الفصل الثالث

قصيدة النثر والشعر الحر

جمالية قصيدة النثر
(١) قصيدة النثر والنظريات الرمزية.

النظرية الرمزية: تماثل الطبيعة بين النثر والشعر، الانتقال، من خلال التلخيص التدريجي للنبرات، من النثر الموقَّع إلى الشعر الحر، النثر الموقَّع — من ناحية أخرى — مختلط بقصيدة النثر.

مناقشة النظرية:
  • (١)

    قصيدة نثر وشعر حر.

  • (٢)

    قصيدة نثر ونثر موقَّع.

    (أ) إيقاعات قصيدة النثر.

    (ب) من النثر الموقَّع إلى قصيدة النثر.

    خلاصة: قصيدة النثر ليست شكلًا وسطيًّا بين النثر والشعر، لكنها نوع مستقل.

(٢) جمالية قصيدة النثر:
  • (١)

    المبدأ المزدوج لقصيدة النثر:

    تستعير عناصرها من النثر؛

    تبني نفسها كقصيدة.

  • (٢)

    قطبا قصيدة النثر:

    التنظيم الفني؛

    الفوضوية الهدامة.

  • (٣)

    صيغتا قصيدة النثر: القصيدة الشكلية والإشراقات، من قطب إلى آخر: تذبذب وتطور، التوازي بين قصيدة النثر والتطور الاجتماعي، والثقافي، والفني.

***

قد يبدو مجانيًّا إلى حدٍّ بعيد أن نتحدث عن «جمالية» نوع يرفض — بالذات — أي تحديد مسبق، ولا ينفر من شيء قدر نفوره من أن يكون ثابتًا، ومصنفًا، وخاضعًا لمعايير جمالية أو أخرى: نوع متحرك، هيولي، أدى تطوره الدائم إلى التغيير العميق — حسب العصور — لمفهومه وبنيته، وقد ذكرت في مقدمتي أن كثيرًا من التعريفات المختلفة — إن لم تكن المتناقضة — قد حاولت تعريف هذا النوع، لتنتهي إلى أن نوعًا كهذا لا يمكن تعريفه،١ لكنني أشرت — وقتئذٍ — إلى أن هذا الرفض للمعايير التقليدية، وهذه المجاهدة للهروب من القواعد وللقيطعة مع كل لغة شعرية معروفة، كانت — بالفعل — خصائص مميزة لها، وأشرت أيضًا إلى مفصل الضرورات المتناقضة، والتعارضات التي شكلت جذر قصيدة النثر نفسها، ومنطق وجودها ومغامرتها الدائمة في آنٍ: أي الصراع بين حرية النثر والصرامة التنظيمية للقصيدة، بين الفوضوية الهدامة والفن المؤسِّس للأشكال، بين إرادة الهروب من اللغة وضرورة استخدام اللغة، وكل محاولات قصائد النثر التي رأيناها (والتي سنراها) يمكن اعتبارها محاولات في اتجاهات مختلفة من أجل حل نفس المشكلة، والتوصل إلى تركيب جدلي بين هذا الهدم للشكل وهذا الخلق للشكل، الذي تتطلبه — في آن — الروح الشعرية الجديدة.
وقد بلغنا الآن موقعًا مركزيًّا نسيطر فيه — من وراء الرمزيين — على المسعى الميتافيزيقي الكبير لبودلير ولوتريامون ورامبو ومالارميه، من أجل «خلق» لغة وإيجاد أداة للتوصل إلى المجهول أو المطلق، من خلال قصيدة النثر، ومنه نرى — خلال النصف الأول من القرن العشرين — ظهور أشكال تمرد ومحاولات تحرر أكثر جسارة أيضًا، ومن ناحية أخرى، فإن الرمزية — بالأهمية التي أضفتها على الدراسات التقنية والنظريات الجمالية — قد وضعت في الصدارة مسألة الشكل الشعري، ومشكلة العلاقات بين النثر والشعر: وانطلاقًا من النثر الموقَّع والشعر الحر، سيصبح من السهل علينا استخلاص الملامح المميزة لقصيدة النثر.
نستطيع — إذن — أن نحاول حاليًّا، بالارتكاز — في آن — على المؤلفات، وعلى الاتجاهات التي تعطيها شكلًا، وعلى النظريات التي تساندها، أن ندرك قصيدة النثر في جوهرها، وفي أشكالها الأساسية، وستتمثل المرحلة الأولية (السلبية، إذا شئنا) في تمييزها عن الأشكال التي قد نميل إلى خلطها بها، شعر حر مسهَب أو نثر موقَّع، وأن نعزلها باعتبارها نوعًا مستقلًّا، وفي مرحلة ثانية، سيتعلق الأمر بالعثور — عبر المظاهر المختلفة التي اتخذتها قصيدة النثر، وفقًا للفترات والأفراد، والضرورات الجوهرية الجمالية والروحية — على موقع ميلادها، وإدراك الحركة المزدوجة في الداخل، والقوى المزدوجة المتناقضة التي تمنح هذا النوع حيويته وأصالته، ربما سنرى وقتئذٍ — بشكل أفضل — فكرة قصيدة النثر كشكل حديث للشعر، وشكل فني يعبر — في نفس الوقت — من خلال مبدئه المزدوج، عن الصراع الأبدي بين النظام والحرية.

(١) قصيدة النثر والنظريات الرمزية

ارتبطت الإشكاليات المطروحة بفعل قصيدة النثر والنثر الموقع والشعر الحر — بشكل وثيق — بالمدرسة الرمزية! ومن ناحية أخرى — مثلما رأينا — توصل الرمزيون، عبر قصيدة النثر والنثر الموقَّع، إلى الشعر الحر، ويتيح هذا الواقع — بل سأقول إنه يتطلب — مواجهة بين الأشكال الثلاثة، مما سيتيح إعادة ضبط مفيدة.

والواقع أن الرمزيين قد كنسوا — وبأي حماس! — الفنون الشعرية، وجددوا فكرة الشكل في الشعر، ومنحوا الإيقاع — هذا المهمل — دورًا أساسيًّا على حساب البحر، هذا الطاغية، لكنهم انقادوا أحيانًا، في حماسهم الثوري، إلى تمثلات مجتزأة، وإلى بعض النظريات المطلقة على نحو مفرط — مما قد يولِّد خطر تشويش الأفكار، وبشكل خاص، فقد تبدت قصيدة النثر — التي كثيرًا ما دار الحديث عنها في حوالي عام ١٨٨٦م — متنكرة بطريقة غريبة: فالخلط يجري — بسهولة — بينها وبين النثر الموقع (فما يسميه الرمزيون «قصيدة نثر» هو — في أغلب الأحيان، مثلما رأينا — نثر منظم بشكل موقع أو، بالأحرى، إيقاعي):٢ نقصد نثرًا منظمًا بشكل إيقاعي، ويستخدم — مثل النظم — التلاعب المتنوع في النبرات والمؤثرات الصوتية مثل التكرارات، والسجع، والمحارفات، لكن هذا النثر الموقع يتخذ بدوره شكلًا، ضمن سلم متدرج يبدأ من النثر إلى الشعر الموزون (مرورًا بالآية والشعر الحر)، دون قطع التواصل؛ لأنه — على ما يقال لنا — ثمة فارق في الدرجة بين النثر والشعر، لا في الطبيعة، وبذلك؛ ولأن العنصر الإيقاعي أصبح حاسمًا، نصل إلى ألا نضع في الاعتبار سواه، وإلى أن نضع كافة الأشكال على نفس المستوى، وإلى التجاهل التام لمفهوم النوع.

يصبح من الضروري إذن — إذا ما أردنا تحاشي خلط الافكار والمصطلحات — أن نعيد ضبط الأشياء، وأن نعزل قصيدة النثر كنوع مستقل، بأن نوضح على التوالي:

  • أن النثر المُوقع الذي تستخدمه قصيدة النثر مستقل عن الشعر الحر، وذو طبيعة مختلفة.

