب حتى أقصى إمكانيات اللغة، وهذا العمل البطيء لإعادة البناء النحوي، والصراع ضد الصدفة، الذي سيحاول «مالارميه» — من خلاله — أن يجعل من النسق اللفظي الرد الجدير بالنسق الكوني، وأن يمسك ﺑ «العلاقات» الموجودة بين الأشياء،٢١٩ سنتابع الآن مراحله من خلال المؤلفات النثرية.

(٤) قصائد النثر من ١٨٧٠م إلى ١٨٨٧م

وإبداع جملة نحوية مالارمية
اللغة الجوهرية والصراع ضد الصُّدفة

تطور الأسلوب المالارمي بين عامي ١٨٧٠م و١٨٧٥م

إذا ما نحينا جانبًا «شيطان التماثل» المكتوبة عام ١٨٦٧م، والمنشورة عام ١٨٧٤م، فإن قصيدة «مشهد مقطوع» القديمة — بلا شك — لكن المعاد تعديلها بصورة كبيرة عند نشرها في «لاريبوبليك دي ليتر» عام ١٨٧٥م — هي أول قصيدة نثر تقدم تركيبتها النحوية، حقًّا، الخصائص «المالارمية»، وكما تلاحظ السيدة «نوليه»، «فإن الصفحة الأولى — التي تبدو صعبة — تتزامن مع أول قصيدة غامضة».٢٢٠ وفي عام ١٨٧٣م، أدهشت قصيدة «النخب الجنائزي» — «الرائعة، الكلية، المتفردة» — قراء قصيدة «قبر» لتيوفيل جوتييه، وفي ١٨٧٦م، سيكشف النص النهائي لقصيدة «بعد ظهيرة إله الريف» الطريق كله الذي قطعه «مالارميه» طوال عشرة أعوام.٢٢١
وبين عامي ١٨٧٠م و١٨٧٥م، يتضح ميل الشاعر إلى «إعادة بناء» اللغة، وإلى قطع وتقسيم وتعديل الجملة التقليدية، ليخلق لنفسه أشكالًا نحوية خاصةً به، في الخطابات،٢٢٢ والمقالات،٢٢٣ وفي الترجمات بشكل خاص، و«مالارميه» الذي كان يترجم نصوصًا إنجليزية بفعل التزامات مهنية أحيانًا، وأحيانًا من أجل تحقيق إشباعه الخاص (عندما يتعلق الأمر ﺑ «بو»)، كان عليه أن ينتهي، كما يلاحظ «روبير»، «إلى ألا يعتبر السياقات النحوية التقليدية ثابتة، بل بأن يخاطر بتجديدات خصبة».٢٢٤ وتوضح لنا ترجمة «الغراب» ﻟ «بو»، المنشورة عام ١٨٧٥م، مدى الابتكارات المتزايدة التي يقوم بها: فهو لا يخشى — في نقله الحرفي، غالبًا — من تفكيك الجملة، ومن استخدام أغرب الأساليب بالنسبة للقارئ الفرنسي: فهو يكتب «بعيدًا في الظل ناظرًا» حيثما كتب «بودلير»: «متمعنًا في الظلمات بعمق»، وهو يتجنب — مثل «بودلير» — إدخال تماثل شكلي صرف لإمتاع الأذن، ويكتب: «المراسم الجليلة والصارمة لرباطة الجأش التي أظهرها»، فيما يقول «بودلير»: «من خلال جلال هيئته وصرامة مظهره».٢٢٥ لكن تأثير اللغة الإنجليزية على تكوين لغته الشعرية «لا يبدو هامًّا ولا حاسمًا».٢٢٦ فمالارميه كان يستجيب لمتطلبات داخلية أكثر عمقًا. ففي أغلب الأحيان، في هذه الترجمات التي قام بها ﻟ «بو» اعتبارًا من ١٨٧٢م، «كان «بو» بالأحرى هو الذي يتكلم مثل «مالارميه».٢٢٧ فلنقارن ترجمتي هذه الفقرة من «الغراب» التي قام بها كل من «بودلير» و«مالارميه»:
And the silken sad uncertain rustling of each purple curtain thrilled me.
بودلير: وحفيف الستائر الأرجوانية الحريرية، الحزين والغامض، كان يتغلغل داخلي …
مالارميه: ومن الحرير كان الحفيف الغامض والحزين في كل ستارة أرجوانية يعبرني …

إن ترجمة «مالارميه» — بعكس «من الحرير»، واستخدام «في» والصفة «أرجوانية» (التي سيلتقطها فيما بعد المعجم الرمزي) — لا يمكن أن تكون إلا ملكًا له، فالأمر يتعلق حقًّا ﺑ «مالارميه»، لا بخاصية «إنجليزية»، حتى لو قبلنا بأن الحرية الكبيرة لتركيب الجملة الإنجليزية قد دعمت ميل «مالارميه» إلى تفكيك الجملة لتجميع عناصرها في نظام جديد.

وفضلًا عن ذلك، فإننا نجد نفس الابتكارات، والمدفوعة إلى أبعد من ذلك، في الوقائع الفريدة والمغرية ﻟ «الموضة الأخيرة»، هذه المجلة الفكرية (الخاصة بالسيدات!) التي كان «مالارميه» مديرها ومحررها والمتعاون الوحيد فيها، من سبتمبر إلى ديسمبر ١٨٧٤م. وكما يكتب «ج. شيرير»٢٢٨ — عن حق تمامًا — فإن «هذا العمل الخفيف يتخذ أهميةً كبرى في تثبيت الميول المالارمية تجاه اللغة». فبواسطة الأسماء المستعارة المسلية، يصنع «مالارميه» نسقه ككاتب، وقد أصبح بلا شك أكثر حرية وأكثر جرأة نتيجة الشعور بأن الأمر يتعلق هنا بفانتازيا، وأنه لا يكتب (على الأقل، ذلك ما يعتقده) للأجيال القادمة، وإذا ما كنا نتعجب من رؤيته وهو يعمل في تفاهات عابرة كهذه، فعلينا أن نعيد قراءة ما كتبه، على هامش «الموسيقى والأدب»، حول هذا النوع من الأدب:
المقالات المسماة «باريس الأولى»، الباهرة، والشكل الوحيد المعاصر، لأنها منذ الأزل قصائد، هكذا، إلى هذا الحد أو ذاك بكل بساطة، ثرية وباطلة، مقطعة أو في خلفية ملصقة.٢٢٩
وفي اللحظة التي لا ينحصر الأمر فيها ﺑ «المؤلَّف»، فإن كل ما عداه لن يكون سوى حكايات أو تمارين أسلوبية، فماذا يهم — إذن، منذ ذلك الحين — إذا ما كان الأمر يتعلق ﺑ «قصائد» أو «وقائع». والقصائد — أو بدقة أكبر النثر الشعري — لا ينعدم في «الموضة الأخيرة»، وتذكر السيدة «نوليه» — على سبيل المثال — الواقعة المسماة «من الحديقة في شهر أغسطس»، وتصفها بأنها «قصيدة نثر».٢٣٠ وسأذكر بدوري، هذا المقطع الفريد، سواء بالنسبة للفكرة أو الشكل، الذي يعلق فيه «مالارميه» على سلوك الباريسيات اللاتي يعتقدن أنهن يتعرفن فيه على أنفسهن من خلال الشخصيات التي رسمها «بودري» لتزيين الأوبرا:
الإطراء موضوع عادي، والإطراء الأكثر صوابًا وجدة موجه من النساء إلى صانع أسقف استطاع — برغم الطريقة، وانطلاقًا من الطراز العام وشبه المجرد للجمال التقليدي — استبدال النماذج التي نراها في كل لحظة تنبثق من مقصورة مسرح أو من عربة، بالإضافة إلى الكمال المتنوع أو الانحناء في حفل راقص على كتف، لكن دائمًا مع إلقاء هذه النظرة التي تحلم، بمَ؟ بالخلود في سماء ما رفيعة المقام ومثالية: أمنية حققها، هذه المرة، الفن، من خلال موهبة فنان جريء إلى حد عدم التردد أمام تمجيد وجه معاصر.٢٣١
هذا الموقف للفنان الحديث «الذي يخلد» الأشكال المتنوعة للجمال المعاصر، «في سماء ما رفيعة المقام ومثالية»، أليس هو بالتحديد موقف «مالارميه» في «الموضة الأخيرة»؟ إن قصدية التبديل المطبَّقة حتى على أكثر الأشياء تفاهة، ورغبة الرجوع إلى جوهر الأشياء في كل الظروف، تتبدى، مع ذلك، في الطريقة التي يوحد بها «مالارميه» بين السقف العاري لشقة ما والورقة العذراء لقصيدة و«السماء»،٢٣٢ مثلما في هذه الملحوظة المدهشة عن زينة عروس:

هذا ما لا يخلق، زينة عروس، إنها تلاحظ، مثلما تبدو، غامضة، حسب الموضة أم لا، غير مجازفة بالذائقة الحالية المخففة بذكريات غامضة وأبدية، بتفاصيل جديدة للغاية مغلفة بعمومية تشبه النقاب.

حيث يرى «تيبوديه» فيها صورة لشعر «مالارميه» نفسه.٢٣٣
ولتقديم فكرة عن التركيب المميز للجمل الذي تبناه «مالارميه» — من الآن فصاعدًا — ها هي خاتمة وصف مرهم مضاد لتشققات البرد (لا يمكننا أن نصدق أية موضوعات غير متوقعة ستكشف عنها فانتازيا «مالارميه» المطلقة العنان، من العقد التافه المسمى عن خطأ «ساجور»، إلى اختيار مصابيح الغاز اليهودية الهولندية، ووصفة لمربى جوز الهند …):
مسافرًا، كنت أدون (بالكتابة، من يدري آنئذٍ؟ وبالنشر، بالتأكيد للمرة الأولى) هذين التقليدين الشعبيين من البلد الرطب هولندا، والبارد، النرويج.٢٣٤

كثافة في التعبير، وأنساق إيجازية، وإعادة بناء للجملة تصدم عادات القارئ: هنا تظهر مرتسمة بوضوح الاتجاهات الأساسية للكتابة المالارمية.

تركيب جملة مالارميه

عندما ننتقل من «الموضة الأخيرة» إلى قصيدة النثر «مشهد مقطوع»، المنشورة عام ١٨٧٥م، فإن الفجوة لا تبدو محسوسة، ويتولد لدينا الانطباع بالاستمرار في تصفح هذه الوقائع المسرحية التي يمزج فيها «مالارميه» الوصف بحلم اليقظة المغير للهيئة، ألا يقدم هذا — فضلًا عن ذلك — «المشهد المقطوع» ﮐ «حكاية» يريد أن يرويها، على نحو ما أذهلت «نظرته كشاعر»؟٢٣٥ وسيمكننا مقطعان مميزان من نص عام ١٨٧٥م من التقاط الجوهري في النظام المالارمي. وأشير في ملاحظات جانبية إلى «تفسير» أكثر التعبيرات غموضًا (التي أشدد عليها):
ما الذي كان يحدث أمامي؟ لا شيء سوى امتقاعات مراوغة من الموسلين معتصمة بعشرين عمود لبناء من بغداد، كانت تخرج في النهاية ابتسامة وأذرع مفتوحة على الثقل الكئيب للدب، فيما البطل، المستدعي لهؤلاء «السلفات»٢٣٦ والحارس عليهن، مهرج، في عريه الفضي السامي، كان يسخر من الحيوان الضحية٢٣٧ لتفوقنا.
عريضتي،٢٣٨ الملحة، عادلة، فلا يبدو أنك — في قلق لا يعدو أن يكون خدعة — تجيب بعدم المعرفة، منطلقًا في أقاليم الحكمة، بكرًا وبارعًا إليَّ، كي أحررك، مكتسيًا بعد بمثوى الكهوف البشع حيث غمرت في ليل العهود الحزينة٢٣٩ قوتي الكامنة.
تجاور للمعاني: «مراوغة» تعود — في آن — على «امتقاعات» الموسلين التي تحجب أجساد الراقصات، وعلى الراقصات أنفسهن، اللائي تهرب وجوههن وأذرعتهن من الموسلين.٢٤٠
المستدعي: معنى اشتقاقي، أي الذي يدفعهن إلى الانبثاق.

– أطلب منك أن …

– عدم المعرفة = ما لا تعرف.

– منطلقًا = أنت المنطلق … – «إليَّ أنا الذي يكتسي»، «البشع» تعود — في المعنى — على «مكتسيًا»: ما أزال مكتسيًا جلد حيوان بشع مثلما كنت خلال إقامتي في الكهوف.

ينبغي — كما نرى — القيام ﺑ «تفسير للنص» حقيقي، لالتقاط القيمة الدلالية والإيحائية لكل كلمة، ولإعادة بناء الجملة حسب عاداتنا في تركيب الجملة، ولا يعني هذا أن «مالارميه» يسعى — عن عمد — إلى تكديس الصعوبات كي يستمتع بأن يبدو غامضًا ومتحذلقًا: فرجاء إدخال «هذيانات» — الذي كتبه «مالارميه»، فيما يبدو، بنفسه٢٤١ — سيدل، عام ١٨٩٧م، على دهشته إزاء الاتهام ﺑ «الاستغلاق» الموجه ضد كاتب قام «ببساطة، باستبعاد الكليشيهات، وعثر على قالب خاص بكل جملة، ومارس الصفائية». لكن نظرياته الأدبية — شأنها شأن الطريقة الطبيعية لذهنه — كانت ستقوده، أكثر فأكثر، إلى رفض أي تنازل للغة الدارجة، وإلى كل ما سيسميه «النقل المألوف لذلاقة اللسان»،٢٤٢ أي إلى اللفظية٢٤٣ والاستسهال: فالمكتوب، مثل الموسيقى، يقتضي — بالنسبة له — «التفكيك المسبق للكلام، خوفًا بالتأكيد من الانتهاء إلى الثرثرة».٢٤٤ وفي حين يسعى الخطيب — قبل كل شيء — إلى أن يكون واضحًا (حتى مع كونه سطحيًّا)، وإلى أن يكون جذابًا (حتى بفعل مؤثرات سهلة وإصاتات متقعرة)، فإن «مالارميه» يريد إجبار القارئ على التوقف أمام كل كلمة ليزن المعنى، ويعيد التفكير في الجملة معه، إنه يدعوه — حسب تعبير «فاليري» — «إلى أن يعيد تعلم القراءة».٢٤٥ لكن كل التغييرات التي يفرضها، بذلك، على اللغة — بمعارضة الأنساق الخطابية، والكليشيهات، والتركيبات الجاهزة — لا يفرضها كيفما اتفق: فهي تمضي في اتجاه تأملاته الأدبية، وتستجيب للضرورات الأعمق لنظريته الجمالية، وانطلاقًا من المقتطفين اللذين ذكرتهما، يمكننا أن نحيل — لمزيد من الوضوح — إلى ثلاث نزعات كبرى في تركيب الجملة المالارمية: نزعة التجريد، ونزعة التركيز، ونزعة إعادة بناء الجملة.

نزعة التجريد

ثمة — هنا — ما هو أكثر من نسق بسيط في الكتابة: فما سيصبح — لدى الرمزيين — هوسًا حقيقيًّا وعادة أسلوبية،٢٤٦ يستجيب — لدى «مالارميه» — لضرورة جمالية وميتافيزيقية في آنٍ، ويرتبط — على نحو وثيق — بوجوده: إنه — من جانبه — رفض مناوئ للواقع الملموس، ومطاردة للاحتمالات الجوهرية، وإلغاء للعالم الواقعي ليحل محله عالمًا من «الأفكار».٢٤٧ فنحن نرى — على سبيل المثال، في «مشهد مقطوع» — «امتقاعات مراوغة من الموسلين» تحل محل التعبير الملموس «امتقاعات موسلين»، الذي يمثل هو نفسه السلفات، المحجوبات بشكل مزدوج،٢٤٨ وقد تبخرن في ازدهار رغوي وشاحب، وبالمثل، يبدو المهرج «في عريه السامي الفضي»، والدب «لا يزال مكتسيًا بالمثوى البشع للكهوف».
هذا الميل إلى التجريد، وهذه المجاهدة في اتجاه جوهر الأشياء، يقودان «مالارميه» إلى أن يمنح الاسم والأشكال الموصوفة مكانة متميزة: فهو كثيرًا ما يلغي الفعل، أو يختزله إلى قيمته الواهنة كرابطة («ma requête est / عريضتي تكون»، بدلًا من «je te demande / أطلب منك»)، وهو يحل — محله كلما أمكن ذلك — اسمًا مجردًا («عريضتي»)، وأحيانًا صفة («مراوغة»، «مستدعي»، المستخدمين بدلًا من الجملة الموصولة)، وإذا ما كان ذلك مستحيلًا، فإنه يحاول — على الأقل — استخدام الأشكال الاسمية للفعل، على سبيل المثال المصدر (ne savoir / عدم المعرفة) بدلًا من «que tu ne sais pas / الذي لا تعرفه». فالاسم — وخاصة الاسم المجرد — يمثل، في الواقع، جوهر الأشياء، في حين أن الفعل يعبر عن حدث، عن صيرورة. وفي هذا الصدد، يقول «ج شيرير» — عن حق تمامًا — إن الاسم «يفيد، بالأساس، على نحو ما تشير إليه لفظة الموصوف الذي يحدده أحيانًا، في التعريف بالماهية، أي ما أسماه أرسطو بالأقنوم، وأفلاطون بالفكرة، أو — إذا فضلنا أيضًا — الجوهر، الذي يذيبه الفعل — على النقيض — في تدفق الصيرورة».٢٤٩ فكيف يمكنه — في بضعة سطور سابقة — أن يخطئ، إلى هذا الحد، فيما يتعلق بهذا الملمح الآخر الفريد لتركيب الجملة المالارمية: فالأفضلية — لدى «مالارميه» — إنما يمنحها، بوضوح، إلى المفرد، حيثما يتطلب العرف الشائع استخدام الجمع، وفي «سماء تسطع بالنجم»، و«أصيص زهرة»،٢٥٠ يظن أنه يتعرف على «الميل إلى الملموس»، والرغبة في رؤية «دقيقة، فردية وملموسة»٢٥١ — (وأي تناقض يتوجب علينا قبوله، من الآن فصاعدًا، في فكر «مالارميه»!) — في حين أنه النقيض بالتحديد: ﻓ «أصيص زهرة» يُحل محل رؤية الأزهار المتعددة، المتنوعة، الفردية، فكرة الزهرة نفسها، «الغائبة من كافة الباقات». ألم نتعلم كلنا أن نترجم gladiis strictis ﺑ «الحسام المستقيم»، بالضبط كي نمتثل لعادات الفرنسية، تلك اللغة المجردة؟ لهذا السبب نفسه — لا يحدثنا «مالارميه»، في «مشهد مقطوع»، — إلا عن ابتسامة واحدة، رغم وجود عشرين من السلفات.

وستظل نزعة التجريد هذه تتنامى، فتزيد دائمًا من صعوبة نثره، ومن المفيد — في هذا الموضوع — أن نقارن «مشهد مقطوع»، كما نشرت في «لاريبوبليك دي ليتر» عام ١٨٧٥م، بالنص المنشور في «هذيانات»، عام ١٨٩٧م: فبدلًا من «غياب الصديق»، حيث الصديق قد يكون — على الأقل — كائنًا حقيقيًّا، فردًا، يُحل «مالارميه» محلها «غياب صديق»، المجردة بشكل مزدوج، وبذلك يلغي ثلاثة أفعال، وسنرى — فيما بعد — القصائد اللاحقة التي سترفض دائمًا — أكثر فأكثر — استدعاء «واقع الأشياء».

نزعة التركيز

يتحدث «آلان فورنييه» — في خطاب له — عن «الإيجاز الباعث على الدوار» لدى «مالارميه».٢٥٢ وذلك — بالفعل — إحدى الخصائص المدهشة لشعره، التي تجعل قراءته شديدة الصعوبة، بأكثر من أية خاصية أخرى. ومن المدهش أكثر أن نرى «مالارميه» يمارس في النثر — الاستدلالي عادة — هذا النسق الشعري للغاية في التركيب والتركيز. وقد جعل كلمة «مونتسكيو» كلمته: «كي نكتب بشكل جيد، يجب الإطاحة بالأفكار الوسيطة»، لكن «مونتسكيو» أضاف: «لا بإفراط، خوفًا من ألا نُفهَم»،٢٥٣ فيما يصل «مالارميه» — في ختام حياته — إلى إيجاز غامض حقًّا، فريد ولا شك في الآداب. لكن هذا الميل — في بدايات تكوينه في قصائد النثر الأولى (قارن ﺑ «طفل فقير شاحب»: «تغني على نحو قدري» = كم يدفعك إلى ذلك القدر) — يتطور في «مشهد مقطوع»: فقد رأينا «مالارميه» يستخدم الصفة بدلًا من الجملة الموصولة («مراوغة»، «المستدعي»)، أو اسم مفعول في حالة إبدال («منطلقًا» = أنت المنطلق، «مكتسيًا» = أنا الذي أكتسي)، وتعبير «مكتسيًا بعد بمثوى الكهوف البشع» هو — في آنٍ — تجريد وإضمار ومجاز مرسل.
لغة موجزة ومكثفة في آنٍ: فهو — من ناحية — يضع، بدلًا من «براءة الورق»، «أية انتقالات»،٢٥٤ وبشكل أعم كل ما يستحق عناء قوله، وكما يكتب «موكيل» — في دراسته المرهفة للغاية التي خصصها لمالارميه — فإن الشاعر «لا يعبر إلا عمَّا يعتبره ضروريًّا، والباقي يبدو له نوعًا من اللغو، وزخرفة طفيلية. باختصار، عبئًا معطلًا يثقل طيرانه».٢٥٥ ومن ناحية أخرى، فهو يشحن هذه الكلمات النادرة بكثافة دلالية وإيحائية خارقة حتى حافة إمكانيات اللغة، وكأن ذلك عن قصد: بل أبعد من ذلك قليلًا … وسيصل «مالارميه» — بإلغاء كل أدوات الربط — إلى توصيل جملة بأكملها عن الشعر الحر في كلمتين، لكن كم هما مشحونتان بالدلالة! «إعصار مطهر» (لنفهم من ذلك أن الشعر الحر، الذي قلب «بشكل عاصف» أوضاع الأدب، قد «مهد الطريق» — في نفس الوقت — للمحافظة على الاستعارة، وصفَّى فعل الكتابة من كل انشغال خارج عن ضروراته الخاصة به).٢٥٦
ويتمثل أحد الملامح الخاصة لهذا التركيز في تراكب المعاني أو الإيحاءات لنفس الكلمة، إنه نسق مميز لمالارميه الذي ينحو — على نحو ما أوضح تمامًا «ج. ميشو» — إلى «منح مؤلَّفه بعدًا ثالثًا، أي معاني متعددة ومتراكبة».٢٥٧ وقد رأينا — خلال قراءتنا ﻟ «مشهد مقطوع» — أن بوسعنا منح عدة معانٍ إلى التعبير «امتقاعات مراوغة للموسلين»، وعلى نفس النحو، فيما بعد بقليل، فإن «الموقف القاتل غالبًا» للدب، وهو يحتضن المهرج، يمكن أن يدفعنا — في البدء — إلى الاعتقاد أن هذا الاحتضان سيكون «قاتلًا» للمهرج، في حين أن «مالارميه» يتحدث، ليس بلا لبس، عن موقف ضروري يمليه القدر، دون إمكانية لوجود موقف آخر، ومن الآن فصاعدًا، سينكب «مالارميه» — في أشعاره، باستمرار — على «لعبة التراكمات الطباعية الاستعارية»:٢٥٨ أحيانًا بأن يطبع على المعنى المألوف معنًى ثانيًا، اشتقاقيًّا (مما يسمح ﻟ «ش. شاسيه» بأن يبذل كل ما في وسعه لإثبات أن قصائد «مالارميه» هي كتابة شفرية، وأنها ما إن تتجرد من غموض مفتعل مستعار من «ليتريه»، حتى تُختَزَل إلى تأملات عادية تمامًا)،٢٥٩ وأحيانًا بفعل توريات حقيقية مثلما في بداية «خلاص»:
لا شيء، هذا الزَّبد، شعر عذري
كي لا يعني سوى الكأس …
حيث يلعب — في آنٍ — على المعنى المزدوج لكلمة coupe (كأس للشرب وقطع عروضي)، وعلى الجناس vers – verre: شعر – زجاج، وأحيانًا أخيرة باستخدام صياغات ملتبسة، مثلما في تلك التي لا نستطيع — على سبيل المثال — أن نعرف، بالضبط، ما إذا كانت هذه الكلمة فاعلًا أم مضافًا إليه، فعلًا أم اسمًا موصوفًا، إلى حد أن تصبح الجملة ملتقًى حقيقيًّا للمعاني. وبالمثل، سيحلو لمالارميه أن يستخدم — في النثر — كلمات متعددة المعاني أو محملة بالإيحاءات المتعددة: ﻓ «الطفل المنقول بعربة في تسلياتي  l’enfant voituré dans mes distractions» تعني — في آنٍ — الطفل الذي كنت أصطحبه فيتسلى معي، والطفل الذي أخذته بالعربة دون انتباه، الضائع في حلم يقظتي،٢٦٠ وتلخص «كنت أستدعيها مطهرة» — وفي صفة واحدة — كافة إيحاءات الصفاء والسيولة، التي تمنحها الفقرة السابقة.٢٦١ وتقدم بداية «تصريح جوَّال» عدة أمثلة للتعبيرات أو التركيبات:
الصمت! من المؤكد أنه جواري، مثلما أحلام، وكل امرأة مسترخية في هدهدة نزهة بفعل العجلات المنوِّمة لتعجب الزهور، وأعرف منهن واحدة ترى هنا بوضوح، فتعفيني من جهد النطق بكلمة: أن أجاملها في رفعة بزينة ما متفحصة، هبة النفس تقريبًا إلى الرجل لصالح ما يتحقق فيما بعد الظهيرة، دون قدرة بخلاف هذه المقابلة المفاجئة، إلا الإيحاء بالمسافة على ملامحها وقد بلغت غمازة ابتسامة روحية.٢٦٢
علينا أولًا أن نقاوم الميل إلى اعتبار «songes — أحلام» كفعل، وإلى أن نلحق بها «étendue sous les roues — مسترخية تحت العجلات»(!) وسيكون علينا أن نتساءل ما إذا كانت العجلات تنوِّم، أي تسحق، زهورًا حقيقية تجثم، و«ترمي بنفسها» أمام العربة، أم إن الأمر لا يتعلق — بالأحرى — بمجاملات (قارن بالتعبير «يرمي بالزهور» إلى شخص ما) لم يعد الشاعر بحاجة لتوجيهها إلى رفيقته، مع المحادثة «المخدرة» في هدهدة النزهة وصوت العجلات، وهو تفسير تؤكده نهاية الجملة، حيث هبة النفس  offre de soi ليست فعل «يهب offrir»، حسبما يمكن أن نعتقد لأول وهلة، بل هي اسم بدل ﻟ «toilette – زينة».٢٦٣ ونرى كيف يتداعى — مهما كانت درجة الوضوح — معنى الفقرة، والانطباعات المستدعاة بفعل «الصمت» و«الأحلام»، و«الهدهدة»، و«التخدير». وإذا ما كانت الصياغات الملتبسة تكشف بالتأكيد عن ميل للعب، وربما الغموض، الذي كثيرًا ما يتبدى لدى «مالارميه»، فإنها تكشف — بما لا يقل عن ذلك تأكيدًا — عن رغبة في إجبار القارئ على مشاهدة الجملة عن كثب، على ألا يقرأ النص بآلية اعتمادًا على روتين الصياغات التقليدية، وعندما كانوا يلومونه على غموضه، كان «مالارميه» يقول: «أنا أفضل أن أجيب بأن ثمة معاصرين لا يعرفون القراءة».٢٦٤

وتوضح لنا هذه الفقرة من «تصريح جوَّال» الأهمية التي يتخذها تنسيق الكلمات في نثر «مالارميه»، وهنا، يكمن الملمح الثالث لهذا النثر، وليس الأقل لفتًا للنظر:

نزعة إعادة بناء الجملة

والواقع أن «مالارميه» لن يتباهى — دون وجه حق، في نصوص «هذيانات» — بأنه «عثر على قالب خاص بكل جملة»: فنثره كله هو رد فعل ضد الجُمل الجاهزة الخارجة أبدًا من نفس القالب، ولا ينبغي أن نرى في ذلك بحثًا — عبثيًّا إلى حد ما — عن الأصالة بأي ثمن، لكنه دائمًا المنطق الجمالي الذي يريد أن يحدد لكافة عناصر الجملة مكانها النهائي، وأن يؤسس — فيما بينها — علاقات دقيقة، باختصار، بناء جملة مثلما نبني عالمًا، ويرقى تركيب الجملة إلى مستوى «ميتافيزيقا ما».٢٦٥ وفي مفهوم كهذا، يتم — بعناية — حساب موضع كل كلمة، واستخدام كل فاصلة، لا شيء يُترَك للصدفة، وفضلًا عن ذلك، كان «مالارميه» يقول في حديثه عن نفسه: «أنا — على نحو عميق ودقيق — نحوي … إن جملتي هي ما يجب أن تكونه (وتكونه) للأبد …»٢٦٦
وثمة — رغم هذا، فيما يبدو لي — «زمنان» في تكوين تركيب الجملة المالارمية (يهمل «تيبوديه»٢٦٧ و«شيرير»، اللذان لا تتبع دراساتهما التسلسل التاريخي، التمييز بينهما):
  • (١)
    حتى عام ١٨٨٥م،٢٦٨ حيث يبدو «مالارميه» مهمومًا — بشكل خاص — بالصراع ضد التشويه الذي تفرضه الضرورات النحوية (التي تفرض بضعة أنماط من الجمل متشابهة دائمًا) على النظام الحقيقي الذي تظهر خلاله الإدراكات أو الأفكار، وفي تحليله لهذا الجهد في «لا فوج»، عام ١٨٨٦م، يقول «ويزيوا» إنه:
    أراد أولًا أن يعيش الجملة كلها، أي الفكرة كلها، بتفاصيلها ومستوياتها المتنوعة، بحالات وظلال الأحاسيس، ثم يكتب على الورق — بصدق — رؤيته بكاملها لهذه الفكرة، لقد أعاد لنا الجملة المعاشة كاملة: محترمًا نظام الأحاسيس، والأحداث، والمستويات التي تشغلها الأجزاء، في روحه.٢٦٩
    والخلاصة أن «مالارميه» يعمل بطريقة انطباعية، مجتهدًا في إعادة رؤيته للأشياء في حقيقتها المباشرة، قبل أي تدخل من الذهن نحو إعادة بنائها طبقًا للمعرفة الثقافية التي نملكها.٢٧٠ وإذا ما عدنا إلى المثال الذي ذكرته من «مشهد مقطوع»، فسنرى أن «مالارميه» يستدعي أولًا «امتقاعات الموسلين» و«أعمدة البناء»، أي ما يشد انتباه العين في المقام الأول، ثم اﻟ «ابتسامة»، والأذرع، قبل أن يقول إلى من تنتسب السلفات على نحو ما كان للغة الدارجة ألا تقصر عن فعله منذ البداية، هذا الانتظار للاسم الذي يظل مرجأً، بينما توصف أو يتم الإيحاء بسماته هو، فضلًا عن ذلك، مؤثر أثير لدى «مالارميه» (قارن: «البطل، المستدعي لهؤلاء السلفات، والحارس عليهن، مهرج».)
    وعلامات الترقيم (التي ستُتاح لي فرصة التأكيد على أهميتها فيما بعد) فعالة بشكل خاص، في توزيع العناصر، وذلك بمراعاة مسيرة الأفكار أو الأحاسيس، يرى «مالارميه» — في محل عواد — «سعفًا أصفر وأجنحة مطمورة في الظل، لعصافير قديمة».٢٧١ ويوضح «تيبوديه» — بدقة شديدة — أن هذا الترقيم (أو — بالأحرى — هذا الغياب لعلامات الترقيم بعد «أجنحة».)
    لا يتبع نظام الأشياء بل نظام الأحاسيس. ﻓ «السعف الأصفر والأجنحة المطمورة في الظل» تختلط — ككل — بالنسبة للعينين، فيما الترقيم يقطع بالتفسير المعاكس، وتفسير «عصافير قديمة» هو لحظة جديدة في الفكر، ملاحظة تفسر، وتتضمن — كي نفصلها عن الخيال — فاصلة.٢٧٢

    لكن هذه المحاولة «الانطباعية» — رغم أهميتها — لا تمثل سوى مرحلة أولى؛ فمالارميه لن يلبث أن يخلق لنفسه تركيبة أكثر جرأة أيضًا في طموحاته وإنجازاته.

