لننطلق — إذن — من العناصر الأبسط لنحدد
المبدأ المزدوج لقصيدة النثر، نثر وشعر في آن،
وسنكشف — فيما بعد — كيف يتجاوب هذا المبدأ
المزدوج مع نزوع مزدوج، مع إرادة التحرر من
القوانين الشكلية، وخلق شكل، وكيف يؤدي — في
النهاية — إلى صيغة مزدوجة، حسب سيادة النزعة
الفردية الفوضوية أو الإرادة الفنية، وعند
محاولتنا التقاط هذه الثنائية الأساسية في كامل
اتساعها، سنصل إلى أن نرى في قصيدة النثر لا
مطاردة فحسب لشكل فني جديد، بل مظهرًا للتمرد
الإنساني، فيما تملكه مما هو إبداعي.
(٢-١) المبدأ المزدوج لقصيدة النثر
نشأت قصيدة النثر — حسبما أوضحت في بداية
هذا العمل — من إرادة التجاوز، من التمرد
ضد الأعراف المعتبرة «شعرية»، والعروض،
وأعراف اللغة، لقد أرادوا — من الآن
فصاعدًا — أن يفصلوا بين الشعر والنظم،
وبحثوا في النثر عن عناصر شعر جديد،
والواقع أن هذا النثر، الذي سعوا بخجل إلى
أن يلتزموا المحافظة فيه على بعض «ترفيهات»
النظم (تأرجحات، وأوزان زوجية، وأسلوب
«نبيل») لم يلبث أن بدأ ينحو — أكثر فأكثر،
منقادًا بنوع من الثقل الطبيعي — نحو النثر
الخالص، متخلصًا من كل زخرف اصطناعي، بل
سرعان ما أصبح فظًّا عن قصدٍ أكثر من النثر
المستخدم — إلى ذلك الحين — في مختلف
الأنواع الأدبية: «أسلوب نثر» و«إيقاع نثر»
على وشك أن يولدا، وستستخلص قصيدة النثر
منهما مؤثرات شعرية جديدة تمامًا.
لنبدأ — إذن — بإجمال العناصر التي
يمنحها النثر — المستخدم باعتباره نثرًا —
إلى قصيدة النثر، قبل أن ندرس بأية طريقة
يتم استخدام وتشكيل هذه العناصر كي تصبح
قصيدة.
ينفر النثر — بطبيعته، وخلافًا للنظم —
من القوالب الجاهزة، والإيقاعات المفروضة
من الخارج: وستذهب قصيدة النثر إلى حد
الهرب ليس فقط من «النظم في النثر»، بل من
الأبنية الخطابية، والأنساق المنطقية
الكبرى، والأسلوب الدوري، ويتيح النثر —
بمرونته — أكبر تنوع في الأشكال، وستتمكن
قصيدة النثر، شأنها شأن الشعر الحر، من
ادعاء منح الفكرة الشعرية «حق أن تخلق
لنفسها شكلها وهي تتطور، مثلما يخلق النهر
مجراه»، كي نستعيد تعبير «فيرهارين»،
١١٨ يستطيع «النثر الموقَّع» — إذن
— أن يتخذ مظاهر متنوعة للغاية، غير أنه
كثيرًا ما ينحو إلى تأكيد صفته كنثر بالبحث
عن الحيوية والتفرد،
١١٩ بمؤثرات اللاتماثل أو القطع،
وبالتفكيك التعبيري للجملة،
١٢٠ ويتغير تركيب الجملة في نفس
لحظة تغير الإيقاع، فنشهد مع «رامبو» ميلاد
«أسلوب التدوين»، وجمل بلا أفعال، وذائقة
الانقطاع (كثرة وجود الشَّرطة التي تقطع
الجملة): وجميعها سمات ستتزايد في شعر
النثر الحديث: تمرد اﻟ «كلمة» ضد اﻟ «جملة»، وهو أيضًا أحد مظاهر التمرد الفني
ضد القواعد التي سنشهدها.
فمن خلال المفردات وبنية الجملة، يدخل
النثر «الواقعية» و«الحداثة» في الأدب:
والواقع أن الشكل النثري يتوافق بصورة لا
تُقارن — وبشكل أفضل من النظم — مع التعبير
عن كل مظاهر الواقع المعاصر: وأشعار «مكسيم
دي كان» الكئيبة «الحديثة» تكفي للبرهنة
على ذلك:
١٢١
تقرأ البيانات التمهيدية القوائم
الملصقات التي ترفع عقيرتها
بالغناء
ها هو شعر هذا الصباح.
على
ما يكتب «أبوللينير»،
١٢٢ لكن شعر القرن هذا لا يستطيع
العثور على شكله إلا في الشعر الحر أو في
قصيدة النثر، فهما وحدهما اللذان يمكنهما
استقبال مفردات حديثة وواقعية، وتسمية
الأشياء بأسمائها،
١٢٣ وأن يفتحا لنا في الشعر قطارات
ومحطات (مثلما لدى «أبوللينير» و«فارج»)،
وحانات حقيرة (مثلما لدى «كاركو»)، وسفن
نقل (مثلما لدى «سندران»، فلنتوغل أبعد من
ذلك: يمكن البحث عن استخدام المصطلح
المحدد، الواقعي والسوقي، باعتباره وسيلة
تأثير شعري خاص، وكان «بودلير» أول من تنبه
لذلك، واستغله بكثرة «لافورج» في قصيدته
«شكوى مدينة باريس الكبرى»، و«هويسمان» في
«تخطيطات باريسية»، وكرد فعل على المفردات
«النبيلة» للشعر الكلاسيكي، أصبح الشعري في
أيامنا — (على ما يقول «ج. بولان»)
١٢٤ — أن نقول
«
cheval
= حصان» وليس
«
coursier
= فرس»،
و«
eau
= ماء» وليس
«
onde
= موجة»، بل الأكثر غرابة أن المكان
المشترك والكليشيه قد احتلا موقع العناصر
الشعرية، وهو منحًى نلاحظه بشكل خاص في
النثر: ويذكر «ج. بولان» — الذي بحث طويلًا
هذا «الاستخدام» للمكان المشترك في «زهور
تارب» — بداية قصيدة «حقول مغناطيسية»، على
سبيل المثال،
١٢٥ أو أمثلة لأماكن مشتركة «أعيد
تأملها» من قبل «ج. رينار» أو «ل. ب. فارج»،
١٢٦ هذا الميل إلى استخدام ما كان
يكرهه الشعر — حتى ذلك الحين — باعتباره
عناصر شعرية بالتحديد، من قبيل الابتذال،
والفجاجة، و«النثرية» (الواضحة تمامًا في
كثير من الروايات الأمريكية، كي نذكر
مجالًا آخر)، هي بالتأكيد خطر دائم بالنسبة
للنثر، أكثر مما بالنسبة للشعر الحر: خطر
لا يرتبط بالفجاجة أو القبح (لا نملك في
هذا الصدد نفس الكراهية الجمالية للقرون
الكلاسيكية) قدر ارتباطه بالاستسهال
والسطحية، فلا يمكن لكل هذه العناصر، غير
الجمالية في ذاتها، أن تتوفر على قيمة
جمالية (وشعرية) إلا وهي منظمة، ومتجاوزة،
كي تدخل في عالم النتاج الأدبي.
وينبغي أن نضيف أن قصيدة النثر؛ لأنها —
تحديدًا — مكتوبة نثرًا، قد أثرت غنائية
بعض الأنماط الجديدة، التي كان يصعب قبولها
بسهولة في النظم الكلاسيكي، مثل السخرية،
والغرابة، ونبرة بوح معينة (كان «برتران»
أول من وسع من عدد «النبرات» الشعرية وتلاه «بودلير»)،
١٢٧ ولا سيما شكل خاص من السخرية
التي ستحتل مكانةً تتزايد أهميتها في شعر
القرن العشرين، فالسخرية — التي تظهر على
نحو خاص في النوع السردي — هي، بسبب ذلك،
في موقعها الأكثر ملاءمة في النثر، في حين
أنها تغامر — في الشعر — بهدم كل أثر ﻟ «التعويذة» الشعرية،
١٢٨ فيما تصبح — في النثر — نغمة
شعرية ذات نوع خاص، مرتبطة — ولا سيما
السخرية المسماة ﺑ «السوداء» — بوضوح
فرداني ما، فوضوي وهدام: واللافت للنظر
للغاية أن نرى — في كتاب «مختارات من
السخرية السوداء» لأندريه بريتون — عددًا
من قصائد النثر، منذ «صانع الزجاج الرديء»
لبودلير، إلى «نثريات» السيريالية لجيزيل
براسينو، فالحدود تقيمها خطوط التماس التي
تفصل قصيدة النثر عن «الفكرة» من ناحية،
وعن «الحكاية» من ناحية أخرى،
١٢٩ وتدخل الفانتازيا — هي أيضًا،
وبشكل أكثر من قصدي — بسبب العناصر التي
تحتويها من فوضوية، وتمرد ضد القوانين
الطبيعية — في قصيدة النثر أكثر من دخولها
في قصيدة الشعر، لكن نفس الحدود يجب
تعيينها في قصيدة النثر الفانتازية: إذ
ينبغي أن تظل قصيدة.
١٣٠
والواقع أنه لا ينبغي أن ننسى ذلك: فإزاء
هذا النثر الحر للغاية في اختيار
الموضوعات، والمفردات، وتركيب الجملة،
والنبرة، ستفرض القصيدة متطلباتها
وقوانينها العضوية، وهذا الرفض للأعراف ليس
رفضًا لكل قانون، وهذه الحرية في الشكل
ليست غيابًا للشكل، وقد رأينا أن النثر —
في المستوى الأول — ينتظم في نثر مُوقَّع
يخضع لقوانين مغايرة لتلك التي تحكم — على
سبيل المثال — النثر الخطابي، يتبقى لنا
— الآن — أن نتأمل كيف تفرض القصيدة
بدورها، كشكل من المستوى الثاني، على النثر
الأكثر حرية إلى هذا الحد أو ذاك، الموقع
إلى هذا الحد أو ذاك، تنظيمًا للمجموع،
وتجعل منه كلًّا، «كائنًا» فنيًّا.
ما هي القصيدة؟ ينبغي أن نعيد للكلمة هنا
كل معناها الاشتقاقي كعمل مُصاغ «مُكتمل»:
فغالبًا ما يتم الخلط بين قصيدة وشعر، ويتم
إطلاق اسم قصيدة على كل عمل يتحقق فيه
الشعر، والواقع أن قصيدة النثر، التي لا
ينبغي الخلط بينها وبين النثر الموقع، لا
ينبغي أيضًا الخلط بينها وبين الشعر، وليس
من العبث أن نستعيد هنا مفهوم القصيدة كي
نحدده، لنرى ما ينطوي عليه، وما
يستبعده.