  • أن قصيدة النثر، المكتوبة في نثر موقع، هي — رغم هذا — مستقلة عن النثر الموقع بقدر استقلالية متتالية «بيكريتير» ذات الطباق الموسيقي، على سبيل المثال؛ إذ إنها تفرض على هذا النثر الموقع تنظيمًا شكليًّا، وبنية إجمالية، كي تصنع منه كلًّا، «كائنًا فنيًّا».٣

(١-١) قصيدة النثر والشعر الحر

من لم يسمع بالإصرار على أن «الشعر الحر هو نثر»؟٤ من لم يسمع هؤلاء الأشخاص الذين يتحدث عنهم «دوجاردان»، «الذين يقولون لكم عن مقطوعات كهذه ﻟ «فيليه–جريفان»: «يا لها من قصيدة نثر رائعة»؟٥ إنه رد فعل طبيعي من جانب من لا يقبلون سوى الشعر الموزون، أو من يحترمون الشعر الحر، قياسًا إلى الشعر الكلاسيكي، ولا شك أن كل تطور الشعر — منذ البدء في إحلال الأسلوب التعبيري محل الأسلوب الخطابي في القرن السابع عشر — قد نزع إلى تقريبه من النثر، التعدي، و«الأبيات النثرية»، وكثير من المراحل، لكن ثمة خطوة حاسمة قد أنجزت عندما تم إلغاء التساوي في المقاطع اللفظية للأبيات، وتمت مواكبة نهاية البيت لا مع المقطع اللفظي الثامن أو الثاني عشر، بل مع وقفة المعنى، أصبح الشعر — بذلك — ذا وحدة شكلية ومنطقية في آنٍ، لم يعد يتدخل فيها التعداد المقطعي، وأيضًا، هدم إلغاء القافية (العنصر الأساسي في الشعر، لدى البارناسيين) الحاجز بين الشعر والنثر، إنه الإيقاع وحده الذي حكم الشعر الحر شأنه شأن النثر الموقع.٦
أيعني هذا أن ثمة تماثلًا حقيقيًّا في الطبيعة بين النثر الموقع والشعر الحر؟ الإقرار بذلك يعني الإقرار — مع الرمزيين — بإمكانية الانتقالات غير المحسوسة من النثر إلى الشعر، بأن نضيق (ببساطة) من الإيقاع، وبأن نضاعف النبرات!٧ ولكن — في هذه الحالة — لماذا نتقبل، في لحظة معينة، الشكل شعر؟ وقد طرح «بار» نفسه هذا السؤال بارتباك، بعد أن سأل أهم الشعراء التحررين: «إذا ما كان تناغم الشعر لا ينبغي أن يختلف عن تناغم النثر، فما فائدة الشعر والنثر؟»٨
وحول هذا التساؤل، يجيب الرمزيون بأنه ينبغي إلغاء الفجوة بين اﻟ «نثر» واﻟ «شعر»، وأنه يمكن العبور من النثر إلى الشعر بفعل انتقالات غير محسوسة، طالما أن التمايزات بين أحدهما والآخر إنما هي تمايزات في الدرجة لا في الطبيعة: هكذا، أقام «ر. دي سوزا» مدرجًا يبدأ من «النثر» (حيث تتوفر اللغة على الحد الأدنى من الحياة الإيقاعية)، إلى «الإيقاع»، فإلى «البحر»،٩ والشكل النموذجي هو الذي سيسمح بالانتقال من النثرية إلى الغنائية والعكس (أي شكل قادر على أن «يوقع» نفسه وأن «يسقط الإيقاع» عن نفسه في الحال): «شكل سيعبر، مثلما يقول «دوجاردان»، دون انتقالات وبلا اصطدام، من شكل الشعر إلى شكل النثر، وفقًا للحالة الغنائية للحظة، وستكون دائمًا بلا اصطدام ولا انتقالة، سواء كان شعرًا حرًّا، أو آية، أو قصيدة نثر،١٠ في تتالٍ دوري للأجزاء الإيقاعية المكثفة في شعر، الموسَّعة في شكل آيات والمخففة في شبه نثر»،١١ وشكل كهذا قادر على التوافق (مثلما أراد «بودلير») مع كل الحركات، وعلى متابعة كل انتفاضات الكائن الداخلي، هو حلم الرمزيين الكبير: «نحن نرى، مثلما يكتب «شارل موريس»، ما قد سيكونه كتاب يهبط فيه الأسلوب — حسب المناسبات التي تشير إليها الانفعالات — من الشعر إلى النثر، ويصعد من النثر إلى الشعر، مع أو بدون انتقالة قصيدة النثر،١٢ متأرجحًا عندما سيستخدمها في إيقاعات ستعلن وستوحي — بفعل الجناس والمحارفات — ﺑ «العدد» و«القافية» من أجل التواصل إلى بلوغهما، ونادرًا ما ستتركهما دون الإنذار بتدرج بطيء، بدلًا من تحقيق تأثير».١٣
هذا «الخلط الأساسي بين الشعر والنثر»،١٤ أهو ممكن؟ لقد سعى الرمزيون إلى اختبار تجربة شعر «تركيبي» تتحد فيه كل أشكال التعبير، من شعر، ونثر، ونثر موقع، مع الأشكال الأخرى من أجل «فن شامل»، مثلما كان يحلم به بتأثير «فاجنر»،١٥ وفيما يتعلق بثلاثية «أنطونيا»، المكونة من «قصائد نثر مختلطة بالشعر»،١٦ التي تتأرجح بين القصيدة والدراما والرواية، يذكر «موريس» — في ملحوظة مدققة — أن «دوجاردان قد يكون أول من حاول الجمع بين الشكلين الأدبيين: وإذا كان نثره يفتقر إلى التماسك، ونظمه إلى الشعر، فإن نواياه تظل جديرة بالثناء»،١٧ غير أن رمزيين آخرين سيلعبون على مفتاح أكثر اتساعًا في أعمالهم التي ستتخذ شكل روايات — قصائد (مثل «حكاية الذهب والصمت»، حيث يستخدم «كان» — ببراعة — النثر والشعر والنثر الموقع بالتبادل، دون أن ينجح، للأسف، في إثارة شيء آخر سوى الملل المثير للإعجاب)،١٨ وبشكل خاص في مسرحياتهم، سواء المخصصة للعرض أو القراءة: «سان–بول–رو» في مسرحيته المدهشة «السيدة ذات المنجل»، التي يقول إنه استخدم فيها «أشكالًا ملائمة للانفعالات المعاشة»،١٩ و«آبيل بيلوتييه» في مسرحيته «تيتان» (١٨٩٦م)، الذي يحقق — حسب ما يقول «غيل» — «مفهوم التعبير المختلط حسب حركة وصعود الفعل وروحية الشخصيات: لغة سوقية ونثر موزون، وشعر غنائي»،٢٠ و«آدريان روماكل» الذي بذل — في مسرحيته «العابرة»٢١ — جهدًا تركيبيًّا مزدوجًا وغريبًا: تركيب اﻟ أنواع الأدبية، الرواية، والمسرح، والقصيدة، وتركيب أشكال التعبير، الشعر، والنثر الموقع، إلى هذا الحد أو ذاك، والآية، وقصيدة النثر،٢٢ وكي نقصر حديثنا على هذه المحاولة الأخيرة، التي لا تفتقر إلى القيمة — فضلًا عن ذلك — فإننا ندرك تمامًا أن المؤلف يسعى إلى خلق شعر تعبيري «تركيبي»، حيث يتخذ النثر الموقع — إلى حد ما، طالما أنه محصور في التعبير عن الأفكار المجردة٢٣ — إيقاعًا ملحوظًا أكثر فأكثر، بقدر ما يغزوه الانفعال، ليصل أخيرًا — في لحظات التوتر الغنائي الكبير — إلى أبيات يمكن أن تكون إيقاعية أو موزونة، حسب ما ستتخذه الغنائية من طابع ديناميكي أو سحري: لكننا لن نرى فيها — بشكل جيد — إلا مدى مقاومة أشكال التعبير له، وهي تتجلى كأشكال عضوية راسخة، ترفض أن يتم تذويبها كي تدخل في مزيج أكثر قابلية للتشكل، والواقع أن ثمة قطيعة دائمًا (وليس انتقالة غير محسوسة) بين شكل وآخر، بين النثر والآية والشعر، ومن هنا يكمن الإحساس، أحيانًا، بالتنافر٢٤ الذي يتم الشعور به بشكل أوضح من قصائد النثر، أو الشعر، بالتحديد لأن كلًّا منهما يشكل كلًّا محكومًا بمادة المجموع، مثل الجلطات إذا جاز القول: إلى حد أنه بدلًا من «إعادة الفن إلى الوحدة البدائية والمركزية»،٢٥ مثلما أراد «موريس»، نصل إلى النتيجة العكسية تمامًا … ويبدو أن تعاقب الأشكال (التعاقب لا الذوبان) لن يجد مبرره حقًّا إلا في كتاب من قبيل «قوت الأرض»، حيث يقترح الكاتب على نفسه أن يستقبل كل أشكال الحياة، وكل أشكال التعبير، بلا اختيار أو تصنيف،٢٦ ويبدو — أيضًا — أن الشكل الوحيد المطاط بما يكفي للاتساع للخطاب أو الاقتصار على الشعر هو «الآية»، التي استخدمها «كلوديل» بأستاذية منذ بداياته (رأس ذهبية – ١٨٩٠م)، لكن ثمة — دائمًا — إيقاعًا، وثمة غنائية دائمًا، وهذا التوتر الغنائي هو ما يحافظ على الوحدة.٢٧
فلماذا يستحيل إذن العثور على شكل فريد، يمر من النثر إلى الشعر، عبر انتقالات غير محسوسة؟ لقد أثبتت التجربة للرمزيين أنهم يسيرون في الطريق الخطأ، بإنكارهم مفهوم اﻟ «شعر».
وثمة حقيقة ينبغي أخذها في الاعتبار تمامًا، إذا ما أردنا عدم الوقوع في الفوضى التامة: وهي أن بيت الشعر يشكل وحدة، للأذن مثلما للعين تمامًا، وهو ما يصدق أيضًا بالنسبة للشعر الحر والشعر الكلاسيكي، فسواء تعلق الأمر ببيت سكندري، أو بيت ثماني المقاطع، ببيت شعر حر قصير أو طويل، يظل بيت الشعر هو «الكلمة الكلية الجديدة، والغريبة عن اللغة مثل تعويذة» التي يتحدث عنها «مالارميه»،٢٨ وفي مواجهة النثر، الذي تتشكل وحدته من «الجملة»، فإن بيت الشعر – المعزول طباعيًّا، والمكون، كما يقول «كلوديل»، «من سطر وفراغ»٢٩— يشكل كلًّا منطقيًّا، ويشكل — في جميع الحالات — كلًّا شعريًّا، وقد نزع التعدي — أكثر فأكثر — إلى هدم الوحدة المنطقية في بيت شعر الرومانتيكيين،٣٠ وسعى الرمزيون — على النقض — إلى أن تتطابق الوحدة الشكلية والوحدة المنطقية: «كل وحدة تعبيرية للفكر، وكل وحدة منطقية في الخطاب، ستخلق وحدة إيقاعية في المقطع»، مثلما يكتب «هنري غيون»٣١ على سبيل المثال. وقد نعتقد أن هذا التقطيع إلى وحدات منطقية ربما يدخلنا عالم الخطابة، لكن لا شيء من هذا القبيل؛ لأن كل وحدة منطقية محسوسة باعتبارها كلًّا له علاقة بالوحدات الأخرى بطريقة أقل منطقية (تبعية للمعنى الإجمالي للجملة) من كونها إيقاعية أو شعرية.

