الفصل الأول

من بودلير إلى الرمزية

  • (١)
    البارناسية وقصيدة النثر «الفنية» في أعقاب برتران: منديس، كازاليس، جوديت جوتييه.
  • (٢)
    من البارنسية إلى الرمزية: هويسمان.
  • (٣)
    في أعقاب بودلير: محاولات أولى لجعل الشكل مرنًا، فيرلين، شارل كرو، فييه دي ليل–آدام.

***

(١) البارناسية وقصيدة النثر «الفنية»

ما كان لتأريخ ما للنظم الفرنسي — (مثل ذلك الذي كان يُمكن ﻟ «ج. لوت» أن ينجزه لنا، فيما لو أكمل ببراعةٍ عمله الضخم حول الشعر الفرنسي المنظوم، وهو ما خسرناه) — أن يخفق في توضيح أعمال التقويض التي أنجزها — على امتداد القرن التاسع عشر — كتاب يلاحقون عملية التحرر من الرومانتيكية، إن صرح الشعر الكلاسيكي الكبير، الذي زعزعته قصفات منجنيق «هوجو» سيجد نفسه متآكلًا وملغومًا من كل الجهات في آنٍ، فمن جانب الشعراء، هو «الشعر المنثور» لواحدٍ من قبيل «سانت– بوف»،١ ومن قبيل «بودلير»،٢ كي لا نذكر سواهما، حيث اختفاء الواقفة والتعدي المنظم، والجملة الممتدة على مساحاتٍ كبيرة تغمر التقطيعات بالبحور السكندرية، خالقة — بالإرادة — إيقاعًا نثريًّا، ومن جانب النثريين، هو النثر الشعري لواحدٍ من قبيل «نيرفال»، الذي ينحو — على النقيض — إلى التحليق في سماء الشعر بأجنحة الإيحاء والإيقاع،٣ وهي — أخيرًا — قصيدة النثر، التي تتلاقى فيها كافة جهود أكبر الشعراء بهدف خلق لغة شعرية جديدة، شعر منثور، نثر شعري، قصيدة نثر، ردود أفعال كثيرة ضد طغيان الشعر الكلاسيكي المنظوم والأشكال المحددة، وجهود كثيرة نحو أشكال أكثر مرونة، وأكثر تنوعًا، وقدرة على توصيل كافة ظلال وتناقضات الحساسية الجديدة، وما من أحد — كما رأينا — قد عبَّر، أفضل من «بودلير»، عن هذه الرغبة في خلق شعر حديث «موسيقي بلا إيقاع ولا قافية، سلس ومتنافر بما يكفي للتوافق مع الحركات الغنائية ومع تموجات حلم اليقظة وانتفاضات الوعي»،٤ ولا ينبغي أن يدهشنا — أيضًا — أن يستند الرمزيون على «بودلير»: فقصائد «سأم باريس» القصيرة هي أصل موجة الهجوم الجديدة التي ستطيح نهائيًّا — بعد عام ١٨٨٨م — بقلعة الشعر الكلاسيكي المنظوم.
ورغم هذا، ففي حركة التحرر الكبرى هذه — التي ستنتهي بالإطاحة بآخر حصون الكلاسيكية — ثمة وقت للتوقف، أو حتى للعودة إلى الوراء، للعودة إلى البارناسية، اعتبارًا من عام ١٨٨٦م، إلى التقاليد القديمة، فقد وجدت حركة تحرير الشكل نفسها وقد أُوقفت بعنف، فهل كان لمرحلة قصيدة النثر — هي أيضًا، بالتبعية — أن تجد نفسها موقوفة؟ والواقع أن «بانفيل» — عندما نشر مؤلفه «بحث صغير في الشعر الفرنسي»، عام ١٨٧٢م (الذي يمكنننا أن نرى فيه واحدًا من كتب «فن الشعر» البارناسية) — فإنه قد انطلق من تعريفه للقصيدة: القصيدة هي «هي ما تم صنعه، وليس له بالتالي أن «يُصنع»، كي ينكر على قصيدة النثر أية إمكانية للوجود، «رغم تليماك «فنيلون»، وقصائد النثر الرائعة لشارل بودلير و«جاسبار الليلي» للويس برتران»،٥ ونتعرف هنا على النظرية السياسية عن القصيدة المرمرية، عن النسق المغلق، بتعبيره الذي ينبغي أن يكون — كما يقول «بانفيل» — «مطلقًا، ومكتملًا، ونهائيًّا إلى حد أنه لا يمكن أن ندخل عليه أي تغيير»، والذي يتناقض مع فكرة شعر أكثر انفتاحًا، وهو ما كان — بالتحديد — الهدف المتكرر لقصيدة النثر، وسألفت النظر — دون تشديد — إلى المغالطة المنطقية التي تتمثل في القول بوجود قصائد نثر رائعة، لكن دون إمكانية التوفر على قصيدة نثر، بل إلى التكذيب الذي وجهه البارناسيون إلى «بانفيل»: فقد انكب البارناسيون — وحتى قبل الرمزيين، وهي واقعة مدهشة ومتناقضة ظاهريًّا — على محاولاتٍ في قصائد النثر،٦ (وواقعي أيضًا — من ناحية أخرى — أنهم لم يحققوا، في هذا المجال، سوى نجاحات بلا دلالة كبرى)، فهل ينبغي أن نرى — هنا — تناقضًا داخليًّا؟ فلنقل — بالأحرى، على العكس من «بانفيل» — أن البارناسيين قد اعتقدوا أنه يمكن منح النثر إيقاعًا وتماثلية وصرامة شبيهة بتلك الخاصة بالشعر، واعتقدوا أنه من الممكن قولبته، كما في الشعر، في قصائد مبنية، ونهائية، قصيدة poemata، كل كلمة فيها غير قابلة للاستبدال،٧ إنها — كما نرى — عودة إلى قصيدة «النثر الفنية»، التي منحها «ألويزيوس برتران» الصيغة والروائع الأدبية.
كل شيء كان يشير — بالفعل — إلى «جاسبار الليلي»، كي يستخدم كنموذجٍ للبارناسيين: هذه المقطوعات القصيرة — المبنية والموزونة جيدًا، الواضحة الحدود، والتصويرية — أصبحت محط إعجابهم، بالتحديد، لخصائصها التشكيلية والشكلية، بل إن غياب الغنائية، والشعر «اللاشخصي» نسبيًّا لبرتران، كان يمكن اعتبارهما بارناسيين قبل الحالة النهائية، ومنذ عام ١٨٦١م، نشرت «لاروفي فانتازيست» عدة مقطوعات من «جاسبار الليلي» ضمن مقال بها، في دعوة إلى الإعجاب ﺑ «رشاقة الإيقاعات» و«جاذبية الصورة»،٨ وفي عام ١٨٧٦م، ستنشر «لاروفي دي لبتر إيه ديزآر» جانبًا كبيرًا من قصائد «برتران»، بواقع مجموعة صغيرة كل عددين أو ثلاثة:٩ لقد بدأ الشاعر المنسي — وغير المنشور (إلى حدٍّ ما، بفضل «بودلير» وتمهيد «سأم باريس») — في الأخذ بثأره بعد وفاته.
ولا شك أن المحاولات البارناسية، التي جرت بعد «برتران»، لهي أكثر أهمية — بفعل الاتجاهات التي تمثلها والمفهوم الذي تقدمه — من أهمية وعدد القصائد التي تولدت عنها، فالبارناسيون الأكثر شهرة — «ليكونت دي ليل» و«هيريديا» و«ديريكس» — لم يكتبوا قصيدة النثر، و«جوستاف كان» — الذي يرفض، عن حق، اعتبار «مالارميه» و«شارل كرو»١٠ من البارناسيين — لا يذكر سوى «جوديت جوتييه» و«لوي دي ليفرون» و— أساسًا — «منديس» الذي لا يكل أو يتعب، «الذي نجده مشغولًا، كما يقول، بتقديم البارناسية في استخدامها الشكل الذي أبدعه برتران»،١١ ولا m يتردد «منديس» نفسه — عندما تذكَّر محاولاته — في أن يستخلص، من هذه المقطوعات النثرية الصغيرة … مدرسة الشعر كلها! وهي شعوذة جميلة حقًّا:
… كنت أكتب في (سن) التاسعة عشرة، في أعقاب «لاروفي فانتازيست» مباشرة، عددًا لا بأس به من المقاطع النثرية الموزونة، مسجوعة هنا وهناك، مع تكرارات للجمل أشبه باللازمات، وكانت تملك طموح أن تكون شبه قصائد … كان ثمة ألاعيب ذهنية دقيقة، واستراحة فيما بين القصائد الحقيقية، التي لم تطمح مطلقًا إلى زعزعة الفن الشعري الفرنسي، من كان سيقول إن مدرسة ستولد من هذه التسلية؟١٢
لقد وُلد «منديس» عام ١٨٤٢م، وإذا ما كان قد كتب قصائده فور انطفاء «لاروفي فانتازيست» العابرة — (حيث نُشرت — ولنذكر بذلك — القصائد النثرية الأولى لبودلير) — فعلينا، بالتالي، أن نؤرخ قصائده هذه بعام ١٨٦١م، لقد جُمعت في نهاية كتابه «حكايات حب»،١٣ المنشور لدى «لوميير» عام ١٨٦٨م، وتخونني الشجاعة دون ذكر أي جزءٍ من هذه المقطوعات الإحدى عشرة النثرية والمتكلفة في آن، المقسمة إلى مقاطع على طريقة «برتران» مع كمية من اللازمات والتكرارات. ويمكن لمنديس أن يطمئن: فمقطوعات كهذه لن تخاطر ﺑ «زعزعة الفن الشعري الفرنسي»، ومن ناحيةٍ أخرى، فإن جدارة الأسبقية — في ذلك — ترجع إلى «هوساي» الذي قدمت قصائده — المكتوبة في مقاطع عام ١٨٤٩م — مؤثرات شبيهة باللازمات (في «صانع الزجاج»)، أو التكرارات (في «بائعة الزهور الفلورنسية»).
وسنجد فنًّا أكثر وشعرًا حقيقيًّا في «حياة كئيبة»، وهي قصائد منظومة ونثرية، نشرها عام ١٨٦٥م «هنري كازاليس»، الذي لم يكن قد أصبح «جان لاهور» بعد، لكنه يوقع باسم «جان كاساللي»، ويهدهد كآبته ﺑ «أغانٍ عاطفية بلا موسيقى على سلم موسيقي صغير» — (عنوان أحد أجزاء الديوان)، ويوضح مقطع من «مشهد هندي» — التابع لسلسلة من النثريات المهداة إلى «مالارميه»،١٤ بعنوان «الخفايا» — البحث عن إيقاع، وعن توازن، وربما — أيضًا — ما هو مفتعل في سوء استخدام التكرارات أو التماثلات الناجمة عنه:

كثيرًا ما حلمت أمام مياه المستنقعات، – على سطح الزهور الجميلة والشاحبة، التي تفتح أثداءها بطهارة مثل عذراوات، الوحل في عمق المياه، الوحل، ممتلئ بكائنات مسمومة. – هذا العالم يشبه مياه المستنقعات.