  • (٢)
    اعتبارًا من ١٨٨٥م، سيبدأ «مالارميه» — طبقًا لنظريته الجمالية، وعاداته الذهنية، ومفهومه «الميتافيزيقي» للغة — في فرض بنية أكثر جوهرية وتركيبية على جملته، ولنتذكر البوح الذي ذكرته من قبل: «إن جملتي هي ما يجب أن تكونه وتكونه للأبد». وإلى حد معين، فإن هذه الصرامة، وهذه الرغبة في تجميد الجملة في معمار صارم، في تثبيتها للأبد، تتعارض مع «الانطباعية»، التي تسعى — على العكس — إلى تقديم الأشياء في مظهر وقتي لحظي. ورأي «ويزيوا» — الذي سبق ذكره — لا يشير إلا إلى مظهر واحد من الجملة المالارمية، هي — بعد عام ١٨٨٥م — «الجملة المعاشة»، أقل — بكثير — من كونها الجملة اللازمنية، معمار بديل عن الحركة، وتوزيع أوركسترالي بديل عن الميلودي، ويبدو لي أن «بواسي» سيرتكب نفس الخطأ إزاء «رمية نرد».٢٧٣
    ويمكننا أن نلاحظ — فضلًا عن ذلك — منذ عام ١٨٧٥م، هذا النزوع إلى إعادة تركيب الجملة، لعقد علاقات بين عناصرها، تتطلبها لا قواعد النحو بل الضرورة الداخلية للفكرة، وحيث قد نندهش من أنه «لا توجد رابطة، في كل مدينة كبيرة، بين الحالمين الذين يقيمون فيها»،٢٧٤ يكتب «مالارميه»: «ينبغي أن نندهش من عدم وجود رابطة بين الحالمين، المقيمين في كل مدينة كبيرة»: يبدو له مستحيلًا — من وجهة النظر المنطقية — فصل «رابطة» عن «بين الحالمين»، ما دامت فكرة الجمع هي الجوهرية، ومن هنا يكمن رد الاعتراض المتوقع «المقيمين فيها». وعلى العكس، فبفصل الصفة «فسيح»، بجزء كامل من الجملة — عن الاسم المعطوف عليها — يمنحها قيمتها الكاملة في الاتساع، عندما يكتب «مشهد، مضيء، فسيح أكثر من المنصات».٢٧٥ وقد أكد «فاليري» — في مقدمته ﻟ «موضوعات إنجليزية» لمالارميه — على «هذا النوع من الطباق الأدبي الذي يقيم — بين الكلمات والأفكار — تماسات أو انحرافات محسوبة ببراعة».٢٧٦ وسيبذل «مالارميه» جهده أكثر فأكثر، بالطبع، في قصائده التالية، لاستبدال التركيبات الشائعة بهذه الأشكال من الجمل المدروسة، حيث تنهزم الصدفة «كلمة كلمة».
    واعتبارًا من عام ١٨٨٥م، سيصبح هذا الاتجاه التركيبي — في النثر المالارمي — هو الأكثر وضوحًا بشكل خاص. وليس من العبث أن نذكِّر بأن هذا النزوع إلى التركيب — الذي يشكل كل جماليات «مالارميه» (من الحرف إلى الكلمة، ومن الكلمة إلى الجملة أو بيت الشعر، ومن بيت الشعر إلى القصيدة، ومن القصيدة إلى الكتاب، كل شيء متماسك، وقد قلت ذلك، ليشكل «فلكًا روحيًّا»)٢٧٧ — هو أيضًا، بالنسبة له، ضرورة حقيقية في منظومته الذهنية، ألم يسبق أن أجاب على أحد الباحثين حين سأله عن «فكرة» ما:
    لا تتمثل لي الفكرة أبدًا منفصلة، ليس لديَّ هذا النوع، وأظل هنا في حيرة، فأفكاري تشكل قطعًا مصوغًا بشكل موسيقي، ضمن كل، وأحس بها – في تفقد كل شيء – في عزلها – حتى حقيقتها، وتصدر رنينًا كاذبًا …٢٧٨
فلا الجملة ولا بيت الشعر المالارمي سيصبحان — إذن — تسلسلًا خطيًّا بسيطًا، بل — بالأحرى — «توزيعًا أوركتسراليًّا» للأفكار والإيحاءات التي تشكل كُلًّا حقيقيًّا شديد التركيب غالبًا، ويمكن أن يبدو أكثر صعوبة أن يُمنَح إلى جملة النثر — التحليلية والمطردة بطبيعتها — هذا التركيز التركيبي. ويبدو أن «مالارميه» قد عكف على تأمل هذه المشكلة، التي طُرِحَت على كل كتاب قصيدة النثر: كيف يمنح النثر الفرنسي وقارًا أدبيًّا، وكيف يمكن تخطي إهمال المحادثة رغم فتنتها (التي يمكن أن نربطها بهذين «النوعين»، المراسلات والمذكرات)، لمنح الجملة إيقاعًا، وبنية، وعمقًا؟ وها هي إجابة «مالارميه»:
إن لغة ما، الفرنسية، تستمد سلاستها من أن تبدو مهملة، ويشهد الماضي على هذه الصفة، التي تتأسس أولًا مثل موهبة رهيفة للغاية، في سلاسة، لكن أدبنا يتجاوز «النوع»، المراسلات أو المذكرات. والصياغات المتقطعة، ضربات أجنحة عالية تتراءى أيضًا: فمن يمارسها، يدرك نوعًا من التناسب الفريد للبنية، الصافية، ذات الصواعق البدائية للمنطق. لعثمة، تبدو الجملة، المكبوتة هنا في استخدامها الجمل الاعتراضية المتعددة، وهي تتكون وتعلو في توازن ما رفيع، ذي اتزان مسبق للانعكاسات.٢٧٩،٢٨٠
وهذا الجهد — في «تكوين» الجملة، ومنحها «توازنًا ما رفيعًا»، بالاستخدام البارع للجمل الاعتراضية التي تقيم تماثلات وتدرجات للمستويات — يطبقه «مالارميه» على قصائده النثرية الأخيرة، وينشره — فضلًا عن ذلك — على كل ما يراه يستحق اسم «مكتوب». وقد لاحظ «تيبوديه» أن جملة «مالارميه» «هي — في الغالب — سلسلة من الاستطرادات والإدماجات».٢٨١ وقد درس «شيرير» — عن كثب — هذه «المحصورات»٢٨٢ التي تصبح جملة النثر بفضلها «مبنية منطقيًّا على عدة مستويات من العمق».٢٨٣ والواقع أن «مالارميه» يستخدم المحصور في المحصور، بحيث إن الجملة تصبح مبنية على عدة مستويات: وإذا ما حاولنا إعادة إنتاج هذه المستويات المختلفة طباعيًّا، مثلما فعل «شيرير»، فسيصبح «عمق» الجملة محسوسًا من الوهلة الأولى. ولتكن جملة: «كان من الضروري، حتى لا تحدث بفعل وجودي حيرة، أن أتمتع بالبراعة»، من «الكنسي».٢٨٤ فبترتيبها على هذا النحو:
كان من الضروري
أن أتمتع بالبراعة
حتى لا تحدث
حيرة
بفعل وجودي
سندرك — على الفور — أن الجملة مبنية «معماريًّا» بطريقة تركيبية وتماثلية، في آنٍ. وقد نشر «مالارميه» هذا النسق على جمل أكثر تعقيدًا بكثير، أحيل إليها في كتاب «شيرير».٢٨٥ وجهد كهذا — يُبذَل من أجل منح الجملة التحليلية الفرنسية شيئًا من الكثافة الخاصة بالجملة اللاتينية٢٨٦ — بعكس نزوع «مالارميه» إلى الكليات، ويلبي الرغبة في جعل الجملة، لا جملة الشعر فحسب، «كلمةً كلية»، ووحدةً مركبة: وستسود هذه الرغبة — وقد دفعت إلى أبعد من ذلك — بنية «رمية نرد»، هذه القصيدة / الجملة.
ويصاحب هذا البناء التركيبي — كما يقول «مالارميه» — «اتزان مسبق للانعكاسات»: اتزان مسبق، أي واعٍ وقصدي، هدفه خلق تماثل — (من هنا، يكمن عكس المضاف «بوجودي»، في جملة «الكنسي» المذكورة من قبل) — وأيضًا استدعاء إيحائي، وعندما يتحدث «مالارميه» عن «المسافات الحية بين نباتاته النائمة على جدول محصور وشارد أبدًا»،٢٨٧ فإن هيئة الجملة نفسها توحي بهيئة الجدول، وعندما يقول عن متجولة توقفت على حافة هذا الجدول: «أتعرف الدافع على توقفها، هي نفسها المتجولة»،٢٨٨ ليعكس بهذه الطريقة النظام الطبيعي للجملة، «هل تعرف المتجولة نفسها الدافع على توقفها؟» فإنه ينتج أثر انعكاس فريد، يصفه «تيبوديه» على هذا النحو: «ألن نقول (وكأن) هذا النظام العكسي للأعضاء الثلاثة مثل الرأس، والجذع، والساقين، سيتراءى معكوسًا تحت الماء، ويعلق رؤية المجذف نفسه؟»٢٨٩
ولنذكر أخيرًا — كي نكمل هذه الملاحظات حول «إعادة بناء» الجملة — الأهمية التي تلعبها علامات الترقيم فيها: فهي — بالفعل — التي تجمع وتوزع العناصر المختلفة للجملة، هي التي تسمح للنثر بأن يمتلك — مثل الشعر — القطع والإرجاء، وسنلاحظ — على سبيل المثال — في الجملة التالية، كيف ستسمح الفاصلة، بفضل استخدام الفصل وعكس الجملة، بتحقيق توازن مقطع بكامله حول اسم منعزل يمثل محور المقطع كله، هو «فونتانبلو»:
إذا ما كان ثمة شقاق أثناء تمجيد الساعة، فقد حفرت صرخة هذا الاسم المعروف لإظهار استمرارية القمم المتلاشية متأخرًا، فونتانبلو، الذي كنت أفكر فيه، صقيع الحجرة الأليمة، والقبضة المشدودة على رقبة من يقاطع: فلتصمت!٢٩٠
وسيتمكن «مالارميه» — بفضل علامات ترقيم متنوعة (الفاصلة، والنقطتين، ولا سيما علامة التعجب، التي سيستخدمها — عمدًا، أكثر فأكثر — كي يؤكد كلمة ما)٢٩١ — من تحقيق وقفات في نثره، وصمت يشبه ما يخلقه في الشعر، في حالة الإرجاء، بين نهاية بيت وبداية البيت التالي. ولا تحتوي قصائد «مالارميه» الأخيرة — ونعلم ذلك — على علامات ترقيم، وقد شرح الشاعر سبب ذلك بنفسه:
إن استخدام أو تنحية العلامات المناسبة يدل على النثر أو الشعر، ولا سيما كل فننا: فهي تتحقق بدون هذه الحيلة الطباعية من خلال امتياز تقديم الوقفة اللفظية التي تنظم الدفقة، الوقفة الصوتية التي تزن الاندفاعة، وعلى العكس، فثمة ضرورة أحبذها كثيرًا، حسب تذوقي، تكمن في شكل مرسوم على صفحة بيضاء، تتخلله فواصل ونقاط مع توافقاتها الفرعية، يحاكي — بصورة مجردة — اللحن، ولم يكن النص المقترح — بصورة متميزة — مرقمًا، حتى لو كان نصًّا رفيعًا.٢٩٢
هذه الكلمات الأخيرة — حتى لو حسبنا حساب المبالغة الطريفة (إذ يتعلق الأمر ﺑ «حوار تخيلي» حول موضوع علامات الترقيم) — تجعلنا نرى، جيدًا، الأهمية التي يوليها «مالارميه» إلى معمارية الجملة، إلى هذا التركيب الذهني الذي يرسم في الفراغ، بشكل مثالي، صورة فكرة لم تتجسد بعد في كلمات، وكان بمقدور «مالارميه» وحده تخيل فكرة مختزلة في علامات ترقيمها، ويمكن موازاة هذا مع التأمل حول موضوع قصيدة النظم:
الهيكل الذهني للقصيدة يتخفى ويتماسك في الفراغ الذي يفصل المقاطع وخلال بياض الصفحة: صمت دال لا يقل جمالًا في تكوينه عن الشعر.٢٩٣
فالفواصل من ناحية، وبياض الصفحة من ناحية أخرى: إنها مظاهر «الصمت الدال»، الذي يولج في القصيدة — فيما بين الكلمات المثقلة بالمادية — الشكل المضمر لعالم مثالي، ما يسميه «مالارميه» ﺑ «الشواهد الزفافية للفكرة».٢٩٤ وسنرى — عبر كتاباته الأخيرة — الحصة الممنوحة إلى «الأبيض» وهي تتزايد، باستمرار، كلما تزايد لديه هاجس عالم مثالي، مطلق، على الشعر أن يستحضره بصمته أكثر مما عبر تعبيراته.٢٩٥

قصائد النثر الأخيرة (١٨٨٥–١٨٨٧م)

اضطررت — كي أرسم بشكل واضح الملامح الكبرى لتركيب الجملة المالارمية — أن أسبق قليلًا، وأتخذ أمثلة من نثريات كُتِبَت بين عامي ١٨٨٥م و١٨٨٧م. والواقع أن «مالارميه» — إذا ما كان قد كتب بعضًا من أهم قصائده فيما بين ١٨٧٥م و١٨٨٥م (وبشكل خاص قصيدته الشهيرة «نثرية إلى زهور الياسنت»، حيث تنطوي كلمة «نثر» على معنى ترتيلة طقسية مقفاة) — فإنه لم ينشر خلالها أية قصيدة نثر، إنها المرحلة التي يتحول فيها عن النثر كأداة تعبير شعري، في اللحظة التي لم يكن المعجبون — الذين يبدءُون في التلهف على الذهاب كل ثلاثاء إلى شارع روما — بأقل انبهارًا بقصائده النثرية من قصائده المنظومة، مثلما تشهد على ذلك قصيدة «بالعكس» لهويسمان عام ١٨٨٣م.٢٩٦ لكنه يطبق — أكثر فأكثر على كل ما يكتبه نثرًا (في مؤلفه اللغوي عن «الكلمات الإنجليزية» عام ١٨٧٧م، على سبيل المثال) قواعد نحوه الشخصي.
وفي عام ١٨٨٥م، سيعود «مالارميه» — مع «عروس النيل البيضاء» — إلى قصيدة النثر، في فترة سيعتبر القصائد التي يكتبها نظمًا أو نثرًا كتمارين بسيطة يستهدف بها «تدريب اليد»،٢٩٧ دون تخلٍّ عن الأمل في إنجاز مقطع على الأقل من «المؤلَّف الكبير». فلماذا هذه العودة إلى قصيدة النثر؟ بكل بساطة، لأن «مالارميه» — بلا شك — قد وجد نفسه، وقتئذٍ، في حالة من الإنهاك الذهني والعصبي تجعل نظم الشعر يكلفه الكثير. «الرباعية تطوحني، أنا المريض والمعذَّب بالواجبات، خمسة عشر يومًا خارج الممر الوعر الذي تسلقته ذهنيًّا»، هكذا كتب إلى «دوجاردان» في ١٠ سبتمبر ١٨٨٥م.٢٩٨ وأيضًا، عندما يطلب منه «شيء غير منشور»، فإنه يبعث بسهولة أكبر (إلى «فيرلين» و«بيكا») بقصيدة نثر، لا بسوناتا. ولنضف أنه في هذه الأعوام التي سبقت بقليل «اكتشاف» الشعر الحر، كانت قصيدة النثر واسعة الانتشار: كانت كل المجلات الشابة تنشرها، وستذكر «لافوج» — في فهرس عددها الأول، في أبريل ١٨٨٦م — قصائد «شكوى الخريف» و«ارتعاشة الشتاء» و«ظاهرة مستقبلية».

واعتبارًا من عام ١٨٨٥م حتى ١٨٨٧م، ينشر «مالارميه»:

  • عروس النيل البيضاء: المنشورة في ٢٢ أغسطس ١٨٨٥م، في «لار ايه لامود» (الفن والموضة).
  • المجد: المنشورة في ١٨٨٦م، في «نوتيس» (لمحة) التي كتبها «فيرلين» من أجل «رجال اليوم» للناشر «فانييه»،
  • الكنسي: المنشورة في ٤ ديسمبر ١٨٨٦م، في «جازيت ليتراريا أرتيستيكا ايه سينتفيكا» (المجلة الأدبية والفنية والعلمية) في «توران»، التي كان يديرها «فيتوريو بيكا».٢٩٩
  • تصريح جوَّال: المنشورة في ١٢ أغسطس ١٨٨٧م، في «لار ايه لامود».

ويمكننا أن نُلحق بهذه القصائد الأربع قصيدة «صراع»، التي نُشِرَت في «لاروفي بلانش» عام ١٨٩٥م، وشكلت وقتئذٍ جزءًا من «تنويعات حول موضوع»، قبل أن تُجمَع في «حكايات وقصائد» من «هذيانات» عام ١٨٩٧م، والنسخة الجديدة من قصيدة «اليتيم» المنشورة في ديوان «صفحات» عام ١٨٩١م، تحت عنوان «ذكريات»: وتمكننا هذه القصيدة، وقد عُدِّلَت تمامًا، من تقدير الطريق الذي قطعه «مالارميه» منذ ١٨٦٤م، وتلك هي قصائد النثر الأخيرة التي كتبها.

ونحن نرى — من «عروس النيل البيضاء» إلى «تصريح جوال»، أو بالأحرى حتى «صراع» — تطور الاتجاهات الخاصة بنثر «مالارميه» إلى نهاياتها القصوى، بقدر تزايد متطلبات الشاعر إزاء اللغة.

وربما تكون قصيدة «عروس النيل البيضاء» — التي كُتِبَت في «فالفان» عام ١٨٨٥م٣٠٠ — هي أجمل قصائد «مالارميه» النثرية: إنها — كما يكتب «تيبوديه» — «قصيدة أيامه الصيفية، والجدول المضيء الذي يحمل الزورق مثل الحلم الذي يلمسه».٣٠١ وهي — أيضًا — أكثر مالارميةً من أية قصيدة أخرى، قصيدة الغياب – غياب متحول إلى حضور مثالي، يعمر نعيمه حلم الشاعر، بأفضل من أي واقع آخر. وبدلًا من الإبحار لتحية السيدة التي رآها لتوه — (التي سمع اقتراب خطواتها، وهو متخفٍّ في زورقه) — فإنه سيرحل بلا ضجيج، حاملًا معه عروس النيل البيضاء إلى حلم غير متحقق:٣٠٢