ولندحض أولًا سوء الفهم الذي يمكن أن
ينشأ من التوسع المفرط في استخدام المصطلح:
ففي القرن الثامن عشر، كانوا ما يزالون
يطلقون اسم قصيدة على كل عمل ذي مساحة
معينة، مُصاغ بقوة، وقادر على إبهار الخيال
والأذن بالشعر والتناغم في أسلوبه: فمقطوعة
لراسين كانت تُسمى قصيدة درامية، ورواية
مثل «أميرة كليف» أو «تليمك» كانت تسمى
قصيدة نثر،
١٣١ بل يستمر هذا المعنى في القرن
التاسع عشر، ففي عام ١٨٦٠م، يتحدث
«سانت–بوف» عن «كاهنة باخوس» لموريس دي جيران باعتبارها جزءًا من قصيدة نثر
موضوعها «باخوس في الهند»،
١٣٢ لكن المعنى تطور — رغم هذا —
عندما كتب «ر. دي جورمون» أن «الإلياذة
والأوديسا روايتان مكتوبتان نظمًا، بقدر ما
«الشهداء» و«سالامبو» قصيدتا نثر»،
١٣٣ مشيرًا بهذا إلى «قصائد — من — النثر»، بل إلى قصائد مكتوبة نثرًا،
بالتعارض مع روايات مكتوبة نظمًا، ففي هذه الفترة، مال مفهوم القصيدة إلى الاتساع،
والاختلاط بمفهوم الشعر، وعندما يصرح «ر. دي جورمون» قائلًا: «في الواقع، ما من وجود
إلا لنوع واحد، هو القصيدة، وربما نمط واحد، هو النظم؛ إذ إن النثر الجميل ينبغي
أن يتوفر على إيقاع، وسيشير الشك إن لم يكن
سوى مجرد نثر، وعلى أساس أن «بوفون» لم
يكتب سوى قصائد، هو و«بوسوييه»
و«شاتوبريان» و«فلوبير»،
١٣٤ فإنه يمنح كلمة قصيدة دلالة
أكثر عمومية بكثير، وبالتالي معنًى أقل
تحديدًا بكثير، وعندما ندفع بهذه الفكرة
إلى الحد الأقصى، نستطيع التوصل إلى أن نرى
بعضًا من الشعر في كل مكان (عدا في
الملصقات والصفحة الرابعة من الجرائد، حسب
تعبير «مالارميه»)،
١٣٥ ورؤية قصيدة في كل عمل مكتوب
بشكل جيد، ولن يدهشنا بعد ذلك أن نرى
«باربي دورفيي» يتحدث عن روايته «أماديه»
باعتبارها «قصيدة نثر»،
١٣٦ أو «أندريه بار» — الأكثر
قربًا منا — وهو يعلن بجسارة أن «شاتوبريان
قد افتتح قصيدة النثر» مع «أتالا»،
١٣٧ بحجة أن «عمله يمتلئ بهذه
الجمل ذات المعنى غير المحدَّد، حيث تكفي
موسيقى المقاطع اللفظية لإثارة حالة
روحية»، ويتحدث «شيريل» عن «روايات أو
قصائد نثر» لسينانكور: «ألدومين»، و«أحلام
يقظة»، و«أوبيرمان».
١٣٨
لا، ليست «أمايديه» و«أتالا» و«أوبيرمان»
بقصائد نثر، فغاياتها ومسيرتها مختلفة،
ومختلفة هي الأصداء التي توقظها فينا؛
ولأنها روايات — في المقام الأول — فهي
تخضع لجمالية الرواية، المختلفة تمامًا عن
جمالية القصيدة (وسأعود إلى هذه المسألة
فيما بعد)،
١٣٩ لكن حتى لو كان المؤلف قد أراد
(مثل «أورفيي»، ربما) أن يكتب «قصيدة» أو
«رواية – قصيدة»، فكيف يمكن في مؤلفات كهذه
— طويلة للغاية بالضرورة — تجنب كل ما يفيد
في تمهيد أو شرح الفعل، كل ما يُعلق أو
يستخلص؟ فبقدر العناصر التي تنزع عن العمل
كثافته الضرورية، بقدر الأزمنة الميتة،
و«المناطق عديمة الشكل»
١٤٠ غير المقبولة — إذا ما تكلمنا
على الصعيد الشعري — في قصيدة بقدر ضرورتها
في رواية، وكان «جوبير» قد أعلن في
«دفاتره»، عام ١٨٠٦م، أن «قصائد هوميروس
ليست بقصائد، بل هي شعر» — ونعلم بأية قوة
سيدين «بو» — لنفس الأسباب — «بدعة الطول»:
١٤١
لا وجود لقصيدة طويلة، وما نعنيه
بقصيدة طويلة هو تناقض تام في
المصطلحات.
قائلًا (هذه المرة ليس بصدد الرواية، بل
بصدد القصيدة الملحمية):
عمل بهذا الحجم لا يمكن اعتباره
شعريًّا إلا بقدر ما تتم التضحية
بالشرط الحيوي لكل عمل فني،
الوحدة — لا أريد
الحديث عن الوحدة في المفهوم، بل
الوحدة في الانطباع، و
كلية التأثير.
١٤٢
ها نحن إذن قد وصلنا — بانقلاب غريب —
إلى مفهوم للقصيدة مناقض تمامًا للمفهوم
الكلاسيكي: هذه المرة، بدلًا من أن تكون
عملًا ذا مساحة معينة، سيكون الإيجاز ضرورة
حيوية للقصيدة، وشرطًا لازمًا لوحدة
التأثير.
والواقع أن هذا التعريف للقصيدة —
باعتبارها «كلًّا» من خصائصه الرئيسية
الوحدة والتكثيف — يبدو بمقدورنا أن نطبقه،
بشكل خاص، على قصيدة النثر التي — لأنها لا
تلجأ إلى القدرة السحرية كي تستثير الهزة
الشعرية — ينبغي أن تؤثر بكثافتها وحدها،
بسطوعها بدون أية شائبة، وقد أدرك
«هويسمان» من قبل هذه السمة، عندما رأى في
قصيدة النثر «أوزمازوم الأدب» مكثفة — «في
صفحة أو صفحتين» — الطاقات الأساسية لرواية بكاملها،
١٤٣ وبدقة أكبر، قال «أ. آتيس» عام
١٨٩٧م:
قصيدة النثر ليست أكثر مما لا
يكونه النظم، ليست بالحكاية ولا
الأقصوصة، سواء كانت هذه الحكاية
لفلوبير، أو هذه الأقصوصة لجوتييه؛
إذ لو بدا غريبًا التمييز بين
عملين على أساس طولهما، يظل
بديهيًّا أن وضع الحدود هذا أمر
جوهري، وأن المهمة خاصة للغاية،
وتكمن في أن تسيِّج في صفحة قصيرة
انطباعًا مستقلًّا وأحيانًا دراما كاملة.
١٤٤
ومنذ عهد قريب، أشار «أ. جالو» — بشكل
موفق إلى حد بعيد — إلى هذا الاحتياج إلى
الإيجاز والوحدة، عند تعريفه لقصيدة النثر
باعتبارها «قطعة نثر موجزة بشكل كافٍ،
موحدة ومقتضبة مثل قطعة من الكريستال
يتلاعب فيها مائة انعكاس متنوع»، إبداع حر،
لا ضرورة أخرى له سوى رغبة المؤلف في بناء
شيء مدغم، خارج كل التحديات، لا تنتهي فيه
الإيحاءات، على غرار مقطوعة «هاي–كو» يابانية.
١٤٥
كلية التأثير، التركيز، المجانية،
الكثافة: عدة تعبيرات تؤكد لنا فكرة أن
قصيدة النثر إنما هي عالم مغلق، موصد على
نفسه، مكتفٍ بذاته، وضرب — في نفس الوقت —
من الكتلة المشعة، المشحونة — في حجم ضئيل
— بإيحاءات لا تنتهي، والقادرة على هز
وجودنا حتى العمق.
هذا العالم — مثل كل عمل فني — هو عالم
من «علاقات»، وكثيرًا ما جرت مقارنة الشعر
بلحن طباقي
contrepoint،
١٤٦ ،١٤٧⋆
يتألف — في آنٍ — من حلقات ميلودية على
المستوى الأفقي وعلاقات رأسية (أو تناغمات)
بين «الأصوات» المختلفة للقصيدة:
١٤٨ إصاتات، وأحاسيس، وإيحاءات،
فالعالم الشعري معقد بشكل خاص، على أساس أن
الشعر فن تمثيلي، حيث تتأسس العلاقات أو
العلاقات الضمنية المتبادلة في كل لحظة لا
بين الوقائع المقدمة فحسب، بل بين هذه
الوقائع أيضًا والكلمات، التي تعتبر إشارات
لها، وتناغمات الإيحاء التي تعمق وتُثري
الإحساس بالكلمات؛ لهذا لا نستطيع القول إن
الشاعر يقترح على نفسه «وصف» لوحة أو مشهد،
أو «التعبير» عن هذا الشعور أو ذاك: إنه
يكوِّن بهذه العناصر المستمد من الواقع
المادي أو الذهني «موضوعًا» جماليًّا، إنه
يرتب عالمًا معقدًا يمكن القول إنه خالقه،
١٤٩ ولا يهم كثيرًا أن تكون
الوقائع المختارة قديمة أو حديثة، سامية أو يومية:
١٥٠ فلا أهمية للعناصر في ذاتها،
قدر أهمية مجمل العلاقات المعمارية والبنية
الكونية حيث لا تلعب المفاهيم، والصور،
والمشاعر المستدعاة مجرد دورها، بل أيضًا
أرابيسك الأصوات وإيقاع الجمل، والإيحاءات
من مختلف الأنواع، والدلالات الرمزية
الكامنة أو المتعددة إلى هذا الحد أو ذاك،
التي تمثل أحيانًا جوهر القصيدة، وتجعلنا
نستشف عبرها واقعًا آخر أكثر إبهارًا من
ذاته، فعندما يقول «رامبو»: «لقد عانقت فجر الصيف»،
١٥١ نشعر تمامًا أن هذه الكلمات
تحتوي — في آن — على إيحاء بنضارة مضيئة،
ونقاء، وإشراق، طارحة — بذلك — «موضوعًا»
ستنسجم معه العناصر الأخرى للقصيدة، الزهور
والأحجار الكريمة والسيول الفيضية
١٥٢ (ولا يهم كثيرًا ما إذا كان
الأمر يتعلق بمشهد طبيعي متخيل أو واقع
مصور)، وثمة مغزى ثانوي لا ينفصل بوضوح —
من جهة أخرى — عن الكلمات الموجودة،
تقريبًا، في حالة إرجاء،
١٥٣ لكنها يتسامى عليها: فكل شيء
ينتظم حول هذا المغزى الثاني، هذا السرد
الذي يوصف، والذي تكشفه لنا القصيدة، ككل
ويسرقنا، وفي هذا النص الموجز، المحمل رغم
هذا بالأصداء، ما من جانب أو «مشهد» شعري
بلا أهمية (سواء تعلق الأمر بالصور، أو
الإيقاعات، أو الأبنية الصوتية أو
الفكرية)، ما من تفصيلة أو كلمة بلا فائدة:
كل شيء «يؤدي دوره» جماليًّا، والكل يساهم
في الانطباع العام، والكل يتماسك بلا فكاك
في هذا العالم الشعري الواحد وشديد التعقيد
في آن.