كثيرًا ما حلمت أمام مياه المستنقعات، – على سطح الزهور الشاحبة والرقيقة، التي تتفتح مثل أفكار نقية؛ – وتحت الوحل، – الجحيم! – الروح شبيهة بمياه المستنقعات.١٥
إنها الفترة التي يكتب فيها «مالارميه» — من جانبه — أولى قصائده النثرية، وخاصة «محادثة الشتاء» و«طفل فقير شاحب»، المبنيتين على المقاطع، والمتأثرتين — بوضوح — بألويزيوس برتران.١٦
وفي عام ١٨٦٧م، تم تعيين «فيه دي ليل–آدام» — الذي يرد اسمه، مثل اسمي «مالارميه» و«كازاليس»، في «بارناس كونتومبوران»،١٧ — رئيسًا لتحرير «لاروفي دي ليتر إيه ديزآر»، وبوازع من أستاذ النثر هذا، ستحتل قصيدة النثر مكانةً من المقام الأول وسط إنتاج المجلة: وسيمكننا أن نقرأ فيها — بالإضافة إلى قصائد «جاسبار الليلي» — خمس «صفحات منسية» لمالارميه،١٨ و«أبدًا مرةً أخرى» لفيرلين، وأربع قصائد للوي دي ليفرون،١٩ دون ذكر الترجمات، الموزونة في مقاطع، للسونات٢٠ «Sone البريتونية — (قام بها «منديس») — و«الليد» الألمانية.
و«جودييت جوتييه»، ابنة «تيوفيل»، التي سرعان ما ستصبح «جوديت منديس»، ليست — عام ١٨٦٧م — إلا «جوديت والتر» صاحبة «كتاب اليشب» الشابة، وهو ديوان مترجم عن الصينية، لكن الإيجاز المعبر لهذه المقطوعات الصغيرة — التي امتدحها «منديس» (بطبيعة الحال) و«هويسمان»٢١ — سنجده في القصائد النثرية من بنات أفكارها هذه المرة، التي ستقدمها إلى مجلة «رينسانس» ﻟ «إيميل بليمون» أعوام ١٨٧٢-١٨٨٣م، وهي مجلة بارناسية أخرى تزدهر فيها قصيدة النثر! وستنشر قصائد ﻟ «شارل كرو» و«بينار» و«ش. دي سيفري» و«فليكس فرانتز» و«روبير كاز» … ويمكن أن نضيف إليها النثريات الفنية التي تحمل عنوان «رسم مطبوع بماء النار» أو «دراسات» ﻟ «ليون كلاديل» أو «إيمانويل دي إيسار».
وعند تصفحنا لهاتين المجلتين، يرتسم — بوضوح — الاتجاهان الأساسيان لقصيدة النثر البارناسية، كما تكوَّنا في أعقاب «ألويزيوس برتران» وتحت تأثيره: الاتجاه التصويري والاتجاه الشكلاني.
ولن تثير دهشتنا — في شيء — الاتجاهات التصويرية والوصفية للبارناسيين، فمثلما ألف برتران «جاسبار» على طريقة «رمبرانت» و«دي كاللو»، فإن البارناسي يسعى — في النثر مثلما في الشعر — إلى منافسة التصوير الزيتي: فهي ليست إلا «رسوم مطبوعة بماء النار» و«أقلام فحم» و«طباشير أحمر»،٢٢ فالكثيرون منهم كتاب — (حتى من هم خارج البارناسيين) — قد أتوَّا إلى قصيدة النثر مرورًا بالنقد الفني: والهدف أولًا — مثلما يصف «ليون كلوديل» قصيدة «مشهد طبيعي» ﻟ «كلود لوران» أو لوحة تاريخية ﻟ «دافيد» — أن نحدد، لدى القارئ، بضعة أحاسيس مماثلة لتلك التي يتعرض لها في وجود اللوحات»،٢٣ ومنذ ذلك الحين، ثمة انجذاب — لا فحسب — إلى وصف بل إلى «نقل» التصويري إلى الأدبي: هكذا، سينقل «هوساي» — في قصيدته «آدريان برويير»٢٤ لوحة «مكان تدخين التبغ» لبرويير، التي يمكن مشاهدتها في «اللوفر» — (مثلما سيفعل — فيما بعد — الشاب «فاليري»، «وهو ينقل» لوحتين من متحف «مونبلييه»)،٢٥ وانطلاقًا من ذلك، لن يتأخر الفنان في أن يصبح أكثر طموحًا وأن يرغب في إنتاج مؤلف أصيل، فهو يريد التصوير نثرًا: هكذا، ألف برتران «هارلم» وهوساي «تصوير جداري ونحت بارز سفلي»؛٢٦ ويؤلِّف «ا. إيسار» — لمجلة «رينسانس» — «دراسات قديمة»، وتعتبر قصيدة «تدرجات الأحمر» لهويسمان رائعة أدبية في هذا المجال، تنافس — من حيث الجهد التصويري — قصيدة «سيمفونية من مقام أبيض كبير» من ديوان «طلاء الميناء والعقيق»: «إنها جوقة من الأحمر» حقيقية، على ما يقول المؤلف، ولنحكم عليها من المقطع الأول:
كانت الغرفة مفروشة بالساتان الوردي المقصب بالأغصان القرمزية، والستائر منسدلة بغزارة على النوافذ، متكسرة على سجادة منقوشة بزهور بطياتها الكبيرة من القيطفة الرمانية، وعلى الحوائط عُلقت رسوم بالطباشير الأحمر لبوشيه وأطباق مستديرة من النحاس زخرفها بزهور صغيرة ونقشها فنان من عصر النهضة.٢٧
لكن الرسام الشاعر كثيرًا ما ينساق وراء خيالاته أمام لوحاته الخاصة، ويثريها بالتأملات والرموز، عندئذٍ، تنغلق الدائرة، ونعود من التصوير إلى الأدب بالمعنى الحرفي، وهو حال قصيدة «لعب بالألوان» التي قدمها «ا. إيسار» — في ٨ مارس ١٨٧٣م — إلى «رينسانس»، وإذا لم تكن «واتو» سوى تعداد لكل العناصر المتكررة الأثيرة لدى الرسام، فإن «أبدية دون جوان» تقدم لنا، باعتبارها لوحة مرئية في حلم — (لأن «النوم» — كما يقول: «دي إيسار» — «مصور غريب») — نوعًا من المؤلف الرمزي الذي نرى فيه «دون جوان» وحيدًا، مقيدًا، وسط عشاق متعانقين: «وحده دون جوان لم يكن محبوبًا»، كما يختتم الكاتب، وفي هذه الحالة الأخيرة، فإن قيمة اللوحة تستمد من قيمة المؤلف: فلا ينبغي أن ننسى أن «إشراقات» كانت — كما يقول «فيرلين» — «لوحات ملونة»، ولكن ما إن يجرفنا الإيحاء على الوصف، حتى نبتعد عن «اللوحة» البارناسية، التي تعاني — وعلينا الاعتراف بذلك — من ميل مبالغ فيه إلى الفن التشكيلي، واللون، والتصويرية، فكثيرًا ما أفرط البارناسيون في الاهتمام بالأسلوب على حساب الشعر.
والاتجاه الثاني، البالغ التمييز في جميع قصائد النثر هذه: هو — كما يقول «منديس» — الرغبة في إيجاد أنساق شكلية تمكن النثر من منافسة الشعر: مقاطع، ولازمات، وتكرارات، كل ذلك يستهدف وضع النثر في شكل، ومنحه إيقاعًا واضحًا تمامًا، ومعمارًا راسخًا، وعلينا هنا — مرة أخرى — أن نؤكد على تأثير الترجمات: فلم ينسَ البارناسيون أن مقطوعات «برتران»٢٨ كانت أناشيد غنائية نثرية حقيقية، وقد قرءُوا ترجمات لكثير من الأناشيد الغنائية الألمانية،٢٩ والأغاني الشعبية،٣٠ والقصائد الفارسية،٣١ وكل منها في مقاطع من النثر الموقع، وفضلًا عن ذلك، أفلم يترجم الكثيرون منهم الأغاني الشعبية، «جان كاسيللي» (الذي ترجم) أناشيد من إيطاليا،٣٢ و«منديس» الليدات الألمانية؟ ومرةً أخرى، نرى تجدد العملية التي تقود إلى قصيدة النثر عبر الترجمة، فإغراء الترجمات المستعارة لا يقاوم لدى شعراء عام ١٨٧٠م، مثلما كان لدى شعراء ما قبل الرومانتيكية عام ١٨٢٠م، فهي ترجمة مستعارة، تلك التي قدمها «شارل كرو» — إلى مجلة «رينسانس» — بعنوان «أغنية طريق آريا» في ٦ يوليو ١٨٧٣م:

على أحصنتنا نحمل الفتيات الجميلات لقبيلتنا الفخورة.

نسوق القطعان أمامنا، والحمل يرضع من النعجة وهو يجري، والعجل يتبع البقرة التي يسرع العبيد من خطاها الكسول بالمنخس …

وحيث نجد أنساقًا معروفة تمامًا، من التصويرية، والصياغات «البدائية»، وتواتر التعبيرات (مثل ذلك التعبير الفاتن، الذي سأرى فيه — عن طيب خاطر — أصل جملة من «إشراقات»:٣٣ «صخب الأنهار ورعشة الغابة») — التي تمنح مقطوعات «بارني» و«شاتوبريان» و«ميريميه» هيئة «الأغاني»، ترجمة مستعارة ﻟ «نشيد المحارب البدوي»،٣٤ تسعة مقاطع على الطريقة العربية، يستخدم فيها «لوي دي ليفرون» — ويسيء استخدام — التماثلية والتكرار، والصياغات التصويرية، لكن «منديس» — على الأرجح — هو الذي سيبدي أكبر قدر من البراعة في «ليدات من فرنسا»،٣٥ التي كتبها — بالتأكيد — تحت تأثير الليدات الألمانية التي ترجمها عام ١٨٦٧م وتقليدًا لها، وإذ يمتلك — هنا — حرية أكبر مما في الغنائية العاطفية، فإنه يحقق نجاحًا تقنيًّا ملحوظًا: وسواء استخدم موضوعات قديمة من الفولكلور الفرنسي (السرج المسافر، أبناء الملك كالان)، أو استخدم فكرةً شخصية، مرحة أو عاطفية، فإنه يستخدم — كأستاذ — اللازمات، والتكرارات، والمحارفة، ويضفي على نثره مظهرًا «وزنيًّا» متميزًا تمامًا، وبمقدورنا أن نطبع — في أبيات من خمسة أو عشرة أجزاء — «الشيطان في سان–جان لي نوف»:

في سان–جان لي نوف (يرعد الليل ويهب!)، الجرس الذي يعرج في قبة الجرس العرجاء يرقص ويصرخ، حسنًا! يا لها من رقصة صاخبة! بين كل هزة وأخرى (أيها الجرس، اهتز إذن!)، أريد أن أعب إبريقًا.

أليس دالًّا بالفعل أن هذه الليد، إضافة إلى التسع الأخريات، قد تم تلحينها موسيقيًّا؟ فلم يعد الأمر يتعلق هنا بقصائد، بل بأغانٍ حقيقية،٣٦ ونجد صعوبةً في أن نتحدث عن نثر، فيما يتعلق بهذه الأغاني (التي تبشر ببعض الأناشيد الغنائية لبول فور).
ونرى — على الفور — كيف أن مقطوعات كهذه قد فصلت طبقًا لنموذج وزني مسبق، وأننا نهوى ثانيةً إلى طغيان الأشكال المدركة مسبقًا، وهو نقدٌ يمكن أن نوجهه إلى غالبية هذه القصائد البارناسية، حتى تلك القصائد ذات الموضوعات الأكثر ذاتية والأشكال الأقل جمودًا: هكذا، سنرى «جوديت والتر» تقولب — بلا وعي — أفكارها الشعرية الخاصة على نمط القصائد الصينية الموجزة التي ترجمتها في «كتاب اليشب»، وتطبق — على موضوع نفسي تمامًا — نفس الإيجاز الذي حققه «لي–تاي بيه» أو «تو–فو» في وصف مناظرها الريفية في «نيسيان» (لارينسانس، ٨ يونيو ١٨٧٢م):

رغبةٌ حارقة تقضمني ليل نهار، في الفجر، وفي الغسق.

أهي الرغبة في الانتقام؟ في المجد؟ في الحب؟

لا أدري، لكني أرغب بجنون، بضيق أليم.

وسدى أبحث في مباهج الحياة كلها، في الأحقاد كلها، وفي كل الحماقات.

فهل ضاعت إذن الكلمات التي تعبر عن رغبتي؟ ألم يعد لموضوعها وجود؟

ربما أكون قد جئت بها من حياة سابقة، ونسيت السبب.

لكن الرغبة الظمأى ظلت قاسية وعمياء.

وينشأ عن ذلك نوع من الضيق لدى القارئ، الذي يظل لديه الانطباع بقراءة ترجمة.

وكافة هذه المقطوعات البارناسية تصلح لنفس النقد، فبإمكانها أن تشهد على براعة شكلية وتقنية كبييرة، لكن تنقصها «الضرورة» الشعرية، إنها قصائد «مترجمة» عن الأغاني الشعبية، بأكثر من كونها إبداعات أصيلة، فقصيدة النثر البارناسية تشبه — إلى حدٍّ ما — التحفة الفنية الموضوعة على الرف، أو أجزاء دقيقة من ساعة الحائط، وكما يكتب — عن حق — «ج. كان»، فإن «البارناسية — المزودة بهذا الشكل الخصب — قد استخلصت منه ألاعيب أنيقة وتسليات جميلة»،٣٧ فهل يرجع ذلك إلى أن البارناسيين كانوا أول من لم يروا في قصيدة النثر سوى لعبة إيقاعية؟ أم إلى أن الكتاب، الذين تحدثت عنهم، لم يكونوا أكثر من تقنيين مخلصين (عدا «كروم»)؟ كل هذا صحيح، لكن ينبغي أن نستخلص منه أن صيغة قصيدة النثر «الشكلية» أو «الفنية» تتحمل التفاهة على نحو باهر (للأسف): فذلك الذي سيكون عاجزًا — أيضًا — عن تقديم الإيحاء، والإيقاع، والإصاتة، في نثر حر تمامًا — مثل عجزه عن المعالجة البارعة للبحر السكندري — سيقسم العجز إلى مقاطع منتظمة، ويضاعف النوافذ المموهة، ويعتقد أنه يصنع من شيء تافه فكرة عميقة بتكرارها في لازمات، ونستطيع أن نرى — في قصيدة النثر البارناسية (وأيضًا، كي نكون منصفين، في قصائد «فييو» النثرية)٣٨ — نموذجًا لكافة مخاطر النظام الذي افتتحه «برتران»: إنها نفس مخاطر الفن الشكلي، التي عاثت أيضًا في نَظم الشعر وفي الموسيقى، ففي كل مرة لا يستجيب الهيكل الشكلي للتطور العضوي لجسد حي (فكرة شعرية أو موسيقية)، بل يكون مفروضًا على نحو قبلي، فإنه يخاطر إما ببتر هذا الجسد البالغ الثراء ليرده إلى أبعاد «سرير بروكست»، أو — عندما تكون الفكرة فقيرة وقصيرة — بالقيام ﺑ «الحشو» بوسائل مصطنعة تمامًا، وندرك لماذا ضجر الكتاب بسرعة من هذه الأطر الصارمة، وطالبوا «بودلير» بسرد شكل أكثر مرونة.

(٢) من البارناسية إلى الرمزية: هويسمان

سنلتقي — مع «هويسمان»، بالتحديد — بهذه الحالة / النمط لكاتب يتطور من «برتران» إلى «بودلير»، من الشكل الصارم إلى ذلك الأكثر حرية، بصورة متهتكة.