وذكر مثال سيشعرنا — بشكل أفضل — بالاختلاف في «الطبيعة» بين النثر والشعر، وها هو مقطع من عمل «ﻫ. دي رينيه» الشهير، «الزهرية»:

وُلدت الزهرية في الحجر المنحوت.
تنامت رشيقة وصافية.
بلا شكل ما تزال في رشاقتها
وانتظرت.
اليدان خاويتان وقلقتان،
طوال أيام، أدير الرأس،
يسارًا، ويمينًا، بلا أدنى صوت،
دون مزيد من صقل البطن أو رفع المطرقة.
الماء
كان يسيل من الينبوع لاهثًا.
في الصمت
كنت أسمع الفواكه، واحدة واحدة، في أشجار البستان
تتساقط من غصن إلى غصن،
كنت أستنشق أريجًا مبشرًا
بزهور بعيدة على الريح،
كثيرًا
ما كنت أعتقد أنهم تحدثوا بصوت خفيض،
وخلال حلمي ذات يوم — دون نوم—
سمعتُ عبر الجانب الآخر من المراعي والجدول
النايات تشدو …
سأنقله نثرًا، مشيرة إلى المقاطع اللفظية التي ستتأثر بشكل طبيعي بنبرة الاستقرار (يمكن أن توجد، بالتأكيد، طرق في الإلقاء أكثر تشديدًا أو أقل):
La vase naissait dans la pierre façonnée, Svelte et pur, il avait grandi, informe encore en sa sveltesse, et j’attendis, les mains oisives et inquiètes, pendant des jours, tournant la tête à droite, à gauche, au moindre bruit, sans plus polir la panse ou lever le marteau. L’eau coulait de la fontaine comme haletante. Dans le silence j’entendais, un à un, aux arbres du verger, les fruits tomber de branche en branche; je respirais un parfum messager de fleurs lointaines sur le vent; souvent, je croyais qu’on avait parlé bas, et, un jour que je rêvais, —ne dormant pas—, j’entendis par-delà les prés et la rivière chanter des flûtes …

وُلدت الزهرية في الحجر المنحوت. تنامت رشيقة وصافية، بلا شكل ما تزال في رشاقتها، وانتظرت، اليدان خاويتان وقلقتان، طوال أيام، أدير الرأس، يسارًا، ويمينًا، بلا أدنى صوت، دون مزيد من صقل البطن أو رفع المطرقة. كان الماء يسيل من الينبوع لاهثًا. في الصمت كنت أسمع الفواكه، واحدة واحدة، في أشجار البستان تتساقط من غصن إلى غصن، كنت أستنشق أريجًا مباشرًا بزهور بعيدة على الريح، كثيرًا ما كنت أعتقد أنهم تحدثوا بصوت خفيض، وخلال حلمي ذات يوم — دون نوم — سمعت عبر الجانب الآخر من المراعي والجدول النايات تشدو …

ما الذي نثبته؟

  • (١)

    لا شك أن السحر الشعري لهذه المقطوعة لم يتلاشَ تمامًا، ورغم هذا فإن انطباع الانتظار المتردد، غير الواثق، ذي الإشارات المتقطعة (وكأنما بضعة إشارات معزولة واهية تفتتح، وهي تخترق الصمت، ظهور الحركة والحياة) مخفف للغاية؛ لأنه لا يعود إلا إلى علامات الترقيم لا إلى الوقفات، و«الفراغات» التي كانت تفصل بين أبيات شديدة القصر؛ إذ يمكننا القول إن صمت الانتظار كان محسوسًا بصريًّا (لدى الرؤية) بفعل الفراغ الذي يتخلل الصفحة، فالنص يشكل الآن استمرارية من الناحية البصرية.

  • (٢)

    ما كانت الوقفات — فيما بين الأبيات — تفصله، ربطه النثر معًا: هكذا تختفي الوقفات البالغة الدلالة الموجودة بعد

    وانتظرت

    وبعد

    في الصمت

    كما أن الوقفة كانت ترفع من قيمة كلمة مبشرًا، وسيميل الإلقاء العادي إلى تحييد الكلمة، إلى القول دون تشديد:

    أريج مبشر بزهور بعيدة

  • (٣)

    تصبح بعض المؤثرات الأسلوبية مستحيلة في النثر: فالتكرار «رشيقة – رشاقة» الذي يعطي تماثلًا عندما توضع إحدى الكلمتين في مقدمة البيت، والأخرى في نهايته، ليس — في النثر — سوى رعونة ورطانة.

  • (٤)
    يتحقق السجع في النثر مثلما في الشعر، لكن إلغاء الوقفة في نهاية الأبيات يمكن — أحيانًا — أن يقرب بين الكلمات المسجوعة بشكل منفر (Le vent – Souvent = الهواء – كثيرًا ما).
  • (٥)
    إن تحول النبر محسوس للغاية، لقد شكلت هذا النص كنثر موقع، بالتأكيد على نبرات متعددة للغاية، ولكن، وحتى مع أخذ طابعه الشعري بالاعتبار، فلن نذهب إلى حد القول، مع نبرتين: «L’eau coulait = الماء كان يسيل» — في حين أن البيت الأحادي المقطع في الأصل: الماء، مشدد عليه بالضرورة، والواقع أننا إذا ما نطقنا: «L’eau coulait/de la fontaine/comme haletante = الماء كان يسيل / من الينبوع / لاهثًا»، لتوفرنا على جملة ثلاثية منتظمة، لا تنتج أبدًا الأثر التعبيري المراد للاهث، المتوافق مع المعنى،٣٢ كيف يمكن — بالمثل — المحافظة على الإيقاع الإيامبي، المعبر للغاية
    Les fruits tomber de branche en branche

    الفواكه تتساقط من غصن إلى غصن

    الناتج عن التكرار المنتظم للنبرات الأربع؟٣٣
  • (٦)
    لنضف (وهو ما يدهش بشكل خاص لدى «ﻫ. دي رينيه») اللعب البارع الذي يدور حول البحر السكندري، المستدعى والمهدوم في آن: إنها «جوهرة نهائية»، مثلما يقول «مالارميه»، «يهبها هنري دي رينيه من التوافقات المتقاربة، قبل أن يمنحها بهاءً وعريًا»:٣٤ في