وبديهي أن اللحن الطباقي لقصيدة النثر
وجيز بشكلٍ خاص؛ لأن الأمر يتعلق بعمل
موجز، حيث الكثافة ووحدة التأثير أكثر
ضرورة وأكثر سهولة في تحقيقهما في آن، ورغم
هذا، يبدو أننا لم نستنفد بعد مفهوم
«القصيدة» في حديثنا عن مجموع من العلاقات،
عن عالم منظم بقوة، والواقع أنه يمكننا
الإشارة إلى أنه في الرواية أيضًا يمكن
للعلاقات أن تنشأ بين عناصر الموضوع
(شخصيات، وأحداث، وأفكار أو رموز)، وأن
«تعمل» كل هذه العناصر على الصعيد الجمالي،
وتلعب دورها في تنظيم عالمي خاص، ولا شك أن
العناصر الصوتية الخالصة لن تلعب إطلاقًا
أي دور في الرواية، لكن ينبغي الإشارة إلى
أن هذه العلاقات أقل وضوحًا بكثير في قصيدة
النثر مما في قصيدة النظم (فلدى بعض
الكتاب، مثل «بودلير» على سبيل المثال، لا
يهدف إيقاع الجمل وإصاتات الكلمات — في
أغلب الأحيان — إلا إلى الاقتران الوثيق
بحركات الكائن الداخلي)، وما يهم —
بالتحديد — هو تعريف قصيدة النثر باعتبارها
«قصيدة» في العلاقة بأنواع النثر الأخرى،
وبشكل خاص في العلاقة بالرواية، والواقع
أنه ستتاح لنا فرصة التحقق من أنه كثيرًا
ما تم الخلط بين الأشكال القصيرة للرواية
(الحكاية، القصة، والأقصوصة) وقصيدة النثر،
١٥٤ وهو خلط يمكن أن يكون له
تفسيران: أولًا؛ لأنه إذا ما كانت الرواية
صيرورة في جوهرها (أو أن هدفها المعلن —
إذا شئنا — هو حكي حكاية)،
١٥٥
فإن
قصيدة النثر — من جانبها — ليست بالضرورة،
ولا هي دائمًا وصفية: فهي — على النقيض —
كثيرًا ما تستخدم عناصر سردية، ومن ناحية
أخرى، ومثلما في الواقع، «لا تظهر الرواية
وقصيدة النثر أبدًا في الحالة الخالصة تمامًا»،
١٥٦ فثمة روايات شعرية (لا أعني
فحسب مجرد تقديم أسلوب شعري، بل بنية مركبة
متعلقة بالموضوع، بنية قصيدة،
١٥٧ مثل رواية «تونيو كروجر»
لتوماس مان، على سبيل المثال)، وبالعكس،
فثمة قصائد، بل قصائد منظومة، تلحق
بالرواية: ﻓ «جوسلين» رواية من النظم، وإلى
حدٍّ ما جميع القصائد الملحمية،
١٥٨ ولا يقل عن ذلك ضرورة أن نحدد
فيمَ يختلف عالم القصيدة (على الأقل، في
جوهره) عن عالم الرواية، ما الذي يجعل
قصيدة النثر، رغم أنها مكتوبة نثرًا، نوعًا
شعريًّا، ذا نمط وجودي متميز.
ولا شك أنه يمكن تصنيف القصيدة، والرواية،
والفنون الأدبية بشكل عام، ضمن الفنون
الزمنية (الخاضعة، باعتبارها كذلك، لقانون
عدم الانعكاس) بالتعارض مع فنون الفراغ،
مثل العمارة، والتصوير الزيتي، والنحت،
ومفهوم الزمن — من ناحية أخرى — معقد،
لحقيقة أن الأمر يتعلق، في آن، ﺑ «زمن
حقيقي» (الزمن الذي تستغرقه القراءة) وﺑ «زمن ممثل» (ما دام الأمر يتعلق هنا بفنون
«تمثيلية»): وإذا ما كان زمن القصيدة
الحقيقي أقصر من زمن الرواية، فإن طول
المدة المقدمة متنوع للغاية في الأعمال
الشعرية كما في الأعمال الروائية،
١٥٩ لكن ها هو ما ينبغي التأكيد
عليه: ففي حين أن الرواية تنتظم في مدة
كضرورة تكوينية لها، وتظهر في شكل تسلسلي
في الزمن، بحيث يمكننا في كل رواية حقيقية
أن نلتقط اطرادًا ما، ونميز مراحل معينة،
فإن القصيدة — من جانبها — تقدم نفسها
ككتلة، كتركيب لا يقبل الانقسام: «في قصيدة
جميلة — على ما يكتب «ج. ريفيير» — لا يوجد
أبدًا اطراد: فالنهاية هي دائمًا في مستوى
البداية، نتواصل على الفور معها، وكل شيء
على مستوى واحد، وكل شيء يُلتقط على نفس
المستوى، وتشكل الأبيات دائرة، وكل منها
يدور نحو الآخر، وترقب بعضها بعضًا،
وتأسرنا في دائرتها، ذلك أنها تعمل على
تضليلنا في المكان، وهي تسعى إلى أن توحي
لنا بنسيان الزمن وبعده، فالانفعال الشعري
نوعٌ من التحويم بواسطته يتكون فينا، في
قلب الهرب من الأشياء، غدير الأبدية …»
١٦٠ ونصل هنا إلى ضرورة جوهرية،
وأساسية للقصيدة: فهي لا تستطيع الوجود
كقصيدة إلا إذا أعادت إلى «الحاضر الأبدي»
للفن الأوقات الأكثر طولًا، وأن تجمد
صيرورة متحركة في أشكال غير زمنية، لتلحق
بذلك متطلبات الشكل الموسيقي.
١٦١
والواقع أن الشعر الموزون (الذي يفكر فيه
«ريفيير») يقدم هنا مصدر الأشكال الإيقاعية
المنتظمة، من تساوي الأبيات، والعودة
المتأرجحة للقوافي: فالقارئ — الذي يستسلم
لتعويذته — «مؤسس ضمن حالة متناغمة، ويشعر
بحركاته وأفكاره التي تبناها النظام
الأبدي، إنه منفصل عن العارض واليومي»، على
ما يكتب «كلوديل»،
١٦٢ فقصيدة النثر مدعوة إلى
الاعتماد على مصادر أخرى كي تحررنا من
«النغمة المطردة»: ولكن، رغم اختلاف
الأساليب المستخدمة، فهي تكشف عن نفس
الجهد، ونفس الاندفاعة الإيكارية في محاولة
هزيمة وطأة الزمن.
فنلاحظ أولًا النزوع إلى الإيجاز، شبه
الغريزي، لدى كل شاعر نثر: عندئذٍ، تصبح
القصيدة ومضة خاطفة لا تسلسلًا في الزمن،
وتأثيرها على القارئ مباشر ولا اطرادي،
ندرك — بذلك — لماذا اتفق كل النقاد على
تعريف قصيدة النثر باعتبارها مقطوعة من
النثر «موجزة، موحدة، مقتضبة مثل قطعة الكريستال»:
١٦٣ فالكثافة هنا هي النتيجة
الطبيعة للإيجاز، وبالفعل، كلما ازداد
التركيب الشعري قوة، تولد لدينا الانطباع
بأن فراغات من الزمن أو من الاستمرار
الفكري تظل مدغمة تحت أنظارنا،
١٦٤ وهو ما سيعرضه النثر الاستلالي
رويدًا رويدًا وبالتدريج.
ومع ذلك، تظل الإشكالية مطروحة، حتى
بالنسبة لقصيدة موجزة للغاية: كيف يمكن
التوفيق بين الجريان الحتمي للزمن الحقيقي
والحاضر الأبدي للفن، بين المتعاقب
والمتزامن، ثمة وسيلتان، وهاتان الوسيلتان
المتعارضتان مرتبطتان بالاتجاهين
المتباعدين اللذين يوجهان قصيدة النثر سواء
نحو التنظيم الفني، أو نحو الفوضوية
التحررية، وتتمثل الوسيلة الأولى في
السيطرة — عبر أنساق مشابهة لأنساق النظم —
على الزمن، وامتلاكه، وفرض شكل وبنية عليه
عبر الإيقاع، وتتمثل الوسيلة الثانية في
التحرر من الزمن، في نفيه، في الخروج من
التصنيفات الزمنية، وبذلك، نصل إلى صيغتين
(سندرسهما فيما بعد): في الحالة الأولى،
القصيدة «الشكلية» أو الدائرية، المؤسسة
على التقسيم إلى مقاطع، والتكرار، والتنظيم
الإيقاعي، وفي الحالة الثانية،
«القصيدة–الإشراقة»، المنقطعة عن كافة
أشكال الاستمرارية: الزمن، الفراغ،
الاستدلال المنطقي، وستوجد — في الحالتين —
قصيدة، أي بلورة، وخلق لعالم مستقل، مغلق
على ذاته، متألق ببريق كوكبي في سماء الفن
اللازمنية.
وتقودنا الصفحات السابقة إلى استخلاصات
من نوعين: نرى — أولًا — أن مفهوم القصيدة
أساس لقصيدة النثر: إنه يسمح بتحديدها
باعتبارها شكلًا من المستوى الثاني، عالمًا
من العلاقات، و«كتلة» لا زمنية، وتمييزها —
بالتالي، وفي آن — عن الأنواع الأخرى للنثر
الأدبي والنثر الشعري، وسنلاحظ — من ناحية
ثانية — أن الثنائية، أو — إذا شئنا —
تناقض قصيدة النثر، متحققة في كل مستويات
تنظيمها: وهي تتجلى منذ المبدأ، ما دامت
قصيدة النثر تستخدم النثر، ذلك العنصر
الفوضوي والخام، وتشكله في قصيدة بأن تفرض
عليه تنظيمًا فنيًّا يجعل منه كلًّا واحدًا
وشديد التعقيد في آن، وهو تناقض يتبدى في
بنية الجملة الموقَّعة، التي تتوجه نحو
نمطين كبيرين، الجملة السلسة والموسيقية،
والجملة المتقطعة والديناميكية، ونجدها
الآن على صعيد تنظيم القصيدة، عندما نرى
حدوث صدع على مستوى مفهوم الزمن، يفصل
القصائد التي تسكِّن / تجسِّد التدفق
الزمني في أشكال صارمة، والقصائد التي
تتحرر من الاستمرارية ﺑ «تمرد» ضد
التصنيفات، لا الزمنية فحسب، بل أيضًا
المنطقية.
ولا بد الآن أن نتساءل: إلى أي تعارض
عميق، وإلى أي تنوع في المواقف الثقافية
يتجاوب هذا التناقض: إنه التعارض، لا بين
«مدرستين» شعريتين، وإنما بين عائلتين
ذهنيتين، ويتضح في كل مراحل عملية الخلق،
ويجعل من قصيدة النثر واقعًا معقدًا، لا
يمكن اختزاله في شكل واحد من التنظيم
الشعري، وفي مسعًى إبداعي واحد دائمًا،
فالشاعر — في عمله على هذه المادة الأولية،
أي جملة النثر — إنما يشكلها حسب صورته،
ويطبعها بعلامته الخاصة به، سواء بحبسها في
أشكال ضيقة، أو بإطلاق «حشد الكلمات»،
١٦٥ إنه يستهدف تحقيق كمال سكوني
في حالة من النظام والتوازن — أو بتشويش
فوضوي للعالم، حيث يمكن له — من قلبه — أن
يكشف عن كون آخر، ويعيد خلق العالم، ثمة
هنا، بشكل مبسط، عمليتان إبداعيتان
مختلفتان للغاية، موقفان متعارضان، لا
جماليًّا فحسب، بل أيضًا ميتافيزيقيًّا،
والواقع أن التأرجح الميتافيزيقي بين هذين
«القطبين»: روح النظام روح التمرد، يفسر
تأرجح قصيدة النثر بين قطبين: التنظيم
الفني، والفوضوية الهدامة.
(٢-٢) قطبا قصيدة النثر
التنظيم الفني، والفوضوية
الهدامة
ولا شك أن قصيدة النثر تنطوي في آنٍ (وهو
ما سبق أن قلته في بداية هذا الفصل) على
قوة فوضوية، تدفع إلى نفي الأشكال
الموجودة، وقوة منظمة، تنحو إلى بناء «كل»
شعري، ويؤكد مصطلح قصيدة النثر نفسه هذه
الثنائية: فمن يكتب نثرًا يتمرد ضد الأعراف
العروضية والأسلوبية، ومن يكتب قصيدةً يهدف
إلى خلق شكل منظم، مغلق على نفسه، ومنفلت
من الزمن، فثمة تمرد في نقطة انطلاق قصائد
نثر «آلويزيوس برتران»، مثلما ثمة شكل فني
في نقطة وصول اﻟ «إشراقات».