ويمكننا أن نضيف إلى إنتاج البارناسيين «علبة الملبس ذات التوابل» المنشورة عام ١٨٧٤م، فقصائد «هويسمان» — هي أيضًا — تكشف نزوعًا أكيدًا إلى التصويرية والأشكال المقطعية، لكن الفنان ذو منزلة أرقى، فهو يمتلك قريحةً وذاتيةً أكبر، وقد سبق أن أشرت إلى البُعد التصويري لبعض مقطوعات «علبة الملبس»،٣٩ كان «هويسمان» يستند إلى عدة فنانين تشكيليين من بين أسلافه الأنفاريين (نسبةً إلى منطقة «أنفير»)، بل سيكتب في النقد التشكيلي،٤٠ وسينشر عدة مقالات (وصفية أو شعرية) في «ميوزيه دي دو موند»، وفي «ريبوبليك دي ليتر»،٤١ تحت العنوان الدال «تخطيطات ورسوم مطبوعة بماء النار»، فمجموعة ألوانه، كما تكتب «ترود جيان»، «مضيئة وثرية بألف ظل، غنية وقاطعة، رقيقة وعنيفة، وذات تنوع مذهل»،٤٢ فهل ينبغي أن نذكر «الرنجة المدخنة» الشهيرة؟
رأسك، أيتها الرنجة، هي مجموعة ألوان الشموس الغاربة، أوكسيد النحاس القديم، درجة الذهبي الذي يسفع بشرات قرطبة، ظلال ألوان الصندل والزعفران بأوراق الخريف!٤٣
وبعض المقطوعات الفلمندية («حفل روبتر الشعبي» ﻟ «أدريان بروبيير») مدهشة بألوانها وحركتها، وبعض الشخصيات (السيد فرنسوا فييون) جديرة ﺑ «كاللو» … أو «برتران»، بواقعيتها التصويرية، و«هويسمان»، الذي كان معجبًا — بالتحديد — بالرسام٤٤ الكامن في «برتران»، سيعترف — فيما بعد — بدينه تجاهه: ففي عام ١٨٨٥م، كتب سيرة حياته تحت الاسم المستعار «ا. مونييه»، في نشرة «رجال اليوم»،٤٥ ليذكر أنه أخذ قصائد «برتران» و«بودلير» النثرية كنماذج له.
وعلى أية حال، فقد تفوق تأثير «برتران» في هذا الديوان الأول (الذي كُتب بين عامي ١٨٦٨م و١٨٧٤م، خلال وجود «هويسمان» بوزارة الداخلية)، وعندما يتفاخر «هويسمان» بأنه «قد غيَّر وجدد من شباب «النوع»، مستخدمًا حيلًا عجيبة، وشعرًا مرسلًا ذا لازمات، مستبقًا قصيدته ومتبعها بجملة إيقاعية، متكررة، غريبة، تمنحها — أحيانًا — نوعًا من اللازمة أو الرسالة المنفصلة، النهائية، مثلما في الأناشيد الغنائية ﻟ «فيون» أو «ديشان»،٤٦ يمكننا الاعتقاد بأنه يزور أصالة أنساق كهذه، أغلبها — بالنسبة لنا — معارف قديمة، وأغلبها — تقريبًا — متحققٌ لدى «برتران»،٤٧ وقد استعادها البارناسيون بلا تجديد كبير، بقدر حقيقة أن مجال هذه الأبحاث الشكلية محدود تمامًا، ويبدأ «هويسمان» — من جانبه، وينتهي — بنفس الجملة، «النشيد الغنائي على شرف معذبتي الحلوة»، «النشيد الغنائي اليرقاني»، «تنويع على نغمة معروفة»، دون أن يهتم كثيرًا — فيما يبدو — بمعرفة ما إذا كان معنى القصيدة يتطلب هذه العودة التي ستضفي الإحساس بالاستمرارية، حيث سيموت وينحل الحدث الوارد في القصيدة (قارن ﺑ «مساء على الماء» ﻟ «برتران)، إن لم تكن «العودة الأبدية للأشياء» محسوسة: وبهذا المعنى الأخير، فإن النسق المستخدم في «مقطع أخير» أكثر إثارة للاهتمام؛ إذ إن القصيدة تكرر نفسها — هنا — مثلما تفعل الحياة نفسها، ولنذكر، أخيرًا — فيما يتعلق باستخدام «الشعر المرسل»، و«المقطع الأخير» — قصيدة «النشيد الغنائي لشمعة الستة» (المنشورة في ٢ أغسطس ١٨٧٧م، في «لارتيست» في بروكسيل:)٤٨ إنها تتكون من ستة مقاطع ومقطع أخير، كلها متماثلة، وتنتهي بنفس البحر السكندري (الذي أؤكد عليه):

مقطع أخير

أيتها الأميرة، يا من تغنى آخرون بومضات الأقمار الفوسفورية، والشعلات الحمراء للمصابيح، والنيران الصفراء للغاز، إنك أنت وحدك من أحب، أنت وحدك من أريد تمجيدها، أنت إضاءة مثالية للوحات كبار الأساتذة، يا شَمعة الستة، أيتها الشمعة الذاوية!
والحق أن كافة هذه الجهود في اتجاه الإيقاع تظل بلا جدوى تمامًا: وربما لم يخطئ «ﻫ. باشلار» عندما رأى أن مؤلف «علبة الملبس» لم يُخلق أبدًا لقصيدة النثر — أي القصيدة «الفنية» — اللوحة الصغيرة للنوع: «في البدء كان عاجزًا عن أن يحصر نفسه، ثم — عدا استثناءات نادرة للغاية — لم يكن يمتلك الإحساس بالإيقاع … والواقع، ما من قصيدة نثر ذات قيمة بدون التركيز والانسجام الداخلي، ولا قيمة للدعم الذي تقدمه التصويرية الخارجية للمقاطع اللفظية الملونة»،٤٩ وعندما يترك «هويسمان» نفسه لينقاد وراء قريحته، وخشونته الفلمندية — (قارن ﺑ «كلودين») — فإنه يخرج من قصيدة النثر، وحتى «تدرجات الأحمر» لا تدين بالكثير إلى التقنية التي أبدعها «برتران»، والحق أن ثمة تأثيرًا آخر شديد الوضوح في «علبة الملبس»، سيصبح أكثر انتشارًا وفاعلية، لا على الموضوعات فحسب، ولكن — أيضًا — على شكل قصائد «هويسمان» النثرية نفسها: إنه تأثير «بودلير».
واقتداءً ببودلير، أراد «هويسمان» أن يصبح — هو أيضًا — رسام الحداثة، بالمعنيين اللذين حددهما سلفه الكبير، أولًا، باستغلال الركيزة المدينية والواقعية الشائعة في «سأم باريس»: وقد عبر «المقطع الأخير» في «علبة الملبس» عن بعد (كريه) في الحياة الباريسية، وفيما بعد، وبينما كان الكتاب الطبيعيون،٥٠ شأنهم شأن الرسامين مثل «ديجا» و«فوران» و«روفائيلي»،٥١ يبحثون عن موضوعاتهم وسط العمال، والغسالات، وبنات الشوارع، سينتج «هويسمان» — هو أيضًا — «تخطيطات باريسية» (١٨٨٠م)، وسيستمد من «الفولي بيرجير» — أو من معاقل شمال باريس — ديكورًا له، وسيتخذ نماذج له سائق الحافلة، وبائع الكستناء «المتجول»،٥٢ وسيتمكن، بتوفيق أكبر من الرسامين، من أن يسجل أيضًا ضوضاء الشارع وروائحه المتميزة (وقد أثارت الواقعية الشمية ﻟ «الذواقة» حربًا كلامية كبرى)،٥٣ فلدى «هويسمان» حواس مرهفة، وموهبة الملاحظة والرسم، ومفردات في ثراء مفردات «رابليه»، وبشكل خاص قريحة تمنح وصفه للتجمهرات الباريسية — أحيانًا — طابعًا شبه ملحمي، لكنه — مع كل هذا — يقدم، على الأغلب، وصفًا مبرقشًا لباريس، لا قصائد نثر، ويحدث أحيانًا أن ترقى هذه «الأشياء المرئية» إلى ما هو أكثر من مجرد التخطيطات البسيطة أو لوحات عن العادات: هذا عندما تسمو بها غنائية جديدة، ومعنًى أكثر رقيًّا للحداثة، يرفعانها إلى مستوى الشعر، وتكمن هنا وسيلة النجاح الشعرية الأخرى التي يستغلها «هويسمان»، دائمًا على إثر «بودلير»: فالحداثة لم تعد تكمن — هذه المرة — في مظاهر الحياة المدينية، بل في الحياة الداخلية للإنسان الحديث، بحساسيته المرضية، وحبه للنادر، والغريب، وبحثه القلق عن «شيء آخر»، كل ما تستطيع العثور عليه في أعماق انحرافات «دي إيسانت»،٥٤  ٥٥ وعندما ينجح «هويسمان» في تجنب عقبة الافتعال، أو التقليد المفرط في الوضوح لبودلير — (توضح «تشابهات»٥٦ — وبانتظامٍ زائد — نظرية التجاوبات) — فإنه يعثر على بعض من إلهاماته الرائعة في معنى الغريب والرائع اليومي: وخاصة في بعض القصائد التالية لعام ١٨٨٠م، الملحقة بالطبعة الثانية (١٨٨٦م)، حيث يغزو نثرية الحياة المدينية الحديثة الغموض، وقد حوله وأعاد خلقه خيال مرضي، وهي حالة «دامينز Damiens»،٥٧ كرؤيا رمزية رهيبة مُستمدة من رؤيا حقيقية، إنها حالة «الاستحواذ» التي تجعل هزيمة الروح واضحةً أمام النثر الأليم لإعلانات الجرائد.
لكن الرغبة في الهرب من الحياة الحقيقية تتنامى لدى «هويسمان»، وسيحلو له، وهو بصحبة «أوديلون رودون»،٥٨ أن يمضي على غير هدًى ويندفع في الحلم … بعيدًا عن عربدات التفاهة، وخلاعات الحماقة»،٥٩ وها هي الرؤى الغريبة لقصيدة «كابوس» — (الملحقة عام ١٨٨٦م ﺑ «تخطيطات باريسية») — المستوحاة من ألبوم «أوديلون رودون»، «أمير الأحلام الغامضة …»:٦٠ وجوه غامضة، مؤلمة أو مرعبة، ومشاهد طبيعية موحشة، وأزهار غريبة تتتالى، ترتبط الواحدة منها بالأخرى، لتقودنا إلى حلم على طريقة «لوتريامون»:
انبثق في البداية شكل مؤلم ومتعجرف من الظلمات، تخترقه هنا وهناك أشعة النهار: رأس مجوسي الكلدانيين، ملك الآشوريين، سنحاريب العجوز الذي بُعث من الموت، وهو ينظر حزينًا، ومتأملًا عبر نهر الأعمار وهو ينساب …٦١
وجه سرعان ما يحل محله مشهد طبيعي مفجع، مستنقع آسن «تنبثق منه فجأة الساق المسخ لوردة مستحيلة» ينفجر أحد براعمها ويتكور «إلى رأس شاحب راح يتأرجح بصمت في ليل المياه»،٦٢ ويكمل «هويسمان» لوحات «رودون» بأن يمنحها — من خلال «الإحلال التدريجي»، القريب من التقنية السينمائية — عنصر الحركة الذي يجعلها سيريالية، تقريبًا، ونراه هنا يعثر في الحلم على طريق جديد، سيتبعه في مؤلفه التالي، رواية «في المرسى»، حيث يدرج ثلاثة «أحلام»، ثلاث رؤى شبحية،٦٣ ومما هو دال أن «لافوج»، مجلة الرمزية الناشئة، ستنشر مقطعًا من الحلم الأول، صورة «إستير»:
ولنقرأ بداية هذا المقطع، وسيذهلنا شكله «الرمزي» (المفردات وتقطيع الجملة):
العنق الطليق ظل عاريًا، بلا زينة ولا حجر كريم، لكن من الكتفين إلى العقبين، حددها ثوب محبوك، وهو يضم الفقاعتين الوجلتين لثدييها، شاحذًا طرفيهما القصيرين، كاشفًا مراوغات الجذع المتماوجة، متهملًا عند وقفات جانبي الحوض، زاحفًا على الانحناءة الطفيفة للبطن، منسابًا على امتداد الساقين اللتين يوضحهما هذا المشد ويضمهما ثوب من زنبق بنفسجي مائل للزرقة، منقوش بالعينيات مثل ذيل طاوس، مرقط بعيون حدقاتها من السفير مركبة في برقوق من الساتان الفضي.٦٤
لقد تغير الشكل نفسه — فعلًا — لدى «هويسمان»، بقدر ما ازداد تأثير «بودلير» عليه: فقصائد عام ١٨٨٦م بعيدة تمامًا عن القصائد القصيرة ذات المقاطع، المبنية على نمط «جاسبار الليلي»، فلم يعد «هويسمان» يبالي — من الآن فصاعدًا — بالقصيدة ذات الشكل الثابت، ويكف عن كبح حيويته الطبيعية ضمن حدود صارمة، إنه يستسلم أكثر فأكثر وبإفراط (انظر «تشابهات») لفيضان لفظي حقيقي، ونشعر — حقًّا — أن الإطار الضيق، بالضرورة، لقصيدة النثر، لن يكفيه عما قريب: وبالفعل، فلن يكتب «هويسمان» — بعد «في المرسى» — إلا الروايات، ومع ذلك، فإن «دي إيسانت»، بطل «بالعكس» (١٨٨٤م)، سيصبح — في قصيدة النثر — «النسغ الملموس، أوزمازوم الأدب، الوقود الأساسي للفن»،٦٥ وهو ما يرجع — بالتحديد — إلى اقتضابها وتكثيفها، ومن المثير أن نرى «هويسمان» يؤلف نظريةً لهذه «الرواية المكثفة في بضع جمل»، التي كانت شديدة البُعد عن مزاجه:
عندئذٍ، ستصبح الكلمات المنتقاة دائمة التغير إلى درجة كبيرة، إلى حد أنها ستنوب عن كافة الكلمات الأخرى، فالصفة الموضوعة بطريقة بارعة وقاطعة لا يمكن معها تغيير مكانها شرعيًّا، سوف تفتح عدة احتمالات قد لا يمكن للقارئ أن يحلم بها، طوال أسابيع بكاملها، لمعناها المحدد والمتعدد في آن، الذي قد يرصد الحاضر، وقد يعيد بناء الماضي، وقد يصبح مستقبل أرواح الشخصيات، التي تتجلى بأضواء هذه الصفة الفريدة.٦٦
هذه الرواية المكثفة، و«لذة الطعم هذه، المطورة والمختصرة في قطرة»، يعتقد «هويسمان» أنه سيجدهما في قصائد «بودلير» و«مالارميه» النثرية:٦٧ فهما — بالنسبة له — سيدا النوع.
والخلاصة أن «هويسمان» — الذي يقع (حسب التسلسل التاريخي) بين البارناسية والرمزية — هو المفصل بين قصيدة النثر البارناسية، المستوحاة من «ألويزيوس برتران»، وقصيدة النثر الرمزية، المستلهمة من «بودلير»؛ ولأنه أكثر غزارة من أن يصل إلى كثافة التأثير الناتجة من إيجاز الأول، وليس شاعرًا بما يكفي للإيحاء — مثل «بودلير» — عبر الإيقاع والغنائية المتضمنتين في الجملة، فإنه استشف — على الأقل — إمكانيات قصيدة النثر ﮐ «حساء كاب»٦٨ أدبي، وكشكل حديث أساسًا، لكننا سنرى أن تأثير «بودلير» سيصبح واضحًا على قصيدة النثر بدءًا مما قبل عام ١٨٨٠م، وسيساهم — بشكل خاص — في إعادة البحث عن شكل أكثر سلاسة وموسيقية.