    ولدت الزهرية في الحجر المنحوت

    فالبحر السكندري غائب وحاضر في آن: متعة ملتبسة لا يمكن للنثر أن يمنحها لنا، ما دامت لا تتحقق، في واقع الأمر، إلا من خلال شكل «البيت»، وفي:

    J’entendis, par-delà/les prés et la rivière

    سمعت، عبر الجانب الآخر من / المراعي والجدول …

    يعبر إرجاء النبرة إلى أبعد من مكانها الطبيعي (في الوقفة)، مثلما يقول «مورييه»، عن «فكرة النهاية المتجاوزة»،٣٥ إنه التوافق في المعنى، ولكن وجود الإرجاء مشروط بوجود الوقفة، ويتطلب الإحساس ببيت الشعر …
فالوحدة البصرية التي تشكل البيت ليست — إذن — مجرد حيلة طباعية، تصبح بلا جدوى مع اختفاء القافية وتعداد المقاطع اللفظية: فهذه الطباعة تجعلنا نشعر — من ناحية، بفعل الفراغات — بما أسماه «مالارميه» ﺑ «الهيكل الذهني للقصيدة»،٣٦ وهي — من ناحية أخرى — تخلق إيقاعًا، ويمكننا — إلى حد ما — القول إننا لا نتوفر هنا على أبيات لأن النبرات منحصرة، بل إننا نحصر النبرات لأننا نقرأ أبياتًا، وهو ما لا يهم كثيرًا — من ناحية أخرى — حيث يتعلق الأمر بحقيقتين جوهريتين.
فالإيقاع النبري عندما يخلق بهذه الطريقة، فهو حقًّا إيقاع، أعني أننا نتحقق من انتظام في استخدام المجموعات الإيقاعية، بالإضافة إلى تنظيم لمجمل المقطع، ولا ينبغي أن نستنتج — من رد فعل الرمزيين ضد القواعد الكلاسيكية — وجود فوضى في أشعارهم، فقد أوضحوا بأنفسهم أن الأمر يتعلق بإحلال فكرة قوانين عضوية ومتنوعة بتنوع كل حالة محل فكرة القواعد الصارمة، التي تفرض على الشعر إطارًا محددًا سلفًا، فالحرية التي اكتسبها الشعر لا تخول له — مثلما يقول «فيرايرين» — «أي حق في الفانتازيا ولا في العشوائية»،٣٧ والحرية — في الواقع — «ليست الفوضى إطلاقًا»، مثلما يريد البعض أن يعتقد، لكنها «نظام حيوي» ينتظم ضد «النظام المجرد»، حسب تعبير «دي سوزا»،٣٨ ويوضح «فيلييه–جريفان» أن «المقطع التحليلي» مع الحديث يمتلك «قوانينه، التي لم تعد فردية بل عامة، قوانين حيوية، عضوية مثلما يحدث مع كل كائن قابل للحياة»،٣٩ ويمكننا أن ننتهي — إذا شئنا — إلى أن مصطلح «شعر – حر» أسيء اختياره تمامًا، إذ — حسب عبارة «إتييه» — «إن وجود الشعر الحر مشروط بتناقضه مع نفسه»،٤٠ في الواقع، لا يهم ذلك كثيرًا: فالأساسي يكمن في «ضرورة البحث — في كل شعر «حر» فني — عن قوانين».٤١
وإذا تأملنا — على سبيل المثال — مقطع «الزهرية» الذي أوردته من قبل، لاسترعى انتباهنا أمران: تواتر المجموعات الرباعية المقاطع اللفظية (ثلاثة مقاطع قصيرة + واحد طويل، -ooo)، ومجموعة زوجية مميزة لصياغات «هنري رينييه» الشعرية، حيث يستخدم — ضمن المجموعات المتنوعة، مثلما يقول «مورييه» — «نموذجًا وزنيًّا ووتدًا»:٤٢en sa sveltesse = في رشاقتها»، «et j’attendis = وانتظرت»، «tournant la tête = أدير الرأس»، «au moindre bruit = بلا أدنى صوت»؛ مجموعات من أربعة مقاطع لفظية يمكن جمعها لتشكل مقاطع ثمانية الأجزاء تكاد أن تكون كلاسيكية («طوال أيام، أدير الرأس»)،٤٣ والأمر الثاني: الاطراد المنظم للأجزاء الإيقاعية، فالإيقاع يأخذ في الاتساع منذ البداية، حيث تتواتر الأوتاد jambes حتى البيت الثامن الموزون، ويشكل شطراه المتماثلان «جوهرة نهائية»، بحرًا سكندريًّا:
ou lever le marteau Sans plus polir la panse
دون مزيد من صقل البطن أو رفع المطرقة
وإذا ما تأملنا «الزهرية» في مجملها — من ناحية أخرى — لرأينا أن الطول المتنامي للأبيات، والاتساع المستمر للإيقاع، والانتقال إلى بحر منتظم (ابتداءً من Alors le verger vaste et le bois et la plaine، نجد المقطوعة كلها مكتوبة حسب البحر السكندري)، ينتجون أثر كريشندو بالغ الوضوح: لدينا الإحساس، البصري والسمعي في آن، بحركة تولد، يكاد يُشار إليها في البداية، ثم تتضح وتتسع وصولًا إلى الاندفاعة الكبرى، التي ستقوى باندفاعة جنونية:
زوبعة قوى الحياة.
ولا يتسع المجال هنا لبحث السبب في توافق وقع tempo الحركة السريع مع أبيات متزايدة الطول، في «الزهرية» كما في «الجن» لهوجو، ثمة — على أية حال — تقنية خاصة بالشعر، لا يملك النثر معادلًا دقيقًا لها.
ولنضف — أخيرًا — أنه «سواء بإدغام الأبيات المتناسبة في انسجام إلى هذا الحد أو ذاك، أو بتحديد نهاية الأبيات بقوافٍ وسجع، أو بالطريقتين معًا، فإن الشعراء قد ميزوا بيت الشعر بطريقة مغايرة عن تلك الخاصة بالنبرة»،٤٤ ففي عام ١٩١٠م، سعى «فليدراك» و«دوهاميل» إلى تحديد بضعة «قوانين» للشعر الحر: الثبات الإيقاعي، والتوازن الإيقاعي، والمحارفات، والتماثلات …٤٥ ولا شك أننا نستطيع أن نلاحظ — في هذا الصدد — أن المحاولات التي تمت في قصيدة النثر قد خدمت كثيرًا أصحاب الشعر التحرري (لقد تمرسوا — إذا جاز القول — على قصيدة النثر، واكتشفوا فيها عددًا ما من الأساليب التقنية التي طبقوها — فيما بعد — على الشعر الحر): كل هذه الألاعيب الخاصة بالتكرار، والمحارفات، والتماثلات، التي نراها مستخدمة في الشعر الحر، إنما تأتي مباشرةً من قصيدة النثر،٤٦ ولكن إلامَ تهدف هذه التقنية في قصيدة النثر، إن لم يكن إلى خلق شكل منظم إيقاعيًّا، إلى أن يُراكب على «الإيقاع» المنطقي للجملة إيقاع أصوات وإيقاع أفكار (من خلال التكرار، والتوازي …)، بهدف التقاط وتجميد التدفق والصيرورة الدائمة للنثر في أشكال محددة، ومنحها بنية «القصيدة»؟ فما استعاره الشعر الحر الرمزي من قصيدة النثر، هو وسائل التمايز عن النثر، خارج النزعة المقطعية، ومثلما لاحظ الرمزيون أن هذه الأساليب قد اكتسبت كل فاعليتها الفنية، عندما تم تطبيقها على الوحدة الشكلية التي تؤسس الشعر، فقد هجروا — في أغلب الحالات — قصيدة النثر إلى الشعر الحر.
فقصيدة النثر، ما دامت نثرًا، لا تُختزل إلى شعر، ومن شكل إلى آخر، سنشعر دائمًا بالانتقالة، لا من درجة إيقاعية إلى أخرى، بل من شكل إلى شكل آخر: وهو أمر حقيقي تمامًا، إلى حد أن القصائد «المختلطة» بعد عام ١٨٨٦م (مثل نثريات «موكيل» أو بوبو «لافورج»، التي تحدثت عنها من قبل)،٤٧ ستبدو كأشكال انتقالية، أشكال هجين قابلة للحياة بصعوبة، وستدور المحاولة أيضًا في مجموعات واسعة، من أجل تحقيق «وحدة الأشكال»، وسيتم التخلي، فيما يتعلق بالقصيدة، عن السعي إلى شكل مختلط، من النثر أحيانًا، وأحيانًا من الشعر.
وسنرى أن قصيدة النثر تستخدم النثر الموقع، حيث تتجمع الأجزاء الإيقاعية لتشكل وحدات أو جملًا، لكن هذه الجمل تصبح — بدورها، في قصيدة النثر — عناصر، مجمعة ومنظمة إيقاعيًّا، لمجموع أوسع، مشكِّلة كلًّا، أي قصيدة.