لكن مع التغاضي عن ذلك، فلا يقل عن هذا
حقيقة أن موقف «برتران» وموقف «رامبو»
يختلفان بعمق: فبرتران (ومعه جميع الشعراء «الشكليين»)،
١٦٦ يهدف إلى «خلق نوع نثري جديد»،
١٦٧ وإلى العثور على قوانين شكل
فني جديد، ليست أهدافه — بالضرورة — مغايرة
لأهداف الشعر المنظوم، و«رامبو» (ومعه
شعراء المغامرة الروحية) يهدف إلى «إيجاد
لغة» تسمح له بنقل رؤاه، و«اختراعاته المجهولة»،
١٦٨ لا يتعلق الأمر — هنا — بمجرد
موقفين جماليين، بل بطريقتين في رد الفعل
إزاء نظام الأشياء كما هي موجودة: يتعلق
الأمر بمواقف اجتماعية وميتافيزيقية في
آن.
وكثيرًا ما تم التأكيد على مدى توافق
الشعر المنظوم، الشعر «الموزون»، مع حالة
توازن جسدي وأخلاقي واجتماعي، وتوافق بين
الإنسان وعالمه،
١٦٩ وفي جميع الأوقات، راقت
للإنسان الاجتماعي الأغاني الموزونة،
والتعاويذ، والتوازنات التي تستجيب لغريزة
استسهال أساسية،
١٧٠ إنه الانغماس في الإيقاعات
الجسدية والكونية، والميل إلى النظام، «إن
بحر الشعر المنتظم (الذي يمتلك الوقت
لذاته) يشير إلى هم الاجتماعية، مثلما يكتب
«ﻫ. توماس»،
١٧١ إنه يستدعي فكرة الإنشاد،
ومفعم بالاعتبارات، ويقدم — على الأقل —
عنصر اتفاق، وبقدر ما يتخلى الشاعر عنه،
بقدر ما يتوجه نحو مجالات أكثر شخصية
وفوضوية»، ويمكننا الذهاب إلى حد القول إن
الشاعر الذي يكتب شعرًا (منتظمًا) يشعر
بالتوافق تمامًا، لا مع المجتمع فحسب، بل
مع الكون كله، في حين أن شاعر النثر غير
الشكلاني يتمرد ضد هذا الكون: «كخالق،
سيفعل ما هو مخالف لفعل الرب»، كما يقول
«هوجو»، الذي يضيف أن كل شيء في الطبيعة
«إيقاع ووزن، ونكاد نستطيع القول إن الله
صنع العالم نظمًا»،
١٧٢ لكن شاعر النثر الذي يبحث،
مثلما سيفعل شاعر النظم، عن جريان الزمن في
أشكال إيقاعية، وعلى أن يفرض عليه بنية
منتظمة، عقلانية، بواسطة المقاطع المنتظمة،
والتكرارات، والأبنية الدائرية، لا يقترح
على نفسه أهدافًا مغايرة لأهداف شاعر
النظم، رغم أنه يحل محل التماثلات العروضية
والصوتية (المقطعية والقافية) تماثلات
فراغات مختلفة: فكلاهما يعتنقان الإيقاعات الكونية،
١٧٣ ويندمجان في نظام متناغم،
ويدمجان نشيدهما في نشيد الكواكب.
وعلى النقيض يكره الشاعر المتمرد — على
حال الأشياء، وعلى القوانين الاجتماعية،
وعلى الوضع الإنساني — هذا «التسلسل» وهذا
«السحر» المخدِّر: إنه يرمي بنفسه بعنف نحو
أكثر أشكال النثر فوضوية، وأقلها «وزنًا»،
عندئذٍ، يتخلى الشعر عن أن يصبح وسيلة
اتصال بين الناس، وفعلًا اجتماعيًّا،
و«نعم» للنظام الكوني، ليصبح «آلة جهنمية»
يمتطيها الفرد ضد مجمل الكون، وعند تضاربها
مع قوانين تركيب الجملة والمنطق، فإنها
تتضارب عبرها ضد القوانين التي تحكم العالم
المعروف، مراكبة عالمًا آخر، أكثر سطوعًا
وأكثر نقاءً، «قدسًا» سماوية تصبح وسيلة
للغزو والخلق في آن.
وثمة مثال مدهش لهذا التفاوت بين شعراء
الفتنة الإيقاعية، والنظام الأبدي، وشعراء
التمرد الفوضوي، يكمن في هذا الوجه المزدوج
الذي يقدمه لنا حاليًّا شعر حديث للغاية،
ويستمد إلهامه من مصادر قديمة تمامًا في
آن، هو الشعر الزنجي والمالاجاشي الجديد،
نرى هنا الاعتراف (وقد أكد «ج. ب. سارتر»
على ذلك)،
١٧٤ بموقفين متعارضين، «منهجين»
شعريين، و— بالتالي — شكلين متناقضين: من
ناحية، الشعراء الذين يسعون — عن وعي — إلى
الاستسلام لسحر الإيقاعات البدائية،
وانسياب أفكارهم في الأشكال التقليدية
للشعر الزنجي»،
١٧٥ ويجدون في إيقاعات طبلة
«الطنطن» (أو في الأسلوب التقليدي
للتصرحيات الملكية
١٧٦ أو
hainteny)
عناصر شكل شعري سحري: «عندئذٍ، يصبح الفعل
الشعري رقصة للروح — مثلما يكتب «سارتر» —
ويدور الشاعر مثل درويش حتى الإغماء، وقد
أحل في نفسه زمن أجداده، ويشعر به وهو
ينساب في اهتزازات فريدة، وهو يأمل في
العثور على نفسه في هذا الانسياب الإيقاعي،
وسأقول إنه يحاول أن يجعل نفسه مملوكًا
لزنوجة شعبه، ويأمل أن تأتي أصداء طبلة
«الطنطن» لتوقظ الغرائز الغابرة التي تنام فيه»،
١٧٧ ومن الناحية الأخرى، فإن شعراء
التمرد — الذين يريدون «الغوص تحت القشرة
السطحية للواقع، وللمعنى العام، وللعقل
المفكر، كي يلمسوا أعماق الروح …»
١٧٨ — هؤلاء «سيرفضون الأشكال
المنتظمة، والعلاقات النحوية المألوفة،
وسيجعلون الكلمات ترقص مثل الأشلاء،
وسيلقون بها كيفما اتفق، محطمةً على الشاطئ»،
١٧٩ وثمة شاعران زنجيان كبيران
يمثلان هذه القوى المتعارضة»: «سنجور»
و«سيزير»، ﻓ «لدى سنجور، من ناحية،
الامتثال العميق لكل قوى الطبيعة والحياة
الإنسانية، ومن ناحية أخرى، التمرد والشقاق
الوطيد
مع المصير»، مثلما يؤكد «إيميه باتري» في
الملاحظة الخاصة بسنجور، مشيرًا أيضًا إلى
أن «لدى سنجور، الذي يحب ترجيع أصداء نبرات
«طنطن» غامضة، تنتصر العذوبة الأمومية
لليل، بطبيعة الحال، بينما يحب سيزير أن
يتمجد في ظل الاحتدامات الوحشية لشمس
محاربة، وتبدو إحدى هذه القوى أقرب لحساسية
«نوفاليس»، فيما تبدو الأخرى أقرب لرامبو …»
١٨٠ والواقع أن أناشيد «سنجور» —
المكتوبة غالبًا للآلات، «للناي والبالافون»
١٨١⋆، ١٨٢ و«الخالا»)
١٨٣⋆، ١٨٤ — تنبني، بشكل طبيعي، في
إيقاعات منتظمة، مستخدمة التماثلات
والتكرارات (انظر — على سبيل المثال —
البنية التماثلية ﻟ «نشيد الربيع»،
١٨٥ ومظهرها ذا التوازيات شبه
التوراتية)، بينما «سيزير» — الذي يرجع إلى
«رامبو» و«لوتريامون»، عبر السيريالية —
يتحرر بعنف من طغيان «المعنى» و«الجملة»
(وهي طريقة في التحرر من عقلانية البيض):
فالكلمات تنبثق من هذا «البركان الانفعالي»
الذي هو القصيدة،
١٨٦ منفجرة في صور متوهجة، تقودنا
خارج الزمن والمكان: «تتخطى الكلمات نفسها،
نحو سماء وأرض لا يسمح السامي والحقير فيها
بأن يصرف انتباهنا، وذلك أيضًا مجبول من
الجغرافيا القديمة …»
١٨٧ وتداعيات الصور ليست تلقائية
ولا سلبية، إذا صح القول، مثلما لدى
السيرياليين، بل هي ديناميكية، وتنظمها —
بحدة — قوة التمرد والمطالبة (انظر تحليل
«سارتر» لجملة: «البحار القذرة لجزر تتكسر
على أصابع ورود قاذفة اللهب وجسدي سليم كمصعوق»،)
١٨٨ ليس هذا فنًّا فحسب، بل أيضًا
ميتافيزيقا ثورية، يخلخلان — في كل نثريات
«سيزير» هذه — العالم الواقعي، ويضرمان
النار في كون من لهب ودم، حيث الكلمات
«ليست كلمات إنسانية».
١٨٩
هذا
الشكل الثاني من الشعر — الشعر الذي يستهدف
إعادة اختراع اللغة وتحطيم أطر عالمنا —
يستدعي ملحوظة هامة: أنه ينطوي على غموض
جوهري (سبق لرامبو أن قدم لنا مثالًا
مدهشًا له)، إنه إيجابي وسلبي في آن، غامض
وسحري في آن، «اكتشاف» للمجهول و«اختراع»
للمجهول في آن،
١٩٠ فالشاعر الرائي يجد نفسه
مأخوذًا بين الضرورة الصوفية — التي تتمثل
في جعل الشعر وسيلة معرفة واكتشاف، وفي
الوصول بمساعدته إلى عالم يقع خارج نفسه
١٩١ — والضرورة الشعرية بالمعنى
الحرفي، أو — إذا شئنا — الضرورة السحرية،
التي تحمل الشاعر، حسب تعبير «ريفيير»، على
«أن يستأنف فجأة سفر التكوين»،
١٩٢ إنه طموح خلاق يعطينا «رامبو»
مثالًا مبهرًا له عندما يقول:
لقد خلقت كل الأعياد، كل
الانتصارات، كل الدرامات، وحاولت
اختراع أزهار جديدة، وكواكب جديدة،
وشهوات جديدة، ولغات جديدة، آمنت
بامتلاك قدرات خارقة.
١٩٣
ولا شك أن هذا الطموح الإبداعي، الذي
يدفع الشاعر عاجلًا وآجلًا؛ لأنه شاعر،
١٩٤ إلى الرغبة في «توجيه حلمه
الأبدي لا الخضوع له»،
١٩٥ والذي يلهمه أحيانًا — مثلما
في حالة «رامبو» — زهوًا شيطانيًّا، يقوده
أيضًا — بطريقة شبه قدرية — إلى الشعور
بالوحدة، والعجز، والإخفاق: فالشاعر، بعد
أن حلم ﺑ «أن النجوم ستسترشد به»،
١٩٦ يدرك أنه عاجز عن تغيير
العالم، عن «تغيير الحياة»:
١٩٧
إذا ما كان «بودلير»
و«لوتريامون» و«رامبو» يبدون
مفعمين بالندم؛ فذلك لأن وحدتهم
بلا حدود، إنهم يعترفون بعدم
امتلاكهم لقدرة طلقة ومباشرة على
العالم والناس.