(٣) في أعقاب بودلير

المحاولات الأولى لجعل الشكل مرنًا
شارل كرو. فييه دي ليل–آدام
يمكننا أن نرى في تمهيد «سأم باريس» — وهو ما سبق أن قلته — نقطة انطلاق لتطور سيؤدي إلى الشعر الحر، وتأثير «بودلير» — الذي بدأ يتضح منذ عام ١٨٦٢م (على «مالارميه»، على سبيل المثال) بعد عمليات النشر الأولى لقصائد النثر في «لابريس» — سيأخذ في التزايد بعد نشر «سأم باريس»، في أعقاب وفاته عام ١٨٦٩م، وسيذكرنا «ر. دي سوزا» — عام ١٩١٢م — بأن تعديلات الرمزيين التقنية قد قادتها تمامًا هذه السطور: «من منا لم يحلم، في أيام طموحه، بمعجزة نثر شعري، موسيقى بلا إيقاع ولا قافية …»،٦٩ وعلى أية حال، فإن البحث عن شكل أكثر موسيقية٧٠ كان سيقود الشعر إلى قرب قصيدة النثر أولًا، في حقبة لم يكن التفكير في تحويل تقنية الشعر قد تم بعد.
ففيرلين — على سبيل المثال — البارناسي في بداياته كما نعلم، الذي لن يجد صيغته «المرنة» في نظم الشعر إلا حوالي عام ١٨٧٣م، كان من أوائل من ساروا في طريق قصيدة النثر البودليرية، واعتبارًا من عام ١٨٦٧م، يقدم إلى «روفي دي ليتر إيه ديزار» قصيدة «أبدًا مرة أخرى» التي تصف بلهجة الاعتراف «الحانة المتواضعة للأيام الغابرة»،٧١ هذه المقطوعة المكتوبة بانفعال وبساطة، سيتكرر نشرها في مجلات متعددة، قبل طبعها في «مذكرات أرمل» عام ١٨٨٦م، تحت عنوان «في الريف»، وترجع — إلى عام ١٨٦٧م أيضًا — قصيدتا «العمود» و«لحن موجع»،٧٢ أكثر مقطوعات «فيرلين» إتقانًا، وربما أكثر بودليرية: فأرابيسك الجملة، واختيار الصور، والميل إلى الكائنات والأشياء في زوالها، كل ذلك يذكِّر ببودلير، في هذا الاستحضار ﻟ «بعد ظهيرة سبتمبرية، دافئة وحزينة، تنشر كآبتها الصفراء على الفتور الأصهب لمشهد طبيعي يذوي من النضج»، ومن «تفاهة» خريفية:
ورغم هذا، فهي تمضي، الفاتنة الهزيلة، حاملةً قلبي الضعيف وفكري المتواطئ في طيات مئزرها الطويل عبر رائحة الفواكه الناضجة والأزهار المحتضرة.٧٣
وتكشف لنا القصائد النثرية — المنشورة عام ١٨٧٠م في «لابارودي»٧٤ — بعدًا آخر للاستلهام البودليري لدى «فيرلين»: إنه الاستلهام الباريسي، حلم يقظة الجوال الهائم في مدينة كبيرة، الذي يكشف الأبعاد المحزنة أو الكريهة، المضحكة أو الرهيبة، على نحو غامض، وصف لعرض أدوات الوشم، حلم يقظة عن «آذان الفئران ذات السحنات الشاحبة»، التي «ترتجف في الريح القاسية للمدن»،٧٥ على قبعة العمال، لوحة مأساوية لعذاب رجل هستيري، «مقزز بغموض»،٧٦ حتى الموت — عندما ننظر، إلى دفن، في قصيدة «عبر المفترق» — يتخذ مظهرًا غير اعتيادي، غريب وجروتيسك، في آن، وليس لكل هذه اللوحات — بالتأكيد — المعنى العميق، والقوة التهكمية، أو الغنائية، التي يمنحها لها «بودلير» أحيانًا: لكنه نفس الشريان المديني والحديث الذي يستغله «فيرلين» بأن يُعلق — بدوره — «فكره الرابسودي على كل واقعة في تسكعه»،٧٧ وبعد الكوميونة ووصول «رامبو»، سينضب شريان «فيرلين» هذا: ولن يعود إلى قصيدة النثر إلا بعد عام ١٨٨٢م.

وانطلاقًا من عام ١٨٦٧م — كما سبق وقلت — نشرت «روفي دي ليتر إيه ديزار» قصيدة «أبدًا مرة أخرى»: إذ كان من الممكن أن نقرأ — كما سنرى — حتى في المجلات ذات النزعات «البارناسية» — التي تحدثت عنها من قبل — قصائد ذات شكل أكثر مرونة وإلهام أكثر موضوعية من الأناشيد الغنائية أو الأغاني ذات المقاطع، ولن أذكر قصيدة «بعيدًا! … بعيدًا جدًّا» ﻟ «ر. كاز» — المنشورة في «رينسانس»، في ٢٨ سبتمبر ١٨٧٢م — إلا لأنها معارضة للموضوعات البودليرية: العنوان نفسه مستمدٌّ من عنوان قصيدة «بعيدًا جدًّا عن هنا» (الواردة في «أزهار الشر»).

والأكثر إثارة للاهتمام تلك «النثريتان» اللتان قدمهما «فوران» إلى «رينسانس» عام ١٨٧٠م، فهما تكشفان — رغم ما يقوله «م. ب. بويي» — تأثره ببودلير أكثر من تأثره برامبو،٧٨ ويتعلق الأمر — هنا، أيضًا — ﺑ «لوحات باريسية» (نعلم ما الذي سيستفيده فيما بعد المصور «فوران» من باريس) النثرية الأولى، «رقصة الدمى المتحركة»، أميل إلى التصويرية والفانتازية، والثانية، «سيدات الصرافة»، أميل إلى الواقعية والانفعالية، يا لها من مدينة رائعة! — كما يقول «فوران» عن باريس — موحية وغنية بالغموض والمشاهد المرعبة!»،٧٩ وإذا ما كان «فوران» قد وجد في مشهد واجهة محل اللعب، وفي صوت الأرغن النقال — في قصيدة «رقصة الدمى المتحركة» — مادة لمؤثر فانتازي يذكرنا ﺑ «جاسبار الليلي»، فإن المقطوعة الثانية تذكرنا بقصيدة «المهرج العجوز» لبودلير أو «عيون الفقراء»: فبعد وصف واقعي للأجواء الضبابية والسوقية للمقاهي الباريسية — («يشربون، ويصخبون، ويدخنون»)٨٠ — تنتهي القصيدة، مثلما يحدث كثيرًا في قصائد «بودلير» النثرية — بنوع من الدفقة الغنائية:

أيتها العناية الإلهية! ألديك إذن فردوس خاص لسيدات الصرافة الفقيرات في مطاعم التسعة وعشرين فلسًا للوجبة، ومحلات الألبان ومعامل الجعة الصاخبة! هل ستعطيهن، يا إلهنا العادل، زينة وعشاقًا، وتحولهن إلى أنيقات وعاشقات مستهلكات؟

فلنصل من أجلهن!

وسنلاحظ — بالإضافة إلى ذلك — جهد «فوران» في تكييف نثره «مع الحركات الغنائية للروح، وتموجات أحلام اليقظة، وانتفاضات الوعي»: في هذه الصلاة الموجهة للعناية الإلهية، تترجم الحركة الغنائية بإيقاع رحب، شديد الوضوح، يتسع في النهاية بالجملة الاعتراضية («هل ستعطيهن، يا إلهنا العادل»)، والقطع «المتعدي» («إلى أنيقاتٍ وعاشقات مستهلكات»)،٨١ وفي نهاية «رقصة الدمى المتحركة»، تفتر الجملة في البداية، ثم تشكل — متقطعة — إيقاعًا متوافقًا مع الرنين الفاتر للأرغن النقال، ثم مع السقطة المفاجئة للدمى الخشبية:

انطفأ صوت الأرغن تاركًا في الهواء سحابة طويلة مرحة ونائحة سرعان ما ماتت … والدمى الخشبية الصغيرة، المعلقة في خيوطٍ من حديد، – في حزمات – في أكداس، متشابكة ومنتفخة من الرطوبة، سقطت ساكنة بلا حراك.

لكن ربما ما هو أكثر أهمية أن نذكر — في النهاية — أن كل المجموعة، التي يختمر فيها الاضطراب الثوري، حوالي عام ١٨٧٣م، ورفض الامتثالية، وكراهية كل ما هو برجوازي، والتمرد ضد الأشكال الشعرية الكلاسيكية — (أي «فيرلين» و«رامبو» و«فوران» و«شارل كرو»، الذين كانوا يؤلفون — وقتئذٍ — المعارضات الوقحة ﻟ «الألبوم زوتيك»)٨٢ — قد وجدت نفسها محمولة في تيار واحد نحو قصيدة النثر، فنجاح «رامبو» الباهر قد طوى بالنسيان — إلى حدٍّ ما — المحاولات التي قام بها أصدقاؤه في نفس الاتجاه بحثًا عن صيغة شعرية جديدة، لكن علينا أن نذكر — رغم هذا — أنه منذ عام ١٨٧٢م، نشرت «رينسانس» (أيضًا) ثلاث قصائد بودليرية للغاية وشخصية تمامًا لشارل كرو: «الأثاث» و«غزلية» و«مسلية»،٨٣ سيتم جمعها — عام ١٨٧٣م — في فانتازيات نثرية تختم «صندوق مزخرف من الصندل».

(٣-١) شارل كرو

والفنان — هذه المرة — يستحق الاهتمام والتكفير عما لحق به: فهو — مثلما يلاحظ «إرنست رينو» — قد «حقق الشهرة دون أن يكف عن أن يكون مجهولًا»،٨٤ فشارل كرو هو — رغم كل شيء — أكثر من مجرد مخترع الفونوجراف والمونولوج الكوميدي: فكشاعر عظيم، يتجلى هذا «البارناسي الذي مسته نعمة الرمزية»٨٥ فنانًا تلقائيًّا وبارعًا في آن، وتبشر اجتراءاته الإيقاعية بفيرلين،٨٦ وهو — كشاعر نثر — يحيلنا أحيانًا إلى «بودلير»، وأحيانًا إلى «رامبو»، دون أن يفقد أصالته الخاصة به، وعمله «فانتازيا نثرية» هو — كما يقول «موريس ساييه»٨٧ — «الجزء المجهول بشكل مخزٍ من إنتاجه، وربما الأهم»، ويمكن القول إن هذه القصائد الثماني — (سبع إذا ما استبعدنا «غزلية»، المترجمة عن «مختارات من الليدي هاميلتون») — قد جددت أفق قصيدة النثر.
ونجد — لدى «كرو» — كثيرًا من الموضوعات التي تذكرنا ﺑ «أزهار الشر» أو «سأم باريس»: الصراع بين الجسد والروح (مسلية)، واستدعاءات مدينية وغسقية (الساعة الباردة)، وهو يتغنى، مثل «بودلير»، بنشوة العطور،٨٨ وخصلات الشعر النسائية،٨٩ و«شفافيات الليل»،٩٠ إلا أن هذه الموضوعات معالجة بطريقة شخصية للغاية: كيف نعثر — على سبيل المثال — على صرخة بودلير «أيها الليل! أيتها الظلمات المنعشة!»،٩١ في هذا النوع من الهلع، والذعر الفيزيقي الذي توحي به — إلى «كرو» — «الساعة الباردة» لمنتصف الليل:

في هذه اللحظة نكون وحيدين في منزلنا، بلا نوم، إنه الذعر، يبدو أن ملاك الموت يحوم على الناس، مستغلًّا نعاسهم القاسي في اختيار فريسته وقتما لا يراود أحدًا الشك.

آه! حقًّا، في هذه الساعة، قد نختنق، قد نتحشرج، وقد نشعر بالقلب يتراجع، والدم يفتر، يبهت، ويصعد في الحلق، في تشنج أخير، قد لا يمكن لأحد سماعه، ولا يريد الخروج من نوم ثقيل بلا أحلام تمنع الأرضيين من الشعور بالساعة الباردة.٩٢
«الأرضيون»، لا «الناس»، أو «الفانون»: هذه الكلمة وحدها تشبه توقيع شاعر «سوناتا فلكية»،٩٣ فهو يمنح اللوحة — (خفية) — خلفية كوكبية.
وبالمقابل، فإن «مسلية» — التي لا تدخلنا كثيرًا في أحلام اليقظة الداخلية للشاعر — إثبات لافت للنظر للبراعة الشكلية، فاستعادة التعبيرات، والتنويعات، وتشابك الموضوعات، يستخدمها «كرو» بمهارة وحساسية موسيقية بشكل خاص،٩٤ يتجاوز كثيرًا المحاولات البارناسية، وسنلاحظ — على نحو خاص — كيف أن النعوت والصور يثري ويحدد بعضها البعض من خلال استعاداتهم المتعددة طبقًا لتطور الحدث، مثلما يمكن تنويع وإثراء لازمة موسيقية، والريشة، التي تنزلق على ورقة الشاعر «بصيحات السنونو»، في ختام القصيدة، عندما يبدو الشاعر مستعدًّا للاستسلام لدوامة الأحاسيس، تستأنف «طيرانها، صارخة مثل السنونو الذي يحلق فوق بحيرة ساكنة، قبل العاصفة»، وتستدعي المسلية — دائمًا — بطريقة ملموسة وإيحائية أكثر: «جميلة وبيضاء» في البدء، لتصبح «بيضاء وعارية»، ثم «جميلة وبيضاء وعارية»، ولن يرى الشاعر فيها — في الختام — سوى «هذا الجسد الجميل الواهن، الفاتر، الأبيض والناعم».
والحق إن تكوينًا كهذا ينطوي — دائمًا — على شيءٍ ما مصطنع، ونجاح «كرو» — هنا — يبدو لي، بالأساس، شكليًّا، وعلى النقيض، ففي قصيدة «الأثاث» — وهي مقطوعة استوحاها «شارل كرو» من مكتب صغير كان ملكًا لفيرلين من زواجه (القصيدة مهداة إلى السيدة «موتيه دي فلورفيل»، حماة «فيرلين»)٩٥ — نجد مؤثرات «الاستعادة» أكثر حنكة كأنها مستترة عن عمد: وينبغي الانتباه من أجل العثور — في نهاية المقطوعة — على كلمات أو أفكار البداية، وكل شيء — فضلًا عن ذلك — موجود في هذه المطقوعة الفاتنة، الرصينة، الساخرة برقة، مع أريج خفيف من القرن الثامن عشر: إنها فانتازيا راجعها وصححها «واتو»، وعلى أية حال، فهذا الحفل «الفضائي»٩٦ يدور في عالمٍ غير واقعي، «عالم بلا مادة»، كما يقول «كرو»،٩٧ عالم ميكروسكوبي:
على الحوائط الخشبية الصقيلة، تضيء الثريات المعلقة دون أن نعرف كيف، وفي منتصف الصالة، معلقة في سقف بلا وجود، تتألق بخفةٍ مثقلة بشموع وردية، سميكة وطويلة مثل قرون الحلزون، وفي المدفآت المباغتة، تتوهج النيران مثل ديدان مضيئة.٩٨
عالم هارب، كل شيء فيه وهمي: «قبلات حب متوهمة»،٩٩ «ابتسامات بلا أفكار»، حيث لا يمكن للمشاعر إلا أن تكون سطحية: «… الزهور الذابلة في الصدريات مطلوبة وممنوحة كدلالة على اللامبالاة المتبادلة»١٠٠ حفل أثيري، ينبثق من لعبة مرايا: فنحن نرى «شارل كرو» هنا يفتح — على اللامرئي والخرافي — «عينًا متمرسة بشكل خاص، مدققة وخاطفة».١٠١
لكنه — في قصائده «عن ثلاثة رسوم بالحفر المائي» لشقيقه «هنري كرو» — يتبدى، حقًّا، رائدًا للغريب الحديث: ففي قصيدة «فزع»، هذا الحلم الغريب الخاطف، مثلما في «زهو تحت مائي»، حيث يترابط العالم الأرضي وعالم البحار بتشابهات خادعة، أو في هذه القصيدة المدهشة «سفينة–بيانو»، التي تبشر بالإبداعات المركبة للسيريالية، نشعر بقصدية مزج الخيالي بالواقعي، وبإيحاء العقل الإنساني في «محيط الفانتازيا»،١٠٢ وكثيرًا ما تمت المقارنات بين «كرو» و«رامبو»، ليس فقط لأن كليهما يؤثران الموضوعات المرئية («إشراقات»، «صور حفر مائي») والحيوية،١٠٣ لكن — أيضًا — لأن لغتهما تقدم صورًا، واختصارات لامعة، يتشابه صداها — داخلنا — بشكل غريب، ويقول «إ. راينو» إن «رامبو قد طابت له جمل مثل هذه، تبنئ باﻟ «إشراقات»: «تمر حورية البحر وردية شقراء، مع حاشيتها، في اخضرارٍ مزرق بعيد تحت مياه بحر الجنوب»، أو: «تشير السيمفونية إلى الطريق إلى المجذفين ونوتي الإشارة»،١٠٤ وهنا يطرح السؤال حول العلاقات بين «رامبو» و«شارل كرو»، هل تأثر «كرو» برامبو — والعكس؟ — نعلم أن الشاعر الباريسي قد استضاف، لفترة، الشاعر الأَردنِّي:

في عام ١٨٧١م، كان يذهب، مع «فيرلين»، لاصطحاب «آرثر رامبو» من محطة القطار، عندما وصل إلى باريس من شارلفيل، وقد استضاف، فيما بعد — في معمله — الطفل الرهيب والعبقري الذي شكره بطريقته، بأن حطم عدة قوارير اختبار ومقطرات، وخلط — كيفما اتفق — محتويات قنينات المواد الكيماوية ليرى ما الذي سيحدث …

مثلما يحكي «جي–شارل كرو»،١٠٥ ولم يكن «رامبو» قد كتب — في هذه الفترة — سوى أشعاره الأولى و«القارب السكران»: وما من شيء يسمح بالاعتقاد أنه قد بدأ «إشراقات» قبل عام ١٨٧٢م، لقد قرأ، خلال إقامته في باريس،١٠٦ أشعار «كرو» المنشورة في «لارتيست»،١٠٧ والنثريات المنشورة في «رينسانس»،١٠٨ وربما المخطوطات الأخرى ﻟ «فانتازيات»: ألا يحتمل أن يكون قد تأثر بهذه الكتابات المكثفة، وهذه الانغماسات في الحلم، التي تمنح نصًّا مثل «فزع» نبرته الخاصة؟

في منتصف الليل، حلم، محطة قطار، موظفون يتخذون سمات قبلانية على قبعاتهم الإدارية، عربات قطار ذات ممر مضيء محملة بالسيدات «جين» من الحديد المطروق، النقالات الحديدية تتدحرج بطرود يرصونها في عربات القطار.

صوت نائب الرئيس يصرخ: عقل السيد إيجيتور في اتجاه القمر! يأتي عامل يدوي ويلصق بطاقة على الطرح الخاص بسيدة «جين» شبيهة بسيدات عربات القطار ذات الممر المضيء، وبعد الوزن في الميزان القباني، يتم الانطلاق، وتدوي طلقة صفارة الرحيل، مديدة وباعثة على الدوار.

يقظةٌ مفاجئة، تنتهي طلقة الصفارة بمواء قط المزراب، يندفع السيد إيجيتور، يحطم الزجاج، ويغمر نظرته في الأزرق الداكن حيث يحوم السطح الماكر للقمر.١٠٩

فإن تعثر «إشراقات» على نقطة انطلاقها في «فانتازيات نثرية»، يا له من ثأر لمؤلف «صندوق مزخرف من الصندل»!

وأخيرًا، فكلاهما — «رامبو» و«كرو» — قد لجأ إلى المخدرات لتحقيق هذا اﻟ «تشويش لكل الحواس»، الذي يتحدث عنه «خطاب الرائي»، ففي «أوتيل دي اترانجيه» — بالتحديد — حيث كانت تجتمع جماعة «ألبوم زوتيك»، عثر «دلاهاي» — في أحد أيام نوفمبر ١٨٧١م — على «رامبو» نائمًا من تأثير الحشيش،١١٠ و«كرو» — من ناحيته — يبحث عن الملذات والهذيانات في:
التبغ، والحشيش، والأفيون، والسموم الساحرة.١١١
وهو يصف لنا — في قصيدة «ركن اللوحة» — «أثر الحشيش»،١١٢ وربما يعود الفضل إلى الفراديس الاصطناعية — جزئيًّا — في طابع الهلوسة الذي يميز «رسوم بالحفر المائي»، وبعضًا من «إشراقات» رامبو …
فالتبغ، والكحول، والمخدرات، تقتضي ثمنًا باهظًا للنشوات التي يتم الحصول عليها: فقد مات «كرو» وهو في السادسة والأربعين، مستهلكًا قبل الأوان، وقد شعر — مثل «بودلير» — ﺑ «ريح جناح الغباء»:١١٣ ففي آخر «فانتازيا نثرية» له بعنوان «فتور»، يصرح يائسًا:
النشوات، واللحظات التي استطعت فيها القبض على العالم بيدي الملكية، كانت قصيرة ونادرة للغاية، تقريبًا في نفس ندرة فترات التفكير الطبيعي بالنسبة لي، فأنا غالبًا عاجز، أنا مجنون، وهو ما أخفيه عن نفسي الظاهرة تحت الثروات المقتنصة في الساعات الطيبة.١١٤
والحقيقة أن الأمر لم يعد يتعلق — هنا — ﺑ «فانتازيا»: فقصيدة النثر هذه — (الوحيدة التي تتميز بالغنائية) — هي صرخة ضيق أليم لكائن مهدد، ينازع الموت على زمن كتابة مؤلفه، لكن دراما الرجل الذي يترصده الموت، أو الجنون، تزدوج بأخرى: دراما الرجل الذي يرصده المجتمع، و«الأرضيون»، والذي يشعر — رغم يأسه من الحياة «وحيدًا بلا شمس بين جدران الحقد» — أن جهوده نفسها لتبرير نفسه أمام الناس لا تؤدي إلا إلى رصده ﻟ «جنون المهرولين الهائجين بالأسفل»،١١٥ «ذاويًا، مدانًا، موصومًا بأنه شاعر»،١١٦ فإنه لم يمت فحسب من جراء شطحاته عام ١٨٨٨م، بل أيضًا — كما يقول شقيقه «أنطون كرو» — «من الظلم الذي تعرض له طويلًا، ومن اللامبالاة التي قابلها في كل مكان، ومن حقد الخونة الحاسدين والجبناء الأغبياء الذي تنبأ به، ومن النقمة الرهيبة للصراخ في الصحراء …»،١١٧ وبعد أسماء «برتران» و«لوتريامون» و«رامبو»، جاء ليسجل اسمه في القائمة «السوداء» لقصيدة النثر، التي تمثل — في نفس الوقت — قائمة المجددين العباقرة.
وبعد وفاته، جمعت قصائده الأخيرة ونشرت — عام ١٩٠٨م — تحت عنوان «عقد من المخالب»، وفي هذا الديوان، تبرز نثريتان، تنتمي الأولى — «أغنية أجمل النساء» — إلى البلاغة البارناسية، بمؤثرات اللازمة، وجلال شكلها («أنا جميلة وقوية، لقد ولدت بلا ألم وظل شكلي سليمًا وناعمًا»)،١١٨ والثانية — «الحصاة التي ماتت عشقًا»، «حكاية سقطت من القمر» — تمثل بشكل جيد، مثلما يقول «م. ساييه»، «العهد الداعر للفيزياء الرديئة»،١١٩ ثمة — حقًّا — في هذه الصفحة القصيرة، نوعٌ من التجسيم١٢٠ الساخر ينبئ ﺑ «جاري».
ومن يتأمل أعمال «كرو»، تفرض عليه هذه الملحوظة: فرغم تنوعها الكبير — (وهذا التنوع هو — بلا شك — مظهر ﻟ «عدم الثبات» الذي منع «كرو» من الذهاب في العمق، سواء فيما يتعلق بأعماله الشعرية أو أبحاثه العلمية) — تظل أعماله، النثرية أو المنظومة، موسومة دائمًا — رغم هذا — بطابعٍ شخصي، لكن هذه الشخصية تتأبى على أية محاولة للتصنيف، فالتعامل مع «كرو» — باعتباره «فانتازيا»، مثلما فعل «بان»١٢١ — ليس كافيًا: فرغم رصانته، وسخريته الخفيفة، يتخطى «كرو» الفانتازيا البسيطة عندما يقودنا خارج المظاهر الرئية، والتصنيفات المنطقية، «حيث لم تصل إليه أية رائحة أرضية»،١٢٢ وأحلام يقظته، كما سبق أن قلت، تنطوي على شيءٍ ما فلكي، وهو ما يقودنا إلى نتيجة مزدوجة: الأولى، هي أننا لا ينبغي أن نندهش من أن السيرياليين — منذ فترة «البيان الأول» (عام ١٩٢٣م) — قد اعتبروا «كرو» واحدًا منهم:١٢٣ لقد أخذوا بطريقته الذهنية الميتافيزيقية والعلمية، هم الذين لم يروا في الشعر هدفًا في ذاته، بل وسيلةً لاختراق الغموض الكوني، ويكتب «بريتون» عن «شارل كرو»: «إن وحدة نزعته، كشاعر وكعالم، تكمن — بالنسبة له — في أنه سعى دائمًا إلى أن ينتزع من الطبيعة جزءًا من أسرارها»،١٢٤ وهكذا، مثل «رامبو»، ولأسبابٍ مشابهة، وجد «كرو» نفسه مصنفًا ضمن أنبياء السيريالية.
ومثل «رامبو» أيضًا — وهذه النتيجة الثانية تخص موضوعي بشكل مباشر — وجد «كرو» نفسه مضطرًّا إلى «إيجاد لغة»، فأبحاثه العروضية والإيقاعية، شأنها شأن تجاربه العلمية، إنما هي محاولات لاقتحام باب المجهول، وهو يجرب كل المفاتيح — كافة الأشكال الإيقاعية: مختلف تراكيب المقاطع، الأشعار الحرة، والمسجوعة، ومختلف صياغات قصيدة النثر، بمقاطع أو بدونها، وصفية، وغنائية وفانتازية، وإن لم يكن قد عثر — عبر تجارب كهذه — على شكل نهائي لقصيدة النثر، إلا أنه تلقى — أحيانًا — بعض الإشارات، والإلهامات اللامعة المتعلقة بقدرة الكلمات، وترابط الأحاسيس (الصوت واللون في «سفينة–بيانو»)، وقيمة إيقاع نثر معين (قارن بالجمل الموجزة، وأسلوب اﻟ «ملاحظات» في قصيدة «فزع»)، وفي الشعر، كما في الفيزياء والكيمياء، تبدَّى فيه مزاج المخترع، الذي يفتح — هنا وهناك — طريقًا جديدًا، ثم ينتقل إلى شيء آخر، وعلى من سيأتون بعده أن يستفيدوا من فتوحاته! «فليستفد مما سأقوله من يرغبون في البحث ويقدرون عليه»، على ما كتب في «الخيمياء الحديثة» حول تركيبة الأحجار الكريمة:١٢٥ وكان بمقدوره إسداء هذه النصيحة إلى الباحثين القادمين، لا في حديثه عن الماس والياقوت فحسب، بل — أيضًا — بصدد «الخيمياء الحديثة» للغة.

(٣-٢) المجلات الشابة ومالارميه

لم تكن ساعة التحولات الشعرية والتجريب في اللغة قد دقت بعد: وهو ما يثبته عدم نجاح قصيدة «ما قبل الأخيرة» (الأكثر شهرة تحت العنوان النهائي «شيطان التماثل»)، التي نشرها — عام ١٨٧٤م في «روفي دي موند نوفو» — «شارل كرو»، الذي أصبح، من بين تحولاته المتعاقبة، مديرًا للمجلة: وقد حكى «ج. كان» بأي سيلٍ من الضحكات استقبلت قصيدة «مالارميه» النثرية، وكيف أنها — في فترة الرمزية أيضًا — اعتبرت «ما قبل الأخيرة الشهيرة هذه» «أنها ليست أفضل ما لا يمكن فهمه»،١٢٦ ولا شك أن قراء «روفي دي موند نوفو» قد ابتهجوا أكثر بقراءة «يو–تس»، وهي فانتازيا بلا عواقب من تأليف «كرو» نفسه، أو «ثلاث قصائد نثرية» التي نشر فيها «آشيل–توبيه–بزييه» قريحته الغنائية أو الأخلاقية، في مقاطع نثرية متساوية دائمًا.
ولم يمنع هذا الفشل «كاتول منديس» من أن يضع في فهرس العدد الأول من «ريبوبليك دي ليتر»،١٢٧ في ٢٠ ديسمبر ١٨٧٥م، اسم «مالارميه» بجوار الأسماء البارناسية الكبيرة، «ليكونت دي ليل» و«ديركس» و«كلاديل» و«مينار» و«ريشوبان»: وقد نشر له — بالإضافة إلى «شكوى الخريف» و«ارتعاشات الشتاء»، في عنوانيهما النهائيين — نثريتين جديدتين: «ظاهرة مستقبلية»، و«مشهد مقطوع»، اللتين أثارت الدعابات بدوريهما،١٢٨ ولم تكن هذه سوى نذر سوء الفهم المضحك الذي أخذت صحف معينة تحيط مالارميه به أكثر فأكثر، لكن هذه القصائد — التي سيجمعها «دي إيسانت» بحب في مختاراته الشعرية — ستمارس تأثيرًا عميقًا وخصبًا على الجيل الشعري الشاب، بفضل العناية التي ستحظى بها عند نشرها، عام ١٨٨٦م، في «لافوج» أو في «شا نوار»، ومثل «شارل كرو» — (ولكن باجتراءات في اللغة أكثر غرابة بكثير) — كان «مالارميه سابقًا لزمنه.