(١-٢) قصيدة نثر ونثر موقَّع

(أ) إيقاعات قصيدة النثر

كتبت قصيدة النثر بشكل عام للغاية، وقصيدة النثر الرمزية — عن قصد تمامًا — في نثر موقع، إنه مصطلح بالغ الالتباس وينطبق على حالات شديدة الاختلاف (يدور الحديث عن «نثر موقع» بصدد النثر الخطابي لبوسويه، والنثر الإيقاعي لكان أو ميريل، والنثر الموزون لبول فور …): ويعود ذلك — بداهةً — إلى أن مفهوم «الإيقاع»، الواضح تمامًا عندما نطبقه على الموسيقى، يصبح أكثر غموضًا عندما نطبقه على الشعر، وبشكل خاص على النثر.

ما هو الإيقاع؟ إن تعريف «دوليفيه» عام ١٧٣٦م: «هو تجميع لعدة أزمنة تحافظ فيما بينها على نظام معين ونسب معينة»،٤٨ يمنحنا (عند تطبيقه على الفنون الزمنية فحسب، مثل الموسيقى والأدب) العنصرين الأساسيين، نظام ونسب معينة،٤٩ ولنحدد فكرة الزمن بمفهوم الأزمنة القوية والأزمنة الضعيفة:٥٠ ففيما يتعلق بالنثر الموقَّع، حيث تتحدد الأزمنة القوية بفعل نبرة الحدة٥١ (التي تختلط في الفرنسية بنبرة المدة durée) يمكن القول إن الإيقاع سيولد عندما يصبح نظام معين وعلاقات نسب محسوسين في الأجزاء الإيقاعية الطويلة، إلى هذا الحد أو ذاك، والمتعددة إلى هذا الحد أو ذاك، بما يشكل وحدة من الدرجة الأولى (جملة أو بيت) أو من الدرجة الثانية (مقطع غنائي أو مقطع شعري): وبما أن الجزء الإيقاعي (ما يسميه الرمزيون «القدم الإيقاعي»)٥٢ يتشكل من كلمة أو مجموعة كلمات، فإن النبر يقع على المقطع اللفظي الأخير: فجملة «باسكال»:
Que de royaumes nous ignorent

كم من الممالك تجهلنا

التي ذكرها «كلوديل»٥٣ مكونة من جزأين إيقاعيين، وإيقاعهما زوجي أو ثنائي (نبرتي صوت، وجزأين متشابهي المقاطع، وكل مقطع يتألف من أربعة مقاطع لفظية)، وفيه يتراكب إيقاع ذو رنين، لكنه (وهو ما سأتحدث عنه فيما بعد) لا يتدخل دائمًا.
يتفق الجميع على هذه المبادئ الأولية، وتنشأ الصعوبة عندما يتعلق الأمر بإيجاد منهج يحلل النظام والنسب، و— بالتالي — القوانين التي تحكم البنية الإيقاعية لجملة النثر الموقَّعة، لا سيما عندما تمتلك امتدادًا معينًا، لقد بدأ الشعر الحر في امتلاك منظريه، الذين بحثوا بعضًا من قوانينه وأشكاله،٥٤ وما زال النثر الموقع الحديث يبدو — في هذا الصدد — كشبيه فقير، أهو تشاؤم إزاء موضوع وجود إيقاع للنثر؟ أم نقص في أساليب البحث في مواجهة ظاهرة متنوعة للغاية؟ والواقع أن القوانين الإيقاعية — من النثر الخطابي إلى النثر الموقَّع، ثم إلى قصيدة النثر — يتصاعد تنوعها وتعقيدها إلى حد أن منهج «م. كريسو» — الذي يكفي فيما يتعلق بالنثر الخطابي — لا يكفي لاستخلاص قوانين النثر الموقع (نثر «شاتوبريان»، على سبيل المثال)، وأن منهج «بيوس سيرفيان» — الذي طُبق بنجاح على «شاتوبريان» — يتكشف عن أوجه قصور إذا ما درسنا من خلاله النثر الإيقاعي للرمزيين، ولا يمكن أن يستوعب بأية حال التنظيم الإيقاعي لقصيدة النثر في مجملها، التي سأتناولها باستفاضة أكبر، عندما أصل إلى مفهوم اﻟ «قصيدة»، وكي نظل في النثر الموقَّع، يمكن لبيان بأوجه القصور الرئيسية أن يسمح لنا برؤية أية عناصر أساسية ينبغي أن توضع في الاعتبار، دون ادعاء تدشين منهج جديد.٥٥
وسأعبر سريعًا على النثر الخطابي، الذي تتوافق فيه البنية الإيقاعية مع تنظيم المجموعات المنطقية. نعلم أن «م. دي جرامون» — بعد أن فصل الجزء المتصاعد من الجملة (أو الاستهلال) والجزء المتراجع (أو جواب الشرط) — قد طالب، لبحث هذه البنية، بالمنهج المتمثل في تقسيم كل من هذه الأجزاء إلى مجموعات منطقية، والقيام بجمع حاصل الأجزاء الإيقاعية المندرجة في كل مجموعة،٥٦ وسنلاحظ، في أغلب الأحيان، وجود توافق ما (نفس العدد في جزأي الجملة)، ينشأ منه التوازن والتناغم، وأحيانًا — على النقيض — تنافر بليغ، لتكن مثالًا بداية «رثاء هنرييت دي فرانس»:٥٧
Celui qui règne dans les cieux et de qui relèvant tous les empires, /à qui seul appartient la gloire, la majesté et l’indépendence, //est aussi le seul qui se glorifie de faire la loi aux rois, /et de leur donner, quand il lui plait, de grandes et de terribles leçons.

من يحكم السماوات، الذي تنشأ منه كل الإمبراطوريات  /  إلى من يعود المجد إليه وحده، والعظمة والاستقلال  //  هو أيضًا الوحيد الذي يتباهى بصنع القانون للملوك،  /  وبمنحهم، عندما يطيب له، دروسًا جسيمة ورهيبة.

توافق بارع: ٤  +  ٥ // ٥  +  ٤، تحليل كهذا يوضح توازن الجملة، وتناسقها التماثلي الجميل، لا الإيقاع داخل المجموعات (على سبيل المثال النغمة الكبرى في «المجد، العظمة والاستقلال»، ٢  +  ٤  +  ٥)، ولا — بالتأكيد — المؤثرات الصوتية، أو التكرارات البليغة مثل تكرار «seul = وحده».
وفي تطبيقه لنفس المنهج التحليلي على جملة «شاتوبريان»، يرى «م. كريسو» فيها «استخدامًا جماليًّا للتنافر» (عدد مختلف من العناصر الإيقاعية في جزأي الجملة)، كي يقابل — مثلما يقول — «لوحة عريضة بلوحة أكثر محدودية، ليخلق لدينا — رغم هذا — فكرة تنوع ثري»:٥٨
J’ai vu/les vignes/ de Palerme/mûrir/sur les coteaux/d’Augustodunum, // l’olivier/ de Corinthe/fleurir/à Marseille,/ et l’abeille/de l’Attique/ parfumer/ Narbonne. (3 + 3 // 2 + 2 + 2 + 2)

«رأيتُ / كروم / «باليرمو» / تنضج /على تلال/«أوجستودنوم،  //  وزيتون / «كورنثا» / يزدهرم في «مارسيليا»، /ونحلة «أتاكيا» / تعطِّر / «ناربون». (٣  +  ٣ // ٢  +  ٢  +  ٢  +  ٢)

يسمح المنهج — هنا أيضًا — بملاحظة لافتة، إلا أنها تؤدي إلى إغفال ثلاث ملاحظات أخرى:

  • (١)
    النغمتان الكبريان المتماثلتان للاستهلال: J’ai vu/les vignes/de Palerme/mûrir/sur les coteaux/d’Augustodunum = رأيت/كروم/«باليرمو» /تنضج/ على تلال /«أوجستودونوم»،
  • (٢)

    التماثل الحاصل بين الاستهلال وجواب الشرط، رغم اختلاف عدد عناصرهما، باستخدام عناصر أقل عددًا في الاستهلال، لكنها أطول (بشكل خاص العنصر شديد الطول «أوجستودونوم»، في اﻟ «وقفة»).