النصيحة، يا حلمي، ما العمل؟

فتلخيص الغياب العذري المبعثر بنظرة في هذه العزلة و— مثلما نقطف — في ذكرى مكان ما – إحدى عرائس النيل البيضاء السحرية المسيجة، اللائي ينبثقن عندئذٍ فجأة، وهن يطوقن ببياضهن المجوف شيئًا ما، مجبولًا من أحلام بكر، من سعادة لن تتحقق، ومن أنفاسي المحبوسة في الخوف من وصول، من رحيل مع: ضمنيًّا، بينما أكف عن التجديف شيئًا فشيئًا بدون صدمة تحطيم الوهم ولا هدهدة الفقاعة المرئية المطوية في هروبي ترمي على الأقدام الطارئة لشخص ما التشابه الشفاف لقطف زهرتي المثالية.٣٠٣
هذه الجملة، التي تمثل إعجازًا حقيقيًّا في الشعر، في السلاسة، والتوفيق الاستعاري، لا بسبب الرمز الفاتن لعروس النيل البيضاء فحسب، بل أيضًا بسبب التوافق الموفق بين الكلمات المجردة والملموسة، الذي بفضله تبدو لنا الصورة لا مادية، مثل حلم، دون فقدان مذاق الواقع الملموس: «بياض مجوف»، «فقاعة الزبد المطوية في هروبي»، «التشابه الشفاف»، ربما يرجع جانب من رهافتها إلى أن «مالارميه» قد استرخى هنا، وأطلق العنان لتركيب أكثر «عادية»، حيث الكلمة ظرفية: فالجملة تنساب، مثل زورق سريع، على الماء الهادئ، وتسجل «عروس النيل البيضاء» اللحظة الرائعة التي لم يضحِّ فيها «مالارميه» — وقد سيطر تمامًا على وسائله الأصيلة في التعبير — بالسحر الأكثر مباشرة للصور وترخيم الصوت، من أجل رغبته في التجريد والإيجاز، ورغم هذا، فثمة — في هذه القصيدة — مقاطع أكثر تجريدًا، أكثر «قصصية»، وأكثر ثراءً في الفكر مما في الشعر: مثل هذه الجملة، المخصصة لترجمة نفس الفكرة السابقة تقريبًا:
إذا ما كان المفهوم الغامض يكتفي بنفسه: ولن ينتهك البهجة التي تتسم بعمومية تسمح وتقضي باستبعاد كل الوجوه، إلى حد أن ظهور أحدها (جليًّا، بلا انحناء، على العتبة الخفية لهيمنتي) سيزيل اضطرابي، الذي لا يملك ما يفعل معه.٣٠٤
ولنقرأ الآن «المجد» و«الكنسي»، و«تصريح جوَّال» بالذات: سنرى أن جملة «مالارميه» تصبح دائمًا أكثر تركيبية، أكثر قصصية، وأكثر تجريدًا و— بالتالي — أكثر غموضًا، إن «مالارميه» يرفض أي تنازل، سواء بالنسبة للمنطق المألوف للغة، أو للموسيقى اللفظية، إنه يريد أن يستبقي — في جملته ذات الكثافة الفريدة — عالمًا بأكمله من الأفكار والإشارات والعلاقات، إلى حد قراءتها — من أجل التأكد من عدم فقدانها أي شيء — بالتوقف طويلًا عند كل كلمة. ويمكننا أن نرى — عند مقارنة الحالات الثلاث المتتالية ﻟ «سيمفونية أدبية» — كيف وصل «مالارميه»، من كثرة ما يصفي ويكثف ويركِّب، إلى أن يختزل في سطرين مقطعًا (هو مقطع التضرع إلى ربة العجز) كان يتكون من أربعة عشر سطرًا عام ١٨٦٤م.٣٠٥ لكن ما من شيء يمكن أن يوضح — بشكل أفضل — الطريق الذي قطعه منذ قصائد الشباب، أكثر من المقارنة بين قصيدة عام ١٨٦٧م، «اليتيم»، والنسخة الجديدة المستعادة، التي أعيد التفكير فيها، وأضفيت عليها «المالارمية»، عام ١٨٨٨م، تحت عنوان «ذكريات». وقد قامت السيدة «سوفران» بالمقارنة التفصيلية.٣٠٦ وسأكتفي بالمقابلة بين مقطعين:
اليتيم* ذكريات
(الطفل) كان يأكل، في شكل قطعة خبز عليها جبن أبيض، الزنبق المفتون، والجليد، وريشة البجع، والنجوم، وكل بياض الشعراء: كنت سأرجوه كثيرًا ليتقبلني في وجبته ما لم أكن خجولًا إلى هذا الحد، لكنه اقتسمها مع آخر أتى فجأة، متقافزًا – مهرج صغير من الكوخ المجاور، الذي تُجرى فيه استعراضات للقوة، هذا التمرين الطائش، الذي لا يتوقف عند تفاهة وضح النهار. كان عاريًا تمامًا في لباس للبحر مغسول ويتذبذب بصخب مدهش: كان هو الذي وجه لي الكلام: «أين والداك؟ ليس لديَّ، أجبته». كان يفرغ إلى نفسه في هيئة قطعة خبز عليها جبن طري، والآن ثلوج القمم، والزنبق أو بياض آخر مكون من أجنحة في الداخل: كنت سأرجوه أن يتقبلني في وجبته الرفيعة التي سرعان ما تقاسمها مع شخص أكبر مشهور منبثق أمام قماش قريب، خلال استعراضات للقوة وتفاهات مقرونة بالنهار. عارٍ، بالتذبذب في رشاقته المدهشة، في رأيي، بلباس البحر، وهو، الذي بدأ على أية حال: «والداك؟ – ليس لديَّ».
Œuvres, p. 1552.
†  Œuvres, p. 278.
كل النزعات الخاصة بالتركيب المالارمي قد تأكدت هنا، مؤديةً إلى إلغاءات وتغييرات دالة. إنها نزعة التجريد التي تدفع «مالارميه» إلى التخلي عن «بياض الشعراء»، الذي كان يتناقض بطرافة مع قطعة الخبز بالجبن الأبيض؛ ليحدثنا عن «بياض مكون من أجنحة في الداخل»، انتقال يذهب من «الواقع» (ريشة البجع، عام ١٨٦٧م) إلى «المثال».٣٠٧ و«الكوخ» — الملموس بشكل مفرط — يصبح «قماشًا» بفعل الكناية. وأخيرًا، بدلًا من أن يرينا الطفل الذي يتذبذب في «لباس بحر مغسول» (أي ناصل اللون)، يحثنا «مالارميه» — بمجاز مرسل جريء، وإن يكن ليس استثنائيًّا لديه٣٠٨ — عن «رشاقته بلباس البحر»، ليصبح لباس البحر مجازًا بدلًا من عنصر وصفي.
تجريد أيضًا وتكثيف، ما دامت غالبية الأفعال قد اختفت: إن «مالارميه» يلغي بلا قيد ولا شرط فعل «يكون» («عارٍ»، بدلًا من «كان عاريًا تمامًا»، و«هو، الذي»، بدلًا من «كان هو الذي»)، ويضع اسم المفعول محل أفعال أخرى («المقتسمة» بدلًا من «تقاسم»، و«منبثق» بدلًا من «الذي أتى فجأة متقافزًا»)، والفعل في المصدر (بأن «يتذبذب»، كمصدر للسرد، بدلًا من «كان يتذبذب»)، أو بفعل تركيبات غريبة: الكوخ «الذي كانت تُجرى فيه استعراضات للقوة» يتحول إلى «قماش قريب» تُقام فيه «استعراضات للقوة». وفي جملة «كنت سأرجوه كثيرًا ليتقبلني في وجبته، ما لم أكن خجولًا إلى هذا الحد»، يلغي «مالارميه» الجملة الشرطية ما دامت تساوي «لو لم أكن قد شعرت أنني آدمي»، ويكتب: «كنت سأرجوه أن يتقبلني في وجبته الرفيعة»، وفضلًا عن ذلك، وما دام الماضي المشروط «كنت سأرجوه» يكفي للإشارة إلى أن الواقعة لم تتحقق، فإنه يلغي أيضًا أداة الربط «لكن» التي كانت تلي الافتراض.
وهو نفس الإيجاز فيما يتعلق بتعدد البداية: الجليد والزنبق (سنلاحظ استخدام المفرد!) سيكفيان لاستحضار البياض، دون أن تكون هناك حاجة إلى بجع ولا نجوم: و«الجبن الأبيض» نفسه سيصبح «جبنًا طريًّا»، وهو ما يعرف الجميع أنه أبيض: فالإيحاء يحل محل الوصف. ولنسجل — هنا عرضًا — هذه السخرية الباسمة لمالارميه، التي قال عنها «تيبوديه»: «السخرية، التي كانت تشكل إحدى المصادر العادية لعبقريته، تتخفى عادة وتمتزج في الإيحاء»، ويضيف: «إن منبع السخرية والإيحاء اللذين يجب إدراكهما بمعنييهما الاشتقاقيين الخالصين، وعلى مستوياتهما المتعددة يظل، رغم هذا، واحدًا».٣٠٩ ونعلم إلى أي حد كانت محادثة الشاعر تذخر بالتقابلات المضحكة في الصور الطريفة بقدر ما هي مفاجئة.٣١٠ وينعكس نفس النسق الذهني في نثره، حيث يدفعه «شيطان التماثل» إلى إيجاد الصور الأكثر إدهاشًا عن القبعة («الشهاب المعتم»٣١١ أو «هالة من الحصير»)،٣١٢ واكتشاف رموز شبه طريفة شبه عميقة، في قطعة خبز عليها جبن أبيض مثلما في لباس البحر المخطط لحفاري الآبار.٣١٣ ونشعر أن «مالارميه» — إذا ما كان يميل، بشكل طبيعي — إلى «أن ينقل» الأشياء الأكثر نثرية إلى مستوى المثال، فإنه لا يفعل ذلك دون ابتسام من جانب القارئ، الذي يتساءل ما إذا كان يتعرض لخدعة ما، ومن جانبه نفسه، حيث تظل لغته الاستعارية غير قابلة لتحقيق التواصل مع الغالبية، ويحدث أيضًا أن يوفق بسخرية بين اللغتين، لغة المألوف ولغة الشاعر المصفاة، على سبيل المثال في «تصريح جوَّال»، حيث نفس الفكرة، التي يتم التعبير عنها في البداية في لغة مجردة، سرعان ما يليها معادلها المألوف: إن جمهرة المشاهدين توافق على «مقايضة نقودها البرونزية بافتراضات صائبة وراقية، باختصار، يقين كل منهم بعدم انخداعه»،٣١٤ أو في «صراع»، حيث الحوار المتخيل بين الشاعر والحفارين يليه — فضلًا عن ذلك — هذا التصريح السوداوي: «محزن أن يظل إنتاجي، بالنسبة لهؤلاء، في جوهره، مثل السحب في الغسق، أو مثل نجوم، عبثية».٣١٥
والواقع أنه في الفترة التي جمع وعدل من قصائده النثرية لإعداد ديوانه «صفحات»، الذي سيُنشَر عام ١٨٩١م٣١٦ — (وذلك ما سيكون أكثر صحة في فترة «صراع») — أحس «مالارميه» ببعض الضيق عندما شعر أنه معزول، لا عن الحفارين فحسب، بل أيضًا عن الجمهور العريض، وبالنسبة لشخص مثل «فيتوريو بيكا»، الذي يضع قصائده النثرية — بحرارة في «كرافاش»٣١٧ — في مستوى أعلى من قصائد «بودلير»، معتبرًا أنها تتخطى قصائد الأخير «في الكمال التشكيلي والموسيقي، وفي القوة الإيحائية الخاصة» — (وسيرى فيها أيضًا «اقترانًا للإيجاز المفرط في الكثافة بالرمزية البالغة الصعوبة») — شأنه شأن «بول بورد»،٣١٨ وشأن النقاد سيئي النية أو المداحين الحمقى! – يعامل «مالارميه» باعتباره «انحطاطيًّا»،٣١٩ يشبه «ليكوفرون»، ويسأل: «لماذا لا يكتب وكأنه يريد أن تفهمه طاهيته».٣٢٠ وينبغي الاعتراف بأن قصائده النثرية الأخيرة (أفكر – أساسًا – في «ذكريات» و«تصريح جوَّال») قد كُتِبَت لتضليل حتى القراء المتعاطفين، فما من تنازل واحد إزاء اللغة المألوفة: يجب التوقف أمام كل كلمة، وإكمال ما يُقال، والتعلق — في أبرع محاولاته — بفكر الشاعر. إنهما — في آنٍ — قوة وضعف كتابة بهذا القدر من الإيجاز: أبدًا لا تجرفنا دفقة غنائية أو خطابية، أو تهدهدنا نغمة هارمونية: فمالارميه الذي يرفض كل استسهال يمتنع — حتى — عن الموسيقى اللفظية. إن المتعة الذهنية المنتشرة عبر نثره إلى القارئ الذي لا يخشى بذل الجهد، لا تصاحبها أية متعة للأذن، ويمكننا أن نأسف على أن «مالارميه» الذي يرصع شعره بالكلمات المضيئة أو المتوافقة مثل «ماس» و«طيران» و«نجمة» … يستمتع، فيما يبدو، بحشو نثره بكلمات في بشاعة climatérique / حَرِج،٣٢١ وauthentiquons / فلنوثق،٣٢٢ أو هذه اﻟ subséquemment / مِن ثَم، التي أذهل صوت حذائها البوت «تيبوديه».٣٢٣ وقس على ذلك تقطيع الجملة، الذي يرجع إلى تراكم العبارات الاعتراضية وإلى البناء «في العمق»، الذي يوقفنا باستمرار، ويقطع الدفقة التي كانت ستجذبنا: فثمة لذة ذهنية بلا شك، لكن اللذة الشعرية أقل بالتأكيد عند قراءة جملة (نصف جملة، بالأحرى) من هذا القبيل:
ورغم هذا، مدفوعًا بالطابع الأخوي للاستثناء في البؤس اليومي مثل مرج، عندما تقيمه كلمة العيد الغامضة، فيتسع لأحذية عديدة تراوح فيه (ولهذا السبب تبزغ من أعماق الثياب ذبذبة فريدة من الفلس القاسي نحو الخروج بهدف وحيد هو العناء)، هو أيضًا! أي إنسان مجردًا من كل شيء عدا فكرة أنه كان يمكن أن يكون واحدًا من المصطفِّين، إن لم يكن للبيع، أو الرؤية، فماذا إذن، قد استسلم إلى الدعوة للموعد الناجع.٣٢٤
وفي حين أنه في أشعاره المنظومة، حتى في أكثرها غموضًا، (خصلة الشعر، إلى السحابة المرهقة، صامت)، يحافظ «مالارميه» على التعويذة السحرية ويومض، حسب تعبيره، ﺑ «خيط مضمر من النار على الأحجار»،٣٢٥ فإنه يتوتر في النثر إلى هذه الدرجة إزاء اللغة المشتركة، إلى حد أن «قوله» الذي كان ينبغي أن يكون — حسب تصريحه — «حلمًا ونشيدًا قبل كل شيء»،٣٢٦ يصل إلى عدم الإنشاد أبدًا في قصائده الأخيرة.
لكن، أنستطيع لوم كاتب على إخلاصه لنفسه، والمضي في الطريق الذي اختاره إلى الحد الأقصى؟ كان «مالارميه» عاجزًا، ولم يشعر بالحق في التصرف بشكل مختلف.٣٢٧ وعلينا — على أية حال — أن نؤكد على أنه كان يكتب كل نثره، لا «قصائده» فحسب، بنفس الحبر الغامض. وفضلًا عن ذلك، كان الناشرون يساورهم الشك! ويحدد «دوجاردان» لمالارميه — وهو يطلب منه المساهمة في «روفي اندبندانت» — بأنه ينبغي لهذه الوقائع «أن تكون مكتوبة بالأسلوب الذي تسمونه أسلوب المحادثة».٣٢٨ وقد رحبت مجلة «لاروفي بلانش» — الأكثر جرأة، و«بإقدام»٣٢٩ — باجتراءات «تنويعات حول موضوع»، وهي سلسلة وقائع نُشِرَت خلال عام ١٨٩٥م. ومما هو دال أن قصيدة «صراع» التي شكلت جزءًا من هذه اﻟ «تنويعات»، كانت ستُلحَق فيما بعد بالقصائد النثرية في «هذيانات»، مما يثبت تمامًا أنه ليس ثمة اختلاف جوهري من قصيدة إلى القصائد الأخرى، ونحن في الفترة التي قال فيها «مالارميه» إلى «جول هورت»:
ليس هناك في الحقيقة نثر. هناك حروف الهجاء، ثم أشعار مقتضبة إلى هذا الحد أو ذاك، مطنبة إلى هذا الحد أو ذاك. وفي كل المرات التي كان ثمة جهد في الأسلوب، كان ثمة نظم.٣٣٠
والواقع أن «مالارميه» يميز لا بين نثر وشعر، بل — كما سبق ورأينا — بين الكلام والكتابة، فهو يريد أن يفصل الأدب نهائيًّا عن «أسلوب المحادثة»، «خوفًا بالتأكيد من الانتهاء إلى الثرثرة».٣٣١ وسيطبق على كافة أشكال الكتابة — حتى مراسلاته! — نفس الضرورات الصارمة. وثمة ملحوظة أكثر أهمية، لا سيما أن «مالارميه» — في مقالاته في «لاروفي بلانش»، وتحت تأثير تأملاته حول «الكتاب»، والاضطراب الذي كان يوقعه بيت الشعر الحر في الشعر على وجه التحديد — سيتوجه نحو شكل جديد في الكتابة، ويتقدم — عبر تجديدات طباعية جريئة — نحو الصيغة الثورية ﻟ «رمية نرد». وسنحاول أن نرى — حاليًّا — كيف يتوصل الشاعر، فيه، إلى مفهوم هذا العمل الأخير، الذي يمثل خلاصة كل تأملاته الجمالية، وتركيبًا لشكلين — النظم والنثر — حيث لا يكف الشعر عن التذبذب بينهما خلال العشرين عامًا الأخيرة من هذا القرن.

(٥) «رمية نرد»

خلاصة النظرية المالارميَّة
وتركيبة الشعر والنثر
في الفترة التي كان «مالارميه» يؤلف قصائده النثرية الأخيرة، من عام ١٨٨٥م إلى عام ١٨٨٧م، كان ثمة ثورة تُجرى في الشعر: ويمكننا أن نؤرخ أولى محاولات الشعر الحر بعام ١٨٨٦م، وسرعان٣٣٢ ما سنرى الطليعة الشعرية — بعد بحث استغرق وقتًا طويلًا في اتجاه قصيدة نثر موقعة أكثر فأكثر، ومسجوعة، و— إذا جاز القول — «منظومة»، بتحريض من «كان» و«لافورج» و«موريا»، وهي تتجه — في النهاية — إلى التحول نحو شعر يمنحها حرية وتنوع النثر، بإبداع ما سيحتفظ باسم الشعر الحر، ولم يكن بمقدور «مالارميه» أن يظل مالارميًّا إزاء محاولة تُلحَق بتأملاته الخاصة، لا في الشعر فحسب، بل أيضًا في الصفحة وفي التطور الفراغي للقصيدة. وعن طيب خاطر زائد، يتم نسيان أنه وضع نفسه — إلى جانب «فيرلين» — في أصل الثورة الشكلية لعام ١٨٨٦م: ولنذكِّر بأن قصيدة «أصيل إله الريف» قد «دفعت الشعر البارناسي بأكمله إلى الصراخ»، ويضيف (إلى «ج. هورت» الذي كان يسأله عن «التطور الأدبي»):٣٣٣

لقد حاولتُ فيها بالفعل أن أضع إلى جانب البحر السكندري، في كل هيئته، نوعًا من اللعب المألوف المعزوف عزفًا رديئًا حوله، مثلما يُقال بالنسبة لمصاحبة موسيقية يقوم بها الشاعر نفسه، ولا تسمح للشعر الرسمي بالخروج إلا في المناسبات الكبرى.

وبالفعل، فعندما نقرأ على سبيل المثال:

هذه الحوريات، أريد تخليدَهُن.
صافية للغاية،
ورديتهن الشفيفة، حتى أنهن يرفرفن في الهواء
الساكن بنعاس كثيف.
هل كنتُ أحبُّ حُلمًا؟
نتحقق من أنه — بالاستخدام المترابط ﻟ «الفراغات» وللتفاوت٣٣٤ — يتم كسر البحر السكندري بالنسبة للعين، إن لم يكن للسمع (إضافةً إلى أن الفراغ يوحي بوقفات، وصمت)، إنه يخلق لنفسه — كما يقول «مالارميه» أيضًا — «نوعًا من السلاسة بين الأبيات ذات الدفقات القوية»٣٣٥ التي ستنتج تأثيرًا أكبر في عدم الخروج «إلا في المناسبات الكبرى».
وسنرى أن هذا «الكسر للإيقاعات الأدبية الكبرى»٣٣٦ بعيد — رغم هذا، في ذهن «مالارميه» — عن أن يكون، مثلما أراد الشعراء الشبان، ضربةً عنيفةً موجهةً إلى «المبدأ» العجوز للنظم، وتستهدف مهاجمة البحر السكندري الكلاسيكي بعنف. بل الأكثر: إنه يرى في استخدام الشعر الحر هذه المزية التي تجعل الشعر الكلاسيكي — المدرك باعتباره نوعًا من مطلق النظم، «حليةً نهائية»٣٣٧ — يظل، من الآن فصاعدًا، شكلًا استثنائيًّا لن يخاطر أبدًا بأن يتشوش. وعبر إطراء ذي حدين — في مقالاته وخطاباته، في الفترة من ١٨٨٧م إلى ١٨٩٥م — يمتدح «مالارميه» الشعراء الذاتيين لعثورهم على «إيقاعهم الذاتي»،٣٣٨ ولأن كلًّا منهم قد فتح لنفسه طريقه «الفردي» في الغابة الشعرية:٣٣٩ تاركًا الشكل القديم «اللافردي»٣٤٠ تحت تصرف من يفكرون في «مؤلَّف» مطلق ذي طاقة كونية، وسيكتب — في عام ١٨٩٤م أيضًا — «في الشعر اللافردي أو الخالص ستتوافق الغريزة التي تستخلص من العالم نشيدًا، كي تضيء فيه الإيقاع الجوهري وتلفظ، سُدى، النفاية»٣٤١

كيف نفسر لأنفسنا — إذن — أن الشاعر قد يتوصل، عام ١٨٩٧م، إلى شكل مبتدع، بهذه الجرأة، مثلما في شكل «رمية نرد»؟

ينبغي التأكيد — أولًا — على أنه رغم العقيدة التي ظل مؤمنًا بها تجاه الشعر الكلاسيكي، فإن «مالارميه» يتركنا نلاحظ — في السنوات الأخيرة من حياته — زوال محبته لما كان يسميه «القالب القديم المتعب»،٣٤٢ وهو ما سيبوح به إلى «كازاليس» عام ١٨٩٣م:
سنختلف، أنت وأنا، على إخلاصك لهدهدة مستمرة لأشعار أتغافل عنها إلى حدٍّ ما بفعل الضجر …٣٤٣
والواقع أنه سيكتب — اعتبارًا من هذه الفترة — القليل من القصائد المنظومة، لا سيما قصائد المناسبات، وهذا الشعور بالضجر إزاء الشعر الرسمي، الذي يحس به أحد المدافعين عنه، يستحق التسجيل.٣٤٤ وينبغي أن نضيف أن «مالارميه» كان يعتقد أن كل قصائده المنظومة أو النثرية — خارج «المؤلَّف»، هدف حياته — ما هي إلا «لتمرين اليد»،٣٤٥ انتظارًا لإحالته إلى المعاش (كانت ستتم في أكتوبر ١٨٩٣م) التي كانت ستسمح له بأن يكرس نفسه تمامًا — في النهاية — إلى «تطريز بينيلوب»٣٤٦ الخاص به. وها هو يكتب إلى «ش. موريس» — عام ١٨٨٣م — أنه «طالما ينقصني وقت الفراغ هذا، فإنني أشغل نفسي بهيكل مؤلَّفي النثري».٣٤٧ فما الذي كانه هذا العمل التمهيدي الخفي؟ ومن المشروع تمامًا — على أية حال — أن نرى انعكاسًا لتأملات «مالارميه» حول «المؤلَّف»، في عديد من المقالات التي يكتبها: إنه يتساءل عن الأدب، وعلاقاته بالفكرة، وبالمسرح، والموسيقى (بعد ما قاده أصدقاؤه الفاجنريون (نسبةً إلى فاجنر) في البداية، أصبح يذهب بانتظام إلى الحفلات الموسيقية، اعتبارًا من عام ١٨٨٥م)، ويلقي عام ١٨٩٤م محاضرةً عن «الموسيقى والآداب»، ويكتب عام ١٨٩٥م سلسلةً من المقالات حول «الكتاب» ﮐ «أداة روحية»، وحول الشكل الذي يجب منحه له.
وسنرى تأملات «مالارميه» — لا سيما خلال عامي ١٨٩٤-١٨٩٥م هذين — وقد غذتها عناصر جديدة من جراء محاولات الأشعار التحررية التي لم يكن بخفي أبدًا «اهتمامه الحار» بها،٣٤٨ وهي تتوجه صوب فكرة تركيبة من الشعر والنثر، هذين النمطين الخاصين بتطور الكلمة عبر «مراحل الفكرة والزمن».٣٤٩ وتؤكد ملحوظة أساسية في «الموسيقى والآداب» على تنافر هذين الشكلين، بما أحدهما ضرب من العمارة الروحية، اللازمنية، فيما الآخر — الذي يتطور في الزمن — هو، حقًّا (الرواية مثال على ذلك)، فن الزمن:
الشعر المنطلق بدرجة أقل في سهام تتعاقب في شبه تزامن نحو الفكرة، يختزل المدة إلى تقسيم روحي خاص بالموضوع: يختلف عن الجملة أو التطور العارض، الذي يقوم به النثر، وهو يخفيه، بألف حيلة.٣٥٠
فهل من الممكن — إذن — القيام ﺑ «مصالحة بين المتناقضات»، حسب صيغة الجدل الهيجلي، بين الشعر والنثر؟ و«مالارميه» الذي تحقق، عام ١٨٩٢م — من «أن كل محاولة معاصرة من القارئ تكمن في أن تنتهي بالقصيدة إلى الرواية والرواية إلى القصيدة»٣٥١ — قد تابع بالتأكيد، باهتمام مشبوب، محاولة التركيب المزدوجة التي قادها الرمزيون: فأحيانًا ما يتخلل الشعر النثر، لينزع — بلا توقف — إلى تحويل النثر إلى شعر، إلى إخراجه من الزمن بفعل لعبة الإيقاعات والسجع،٣٥٢ وأحيانًا ما يتخلل النثر الشعر، ليفرض عليه تقطيعاته إلى أجزاء منطقية ومسيرته المتعاقبة. وفي الحالة الأولى، لدينا «قصيدة النثر» (يدرك «مالارميه»، مثل الرمزيين، هذا التعبير بمعنى «نثر إيقاعي»)،٣٥٣ وفي الحالة الثانية، الشعر الحر، الذي ليس سوى «نثر ذي تقطيع مدروس»،٣٥٤ كما يقول «مالارميه».
وقد صرح «مالارميه» عام ١٨٩٤م — فيما يتعلق ﺑ «قصيدة النثر» — في «الموسيقى والآداب»:
أسلوب، ونظم، إذا ما كان ثمة وزن، ولهذا فكل نثر لكاتب معجب بنفسه، يخرج من هذا الانقياد إلى المألوف، والزخرفي، يمتلك قيمته كنظم متقطع يتلاعب بجرسه وأيضًا بالقوافي الخفية: وفقًا لعنقود أكثر تعقيدًا. التألق الجيد لما نال حديثًا لقب قصيدة النثر.٣٥٥
وبالفعل، لا تنعدم أمثلة النثر الموزون، في هذا التاريخ الذي «تتألق» فيه — عن طيب خاطر، بالتحديد — قصيدة النثر في أعمال أوسع من النثر «الزخرفي»، والحكايات أو السرديات: «رحلة الإيرياني»، «مذبح الطواف»، و«حكايات رينييه» … وفي عام ١٨٩٤م، ستُنشَر «أناشيد بيليتيس»، و«كتاب مونيل» و«دقائق من رمل تذكاري»، ذلك العمل الغريب الذي سيطري «مالارميه» على مؤلفه الشاب المبتدئ، «الفريد جاري».٣٥٦ ورغم هذا، فالأمر لا يتعلق باعتبار أن هذا الشكل الجديد ينبغي أن يلغي الشعر الكلاسيكي: «فالوزن السابق يبقى إلى جواره».
ونفس التحفظ إزاء الشعر الحر، وتعبيرات «الموسيقى والآداب»، تجعلنا نعتقد أن «مالارميه» يعتبر تجربة الشعر التحرري — في عام ١٨٩٤م هذا — منتهيةً فرضيًّا بالقوة:
اكتشاف سعيد، يبدو معه بحث الأمس شبه منتهٍ، ألا وهو الشعر الحر، تغيير كثيرًا ما أقول إنه فردي، لأن كل روح هي عقدة إيقاعية.٣٥٧

وهذا البحث — وقد «انحل الانصهار نحو الكمال» — ألم تكن له فائدة أخرى سوى أن يتيح وقتًا للراحة للشعر الكلاسيكي، ﮐ «أداة منهكة»، وأن يدفع أيضًا، رغم كل شيء، ﺑ «مؤلفات حقيقية»، «بمعزل عن السجال حول الشكل»؟ يمكننا أن نعتقد ذلك.

والواقع أن «مالارميه» — في هذه النقطة الميتة بالتحديد — سيعاود المحاولة لحسابه الشخصي، ويقودها إلى ما هو أبعد بكثير من سابقيه، إنه يعيد التأمل لكن على مستوى آخر، في نظريات الرمزيين الذين كانوا يحلمون بأن يصهروا، في شكل واحد متغير أبديًّا، أشكال التعبير المتنوعة، وأن يتوصلوا أيضًا إلى تركيبة من «الأنواع» المختلفة، الرواية والمسرح والشعر، إنه يحلم بأن يجعل من الكتاب «أداةً روحية»، ذلك «المؤلَّف» الأسمى، الذي يزاوج في آنٍ بين وسائل فنون الفراغ (العمارة والرسم)، وفنون الزمن (الموسيقى والرواية).٣٥٨ ولأن «الكتاب» سيكون تركيبةً من كافة الأنساق الفنية، فيبنغي لا أن يوحد الأشكال القديمة فحسب، بل أن يتخطاها — أيضًا — ليخلق لنفسه شكله الخاص، العضوي والضروري، الذي ينبغي فيه — على كافة عناصره — أن تتآزر «في إيقاع كلي».٣٥٩
سبق وقلت أن «الكتاب» — ضمن جماليات مالارميه — هو كلٌّ متراتب بصرامة، حيث ترقى الكلمة إلى بيت من الشعر، وبيت الشعر إلى قصيدة، والقصيدة — أخيرًا — إلى كتاب «مبني ومستهدف»، «ممثلًا الكون، قدر استطاعته».٣٦٠ لكن يبدو أن «مالارميه» — اعتبارًا من عام ١٨٩٥م — يعلق أهمية متزايدة على الوحدة الفراغية في هذا الكل، ألا وهي الصفحة:
إنني أتجاهل الكتاب وثمة معجزة تقود بنيته، إذا ما كنت لا أستطيع بتبصر، تخيل عنصر كهذا في موضع خاص، من حيث الصفحة والارتفاع، نحو التوجه الخاص بي الآن أو بالمؤلَّف.٣٦١
وسيكون مستعدًّا لأن يجد الترتيب المتشابه دائمًا للأسطر مضجرًا، «الذهاب والإياب المتعاقبان بلا توقف للبصر، ما إن ينتهي السطر حتى ينتقل إلى التالي، للبدء من جديد»، عندئذٍ يتساءل: «هل يمكن أن ينتهي الأمر إلى أن يكون كذلك». ويُدلي بهذا الاقتراح المدهش، الذي نستطيع أن نرى فيه الإعداد للفكرة الأولى ﻟ «رمية نرد»:
لماذا – دفقة من عظمة، من فكر أو قلق، جدير بالاعتبار، جملة متلاحقة، بحروف كبيرة، سطر في صفحة ذات موقع متدرج، لن تجعل القارئ لاهث الأنفاس، مدة الكتاب، مع استدعاء لمقدرته الحماسية: وحولها، وجبات، ومجموعات تفسيرية أو مشتقة، بصورة ثانوية حسب أهميتها – مشتل من الزخارف.٣٦٢
فكيف لا يمكننا التعرف — هنا — على التأثير المزدوج للبناء السيمفوني (الذي يلمح «مالارميه» إليه من قبل في نفس المقال)، والشعر الحر؟ فمالارميه نفسه — من ناحية أخرى — يبرر فكرته بأن يلاحظ لدى بعض معاصريه، «مع مجيء الموهبة التي جعلتهم يرتبون كتاباتهم بطريقة غير شائعة، وبشكل زخرفي، فيما بين الجملة وبيت الشعر، بضعة ملامح شبيهة بهذا»،٣٦٣ «بين الجملة وبيت الشعر»: نجد — مرة أخرى — اﻟ «مصالحة» بين الشعر والنثر، «النثر ذي المقاطع المدروسة»، التي كانت مؤلفات الشعر التحرري تقترحه على تأملات «مالارميه».
وقد أشرت — في موضع آخر٣٦٤ — إلى الأهمية التي يوليها «مالارميه»، في الشعر الحر، إلى العنصر البصري، أو — إذا شئنا — الطباعي: فهو — من ناحية — يحب رؤية «مساحات البياض» تتضاعف فيه، هذه «الأدلة الزفافية للفكرة»،٣٦٥ مثلما قال بكياسة، كتشكيل مرئي لهذا «الصمت الخصب بين الكلمات» الذي — كما كتب إلى «فيليه جريفان» — «يغذي الروح في صفاء»،٣٦٦ ويجد — من ناحية أخرى — في تقسيم الجملة إلى أجزاء قصيرة جدًّا، «التفريعات الطيفية للفكرة»،٣٦٧ كشيء ما شبيه بهذا التقطيع للنصوص الذي كان يدهشه — منذ فترة طويلة — في طباعة الملصقات. «كثيرًا ما جعلتني أحلم مثلما أمام كلام جديد»، مثلما يقول عن الملصق عام ١٨٩٤م،٣٦٨ وقد أكد «فاليري» على هذا التصريح: «كان قد درس بعناية فائقة (حتى بالنسبة للملصقات والجرائد) فعالية توزيع الأبيض والأسود، والكثافة المقارنة للحروف الطباعية»، على ما يقول بصدد «رمية نرد».٣٦٩ فالملصق لا يقدم — فحسب — استخدامًا ذا سمات طباعية مختلفة بالنسبة ﻟ «العنصر الرئيسي» و«العناصر الثانوية»، لكنه — مثل «الصفحة»، من ناحية أخرى — وحدة فراغية، يتم فيها توزيع الحروف «بشكل زخرفي»، وسنرى أن «مالارميه» لن يكتفي — في «رمية نرد» — بالبحث عن تماثل ممتع للعين، بل سيبحث عن خلق نوع من «الإيقاع البصري»، بالتوافق مع إيقاع الجمل والأفكار، وأنه سيذهب حتى إلى حد الرغبة في جعل نصه رمزًا فكريًّا حقيقيًّا.
ولنعد إلى استخدام «مساحات البياض»، التي استخدمها «مالارميه»، كما نذكر، في «أصيل إله الريف». ومن العجيب — وإن يكن ذا مغزًى — أن نراه يقوم بمحاولة عام ١٨٩٥م في نفس الاتجاه، لكن بالتطبيق على نثر «تنويعات حول موضوع ما»، الذي أعطاه إلى «روفي بلانش». وكان على قراء هذه المقالات أن يشعروا بأنهم مرتبكون إلى حدٍّ ما أمام فقرات من هذا النوع:

أفضل، إزاء العدوان، أن أرد بأن المعاصرين لا يعرفون القراءة إلا في الجريدة، التي تُعفى، بالتأكيد، من ميزة عدم مقاطعة جوقة الانشغالات.