مثلما يكتب «إيلوار»،
١٩٨ الذي أوضح «م. كاروج» أنه
ينطوي على تأرجح من نفس النوع بين النشوة
الخالقة واليأس،
١٩٩ ورغم هذا، فالإخلاف ليس إلا
نسبيًّا؛ إذ إن الشاعر هو الصانع حقًّا
لعالم جديد، عندما يتخذ العناصر الخام،
التي لا تزال خاملة، والتي يأتي له بها
اللاوعي أو «تشوش كل الحواس»،
٢٠٠ عندما يلمها ويفرض عليها
نظامًا ليس اعتباطيًّا، بل مرتبطًا بالبنية
الداخلية لهذا العالم من الكلمات الذي هو
مؤلِّفه وانعكاسه في آن، ولدى الشعراء
«الفوضويين»، مثلما لدى الشعراء
«الشكليين»، ثمة إرادة «التنظيم في قصيدة»،
٢٠١ التي ينفصل الشاعر بفعلها عن
الصوفي، ويتخذ سلوكًا إيجابيًّا ومبدعًا،
فالفوضى ليست هنا — ولنقل ذلك مرة أخرى
٢٠٢ — سوى تاكيد لفردانية ساخطة،
والمرحلة الأولى لإعادة تنظيم الكون،
ويمكننا أن نذهب إلى حد القول إن الفوضوية
هي «النظام الذي نريد إقامته» بالتعارض مع
«نظام» الأشياء كما هو موجود،
٢٠٣ ومن هنا، ينشأ شكل أدبي لا اجتماعي،
٢٠٤ بلا شك، لكنه ليس بلا شكل،
وليس غير عضوي.
ها نحن نعود — إذن — إلى فكرة «الشكل»
الشعري، الغاية الأخيرة لكل جهد مبدع، سواء
أتمت ممارسته بتوافق مع القوانين الكبرى
للتعبير، والمجتمع، والكون، أو — على
النقيض — في ظل روح تمرد ضد هذه القوانين،
ففي قلب مفهوم قصيدة النثر نفسها سيتجذر
الاتجاهان المتناقضان اللذان سيوجهان
ويشكلان المادة اللفظية، ويولدان صيغتين
فنيتين متعارضتين: فمن «القصيدة الشكلية»
إلى «قصيدة الإشراقة»، سنرى مؤلفات الشعراء
النثرية تتأرجح حسب الأفراد
والعصور.
(٢-٣) صيغتا قصيدة النثر
القصيدة الشكلية
والإشراقة
هناك — من ناحيةٍ — شعراء النظام،
المثابرون على خلق كون منظم، حيث تؤكد
العودة المنتظمة للوقائع والأشكال على
الشعور بالنظام الأعلى الذي يحكم العالم،
وهناك — من ناحيةٍ أخرى — شعراء التمرد
والغزو المشدودون إلى الفعل المشوِّش
والخلاق في آن، فكيف «ستتبلور» هذه
الطموحات المتضاربة بشكل شعري؟ بشكل خاص،
كيف سيجيب هؤلاء وأولئك على هذه الضرورة
الخاصة بأن يعيدوا إلى «الحاضر الأبدي»
للقصيدة الانسياب الزمني للكتابة الأفقية؟
الآن سنرى تمايز صيغتي قصائد النثر اللتين
ألمحت إليهما: القصيدة الشكلية، التي تفرض
على الزمن بنية وأشكالًا إيقاعية منتظمة،
والقصيدة–الإشراقة، التي تتجاوز حدود
المكان والزمان.
فإذا ما ألغينا الأساليب الخاصة بنظم
الشعر (تساوي الوقت، والتماثلات التي ترجع
إلى الوقفة والقافية)، فسرعان ما سنلاحظ أن
الأساليب التي تتمتع بها قصيدة النثر — كي
تفرض على الانسياب الزمني بنيةً وشكلًا —
تنحصر في اثنين: التقسيم إلى مقاطع،
والتكرار، الذي يشمل اللازمات، واسترجاع
الكلمات أو الموضوعات، والتماثلات من كل
الأنواع، والواقع أن شعراء النثر قد
استخدموا كل هذه الأساليب منذ وقت مبكر
للغاية، بالإضافة إلى أنهم استعاروها من
الأشكال الموسيقية — التي تستهدف البحث عن
«إخضاع الزمن إلى اللازمني»، وإلى أن «تؤسس
— في حركية الواقع — أبدية الشكل».
٢٠٥
والمقاطع النثرية (التي تناظر «مقاطع»
الأغاني، وفقرات الشعر) تُجزِّئ الزمن إلى
أجزاء منتظمة في أغلب الأحيان،
٢٠٦ مفصولة ﺑ «فراغات» أو فترات
صمت، إنها فترات الصمت التي تخلق إيقاعًا
وتشير إلى «الهيكل الذهني» للقصيدة،
٢٠٧ وهي تسمح أيضًا بامتداد
إيحاءات كل مقطع، وبنشر موجاته فينا،
وعندما — تفصل — بين هذه المقاطع وبعضها،
فإنها تسمح بعزل «اللحظات» المختلفة
للقصيدة، وباختيار لحظات دالة في
الاستمرارية دون انقطاع عن الواقع، وقد
اعتمد الشعراء اعتمادًا كليًّا على التنظيم
الإيقاعي الذي يعود إلى المقاطع إلى حد
أنهم اعتبروها أداة تجزيء للزمن إلى أجزاء
متساوية المدة مماثلة للأبيات، فشرعوا —
منذ هذه اللحظة (وبشكل خاص في الترجمات
المزعومة) — في كتابة أناشيد غنائية بالغة
الطول، ورابسودية، حيث يظل التقسيم إلى
مقاطع العنصر الوحيد للانتظام الإيقاعي.
٢٠٨
لكن هذا التقسيم إلى مقاطع — في قصائد
النثر — كثيرًا ما تصحبه بنية دائرية
للقصيدة، وتنظيم إيقاعي مبني على العودة، والتكرار،
٢٠٩ وأشكال التكرار متنوعة للغاية:
عودة إحدى اللازمات على مسافات منتظمة
(لازمة متشابهة دائمًا عندما يُراد التأكيد
على الشعور بالثبات، والوقوف — عن قصد — في
مستوى الأبدية الثابتة،
٢١٠ أو اللازمة المتنوعة عندما
يُراد ضم المتشابه والمتخالف، التكرار والتنوع)،
٢١١ واسترجاع جملة البداية في موقع
النهاية، مما يمكن الفكرة الشعرية من
الالتفاف حول نفسها وإغلاق القصيدة، لتؤكد
— بذلك — على انطباع «الدورة» و«الدائرة المغلقة»،
٢١٢ واسترجاع للكلمات أو
التعبيرات، ولا سيما في بداية أو نهاية المقاطع،
٢١٣ واستعادة الأصوات، أي السجع أو
المحارفات، المتكررة بشكل خاص والبارعة في
فترة الرمزيين،
٢١٤ والتماثل ليس سوى شكل للتكرار،
ما دام يتمثل في استعادة بنيات متماثلة:
وقد أشرنا إلى بضعة أمثلة لافتة للنظر لدى «برتران»،
٢١٥ ويمكننا أن نذكر أيضًا البنية
«الثنائية» لقصيدة «محاسن القمر» لبودلير،
والبنية «الثلاثية» في «حبيبة دانزيس» في
اﻟ «جوزلا» لميريميه
٢١٦ (والتوازي، المتكرر إلى حدٍّ
بعيد، لدى الشعراء الذين يستلهمون التوراة،
٢١٧ ليس سوى شكل للتماثل)، وتقدم
قصيدة من قبيل «الأمل» ﻟ «ج. تيلييه»
٢١٨ شكلًا مركبًا وبارعًا على نحو
خاص في التماثل، المتسق مع تكرار العبارات
وبناء كل جزء في «دائرة مغلقة»: في الزمان
الجميل للفاجنرية، ستستخدم قصيدة النثر
«الموسيقية» وستسيء استخدام بنيات كهذه:
فما هي «اللازمة»، إن لم تكن التكرار
المتنوع إلى هذا الحد أو ذاك؟
يتعلق الأمر — هنا، بشكل رئيسي، كما نرى
— بالتكرارات الشكلية التي تفرض بنية
إيقاعية على الزمن الحقيقي للعمل، لا على
الزمن المقدَّم
représenté:
فالرواية هي صاحبة التأثير على الزمن
المقدم، وكشف «العودة الأبدية» النيتشوية
في نفس الأحداث، لتخلق بذلك «زمنًا خارج
الزمن»، مثلما فعل «توماس مان» في أغلب رواياته،
٢١٩ ومع ذلك، فمن البديهي أن
استعادة أو تماثل الكلمات يقود إلى استعادة
الأفكار أو الإيحاءات، فالاستعادة — بلا
كلل، على سبيل المثال — لكلمة «شَعْر» في
قصيدة «بودلير» النثرية،
٢٢٠ تنجح في خلق شعور بالاستحواذ،
بنوع من الافتنان، ﺑ «دائرة سحرية» يختلط
بداخلها كل مفهوم الزمن الملغى، الماضي
والحاضر، المرأة المعانقة والأراضي البعيدة
في حقيقة واحدة، غامضة ولا تقبل التجزئة،
وقد يحدث — فضلًا عن ذلك — أن يعيد الشاعر،
مرة بعد أخرى، في قصيدته، أحداثًا متماثلة
أو متشابهة، لينظِّم — هذه المرة — الزمن
المقدَّم: فعل «هويسمان» ذلك في «لازمة موسيقية»،
٢٢١ ويحقق «فييه دي ليل–آدام» به
مؤثرًا مدهشًا في «صوت الشعب» (حيث نرى نفس
الشعب، خمس مرات، وهو يهتف ﻟ «أبطال»
مختلفين أمام شحاذ يكرر كل مرة: «فلتأخذكم
الشفقة بأعمى مسكين، من فضلكم!»).
٢٢٢
وأيًّا ما كانت الأساليب، يظل المثل
الأعلى لهؤلاء الشعراء في «العودة الأبدية»
— دائمًا، في جميع الحالات — هو السيطرة
على الزمن بإجباره على الانتظام الإيقاعي،
وبالدخول في زمن «موسيقي» و«عقلاني»، خارج
الانسياب المتواصل للصيرورة، إن الكمال
الذي يبحثون عنه ذو جوهر سكوني:
٢٢٣ إنهم يريدون أن يعيدونا «إلى
مستوى واحد مع الأبدية»،
٢٢٤ عبر أساليب مغايرة لأساليب نظم
الشعر، وإن تكن مماثلة في أهدافها.
لكن ثمة وسائل أخرى للوصول إلى
اللازمنية، ولإخراج القارئ من الشعور
بالتعاقب المحتوم: فبدلًا من البحث عن
السيطرة على الزمن بجعله ينساب في أشكال
دائرية، يمكن المجاهدة من أجل التحرر منه،
ونفيه، بالتواجد — بفقزة واحدة — خار
التصنيفات الزمنية، الماضي والحاضر
والمستقبل: «قفزة جنونية ولا نهائية»
٢٢٥ يظل اسم «رامبو» مرتبطًا بها،
وتقودنا إلى مفهوم القصيدة–الإشراقة، وسيتم
هنا — في آن — تقليص «الزمن الحقيقي» إلى
الحد الأدنى، حيث إن القصيدة ستقدم في شكل
«كل» موجز للغاية، يهدف إلى أن يولد لدى
القارئ الانطباع بالصدمة، والهزة الشعرية
المباشرة والمكثفة للغاية، حسبما أراد «إ. بو»،
٢٢٦ و«الزمن المقدَّم» الذي لن
يتجلى في التسلسل في خطوط مستقيمة أو في
دائرة مغلقة، بل في نقطة مضيئة، ذات بريق
ساطع وفوري.