(٣-٣) فييه دي ليل–آدام

يبدو أن الوقت قد حان لنذكر بأن نثريًّا ذا مكانة مرموقة قد لاقى ترحيبًا، هو أيضًا، في «روفي دي موند نوفو»،١٢٩ وفي «ريبوبليك دي ليتر»:١٣٠ الكونت «فييه دي ليل–آدام»، الذي كثيرًا ما وصف النقاد المعاصرون مؤلفه «حكايات» بأنه «قصائد نثر»، لقد جمع «هويسمان» قصيدة «صوت الشعب» ضمن ذخائر قصائد النثر، المنسوبة إلى «دي إيسانت»، ويحتفي «ج. كان» بكلام كثير مبهم، ضمن احتفائه بأنساق أسلوب «فييه»، ﺑ «قصيدة النثر ذات الأبعاد الممتدة على طول حكاية، يعبر عن موسيقاها الرئيسية والمتعلقة بموضوعاتها، الجملة الممتدة الموقعة لقصيدة النثر، التي تنطبق على الهزلي …»١٣١ ما هي قصيدة النثر التي «تؤخذ، وتترك، ثم تستعاد»؟ لا شيء آخر — بالتأكيد — سوى نثر شعري، موقع ورنان، وفي فن وزن النثر بعظمة، اعتبر «فييه دي ليل–آدام» — بالفعل — أستاذًا، فمنذ عام ١٨٦٥م، والأدباء الشبان يحفظون — عن ظهر قلب — «حلم الأفيون» من ديوان «إلين»،١٣٢ وقدمت قصيدة «نذير هاجس»، المنشورة في «روفي دي ليتر إيه ديزار»١٣٣ إيقاعات لا تنسى:

آه، أنت، فكرت، يا من لا يملك أبدًا ملجأ لأحلامك، ومن لا تظهر له أبدًا أرض كنعان، بنخيلها ومياهها الجارية لا تظهر، في منتصف مطالع الفجر، بعد السير طويلًا تحت نجوم قاسية، مسافر سعيدٌ للغاية عند الرحيل والآن مكفهر — قلبٌ يجول من أجل منافٍ غير تلك التي تقتسم مرارتها مع أشقاء سيئين — انظر! هنا يمكنك الجلوس على حجر الكآبة! هناك تبعث الأحلام الميتة، متقدمة شاهد المقبرة!

ولا يقل عن ذلك حقيقة أنه حتى قصيدة «البشير»، المنشورة في «ليبرتيه» عام ١٨٦٩م تحت عنوان «عزرائيل»، وتحت صفة «قصيدة نثر»،١٣٤ ما هي سوى سرد شعري في نثر إيقاعي، أو — بالأحرى، مثلما قال «مالارميه» — «مقطوعة أدبية»،١٣٥ أكثر من كونها قصيدة نثر حقيقية، مقطوعة، أدبية بالفعل، بل حتى الإفراط: فتحت التأثير المزدوج لفاجنر وفلوبير في «سلامبو»، يعمل «فييه» أسلوبه، ويكدس الكلمات النادرة والنعوت الرنانة، ويضاعف من الأسماء ذات علامات الفصل: «عربات بعجلات من الزنك، مرصعة بنجوم من الحجارة الزائفة» كما يكتب «م. ديرو» بقسوة صائبة،١٣٦ ورغم عظمة الصفحات الأخيرة، فإن كل schroubïm وهذه اﻟ guibborïm، وتلك اﻟ pannags السامارية، تنهك انتباهنا دون أن توقظ فينا أي انفعال شعري، ما دامت — لشدة حذلقتها — لا تتوجه بالحديث إلى خيالنا، و«البشير»، مثل كتاب Akëdysséril فيما بعد عمل، عمل براق، ورائعة أدبية زائفة، لا يملك من قصيدة النثر التقنية ولا الكثافة الشعرية.
وثمة شعر — رغم هذا — في «حكايات» فييه، شعر شديد الخصوصية، مصوغ من التهكم ومن دعابة خارجة عن المألوف، تذكرنا نبرته — أحيانًا — ببودلير،١٣٧ ومع ذلك، ورغم انشغاله بالبحث عن شكل «نهائي»١٣٨ فسوف نجد فيه مقطوعات قليلة تستحق اسم «قصيدة»، وذلك لسبب بسيط يكمن في أن «فييه» لم يكن يريد كتابة قصائد، وإنما أقاصيص، على الأقل في أغلب الحالات، وربما ليس ثمة «شعرية» — عن عمد — في الموضوع، والبنية، والأسلوب، إلا في مقطوعتين: «الذكريات الخفية»، التي يرجع تاريخها إلى عام ١٨٧٨م،١٣٩ وأعيد نشرها في العدد الأول من «لافوج» — عام ١٨٨٦م — وكأنها تحية، ضمنية، لروعة هذا الشكل الذي يذكِّر بشاتوبريان:

أسكن، في الغرب، في مدينة قديمة وحصينة، حيث تقيدني الكآبة، – وأتواني عندما تلهب أمسيات الخريف المهيب القمة الصدئة للغابات المحيطة! — وبين تألق الندى أسير وحدي، بين الشوارع السوداء الواسعة، مثلما سار الجديد على امتداد المقابر.