قراءة –

هذه الممارسة –

تدعيم الأبيض، حسب الصفحة التي يفتتح براءتها، على طبيعتها، المنسية حتى من العنوان الذي قد يُنطَق بصوت بالغ الارتفاع … إلخ.٣٧٠
و«مالارميه»، الذي يجهل «الاضطراب» الذي يسببه «التوزيع الطباعي» الجريء، قد برأه في بيبليوجرافيا ديوانه «هذيانات»، وهي نص ينبغي تأمله عن كثب شديد، إذا ما أردنا فهم أية ضرورات قادت الشاعر في النهاية إلى صيغة «رمية نرد». وها أنا أورده كاملًا:
غرض الفواصل، أو الفراغات، أو الحشو — على امتداد المقال الطويل العادي لمجلة — يشير، بالضرورة، إلى العين التي تلاحظها في بعض المواضع، ومع ذلك، فلمَ لا نحشر بضع قشور من الاهتمام في هذه العناصر الإجبارية حيث تجلَّى الموضوع، ثم نحل، ببساطة، الانتقالات أيًّا ما كانت محل براءة الورقة؟ إن مطبوعًا حيويًّا، يحدد – في الفهرس، الموضع الصحيح بين المقالات القصيرة للجريدة والكتلة الفارغة حيث تتماوج دوريات عدة، إنما يقود (هذه) الطريقة. إن شقوق النص — فلنطمئن — تراعي التنسق، بوعي، ولا تدرج فراغًا عاريًا إلا في نقاط الإشراق: ربما يخرج منها شكل ما، حقيقي، يسمح لما ظل طويلًا قصيدة نثر ولمسعانا أن يصل — إذا ما ربطنا بين الكلمات بشكل أفضل، إلى حدٍّ ما — إلى قصيدة نقدية. إنه حشد الومضات المختلفة للروح حول فكرة معينة، على مسافات مقصودة، عبر جُمل: وكأن هذه النماذج لتركيب الجملة، حتى وهي مُوسَّعة، يختصرها — حقًّا — عدد محدود للغاية، وكل جملة — إذ تبرز في فقرة — تنجح في عزل نمط نادر بحرية أكبر من النقل بفعل تيار ذلاقة اللسان، وتظهر — عند الاستخدام — ألف ضرورة، شديدة التفرد، في معالجة الكتابة هذه، أدركها رويدًا رويدًا: لا شك أن ثمة وسيلة، هنا، لشاعر لا يمارس الشعر الحر بحكم العادة، لأن يكشف — فيما بعد بحكم الخبرة — تلك الإيقاعات المباشرة للفكرة وهي تضبط منظومةً شعرية في هيئة مقطوعات جامعة وموجزة.٣٧١
ولا شك أن هذا النص يدل — من ناحية — على خلاصة النزعات الكبرى للتركيبة المالارمية: إيجاز أقصى، سيصل إلى أن يحل محل «براءة الورقة» كافة الانتقالات «أيًّا ما كانت»، كل ما ليس جوهريًّا بشكل مطلق، كرد فعل ضد «النقل» المألوف «بفعل تيار ذلاقة اللسان»: كل هذا لا يسجل منعطفًا في الفكر المالارمي، لكن «انفصامات النص»، التي تعزل أجزاءً من الجملة، أو كلمة أحيانًا، تفتتح، حقًّا، «معالجة» جديدة ﻟ «الكتابة»: إنه لدال أن نرى «مالارميه» يتحدث إزاءهم أولًا عن قصيدة النثر، ثم عن الشعر الحر. «ما ظل طويلًا قصيدة نثر ومسعًى لنا»: فأحد الأنساق الأساسية لقصيدة النثر يتمثل — بالفعل — في «وضع البياض» بين الفقرات أو المقاطع، ليجعل من النص متتاليةً من «نقاط الإشراق»، حيث توحي مساحات البياض فيما بينها للقارئ بأكثر مما يمكن أن تعبر عنه الجمل، لكن النسق الذي استخدمه «برتران» — فيما بين مقاطعه — قد أصبح أكثر مرونة، على سبيل المثال، في نثريات «موكيل» التي تنحو نحو الشعر الحر،٣٧٢ ولا يفعل «مالارميه» سوى نشر صيغة طباعية كانت قد ظهرت مسبقًا في «عروس النيل البيضاء»، حيث تنفصل — بشكل ظاهر — اللحظات الرئيسية الأربع للقصيدة (أربع جمل قصيرة)، («ما الذي حدث، أين كنت؟» – «كنت أستدعيها مطهرة بكاملها» – «توقفت الخطوة، لماذا؟» – «النصيحة، يا حلمي، ما العمل؟»). غير أنه ينبغي ملاحظة أنه ليس في متناول النظر — هنا، على الأقل في الحالة الحاضرة — إلا مقال المجلة، باعتباره «قصيدة»، بالمعنى الذي كتبه إلى صديقه «موكيل» عن أن قصيدة «حديث الأدب» بدت له «أكثر القصائد النقدية حدة»، وهي التي «كثيرًا ما حلم أن يتوفر على بعض منها».٣٧٣

وعلى أية حال، فإن الجملة الأخيرة من «بيبليوجرافيا» تجعلنا نستشف — بوضوح — الاتجاه الذي يتوجه إليه بحث «مالارميه»: إنه يرى إمكانية خلق شكل شعري جديد، «فيما بعد، بحكم الخبرة»، وأن يكشف «هذه الإيقاعات المباشرة للفكر التي تنسق منظومة شعرية ما»، طبقًا لمبدأ في التقطيع يمكن تشبيهه بذلك الخاص بالشعر الحر، قابل للتشبيه، لكنه ليس متماثلًا: فعندما يتحدث «مالارميه» عن «حشد الومضات المختلفة للروح حول فكرة معينة، على مسافات مقصودة من الجمل»، نرى كيف يرتسم — في فكره — المعمار المدهش ﻟ «رمية نرد»: يعود تاريخ «بيبليوجرافيا» إلى نوفمبر ١٨٩٦م، ونُشِرَت الطبعة الأولى من «رمية نرد» في مايو ١٨٩٧م، في مجلة «كوزموبوليس».

ويؤكد «مالارميه» — مرة أخرى، في مقدمة «رمية نرد»، وهو الذي كان يعلم أن مؤلَّفه سيبدو، لعديد من الناس، «فعلًا جنونيًّا»٣٧٤ — على التشابه الذي يمكن أن نجده بين مساعيه ومساعي الكتَّاب الشباب في عصره:
… تسهم المحاولة — مع غير المتوقع — بمسعيين متفردين وأثيرين على عصرنا، الشعر الحر وقصيدة النثر.٣٧٥
ويبدو حريصًا — بشكل خاص — على إقناع القارئ بأن مؤلَّفه، رغم هيئته الفريدة، لا يقدم عمومًا أية «جدة» أخرى، مهما بدا، «سوى توسيع القراءة». وحتى هذه «الفراغات»، التي تحتل المكان الأكبر في نصه، فإنه يلفت النظر إلى أنها دائمًا «ما يتطلبها نظم الشعر، كصمت محيط»، إلى حد أن المقطوعة الشعرية لا تحتل إطلاقًا أكثر من ثلث الصفحة؛ وكما يضيف: «فإنني لا أنتهك المعيار، فقط أنثره».٣٧٦ والحجة خادعة: فالواقع أن توزيع النص يثير الحيرة، فثمة شذرات من الجمل المتنافرة، ظاهريًّا، تنتشر على الصفحة، راسمة عليها أشكالًا لباليه غريب، تفصل بينها فراغات هائلة. والقارئ «الساذج» — الذي ألف «مالارميه» من أجله مقدمته — يظل مذهولًا. «إننا نرى في بث الفراغات في النص — وخاصة عندما نتطلع إلى هذه الحيلة — وسيلة لرفع قيمة الثمن الباهظ للقصيدة»، كما يوضح «فاليري» إلى «مالارميه».٣٧٧ وفي عام ١٩١٢م، كان ما يزال هناك عديد من النقاد ممن كانوا معجبين بمالارميه، يقولون — عن «رمية نرد» — إنه عندما كتبها مالارميه «كانت روحه تضطرب».٣٧٨ ومع ذلك، فالصحيح أن هذه المحاولة تشهد — بطريقتها — على الانشعالات الأدبية لهذا العهد، وأنه ليس من المستحيل أن نشبهها بمحاولات أخرى «تزامنية» أو «سيمفونية»: سبق أن أشرت — بنفسي — إلى التوزيعات الطباعية العجيبة التي استخدمها «غيل» في قصيدة «إيماءة ساذجة» التي أطرى فيها «مالارميه» — وإن يكن مع التحفظ! — «اللعب المركب والسيمفوني بالفعل».٣٧٩ إن الطموح إلى صياغة تركيبية من كافة أشكال الفن، وكتابة قصيدة تكون — في آنٍ — لوحة وسيمفونية، بأن تتلاقى في «الكتاب» كافة الأساليب التي أراد «فاجنر» أن يجعلها تتلاقى في «الدراما»،٣٨٠ قد راود الرمزيين: ونجد لديهم — مثلما نجد لدى «مالارميه» — الرغبة في العثور، من خلال الفن، على الوحدة الجوهرية للعالم، وجعل الكتاب مؤلَّفًا كونيًّا، صورة عن الكون.
ورغم هذا، فإذا ما نظرنا عن كثب أكثر إلى بنية «رمية نرد»، فإننا نتبين أن «مالارميه» قد ذهب إلى أبعد من أي شعار آخر في الجرأة التجديدية، وأنه — من ناحية أخرى، وذلك ما يهمنا هنا — قد حقق، بالفعل، «شكلًا جديدًا»، لا هو بالنثر ولا بالشعر الحر، في حين أن المؤلفات «التركيبية» للرمزيين، من «أنطونيا» إلى «العابرة»،٣٨١ تظل إنتاجًا هجينًا، من النثر المحشو بالشعر.
فهل يمكن القول بأن «رمية نرد» قصيدة نثر؟ بالتأكيد، لا. فهي ستتقدم — بالأحرى، وللوهلة الأولى — كنثار على صفحة الشعر (الشعر الحر)، إذا ما قبلنا أن الشعر هو — كما قال «كلوديل» — «فكرة معزولة بفراغات»،٣٨٢ و«مالارميه» — الذي يفضل أن يحتفظ باسم الشعر ﻟ «السمات الصوتية المنتظمة»، أي الشعر الكلاسيكي — يتحدث، بنفسه، عن «تفريعات طيفية للفكرة».٣٨٣ ومقطع كهذا — إذا ما عزلناه — سيبدو مكتوبًا وفق الأبيات الحرة:
ريشة الدوار الصافية النبيلة
على الجبين الخفي
تتلألأ
ثم تعتم
قامة صغيرة معتمة منتصبة
في انحنائها كجنية بحر
ويتخلى النص — بطبيعة الحال — عن علامات الترقيم، طالما أن «الفراغات» في نظم الشعر، حسب نظريات «مالارميه»، تقوم مقامها.٣٨٤
لكن إيقاع هذه «الأبيات» — من ناحية أخرى — لا يتوجه إلا إلى العين والذهن، لا إلى الأذن إطلاقًا: فلن نجد هنا «ثوابت إيقاعية» ولا سجعًا،٣٨٥ (السجع المقلد في صفحة ٤٧٣: هل وُجِد العدد … هل بدأ وتوقف … هل ترقم … هل أشرق، يذكرنا — بالأحرى — بالتركيبات الدورية للفن الخطابي، والتكرار الذي يجب أن يفاجئ الذهن لا أن يهدهد الأذن)، و«مالارميه» — الذي كان الشعر الحر بالنسبة له، فضلًا عن ذلك، «نثرًا ذا تقطيع مدروس» — قد أدرك بنية قصيدته كلها اعتبارًا من العنوان / الجملة: «رمية نرد لن تلغي أبدًا الصدفة»، التي تلحق بها كافة أنواع الجمل الاعتراضية ذات النسق الذهني أو الوصفي، فالعنصر الأولي للقصيدة هو — إذن — الجملة، «أو التطور الوقتي»،٣٨٦ مثلما يحدث لمؤلف سردي وذهني في آنٍ.
وإذا ما وافقنا — مثلما هو محتمل — على أن «مالارميه» إنما يستعيد هنا الموضوع الذي لم يتمكن من معالجته في «إيجيتور»، فيبدو أنه قد تمكن حقًّا — هذه المرة — من العثور على حل للمشكلة الفنية التي كانت توقفه: كيف يمكن أن ينتج سردًا يظل قصيدة، أو — إذا فضلنا — كيف يتم توحيد العنصر التتابعي، الزمني للسرد، واللازمنية الضرورية للقصيدة؟ «كل شيء يحدث بفعل الإيجاز، في فرضية ما، فيتم تجنب السرد».٣٨٧ ولا يتحقق ذلك باستخدام أشكال افتراضية فحسب، «حتى مع ذلك»، «سواء أكان»، «إذا»٣٨٨ لكن — أيضًا — بفضل الإيجاز، والمظهر الهارب للرؤى التي تتلاشى ما إن تُقتَرَح، تلك التي لا تتأسس أبدًا «راسخة وفائقة» على الصفحة،٣٨٩ لكنها تُخلي مكانها أيضًا إلى عنصر آخر، في حركة متماوجة تتخفى وتنتهي بمنح الانطباع بالثبات، «سيتلامس الخيال، وسيتشتت، سريعًا، حسب حركية المكتوب، حول وقفات جزئية لجملة رئيسية منذ العنوان مفتتحة ومستمرة».٣٩٠ ونرى إلى أي حد هو مالارمي هذا التوفيق بين «الوجود» و«اللاوجود»، بين «الزمن» و«الأبدية».
إن استخدام الصفحة المزدوجة كوحدة واحدة٣٩١ — بالإضافة إلى استخدام الحروف الطباعية المختلفة (ثمانية أنواع) — قد أتاحت لمالارميه أن يضع ما يسميه ﺑ «إخراج ذهني دقيق»، بتوزيع عناصره الدرامية أو الأيديولوجية المختلفة، «في مواضع متنوعة، قريبة أو بعيدة من السلك الموصل المستتر».٣٩٢ ويسمح اختلاف الحروف الطباعية بالتمييز بسهولة بين «العناصر» المختلفة، وبالتعرف — كل مرة — على من «يدخل المشهد»، مثلما تتيح لنا العناصر الرئيسية الصوتية لفاجنر التعرف على عودة شخص أو فكرة. هذا «الإخراج»، وهذه القصدية في التوسيع بين مجموعات الكلمات أو الأفكار، تبين لنا رغبة «مالارميه» في إلحاق مؤلفه بفنون الفراغ، المسرح أو الباليه. لكن «مالارميه» يواصل:
الفائدة الأدبية — إذا ما كان لي الحق في قول ذلك — لهذه المسافة المطبوعة التي تفصل ذهنيًّا فيما بين مجموعات الكلمات، أو فيما بين الكلمات، تبدو في الإسراع حينًا أو الإبطاء من الحركة، فتؤكدها، بل تأمرها حتى طبقًا لرؤية متزامنة ﻟ «الصفحة» …٣٩٣
وتحيلنا هذه الأهمية الممنوحة إلى الحركة إلى فن الزمن بامتياز، الموسيقي. ويشير «مالارميه» — بنفسه — إلى التأثير الذي مارسته «الموسيقى المسموعة في المجال الموسيقي» على مفاهيمه، ويشبه نصه بمقطوعة موسيقية: مقابلة لا ينبغي أن تدهشنا، في عهد كان الرمزيون لا يتحدثون إلا عن «التوزيع الأوركسترالي للقصيدة»،٣٩٤ ويزعمون المنافسة الظافرة مع الموسيقى، وقد أراد «مالارميه» أكثر من أي شخص آخر — وهو ما نعلمه — «أن يسترد ثروته» من الموسيقى، وأن «يحقق نقل السيمفونية إلى الكتاب».٣٩٥ وعلينا أن نقر — مع «ج. ديفيز» — بأن فكرة قراءة هذا النص، بصوت عالٍ، برفع أو خفض نبرة الصوت حسب موقع الكلمات، «أعلى وأسفل الصفحة»، مثل علامات على سلم موسيقي، لا يمكن إطلاقًا أخذها مأخذ الجد: وحيث إن القراءة تبدأ — بالنسبة لكل صفحة مزدوجة — من أعلى اليسار، وتنتهي أسفل الصفحة اليمين، فعلينا أن نقر بأن نبرة الصوت، «الشديدة الارتفاع للكلمات الأولى من الصفحة، ستنخفض تدريجيًّا حتى نهايتها، دون أدنى تغيير ينحو إلى إعادة تصعيدها»!٣٩٦ لكنه سيكون من السخرية الاعتقاد بأن «مالارميه» قد وضع حدًّا لمحاولته في «الموسقة» (إضفاء الموسيقية) بقراءة نصه كمقطوعة موسيقية، بتنويعات من الارتفاع والحدَّة. ونعلم (وحول هذه النقطة لا أملك إلا أن أحيل إلى أطروحتي الثانوية) أن «مالارميه»، بعيدًا عن الرغبة في جعل الأدب نوعًا من التوزيع الموسيقي الصوتي، كان يزمع أن يستعيد من الموسيقى أساليبها الأكثر عقلانية، وأن يستعير من السيمفونية بنياتها المركبة، وفكرة «كلٍّ من العلاقات».٣٩٧ وفيما يتعلق ﺑ «رمية نرد»، فإن الشاعر يتحدث بنفسه عن طباق، ويتمثل ابتكاره الرئيسي في أنه يجعلنا نشهد — في آنٍ — تطور عدة عناصر («العنصر المهيمن، والثانوي، والعناصر المجاورة»)،٣٩٨ التي يشكل دخولها، وتراكبها، و«تعديلها» أو تفاوتها، تعدد أصوات أدبي حقيقي، وذلك ما يعني المكابرة فيما هو بديهي من الرغبة في إحالة هذه البنية البارعة إلى مجرد جملة نثرية بسيطة، محملة — إلى حدٍّ ما — بالجمل الاعتراضية، وتشبيهها، مثلما يفعل «ج. ديفيز»، ﺑ «مرحلة هذيانات التي لا تنتهي».٣٩٩ وحتى لو تخيلنا سلسلةً من الأقواس وما بين الأقواس، فلن نتمكن من إقحام هذا النص في السلسلة الميلودية للنثر: فما الذي يمكن اعتقاده — على سبيل المثال — في جملة نثرية تنطوي على نفس الكلمة: الصدفة، تُستَخدَم — في آنٍ — كمفعول به لجملة رئيسية (رمية نرد لن تلغي أبدًا الصدفة)، وكخبر لهذه في الجملة الاعتراضية: «أتكون هذه هي الصدفة»؟ لكننا إذا ما أدركنا هاتين الجملتين — باعتبارهما «عنصرين» موسيقيين (عنصرًا أساسيًّا، وعنصرًا مجاورًا) — فسنجد من الطبيعي أن يتمكن عنصران متراكبان (نتحدث أيضًا عن «جمل» موسيقية) من التلاقي، ومن الانتهاء إلى نفس العلامة المشتركة بينهما، ونسخ هذين العنصرين في حروف طباعية مختلفة يجعل هذه البنية المتعددة الأصوات أكثر وضوحًا بكثير من «ترجمتها» نثرًا، وهو ما ليس مقروءًا، ولا شك أنه يمكن العثور — في «رمية نرد»، مثلما يريد «س. روليه»٤٠٠ — على تكرارات لحنية، أو على «تناغم صوتي متقهقر»، كما أنه لا يقل عن ذلك صوابًا أن «مالارميه» قد أراد — في «رمية نرد»، مثلما يقول «س. روليه» — تحقيق «طباق بنيوي»، وإذا ما كان قد استخدم في عمله، لتحقيق طموحاته الموسيقية، أساليب بصرية بالأساس، فإن التناقض لا يعدو أن يكون ظاهريًّا، فالأمر يتعلق فعلًا، بالنسبة له، بامتلاك وتنظيم الانسياب الوقتي، وﺑ «توليد أبدية الشكل في حركية الوقت»،٤٠١ مثلما تفعل الموسيقى بفضل الإيقاع، في تصميم الموضوعات وفي العلاقات القائمة بينها، لكن لأن الصفحة هي مجال الفراغ الذي يملكه الأدب، فإن هذه الأشكال وهذه البنيات ستتخذ — بطبيعة الحال — مظهرًا مكانيًّا مدركًا، مباشرة، من العين. ويتحدث «فاليري» — في هذا الصدد — عن «قراءة ظاهرية» «يربطها» «مالارميه» ﺑ «القراءة الخطية»، ويضيف: «كان هذا إثراءً لمجال الأدب ببعد ثانٍ».٤٠٢
وإذا ما أضفنا — فضلًا عن ذلك — أن هذا التشخيص للموضوعات على الورق كان يجب أن يشكل — حسب رغبة «مالارميه» الواضحة — متتالية من الرموز الفكرية، كان ينبغي — على سبيل المثال — أن تتخذها كوكبة الصفحة الأخيرة، بالقدر الذي يسمح به لنص مطبوع، بشكل حتمي، أن يتخذ هيئة الكوكبة، والفراغ المسقوف الذي يوفره الشريط الأبيض أعلى الصفحة وأسفل الأخرى،٤٠٣ وبنوع من العودة إلى الكتابة التشخيصية للحضارات القديمة، فإننا يمكننا أن نتصور تعقيد بنية قصيدة كهذه، دراما وسيمفونية ولوحة، في آنٍ. ولا شك أن «مالارميه» قد أنتج هنا، حقًّا، كتابًا «معماريًّا مدروسًا»،٤٠٤ دون أن يترك أدنى مكان للصدفة، ونحن منقادون — أيضًا — إلى التفكير بأن معنى كتاب كهذا لا ينفصل عن بنيته، وأن الشكل والفكرة لا يشكلان سوى شيء واحد، وأن تعقيد المؤلَّف هو تعقيد داخلي وليس مجرد تعقيد شكلي، أي — بعبارة أخرى — لدينا هنا مقاربة أولى للمؤلف الحلم، ﻟ «التفسير الأورفي للأرض»،٤٠٥ الذي كان الهدف الحقيقي لحياته كشاعر، وطبقًا ﻟ «ر. ج. كون»، ﻓ «البنية التحتية المعرفية» هي التي تفسر، وبالأحرى تشكل، «هيكل القصيدة»:٤٠٦ فلدينا — هنا، طبقًا لقوله — على قصيدة كونية مبنية على فكرة «المعادلة السيمفونية الخاصة بفصول العام»،٤٠٧ على إيقاع رباعي الأقطاب يتوافق مع بُعدي الصفحة، البعد الممتد من أعلى إلى أسفل الصفحة، والآخر الممتد من اليسار إلى اليمين (وبالامتداد من الصفحة الأولى حتى الأخيرة)، وتتطور القصيدة طبقًا لحركة تماوجية (تقدم وتماثل رباعي الأقطاب، في آنٍ)، يتسق لا مع الإيقاع الفصلي فحسب، بل أيضًا «مع كافة الإيقاعات الوقتية»، ومع الأعمار الأربعة لبعض نظريات نشأة الكون،٤٠٨ على سبيل المثال، ولن أخوض في تفاصيل تفسيرات «ر. ج. كون»، فهذا الناقد له — في جميع الأحوال — «فضل معارضة كل من يدعي تقليص العمل إلى دلالة خطية وحيدة»، مثلما يقول «ج. ميشو»،٤٠٩ وهو — من ناحية أخرى — قد أوضح جيدًا حقيقة أنه في قصيدة كهذه، كان كل شيء يتماسك ويزدهر انطلاقًا من العنوان / الجملة، وأنه ليس ثمة أي شيء شكلي، في اختيار أو توزيع الكلمات، بل إن كل شيء — على النقيض — ضروري وعضوي. وقد سبق أن قال «فاليري» إن محاولة «مالارميه» ما كان مقدرًا لها أن تكون ما لم تكن قد تمثلت ببساطة في توزيع نص، موجود سلفًا، على الصفحة: «فهي تقع في لحظة المفهوم»، وهي نمط المفهوم،٤١٠ وذلك ما يمنحها أهميتها.
وفضلًا عن ذلك، فثمة ميل، يتزايد أكثر فأكثر، إلى قبول ضرورة تخطي التفسير التبسيطي بإفراط للعنوان الجملة: رمية نرد لن تلغي أبدًا الصدفة، باعتباره تصريحًا بفشل (تفسير تقليدي من «تيبوديه»)، ولا سيما أنه ليس بالفشل الشخصي. ولا يمكن الشك — إطلاقًا — في أن الأستاذ هو رمز للإنسان، وللإنسانية كلها في كفاحها ضد المصير الأعمى، في محاولتها اليائسة للانتصار على الصدفة بواسطة العلم، أو الفن. «لتعلموا تمامًا أنه ليس هناك إطلاقًا موضوع آخر»، كما كتب «مالارميه»:٤١١ «تعارض حلم الإنسان مع مصائر وجوده التي يوزعها الشقاء.» كل تلخيص للقصيدة سيخونها حتمًا، ما دام سيقلصها إلى دلالة سطحية، دون اعتبار للتعقيد المدهش للعلاقات القائمة بين الكلمات والأفكار، حسب توزيعها وموضعها على الصفحة، ولم يكن المعلقون متفقين حتى في معرفة ما إذا كان «الظل الصبياني» — الذي يظهر في ظلمات الغرف، على سبيل المثال — يمثل الفكرة النقية للبطل (ج. ديفيز)، أم للابن، الذي يعني تعاقب الأجيال (و. ج. كون). لكن الغرق النهائي للمحاولة الإنسانية، المدفونة في «الزُّبد الأصلي»، والممتصة في المادة، في «الحيادية المطابقة للهاوية»،٤١٢ لا تدع مجالًا للشك – وهو ما يعوض بظهور كوكبة النجوم، في الصفحة الأخيرة، التي تنقش نجومها
على سطح ما خالٍ وراقٍ
الصدمة المتتالية
فلكيًّا
لحساب ختامي في حالة تكوين

وبعبارة أخرى، رمية النرد الكبرى، التي تلقيها الروح الإنسانية على امتداد تاريخ العالم.

ونرى إلى أي حد نفقر دلالة القصيدة بتقليصها إلى ألَّا تكون سوى مجرد نوع من الاعتراف الشخصي، والإقرار بإخفاق «مالارميه» وعجزه عن إنجاز المؤلَّف، فما نستخلصه، من كل ما باح به الشاعر، هو النقيض — على سبيل المثال — لما باح به إلى «كلوديل»، الذي يصرح لنا بأنه «في ذهن مالارميه، لم يكن هذا العمل سوى المحاولة الأولى لقصيدة كبرى، أرادها — على غرار فلاسفة اليونان القدامى — أن تنطوي على تفسير للعالم»،٤١٣ أو إلى «ج. كان»، الذي تحدث إليه — فيما يبدو — عن تسع قصائد أخرى ستلي هذه القصيدة (مكتوبة مثلها، على ما يضيف «كان»، «بالشعر الحر» …)٤١٤ يبدو من الثابت — إذن — أن «رمية نرد» كانت، في ذهن «مالارميه»، محاولةً أولى لتحقيق المؤلَّف الكبير، الذي حلم به طول حياته.
هل يمكن لنا — مثلما يفعل «ج. ديفيز» — أن نستخلص الحجة من الشكل الذي تبناه الشاعر، فنعترض ﺑ «أنه يصعب الاعتقاد بأن مالارميه قد تخلى عن الشعر التقليدي في عمل كان عليه أن يمثل النموذج المثالي للكتاب»؟٤١٥ والواقع أننا قد رأينا — في الصفحات السابقة — إلى أي حد، على النقيض، تتلاءم البنية المعقدة و«السيمفونية» ﻟ «رمية نرد» مع مؤلَّف يتم إدراكه كعالم، وينبغي فيه للإيقاع أن يتبدى «حتى في ترقيم صفحاته».٤١٦ وأود — كختام — أن أؤكد على الأهمية التي دعانا «مالارميه» بنفسه إلى منحها لمحاولته في مقدمة «رمية نرد»، وأن أبين أن الفكرة — شأنها شأن تقنية الشاعر — قد وصلتا، فيما يبدو، إلى خاتمة كان يمكنها — لو لم يختطفه الوقت بعد ذلك بقليل — أن تمثل بداية ما.
وإذا ما كان «مالارميه» قد لاحقته وقادته دائمًا فكرة الكتاب الأسمى، فإنه قد تردد طويلًا في المقابل، كما رأينا، في اختيار الأساليب المستخدمة لتحقيق المؤلَّف، وكثيرًا ما نوَّع سواء في الشكل أو في النوع، مثلما يلاحظ «أوستان»: «أحيانًا هي مسألة قصائد، وأحيانًا مسألة مؤلفات نثرية، وأحيانًا مقطوعات مسرحية، وأحيانًا قصائد غنائية …»٤١٧ وليس في هذا ما يثير الدهشة، لأن المرء — في مؤلف عليه أن يعكس الكون — يسعى إلى إنتاج مؤلف كوني، يستقبل كافة الأنواع، وكافة الأشكال. ولهذا، يمكننا أن نفهم لماذا سعى «مالارميه» — في خاتمة المطاف — إلى إنتاج مؤلَّف تركيبي، ناقلًا إلى الكتاب بعض أساليب المسرح والموسيقى، ونفهم أيضًا أنه أراد إنتاج تركيبة من الشعر والنثر، وهو الذي كتب إلى «ج. كان» عام ١٨٩٧م (ألم يكن يفكر في نفسه؟): «سيأتي مؤلف أسمى يحل محل الشكلين».٤١٨
وينبغي أن نؤكد أن مقدمة «رمية نرد» توضح لنا أن «مالارميه» قد كف — في نهاية حياته — عن اعتبار البحر السكندري ﮐ «شعر لا شخصي»، وشكل مخصص بطبيعته لأن يستخلص «من العالم نشيدًا، وكي ينير فيه الإيقاع الجوهري».٤١٩ وتنتهي المقدمة بهذه الكلمات:
النوع الذي يصبح واحدًا مثل السيمفونية يترك، تدريجيًّا، إلى جانب النشيد الشخصي، الشعر العتيق بلا مساس، ذلك الذي ألتزم إزاءه بالعبادة وأمنحه إمبراطورية العاطفة وأحلام اليقظة، فيما ستكون موضع معالجة وتفضيل (على نحو ما يلي) موضوعات كهذه من الخيال الخالص والمركب أو الذهني: التي ما من سبب سيبقى لاستبعادها من الشعر – المصدر الوحيد.٤٢٠
وهكذا، يعزل «مالارميه» — في ختام حياته الأدبية — الشعر الكلاسيكي في مجال الغنائية الشخصية، و«العاطفة وأحلام اليقظة»، ويبحث عن خلق شكل أكثر تركيبًا و«سيمفونية» كي ينشد ما أسماه «ترتيلة … العلاقات بين الكل».٤٢١ وتتضح الإشارة إلى السيمفونية بالفعل عندما نقرأ الخطاب الذي وجهه «مالارميه» إلى «فاليري» عام ١٨٩١م:
ينبغي، من أجل إدراك الأدب، وكي يكون له معنى، الوصول إلى هذه السيمفونية السامية التي ربما لن يصنعها أحد: لكنها طاردت حتى أكثر اللاشعوريين …٤٢٢
مؤلَّف سيمفوني، هذه الترتيلة اللاشخصية التي يمكن «ألا تحتوي على أي موقع»، هو أيضًا نشيد ذهني رفيع لروح تصعد إلى جوهر الأشياء كي تستشف — بشكل أفضل — لعبة علاقاتها، وتعيد خلق الكون في كتاب. حينئذٍ، يتحقق «نقل السيمفونية إلى كتاب»: إذ — كي نسترجع، مرة أخرى، نص «أزمة الشعر» — «ينبغي أن ينتج من الكلام العقلي في ذروته، في اكتمال وجلاء، وكمجمل للعلاقات الموجودة في الكل، الموسيقي».٤٢٣ وكان لموضوع المؤلَّف أن يصبح — ولا نشك في ذلك — موضوعًا «من الخيال الخالص والمركب»، وبعبارة أخرى، موضوعًا ذهنيًّا.
لم يقم «مالارميه» — في «رمية نرد» — إلا «بمحاولة أولى»، ﺑ «تلمس»، مثلما يكتب إلى «جيد»،٤٢٤ «بهدف تحقيق هذه السيمفونية السامية»، لكنه يشك — فيما يبدو — في أن يحقق، من الآن فصاعدًا، وفي مستقبل قريب، المؤلَّف النهائي. وفي عام ١٨٩٨م، وخلال استعداده لقضاء الصيف في «فالفان»، بدا مفعمًا بالثقة، وتحدث إلى «ﻫ. دي. رينيه» عن «انتصاره» القريب.٤٢٥ وجاء الموت أكثر تبكيرًا من أن يسمح له بأن يحقق — بشكل جيد — محاولات جديدة: ففي ٩ سبتمبر ١٨٩٨م، قضى تشنج حنجري على «مالارميه». واستطاعت زوجته وابنته أن تقرآ — على ورقة مكتوبة ليلتها — وصاياه الأخيرة: الأمر بحرق كومة ملاحظاته: «بما أنه ولا صفحة مزدوجة يمكن أن تكون مفيدة، كما يقول «مالارميه»؛ إذ إنني أنا الوحيد الذي يمكنه أن يستخلص منها ما فيها … وهو ما كنت سأفعله، لو لم تخُني السنوات الأخيرة الناقصة»، ويضيف «مالارميه»: «صدقوني، لا بد أنه كان سيصبح جميلًا للغاية».٤٢٦

(٦) خلاصة معنى وقيمة المحاولة المالارميَّة

المكانة المنفردة لمالارميه في تاريخ قصيدة النثر
دوره في انتشار النوع
ألم يكن «مالارميه» يخدع نفسه؟ ألا يمكننا الاعتقاد (هو نفسه اعتقد ذلك) بأن «المؤلَّف الكبير» الذي حلم به، كان — بحكم تعريفه — غير ممكن التحقق، وأن شاعرًا محصورًا في قدراته الوحيدة ما كان بمقدوره أن يأمل شيئًا أفضل من «عرض مقطع منفذ»، و«إفساح مكان للأصالة المجيدة كي تتلألأ»؟٤٢٧ علينا — في جميع الحالات — أن نبتهج لامتلاك هذه المقاربة الأولى — «رمية نرد» — التي كان من المستحيل بدونها متابعة مسيرة فكر وتقنية «مالارميه» طوال مسارها، منذ اللحظات الأولى التي يتم فيها إدراك المؤلَّف، حتى النقطة الأخيرة التي يصل إليها عام ١٨٩٧م.
والواقع أن هذه المسيرة نموذجية: فهي تسمح لنا — في الواقع — بمتابعة جهود شاعر ينحو إلى مطلق اللغة، ويصطدم — باستمرار — بالمقاومة التي تواجهه بها المادة اللغوية الشائعة التي يضطر إلى استخدامها. صراع أبدي للشاعر ضد الكلمات وبواسطة الكلمات: وقد خاضه «مالارميه» بشكل أكثر وعيًا، وأكثر ألمًا — حسبما يمكننا أن نقول — من أي شخص آخر. والمحاولة الأولى «إيجيتور» – للتسامي بالنثر، بمنحه طاقة مجهولة حتى الآن، من الإيحاءات وشبه التعويذة لم تصل إلى إنجاز مُرضٍ. عندئذٍ، التفت «مالارميه» إلى النظم، ﮐ «كلمة شاملة» توحد عدة ألفاظ لتؤسس عنصرًا شعريًّا جديدًا، وكأنه «غريب عن اللغة»، وهو يحلم طويلًا بمؤلَّف من النظم إلى حد أنه من بيت الشعر إلى القصيدة، ومن القصيدة إلى «الكتاب»، ستكون هناك شبكة علاقات ضرورية، تنظيم يعكس نظام الكون، لكنه — مرة أخرى، فيما يبدو — يواجه مقاومة لا تُقهَر، تلك الخاصة بنظم الشعر نفسه، الذي تفرض عليه قوانينه الصارمة مطلقًا شكليًّا صرفًا، وحيث شكله الخطي («الذهاب والمجيء المتعاقب بلا انتهاء للبصر، سطر ينتهي فإلى التالي، كي نبدأ من جديد»)،٤٢٨ لا يتحمل التعقيد «الكوني» الذي يحلم به «مالارميه». وفي ذلك الحين، يستشرف نمطًا آخر في تنظيم اللغة: إنه التركيب اللغوي، الذي يُطَبَّق — هذه المرة — على الجملة، على النثر — إذن — مثلما على الشعر المنظوم: وخلال الصراع ضد تركيب الجملة الشائع، وبتنظيم الكلمات في جملة وفق قوانين جديدة، يصبح من الممكن التغلب على الاستسهال، والتدفق و«اطراد» اللغة الشائعة، وأن نفرض على الكلمات تنظيمًا يحكمه الذهن.