هذه المرة، نغادر — بوضوح — مجال
الموسيقى، التي لا يمكن أن تتطور إلا في
الزمن، وباستخدام مستويات الزمن (الجدير
بالملاحظة بالفعل أن شعراء «الإشراقة» هم —
إلى حدٍّ كبير — شعراء الصورة، بأكثر من
كونهم شعراء موسيقى)، ونلاحظ — في نفس
الوقت — أن الشاعر لن يهتم كثيرًا بتنظيم
عمله بطريقة شكلية خالصة، قدر اهتمامه
بالتأثير في الزمن المقدم، فيما يمكن أن
نسميه «الشكل ذا المستوى الثاني»،
٢٢٧ لكن، كيف نلغي الزمن، مثلما
سيقال لنا؟ نرى الشعراء يبذلون جهدهم من
أجل ذلك بطريقتين: تتمثل الأولى في إلغاء
المستويات الزمنية بمعنى الكلمة، فيمكن
للشاعر أن يصف «رؤى» لا زمنية، مثلما في
قصيدة «صوفية» لرامبو،
٢٢٨ أو كما في قصيدة «بربري»، التي
تقع «بعد الأيام والمواسم والكائنات
والبلاد بكثير»،
٢٢٩ لتلحق — على هذا النحو — بهذه
الوحدة غير المسماة حيث تجلس على العرش
أمهات «فاوست الثاني»، وحيث «لا وجود
للمكان ولا للزمان أيضًا، بدرجة أقل»،
٢٣٠ أو — أيضًا — تقليص الديمومة،
والإمساك بالقرون متعانقة بنظرة واحدة
مثلما فعل «هوجو» أمام «حائط القرون»،
٢٣١ وتوحيد العناصر المستمدة من
الحضارات البعيدة في الزمان كما في المكان
(مثلما فعل «نرفال» في «مآثر»)
٢٣٢ ومن هنا، يكمن — لدى رامبو —
«اصطدام» الفترات التاريخية (أمسية تاريخية)،
٢٣٣ والنقلة العنيفة من الماضي إلى
الحاضر، ومن الواقعي إلى المحتمل، و«السرعة
العنيفة» للحركة،
٢٣٤ ويكمن — لدى «لوتريامون» —
التباس التسلسل التاريخي للوقائع، والقفزات
عبر الزمن،
٢٣٥ ومرونة الديمومة المتقلصة
أحيانًا والممطوطة أحيانًا،
٢٣٦ ويكمن — لدى الاثنين، ولدى
الكثيرين من الشعراء الحديثين — التحولات
التي تضع تحت أعيننا تغيرات متسارعة على
الطريقة السينمائية، حالات الظهور
والاختفاء الفورية،
٢٣٧ ودوامة كل العناصر المحمولة في
حركة تقلب كل المفاهيم الإنسانية عن الثقل،
والديمومة، والانغراس في الزمن والمكان:
«تحويل الهاويات واصطدام الثلوج بالكواكب»،
٢٣٨ والواقع أن إلغاء المكان ليس
سوى وسيلة لإلغاء الزمن، ما دامت المسافات
تقاس بالأيام والشهور تمامًا مثلما تقاس
بالأمتار، وما دام يمكن — بالعكس — إدراك
الزمن ﮐ «مكان ذهني»:
٢٣٩ «عمق المكان مجاز على عمق
الزمن»، كما قال «بودلير»؛
٢٤٠ ولأن الشاعر يقلص الديمومة،
فهو يقلص المسافة، وهو يجول ببصره «من مضيق
النيلة إلى بحار أوسيان»،
٢٤١ وعلى غرار الرسامين
الانطباعيين، يقارب بين الأشياء التي يفصل
بينها المنظور العادي، ويرى قنوات تتدلى
خلف البيوت الخشبية،
٢٤٢ وأذرع «ترسي جسرًا» من جانب
الشارع إلى الجانب الآخر
٢٤٣ ويتخذ — مثلما يقول «إيلوار» —
«عادة الصور الأكثر غرابة»،
٢٤٤ ومن كل الحقائق الجغرافية،
يعيد تكوين حقيقة شعرية، تقع في جميع
الأرجاء وفي لا مكان: «مجالها لازورد وخضرة
متكبرة، تجري على شواطئ مسماة، عبر موجات
بلا أوردة، بأسماء يونانية، وسلافية،
وسلتية بشكل قسري».
٢٤٥
مجال اعتباطي، خيالي بشكل خالص أحيانًا،
بلا سيطرة عليه من العقل: «عقل السيد
إيجيتور، المتجه إلى القمر!»
٢٤٦ إذ إن الشاعر يستطيع (وهي
الوسيلة الثانية للتحرر التي يتمتع بها)
ألا يكتفي بإلغاء المستويات الزمنية، بل
يلغي أيضًا الأنواع المنطقية: فالنتيجة
دائمًا تتم على هذا النحو؛ لأن مفاهيمنا
المنطقية مرتبطة بمفاهيم الزمن والمكان،
ولا تستطيع هدم واحد منها دون انهيار
البقية، فأن يقفز كاتب بعنف من فكرة إلى
أخرى، هذا الافتقار إلى الانتقالة الذي
يثير ضيقنا، أليس مرتبطًا بفكرة الزمن
الضروري لإعداد النقلة، زمن يجد نفسه ملغًى
فجأة؟ وإذا كان «منطق الحلم» يثير حيرتنا،
فذلك — بالتحديد — لأن الزمن فيه متسارع،
أو ملغًى، أو — على النقيض — ممطوط بإفراط،
فوجودنا لا حقيقي مرتبط بالزمن بشكل لا
فكاك منه (فهو البعد الرابع لعالمنا)، إلى
حد أن هذا المفهوم واقع تحتي لكل
استدلالاتنا، ولكل رؤيتنا للعالم، فإذا ما
ألغيناه فجأة، فسنرى كل المظاهر المنطقية
تهتز، ويكبر بقدر ما يوازي قلب الواقع شرخ
قاتل. وإذا ما ألغينا، بالعكس، المبادئ
الكبرى للهوية،
٢٤٧ والسببية،
٢٤٨ فسنرى الزمن يتلاشى في قلب
كارثة كونية، حيث يمكن للشاعر — واقفًا
وحده «في سماء العاصفة وأعلام النشوة»
٢٤٩ — أن يظن نفسه متحررًا من
المكان والديمومة حرًّا لا يموت مثل إله:
٢٥٠ «تبدأ الحرية حيث يولد
المدهش»، مثلما يكتب «أراجون» في المرحلة
الأكثر طموحًا من السيريالية،
٢٥١ كيف نندهش — إذن — من أن يضع
عدة شعراء حديثين أنفسهم، عمدًا (من
«جاكوب» و«بريتون» إلى «إيلوار» و«ميشو»)،
تحت شارة اللامنطقي، في فترة يكون الواقع
اليومي أكثر فداحة، يتعلق الأمر ﺑ «اقتلاع
جذور» القارئ، وتحريره من وطأة الزمن القاهرة،
٢٥٢ ومن طوق العادات المنطقية في
آن، ونزعه من عبوديات هذا العالم ليمتلك
الحدس بعالم آخر غريب، وباهر، حيث سيسيطر
الإنسان، المتمتع بقدرات جديدة، على المادة
الطيعة، بدلًا من الخضوع لقوانينها.
٢٥٣
ويمكننا أن نضيف أننا — اعتبارًا من
السيريالية بشكل خاص — سنرى التأكيد على
اتجاه في تقديم القصيدة لا كإشراقة مفاجئة،
وحلم «حاد وخاطف»،
٢٥٤ بل كنص، نص يقع — إذا صح القول
— خارج الزمن: مستخدمًا أساليب السرد
التقنية (زمن الماضي، وتتابع الأحداث،
والوقائع المنقولة بموضوعية)، لكن مع تشويه
هذه الأساليب لتحقيق غاية غريبة تمامًا عن
السرد الذي تستخدمه الأقصوصة أو الرواية،
مع استخدام شعرية مقصودة، أي لا زمنية؛
٢٥٥ ولهذا، يضع الشاعر نفسه في
اللامعقول، ويقدم لنا نصوصًا بلا بداية ولا
نهاية، وأفعالًا تترابط خارج كل منطق، ولا
يبررها أي شيء ولا تؤدي إلى شيء، في عالم
هو عالمنا، ويبدو لنا — رغم هذا — غريبًا
بشكل فريد، ولا تؤدي نثرية الأحداث نفسها،
والموضوعية الظاهرية للراوي (أفكر في
«بيالو» و«ميشو» و«ر. دي أوبالديا» ضمن
آخرين) إلا إلى مضاعفة انطباع الغرابة،
وهذا الخيالي، الذي يخص الحلم نفسه، عندما
يضعنا — هكذا، عن عمد — في زمن خارج الزمن،
حيث لا شيء يتم ولا ينتهي إلى نتيجة، إلا
إذا كانت النتيجة ساخرة، وفيه تتلاشى
المستويات المنطقية، هو أيضًا شكل للجهد
الفوضوي و«مقتلع لجذور» الشعر
الحديث.
والقصيدة الفوضوية، التي لا تخضع — من
ناحية — لعادات التفكير المنطقي، لا تخضع
بالمثل لعادات اللغة: ﻓ «اكتشافات المجهول
تتطلب أشكالًا جديدة»،
٢٥٦ ولن يدمر إعصار التمرد تقاليد
الأسلوب «الشعري» فحسب، بل كل ما يشهد على
تنظيم فني، وبحث عن الانتظام، والتماثلات،
واللازمات، والتوازنات الإيقاعية. وسيبعثر
نفس العصف التسلسلات، وترابطات الأفكار،
وكل تماسك في الوصف، وكل تتابع في السرد:
فالشعراء الحديثون، في أعقاب «رامبو»،
يسكنون ما هو متقطع كي ينفوا — بشكل أفضل —
العالم الحقيقي: «وبينما كل متصل شعري يقبل
المقارنة مباشرة بالعالم اليومي، فإن كل
رؤية منقطعة تبدو غريبة وحرة بدرجة عالية،
إلى حد أنه لم تعد هناك إمكانية للمواجهة،
وأن تبدو الحرية الشعرية هذه المرة لا كشيء
يُحلَم به، بل كشيء مملوك»، حسبما يكتب
«كاروج» عن «رامبو» و«إيلوار»،
٢٥٧ فكيف لا نجد هنا — من ناحية
أخرى — هذا الموقف الهدام تجاه الزمن
(الملازم للفكر المنطقي) الذي يقود سريان
الجمل، وترابطها، والتنظيم التدريجي
للخطاب؟
وسنربط هذه الرغبة في إلغاء الزمن — بشكل
خاص — بكل المنحى الشعري الحديث في منح
«الكلمة» أهمية رئيسية، وبشكل خاص «الاسم»
الذي لا يمثل سوى العلامة والاستحضار للشيء
في جوهره الزمني؛ ولأنه يندرج في سياق
جملة، يفقد الاسم هذه القيمة جزئيًّا كي لا
يصبح سوى عنصر من كلٍّ يتخذ شكله
تدريجيًّا، عبر تقدم الجمل: ولكن ما إن
نعزله — وبالعثور على سيادته وبريقه الخاص
به — حتى يصبح نواةً إشعاعية، يرسل — بحرية
— بكل الإيحاءات الحسية أو الفكرية التي
كان تقدم الجمل المستمر يلقي بها في الظل،
وكان «رامبو» أول من شعر واستخدم هذه
«الحيوية المتفجرة للكلمة»، التي تمثل —
مثلما يقول «ج. جراك» — «الإسهام الإيجابي
للقرن الأخير في الشعر الفرنسي»،
٢٥٨ وقد أوضحت كيف أدى استخدام
الروابط ضعيفة القيمة، وأسلوب «التدوين»،
والرصد الخالص والبسيط، إلى فصل الكلمة
وعزلها عن النسيج الفعلي،
٢٥٩ فجمل من قبيل «أيها الفرسان
ويا طواحين الهواء، والجزر والرحى»،
٢٦٠ «الموسيقى، تحويل الهاويات،
واصطدام الثلوج بالكواكب»،
٢٦١ لا تساوي كثيرًا من «المعنى»
العام للجملة بقدر قيمتها عبر سلسلة
الإشراقات التي تشعلها بالتعاقب في خيالنا،
ثمة هنا اتجاه سيتم التأكيد عليه حتى
الفترة الحالية: ستصبح الكلمة، التي تتمتع
بوجود مستقل أكثر فأكثر، فردية فوضوية،
ترفض الخضوع لقوانين النحو، والذوبان في
المد اللفظي، فهي لم تعد تندرج في تنظيم
الجملة كي يمر المعنى عبرها مثلما يمر
التيار بامتداد السلك الكهربائي، إنها
تلتمع ببريقها الخاص، منفردة،
ونجمية.