  • (٣)
    التماثل الإيقاعي اللافت للنظر بين مجموعتي جواب الشرك: «et l’abeille de l’Attique = ونحلة / أتاكيا» التي تجيب على «l’olivier de Corinthe = زيتون كورنثا» (تفعيلتان من «الأنابيست» في كل مجموعة)، وحتى لو لم نقم بترخيم حرف E الصامت في «abeill(e) = نحلة»، فإن قيمته الضعيفة للغاية لا تمنع الشعور بالتماثل،٥٩ parfumer Narbonne = تعطر ناربون» تجيب على «fleurir à Marseille = يزدهر في مارسيليا» (تفعيلة من «الإيامب» و«الأنابيست، مع قلب إيقاعي).
الخلاصة: ما إن نبتعد عن النثر العادي والخطابي، حيث تنتظم الجملة في مجموعات منطقية كبيرة (لا نستطيع أيضًا في هذا النثر أن نهمل الإيقاع العددي)،٦٠ حتى يصبح غير كافٍ أن نأخذ في الاعتبار فحسب عدد العناصر الإيقاعية التي تندرج في كل مجموعة منطقية، وهو ما يفرض علينا تحليلًا أكثر تفصيلية وتحديدًا، وتتأكد هذه الحقيقة كلما اقتربنا من العصر الحديث، وكلما هجر نثر الرومانتيكيين ثم نثر الرمزيين الأسلوب العادي والبناء بمجموعات معمارية كبيرة، متزنة للغاية، من أجل البحث عن بناء «انفعالي» أكثر من كونه عقلانيًّا، للحركات المتجاوبة مع حركات الكائن الداخلي (ديناميكية أو سلاسة، تماوجات بطيئة أو انقطاعات مفاجئة) أو تأثيرات «انطباعية»، لتنتقل بذلك من عالم الخطاب إلى العالم الشعري بحصر المعنى، إن إ خفاق «م. كريسو» — عند محاولته تحليل نثر «برتران» أو «بودلير» بمنهج «م. دي جرامون» — لذو دلالة. والخلاصة التي ينتهي إليها: «التنافر وتعدد النغمات، بفعل فرضهما حالة اتنباه مستمرة على الأذن، يتيحان تنمية التفاصيل»،٦١ ليست خاطئة، لكنها غير كافية وشديدة الالتباس، وكي نضرب مثالًا، فإن الجملة الواردة في «الرحيل إلى محفل السبت» (من «جاسبار الليلي»)، التي ذكرها «م. كريسو»:
Ils étaient là / une douzaine/qui mangeaient/la soupe à la bière //, et chacun d’eux/ avait pour cuillère/l’os/ de l’avant-bras /d’un mort.

اثنا عشر/كانوا هنا/يأكلون الحساء على التابوت  // ،  وكل منهم/ كانت ملعقته /عظمة / الساعد / لميت.

لا تحتوي فحسب على تنافر ٢  +  ٢ // ٢  +  ٣ يعكس «التناقض بين واقعة عادية وواقعة غير طبيعية»، بل هو لافت للنظر بشكل خاص بفعل الانتقالة من إيقاعٍ ثنائي، يلحق بالبحر الثماني المقاطع.

Ils étaient là une douzaine
Qui mangeaient la soupe à la bière
اثنا عشر كانوا هنا
يأكلون الحساء على التابوت
إلى جزء من جملة متنافرة للغاية، حيث المجموعات المكونة من ٤ أو ٥ مقاطع لفظية et chacun d’eux/avait pour cuillère = وكل منهم / كانت ملعقته، يليها — بما يمثل تناقضًا عنيفًا — مقطع أحادي اللفظ، «l’os = عظمة»، بارز لا بفعل إصاتاته فحسب، بل أيضًا بفعل ما سأسميه — نقلًا عن «مورييه» — ﺑ «الترخيم الجوفي»، وهو أثر إيقاعي غير طبيعي، يحدث عندما لا يمكن إدغام حرف E الواهن النهائي، وهو أمر طبيعي في الفرنسية، في الجزء الإيقاعي التالي:٦٢
avait pour cuillère/l’os

كانت ملعقته  /  عظمه (الإشارة تدل على الترخيم الجوفي).

ثمة هنا أثر قطع مفاجئ، زهرة، مثل ما نجده بكثرة أيضًا لدى «فيرهارين» (الذي يمنح شعره مكانة هامة للترخيم الجوفي، مثلما أوضح «مورييه»).

على دراسة النثر الإيقاعي ألا تضع في اعتبارها — فحسب — عدد وتوزيع الأجزاء الإيقاعية في الجملة، بل — أيضًا — الإيقاع العددي الذي يخلقه عدد المقاطع اللفظية التي تشكل كل جزء، عندما يكشف اطراد هذه الأعداد «نظامًا» و«تناسبات» معينة، ونعلم أن «بيوس سيرفيان» قد بحث — طبقًا لهذا المنهج — البنية العددية والصوتية المزدوجة للنقلات الغنائية الرئيسية في «أتالا»،٦٣ فعند حساب المقاطع اللفظية في كل جزء — من ناحية — والأجزاء الإيقاعية في كل مجموعة منطقية، من ناحية أخرى، تم التوصل إلى تمثيل عددي للنقلات التي قام بدراستها، واستنتج الخصائص الإيقاعية للنص المدروس من هذه «الأعداد التمثيلية»،٦٤ ويتمتع هذا المنهج بمزية الموضوعية والدقة، ما دام العمل يقوم على الأعداد، وهو أكثر اكتمالًا من المنهج السابق، لكن يمكننا — رغم هذا — أن نأخذ عليه أنه:
  • (١)
    لا يضع في الاعتبار إيقاعات الجرس timbre، التي تحتاج إلى دراسة مستقلة: لا يعني هذا أن «بيوس سيرفيان» يجهلها، لكنه يعترف بصعوبة تمثيلها حسابيًّا.
  • (٢)

    أهمل كل ما لا يمكن تحويله إلى أرقام فيه، ويملك رغم هذا قيمة إيقاعية؛ وذلك لأن دراسة المخطط الرقمي حلت محل دراسة النص: على سبيل المثال، تكرار كلمة أو عبارة يمكن لاستعادتها أن تخلق نطاقًا إيقاعيًّا معينًا في الجملة؛ وبشكل أعم، كل ما يرتبط في الإيقاع بالمعنى أو بالبنية النحوية: وكي لا نضرب سوى هذا المثال، كيف يمكن لتعاقب أرقام: ٣٣٢٣، ٣٣٣٢، أن يوضح لنا التماثلات أو الحيوية الإيقاعية — التي ذكرناها فيما سبق — في نهاية جملة «شاتوبريان» هذه:

    l’olivier/de Corinthe/fleurir/à Marseille,/et l’abeille/de l’Attique/parfumer/Narbonne.

    (رأيت) زيتون / كورينثا /يزدهر/في مارسيليا / ونحلة أتاكيا/تعطِّر/ناربون.

    حيث يلعب تماثل البناء دورًا رئيسيًّا.