وفي هذه النقطة من أبحاثه، يلتقي «مالارميه» — من ناحية — بالموسيقى وبشكل خاص، السيمفونية، ومحاولات الشعر الحر، من ناحية أخرى. ويستخلص منهما — في آن — عناصر لتأملاته ومساعيه التقنية. وسيتوجه نحو تركيبة من الشعر المنظوم والنثر (أو الجملة، إذا شئنا)، وسيحاول — من خلال بناء قصيدة «رمية نرد»، «بشكل سيمفوني» — تحقيق بنية معقدة يتماسك خلالها كل شيء، حيث كل شيء ذو مغزًى وقيمة، لا في حد ذاته فحسب، بل في العلاقة بالكل: جهد عظيم من أجل ألا يترك أي شيء للصدفة، ومن أجل استخدام كافة مصادر اللغة، و— في نفس الوقت — لخلق لغة جوهرية، قريبة من المطلق بقدر ما يمكن أن تقترب به لغة إنسانية.

ويمكننا — بالتأكيد — مناقشة القيمة الأدبية ﻟ «رمية نرد»، وأن نتساءل ما إذا لم تكن محاولة إيكارية، وبالتالي منذورة للفشل، تلك المحاولة الخاصة بإرادة تخطي الإمكانيات الطبيعية للغة: وبشكل خاص إرادة تطوير عدة عناصر بشكل متزامن، كما في توليفة موسيقية: ذلك أن الأذن إذا ما كانت تستطيع التقاط عدة أفكار، فإن الذهن لا يتابع أبدًا عدة أفكار في نفس الوقت، ورغم هذا، فيمكن ملاحظة أن «مالارميه» لا يفعل سوى دفع بعض الاتجاهات الأساسية للأدب إلى نقطة قصوى، ونجد تكوينات «في حالة توازٍ» في النصوص الأقدم — على سبيل المثال، في «أغنية رولان» — حيث التطور المتوازي بين احتضار رولان الذي ينفخ في بوقه، ومسيرة شارلمان وجيشه بعيدًا، ونعلم إلى أي حد تجلى هذا «الاتجاه التزامني» لدى الروائيين المعاصرين، من «سارتر» (طريق الحرية) إلى «فوكنر» (بينما أحتضر)، دون حاجة لذكر «عوليس» لجيمس جويس.٤٢٩ فثمة ميل هنا إلى مقاومة الانسياب الخطي للزمن، وإلى إثراء الأدب ببعد جديد، فراغي، إذا جاز القول.
وينبغي أن نضيف أن «تزامنية» رمية نرد، إذا ما كانت قد وجدت أصداءً كثيرة في الشعر (مع «تزامنية» بارزون، بطبيعة الحال، وبعض قصائد «أبوللينير» و«كوكتو» و«سوبو»،٤٣٠ على سبيل المثال)، فإنها لم تُمارَس، ولم يكن بمقدورها أن تمارس تأثيرًا مباشرًا على قصيدة النثر: فقصيدة النثر — وخاصة الحديثة — أقصر، بإفراط، من أن تستخدم نسق التسلسل التزامني لعدة موضوعات، فهي — بالأحرى — تبدو كومضة، كاندغام شعري شديد الكثافة، بأكثر من كونها بناءً في الزمن.

فأية مكانة — إذن — يحتلها «مالارميه» في تاريخ قصيدة النثر، وأي تأثير مارسه على تطورها؟

كما رأينا، لا يمكن اعتبار «رمية نرد» قصيدة نثر، لكنها شهادة دالة، رغم هذا، على المساعي التي جربها الشعراء — وقتئذٍ — لإسقاط الحاجز الفاصل بين الشعر المنظوم والنثر، ولإيجاد شكل من التركيب يستجيب لمحاولتهم الفنية «الشاملة». لكن «مالارميه» يتبدى — على مستوى الفكر الجمالي، كما على صعيد التقنية الشكلية — أكثر عمقًا وجرأةً، في آنٍ، من معاصريه (فهو يترك بعيدًا وراءه — على سبيل المثال — تركيبات «غيل»، «المتعلقة بنشأة الكون» والطموحة). إن مكانته منفردة، بالغة البعد والارتفاع، على نقطة متقدمة من صخرة الشاطئ، حيث كان من الصعب على شعر عصره أن يتبعه. وفضلًا عن ذلك، فإن الرمزية أطلقت نيرانها عام ١٨٩٧م، وكان القرن العشرين هو الذي حصد واستثمر الميراث الأدبي ﻟ «رمية نرد». لقد لعبت قصائد «مالارميه» النثرية دورًا في التاريخ الأدبي، منذ وقت مبكر تمامًا، ويمكننا القول — عمومًا — أن التأثير الذي مارسته كان متناسبًا طرديًّا مع أصالتها، وليس في هذا ما يثير الدهشة: فخارج كل قيمة كامنة، فإن تقدير قصائد «مالارميه» النثرية الأخيرة — بالنسبة لنا — محكوم بقدر ما تحدد اتجاه خط سير روحاني رائع، ومن الصعب تقييمها من وجهة النظر التقنية الشكلية وحدها، وأيضًا تخيل اعتبارها نماذج أدبية، بفصل شكلها عن دلالتها العميقة، والواقع أن المقطوعات الأكثر إعدادًا، والأصعب أيضًا، تلك التي أسس فيها «مالارميه» لغة داخل اللغة، ما كان لها وما كان بمقدورها أن يكون لها سوى تأثير مباشر ضعيف: القصائد الخماسية ﻟ «فونتينا»،٤٣١ والتكوينات المنمقة ﻟ «فرايران» في أولى قصائده النثرية،٤٣٢ توضح تمامًا ما يمكن أن يصبح عليه الشكل الشخصي البالغ الصرامة لمالارميه، عندما يصبح نسقًا. وينبغي — وهو أمر حقيقي — أن نعترف بأن تأثير هذه النثريات قد تحقق، مع ذلك في العمق، وبصورة متأخرة تقريبًا، وأن «كلوديل» — على سبيل المثال — لن ينسى، في «معرفة الشرق»، درس تركيب الجملة بأسمى معانيه، والكتابة المدروسة، التي قدمتها القصائد المجموعة عام ١٨٩١م في «صفحات».٤٣٣
وبالمقابل، فإن أولى القصائد ذات البنية والكتابة السهلتين نسبيًّا، والقابلة للتمثل بالتالي، والمندرجة في خط «بودلير» (المنقحة بذكرى من «مقاطع» برتران)، قد أتاحت انطلاق أسراب من قصائد النثر، في فترة كان الشعراء الشبان يبحثون خلالها عن التحرر من طغيان الأشكال الكلاسيكية: مرة أولى عام ١٨٦٧م خلال نشرهم في «روفي دي ليتر إي ديزار» ومرة ثانية عام ١٨٨٦م، عندما نشرت «لافوج»، مجلة الرمزيين المقبلين، ثلاثًا منها ﮐ «نوع من البيان العام»،٤٣٤ فقد «حددت» هذه اﻟ «صفحات» اﻟ «منسية» — على ما يقول «ر. دي جورمون» — «تفتحًا كاملًا لقصائد النثر، التي سرعان ما امتلأت بها المجلات الصغيرة». مصير غريب في الحقيقة: فنثريات (وأشعار) فترة الشباب هذه — المنشورة قليلًا أينما كان، في كل مرة ظهرت فيها الأعداد الأولى من مجلة أدبية»٤٣٥ — قد مارست تأثيرًا، حاسمًا أحيانًا، على عدد من الشعراء الشبان، في اللحظة التي كان مؤلفها — وقد أصبح لا مباليًا بهذه «المزق»٤٣٦ — مستغرقًا في إعداد عمله المعماري الكبير، ويجد في الهرب من «المكيدة المدرسية».٤٣٧ وسنجد في الصفحات التالية اسم «مالارميه» في كافة منعطفات تاريخ الرمزية، وقصائده النثرية — التي سيهجرها القرن العشرون لفترة طويلة، لصالح الشعر المنظوم٤٣٨ — وقد احتلت في هذا التاريخ، وخاصة في البحث عن شكل شعري، مكانة هامة. وفضلًا عن ذلك، ألم يجمع «مالارميه» في ديوان — كي يستجيب للعديد من الالتماسات — صفحاته النثرية أربع مرات؟٤٣٩
وهكذا، فإن «مالارميه» — الذي أضعه إلى جوار «بودلير» و«رامبو» و«لوتريامون»، مع عدد من الشعراء الذين ترتبط مشكلة اللغة الشعرية لديهم بالبحث الميتافيزيقي — قد وجد نفسه مشتبكًا في أبحاث أكثر شكلية بكثير من عهد الرمزيين؛ إذ استمرت حياته عشرين عامًا بعد الشعراء الثلاثة المذكورين، ولن ننسى — مع ذلك — أننا سنراه، خلال الفصول التالية، وقد أصبح مؤسس مدرسة دون قصد منه، وأن نتاجه الحقيقي قد تم اقتفاؤه «بغموض من أجل إدراكه فيما بعد، أو – أبدًا»،٤٤٠ وأن صراعه الحقيقي لم يكن ضد هذا أو ذاك، بل ضد «الصدفة»، أو — إذا ما فضلنا — ضد المادة باسم «الروح»، «التي ليس لديها ما تفعله أبدًا غير موسيقية الكل».٤٤١
١  قارن N. Miserey في Cahiers du Nord, n° 2-3, 1948, p. 227. الفن الأسمى «يتمثل في أن نُظهر أننا في حالة نشوة من خلال امتلاك كامل لكل الملكات، دون أن نكون قد أوضحنا كيف ارتقينا إلى هذه القمم»، ذلك ما كتبه «مالارميه» إلى «كازاليس» في ٢٥ أبريل ١٨٦٤م (Propos sur la poésie, éd. de 1953, éd. du Rocher, Monaco, p. 42). وسترجع إحالاتي دائمًا إلى هذه الطبعة المستكملة.
٢  رمية نرد لن تلغي الصُّدفة أبدًا (Préface, Œuvres, éd. de la Pléiade, p. 455).
٣  قصائد النثر مجموعة في ديوان «هذيانات  Divagations» (المنشور عام ١٨٩٧م، لدى شاربنتييه)، تحت عنوان: حكايات وقصائد  Anecdotes et Poèmes.
٤  وبشكل خاص: «موندور» Vie de Mallarmé, Gallimard, 1941؛ وأعمال Œuvres مالارميه، المنشورة في طبعة «لابلياد»، عام ١٩٤٥م، وهو النص النهائي الذي سترجع إليه إحالاتي، وMallarmé, Propos sur la poésie، مقتطفات من مراسلاته (طبعة جديدة مزيدة، éd. du Rocher, Monaco, 1953).
٥  تجددت الدراسات عن «مالارميه» وازدادت ثراء — بصورة واضحة — منذ عشرة أعوام (قارن بيبليوجرافيا)، لكن ذلك لا يعني أن كل شيء قد قيل عن الشاعر، فالأمر بعيد عن ذلك. ويعتبر كتاب «مالارميه» ﻟ «ج. ميشو» (Collection Connaissance des Lettres, Hatier, 1953) أفضل «حالة راهنة للدراسات المالارمية».
٦  أعاد نشرها «ﻫ. موندور» في كتابه عن Eugène Lefébure, Gallimard, 1951, p. 342.
٧  Mallarmé plus Intime, Gallimard, 1944, pp. 22–42. أعاد البروفيسور «موندور» نشر هذه الحكاية في كتابه Mallarmé Lycéen (Gallimard, 1954). ودون أن نذهب إلى حد أن نرى فيها — مثلما فعل هو — «أول قصيدة نثر» لمالارميه، علينا أن نعترف بأن هذا «السرد في موضوع حر» (هذا التحديد يرجع إلى الشاعر نفسه) هو نثر شعري بشكل بالغ القصدية.
٨  Mallarmé Lycéen, p. 338.
٩  الخامس عشر من سبتمبر ١٨٦٢م (أعيد نشره في Œuvres de Mallarmé, p. 257). وقد أوضحت السيدة «نوليه» — التي أحيت هذا المقال المنسي طويلًا من «لارتيست» — أهميته في أطروحتها L’œuvre poétique de S. Mallarmé, Droz, 1940, pp. 37–45.
١٠  قارن Mondor, Vie de Mallarmé, Gallimard, 1941, p. 52, Note 2. هل تعلق الأمر بقصائد منظومة أم قصائد نثر؟ لا يوضح خطاب «منديس» هذه المسألة.
١١  أعادت السيدة «سوفران» نشرها في French Studies (Oxford, Janvier 1950, pp. 33–44) تحت عنوان Üne Œuvre de jeunesse Inédite de Mallarmé، مصحوبة بتعليقات صائبة، كما أوضحت المصادر المختلفة لهذه القصيدة. وهي تفترض أن هذه القصيدة معاصرة تقريبًا للقصيدة المنظومة «مداعبات جنائزية»، المكتوبة في «سانس» عام ١٨٦١م، وأنها كانت جزءًا من «حفلات تنكرية».
١٢  يتعلق الأمر بالكراسات التي كان تلميذ مدرسة «سانس» ينقل فيها قصائد كُتابه المفضلين، تحت عنوان «لُقى»: حيث يحتل «بودلير» المساحة الأكبر (قارن Mondor, Mallarmé Lycéen, pp. 298-299).
١٣  بعنوان «قلم فحم»، فيما بعد، وفي ديوان «هذيانات»: «طفل فقير شاحب».
١٤  في «هذيانات»: «أنين الخريف». وحول نشر هاتين القصيدتين، انظر Œuvres de Mallarmé, Notes, p. 1541.
١٥  على نحو ما يثبته خطاب «لوفيبور» إلى «مالارميه»، في ١٣ مايو ١٨٦٤م: «أرغن صغير نقال رائعة أدبية صغيرة فاتنة، أحفظها عن ظهر قلب … وفي الغليون تعطون الانطباع شبه الحقيقي بلندن» (خطاب أعاد «موندور» نشره في Eugène Lefébure, pp. 178 et 180).
١٦  التي أخذت — عندما تغيرت بعمق — عنوان «ذكرى» في «هذيانات».
١٧  في «هذيانات»: ارتعاشات الشتاء.
١٨  المؤلفات، ص٢٢. هذه «الأخت» هي زوجته «ماري».
١٩  نجد في القصيدة المخصصة لذكرى «بودلير»: «ينابيع ثقيلة من النحاس، حيث يسقط بحزن شعاع غريب ومفعم بأفضال الأشياء الذاوية» (المؤلفات، ص٢٦٣). وكان «مالارميه» قد بعث بهذه القصائد الثلاث إلى «كولينيون» مدير مجلة Revue Nouvelle منذ ١١ أبريل ١٨٦٤م (قارن Propos sur la Poésie, p. 39). وأعتقد — عن اقتناع — أنه كتب أحاديث شتوية بعد ذلك بقليل.
٢٠  E. Noulet, L’œuvre poétique de Mallarmé Droz, 1940, p. 146.
٢١  وهكذا، في عام ١٨٨٧م — وبعد أن يذكر «فيرلين» «صديقه» باجو «بأنه و«مالارميه» قد وُصِفا بأنهما «منحلان» — يضيف: «شتيمة بين قوسين تصويرية، خريفية جدًّا، مثل شمس غاربة حقًّا، ويجب أخذها ككل» … Verlaine, Correspondance, Œuvres, Massein, t. III, p. 20.
٢٢  كان «مالارميه» قد فقد أخته ماري في أغسطس ١٨٥٧م، وهو يشير إليها في هذه القصيدة. قارن Mondor, Mallarmé plus Intime, pp. 50–77: Maria sœur de Stéphane, et Mauron, Une nouvelle explication de Mallarmé (Figaro Littéraire 10 Avril 1948).
٢٣  قارن Mondor, Eugène Lefébure, Gallimard 1951, p. 73. هل كان «مالارميه» أم «لوفيبور» أول من راودته فكرة التدريب على هذا النوع من قصيدة النثر؟ لا تحمل قصيدة «لوفيبور» أي تاريخ، لكن القصائد التالية — في نفس الكراسة — مؤرخة بعامي ١٨٦٣م و١٨٦٤م: ربما يكون «لوفيبور» هنا، كما في موضع آخر، قد أرشد وشجع صديقه (قارن بما يلي، تحت عنوان «مالارميه واللغة»). ولنذكر — رغم هذا — أن «مالارميه» قد اضطر إلى أن يكتب — حوالي عام ١٨٦١م أو ١٨٦٢م — «ربات شعر فرنسا والأقاليم»، وأنه عندما أبلغ «كازاليس»، في أبريل ١٨٦٢م، بأحلامه بالسفر بصحبة «ماري جيرار»، أضاف: «سأكتب قصيدة نثر حول مشروعات السفر هذه» (Mondor, Vie de Mallarmé, p. 72).
٢٤  Baudelaire, Œuvres, Pléiade, t. I, p. 427. تشكل قصيدة «الجاتوه» جزءًا من المقطوعات المنشورة في «لابريس» في ٢٤ سبتمبر ١٨٦٢م.
٢٥  عندما بعث إلى «كولينيون»، مدير «المجلة الجديدة»، قصائد النثر الثلاث التي تشكل سيمفونية أدبية، في ١١ أبريل ١٨٦٤م، كتب «مالارميه» إليه: «هل يمكنكم نشرهم بسرعة، أرغب في طباعتهم على الفور، حتى لا يتشابه (الموضوع) الذي يصف بودلير مع مقال أزمع كتابته (هل ثمة مكان لديكم؟) عن «سأم باريس»، وعن أعمال هذا الأستاذ» (Propos sur la Poésie, Monaco, 1953, p. 40).
٢٦  «بالأمس، رأينا — أنا وماري — ساعة دقاقة صغيرة ألمانية هي لعبة حقيقية. وعندما تكون كبيرة في حجم القبضة، فإنها تكلف ثلاثة شلنات …»، ذلك ما كتبه «مالارميه» من لندن، في نهاية عام ١٨٦٣م، إلى صديقه «كازاليس». ولقلة نقوده، فلم يشترِ الساعة الدقاقة الصغيرة إلا فيما بعد بقليل. وسيتحدث «لوفيبور» — في خطاب عام ١٨٦٦م — عن السعادة التي تتملكه وهو يتحدث في «الصالون الصغير الساحر «لصديقه» على إيقاع ساعتكم الدقاقة الرائعة المصنوعة من بورسلين ساكس، التي تبدو مجبولة من عجين الأزهار» (انظر Mondor, Eugène Lefébuer, lettre reproduite, p. 214).
٢٧  حيث أقام «مالارميه» عام ١٨٦٢م، بالقرب من ميدان «كونفنتري»، «مكان لقاء كل الأراغن الصغيرة النقالة»، كما يكتب إلى صديقه «كازاليس» في ١٤ نوفمبر ١٨٦٢م. وفي خطاب آخر، بتاريخ ٢٧ نوفمبر ١٨٦٣م، يحلم طويلًا ﺑ «آلة التعساء» (قارن Mondor, Vie de Mallarmé, p. 99). ذكريات لندن، وذكريات ماري، وقراءة بودلير، وحلم يقظة: من كل هذا خرجت القصيدة.
٢٨  نفس الإشارة إلى «الأشجار المريضة للميادين»، في الخطاب إلى «كازاليس»، بتاريخ ٢٧ نوفمبر ١٨٦٣م.
٢٩  كانت «ماري جيرهار» قد تركت «مالارميه» مرتين قبل أن تعود نهائيًّا إلى لندن في أغسطس ١٨٦٣م. وكان «مالارميه» قد رافقها حتى بولندا. وبعد رحيلها، كتب إلى «كازاليس» في ٥ مارس ١٨٦٣م: «لقد أخذنا نلوح طويلًا بمنديلينا، وعندما لم أعد أرى منديلها، أخذت أبكي في الشوارع» (قارن Mondor. Vie de Mallarmé, p. 84).
٣٠  قارن بالخطابات التي ذكرها «ﻫ. موندور» في Vie de Mallarmé, p. 182, Note I، وفي ملاحظات حول قصائد النثر Œuvres, p. 1544. ويستخلص من هذه الخطابات أن «مالارميه» قد قرأ «برتران» قبل أن يصل إلى «تورنون»، بلا شك في «سانس» حوالي ١٨٦٢-١٨٦٣م.
٣١  انظر تنويعات هذه القصيدة (Œuvres, p. 1549).
٣٢  قارن بالخطاب المرسل إلى «كازاليس»، الذي ذكره «موندور» في Vie de Mallarmé, pp. 104–106.
٣٣  في الأول من فبراير ١٨٦٥م: «سيمفونية أدبية» (جوتييه، بودلير، بانفيل). وكان العنوان الأوَّلي لها: ثلاث قصائد نثر، ويظهر هذا العنوان على المخطوط المحفوظ في مكتبة «جاك دوسيه»، وفي خطاب من «مالارميه» إلى «كولينيون» (قارن Œuvres, pp. 1537 et 1538).
٣٤  ويكتب «مالارميه» — في بيبليوجرافيا «هذيانات» — عام ١٨٩٦م — وهو يفكر بلا شك في الرمزيين — أن «المشهد الرمزي، أو شيئًا ما جديدًا إلى حدٍّ ما — في ذلك الحين — يحيل إلى أمنية الانتقالة الذهبية، المطاردة منذ ذلك الحين، والمستشفة آنئذٍ».
٣٥  سنجد نص ١٨٦٥م في المؤلفات، ص٢٦٣، ونص ١٨٩٧م ص١٥٤. وقد نشر البروفيسور «موندور» — مؤخرًا — نصًا لم يُنشَر من قبل ﻟ «سيمفونية أدبية»، يرجع تاريخه إلى عام ١٨٦٤م، أجرى فيه «مالارميه» بضعة تعديلات طفيفة عام ١٨٦٥م. Sur la Symphonie Littéraire de Mallarmé, Mélanges Bonnerot, Nizet 1954, pp. 461–467.
٣٦  Œuvres, p. 263. يستوجب الحال هنا أن نذكر أن «قديسة» تم تأليفها عام ١٨٦٥م. ﻓ «أشعة صافية محاطة بأبواق» كانت عام ١٨٦٤م «المجدولة في أبواق ذات أنبوبين». لكن «لوفيبور» توسل إلى «لوتريامون» بأن «يحذف الأبواق ذات الأنبوبين»، «باسم الشعر والموسيقى والرقص والفيزياء» (خطاب بتاريخ ١٣ مايو ١٨٦٤م، أُعيدَ نشره في E. Lefébure, Gallimard, 1951, p. 179).
٣٧  أفاد «كازاليس» — في خطاب إلى «مالارميه» في ٣٠ ديسمبر ١٨٦٤م — باستلام «ظاهرة مستقبلية»: «ترسل لي … بقصيدة نثر جعلتني غيورًا، فهي ذات لون رائع، الغروب العظيم بانعكاساته الحمراء والمخطط بشرائط سوداء، ترتسم عليه — شاحبة، ممطوطةً، طويل ونحيلة — الهياكل المكتسبة بالكاد لأطفالنا الصغار، وهذا المهرج الأخير، وهذه البقايا للأعمار التي شاخت، كل هذا يشكل لوحة غريبة ذات جمال حقيقي ونادر، إنها إحدى روائعك الأدبية …» (قارن Œuvres, p. 1542). ولن تُنشَر قصيدة «ظاهرة مستقبلية» إلا عام ١٨٧٥م في Republique des Lettres.
٣٨  سنجد في كتاب Mauron, Mallarmé L’Obscur, Denoël, 1941 دراسة لهذه «الاستعارات المهيمنة» لمالارميه، قارن بشكل خاص — الصفحتين ٩٢-٩٣ — بالنسبة لموضوع «خصلة الشعر» التي سبق أن خصص «س. سولا» دراسة عنها.
٣٩  كتب «مالارميه» إلى «كازاليس» في أكتوبر ١٨٦٤م: «أخترع لغة ينبغي أن تنبثق بالضرورة من شعرية جديدة تمامًا، يمكنني أن أعرفها بهاتين الكلمتين: لا تصوير الشيء، بل الأثر الذي ينتجه» (Mallarmé, Propos sur la Poésie, nouvelle édition, éd. du Rocher, Monaco, 1953, p. 46).
٤٠  Hérodiade, Œuvres, p. 47: le Phénomène Futur, Œuvres, p. 269.
٤١  Tennyson vu d’ici, Œuvres, p. 528.
٤٢  في إحدى كراساته الصغيرة — التي كان ينقل فيها قصائد كُتابه المفضلين، ليكون لنفسه مختارات شخصية صغيرة — ترجم «مالارميه»، عام ١٨٦٠م، عدة قصائد لبو ترجمةً حرفية: «إلى هلينا» و«أولالوم» و«إلى شخص في الفردوس» و«آنابيل لي» و«أولالي» و«لوكوليسيه» و«مقتطفات» و«الغراب» و«ليونور» (قارن Mallarmé Lycéen pp. 323-324). وفيما بعد، لم تفارقه فكرة ترجمة «بو». وفي عام ١٨٧٢م، نشرت «رينسانس أرتستيك» ترجمة ثماني قصائد، وفي عام ١٨٧٦م، نشرت «ريبوبليك دي ليتر» — أيضًا — عدة ترجمات لم يسبق نشرها. لكن يبدو لي — حقًّا — أن أغلب هذه الترجمات — حسب مراسلات الشاعر — كانت مكتوبة منذ فترة طويلة سابقة (قارن Notes de Œuvres, 1506–1512). وفي عام ١٨٦٤م بالتحديد، كان مشغولًا — مرة بعد أخرى — بترجماته لبو، التي أنجزها، أو كان عليه إنجازها.
٤٣  خطاب من «فييه دي ليل آدام» إلى «مالارميه»، الذي يعبر فيه عن أسفه لأنه لم يتلقَّ من أجل «روفي دي ليتر ايه ديزار» ترجمة «بحيرة أوبير» (أولالوم)، يشير — فيما يبدو — إلى أن هذه القصيدة قد تُرجِمَت منذ ١٨٦٧م. وتتساءل السيدة «نوليه» لماذا ترجم «مالارميه» — في المقطع الأول من «أولالوم» — كلمة «sere / ذابل» ﺑ «كئيبة»، في حين أن «يابسات» أكثر ملاءمة، لكن، إضافة إلى أن «كن متقلصات يابسات» ستشكل تتابعًا مزعجًا للإصاتات المتماثلة، فمن الواضح أن «مالارميه» يبحث — كما في هذا المقطع — عن الإصاتات الخفيضة والحزينة للصوتين O وA:

«السماوات كانت من رماد / وقار، والأوراق، متقلصة وكئيبة — كانت الأوراق عرضة للتلف وكئيبة، الليل في أكتوبر الوحيد لعامي الغابر. وقريبًا للغاية من بحيرة «أوبير» المظلمة، في مقاطعة «وير» الضبابية الوسيطة — هنا، بالقرب من مستنقع «أوبير» الرطب، في الغابة التي تسكنها غيلان وير».