وربما نشير إلى أن التقنية المعاصرة
للشعر الحر تسمح بهذا العزل للكلمة بشكل
أفضل مما قد يفعله النشر، وذلك حقيقي إلى
حدٍّ ما، مثلما يمكن رؤيته في هذه القصيدة
القصيرة للغاية لريفيردي، حيث تعمل الكلمات
— بلا شك — في بنية الكلمة، ولكن بشكل
مخالف تمامًا داخل جملة متصلة:
ظهيرة
يلتمِع الجليد
والشمس في اليد
امرأة تنظر
عيناها
وحزنها
الحائط المواجه خشن
التجاعيد التي تصنعها الريح في
ستائر السرير
ما يرتعد
يمكن النظر في الغرفة
والصورة تتلاشى
تمر سحابة
ولا شك أن النثر (حيث
الوحدة ليست البيت، بل الجملة) يحافظ —
بالضرورة — على طابع أكثر ارتباطًا
وميلودية
mélodique،
لكن ينبغي أن نلاحظ — رغم هذا — أن
الشَّرطة، والفراغات، والكلمات المشدد عليها
٢٦٣ ليست سوى وسائل لنزع الكلمة من
السياق، وطباعة — إذا صح القول — قيمتها
الخاصة على قيمتها النسبية في الجملة،
فيمكن لتفكيك الجمل، والإبدالات، وعلامات
التعجب، واسترجاعات الكلمات أن تملك نفس
التأثير، مثلما في جملة «إيلوار» هذه:
«خفيف، تتحرك، وخفيف، الرمل والبحر يتحركان»،
٢٦٤ أو في هذه الجملة الأكثر جرأة
لميشو: «كان هذا على باب ألم طويل، خريف!،
خريف، تعب! أخذت أنتظر، إلى جوار «التقيؤ»،
أخذت أنتظر، أخذت أنتظر بعيدًا مقصورتي
المرتبة، متألمًا مني، منزلقًا، أغوص، رمل! رمل!»
٢٦٥
هل سنشهد — إذن — «تفكيكًا» حقيقيًّا
للجملة، مبعثرة في غبار من عناصر معزولة
وفوضوية؟ في هذه الحالة، لن تتحقق أية
إمكانية ﻟ «قصيدة»، لكن الفوضوية ليست هنا
— في واقع الأمر، وكما هو الحال دائمًا —
سوى المظهر الآخر، الخلفية لإعادة تنظيم
العالم شعريًّا:
٢٦٦ لسنا أمام الفوضى، بل أمام
نظام غريب، فثمة علاقات تتأسس في الواقع
بين الكلمات التي يجاورها الشاعر،
٢٦٧ وتحدث تبادلات، وتوافقات
متنافرة أو مسجوعة، تستثار الكلمات بشكل
تبادلي، «مندفعة كلها، قبل الانطفاء، إلى
مبادلة من نار»، كي نستعيد تعبير «مالارميه»،
٢٦٨ وعلى مستويي التنظيم الشعري
(التنظيم في جمل أو مقاطع، والتنظيم في
قصيدة)، نرى هذه الكلمات — بإشعاعها من
الإيحاءات الصوتية والبصرية والشعورية —
«وهي تندرج في علاقات مثل النجوم في السماء».
٢٦٩
إننا نرى — في المقام الأول — تشكل
«كوكبة من الصور»، وعناقيد كلمات تساهم كل
منها سواء في تدعيم نفس الانطباع، وخلق
«مناخ» خاص (في جملة «ميشو» التي ذكرتها —
على سبيل المثال — نشعر تمامًا أن كلمات
«ألم، خريف، تعب»، رغم تجاورها ببساطة،
إنما هي واجهات لنفس «الفكرة» الشعرية، وأن
الخريف مرتبط بالألم وبالتعب في آن، من
خلال استعارة ضمنية)،
٢٧٠ أو في أن تكشف — من خلال تنافر
الإيحاءات المتعارضة — ومضات غير متوقعة:
«نار الجمر والزَّبَد»، في قصيدة «بربري»
لرامبو.
وهذه الكوكبات بدورها — على مستوى ثانٍ —
تنتظم وتندرج في علاقات، طبقًا لقوانين
متعلقة بالنظام الكوني الخاص بكل قصيدة،
فكل عمل فني — أيًّا ما كان تحرره من الفكر
العقلاني — يملك منطقه الداخلي: «يمكن
للمنطق أن يتحالف مع أكثر حالات الجنون
غرابة، وتولِّد هذه المزاوجة مؤلفات
عبقرية، مثلما يكتب «ريفيردي»،
٢٧١ يتم احترام العقل السليم،
يتحقق الإعجاب بمفاهيم مجنونة تنتظم في
أجوائها وعلى مستواها بشكل منطقي»، ومنطق
القصيدة هذا، الذي سيمنحها بنيتها
٢٧٢ ووجودها العضوي، يجمع ويوجه
عناصر المؤلف خلال مدة تأليفه، ويفرض عليها
توجهًا خاصًّا، ويمكن تأويله — على الصعيد
الشكلي الخاص — بتوازنات وتماثلات تبرز
هيكل العمل (مثلما في قصيدة «بربري» لرامبو
«متتالية من الأحمر والأبيض»، على ما يقول «روشون»،
٢٧٣ حيث تتجاوب وتتقاطع الموضوعات
المتعارضة، البربرية، والعذوبة، واللهيب،
والجليد، لتجد نفسها مجتمعة ثانية في
«الخاتمة»)، لكننا نشعر — في أكثر الأحيان،
في العمق — في قصيدة «عبثية» أو «غير
متماسكة»، حسب المعايير الكلاسيكية، بتأسيس
روابط وعلاقات بارعة بين الكلمات والصور
تنتظم من خلالها الفكرة الشعورية، بحيث أن
العمل المتحقق يتبدى مثل كل مكتمل، تركيب
يجمع في «إشراقة لحظية»
٢٧٤ كافة أنواع العناصر التي لا
يلتقطها الاستدلال المنطقي إلا منعزلة، ومن
فكرة التركيب والتوحيد هذه، سننتقل إلى
فكرة الرمز،
٢٧٥ كي نلاحظ أن قصائد النثر تتوفر
دائمًا على سمة رمزية: بشرط أن نأخذ كلمة
رمز لا بالمعنى الضيق الخاص بالتأويل
التشخيصي لفكرة (فكرة يمكن أن نجدها
ونحيلها إلى مخطط عقلاني دون تشويه
القصيدة) — ولكن بالمعنى الأوسع كتعبير
تشخيصي بلا شك عن تجربة حميمة — لكنه لا
يختزل في كلمات اللغة العقلانية: نمط في
التعبير لا يمكن تأويله شأن التجربة نفسها،
٢٧٦ ولا يمكن ولا يُستحب أن نؤوِّل
تأويلًا مباشرًا هذه القصيدة لبول إيلوار،
التي يصفها «م. كاروج» بأنها «لا تستنفد»:
٢٧٧
في البدء انتابتني رغبة كبيرة في
الغرابة والعظمة، كنت أشعر بالبرد،
وكان وجودي الحي والفاسد كله يأمل
في صرامة وجلال الموتى، أغواني بعد
ذلك سر خفي لا تلعب فيه الأشكال أي
دور؛ إذ أثارت فضولي سماء بلا لون،
حيث العصافير والسحب منفية، أصبحت
عبدًا للمَلَكة الخالصة للرؤية،
عبدًا لعينيَّ غير الواقعيتين
والعذاروين، الجاهلتين بالعالم
وبنفسيهما، قدرة هادئة، ألغيت
المرئي وغير المرئي، وضعت في مرآة
بلا قصدير، أبدي، لم أكن أعمى.
٢٧٨
ونشعر — رغم هذا — أن قصيدة كهذه تمتلئ
بالمعنى وتكتمل في ذاتها، بل إن النقص
الظاهري ﻟ «الخلاصة» يبرره أن الأمر لا
يتعلق بنص، بفعل نقوده إلى نهايته، بل
بتجربة داخلية وشبه صوفية يريد الشاعر — من
خلال الكلمات — استدعاء وإعادة خلق غمرها
«في الفراغ الصافي المضيء الذي أصبح جوهرها
وجوهر الكون»،
٢٧٩ والواقع أن الجملة الأخيرة:
«أبدي، لم أكن أعمى»، تستعيد وتقارب
الموضوعين المتعارضين من خلال: «وكان وجودي
الحي والفاسد كله يأمل في صرامة وجلال
الموتى»، ومن خلال: «أصبحتُ عبدًا للمَلَكة
الخالصة للرؤية»، فالقصيدة تملك منطقها
الخاص بها، وهي تنتظم لا عبر وسائل شكلية،
بل من خلال حقيقة داخلية تلتصق بها،
ونستطيع الاعتقاد بأن احتمال التحام أكثر
حميمية إنما يقوم على استخدام النثر (أو
الشعر الحر)، كأشكال أكثر مرونة، حيث لا
يُفرض أي أرابيسك موجود مسبقًا على الفكرة
الشعرية.
وسواء أقال الشاعر «أنا» أم لا (عندما
يروي لنا «ميشو» بالتفصيل مغامرات «قلم
ما»، فإنه لا يحدثنا في الحقيقة إلا عن
نفسه)، فسيصبح نثره شعريًّا بقدر ما سيصبح
كشفًا لتجربة ذاتية، والواقع أن العمل
الشعري يمتلك حقيقتين: حقيقة خاصة، مستقلة،
وحقيقة متعلقة بشخصية كاتبه، فمع البلورة
الشعرية في نفس الوقت، وكل منظم، فهو
انبعاث، «قرين» الوجود العميق للكاتب؛
ولهذا، نعثر دائمًا — من قصيدة إلى أخرى —
على «نوع من النسق النغمي الأساسي، علامة
صارخة أو صماء»، ونفس «المناخ الحيوي»،
٢٨٠ وما يقوله «بروست» عن لوحات
«فيرمير» المختلفة: «إنها مقاطع من عالم واحد»،
٢٨١ يمكن قوله عن مؤلفات كل شاعر
أصيل، سواء كان اسمه «بودلير» أو «رامبو»
أو «إيلوار» أو «ريفيردي»، فنحن نجد في
قصيدة «بربري» — على سبيل المثال — هذه
الوحدة للماء والنار، للعذوبة والوحشية،
التي تميز «المناخ» الرامبوي، وفي قصيدة
«إيلوار» التي ذكرتها للتو، تبدو المرآة
(هذه المرآة التي يخترقها الشاعر بحثًا عن
جوهر الأشياء) كإحدى الكلمات الجوهرية التي
تتيح الدخول إلى قلب العالم الذهني للشاعر،
٢٨٢ ولا يهم كثيرًا — عندئذٍ — أن
تكون القصيدة شعرًا
أو
نثرًا، شرط أن نعثر على «النسق النغمي
الأساسي» الذي يمنحها أصالتها، ويجعل منها
عالمًا صغيرًا له مكانه في قلب كون أكبر،
إلى أي حدٍّ تسمى الكلمات بطريقة لا واعية
وتلقائية لتعيد — بذلك — خلق العالم طبقًا
للمنظور الخاص بكل شاعر، وإلى حد — على
النقيض — أن يختار الشاعر ويضبط، بطريقة
واعية، العناصر التي ستعيد تكوين واقع
جديد؟ إنه سؤال صعب ومثير للجدل، أجاب عليه
المنظرون والشعراء حسب أمزجتهم وبطرق
مختلفة للغاية، ويبدو أن لا أحد من الشعراء
— في جميع الحالات — يمكنه الاكتفاء بأن
يكون تقنيًّا خالصًا، منسقًا للكلمات طبقًا
لحسابات دقيقة بهدف إحداث تأثير محدد
(مثلما أراد «بو» أن نعتقد عندما كان يفكك
«غُراﺑ»ﻪ الشهير)، وبالعكس، فلا أحد من
الشعر، مهما كان «ملهَمًا»، يستطيع الكتابة
بطريقة آلية خالصة، دون أن يستيقظ فيه، حتى
دون علم منه، الوعي الفني الواضح الذي ينظم
ويختار.