  • (٣)
    وأخيرًا، لا يضع في الاعتبار قيم حرف E الصامت، المتنوعة والهامة للغاية، وهو أمر حقيقي بشكل خاص في النثر الحديث، الذي يقترب إلقاؤه من طريقة إلقاء الكلام، وقد وافق «بيوس سيرفيان» — في دراسته لشاتوبريان — على أن في هذا النثر «المتعدد»، يسمع حرف E الصامت النهائي في كل مكان، ويحتسب كمقطع لفظي (بينما هناك حالات أخرى، مثلما — على سبيل المثال — في تفعيلة «الأنابيست» المزدوجة» ونحلة / أتاكيا»، حيث ينبغي للشعور بالتماثل الإيقاعي أن يدفعنا إلى القيام بالإدغام)، غير أنه لا يمكن الشك في أنه — اعتبارًا من نهاية القرن التاسع عشر — تم غزو الإلقاء «التفخيمي» (نظم، ونثر متعدد) بالإلقاء العادي، حيث يخضع حرف E الصامت لعدة إدغامات،٦٥ وأن الشعراء يستفيدون (في الشعر الحر والنثر الموقَّع) من هذه المرونة المستمدة من حرف E الصامت، ذي القيمة الواهنة للغاية بالنسبة للقيمة الكاملة للمقطع اللفظي»،٦٦ التي — مثلما سيقول «فيلدراك» و«دوهاميل» عام ١٩١٠م — «حولت العقبة القديمة إلى أداة ثمينة»، وبذلك، تحقق «مورييه» من وجود عدة حروف مرخمة لدى «فيليه–جريفان» يجب أخذها بالاعتبار، إذا ما أردنا أن نكون فكرةً صائبة عن الإيقاع في الشعر الحر،٦٧ وسنرى — فيما بعد — أن أحد تجديدات «بول مور» الرئيسية يكمن في التطبيق المنظم ﻟ «الإدغام الطبيعي» للغة، ففي بيت يقدم نفسه — فضلًا عن ذلك — «باعتباره نثرًا، يختفي كل إزعاج من الإدغام في هذا الشكل»،٦٨ ونعلم آثار النكهة الشعبية التي يستخلصها من هذا الإدغام لحرف E الصامت (Si tout’ les fill’ du monde-Voulaient s’donner la main = لو كل فتيات العالم أردن المساعدة …) ولا شك أن في الشعر الحر — وبخاصة في النثر الموقع — لا يسهل دائمًا التعرف بيقين على الإدغام، وينفتح الطريق أمام العشوائية: فالشعور بالتوافقات التعبيرية أو الإيقاعية هو — وحده — الذي سيجعلنا نقرر ما إذا كان ينبغي أن نقول — على سبيل المثال، في «إشراقات» — «لماذا تشحب هيئة النافذة من عقدة القبة؟» لنترك لهذه الهيئة طابعها العارض والإشكالي،٦٩ أو على النقيض، ببطء احتفالي: «تكشفت الأبسطة القرمزية على البيوت»،٧٠ ألم يقترح شاعر بلجيكي، عام ١٩٢٣م، أسلوبًا طباعيًّا بارعًا للإشارة إلى الحرف المتحرك الصامت بكتابته معكوسًا؟٧١ ولكن نظرًا لصعوبة مشكلة حرف E الصامت، الذي فتن الرمزيين، فمن المستحيل إهماله: فلنذكر — على الأقل، هنا — أنه يمكن للقيم الرئيسية الثلاث التي يستطيع أن يتخذها، أن تتوافق مع مؤثرات ثلاثة مختلفة:
    • قيمة منعدمة nulle (إدغام): ومنها — كما رأينا — مؤثرات السرعة أو الألفة؛
    • قيمة ضعيفة، وهي الأكثر شيوعًا في كل الحالات التي يلحق فيها حرف E الصامت، بعد نبر، بجزء إيقاعي تالٍ: Cependant Dorothée … s’avan/ce dans la rue déserte, seu/le vivante à cette heure، ورغم هذا فدورتيه ﺗﺘﻘ / دم في الشارع المهجور، الوﺣﻴ / دة الحية في هذه الساعة …» في هذه الجملة المستمدة من «دوروتيه الجميلة»،٧٢ لبودلير، نشعر تمامًا بأثر المنحنى والموجة، والهدهدة التي ينتجها القطع المتعدي، التي يصفها «مورييه» بأن: «حرف E الصامت، الموجز بطبيعته، يعمق الإيقاع».٧٣
    • قيمة قوية، تلتقط عندما يدمج حرف E غير المنبور لا في الجزء التالي، بل في الجزء السابق: «Chacun d’eux avait pour cuillère’/l’os = كلٌّ منهم كانت ملعقته / عظمة …»،٧٤ وعلى عكس (القطع) السابق، فإن هذا «القطع النسائي» أو الترخيم الجوفي خشن، ومفاجئ، ومتنافر.
وستحتوي الجمل ذات النمط «المتماوج» على عدة حروف من E الصامت، مع القطع المتعدي، وستحتوي الجمل ذات النمط «الديناميكي» على عدد قليل منها، وستخلي المكان للترخيم الجوفي، وهنا يكمن عنصر إيقاعي مهم للغاية.
ومن الضروري — بشكل خاص، عند دراسة الإيقاعات في النثر الموقع الحديث، حيث يتم البحث عمدًا عن المؤثرات الشعرية — أن نذكر أكبر عدد ممكن من العناصر: إيقاع نبري، إيقاع عددي، تجميعات منطقية، إيقاع جرْسي، وهو ذو أهمية كبيرة لدى الرمزيين (تلاعب بالسجع والمحارفات)، والقيم المتنوعة لحرف E الصامت … وتتزايد أهمية الدراسة نظرًا لأن أنماط الجمل، في نهاية القرن التاسع عشر، تتنوع من قصيدة لأخرى ومن كاتب لآخر، وما دام الرمزيون — بالتحديد — قد سعوا (مستلهمين تعاليم «بودلير») إلى الهروب، في النثر كما في الشعر، من انتظام الإيقاعات الصارمة والمقدمات المتوقعة، وستقدم بعض الأمثلة فكرة عن تنوع الأساليب والنتائج، وستتيح لنا بشكل أفضل قياس مدى التقدم الذي تحقق في البحث عن «إيقاع شعري» منذ النثر المرسل بشكل منتظم، «الغزير» و«المتناغم» لمزاحمي «فنيلون».
ها هي — أولًا — جملة نثر موقع تميز الكتابة الرمزية وسعيها إلى التجديد اللغوي والإيقاعي: وهي مستمدة من «نوليه دي بروم»، أفضل أعمال «أدولف روتيه» بلا شك،٧٥ وهي نوع من الرواية الشعرية والرمزية، نثرها — كما يقول «دوبو» — «يمنح، في كل لحظة، وهم الشعر، مع المحافظة — بصرامة — على نوعيته كنثر»:٧٦
Ecoute: il est une Ile si perdue au fond de la mer boréale qu’il faut être nous pour la connaître. La proue de nul navire n’a violé son unique plage: vierge fière que drape une tunique en genêts d’or, en sapins gémissants, nimbée d’après-midi aux tièdes caresses d’un soleil sobre, ceinturée de ses falaises nacreuses où les cavalcades cabrées des flots s’encolèrent de brandir en vain et en vain des étendards d’algues, légendaire enfin et nostalgique aux bons poètes, c’est Thulé des Brumes …
أنصت: إنها جزيرة ضائعة تمامًا في أعماق البحر الشمالي إلى حد أنه ينبغي أن نكون نحن حتى نتعرف عليها، لم تنتهك مقدمة أية سفينة شاطئها الفريد: عذراء أبية، تكتسي برداء من رياض مزهرة من ذهب، من أشجار صنوبر متأوهة، يلفها أصيل بمداعبات فاترة لشمس زاهدة، مطوقة حروفها الصدفية حيث المواكب الثائرة للأمواج قد التصقت عبثًا بالتلويح وعبثًا برايات من الطحالب، أسطورية وحزينة بالنسبة للشعراء المجيدين، إنها «توليه دي بروم» …٧٧
فلنترك جانبًا الاستعارات الكثيرة والتعبيرات النادرة أو الجريئة («يلفها أصيل»، «صدفية»، «تغري»)، التي يمكن أن تساهم في إضفاء «وهم الشعر»، كي نهتم فحسب بإيقاع الجملة، وبشكل خاص في الفقرة التي تبدأ من «عذراء أبية» إلى «توليه دي بروم»، لدينا هنا سلسلة من الإبدالات التي ترجئ اسم الجزيرة الذي لا يأتي إلا في النهاية (ما يسميه «كريسو» جملة «مروحية»)،٧٨ تنتظم هذه الجملة — في مجملها — في كتل متصاعدة، ثم هابطة: والحركة هي حركة موجة تتصاعد ثم تهوي:
Vierge fière
Que drap(e) une tuniqu(e) en genêts d’or, en sapins gémissants,
Nimbée d’après-midi aux tièdes caresses d’un soleil sobre,
Ceinturée de ses falaises nacreuses où les cavalcades cabrées des flots s’encolèrent de brandir en vain et en vain des étendards d’algues,
Légendair(e) enfin et nostalgiqu(e) aux bons poètes, c’est Thulé des Brumes …
عذراء آبية.
تكتسي برداء من رياض مزهرة من ذهب، من أشجار صنوبر متأوهة،
يلفها أصيل بمداعباتٍ فاترة لشمس زاهدة،
مطوقة جروفها الصدفية حيث المواكب الثائرة للأمواج قد التصقت عبثًا بالتلويح وعبثًا برايات من الطحالب،٧٩
أسطورية وحزينة بالنسبة للشعراء المجيدين،
إنها «توليه دي بروم» …
فإذا ما جزأنا النص — بشكل مغاير — فسيؤدي ذلك إلى هدم حركة الموجة هذه (التي يرسم خطوطها ببلاغة «العدد النبري» المستخلص من منهج «بيوس سيرفيان» بإحصاء عدد النبرات في كل جملة، أي: ٢ - ٤ - ٤ - ١٢ - ٤ - ٢)، ويمتد الجزء الرئيسي عن عمد ولا تقطعه أية علامة ترقيم، ويطغى على صيغة الشعر ولا يستطيع أن يستعيدها إليه، ويضر أي تقطيع — من جهة أخرى — باستمرارية هذه الجملة (على سبيل المثال، يمنع الشعور بالاتساع المطرد للبداية: «vierge fière que drape une tunique en genêts d’or, en sapins gémissants = عذراء أبية تكتسي برداء من رياض مزهرة من ذهب، من أشجار صنوبر متأوهة (عدد المقاطع اللفظية في كل عنصر إيقاعي: ١ - ٢ - ٣ - ٤ - ٤ - ٦).
ولننتقل إلى دراسة «العدد الحسابي» (الناتج من عد المقاطع اللفظية لكل مجموعة مستقلة مما سبق)، التي تكشف لنا توازي مجموعتي ٢ و٣،٨٠ ولنرَ كيف يشكل الجزء الرئيسي إيقاع موجة / عنيفة، يتوافق مع «المواكب الثائرة» للأمواج: وهو يحقق ذلك بوسائل ثلاث:
  • (١)
    مؤثرات صوتية (محارفات خشنة من حرفي C وR: nacreuses– صدفية – ثائرة cabrée – تلتصق s’encolèrent
  • (٢)
    ترخيمات صوتية تشعرنا بوقفة مفاجئة بعد حرف E الصامت في:
    s’encolèrent’/de brandir cavalcades’/cabrées, dans
    مواكب / ثائرة، في تلتصق / بالتلويح.*
    وبالعكس، يحل الترخيم الصوتي، بعد nacreuses’/, محل علامة الترقيم ببساطة.
  • (٣)
    نبرات متقاربة، وبشكل خاص في تفعيلة سبوندية٨١ نهائية: «étendards d’algues = رايات من الطحالب». مدان (أو نبرتان) متتاليتان تصبحان طويلتين، نثرًا وشعرًا أيضًا، نتيجة لحقيقة أن المقطع اللفظي المفرد ضروري،٨٢ ويمكن للوقفة الضرورية — بسبب النبر المضاعف — أن تنتج، مثل الترخيم الجوفي تقريبًا، تأثيرات الانقطاع، والإلحاح، أو الدوام، هنا يتحطم جزء طويل من الجملة بشكل مفاجئ على مقطع لفظي مفرد، مثلما تتحطم الموجة على صخرة.