وقد احتفظ «هويسمان» ﻟ «القصيدة» بعنوان «صوت شعبي»، ومن المفيد — فيما يتعلق بهذا النص الأخير — أن نرى الآلية المبدعة في العمل، على نحو ما يتيحه لنا نص «م. ديرو»: «ذات مساء، اندفع «فييه دي ليل–آدام» وسط أصدقائه، وهو يعلن لهم ظافرًا: «أيها السادة، لقد سمعت اليوم أجمل بيت شعر في اللغة الفرنسية: ها هو: «فلتشفقوا على أعمى مسكين، من فضلكم»، وفتنته الفكرة، فظل طوال الليل يكرر هذا اﻟ «بيت»، مع تنويع النغمة: احتفالية، تفخيمية، هزلية، حاسمة، خجولة، ضارعة … ثم، لم يعد يتكلم عن ذلك أبدًا، تمر السنوات، وذات يوم، يحضر — صدفة — مظاهرة شعبية يصرخون فيها: «فليحي … شيء ما»، لا يهم كثيرًا ما يهتفون به، وفي الحال، انتظمت الحكاية لديه، فتخيل نفس الجمهور، محتشدًا في نفس المكان، من عقدٍ إلى عقد، ليصرخ بنفس الحماس: «يحيا الملك!»، أو «يحيا الإمبراطور!»، أو «تحيا الجمهورية!»، والأعمى يكرر — دائمًا خفية — في ركنٍ من الجسر: «فلتشفقوا على أعمى مسكين، من فضلكم»، فهذه الجملة المدفونة في ذاكرته، التي اعتقد أنها منسية، أفادته في ربط حكايته وإبراز فلسفتها».١٤٠
لماذا نتحدث عن قصيدة في كلامنا عن هذا النثر؟ أولًا، بسبب البنية المحكمة للنص، بتماثليتها وتكراراتها، المرتبطة — هنا — عضويًّا بمعنى القصيدة وجوهرها العميق: ففي نهاية كل جزء من أجزائها الخمسة، وبعد الضجيج الصاخب وضوضاء الحشد، نرى ترتيلة الشحاذ تتحدى مثل لازمة نالحة وتهكمية بلا تعمد في آن، وتلقي — كل مرة — مزيدًا من القوة والمعنى، فعبارة «العودة الأبدية» لن يكون لها أبدًا تبرير أفضل من هذا،١٤١ بالإضافة إلى التدرج الذي يبين — من البداية حتى الختام — تحول المشهد المعاش إلى رمز: فشخصية الشحاذ هذه، الحقيرة في البداية وبلا أية أهمية، على امتداد النص، لا تكف عن التنامي، كي تنتصب — أخيرًا — في ظل الكنيسة مثل شكل استعاري، «وجهه نحو السماء، وذراعاه مرفوعتان»،١٤٢ فيما يصرخ «باعتباره نبيًّا» بصوتٍ بعيد ورهيب، «يبدو كأنه يذهب إلى أبعد من النجوم: فلتأخذكم الشفقة بفقير أعمى، من فضلكم!».
ويبيح لنا نص «ديرو» أن ندرك كيف يمكن لقصيدة بأكملها أن تولد — بالنسبة لشاعر — من جملة، يتم اختيارها في البدء لإصاتاتها أو لإيقاعها، (أو — بالأحرى — تفرض نفسها على الشاعر، مثل الجملة الشهيرة الملحة على «مالارميه»، «ما قبل الأخيرة ماتت»، ممتلئة بالمعنى فيما بعد، بفضل صدمة، أو لقاء غير متوقع، أو — ببساطة — بسبب العمل غير الواعي للذهن، وبهذا المعنى، فقد علم «فييه دي ليل–آدام» و«مالارميه» معاصريهما إلى أي مدى يمكن أن تذهب القدرة الإيحائية للغة، ونعلم أي رابطةٍ خلقته «عبادة المفردة»١٤٣ المشتركة بين الشاعرين: هنا — بالتحديد — يكمن موقف شعراء يعلمون أن الشعر ليس ترجمة لفكرة منطقية بواسطة الكلمات، بل خلقًا لعالم شعري بفعل سحر شكل لا يمكن استبداله، ويجب أن نضيف، رغم هذا، أنه في الفترة نفسها التي جاهد «مالارميه» — دائمًا — لخوض صراعه، بشكل أكثر صرامة، ضد الصدفة، حدث أن ترك «فييه» نفسه — أحيانًا — لإغواء الجمال اللفظي الصافي، وأفرط في منح «المبادرة إلى الكلمات»،١٤٤ فهل اتبع «فييه»، وهل قدم المثل للذوق الرديء المنحط، عندما كتب — عام ١٨٨٥م، في Akëdysséril، هذه الجملة التي تشبه مفتتحًا لبعض «انهيارات» النزعة «الانحطاطية الظافرة»:١٤٥ «على المرتفعات، في الشرق الغربي، كانت غابات مديدة من النخيل تحرك الازرقاقات الذهبية لظلالها على وديان هباب»؟١٤٦ ولحسن الحظ أن مبالغات كهذه نادرة في نثره، ففييه دي ليل–آدام يستحق — في أكثر الأحيان — المكانة الرفيعة التي ستمنحها له الرمزية، في إعجابها بهذا الرائد، باعتباره «ساحر الكلمات، الذي لا يباريه أحد في الإيحاء — من خلال ربط المقاطع اللفظية — بالفرحة المتناغمة لعاطفة نابضة بالحيوية»،١٤٧ وقد حلم منظِّرو الرمزية، مثل «ويزيوا» أو «موريس»، إلى حد ما تحت تأثير «فييه»، بخلق شكل شعري جديد بالنثر، شكل قادر على تحريك الشعور والإيحاء من خلال «موسيقى الكلمات».١٤٨
١  طرح «سانت–بيف» نظرية «الشعر المنثور» في Pensées de Joseph Delorme (Pensées XVII) — مميزًا بين شكلين، الأول نحوي «مشترك مع النثر»، والآخر إيقاعي وموسيقي، وهو ينصح الشاعر بأن يعرف أحيانًا — «أن يترك نفسه — بالأحرى — للشكل الدارج، الأقل صرامة بكثير، عندما يمتلك الطبيعية والبساطة، بالمقارنة مع الآخر»؛ ولأنه عمل ما ينصح به الآخرين، فقد حقق في أشعاره — دفعة واحدة — «نثرية» يمكن أن نجدها مبالغًا فيها، وقد ذكرت — بشكل عابر— أن «م. دي جيران» قد اقتفى أثره على هذا الطريق (فيما سبق، ص٩٨، ج١).
٢  قارن بدراسة كاساتي Versification et métrique de Baudelaire, Hachette, 1906.
٣  قارن بما سبق في الفصل الأول من القسم الأول. يعلن «كان» في حديثه عن رد الفعل ضد الشعر الكلاسيكي المنظوم، أن: «أول هذه التصدعات في الآلة الشديدة الصلابة ظاهريًّا قد أثاره «نرفال» لا شعوريًّا، الذي آثر ألا يكون سوى كاتب نثر، بدلًا من الخضوع لتعاليم «بروكوسمت» هذه غير المجدية — وهو مثال سيقتفي أثره الشاعر الكبير فلوبير» (Symbolistes et Décadents, Vanier, 1902, p. 288)، وهو ما يعني أن ننسى أن «نرفال» قد كتب سوناتات بالغة الجمال … لكنني سأعيد النظر بحبه لأشعار الأغاني الشعبية، «المؤلفة بلا اهتمام بالقيافية، والعروض، وتركيب الجملة» (Chansons et Légendes du Valois, dans Les Filles du Feu, 1854).
٤  تمهيد Spleen de Paris.
٥  Petit traité de Poésie, Bibliothèque de la Sorbonne, 1872, p. 6، ومن الطريف أن نذكر بأن «بانفيل» نفسه كان — عام ١٨٦٢م — يرمي بالسهام لصالح حرية الشكل في مقاله عن قصائد نثر «بودلير»: «أيها المخبولون الغريبون، كيف تتصورون أن حق الامتياز الخارق لولادة الكائنات مقصور على إرجاء المعاني، والعودة المنتظمة لبعض الأصوات!» (Le Boulevard, 31 Août 1852).
٦  في انتظار أن يقوم «بانفيل» — من جانبه — ببحوث في هذا المجال، كما سنرى في الفصل الثاني من القسم الثاني.
٧  سيقدم «بيير لوي» — في كتابه «فن الشعر» — «فنًّا شعريًّا» حقيقيًّا من نثر الفن البارناسي، عندما سيكتب: «وزن النثر، إن جملة مكتوبة جيدًا هي تلك التي لا نستطيع أن ننزع منها مقطعًا لفظيًّا دون أن نشوه وزن الجملة» (Mercure de France, 1er Juin 1916).
٨  مقال ﻟ «ف. كالما» عن «بيير برنار»، أكتوبر ١٨٦١م.
٩  في الأعداد رقم ٥، ٦، ٧، ٨، ١٠، ١١، ١٤، ١٥، ١٩، وحول مجلة Revue des Lettres et des Arts، التي رأسها «فييه دي ليل–آدام»، انظر –— فيما يلي — الفصل الأول من القسم الثاني.
١٠  اللذان رغم هذا يظهر اسماهما (الواحد والآخر) مع «بارناسيي» أعوام ١٨٦٦م و١٨٧١م.
١١  Kahn, Symbolisme et décadents, Vanier, 1902, p. 367.
١٢  Mendés, Rapports sur le mouvement poétique français de 1867 à 1900, p. 153.
١٣  لا «حكايات عاشقة»، كما يقول «منديس» — عن خطأ — في تقريره.
١٤  و«مالارميه» — الذي كان يفضل نثر صديقه على نظمه — كتب إليه، بصدد Vita Tristis (حياة كئيبة): «أنت الآن سيد نثرك» (نهاية يوليو ١٨٦٥م، ذكره «موندور» في Vie de Mallarmé, p. 169).
١٥  Vita Tristis, Lacrol, 1865, p. 27.
١٦  انظر — فيما سبق — الفصل الرابع من القسم الأول.
١٧  ظهرت في ملازم خلال عام ١٨٦٦م.
١٨  انظر — فيما سبق — الفصل الرابع من القسم الأول.
١٩  في العدد الأول (Littérature arabe: Le chant du guerrier nomade)، والثالث (Fusains)، والسابع (Le poème du fou)، والعاشر (Le pays du soleil; Fusain) على التوالي.
٢٠  السون Sone: وحدة قياس شدة الإحساس الصوتي.
٢١  في A Rebours, Charpentier, 1884.
٢٢  جمع «منديس» قصائده النثرية في نهاية ديوانه «حكايات حب»، تحت عنوان «طباشير أحمر».
٢٣  «بروتوس» و«كاسيوس» و«أتيليوس سيميبر»، الذين لجئوا إلى منزل «سوبور»، أقسموا أن يموتوا من أجل الجمهورية (Brutus; Cassius; Attilius Cimber; réfugiés dans une maison de Suburre jurent de mourir pour la république) قصيدة «رسم مطبوع بماء النار» وقصيدة «مشهد طبيعي» للورين، وقد نشرت في Renaissance في الأول من يونيو ١٨٧٢م.
٢٤  Drageoir aux Épices, 1874، قارن بما سيلي، الفصل الأول من القسم الثاني.
٢٥  قارن بما سيلي، الفصل الأول من القسم الثاني.
٢٦  في Poésies complètes, 1849، وقارن بما سبق، الفصل الأول من الجزء الأول.
٢٧  اشتهرت — على الفور — هذه المقطوعة عام ١٨٧٤م في Drageoir aux Épices، ويتحدث «أ. بليمون» عنها باعتبارها «دراسة لافتة للنظر»، في Le Rappel (١٧ نوفمبر ١٨٧٤م)، وسيترجمها «ميريل» في Pastels in Prose، حيث العنوان دال.
٢٨  ونذكر أنه — هو نفسه — مترجم للأناشيد الغنائية الإنجليزية والاسكتلندية.
٢٩  الأناشيد الغنائية التي ترجمها «نرفال» أو ديوان «سباستيان آلبين» (١٨٤١م).
٣٠  Chants populaires du Nord نشرها «إكس. مارمييه» عام ١٨٤٢م، سونات بريتونية (وبشكل خاص في La Revue des Lettres et des Arts) … إلخ.
٣١  ترجم ديوان «جولستان» للشاعر الفارسي «سعدي» — لأول مرة — عام ١٣٨٤م (Le Saadi Gulistan)، ونشرت رباعيات مترجمة منه عن الفارسية في La Revue des Lettres et des Arts … إلخ، جولستان: Gulistan مؤلف للشاعر الفارسي «سعدي»، ويقدم أكثر المبادئ نفعًا للسلوك في الحياة، وهو أول عمل فارسي عرف في فرنسا — بل في أوربا — بفضل ترجمة «أندريه دي بيير».
٣٢  وصفها «ا. دي إيسار» — عام ١٨٦٥م — بأنها «لوحاتٌ صغيرة ذات نسب رائعة»، في Revue du XIX siècle (الأول من أبريل ١٨٦٦م).
٣٣  في «جنية»: «لطفولة هيلين ارتعدت الأدغال»، فالمحارقة هي ذاتها، ولنذكر بأن «رامبو» كان يعرف جيدًا مجلة «رينسانس» و«شارل كرو» بنفس القدر.
٣٤  نشرت في العدد الأول من la Revue des Lettres et des Arts.
٣٥  المنشورة عام ١٨٩٢م لدى «فلاماريون» (مع إخراج موسيقي لعشر قصائد).
٣٦  فيما يتعلق بالسجع الذي، إذا جاز القول، يحدد النغم، نستطيع أن نذكر بأن «ج. دي نيرفال» قد سبق أن لاحظ إلى أي حد تجد موسيقى الأغاني الشعبية في السجع، المتوفر بما فيه الكفاية — من ناحية أخرى — كافة المصادر التي ينبغي على الشعر أن يمنحها لها» (Chansons et Légendes du Valois في Filles du Feu، عام ١٨٥٤م).
٣٧  Symbolistes et Décadents, Vanier, 1902, p. 367.
٣٨  قارن بما سبق، الفصل الأول من القسم الأول، ولدينا الانطباع بأن أي شيء — بالنسبة ﻟ «فيو»، حتى لو كان: «نيكول، جيئيني بخفي وأعطيني قبعتي الليلية» — يمكن تسميته قصيدة، بشرط أن يكون مكتوبًا في مقاطع، وأن يخضع للتماثلية الثلاثية، وهو مثال فريد لما يسميه «م. برونو» «القصيدة بلا شعر».
٣٩  انظر — فيما سبق — الفصل الأول من القسم الثاني.
٤٠  سنجد مقالاته مجموعة في L’Art moderne, Charpentier, 1883، وفي Certains (Tresse et Stock, 9).
٤١  كان مدير République des Lettres بالصدفة هو «كاتول منديس».
٤٢  L’Evolution des Idées esthétiques de J.-K. Huysmans (Thèse, Conard, 1934).
٤٣  Huysmans, Œuvres complètes, t. 1 (Crès 1928), p. 49؛ تذكر «ﻫ. ترودجيان» — بصدد هذه المقطوعة — بقصيدة «بائع الرنجة» ﻟ «هالز».
٤٤  ألويزيوس برتران هذا العجيب … قد نقل أنساق ليونار إلى النثر، ورسم — بأكاسيده المعدنية — لوحات صغيرة تتلألأ بألوانها الحية، مثل الطلاء الخزفي شبه الشفاف (A Rebours, Charpentier, 1884, Œuvres complètes, Crès, 1927, t. VII, p. 301).
٤٥  Les hommes d’aujourd’hui, Vanier, fascicule 263.
٤٦  Autobiographie في Les Hommes d’aujourd’hui، ذكره ﻫ. ترودجيان، مرجع سابق، ص١٧٥.
٤٧  الجملة المكررة في البداية والنهاية، في «مساء على الماء» و«الخيميائي».
٤٨  جمعت هذه المقطوعة في Croquis Parisiens (Œuvres complètes, t. VIII, pp. 111–113).
٤٩  Bachelin, Huysmans, Perrin, 1926, p. 107.
٥٠  نعلم أن «هويسمان» شارك في مجموعة «ميدان»، من عام ١٨٧٦م حتى حوالي عام ١٨٨١م.
٥١  قارن ﺑ «ﻫ. ترودجيان»، مرجع سابق، ص١٠٨–١١٢، ونعلم الرباعيات الصغيرة التي استلهمها «مالارميه» من «نماذج» روفائيللي.
٥٢  «نماذج من باريس» في «تخطيطات باريسية»، وقد عبر «هويسمان» عن إحسابه البودليري بالجمال الحديث في جملة من «تأهل» (١٨٨١م): «فينوس التي أعشقها، أنا، فينوس التي أعبدها راكعًا، مثل نموذج للجمال الحديث، هي الفتاة تلهو كالأطفال في الشارع، العاملة ذات المعطف والفستان، صانعة القبعات ذات السحنة الكامدة، والعينين الخليعتين» (Œuvres, t. IV, p. 129).
٥٣  وستجد آثارها في المجلد الثامن من المؤلفات الكاملة، حيث نشرت «تخطيطات باريسية» في ملحق الكتاب.
٥٤  في A Rebours, Charpentier, 1884.
٥٥  بطل «بالعكس A Rebours».
٥٦  مقطوعة نشرت أولًا في République des Lettres، وقد أظهر فيها «هويسمان» براعة حقيقية في رصد ووصف الألوان، والروائح.
٥٧  روبير فرانسوا دامينز (١٧١٥–١٧٧٥م): جندي ثم خادم، طعن لويس الخامس عشر بسكين لينبهه إلى الاهتمام بواجباته عام ١٧٧٥م، وقد تم تمزيق أعضائه في ميدان «جريف»، وكان تعذيبه فضيحة.
٥٨  قدم «هويسمان» عرضًا تحليليًّا للمعرضين الأولين لرودون، عامي ١٨٨١م و١٨٨٢م (انظر H. Trudgian L’évolution des idées esthéthiques de J.-K. Huysmans, pp. 88-89)، وسيصبح واحدًا من الصناع البارعين لشهرة الفنان الرمزي.
٥٩  Œuvres complètes ، ملحق (عام ١٨٨٢م)، ص٢٩٩.
٦٠  Cauchemar, Croquis parisiens (éd. de 1886), Œuvres complètes, t. VIII, p. 163.
٦١  المرجع السابق، ص١٥٧.
٦٢  المرجع السابق، ص١٥٩.
٦٣  الفصل الثاني، والخامس، والعاشر (Œuvres, t. IX, pp. 32, 99, 211)، وأولى هذه الرؤى — وهي رؤيا مهيبة وكهنوتية — متأثرة بووضح ﺑ «سالومي» ﻟ «جوستاف مورو»، وهو عمل أذهل «هويسمان» الذي حاول — في «بالعكس» — القيام ﺑ «تحويل» نثري له.
٦٤  La Vogue, 1886, n° 8, p. 255.
٦٥  A Rebours, Œuvres complètes, t. VII, p. 302.
٦٦  المرجع السابق.
٦٧  ساهم «هويسمان» في رواج قصيدة النثر حوالي عام ١٨٨٥م، وذكر الجمهور بأولى القصائد النثرية لمالارميه (قبل إعادة طبعها في «لافوج» عام ١٨٨٦م)، التي تناثرت — حسبما يقول — في «مجلات ميتة».
٦٨  هذا التعبير الذي نترجمه — بشكل تقريبي — ﺑ «حساء كاب»، هو تعبير أثير لدى «هويسمان» (انظر H. Trudgian, op. cit., p. 176).
٦٩  Où nous en sommes, Floury, 1906, p. 83.
٧٠  يريد «بودنير» — على ما يقول «كان» — أن «يعثر»، بجانب الشعر — المفعم والسلس للغاية، رغم هذا — على أداة وسيطة، على شكل أكثر موسيقية …» (Symbolists et Décadents, Vanier, 1902, p. 287)، فالعبور من «برتران» إلى «بودلير»، من البارناسية إلى الرمزية، هو العبور من التصويرية إلى الموسيقية.
٧١  ٣٠ ديسمبر ١٨٦٥م.
٧٢  Le Hanneton ، ٢٦ سبتمبر ١٨٦٧م و١٥ أغسطس ١٨٦٧م.
٧٣  هذه المقطوعة — شأن كافة المقطوعات المذكورة هنا — مستعادة في «مذكرات أرامل» Mémoires d’un Veuf (Verlaine, Œuvres, Messein, t. IV, p. 223).
٧٤  Les Estampes, L’Hystérique, Les Fleurs artificielles, 2–9 Janvier 1870, Par la croisée, 9–16 Janvier 1870.
٧٥  Les fleurs artificielles, Mémoires d’un Veuf, p. 251.
٧٦  L’Hystérique, id., p. 253.
٧٧  قارن بما سبق، الفصل الأول من القسم الأول.
٧٨  نشرتا في ٣١ أغسطس و٢١ نوفمبر ١٨٧٣م، ويذكر «م. ب. بويي» — مشيرًا في هذا الصدد إلى «مغامرة الشباب» لفوران — بعلاقاته مع «فيرلين» و«رامبو»، اللذين كانا أصغر منه بعامين، ويرى أن «تأثير الصغير على الكبير لا يمكن إنكاره»، ويجد في هاتين المقطوعتين «نوعًا من الصدى الثانوي، الذي يجعلنا نفكر — بشكل لا يقاوم — في رامبو» (Arts, 16 Juillet 1948)، ويبدو لي تأثير «بودلير» محسوسًا بشكل أكثر مباشرة، سواء في اختيار الموضوعات أو مظهر الجملة.
٧٩  ذكره «راينو» في E. Raynaud, La mélée Symbolists, Renaissance du Livre, 1920, tome II، «أمسية لدى بول فيرين»، ص٢٨.
٨٠  قارن بما ورد في (Baudelaire, Les baraques piaillaient, beuglaient, hurlaient: Le Vieux Saltimbanque Œuvres, Pléiade, t. I, p. 425).
٨١  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الأول.
٨٢  انظر — فيما يلي — ملحوظة رقم ١٠٣، وE. Raynaud, La mêlée Symboliste, t. I, p. 23 et sq..
٨٣  نشرت — على التوالي — في ١٨ مايو و٢٧ يوليو و٢١ سبتمبر ١٨٧٢م.
٨٤  La Bohéme sous le second Empire, L’Artisan du Livre, 1930, p. 11.
٨٥  Barre, Le Symbolisme (Thèse, Jouve, 1911, p. 271).
٨٦  يقول «فيرلين»، في دراسته عن «كرو»، المنشورة في Les Hommes d’Aujourd’hui (Œuvres, Messein, 1910, t. V, pp. 384-397): «رغم أنه شديد الحرص على الإيقاع، وأنه ينجح — بشكل فريد — في محاولات فذة ونفيسة، فإننا لا نستطيع اعتبار كرو واحدًا من البارعين في نظم الشعر»، لكن ألا يمثل هذا انشغالًا بالدفاع عن تفرده الخاص، والاحتفاظ لنفسه بمكانته كرائد؟ فتاريخ «أغانٍ عاطفية بلا كلمات» يرجع إلى عام ١٨٧٣م.
٨٧  Préface aux Poèmes et Proses choisis de Cros, Gallimard, 1944, p. 27، ونجد في هذا الديوان عدة انتقادات موجهة إلى «كرو» ومؤلفاته.
٨٨  مسلية: «الغرفة مفعمة بالعطور» (Le Coffret de Santal, Stock, 1922, p. 254).
٨٩  «الزغب العطري لعنقها»، المرجع السابق.
٩٠  L’Heure froide, Id., p. 270؛ قارن — في Crépuscule du Soir — ﺑ: «عاريات المساء الشفافات» (Baudelaire, Œuvres, t. I, p. 442).
٩١  Le Crépuscule du Soir, Œuvres, Pléiade, t. I, p. 442 (قارن ﺑ: La Fin de la Journée, eod., loc., p. 143).
٩٢  L’Heure froide, Le Coffret de Santal, p. 270.
٩٣  حيث يقدم «كرو» نفسه
حالمًا
بهذه العوالم البعيدة التي أتحدث عنها كثيرًا.
(Le Coffret de Santal, p. 179)، قارن — أيضًا — ﺑ «السوناتات الميتافيزيقية» (Id., p. 215)، ومن المثير أن نذكر بأن «كرو» قد تخيل وسيلة ﻟ «الاتصال بالكواكب» وبكائنات «العوالم المجاورة»؛ إذ إنها، كما يقول «لا بد أن يكون فيها بعض من هذه الكائنات ضمن الاحتمالات اللانهائية» (انظر: Poèmes et Proses, Gallimard, 1944, p. 258).
٩٤  يقول «روهو» إن مسلية «مؤلفة موسيقيًّا»، وهو يعدد مختلف «اللازمات» التي تطرد بعضها بعضًا بالتبادل، (الأزهار وألوانها، والتجليات النسائية، وصرير الريشة على الورقة، ومقاطعات المسلية)، لتعود وتتلاحق حتى الانتصار الأخير للمسلية (Das französische Prosagedicht, Hamburger Studien, Friedrichsen, de Gruyter und C°, Hamburg, 1929, p. 74).
٩٥  يستدعي «فيرلين» — في مقاله عن «كرو» (Œuvres, Messein, 1910, t. V) — هذا الأثاث الذي كان يملكه في «الفترة التي، كما يقول، كنت أملك شيئًا ما تحت شمس العالم كله»، وكان يحتوي — حسبما يقول لنا مقال لموريس فيرن — «على نوع من المسرح الصغير جدًّا من المرايا»، وفيما بعد، خبأت زوجة «فيرلين» السابقة المذكرات الشهيرة التي نشرها «ف. بورشيه» بعد وفاتها (Candide, 19 Avril 1944).
٩٦  قارن بما سبق، هامش رقم ٩٠، لم يعد الأمر يتعلق — هذه المرة — باستكشاف اللانهائي الكبير، بل اللانهائي الصغير.
٩٧  Le Coffret de Sanatal, p. 258.
٩٨  Id., p. 257.
٩٩  Id., p. 258.
١٠٠  Id., p. 258.
١٠١  Id., p. 259.
١٠٢  Le Vaisseau-Piano, p. 266.
١٠٣  قارن بصورة الحركة: «يندفع السيد إيجيتور، ويحطم الزجاج» (Effarement, Coffret de Santal, p. 263)، «لن أستطيع أبدًا أن أبعث بالحب عبر النافذة» (Phrases, Rimbaud, Œuvres, Pléiade, p. 177)، والدعوات إلى الفعل: «إلى الأمام»، «إلى الأمام!» (Le Vaisseau-Piano, p. 267)، «إلى الأمام، الطريق!» (Démocratie, Rimbaud, Œuvres, Pléiade, p. 190).
١٠٤  مقال عن «شارل كرو» Mercure de France, 1er Janvier 1919، والجملة الأولى مستمدة من (غرور–تحت مائي)، والثانية من «مركب–بيانو».
١٠٥  Le Goëland, 1er Août 1938 (مقال أعيد نشره جزئيًّا في Poèmes et Proses de Cros, Gallimard, 1944, p. 337)، وأذكر بأن «كرو» لم يكن شاعرًا فحسب، بل كان فيزيائيًّا وكيميائيًّا أيضًا، وأنه قام بتجارب — بشكل خاص — حول تركيب الأحجار الكريمة والتصوير الضوئي بالألوان.
١٠٦  سبتمبر ١٨٧١م – مارس ١٨٧٢م ومايو / يوليو ١٨٧٢م، كان «كرو» و«فيرلين» و«رامبو» يتقابلون كثيرًا (على سبيل المثال في «عشاءات الأوغاد» Vilains Bonshommes)، وألفوا معًا «ألبوم زوتيك» بمعارضات ﻟ «كوبيه» وبضعة بارناسيين آخرين مشهورين (ل. ديركس، ل. إكس دي ريكار … إلخ)، قارن ﺑ Rimbaud, Œuvres, Pléiade, Notes et Variantes, pp. 667–673.
١٠٧  طبقًا ﻟ Kahn (Les Origines du Symbolisme, 1936, p. 20)، يبدو أن «رامبو» قد تشاجر مع «كرو» لأنه مزق — عندما كان في ضيافته — صفحات من «لارتيست» تحتوي على القصائد المذكورة.
١٠٨  على الأقل، قصيدة «الأثاث» المنشورة في مايو ١٨٧٢م، هل ينبغي أن نقارن بين السقف «الذي لا وجود له» (قارن — فيما سبق — ﺑ ص٣٢)، و«الزهور الشمالية» — في قصيدة «بربري» — التي «لا وجود لها»؟
١٠٩  يستدعي «إيجيتور» الإنسان المتمتع بالعقلن بل بالقدرة على الاستدلال، ألم يكن بمقدور «كرو» معرفة عنوان مخطوط «مالارميه» — «إيجيتور» — من خلال «منديس» أو «فييه»، الذي كان قد قرأه على صديقه عام ١٨٧٠م؟ إن لم يكن من خلال «مالارميه» نفسه الذي كان يقابله في منزل «لينا دي فييان» … (قارن ﺑ Mondor, Vie de Mallarmé, Gallimard, 1941, p. 340).
١١٠  انظر Rimbaud, Œuvres, Pléiade, Notes et Variantes, p. 670.
١١١  La Vision du Grand Canal Royal des Deux-Mers (Collier de Griffes) ، قارن أيضًا ﺑ «دراما من ثلاثة أناشيد غنائية»، في Coffret de Santal, III, p. 155.