ها
نحن قد عدنا — إذن، مرة أخرى — إلى فكرة
للتنظيم الفني، وبمواجهة صيغتي قصيدة
النثر: القصيدة الشكلية أو الدائرية (التي
احتفظت لها — في موضع آخر — باسم القصيدة
«الفنية») والقصيدة–الإشراقة (أو القصيدة
«الفوضوية»)، لا نقابل الشكل أمام اللاشكل،
الفن أمام نفي الفن، وإنما نلتقي بنمطين
مختلفين من الإبداع الشعري، يتطابق كل من
هذين النمطين، مثلما رأينا، مع موقف جمالي
وميتافيزيقي مختلف: الأول، الذي يمنح النثر
تنظيمًا إيقاعيًّا ودائريًّا صارمًا، يتكشف
عن اهتمام أكبر بالتقنية الشكلية، وموقف
أكثر وعيًا وقصدية، وجمالية مؤسسة على
النظام والمعيار في آن، و— بالتالي — على
الشعور بالنظام والتوافق الكونيين، وعلى
الرغبة في المساهمة فيها، والثاني، الذي
يرفض المستويات الزمنية والمنطقية، الذي
يضع مقابل الترابطات النحوية والإيقاعية
جمالية المنقطع والإشراقة، يصدر عن رفض
للكون مثلما هو عن مطالبة فردانية. من هنا
تكمن الفوضى، ومن هنا يكمن الجهد لاكتشاف
عالم آخر، أو لخلقه بفعل السحر الشعري،
وبديهي أن هذين النظامين الجماليين
الكبيرين، اللذين تؤدي دراسة الأعمال إلى
اتضاح معالمهما إلى حدٍّ بعيد، ليسا بهذه
الصرامة في الواقع، حيث نجد أنفسنا في
مواجهة عدة حالات خاصة، بدرجات، وتطورات،
وأشكال تهرب من كل تصنيف،
٢٨٣ ولا ننسى — من ناحية أخرى — أن
في أساس كل محاولة في قصيدة النثر ثمة رغبة
في إيجاد شكل جديد وفردي وفوضوي في آن، في
العلاقة بالأشكال الثابتة، وفني في تنظيمه
للنثر في قصيدة، ورغم هذا، أعتقد أنه
يمكننا — على أية حال — التأكيد على وجود
استقطاب مرهف للغاية: فالشعراء، سواء
انجذبوا نحو قطب النظام، أو نحو قطب الفوضوية،
٢٨٤ يصلون إلى الشكل الدائري، أو
شكل الإشراقة، ويجتمعون في عائلتين
روحيتين.
(أ) من قطب إلى آخر: تأرجح
وتطور
لقد اعتبرت جمالية قصيدة النثر
موضوعًا قارًّا دائمًا على امتداد هذا
الفصل، واجتهدت لتوضيح ما انطوى عليه
مصطلحا نثر وقصيدة، وتسليط الضوء على
القطبين الجاذبين — نظام وفوضى —
اللذين تتأجرح الأعمال بينهما حسب
الاتجاهات العميقة، وحسب الموقف
الجمالي والميتافيزيقي لكل لكاتب،
وذلك، دون أخذ الفترة في الاعتبار،
ولكن ألا ينبغي أيضًا أن نتأمل قصيدة
النثر في تطورها التاريخي، وأن نتحدث
هذه المرة لا عن تأرجحات وإنما عن
تطور؟ بمعنًى آخر، ألا يوجد في تاريخ
قصيدة النثر، منذ أصولها حتى وقتنا
الراهن — بجانب تناوب منتظم إلى هذا
الحد أو ذاك بين القصائد «الدائرية»
والقصائد «الفوضوية»
٢٨٥ — نوع من حركة المد
الواسعة الصاعدة، التي تزحف وتتقدم
موجة إثر موجة؟ والواقع أنه كان سيثير
الدهشة حقًّا ألا يتطور نوع «قصيدة النثر» مع الأنواع الأدبية الأخرى، وفي
نفس الاتجاه، كلما تطورت المفاهيم الاجتماعية والثقافية والفنية، وكلما
تسارع تطور الحضارة الحديثة: ومثل
المظاهر الأخرى للشعر، ترتبط جمالية
قصيدة النثر وتقنيتها — على نحو وثيق —
بسياق الأحداث التي تغير عالمنا، حتى
عندما تعكس موقف تمرد ضد هذا الكون،
فما أريد الإشارة إليه — الآن — هو
معنى هذا التطور، إلى أن يمكن إعادة
تناول الموضوع بشكل أوسع في نهاية هذا
العمل، عندما سيتبدى التطور التاريخي
لقصيدة النثر في كامل مداه.
ولأنها نوع نشأ من الثورة
الرومانتيكية، ونتج من نفس الرغبة في
التحرر التي تقود — عندئذٍ — إلى
«تفكيك» الشعر الكلاسيكي، تحمل قصيدة
النثر — في طياتها، منذ النشأة — مبدأً
فوضويًّا وفردانيًّا ستؤدي الظروف إلى
تطويره أكثر فأكثر — وكنوع من رد
الفعل، في قلب حضارة آلية وعالم يطارد
دائمًا وعلى الدوام كل خصوصية، يبدو
الشعراء ميالين إلى الحديث دائمًا بلغة
أكثر فردانية،
٢٨٦ فمنذ قرن، نشهد بدرجة أقل
— في المجال الشعري — تأرجحات بين
النظام والفوضى،
٢٨٧ من مدٍّ متصاعد للنزعة
الفردية الفوضوية، التي تتميز — في آن
— ﺑ «انفصال متزايد عن الواقع»،
٢٨٨ وبالطابع «غير الاجتماعي»
للقصائد: فالفرد يخوض صراعًا مع عالم
يرفض قوانينه، ولا يقبل أي قيد شكلي أو
منطقي، وهو لم يعد يعترف بواجب التعبير
عن الآخرين، ويتمسك فحسب بالسعي إلى
بناء عالم غريب، واكتشاف — أو خلق —
واقع أكثر أصالة، بالنسبة له، من
الواقع الموضوعي، فقصيدة النثر — في
شكلها الأكثر فوضوية — لا تفعل إذن سوى
ترجمة هذا التمرد، وهذا الجهد الإبداعي
الذي يصاحب خلق لغة جديدة، إنها منذ
«رامبو»، أداة صراع ضد أعراف اللغة
والتنميق الكريه في الأدب، وأداة لغزو
ميتافيزيقي في نفس الوقت.
وبعد اجتراءات «رامبو»، الذي ينطلق
بقفزة راديكالية نحو اللامعقول، ويجاهد
لمنح اللغة قدرات سحرية، وبعد الفوضى
الهدامة للوتريامون الذي يستخدم أساليب
أدبية للسخرية من الأدب، يمكن للمرحلة
الرمزية أن تبدو مثل فترة توقف، إن لم
تكن كحركة انكسار تمر فيها قصيدة النثر
بفترة براعة شكلية،
٢٨٩ والواقع أن الاتجاه
الفرداني (الذي أكدته كوارث عام ١٨٧٠م)
قد استمر — طوال كل هذه الفترة — في
الدفع، على نحو خفي تقريبًا، بمحاولات
الشعر التحرري
vers-libristes
والبيانات المتعلقة بحرية الشكل، وسنرى
ازدهار الفردية المضادة للنزعة
الامتثالية، بعد فترة ركود تفتتح القرن
العشرين، في القصائد «الحداثية»
لدورتان، والقصائد «التكعيبية» لجاكوب
وريفيردي: إنها نفس الفترة التي تذبل
وتنطفئ فيها القصيدة الكلاسيكية وقصيدة
النثر «الشكلية» و«الفنية»، ولنفس
الأسباب، وستفاقم حرب عام ١٩١٤م من
الصراع بين التدفق الفوضوي؟ وسنرى مع «دادا»
٢٩٠ وبعده، ومع السيريالية،
التأرجح نحو الفوضوية وقد بلغ أقصى
مداه، محطمًا كل أشكال الفكر العقلاني
وكل أطر اللغة معًا: ويمكننا التساؤل
عما إذا كانت العودة إلى الحالة
القديمة للأشياء (أي — فيما يخصنا نحن
— قصيدة النثر الفنية والدائرية) تبدو
ممكنة من الآن فصاعدًا، ويمكننا أيضًا
افتراض وجود تأرجح، منذ السيريالية، في
العودة نحو اتجاه النظام و«القصيدة»،
لكن الصياغات الجديدة (التي هي — من
ناحية أخرى — فردية) بعيدة للغاية عن
الصيغة القديمة «ذات المقاطع»، وربما
أبعد أيضًا عما كان «أبوللينير» يسميه
«التلاعب القديم بالأبيات».
٢٩١
ومع ذلك فثمة مفهوم تم استخلاصه
بوضوح من التجربة السيريالية: أن قصيدة
النثر — سواء كانت «فنية» أم «فوضوية»
— لم يكن بمقدورها أن توجد إلا بشرط أن
تكون قصيدة، أي شكلًا، كلًّا عضويًّا
مُغلقًا على ذاته، ولن يمكننا — بتطبيق
معايير خارجية مُسبقة — أن نحكم على
فشل أو نجاح قصيدة أو صيغة لقصيدة، ما
يهم هنا، هو الإخلاص لمنطق داخلي،
وترتيب العناصر المورفولوجية التي تشكل
عالم المؤلف: الكلمات، والجمل، والصور،
و«أخيرًا على كل شيء أن يخدم إشراقة
الفكر المولدة»،
٢٩٢ إذ يمكننا أن نطبق على
الشعر ما قاله «بودلير» في حديثه عن
«القانون الأعلى للانسجام العام»، الذي
يقود تنظيم عناصر لوحة جيدة، أو مثلما
قال «ماكس جاكوب» عن قصيدة النثر هذه
المرة (عن قصيدته، لكننا يمكن أن نعمم
ملاحظته): «لا نهتم فيها إلا بالقصيدة
نفسها، أي بتوافق الكلمات، والصور
واستدعاءاتها المتبادلة والدائمة»،
٢٩٣ توافق أسهل في تحقيقه —
بالتأكيد — في شعر النظام والتوازن
المعماري مما في شعر التمرد والغزو،
لكن النجاحات الأصعب هي أيضًا الأكثر
إبهارًا. وإذا ما كانت قصيدة النثر
«الفنية» تفضي إلى بحاحات مؤكدة: فإنها
تخاطر بالوقوع في أخدود البراعة
الشكلية والافتعال (رأينا ذلك مع
البارناسيين، وسنراه مع «ب. لويس»)،
فإن قصيدة النثر «الفوضوية» — بالمقابل
— لا تسمح بأي حلٍّ متساهل: إنها كل
شيء أو لا شيء، نجاحٌ ساطع أو ألعاب
نارية خائبة،
٢٩٤ ولهذا تحدد كلمة «جاكوب»
تمامًا هنا (وهو ما سيؤكده القسم
الثالث من هذا العمل) الموقف الخطر
والرائع لما يجازف به: «كي تكون شاعرًا
حديثًا، عليك أن تكون شاعرًا كبيرًا للغاية».
٢٩٥