Œuvres, p. 196
وفي دراسته عن L’Esthétique de S. Mallarmé, Flammarion, 1951 pp. 143-144، قام «ج. دلفيل» بمقارنة دقيقة بين فقرة أخرى من «أولالوم» و«ترجمة» «مالارميه» إلى الفرنسية. ويمكننا أن نقيس — عند المقارنة بين هذه الترجمة والترجمة التي قام بها في «سانس»، منذ عشر سنوات — التقدم الذي أحرزه المترجم: في «سانس»، كان «مالارميه» يكتفي بالترجمة الحرفية، في حين أنه سيسعى — فيما بعد — لا إلى ترجمة معنى الكلمات الإنجليزية فحسب، بل أيضًا قيمها الصوتية والإيحائية.
٤٤  Œuvres, p. 48.
٤٥  Œuvres, p. 269. وفي كتاب «الكلمات الإنجليزية»، عام ١٨٧٧م، سيضفي «مالارميه» على حرف p الاستهلالي «قصدية واضحة للغاية في التكديس، وفي الإثراء المكتسب أو الركود» Œuvres, p. 933: ويمكن لهذا المعنى الأخير أن ينسجم مع بداية «ظاهرة مستقبلية».
٤٦  لا شك أن «مالارميه» كان في ذهنه — وهو يكتب «ظاهرة مستقبلية» — قصيدة بودلير: «أحب ذكرى هذه الفترات العارية»، حيث يتعلق الأمر ﺑ «العظمة الطبيعية» للرجل والمرأة، ومن المفيد أن نذكر أن «بودلير» قد عرف قصيدة النثر هذه، ووجد فيها المفهوم الحاذق، لكن القابل للمناقشة: انظر — في هذا الموضوع — مقال «ج. كريبيه» في Le Goéland، في نوفمبر ١٩٤٢م، ص٣. ويصرح «بودلير»: «سيعجب الرجل المنحط بالجمال وسيسميه قُبحًا».
٤٧  قارن في «هيرودياد»: «تحت النوم المظلم لأرض بدائية» Œuvres, p. 47.
٤٨  خطاب إلى «كازاليس» (عن «إله الريف» هذه المرة)، يوليو ١٨٦٥م، انظر، Propos sur la Poésie, Monaco, 1953, p. 58.
٤٩  «فيما يتعلق بالشعر المنظوم، أعتقد أنني انتهيت»، حسبما كتب إلى «كازاليس» عندما أرسل إليه «ظاهرة مستقبلية». وعن فترة الاضطراب هذه، قارن Mondor, Vie de Mallarmé, pp. 150–159.
٥٠  قارن بما يلي، تحت عنوان «البارناسية وقصيدة النثر الفنية»، بالفصل الأول من القسم الثاني.
٥١  هذا ما يقصده «مالارميه» في خطابه إلى «كازاليس» في نهاية فبراير ١٨٦٥م Propos sur la Poésie, Monaco, 1953, pp. 54-55.
٥٢  ستوجد «ثلاث قصائد نثر رقيقة» عثر البروفيسور «موندور» في كتابه عن (Eugène Lefébure, Gallimard, 1951, pp. 73–76). وقد سبق أن قلت إن الإشارات التاريخية ليست دقيقة بما يكفي لمعرفة أي من الاثنين هو الذي قاد الآخر إلى ممارسة هذا النوع (قارن، بما سبق، تحت عنوان «قصائد الشباب» من هذا الفصل، ملحوظة ٢٣)، أم ينبغي أن نتحدث — كما يتساءل «ﻫ. موندور» (سبق ذكره، ص٧١) — عن «تزامن فريد»؟ شيء واحد يبدو مؤكدًا، وهو أن الاثنين كانا يقتفيان أثر «بودلير»، فقصيدة «لوفيبور» عن القمر — شأنها شأن قصيدته عن «الخريف» — تنطوي على ملامح شديدة الرومانتيكية والبودليرية في آن: ففكرة حلم اليقظة هذا «حول مركبة إمبراطورية» تعود — بلا شك — إلى «الحداثة» التي نادت بها مقدمة «قصائد نثر صغيرة» لبودلير عام ١٨٦٢م.
٥٣  سيكتب «لوفيبور» — بالفعل، عام ١٨٦٧م — إلى «مالارميه»، «المريض بالمطلق»، واليائس من الكتابة: «ربما يمكنكم أن تتسلوا ببضع حُلى أدبية، باستكمال بعض قصائد قديمة مثلًا، لن تحتاجوا من أجلها إلا لشعوركم المدهش والساحر كفنان، وليس للمفهوم العظيم والساحق للكون» (Mondor, E. Lefébure, p. 269).
٥٤  منذ عام ١٨٦٥م، وبعد أن حكى للوفيبور أنه — في طفولته — كان يكتب موضوعات إنشاء من عشرين صفحة، يضيف «مالارميه»: «ألم أبالغ — منذ ذلك الحين، في الواقع — في حبي للتكثيف، على العكس من ذلك»؟ (Mondor, Eugène Lefébure, p. 342).
٥٥  قارن بما يلي، تحت عنوان «تطور الأسلوب المالارمي»، ملاحظة ٢.
٥٦  «أن نسمي شيئًا ما يعني إلغاء ثلاثة أرباع متعة القصيدة، المكتوبة من أجل كشفها رويدًا رويدًا: الإيحاء به هو هذا الحلم» (إجابة على «استقصاء» J. Huret حول التطور الأدبي، Œuvres, p. 869).
٥٧  إنها مراسلات «مالارميه»، على ما نُشِرَت في الطبعة التي أصدرها — مؤخرًا — البروفيسور «موندور» في propos sur la poésie, Monaco. 1953، التي تسمح لنا بأن نكوِّن أفضل فكرة عنها. قارن، أيضًا A. Adam, Les première étapes d’une itinéraire، ضمن Les Lettres، عدد خاص مكرس لمالارميه، ١٩٤٨م، ص١٢٥–١٣٤.
٥٨  Igitur, Œuvres, pp. 440 et 442.
٥٩  Encyclopédie, LXXXVII. Traduction Guterman et Lefebvre (Hegel, Morceaux choisis, Gallimard, 1939, p. 103).
٦٠  انظر بشكل خاص مقال L. J. Austin, Mallarmé et le rêve du Livre (Mercure de France, 1er Janvier 1953)، وبداية دراسة G. Davies. Vers une explication rationnelle du Coup de Dés, Corti, 1953, pp. 32–52.
٦١  كتب «لوفيبور» إلى «مالارميه» عام ١٨٦٦م: «أما زلتم تتداولون دائمًا مع «المطلق» و«الوجود» و«العدم»، الذين يمثلون ثعابين جرابكم؟» (Mondor, Eugène lefébure, p. 221). ونعلم أن هذه المصطلحات تتكرر باستمرار في «علم المنطق» لهيجل.
٦٢  يؤكد «ج. ديفيز» — على سبيل المثال — على استخدام مفردات «هيجلية» في «إيجيتور»، حوالي عام ١٨٦٩م (مرجع سابق، ص٣٤). وإنه لملمح مميز أيضًا فكرة إقامة نظرية عن «البرجوازي» في «العلاقة بالمطلق» (خطاب إلى «فييه»، في ٣٠ سبتمبر ١٨٦٧م، Propos sur la poésie, Monaco, 1953, p. 95). والإشارة إلى ما تمثله النظرية في «تطوير» الكون.
٦٣  قارن خطابه إلى «كازاليس»، ١٤ مايو ١٨٦٧م (Propos sur la Poésie, p. 89).
٦٤  خطابه إلى «كازاليس»، مارس ١٨٦٦م، Propos sur la Poésie, p. 66.
٦٥  المرجع السابق، ص٦٥.
٦٦  في هذا الخطاب الشهير المكتوب إلى «كازاليس»، في ١٤ مايو ١٨٦٧م، يعرض «مالارميه» «هبوطه إلى العدم»، ويستنتج منه الدروس. قارن Propos sur la Poésie, p. 89.
٦٧  سيكتب إلى «كازاليس» في أبريل ١٨٧٠م: «أحاول أن أقارن حياتك التي يزورها «المفهوم السلبي» بالإيمان الذي تسعد به، الآن، روحي …» (Propos, p. 104).
٦٨  الذي يبدو أنه درسه بمثابرة طوال صيف ١٨٦٦م: قارن Austin, Mallarmé et le Rêve du Livre (Mercure de France, 1er Janvier 1953, pp. 86–89).
٦٩  Mallarmé, l’homme et l’œuvre. Hatier, 1953, p. 56.
٧٠  Science de la Logique, chap. 1, traduction Guterman et Lefebvre (Morceaux Choisis de Hegel, Gallimard, 1939, p. 104). عرف «مالارميه» مقال «شيرير» عن «هيجل والهيجلية»، الذي نُشِرَ في Revue des Deux Mondes, 15 Fevr. 1861، ويُعرَض لقانون الحركة الجدلية في ثلاثة أزمنة (قارن Austin, art. cit., p. 96).
٧١  Théodore de Banville, Œuvres, p. 522، التشديد من مالارميه.
٧٢  Crise de Vers, Œuvres, p. 363. وحول هذه النظرية عن الانتقالة، وأصولها الهيجلية وتطبيقاتها في شعر «مالارميه»، انظر ملاحظات «ج. ديفيز» في مقدمة كتابه Explication Rationnelle du Coup de Dés, Corti, 1953, p. 46 et sq..
٧٣  الموسيقى والآداب، Œuvres, p. 647.
٧٤  Crise de Vers, Œuvres, p. 368.
٧٥  المرجع السابق، ص٣٦٦.
٧٦  سحر، Œuvres, p. 400.
٧٧  خطاب بتاريخ ٢٤ سبتمبر ١٨٦٦م (Propos sur la Poésie, nouvelle édition, p. 81).
٧٨  «إلى الآن، في كل مرة استشف الإنسان الحقيقة، أي التكوين المنطقي للكون، فإنه ارتد برعب نحو الوهم اللانهائي»، كما كتب «لوفيبور» في ٢٧ مايو ١٨٦٧م، ردًّا على خطاب «مالارميه» (Mondor, Eugène Lefébure, p. 247).
٧٩  خطابه إلى «كازاليس»، ١٤ مايو ١٨٦٧م، Propos sur la Poésie, p. 88.
٨٠  خطابه إلى «كازاليس»، ١٤ مايو ١٨٦٧م، Propos sur la Poésie, p. 88.
٨١  مقال في عام ١٨٦١م، نُشِرَ في Revue des Deux Mondes، وذكره «أوستين»، مرجع سابق، ص٩٤.
٨٢  قارن Œuvres, p. 663.
٨٣  مقال مذكور Mercure de France, 1er Janvier 1953, p. 104.
٨٤  Œuvres, p. 378.
٨٥  مدركًا أن مثل هذا الكتاب سينتشر — في كماله المطلق — في كل الكتب الأخرى، وسيكون توراة العالم: «حتى أن العالم لن يكون به سوى كتاب واحد قانونًا له، توراة تتظاهر بها الأمم» Crise de Vers, (Œuvres, p. 367).
٨٦  هكذا يُعرِّف «مالارميه» بنفسه هذا الكتاب المثالي (Œuvres, p. 378).
٨٧  Lettre Autobiographique à Verlaine, Œuvres, p. 663.
٨٨  Lettres à quelques-uns. Gallimard, 1952, p. 236.
٨٩  إنه المصطلح الذي يستخدمه «مالارميه»، لا في خطابه بتاريخ ١٨٨٥م إلى «فيرلين»، فحسب (قارن Œuvres, p. 663)، بل أكثر تبكيرًا، عندما كتب إلى «كازاليس»، في ١٤ مايو ١٨٦٧م: «لن يكون دخولي في «الأفول» الأعلى بدون انقباض قلب حقيقي، إذا ما لم أكن قد أنجزت مؤلفي، ذلك المؤلَّف، المؤلَّف الكبير، كما قال أسلافنا الخيميائيون» (Propos sur la Poésie, Monaco, 1953, p. 89).
٩٠  Propos sur la Poésie, pp. 79-80.
٩١  المرجع السابق، ص٨٢. وهذا الخطاب الذي اكتُشِف مؤخرًا لم يُنشَر إلا في الطبعة الأخيرة.
٩٢  خطابه إلى «كازاليس»، ١٤ مايو ١٨٦٧م، Propos sur la Poésie, Monaco, 1953, p. 88.
٩٣  نُشِرَ هذا الخطاب بتاريخ ١٧ مايو ١٨٦٧م، في كتاب H. Mondor, Eugène Lefébure, Gallimard, 1951, p. 347 et sq.، وفيه نرى الربط، في «ثالوث» رائع، بين «فينوس» ميلو و«جيوكندا» دافنشي — «أعظم ومضتين للجمال على هذه الأرض» — و«المؤلف» الذي حلم به «مالارميه»، الذي سيكون «الثالث».
٩٤  Propos sur la Poésie, p. 97.
٩٥  خطابه إلى «لوفيبور»، ٣ مايو ١٨٦٨م (ذكره «موندور» في Vie de Mallarmé, Gallimard, 1941, p. 25).
٩٦  خطابه إلى «كازاليس»، ١٨ يوليو ١٨٦٨م، Propos sur la Poésie, p. 99.
٩٧  قارن بالخطاب الهام المرسل إلى «كازاليس»، ١٨ فبراير ١٨٦٩م، Propos sur la Poésie, p. 101.
٩٨  المرجع السابق، ص١٠٢.
٩٩  Vie de Mallarmé, p. 288.
١٠٠  خطاب إلى «لوفيبور»، ٢٠ مارس ١٨٧٠م، وأُعيدَ نشره في Mondor, E. Lefébure, p. 356.
١٠١  هكذا أسمى «فييه دي ليل آدام» هيجل في رسالة منه إلى «مالارميه» في ١١ سبتمبر ١٨٦٦م (قارن Mondor, Vie de Mallarmé, p. 222).
١٠٢  وسيتعلق الأمر — فيما بعد — بكتابه حول «الكلمات الإنجليزية».
١٠٣  Œuvres, p. 273.
١٠٤  حسب «موكلير»، فإن هذا «الجهد اللغوي» ليس عمله المهني، لكنه بحثه «عن كمال الشكل، بل — بالأحرى — البحث عن شكل أصيل» (L’Art en Silence, Ollendorf, 1951, p. 90). ويعتقد «ج. دلفيل» — وهو الأقرب إلى الحقيقة — أن الأمر يتعلق ﺑ «النقد الميتافيزيقي» لإمكانيات التعبير اللغوية، الذي سنرى «مالارميه» ينكب عليه بالفعل، لكن ليس قبل عامي ١٨٦٨-١٨٦٩م.
١٠٥  Œuvres, p. 273.
١٠٦  قارن بما يلي، تحت عنوان «السيريالية ومشكلة اللغة»، بالفصل الثاني من القسم الثالث.
١٠٧  انظر مقال H. Fouquier في Temps (15 Septembre 1898) بمناسبة وفاة «مالارميه»، نقد عنيف سيرد عليه «ر. دي بوري» في Mercure de France، أكتوبر ١٨٩٨م.
١٠٨  كشف «مالارميه» عن مشروعاته إلى «لوفيبور» خاصة — وهو العالم في المصريات وعالم اللغة القدير — وطالبه بإمداده بالمعلومات والكتب الخاصة بهذا العمل: قارن — في كتاب Mondor, Eugène Lefébure — بخطاب «مالارميه» في ٢٠ مارس ١٨٧٠م، ص٣٥٥-٣٥٦، وخطابات «لوفيبور» من يناير إلى مارس ١٨٧٠م، ص٣١٥–٣١٩.
١٠٩  في ملحوظة مدهشة، يعلق «مالارميه» على «التقاء الكلمات» هذا، الذي يمنحنا — على ما يقول — «الانطباع، من خلال لفظة العلم، بالتوجه نحو معرفة البحوث حول موضوع مخصص للوصول إلى حالة «المفهوم»، وإلى أن يشكل واحدًا من مجمل مصطلحات المفاهيم الإنسانية، التي لم يعترف منها إلا بالوعي في مرحلتنا الراهنة بالنسبة ﻟ «الروح»، ومصطلح اللغة، وموضوعه، المستخدم وحده، هو الانطباع الأعم لأداة تعبير، لن أقول الخاصة بالإنسان حتى (…) بل أداة تعبير عام عن روحنا» (Œuvres, p. 849).
١١٠  Vers une explication rationnelle du Coup de Dés, Corti, 1953, Introduction, pp. 35–37؛ ونجد تعليقًا آخر، أكثر «أفلاطونية»، على هذه الملاحظات، في G. Delfel, L’esthétique de S. Mallarmé, Flammarion 1951, p. 139 et sq..
١١١  Œuvres, p. 854.
١١٢  Œuvres, p. 854.
١١٣  Œuvres, p. 852.
١١٤  Œuvres, p. 853.
١١٥  العبارة (التي تشير إلى قصيدة «نوافذ») هي ﻟ «ج. بوليه» G. Poulet. La Distance Intérieure. Plon, 1952, t. II, p. 314. ويؤكد — في نفس الصفحة — أن «الصيرورة» المالارمية ليست مثل الصيرورة الهيجلية، «تقدمًا أفقيًّا في الزمان»، بل هي «تقدم رأسي إذا صح القول»، يجتذب — بطريقة ما — الأشياء من الواقع «بواسطة نوع من الصعود الذي يغير من هيئتها». والواضح، بالفعل، أن «مالارميه» يكتفي بأن يستعير من «هيجل» منهجه الجدلي، كي يكيفه مع تأملاته وشواغله الشخصية.
١١٦  Œuvres, p. 468 et p. 857.
١١٧  يلفت «فورن» — الذي طور هذه الفكرة بذكاء شديد — النظر إلى أن التجريد، بالنسبة لمالارميه، ليس إلا «وسيلة جديدة للتماس بالواقع، وللإيحاء به بدون قوله» Mallarmé L’Obscur, Denoël, 1941, p. 71.
١١٨  في دراسته عن «مالارميه واللغة»، أوضح «م. بلانشو» — على نحو رائع — هذه الوظيفة المزدوجة، الإبداعية والهدامة، للكلمات، موضحًا كيف أنه إذا كان هذا الواقع ملغي من ناحية، فإنه — من ناحية أخرى — يعاود الظهور في شكله الأكثر محسوسية، كتعاقب من الظلال الهاربة وغير الثابتة، بدلًا حتى من المعنى المجرد الذي يدعي (الواقع) أنه يسد فراغه» (نُشِرَ هذا المقال في L’Arche, n°. 14 — قارن ص١٣٧ — وأُعيدَ نشره في La Part du Feu. Gallimard, 1949 تحت عنوان (أسطورة مالارميه Le Mythe de Mallarmé).
١١٩  Œuvres, pp. 368 et 858.
١٢٠  أمكن ابتعاث تأملاته بملاحظات صديقه «لوفيبور» عن القيمة المزدوجة — الرمزية والصوتية — للكلمات البدائية (خطاب إلى «لوفيبور»، يناير ١٨٧٠م)، وحول اللغات القديمة، العبرية بشكل خاص، التي تطبع «آثار خطوات الفكر الإنساني على بقايا الروح البدائية» (خطاب بتاريخ ٢٥ مارس ١٨٧٠م)، قارن Mondor, Eugène Lefébure, pp. 315-316 et p. 319.
١٢١  ربما بتأثير «فييه دي ليل آدام»، الذي يوصيه بقراءة Dogmes et Rituel de Haute Magie D’Eliphas Levi (قارن Mondor, Vie de Mallarmé, p. 222). والإشارات إلى القبلانية تتردد كثيرًا في مراسلاته في هذه الفترة، فيما يتعلق — على سبيل المثال — بسوناتا YX، المقتطفة من «دراسة مقصودة عن الكلام»: حيث المعنى «يُستدعى بفعل سراب داخلي للكلمات»: ونحن نشعر عند النطق بها عدة مرات، ﺑ «إحساس قبلاني إلى حدٍّ ما» كما يصرح «مالارميه» (خطاب إلى «كازاليس»، ١٨ يوليو ١٨٦٨م، Propos sur la Poésie, p. 98). وسنجد — في رسالة «ج. شيرير» الأكاديمية L’Expression Littéraire dans L’œuvre de Mallarmé, Droz, 1947, pp. 155–160 — إشارات مختلفة حول «مالارميه» والإخفائية.
١٢٢  Sepher Yetzirah, chap. 2, proposition 2، ذكره فرانك في كتابه La Kabbale, Hachette, 1889, p. 113. ويعود تاريخ الطبعة الأولى لكتاب «فرانك» إلى عام ١٨٤٣م: وقد استطاع «مالارميه» معرفته بالتالي. ونقرأ — من ناحية أخرى — في كتاب Eliphas Levé, Dogmes et Rituel de haute Magie, p. 213: «الكلام يخلق شكله، وعندما يقوم شخص ما، معروف بأنه معصوم، بتسمية شيء ما بأي اسم، فإنه يحول هذا الشيء حقًّا إلى جوهر دال من خلال الاسم الذي أطلقه عليه».
١٢٣  Œuvres, p. 850. ومن المفيد أن نذكر هذه «الملحوظة» بكاملها، حيث يواصل «مالارميه» — بعد أن يتحدث عن «المعنى البدائي والمقدس للكلمات» — مماثلة الأدب بالقبلانية: «إلى هذا الحد! مع الأربعة والعشرين حرفًا، فإن هذا «الأدب Littérature» المسمى بشكل أدق «الآداب Lettres» ينطوي عبر اندماجات مضاعفة في شكل الجمل ثم الشعر، كنظام محكم مثل فلك روحي — على نظريته الخاصة به، المجردة، والخفية كلاهوت ما، وذلك بسبب أن المفاهيم هي كذلك، أو إلى درجة من الندرة تصل إلى مستوى أعلى من العادي، مستوى عدم القدرة على التعبير إلا بوسائل نموذجية ورفيعة، عددها ليس أكثر من ندرتها، لا يجاوز عددُها قلَّتَها، كما أنها — بالنسبة للآداب — ليست بلا حدود». قارن Ralland de Renéville, La Parole, dans L’expérience Poétique, Gallimard, 1938, p. 39 et sq..
١٢٤  Œuvres, p. 852.
١٢٥  Œuvres, p. 921.
١٢٦  المرجع السابق.
١٢٧  قارن بالصفحات التي خصصها «ل. سلييه» عن «الخيمياء الحَرفية» لدى «فابر دوليفيه»، في أطروحته حول Fabre D’Olivet (Nizet, 1953, pp. 133–142).
١٢٨  Œuvres, p. 921.
١٢٩  «كراتيل أو عن عدالة الأسماء»: إحدى محاورات أفلاطون، التي ينتقد فيها — على التوالي — نظرية الطابع العرفي للغة، التي أيدها «هيرموجين»، ثم أطروحة «كراتيل» حول التسمية الطبيعية.
١٣٠  قارن Delfel, L’Esthétique de Mallarmé, Flammarion, 1951, p. 143 et sq..
١٣١  Œuvres, p. 959.
١٣٢  Œuvres, p. 929.
١٣٣  Œuvres, p. 926. في أطروحته الحديثة، يثير «ب. جيرو» مشكلة «رمزية الأصوات» التي طرحها الرمزيون بشكل خاص، ويذكر نظريات «مالارميه» و«غيل»، لينتهي إلى: «أننا لا نستطيع إنكار أن ثمة رمزية للأصوات» (ص١٤٢)، حتى لو لم ترتكز تأملات الشعراء على أسس موضوعية. ويضيف: «ليس ذلك معنًى لغويًّا، ربما، لكنه حقيقة شعرية» (ص١٤٣)، لينضم بذلك إلى رأي «ج. دلفيل»، مرجع سابق، ص١٤٣.
١٣٤  Tennyson vu D’ici, Œuvres, p. 528.
١٣٥  Œuvres, p. 364.
١٣٦  المرجع السابق.
١٣٧  قارن بملاحظات «مالارميه» من «أجل بحث في اللغة»، Œuvres, p. 854.
١٣٨  «إنها رغبة أكيدة في زمني، تكمن في فصم الحالة المزدوجة للكلام، الخام أو المباشرة هنا، والجوهرية هناك»، كما سيقول «مالارميه» (Œuvres, p. 368). ونعرف التعليقات العديدة التي أثارها — لدى «فاليري» — مشروع إبداع لغة شعرية على نحو خاص، وبالذات في مقالته عام ١٩٣٢م، «أحيانًا ما كنت أقول إلى ستيفان مالارميه» (Nouvelle Revue Française. 1er Mai 1932, repris dans Variété).
١٣٩  Œuvres, p. 366. قارن بصورة مشابهة في موضع آخر: «تُستثار الكلمات — من تلقاء ذاتها — من عدة جوانب معروفة بأنها الأكثر ندرة، متوثبة كلها قبل انطفائها إلى تبادل ناري بعيد، أو متمثلة في انحراف يبدو كأنه عارض» Œuvres, p. 386.
١٤٠  قارن Thibaudet, la poésie de S. Mallarmé N.R.F., 1926, p. 231.
١٤١  Œuvres, p. 42. قارن بخطاب شهر مارس ١٨٦٦م إلى «كازاليس»، Propos sur la Poésie, p. 65.
١٤٢  خطاب إلى «كوبيه» بتاريخ ٥ ديسمبر ١٨٦٦م، Propos sur la poésie. وهو لوم من نفس ذلك النوع الذي يوجهه «مالارميه» إلى البارناسيين والطبيعيين: «إن طفولية الأدب كانت تكمن حتى الآن في الاعتقاد، مثلًا، بأن اختيار عدد معين من الأحجار الكريمة، ووضع أسمائها على الورق، وهو الأفضل، إنما بصنع أحجار كريمة. حسنًا! لا. فلأن الشعر يتمثل في الخلق، فيجب أن نأخذ من الروح الإنسانية حالات، ومضات ذات نقاء مطلق، إلى حد أن التغني بها، ووضعها في دائرة الضوء، سيشكل بالفعل حُلي الإنسان …» Œuvres, p. 870.
١٤٣  Œuvres, p. 368.
١٤٤  Solennité (à propos de Théodore de Banville), Œuvres, p. 333.
١٤٥  Œuvres, p. 871. قارن بتصريحات «مالارميه» عن «الموسيقى والآداب»: «الطبيعة موجودة، فلن نضيف إليها (…) وكل الفعل المتاح — أبدًا، وفقط — إنما يكمن في التقاط العلاقات النادرة أو المتعددة، في غضون ذلك»، ثم يضيف هذا التعريف الفذ عن الإبداع الشعري «السلبي»: «بقدر الإبداع: فإن مفهوم الشيء، الهارب، هو الذي يغيب» Œuvres, p. 647.
١٤٦  Œuvres, p. 871. قارن بتصريحات «مالارميه» عن «الموسيقى والآداب»: «الطبيعة موجودة، فلن نضيف إليها (…) وكل الفعل المتاح — أبدًا، وفقط — إنما يكمن في التقاط العلاقات النادرة أو المتعددة، في غضون ذلك»، ثم يضيف هذا التعريف الفذ عن الإبداع الشعري «السلبي»: «بقدر الإبداع: فإن مفهوم الشيء، الهارب، هو الذي يغيب» Œuvres, p. 647.
١٤٧  Œuvres, p. 367.
١٤٨  Œuvres, p. 366.
١٤٩  Œuvres, p. 380. «يمكن لمثل هذا الكتاب — بالطبع — أن يتكون، في واقع الأمر، من عدة كتب»؛ فقد توقع «مالارميه» خمسة كتب عام ١٨٦٦م، وفي عام ١٨٨٧م، تحدث إلى «غيل» — فيما يبدو — عن أربعة «كتب — موضوعات»، وكل منهم يفضي إلى أربعة أخرى، أي عشرين جزءًا ككل (قارن Les Dates et Œuvres, p. 234). ووفقًا ﻟ «ج. كاهن»، فقد تحدث فيما بعد عن عشر قصائد، كانت «رمية نرد» أولاها (Symbolistes et Décadents, p. 24). وجميع هذه الأرقام هي مضاعفات الرقم خمسة — لكنني أترك للآخرين الاهتمام بتقرير ما إذا كان هنا ثمة مقصد «قبلاني». وحول مشروعات «كتاب» مالارميه، التي لم تكن معروفة عندما كتب هذا الفصل، أحيل إلى الفصل الأخير من كتابي «مالارميه والموسيقى».
١٥٠  Propos sur la Poésie, p. 99.
١٥١  قارن بخطابه إلى «فيرلين» المتعلق بسيرته الذاتية (Œuvres, p. 643).
١٥٢  Œuvres, p. 372.
١٥٣  قارن بخطابه إلى «كازاليس» في ١٤ مايو ١٨٦٤م، المذكور فيما سبق، من هذا الكتاب.
١٥٤  قارن ببداية محاضرة «مالارميه» عن «الموسيقى والآداب» Œuvres, p. 643.
١٥٥  قارن بخطابه إلى «كازاليس»، المذكور فيما سبق.
١٥٦  خطاب إلى «فييه»، ٢٤ سبتمبر ١٨٦٦م، Propos sur la Poésie, p. 82.
١٥٧  قارن ﺑ «إيجيتور»، Œuvres, p. 439.
١٥٨  خطاب «مالارميه» إلى «لوفيبور»، ١٧ مايو ١٨٦٧م، ذكره موندور Eugène Lefébure, p. 349.
١٥٩  قارن بالمقدمة المكتوبة في ١٨٩٧م، ﻟ «رمية نرد لا تُلغي الصدفة أبدًا» Œuvres, p. 456.
١٦٠  قارن بخطابه إلى «كوبيه»، ٢٠ أبريل ١٨٦٨م، Propos sur la Poésie, p. 97.
١٦١  خطاب إلى «أوبانيل»، ٧ أكتوب ١٨٦٧م، Propos sur la Poésie, p. 96.
١٦٢  قارن ﺑ Mondor, Vie de Mallarmé, p. 259.
١٦٣  المرجع السابق، ص٢٨٥-٢٨٦.
١٦٤  قارن ﺑ «إيجيتور»، Œuvres, p. 439.
١٦٥  Propos sur la Poésie, p. 119. لقد صُدِم «مالارميه» من خلط الأنواع في «قصائد نثر صغيرة» لبودلير، الذي نُشِرَ في أجزاء عام ١٨٦٩م.
١٦٦  نقرأ — في إحدى أوراق «إيجيتور» — التنويه التالي: «مشهد مسرحي، إيجيتور القديم» (قارن Œuvres, pp. 429 et 442). وحول هذه الفكرة عن الدراما، انظر مقدمة الدكتور «بونيو» ﻟ «إيجيتور» (Œuvres, pp. 427–429). والأمر يتعلق بدراما ذهنية تمامًا (نعلم أن «الكتاب» — بالنسبة لمالارميه — هو نوع من المسرح الداخلي)، وهو ما يفسر العبارة التوجيهية التي ذكرها «مالارميه» في بداية «إيجيتور»: «تتوجه هذه الحكاية إلى عقل القارئ الذي يقوم بالإخراج المسرحي للأشياء بنفسه» (Œuvres, p. 432).
١٦٧  G. Davies, Vers une Explication Rationnelle du Coup de Dés. Corti, 1953, p. 53.
١٦٨  في كتابه Rapport sur le Mouvement Poétique Français de 1867 à 1900.
١٦٩  والعبارة التي استخدمها «فاليري» — بالتوفيق الذي نعرفه (قارن Variété II, p. 220) — هي أيضًا عبارة «منديس».
١٧٠  لاحظ «أودار» و«ميساك» — في مقدمتيهما للعدد الخاص من مجلة «لي ليتر»، عن مالارميه»، عام ١٩٤٨م — أنه: «ما من شيء أكثر تمييزًا من الجاذبية التي لا تُقاوَم، وغير المتوقعة بالنسبة لنا إلى هذا المستوى، التي يمارسها اليوم «إيجيتور» على كل من يريدون إمساك الحقيقة المالارمية في كليتها». إنه «مؤلف رئيسي»، على ما كتب «ميشو» بدوره، عام ١٩٥٣م Mallarmé, l’homme et l’œuvre. Boivin, 1953, p. 84.
١٧١  Œuvres, p. 434. وقد عثر الدكتور «بونيو» على قصيدة خامسة وأضافها. وعنوانها «حياة إيجيتور».
١٧٢  نسبةً إلى «هرمس»، مبدع الكيمياء السحرية، لدى اليونانيين.
١٧٣  خطاب إلى «كازاليس» ١٤ مايو ١٨٦٧م، Propos sur la Poésie, p. 87.
١٧٤  رد على استقصاء «جول هيريه»، Œuvres, p. 869.
١٧٥  Œuvres, p. 440: «كنت أرجو أن يظل شكلًا غامضًا يختفي تمامًا في المرآة المربكة»، والتماثل مذهل مع الخطاب الذي يقول فيه «مالارميه» إلى «كازاليس»: «كنت أسقط، منتصرًا، بوله وبشكل غير محدد، إلى أن أصبحت أرى نفسي — مرة أخرى — أمام مرآة فينسيا، مثلما كنت قد نسيت نفسي عدة شهور مضت»؛ ويضيف: «… إذا تكن (المرآة) أمام المائدة، حيث أكتب لك هذا الخطاب، فسأصبح العدم من جديد» (Propos sur la Poésie, pp. 87-88).
١٧٦  الأثاث المزخرف بالخرافات، والأبسطة، والمرآة، والمصباح: إنه نفس أثاث سوناتا yx («أظافرها الصافية» …) التي علق عليها «مالارميه» بنفسه (Mondor. Vie de Mallarmé, pp. 267-268).
١٧٧  «أصبحت المرآة مللًا»، ص٤٤٠. قارن بالمرآة في «هيرودياد»:
مياه باردة بفعل الملل في إطارها الجليدي
Eau froide par l’ennui dans son cadre gelée
حيث اللعب بالكلمات glace – gelée يثري بالارتباط بفكرة مجردة، الملل؛ وفي «إيجيتور»، يصبح الاقتران بين مرآة / ملل نفس الحقيقة الواحدة.
١٧٨  Œuvres, p. 440.
١٧٩  Œuvres, p. 436.
١٨٠  المرجع السابق، ص٤٣٧.
١٨١  المرجع السابق، ص٤٣٥. وهذه التركيبة «البحرية والنجمية» تُلمِّح بالتأكيد إلى حركة المد والجزر، وحركة النجوم في السماء، حسب الساعات، قارن بالنص — الأسبق بالتأكيد، والأقل كثافة — الذي عثر عليه الدكتور «بونيو» ونشره «ﻫ. شاربنتييه» في العدد الخاص من مجلة «لي ليتر» عام ١٩٤٨م، ص٢٤، حيث «الصدفة اللانهائية للروابط» تحل محلها «المصادفات الخارجية للعبة العوالم».
١٨٢  هيرودياد، Œuvres, pp. 44 et 47.
١٨٣  Claudel, La Catastrophe d’Igitur, dans Positions et Propositions, Gallimard, 1928, t. I, p. 203.
١٨٤  هذه المسودات المختلفة، وبشكل خاص المسودات الثلاث ﻟ «الخروج من الحجرة»، منشورة تحت العنوان العام «هوامش»، بعد «إيجيتور»، في طبعة «لابلياد»، التي احتفظت بالترتيب الذي قام به الدكتور «بونيو». انظر (Œuvres, p. 854).
١٨٥  في نص أولي — على سبيل المثال، وحيث كان الشاغل الوصفي ما يزال موجودًا — يكشف لنا عن «إيجيتور» (أو — بالأحرى — «شخصيته القديمة»، قارن ص٤٤٩) مرتديًا رداءً من القطيفة السوداء المطرزة بفراولة من الدانتيلا:

«عبقرية خارقة، مرتدية القطيفة، والرعشة الوحيدة فيها كانت العمل العنكبوتي لدانتيلا كانت تتساقط على القطيفة».

(مسودة «الخروج من الغرفة»، ص٤٤٧)
ولكن عندما يستعيد «مالارميه» نصه (بعد كم أسبوع، أو شهر، أو سنة ربما، من النضج البطيء؟ نحن نجهل ذلك) يكون التطور قد تحقق، والشيء المادي قد شُحِن بالدلالة، وفراولة الشاب الجنتلمان قد أصبحت رمزًا: هذه الفراولة التي تفصل الرأس، الجزء المفكر من «إيجيتور»، عن جسده الذي فقد الفكرة، والذي — (كما تقول مسودة أخرى) — «ارتد إلى حالة الظلمات» (ص٤٤٩) في بحثه عن النقاء المطلق:

«الجذع القطيفي لسلالة خارقة يحكه الضوء ويتنفس في هواء خانق، لشخص فكره لا يعي نفسه، لهيئتي الأخيرة المنفصلة عن شخصيته بفراولة ضارية، لا تعرف نفسها».

(الخروج من الغرفة، ص٤٣٩)
١٨٦  رد على «الاستقصاء» الذي قام به «ليو دورفير» عن الشعر، «لا فوج»، ١٨ أبريل ١٨٦٨م.
١٨٧  حسب تعبير «دي جورمون»، فإن «الحقيقة الجديدة التي دخلت الفن مع الرمزية هي مثالية العالم» (Livre des Masques, t. I, Préface). قارن بما كتبه «جيد» في Traité du Narcisse، عام ١٨٩١م: «العمل الفني بلورة، فردوس جزئي حيث تعاود الفكرة الإزهار في صفائها الرفيع».
١٨٨  قارن بالفصل الثالث من القسم الثاني: «بناء حلمي»، «كي يتفسر حلمي»، فإن «إيجيتور»، «مؤمنًا بوجود مطلق واحد»، يتخيل نفسه «موجودًا في كل مكان في حلم ما» (ص٤٤٢).
١٨٩  «أليس هذا الوزن هو صوت تقدم شخصيتي التي تحافظ على الاستمرارية في اللولب، وهذا الحفيف، هو الحفيف الغامض لازدواجيتي؟» (ص٤٣٨-٤٣٩)؛ هكذا يتساءل «إيجيتور»، وهو يهبط «اللولب المسبب للدوار» (٤٤٨) ﻟ «سلالم الروح الإنسانية» (ص٤٣٤). وقد لاحظ «أ. آيدا» — بعبقرية — أننا، في بداية مقطوعة «رعب» من «تأملات»، نجد «السلم غير المرئي للظلمات» و«لولبًا باردًا» (L’influence de V. Hugo sur S. Mallarmé, Istanbul, 1953, pp. 156-157. Tiré à part de Dialogues).
١٩٠  مقدمة «إيجيتور»، أُعيدَ نشرها في Œuvres, p. 427.
١٩١  وبشكل خاص، تدخل أسلاف اﻟ «سلالة» التي يرمز إليها أيضًا ﺑ «الوقع» واﻟ «حفيف» (قارن ص٤٣٨)، «قلب هذه السلالة (الذي أسمعه يدق هنا)»، وص٤٤٩: «أمَّا عن الحركة التي أنتجت هذا الحفيف، فقد كانت (…) المسيرة المنتظمة وقوفًا على القدمين للسلالة التي كانت قد ظهرت». والواقع أن «إيجيتور» كان «قد انقذف خارج الزمن بفعل سلالته» (ص٤٤٠).
١٩٢  أوضح «تيبوديه» — جيدًا، في فصله عن صور «مالارميه» — أن الصورة المالارمية، على النقيض من الصورة البارناسية، ذات الحدود المعينة جيدًا — كانت، بالأساس، متحركة وموسيقية (La Poésie de S. Mallarmé, Gallimard, 1926, pp. 201-202).
١٩٣  Œuvres, p. 433.
١٩٤  Œuvres, p. 436. وسيقول «مالارميه» عام ١٨٧٧م — بصدد «الكلمات الإنجليزية»، عن حرف t الاستهلالي — إن هذا الحرف «يمثل من بين كل الحروف الوقفة»، وفكرة «الثبات والتوقف» (Œuvres, p. 953)، فهل يستخدمه — لهذا السبب — هنا ليمثل «شكلًا دائمًا للأبد»؟
١٩٥  ربما خرجت من هذه الصفحة التمهيدية الفقرة التالية من «السلم»:
«ومن ناحية، فإذا ما كان الغموض قد توقف، فإن حركة الآخر قاسية، وقد بدت أكثر إلحاحًا بفعل صدمة مزدوجة، لم تعد تبلغ أو لم تبلغ بعد فكرتها، وهي التي يملأ حفيفها الحالي، مثلما يجب أن يكون، الغموض في ارتباك، أو توقفه، كما لو أن السقطة الكلية، التي كانت الصدمة الوحيدة لأبواب القبر، لم تخنق الضيف بلا عودة …»
(Œuvres, p. 854، والتشديد مني).
١٩٦  قارن بما يقوله «مالارميه» عن الجناس، Mots Anglais, Œuvres, p. 921.
١٩٧  L’œuvre poétique de Mallarmé, Droz, 1940, pp. 108–110.
١٩٨  Œuvres, p. 41.
١٩٩  انظر ما سبق في الفصل الرابع من القسم الأول. والمقطع الشعري المستمد من «أولالوم» — في الملحوظة — هو أيضًا مميز للنسقين.
٢٠٠  بحث «شيرير» — في أطروحته حول L’Expression Littéraire dans L’œuvre de S. Mallarmé (Droz, 1947) — «تقنية التكرار» هذه، ص٢١٧–٢٢٣، وأوضح — بشكل خاص — أهمية استعادة الكلمات ﮐ «إشارة على بنية» ص٢٢٠، وهو يتفق — فعلًا — مع الرغبة التي أبداها «مالارميه» في التنظيم الشامل.
٢٠١  مقدمة «إيجيتور»، Œuvres, p. 854.
٢٠٢  Œuvres, p. 436.
٢٠٣  Œuvres, p. 440.
٢٠٤  قارن بما سبق في الفصل الثالث من القسم الثاني. فيما بعد بقليل: «إنه ينفصل عن الزمن غير المحدد ويكون!».
٢٠٥  قارن بسوناتا «الطاهر، والمعمر واليوم الجميل»، المنشورة عام ١٨٨٥م.
٢٠٦  لا يخلو من فائدة أن نذكر أن «مالارميه» — في «إيجيتور» — يستخدم الكلمات بطريقة مبهمة ومتعددة المعاني بشكل قصدي، وهو نسق سيصبح — فيما بعد — سمة لتقنيته الشعرية. وهكذا، ففي المقطوعة الأولى — «منتصف الليل» — يستخدم كلمة Présence («حضور منتصف الليل»)، بالقيمة المزدوجة لها، بالتناقض مع «غياب» (قارن — في «إيجيتور» — «ضيف مجرد من كل دلالة سوى الحضور») و«حضور مطلق للأشياء»، ساعة تقع بين الماضي والمستقبل (Œuvres, p. 854). فالمقطوعة كلها مبنية على الفكرة المبهمة عن منتصف الليل، ساعة «حاضرة» في اللحظة التي يبدأ فيها إيجيتور، وساعة «الحاضر المطلق».
٢٠٧  Œuvres, p. 442.
٢٠٨  قارن بالفصل الثالث في القسم الثاني: «وحيثما وصلت، في مراهقتي، إلى المطلق: كان ثمة لولب، ظل (هو) في المطلق في عليائه، عاجزًا عن الحركة».
٢٠٩  Œuvres, p. 854. ولا ينبغي أن ننسى أن «مالارميه» أراد — في «إيجيتور» — تقديم دراما العجز (قارن بما سبق، تحت عنوان «تقنية الإصاتات»)، وأن يشخصها بطله رمزيًّا. وبعد أن وصل إلى «الرؤية الرهيبة لمؤلف خالص» (قارن Propos sur la Poésie, p. 97)، أحس — أولًا في رعب — بأن مؤلفًا كهذا، نظرًا لمطلقه نفسه، لم يكن من الممكن أن يوجد (إنها دائمًا الفكرة الهيجلية عن المطلق — العدم؛ وفي النهاية، سيصمم على أن يكتب، أي على أن يلقي ﺑ «رمية نرد».)
٢١٠  Œuvres, p. 450.
٢١١  قارن Mots Anglais, Œuvres, p. 921: «تتكشف الكلمة، في حروفها المتحركة وإصاتاتها المزدوجة، وكأنها لحم، في حروفها الساكنة، وكأنها هيكل عظمي هش يمكن تشريحه».
٢١٢  في ملحوظته حول اللغة عام ١٨٦٩م، صرح «مالارميه» بأن الكلام «يخلق تماثلات للأشياء بفعل تماثلات الأصوات»، في حين أن الكتابة «ترسم إيماءات الفكرة» (Œuvres, p. 854).
٢١٣  «المكتوب، ذلك التحليق الضمني للتجريد، يستعيد حقوقه في مواجهة سقوط الأصوات العارية» (Lemystère dans les Lettres, Œuvres, p. 385).
٢١٤  انظر مقاله حول «ليون دييه»: يصرح «مالارميه» — بشكل خاص — أن أنساق التكرار هذه تنتسب للشعر الأجنبي بأكثر مما لشعرنا، ويحيل — في إحدى الملحوظات — إلى «إ. بو» و«أولالوم» (Œuvres, p. 691).
٢١٥  Crise de Vers (فقرة كُتِبَت عام ١٨٩٢م)، Œuvres, pp. 367-368.
٢١٦  خطاب كتبه «مالارميه» إلى «غيل» بصدد «أساطير الروح والدم» في ٧ مارس ١٨٨٥م، وأُعيدَ نشره في Propos sur la Poésie, p. 140. قارن فيما يلي. بالفصل الثاني من القسم الثاني من هذا الكتاب.
٢١٧  خطاب إلى «كازاليس»، ٣ مارس ١٨٧١م، Propos sur la Poésie, p. 170.
٢١٨  كُتِبَت قصيدة «شيطان التماثل» — كما رأينا — عام ١٨٦٧م، ومن المحتمل تمامًا أن «مشهد مقطوع» — المنشورة في «لا ريبوبليك دي ليتر» عام ١٨٧٥م — ليست إلا قصيدة أقدم منها ومعدلة بدرجة كبيرة: وهي منشورة في «لا ريبوبليك دي ليتر» إلى جانب «شكوى الخريف» و«ظاهرة مستقبلية» و«رعشة شتوية» المكتوبة كلها حوالي عامي ١٨٦٤-١٨٦٥م، تحت عنوان «صفحات منسية».
٢١٩  قارن رد «مالارميه» على «جول هارت» عام ١٨٩١م: «الأشياء موجودة، وليس علينا أن نخلقها، ليس علينا إلا أن ندرك العلاقات بينها، وخيوط هذه العلاقات هي التي تشكل الأبيات وتوزعها أوركستراليًّا» (Œuvres, p. 871).
٢٢٠  L’œuvre poétique de S. Mallarmé, Droz, 1940, p. 299.
٢٢١  النسخة الأولى من هذه القصيدة — التي يعود تاريخها إلى عام ١٨٦٥م — أُعيدَ نشرها في هوامش «المؤلفات»، ص١٤٤٨–١٤٥١، وتسمح بعقد مقارنة مفيدة — قارن السيدة «نوليه»، مرجع سابق، ص٢٢٨–٢٤٧)؛ وقد عثر البروفيسور «موندور» — من ناحية أخرى — على نسخة ثانية وسيطة منها، ونشرها في كتابه Histoire d’un Faune, Gallimard, 1948.
٢٢٢  علامة أولى، أشار إليها البروفيسور «موندور» في خطاب إلى «كازاليس» بتاريخ ١٨ يوليو ١٨٦٨م: «حوض أسماك تعبره زعانف أسماك غامضة، فضية، قديمًا …» (Vie de Mallarmé, p. 270).
٢٢٣  قارن بالجملة الأخيرة، المميزة، من مقال عن «ليون ديي»، المنشور في نوفمبر ١٨٧٢م: «الروح المضمرة، التي لا تتشبث بكلمات الشاعر المختار المألوف، منذورة للعدم، إن لم تضحِّ إلى الله بالمجموع العاجز عن طموحاته» (Œuvres, p. 694).
٢٢٤  انظر Mallarmé, Messein, 1931, pp. 21-22: «مدعوًّا إلى التأمل المهني في مفردات وتركيب الجملة المقارن بين الفرنسية والإنجليزية، اعتاد على ألا يعتبر السياقات النحوية التقليدية ثابتة، لكن بأن يخاطر بتجديدات خصبة، إنه يتغلغل بعمق في جوهر الشعر المرئي كفن للغة». لكن من التعسف تمامًا أن نضيف — مثلما يفعل «روبير» — «وهكذا وضعه القدر في حلبة اكتشافاته الكبرى».
٢٢٥  انظر مقال «ليون لومونييه» Baudelaire et Mallarmé traducteurs de Poe, dans les Langues Modernes, Janvier-Février 1949, pp. 47–57. وعلينا أن نشير إلى أن «مالارميه» لم يعرف الإنجليزية جيدًا، وهو ما يمكن أن يفسر — إلى حد ما — أن «يستنسخ»، بذلك، ترجمته للنص الإنجليزي.
٢٢٦  لومونييه، مقال سبق ذكره، ص٥٦. انظر — في هذا الصدد — كل الفصل الصائب والواسع الاطلاع في J. Schérer, L’expression littéraire dans l’œuvre de Mallarmé, Droz, 1947, L’influence anglaise, pp. 19–33.
٢٢٧  E. Noulet, L’œuvre Poétique de S. Mallarmé, Droz, 1940, p. 160. وينبغي الرجوع إلى فصل «مالارميه مترجمًا لبو» ص١٥٨–١٧٣.
٢٢٨  L’Expression Littéraire dans l’œuvre de S. Mallarmé, p. 226.
٢٢٩  Œuvres, p. 655.
٢٣٠  Œuvres, p. 720. نُشِرَت المجموعة — التي لم يكن قد عُثِرَ عليها حتى هذه اللحظة، من «الموضة الأخيرة» — للمرة الأولى في طبعة «لابلياد».
٢٣١  Œuvres, p. 735.
٢٣٢  يتعلق الأمر بسقف شقة مؤجرة: «أبيض مثل ورقة بلا قصيدة، وأرحب، أو محجوب بالسحب على لازورد بمقدار المتر، إنها السماء الممنوحة لنظرة الضيف، المرفوع العينين والمغمور في مقعده» (Œuvres, p. 770).
٢٣٣  Œuvres, p. 763: cf. Thibaudet, la Poésie de stéphane Mallarmé, Gallimard, 1926, p. 105. ويشير «تيبوديه» أيضًا، ص١٠٦، إلى أن «إثارة موضوعٍ ما، بالنسبة له، هو استدعاء لفكرته، بطريقة بارعة، وهو التسامي به من خلال وسيط التشابه إلى أجواء العقل والانسجام».
٢٣٤  Œuvres, p. 806.
٢٣٥  تبدأ قصيدة النثر بهذه المصادرة الفريدة على المطلوب: «بارع هو الواقع، الناجع في تثبيت الوسيلة العقلية بين سرابات واقعةٍ ما، لكنه يرتكز — من هنا بالذات — على وفاق كوني معين؛ ولنتأمل — إذن — ما إذا لم يكن، في المثال، ثمة مظهر ضروري، جلي، وبسيط، يُسْتَخْدَم كنمط». ويواصل «مالارميه»: «أريد — في سبيل نفسي وحدي — أن أكتب كيف استرعت نظري كشاعر هذه الحكاية، قبل أن ينشرها الصحفيون على العامة المدربة على أن تضفي على كل شيء طابعه الشائع» Œuvres, p. 276. فخلال أحد العروض، انتصب دُب فجأة ضد المهرج الذي كان يناوره واحتضنه بخطورة، إلى اللحظة التي دفعه طُعم قطعة من اللحم إلى أن يترك غنيمته: ها هي، بأسلوب «الصحفي» «الحكاية» التي لم أجدها في أي موضع بجرائد هذه الفترة، مثلما لم أجد أيضًا أية إشارة إلى مسرح «السفاهات».
٢٣٦  السلفات: أنثى «السلف»؛ كائن خرافي يرمز إلى الهواء في الأساطير السلتية.
٢٣٧  ونجد في نص ١٨٩٦م — الأكثر غموضًا أيضًا — «بفعل تفوقنا» بدلًا من «ضحية …»
٢٣٨  الدب — فيما يظن «مالارميه» — يطلب من المهرج أن يشرح له «هذه الأجواء من البهاء، والتراب والأصوات».
٢٣٩  نص عام ١٨٩٦م: «متواضعون».
٢٤٠  قارن بصفحات «مالارميه» عن الرقص، وبشكل خاص عن الموسلين الذي يحجب ويعري الراقصة: «نعم، فتشويق الرقص، كهيبة متناقضة أو أمل في رؤية الكثير أو ما لا يكفي، يتطلب إطالة شفافة» (Œuvres, p. 311).
٢٤١  انظر Œuvres, Notes, p. 1532.
٢٤٢  انظر «بيبليوجرافيا» ديوان «هذيانات»، التي كتبها «مالارميه» عام ١٨٩٦م Œuvres, p. 1570.
٢٤٣  اللفظية: غلبة اللفظة على المعنى، أو منح الألفاظ أهمية تفوق المعنى.
٢٤٤  Le Mystére dans les lettres, Œuvres, p. 385.
٢٤٥  «كنت أقول أحيانًا إلى ستيفان مالارميه …» (Nouvelle Revue Française, 1er Mai 1932, p. 826).
٢٤٦  يذكر «برونو» — في كتابه Histoire de la Langue Française — مثالًا مدهشًا مستمدًّا من رواية «بيزنطي» للكاتب الرمزي «ج. لومبار»: «محلات وطيئة، ذات فتور من وميض، كانت تعرض التباسات في شكل بضائع» (t. VIII, XIX°. siècle et période contemporaine, p. 805).
٢٤٧  قارن بما سبق قوله بصدد «الانتقال» الذي يتوجه «من الواقعة إلى المثال»، في الفصل الثاني بالقسم الأول. «والحديث لا علاقة له بحقيقة الأشياء إلا بصورة تجارية»، كما يقول في موضع آخر «مالارميه»: «ففي الأدب، يكفي أن يتم التلميح إليها، أو الاحتفاظ بصفتها لتندمج بها فكرة معينة» (Œuvres, p. 366).
٢٤٨  يسمي «مالارميه» الموسلين «وشاح العمومية» الذي يجعل من الراقصة تجريدًا، بدلًا من امرأة خاصة (Œuvres, p. 311).
٢٤٩  J. Schérer, L’Expression Littéraier dans l’œuvre de Mallarmé, Droz, 1947, p. 161.
٢٥٠  هذان التعبيران — المستمدان من «حكايات هندية» و«لوران تيلاد» — ذكرهما «شيرير»، ص١٥٣؛ وسأضيف أننا نقرأ في «الموضة الأخيرة»: «محب للعواصف وأوراق الشجرة».
٢٥١  شيرير، مرجع سابق، ص١٦١.
٢٥٢  مذكور في Mondor, Mallarmé plus intime, Gallimard, 1944, p. 214, n. 2.
٢٥٣  Montesquieu, Cahiers, Grasset, 1941, p. 73.
٢٥٤  قارن ﺑ Bibliographie des Divagations (Œuvres, p. 1569).
٢٥٥  Stéphane Mallarmé, un héros (Mercure de France, 1899, p. 39).
٢٥٦  La Musique et les Lettres, p. 645.
٢٥٧  Mallarmé, l’homme et L’œuvre, Hatier, 1953, p. 97. قارن بما سبق، ملحوظة ٢٠٢.
٢٥٨  قارن ﺑ Michaud, Mallarmé, l’homme et l’œuvre, Hatier, 1953, p. 147.
٢٥٩  بالنسبة لشاسيه، على سبيل المثال، فإن كلمة «Oublies – منسية»، الواردة في «الغابات المنسية عندما يمر الشتاء المظلم» (Œuvres, p. 854)، إنما تعني — حسب أصل كلمة Obliviscor لدى «ليتريه» — «قد جعل كابيًا، أبيض ثلجيًّا»؛ وتعني La Chimère عنزة … إلخ، لكن الأمر يتعلق بتراكمات طباعية أو «ببريق من أسفل»: فالقصيدة — بكل بساطة — تريد أن تقول شيئًا آخر غير ما تقوله، إنها كتابة شعرية يجب ترجمتها بوضوح. قارن ﺑ Les clefs de Mallarmé, éd. Montaigne, 1954, pp. 121, 140, 199.
٢٦٠  La Déclaration Foraine (Œuvres, p. 280).
٢٦١  قارن ﺑ Le Nénuphar Blanc, p. 284: «كانت قد صنعت من هذا الكريستال مرآتها الداخلية بعيدًا عن التطفل الساطع لبعد الظهيرة، كانت تأتي إليها، والبخار الفضي البارد للصفصاف سرعان ما لا يعدو إلا صفاء نظرتها المعتادة في كل ورقة».
٢٦٢  Œuvres, p. 279.
٢٦٣  هذا الاستخدام الملتبس لكلمة «Offre – يقدم» ذكره «شيرير» في L’expression littéraire dans l’œuvre de Mallarmé, Droz, 1947, p. 115.
٢٦٤  Le mystère dans les lettres (Œuvres p. 386).
٢٦٥  العبارة قالها «ميشو»، في Le Message du Symbolisme, Nizet, 1947, t. I, p. 181.
٢٦٦  Maurice Guillemot, Villégiature d’artistes, Flammarion, 1898, Mondor, Vie de Mallarmé, p. 507.
٢٦٧  Le style de Mallarmé, La poésie de S. Mallarmé. Gallimard 2° éd., 1926, pp. 313–332.
٢٦٨  ولأن «مالارميه» لم يكتب بالفعل قصائد نثر، بين عامي ١٨٧٥م و١٨٨٥م، فإن هذا البعد الأول لتركيب جملته الفريد لم يتضح نثرًا إلا في قصيدتين: «شيطان التماثل» ١٨٧٤م و«مشهد مقطوع» ١٨٧٥م.
٢٦٩  La Vogue, 1886, n°. 12, p. 420.
٢٧٠  سبق أن تحدثت — كما نذكر — عن «انطباعية» رامبو، الذي كان يستخدم، بصورة واضحة، تقنية شديدة الاختلاف، لكن نقطة انطلاقه مماثلة لها (قارن بما سبق في الفصل الثاني بالقسم الأول).
٢٧١  Le Démon de L’analogie (Œuvres, p. 275).
٢٧٢  La poésie de Stéphane Mallarmé, Gallimard, éd. 1926, p. 336.
٢٧٣  إنه يريد في «رمية نرد» فكرًا يتم «تقديمه في نشأته نفسه»، حيث — كما يقول — «يُولَد ويتطور تحت أنظارنا بكل مجموع الصور المتجاورة والتابعة، التي يتضمنها أو يوقظها في الذهن كلما تجسد». (Essai sur la poésie et la poétique de S. Mallarmé, Lausanne, Mermod, 1949, p. 151). إنه إنكار — حسبما أعتقد — للمظهر النهائي للقصيدة المالارمية، حيث يتم إدراك المستويات المختلفة من الأصل بقيمتها ومكانها الخاص، كما في سيمفونية.
٢٧٤  مشهد مقطوع (Œuvres, p. 276).
٢٧٥  المرجع السابق، ص٢٧٧.
٢٧٦  Thèmes anglais pour toutes les grammaires, Gallimard, 1937, Préface, p. 15.
٢٧٧  قارن بما سبق، ص٣٥٠.
٢٧٨  عام ١٨٩٨م (Œuvres, p. 883).
٢٧٩  المقصود: عكس نظام الجملة، بتأخير الكلمة أو تقديمها.
٢٨٠  «السر الخفي في الآداب» (Œuvres, p. 386). وهذا النص، المكتوب عام ١٨٩٦م، هو — في آن — تبرير لأنساق الكتابة المالارمية، ومطالبة ﺑ «امتيازات خالصة» لم يكن معترفًا بها حتى ذلك الحين إلا للموسيقى وحدها: «أعلم أن المطلوب حصر السر الخفي في الموسيقى، عندما يطالب المكتوب به» (Œuvres, pp. 382 et 385).
٢٨١  La poésie de Stéphane Mallarmé. Gallimard, 1926, p. 325.
٢٨٢  المقصود: الجُمل الاعتراضية، والجمل ما بين القوسين.
٢٨٣  Schérer, L’expression Littéraire dans l’œuvre de Mallarme, p. 186.
٢٨٤  Œuvres, p. 287.
٢٨٥  مرجع سابق، الجزء الثالث، القسم الثالث: عمق الجملة، ص١٨١–١٨٨.
٢٨٦  حسب «بوازا»، يستخدم مالارميه «تركيبة لا نجد مفتاحها — إلى حد ما — إلا أن في التركيبة اللاتينية»: (Le Symbolisme: De Baudelaire à Claudel, Renaissance du Livre, 1919, p. 87): cf. Schérer. op. cit.: L’influence latine, pp. 33–36.
٢٨٧  عروس النيل البيضاء (Œuvres, p. 284).
٢٨٨  المرجع السابق، ص٢٨٥.
٢٨٩  Thibaudet, la poésie de S. Mallarmé, Gallimard, 1926, p. 328.
٢٩٠  المجد (Œuvres, p. 288).
٢٩١  هذه الجملة من «مشهد مقطوع»: «الحادث الأكثر جدة! أثار انتباهي» (Œuvres, p. 276) لم تكن تتضمن أبدًا علامة تعجب في نص عام ١٨٧٥م. حول استخدام علامة التعجب، قارن، شيرير، مرجع سابق، ص٥٣–٥٥.
٢٩٢  عزلة (Œuvres, p. 407).
٢٩٣  رد على «ش. موريس» حول موضوع «إ. بو» (Œuvres, p. 872).
٢٩٤  Le Mystère dans les Lettres (Œuvres, p. 387).
٢٩٥  قارن، في «سحر»: «استحضار الموضوع المخفي، في ظل جلي، بكلمات موحية، ليست مباشرة أبدًا، متقلصة إلى صمت مساوٍ، يقتضي محاولةً تقترب من الخلق» (Œuvres, p. 400).
٢٩٦  قارن — فيما يلي — بالجزء الثاني، الفصل الثاني.
٢٩٧  قارن بخطاب السيرة الذاتية الموجه إلى «فيرلين» في نوفمبر ١٨٨٥م (Œuvres, p. 663).
٢٩٨  Propos sur la Poésie, 1953, p. 141.
٢٩٩  ويخبرنا خطاب من «مالارميه» إلى «ج. كان» — وقد أطلعني عليه البروفيسور «موندور» — أية وساوس منعت الشاعر من نشر «الكنسي» في مجلة فرنسية: «أمَّا فيما يتعلق بما ينشره «بيكا»، فليس هناك سوى مقطوعة نثر غير منشورة، ولسوء الحظ فلا أستطيع طبعها هنا، كجامعي: «الكنسي»؛ وتدركون على الفور لماذا» (خطاب إلى «ج. كان»، أبريل ١٨٨٦م، مجموعة «ﻫ. موندور»).