… وأصبح عليمًا

عند انتشائي بمخدرات بلاد الشرق

١١٢  Le Coffret de Santal, p. 98، العنوان والعنوان الفرعي لشارل كرو.
١١٣  قارن ﺑ Baudelaire, Journaux intimes, (Œuvres, Pléiade, t. II, p. 668).
١١٤  Lassitude, Coffret de Santal, p. 273.
١١٥  المرجع السابق، ص٢٧٤.
١١٦  Indignation, Le Collier de Griffes, Stock, 1908.
١١٧  ورد ذكره في مختارات من Poèmes et Proses, p. 331.
١١٨  نشرت في Chat Noir le 7 Février 1885، وضمت إلى Collier de Griffes en 1908، قارن ﺑ Chanson de route Arya، فيما سبق ذكره، ص٢٠ من هذا الجزء.
١١٩  مقدمة Poèmes et Proses, p. 30، وقد نشرت هذه القصيدة في Chat Noir le 20 Mars 1886.
١٢٠  خلع الصفات البشرية على الله، وتشبيهه بالإنسان.
١٢١  في أطروحته حول Symbolisme, Jouve, 1911.
١٢٢  Lassitude, Le Coffret de Santal, p. 273.
١٢٣  A. Breton, Anthologie de l’Humour Noir, Sagittaire, 1940, p. 90.
١٢٤  المرجع السابق.
١٢٥  هذا المقال، الذي نشر في «روفي دي دو موند» عام ١٨٧٤م، أعيد نشره في مختارات Poèmes et Proses, p. 262 et sq..
١٢٦  Symbolistes et Décadents, Vanier, 1902, p. 138.
١٢٧  ويبعث على عزاء الروح — رغم هذا — أن يخطر ببالنا أن يكون «منديس» قد تمكن من العثور على نصير لطبع مجلته، وهذا … بفضل صياغة «مالارميه» المقنعة (قارن ﺑ Daireaux, Villiers de l’Isle-Adam, Desclée de Brouwer, 1936, p. 137).
١٢٨  وفي نفس الفترة، رفضت لجنة البارناسيين قصيدة «بعد ظهيرة إله الريف»، وسبتها أغلب الصحف (انظر Mondor, Vie de Mallarmé, Gallimard, 1941, p. 382).
١٢٩  التي نشرت — في عددها الأول عام ١٨٧٤م — قصيدة «المدعو المجهول» (التي أصبحت «مدعو الحفلات الأخيرة» في «حكايات أليمة».
١٣٠  التي نشرت، أو أعادت نشر عدد من «حكايات» ﻟ «فييه» (انظر Daireaux, Villiers de l’Isle-Adam, Desclée de Brouwer, 1936).
١٣١  Symbolistes et Décadents, Vanier, 1902, pp. 203-204.
١٣٢  نشرت «إيلين» في ١٤ يناير ١٨٦٥م لدى «دافيل»، وقد أرسلها «مالارميه» إلى صديقه «لوفيبور»، قائلًا له: «ستجدون فيها مشاهد خارقة، لا أعرف ما هو أجمل من هذه الذكريات لساعات الحب التي عمقها الأفيون عن غفلة» (Mondor, Lefébure, Gallimard, 1951, p. 350)، قارن ﺑ Daireaux, op. cit., p. 84 et p. 288.
١٣٣  في ديسمبر ١٨٦٧-يناير ١٨٦٨م، ونشرت عام ١٨٨٣م في «حكايات أليمة»، وقد أوضح «أ. بروجار» وجوه التشابه بين «نذير شؤم» و«منزل أوشير» لإدجار بو، ﮐ «تشابه مميز أساسًا في اللون الشعري والبحث عن التناغم» (Villiers de l’Isle-Adam, les trois premiers Contes: Claire Lenoir, L’Intersigne, L’Annonciateur, Belles-Lettres, 1931, t. II, p. 155).
١٣٤  هذه المقطوعة — المهداة «إلى ريتشارد فاجنر»، «أمير الموسيقى العميقة» — ستشكل، عام ١٨٨٣م، خاتمة «حكايات أليمة».
١٣٥  في مراسلته إلى «فييه»، في ٢٠ مارس ١٨٨٣م، حول «حكايات أليمة»، التي توفر عليها، يحدثه «مالارميه» عن هذا اﻟ «مبشر» الذي كثيرًا ما يدفعني إلى أن أحلم بمعرفة ما إذا لم تكن أجمل مقطوعة أدبية أتذكرها» (ذكره Jean-Aubry, Une amitié exemplaire: Villiers de l’Isle-Adam et Mallarmée, Mercure de France, 1942, p. 72).
١٣٦  مرجع سابق، ص٣٨٥.
١٣٧  عبارة «قاتل البجع» الشهيرة: «كم هو عذب تشجيع الفنانين!» تجعلنا نشعر — إلى حدٍّ كافٍ — بالنبرة، أو — أيضًا — «لعبة الأناقة» الجنائزية في Histoires Insolites (Lemerre, 1888)، حيث الفتيات — وهن يلعبن بالأكاليل الجنائزية — يتبادلن «بسوداوية، في أشعة الشمس الأخيرة»، هذه الصفات التي لا تتبدل للحساسية الحديثة»، وينبغي الإشارة — أيضًا — إلى أن الإحساس الملح بالموت، الحاضر دائمًا في أعمال «فييه»، يمنحه نبرةً خاصة.
١٣٨  عندما عدل «كوكيلان» في «سر الموسيقى القديمة»، ليحولها إلى مونولوج كوميدي، أثار سخط «فييه دي ليل–آدام»، الذي كتب إلى «ستوك» في ١١ أبريل: «ما أفعله نهائي»، وثار — في ٢٠ أبريل — لدى رؤيته حكايته مطبوعة «مع حذف وإضافة يغيران من طبيعة المعنى والأسلوب» (قارن ﺑ Daireaux, op. cit., pp. 157–159)، والأمر لا يتعلق إلا ببضع تفاصيل.
١٣٩  «البارناس»، يونيو ١٨٧٨م، وقد أعيد نشره في «حكايات أليمة» عام ١٨٨٣م (كالمين–ليفي)، اذكر نص «لافوج»: ففيه إمكانية القيام بدراسة كاملة عن تنقيحات «فييه»: قارن بأعمال «دروجار Drougard» حول Les trois premiers Contes, Belles-Lettres, 1931.
١٤٠  ديرو، مرجع سابق، ص٣٥٠-٣٥١، وستصبح جملة الأعمى في اﻟ «حكاية»: «فلتأخذكم الشفقة بفقير أعمى، من فضلكم».
١٤١  قارن بما سيلي، ص١٦٣ من هذا الجزء.
١٤٢  Vox Populi, Contes cruels, Calmann-Lévy, 2° éd., 1909, p. 33.
١٤٣  Mallarmée, Villiers de l’Isle-Adam (Œuvres, Pléiade, p. 492) ويحكي «فاليري» أن «هويسمان» و«مالارميه» — أثناء تصفحهما لبروفات «حكايات أليمة» — كانا ينتشيان من هذا النعت: «الوضوح المقفر للقمر» (ذكره Cohen, N.R.F., Février 1929)، وفي الواقع، يتعلق الأمر ﺑ «شعلته المقفرة والشاحبة»، في «نذير شؤم»، فمالارميه هو الذي استدعى «الوضوح المقفر» للمصباح في «نسمة بحرية» عام ١٨٦٥م: لكن الحكاية دالة رغم ذلك.
١٤٤  قارن ﺑ Divagations, Crise de Vers (Œuvres de Mallarmée, Pléiade, p. 366).
١٤٥  قارن بما سيلي، ص٨٧-٨٨، من هذا الجزء.
١٤٦  ويلاحظ «م. ديرو» — بشكل وثيق الصلة بالموضوع، حول هذه الجملة — أن الشرق يمكن أن يكون أي شيء إلا أن يكون غريبًا … (مرجع سابق، ص٣٩١)، أما عن «الازرقاقات الذهبية»، فإنها تدفعنا إلى التفكير — للأسف — في «العذارى المزرقات» لقصائد «باجو» (Le Décadent, 15 Mai 1886).
١٤٧  Wyzewa, Nos Maitres, Perrin, 1895, p. 50 (مقال منشور في Revue Wagnérienne en Juin 1886).
١٤٨  قارن بما سيلي، ص٨٠–٨٢، من هذا الجزء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