٣٠٠  كان «مالارميه» قد استأجر — في «فالفين»، عام ١٨٧٤م — بيتًا صغيرًا قريبًا من «السين»، وكان يقضي جانبًا من أيامه في الصيف في التجديف بنهر السين، «في زورق من خشب الأكاجو» (قارن ﺑ Œuvres, p. 665). وفي ١٩ يونيو ١٨٨٥م، يتحدث — في خطاب له — عن قصيدته النثرية المخططة، التي «لم تكن تجيء»، فالأحدوثة كانت تبدو له «حكائية بإفراط» (Mondor, Vie, p. 480).
٣٠١  تيبوديه، المرجع السابق، ص١٣٧.
٣٠٢  نتذكر أبيات «ظهور»، عن «عطر الحزن» الذي يترك قطاف حُلم في قلب من قطفه.
٣٠٣  Œuvres, p. 286.
٣٠٤  عروس النيل البيضاء (Œuvres, p. 285).
٣٠٥  سنجد النص الأول من «سيمفونية أدبية» (المكتوب عام ١٨٦٤م) في «المؤلفات»، ص٢٦١، والثاني (عن التجارب التي يرجع تاريخها إلى حوالي عام ١٨٨٠م)، والثالث، وهو النص المنشور في «هذيانات»، في «ملاحظات» المؤلفات، في صفحتي ١٥٣٩ و١٥٤٠، على التوالي.
٣٠٦  انظر Goëland، عدد مارس-أبريل ١٩٤٤م.
٣٠٧  قارن بما سبق، تحت عنوان «مالارميه واللغة»: «الانتقال السماوي (…) يمضي من الواقعة إلى المثال».
٣٠٨  قارن في «تصريح جوال»: «بالذراع البريء تسترخي على»؛ «العادة الباردة لصوته»، في الفصل الثاني بالقسم الأول.
٣٠٩  La poésie de Stéphane Mallarmé, Gallimard, 1926, p. 83.
٣١٠  إذا ما رأى شخصًا يجذف، ويغطي رأسه بشكل غريب، بقبعة طويلة: «انظروا، يقول «مالارميه»، هذا المجذف الخيالي: إنه يضع هذه القبعة الجميلة محل مدفأة البخار التي يحلم بها». وأمام خرطوم الري: «كل ما يتبقى لنا من ثعبان سفر التكوين» (قارن ﺑ Mondor, Vie de Mallarmé, p. 534).
٣١١  رد على «استقصاء»، «عن القبعة الطويلة» (Œuvres, p. 881). وقد طرزت «كورتلين» تنويعات ممتعة عن «الشهاب المعتم» في كتابها Histoire de Montmartre تحت عنوان Les Météoes.
٣١٢  تصريح جوال (Œuvres, p. 281).
٣١٣  قارن في «صراع»: «إنهم يرفعون، وقت الراحة، في خندق، الخطوط الزرقاء والبيضاء العرضية لألبسة البحر، مثل طبقة مائية، شيئًا فشيئًا (ملابس آه! كم إن الإنسان هو النبع الذي يبحث عنه)» (Œuvres, p. 355).
٣١٤  Œuvres, p. 281.
٣١٥  Œuvres, p. 358.
٣١٦  يبدو أن «ذكريات» قد تمت مراجعتها عام ١٨٨٨م، لإرسالها إلى «ديمان»، ناشر «صفحات»؛ ولنذكر أن هذه القصيدة — قبل نشرها في «صفحات» — قد نُشِرَت في عدد يونيو ١٨٩٠م من مجلة Jeune Belgique.
٣١٧  عدد ٦ أكتوبر ١٨٨٨م، ترجمة لمقال ظهر في Fanfulla della Domenica de Rome، ٢٣ سبتمبر ١٨٨٨م، تحت عنوان Poemucci in prosa، وسيُعاد نشره — بشكل أكثر اكتمالًا — في Revue indépendante، في فبراير ومارس ١٨٩١م: ويتحدث فيه «بيكا» عن «برتران»، ولكن — بالأساس — عن «بودلير» و«مالارميه».
٣١٨  قارن ﺑ Mondor, Vie de Mallarmé, p. 461.
٣١٩  الانحطاطيون: مدرسة شعرية فيما قبل الرمزية، ظهرت أواخر القرن التاسع عشر، من روادها بودلير ومالارميه.
٣٢٠  قارن ﺑ Mondor. Vie de Mallarmé, p. 502. وسيجيب «مالارميه» على هذا السؤال لبرت موريسو: «كيف؟ لكنني — بالنسبة لطاهيتي — لن أكتب بشكل آخر».
٣٢١  الكنسي (Œuvres, p. 286).
٣٢٢  مشهد مقطوع، ص٢٧٧.
٣٢٣  في «تصريح جوال»، ص٢٨٠. قارن ﺑ Thibaudet, la poésie de S. Mallarmé, pp. 235-236.
٣٢٤  تصريح جوال، ص٢٨٠.
٣٢٥  Crise de vers, p. 366.
٣٢٦  المرجع السابق، ص٣٦٨.
٣٢٧  قال لموكلير: «كم من المرات، قررت أن أشرع في كتابة الكتب التي أحملها في عقلي، مكتفيًا بشكل فرنسي مألوف، من النوع الفصيح والبليغ إلى حد ما، مع إيقاعات وعبارات من النمط الشائع، وأقسمت لنفسي أن أتمرد، ثم — في لحظة البداية — كنت أشعر أنني لا أستطيع، وأنه لا يحق لي تقييم الشكل المكتوب بهذه الطريقة، وكنت أبدأ في دراسة ما يتطلبه (هذا الشكل)» (Mauclair, L’Art en silence, Ollendorf, 1951, p. 675).
٣٢٨  خطاب من «دوجاردان» إلى «مالارميه»، ٧ سبتمبر ١٨٨٦م، ذكره «موندور» في كتابه، Vie de Mallarmé, p. 488. وقد نشر «دوجاردان» — عام ١٨٨٥م — في Revue Wagnérienne، «ريتشارد فاجنر، حلم يقظة شاعر فرنسي»، «نصف مقال، نصف قصيدة نثر»، حسب تعبير «مالارميه» (قارن ﺑ Œuvres, p. 1585).
٣٢٩  قارن ﺑ Œuvres, p. 1569.
٣٣٠  رد على «استقصاء» جول هارت (Œuvres, p. 687).
٣٣١  قارن Le Mystére dans les Lettres (Œuvres, p. 386).
٣٣٢  قارن بما سيلي، القسم الثاني، الفصل الثاني.
٣٣٣  عام ١٨٩١م، قارن ﺑ Œuvres, p. 870.
٣٣٤  حول هذا النسق المزدوج، انظر Schérer, L’expression littéraire dans l’œuvre de Mallarmé, Droz, 1947. p. 205 et sq.، وأيضًا دراستي L’Après-Midi d’un Faune ضمن كتابي Mallarmé et la musique.
٣٣٥  إلى ج. هوريه، Œuvres, p. 868.
٣٣٦  Crise de vers (Œuvres, p. 367).
٣٣٧  «حلية نهائية، لكن ليست للخروج، سيف وزهرة، إلى حد ما، ووفقًا لدافع مدروس …» (Crise de vers، قسم مكتوب عام ١٨٩٢م، Œuvres, p. 362).
٣٣٨  كتب إلى «فيليه جريفان» عام ١٨٩٣م: «إن إيقاعكم الشخصي يتوطد بكل تأكيد»، مكررًا عبارة «فيليه جريفان» نفسه (انظر ما سيلي بالفصل الثاني من القسم الثاني، رقم ٢٦٣).
٣٣٩  «إنكم تفتحون إحدى الطرق، طريقكم …» (خطاب إلى «كان»، ٨ يونيو ١٨٨٧م، Propos sur la poésie, p. 155). قارن، في الموسيقى والآداب: «الشعر الحر (كما أقول كثيرًا) هو تغيير فردي» (Œuvres, p. 644). ومع ذلك، فإن فكرة «أن كل فرد إنما يأتي بعروض شعري جديد، مشاركًا في إلهامه»، تبدو مثيرة للضحك بالنسبة لمالارميه (قارن ﺑ Œuvres, p. 364).
٣٤٠  ينبغي — في هذا الصدد — قراءة الخطاب الموجه إلى «ج. كان»، Propos sur la poésie, p. 155.
٣٤١  ملحوظة ملحقة ﺑ «الموسيقى والآداب» (١٨٩٤م) (Œuvres, p. 655).
٣٤٢  في Crise de vers (نص عام ١٨٩٢م) (Œuvres, p. 362).
٣٤٣  Propos sur la Poésie, p. 183.
٣٤٤  قارن في رد «مالارميه» على «ج. هوريه»، عام ١٨٩١م: «… نشعر بالضجر من الشعر الرسمي، ويشاطرنا مؤيدوه حتى هذا الضجر» (Œuvres, p. 867).
٣٤٥  قارن بالسيرة الذاتية المرسلة إلى «فيرلين» عام ١٨٨٥م (Œuvres, p. 663).
٣٤٦  قارن بخطاب ١٠ نوفمبر المرسل إلى «ث. دوريه»: «العمل الضخم، الذي يمثل سجادة بينيلوب الخاصة بي، يتقدم ببطء. بسبب عملي النهاري ومرضي الليلي. لم أعد أنام مطلقًا. المهم أن أصل إلى إحالتي إلى المعاش التي ستحدث خلال عامين: آنئذٍ، كل شيء للأدب!» (Propos sur la Poésie, p. 147)؛ وكان على «مالارميه» أن ينتظر حتى نهاية ١٨٩٣م …
٣٤٧  Propos sur la Poésie, p. 130.
٣٤٨  قارن ﺑ Crise de Vers (Œuvres, p. 361). كان «مالارميه» — عام ١٨٩١م — يقول إلى «ج. هوريه»: «ما منحني وضع زعيم مدرسة، هو أولًا أنني اهتممت دائمًا بأفكار الشباب، وبعد ذلك، إخلاصي بلا شك في معرفة ما هو جديد في جعبة آخر القادمين» Œuvres, p. 869.
٣٤٩  قارن بملحوظات «مالارميه» حول اللغة (Œuvres, p. 854). ويبدو لي أن «مالارميه» يستعيد تأملات عام ١٨٦٩م — فيما يتعلق بالشعر والنثر — حول الكتابة والكلام، هذين النمطين في تطور الكلمة عبر «مراحل الفكرة والزمن في الوجود، أي حسب الحياة والروح».
٣٥٠  ملاحظة ملحقة ﺑ «الموسيقى والآداب» (Œuvres, p. 655).
٣٥١  خطاب مرسل إلى «رودنباخ» في ٢٨ يونيو ١٩٨٢م حول كتابه Bruges la Morte، حيث تتناوب القصائد المنظومة والقصائد النثرية، قارن Propos sur la Poésie, p. 177.
٣٥٢  حول هذه الأنساق الشكلية المتنوعة، وحول جماليات «العودة الأبدية»، قارن — فيما بعد — بالفصل الخاص ﺑ «جمالية قصيدة النثر».
٣٥٣  قارن بما سيلي بعد ذلك، بالفصلين الثاني والثالث من القسم الثاني.
٣٥٤  قارن Œuvres, p. 655.
٣٥٥  Œuvres, p. 644. يتم التعبير عن نفس الفكرة — في شكل مماثل على نحو ظاهر — في الرد على «ج. هوريه» (Œuvres, p. 867)، وفي Etalages عام ١٨٩٥م (Œuvres, p. 375).
٣٥٦  قارن بخطاب «مالارميه» إلى «جاري»، Propos sur la Poésie, p. 181. وسيتم تناول كل المؤلفات المذكورة أعلاه في القسم الثاني.
٣٥٧  Œuvres, p. 644.
٣٥٨  إلى حد معين، تذكر فنون الفراغ — حيث كل شيء متزامن — بالشعر المرجَّع jeté «باطراد أقل مما هو متزامن بالنسبة للفكرة»، في حين أن النثر يدخل، بداهة، ضمن فنون الزمن.
٣٥٩  قارن ﺑ Œuvres, p. 367.
٣٦٠  قارن بما سبق، تحت عنوان «اللغة الشعرية».
٣٦١  في مقاله Le Livre, Instrument spirtuel المنشور عام ١٨٩٥م، في Revue Blanche (Œuvres, p. 380).
٣٦٢  المرجع السابق، Œuvres, p. 381.
٣٦٣  المرجع السابق، ص٣٨١-٣٨٢.
٣٦٤  قارن بمقالي عن Le Coup de Dés de Mallarmé replacé dans la perspective historique (Revue d’Histoire Littéraire, Avril–Juin 1951, pp. 183-184).
٣٦٥  Le Mystére dans les Lettres (Œuvres, p. 387).
٣٦٦  قارن ﺑ Propos sur la Poésie, p. 185.
٣٦٧  وهو يستخدم نفس التعبير فيما يتعلق ﺑ «رمية نرد» (Œuvres, p. 455).
٣٦٨  Œuvres, p. 655.
٣٦٩  قارن ﺑ Variété II (N.R.F., 1930, p. 199).
٣٧٠  Le Mystére dans les Lettres (Œuvres, p. 387).
٣٧١  بيبليوجرافيا ديوان «هذيانات»، أعيد نشرها ضمن Œuvres, pp. 1569-1570.
٣٧٢  قارن بما سيلي في القسم الثاني، الفصل الثاني.
٣٧٣  لا يبدو — أيًّا كان ما قيل أحيانًا — أن «مالارميه» قد وضع في اعتباره، في حديثه عن «قصيدة نقدية»، مؤلفه «رمية نرد». وأنا أؤيد — تمامًا، في هذه المسألة — رأي «ر. ج. كون» في L’œuvre de Mallarmé: Un Coup de Dés, Librairie Les Lettres, 1952, pp. 483-484.
٣٧٤  «ألا تجدون أنه فعل جنوني؟» هكذا قال «مالارميه»، عند قراءته لقصيدته إلى «فاليري» (قارن ﺑ Valéry, Variété II, Gallimard, 1930, p. 180).
٣٧٥  مقدمة «رمية نرد» (Œuvres, p. 456).
٣٧٦  مقدمة «رمية نرد» (Œuvres, p. 455).
٣٧٧  الذي يرويه إلى «جيد» في خطاب بتاريخ مايو ١٨٩٧م، وقد ذكره البروفيسور «موندور» في مقدمته لدراسة «ج. ديفيز»: Vers une explication rationnelle du Coup de Dés. Corti, 1953, p. 15.
٣٧٨  قارن ﺑ Thibaudet, La poésie de S. Mallarmé, Gallimard, 1926 (1er édition, 1912), p. 417.
٣٧٩  قارن بمقالي حول «رمية نرد» Le Coup de Dés replacé dans la perspective historique (Revue d’Histoire Littéraire, Avril–Juin 1951, pp. 192-193)؛ وقد نُشِرَ خطاب «مالارميه» إلى «غيل» في Propos sur la Poésie, pp. 149-150.
٣٨٠  في العدد نفسه من Revue Wagnérienne، حيث نُشِر «حلم يقظة» لمالارميه عن «فاجنر»، في ٨ أغسطس ١٨٨٥م، يجاري «دوجاردان» الشاعر (أو ينتحله) كي يمتدح فكرة الكتاب، ذلك «المسرح المثالي». حول «فاجنرية» الرمزيين، قارن بما يلي، تحت عنوان «موسيقى وتأثير فاجنر»، الفصل الثاني من القسم الثاني.
٣٨١  حول هذه المؤلفات، قارن بما يلي، في القسم الثاني، الفصل الثالث.
٣٨٢  «فكرة» بالمعنى الشعري، أو «مركَّب» ذهني، قارن ﺑ Claudel, Positions et Propositions, Gallimard, 1928, t. I, p. 10.
٣٨٣  مقدمة «رمية نرد»، ص٤٥٥٠.
٣٨٤  «إن استخدام أو نفي العلامات الاصطلاحية يشير إلى النثر أو الشعر، وكل فننا على نحو خاص: وهي ترد هنا بفعل مزية تقديم الراحة الصوتية التي تحدد مدى الدفقة، دون هذه الحيلة الطباعية، وعلى النقيض، فهي ضرورة في النثر.» (Solitude. Œuvres, p. 407).
٣٨٥  حول الأنساق الإيقاعية للشعر الحر (والمنتظم في «مقاطع» على الأغلب)، قارن بما يلي بالفصل الثالث من القسم الثاني، تحت عنوان «إيقاعات قصيدة النثر».
٣٨٦  قارن بجملة «الموسيقى والآداب» السابق ذكرها، ص٣٥٦.
٣٨٧  مقدمة رمية نرد (Œuvres, p. 455).
٣٨٨  يبدو أن «مالارميه» كان يوضح لكلوديل أنه إنما «أراد أن يتخذ دعوة نحوية كنقطة انطلاق لكل من أجزاء قصيدته، الطباعية، والمتعلقة بالنشأة الكونية»، يمكن لها أن تكون «على سبيل المثال، هذه الكلمات: إذا ما كنت، أقرن إصبعين يتظاهران وهما يقرصان الرداء الشفاف بنفاد صبر الأقلام بإزاء الفكرة» (Positions et Propositions, Gallimard, 1928, t. I, p. 31).
٣٨٩  قارن في «الموسيقى والآداب» ﺑ «الملل إزاء الأشياء إذا ما تأسست راسخة ومهيمنة»، ص٦٤٧. ونعلم إلى أي حد كان «مالارميه» يحقد على الروائيين الذين يفرضون علينا كائنات حقيقية بشكل زائد، مستعارة «من زي الحياة الموحد» (Etalages, Œuvres, p. 375).
٣٩٠  مقدمة «رمية نرد» (Œuvres, p. 455).
٣٩١  في الطبعة الثانية وحدها (وكانت تطبع لحظة وفاته)، استطاع «مالارميه» تحقيق الرغبة التي استبدت بقلبه في أن يتخذ الصفحة المزدوجة كوحدة واحدة، لتصبح القراءة محكومة بالصفحتين في آن: وهذا النص النهائي هو الذي ستنشره طبعة البلياد.
٣٩٢  مقدمة «رمية نرد» (Œuvres, p. 455).
٣٩٣  مقدمة «رمية نرد» (Œuvres, p. 854).
٣٩٤  قارن Poizat, Du Classicisme au Symbolisme, éd. de la Nouvelle Revue Critique, 1929, p. 199.
٣٩٥  قارن ﺑ Crise de vers (Œuvres, p. 367) وﺑ «الموسيقى والآداب»، حيث يطالب «مالارميه» ﺑ «استرداد» الأدب لكافة الوسائل التي تستخدمها الموسيقى، «قليل من صخب الإصاتات، القابلة للنقل، أيضًا إلى حلم» (ص٦٤٩). وحول «مالارميه والموسيقى»، قارن بأطروحتي الثانوية.
٣٩٦  G. Davies, Vers une explication rationnelle du Coup de Dés, Corti, 1953, p. 75.
٣٩٧  يقول «مالارميه» — في Crise de vers, Œuvres, p. 368 — «بالتأكيد ليس من خلال الإصاتات الأساسية بواسطة آلات النفخ النحاسية والوتريات وآلات النفخ الخشبية، بل من خلال الكلمة الذهنية في أوجلها، ينبغي أن تُنتَج باكتمال ووضوح، كمجموع لكل العلاقات القائمة في كل شيء، الموسيقى (Crise de vers, Œuvres, p. 386).
٣٩٨  مقدمة «رمية نرد»، ص٤٥٥.
٣٩٩  Vers une explication rationnelle du Coup de Dés, Corti, 1953, p. 197. ويتوصل «ج. ديفيز» — بالتالي — إلى النتيجة الأقل إدهاشًا فيما يتعلق ﺑ «رمية نرد»، وهي أنه «ليس مختلفًا — بصورة جوهرية — عن بقية المؤلفات التي سبقته» (ص١٩٨).
٤٠٠  Eléments de Poétique mallarméenne, d’aprés le poéme Un Coup de Dés, ed. du Griffon, Neuchatel, 1947, p. 109.
٤٠١  العبارة ﻟ «ج. برليه» في Le Temps Musical, P.U.F., 1950, p. 364. وهذا التوفيق بين الزمني واللازمني الذي سأعيد تناوله بصدد «جمالية قصيدة النثر» يتخذ، فيما يتعلق بمالارميه، شكل التوفيق بين الشعر اللازمني والنثر الزمني؛ توفيق، أو تركيب، سبق أن تحدثت عنه.
٤٠٢  Variété II, p. 199.
٤٠٣  خطاب إلى «جيد» ١٨٩٧م، مذكور في «ملاحظات» Œuvres, pp. 1575-1576.
٤٠٤  Autobiographie (Œuvres, p. 663).
٤٠٥  Autobiographie (Œuvres, p. 663). ولنذكر أن «مالارميه» يقول، عن هذا المؤلَّف: «إن نفس إيقاع الكتاب — اللاشخصي والمفعم بالحيوية، حتى في ترقيم صفحاته — يتجاور مع معادلات هذا الحلم، أو النشيد الغنائي» (التشديد من عندنا، المؤلفة).
٤٠٦  L’œuvre de Mallarmé, Un Coup de Dés, Librairie Les Lettres, 1951, p. 41.
٤٠٧  قارن ﺑ «الموسيقى والآداب» (Œuvres, p. 646).
٤٠٨  قارن ﺑ «ر. ج. كون»، مرجع سابق، ص٥٤. وقد تأكد هذا المفهوم — بالطبع — عبر عدة نصوص لمالارميه، مثل النص الذي يتخيل فيه متحدثًا عن المسرح، «رباعية متعددة في ذاتها تنتشر بشكل موازٍ لدورة أعوام متجددة» (Œuvres, p. 313).
٤٠٩  Mallarmé, Boivin, 1953, p. 173.
٤١٠  Variété II, p. 201.
٤١١  ذكر «مالارميه» هذه الملحوظة عن «هاملت» في Crayonné au théâtre (Œuvres, p. 300)؛ ونعلم أن كافة النقاد قد لاحظوا — في «رمية نرد» — تذكيرًا بهاملت المستدعى ﺑ «قبعة منتصف الليل»، وريشته، «ريشة وحيدة مضطربة»، هي في نفس الوقت ريشة الكاتب.
٤١٢  Œuvres, p. 473.
٤١٣  La philosophie du livre, dans Positions et Propositions, Gallimard, 1928, t. I, p. 123.
٤١٤  قارن ﺑ Kahn, Symbolistes et décadents, Vanier, 1902, p. 353. note.
٤١٥  Vers une explication rationnelle du Coup de Dés. Corti, 1953, p. 170.
٤١٦  قارن ﺑ Autobiographie (Œuvres, p. 663).
٤١٧  Mallarmé et le rêve du Livre (Mercure de France, 1er Janvier 1953, p. 101).
٤١٨  خطاب إلى «كان» حول «القصائد الأولى» لمالارميه (نثرًا وشعرًا حرًّا)، يسبقها تمهيد عن الشعر الحر، ذكره موندور»، Vie de Mallarmé, p. 779.
٤١٩  ملحوظة على الموسيقى والآداب (Œuvres, p. 655): «ستتكيف الغريزة في الشعر اللاشخصي والصافي، لتنطلق من العالم نشيدًا من أجل إضاءة الإيقاع الجوهري فيه، وتلفظ — سدًى — النفاية». قارن بما سبق في الفصل الرابع من القسم الأول.
٤٢٠  Œuvres, p. 456. كان هذا الفصل قد كُتِبَ عندما ظهر الكتاب بالغ الأهمية ﻟ Adéle Ayda, Le drame intérieur de Mallarmé, éd. de la Turquie Moderne, Istanbul, 1955. وينبغي أن أذكر أن «ا. آيدا» — وهي تذكر، في نهاية فصلها الأخير، هذه الجملة من المقدمة بطريقة ناقصة — قد شوهت تمامًا المعنى، وهو ما يثبته التعليق الذي تذكره: «نرى أن «مالارميه» قد تمسك بأن يعلن — للمرة الأخيرة — أن الخيال الخالص أو الحلم، وأن الأوجاع الميتافيزيقية أو أهوال العقل، كانت طبقًا له المصدر الوحيد للشعر» (ص٢٦٨).
٤٢١  قارن ﺑ Le Livre, Instrument Spirituel (Œuvres, p. 378).
٤٢٢  Propos sur la Poésie, p. 173.
٤٢٣  Crise de Vers (Œuvres, pp. 367-368).
٤٢٤  في مايو ١٨٩٧م (خطاب ذكره «موندور» في مقدمته لدراسة G. Davies. Vers une explication rationnelle du Coup de Dés, Corti, 1953, p. 13).
٤٢٥  قارن ﺑ H. de Régnier. Figures et Caractères (Mercure de France, 1901, p. 43).
٤٢٦  Mondor, Vie de Mallarmé, p. 801. كان هذا الفصل قد كُتِبَ عندما نشر «ج. شيرير» الصفحات المزدوجة التي سجل فيها «مالارميه» مشروعاته ﻟ «الكتاب»، ﻟ «المؤلف» السيمفوني (Le Livre de Mallarmé, Gallimard, 1957). وسنجد هذه المشروعات موضع دراسة في الفصل الأخير من كتابي Mallarmé et la Musique.
٤٢٧  قارن ﺑ Autobiographie (Œuvres, p. 663).
٤٢٨  Œuvres, p. 380.
٤٢٩  وبالنسبة ﻟ «ر. ج. كون»، يطرح «رمية نرد» تشابهات مدهشة في مجال المعرفة والبنية مع Finnegans Wake لنفس المؤلف (قارن ﺑ L’œuvre de Mallarmé, Un Coup de Dés. Les Librairie Lettres, 1951, p. 26).
٤٣٠  قارن بقصيدة Déception — في Aquarium (1917) — حيث يتم التأكيد على «تزامنية البنية»، باستخدام حروف طباعية مختلفة.
٤٣١  قارن ﺑ «سيمفونية»، في La Plume du 1er Septembre 1900.
٤٣٢  قارن بما يلي، القسم الثاني، الفصل الرابع، ملحوظة ٦٨.
٤٣٣  قارن بالفصل الرابع، من القسم الثاني.
٤٣٤  Promenades Littéraires (Mercure de France, 4° série, p. 14).
٤٣٥  مثلما يقول «مالارميه» نفسه، في سيرته الذاتية، Œuvres, p. 662. ولنذكر — على سبيل المثال — République des Lettres de Mendés (1875), Scapin (1886), la Décadence de Ghil (1886)، التي نُشِرَت كل منها قصيدة نثرية لمالارميه في موجز عددها الأول.
٤٣٦  قارن ﺑ Autobiographie (Œuvres, p. 663).
٤٣٧  Œuvres, p. 407. وعنوان المقال: «عزلة»، ذو دلالة.
٤٣٨  وأول إعادة طبع ﻟ «هذيانات» في طبعة متداولة قد تمت عام ١٩٤٢م، لدى «شاربنتييه».
٤٣٩  Album de vers et de prose, 1887: Pages, 1891; Vers et Prose, 1893: Divagations, 1897.
٤٤٠  Autobiographie (Œuvres, p. 664).
٤٤١  الموسيقى والآداب (Œuvres, p. 645).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