فإيقاع النثر الموقَّع بالغ التعقيد — مثلما نرى — يعتمد، في آن، على التجمعات المنطقية، والمجموعات النبرية، وتعداد المقاطع اللفظية، والمؤثرات المتنوعة الصوتية والإيقاعية، وهو يرتبط — من جوانب معينة — بإيقاع النثر الخطابي (تجمعات منطقية)، ويرتبط — في جوانب أخرى — بإيقاع الشعر، والحقيقة أنه أكثر حرية من الاثنين، ويسمح بمؤثرات أكثر تنوعًا، وينبغي التأكيد — من ناحية أخرى — على أن الرمزيين (دائمًا تحت تأثير «بودلير») قد استخدموا الإمكانية المزدوجة التي يقدمها النثر حتى حدها الأقصى: القيام — من ناحية، وخلافًا للشعر — بمط مجموعة منطقية (جملة اعتراضية، على سبيل المثال) إلى حد منحها عدة أسطر، للتوفر على مؤثرات خاصة بالسلاسة أو الكثافة، ومن ناحية أخرى، وخلافًا للنثر الخطابي، بتمزيق أو تقطيع الجملة، للتوفر على مؤثرات الحيوية أو الانقطاع، وقد قدم «بودلير» بشكل خاص — مقتفيًا أثر «سانت–بوف» — نماذج نثر «متماوج»، وقدم «آلويزيوس برتران» نماذج نثر عصبي ومتقطع.

ها هو نموذج لجملة طويلة للغاية، تكاد تخلو من علامات الترقيم، وتتوافق مع انتظار ساكن وحالم — (انتظار يصبح ساكنًا وحالمًا بفضل إيقاع الجملة بالتحديد) — في حين أن الأبيات الأولى من «زهرية» كشفت لنا انتظارًا حيويًّا ويقظًا للارتعاشات الأولى للحياة، إنها الفقرة الأولى من قصيدة نثر ﻟ «ميريل» — «الأميرة التي تنتظر» — ونشرت في مجلة «فالوني» عام ١٨٨٧م:٨٣

في ثوب أخضر مشجَّر بفضة باهتة، تحيط الأميرة، تاركة الخصلات الصهباء لشعرها الثقيل تنساب خارج شبكة اللؤلؤ بذراعيها الأكثر بياضًا من أصفى زهور الليلك بكل هذا الربيع قاعدة المزولة حيث يتمدد في خفاء ظل الساعات.

فقرة بارعة للغاية، وبالغة الإتقان بالتأكيد، لقد تأمل «ستيوارت ميريل» مسألة قصيدة النثر، وكتب عام ١٨٩٣م:٨٤ «في اعتقادي أن قصيدة النثر، الأكثر حرية من الشعر الغنائي، والأقل انقيادًا من الخطاب المنطقي، قد تثير الاضطراب بذلك السحر المختلط الجنسية، مترددة دائمًا بين القاعدة والحرية»، وفي هذه الجملة التي سأسميها — عن طيب خاطر — «جملة عنقودية»، يلتف حول الهيكل المنطقي: «تحيط الأميرة … بذراعيها … قاعدة المزولة»، أرابيسك كامل من الصفات والمفعولات والأسماء الموصولة، وستتحطم إذا ما حاولنا أن نفرض عليها التقسيم، وهي تتوفر — رغم هذا — على إيقاع واضح، هو إيقاع النبرات، بتركيبات بارعة من المحارفات والسجع التي يوليها «ميريل» أهميةً كبرى (تحت تأثير «غيل» والشعر الإنجليزي)،٨٥ ويشكل التلاعب بحروف اﻟ r وa وg — في «ramages de pâle argent = مشجر بفضة باهتة» — ما يسميه «ج. هيتييه» ﺑ «تركيبات متعددة من التوافقات»،٨٦ ولنلاحظ أيضًا المحارفة المزدوجة في: «ruisseler hors du filet de perles = تنساب خارج شبكة اللؤلؤ»، والسجع الملح من ou في: «boucles rousses … lourde … entoure = الخصلات الصهباء … الثقيل … تحيط»، أو من on في: «s’alonge l’ombre = يتمدد الظل»، ثم الإيقاع النبري بسيادة مجموعات طويلة إلى حد ما (hors du filet deperles, de tout ce printemps, imperceptiolernent = خارج شبكة اللؤلؤ، بكل هذا الربيع، في خفاء)، وأحيانًا متماثلة ( les boucles rousses de sa lourde chevelure = الخصلات الصهباء لشعرها الثقيل)، ولنلاحظ هنا — بشكل خاص — أهمية حرف E الصامت، الذي لم يعد يستخدم على النحو السابق مباشرة كترخيم صوتي، بل — على النقيض — كقطع متعدٍّ، فالصوت — بعد نبرة المد — يسقط على حرف E الصامت الذي يلحق — حينئذٍ — بالمجموعة التالية ليمنح إلقاء الجملة منحنًى ناعمًا بلا تنافرات: إنه — حسب تعبير «مورييه» — «يعمق الإيقاع»،٨٧ وها هي حالة:
Boucles rous/ses de sa lour/de chevelure
الخصلات الصهباء لشعرها الثقيل.٨٨
Sallon/gel’om/bre des heures

يتمد / د ﻇ / ل الساعات

حيث تتضح تمامًا حركة «الموجة».٨٩
— إذن — من أجل منح هذا المقطع وحدة وسلاسة كبيرتين، في آن: فهو يملك هذه الحركة المتماوجة التي لا يستطيع الشعر الحر — بفعل تركيبته نفسها — أن يخلقها إلا بصعوبة، ويفضل كثير من الكتاب الرمزيين، وبشكل خاص «هنري دي رينييه» في حكاياته أو قصائده النثرية («جيد» أيضًا في «رحلة أوريان») هذه الجمل المتعرجة، حيث تطفو الفكرة مثل طحلب في تيار كسول، وتقدم «حكايات إلى النفس» نماذج لافتة للنظر ﻟ «جمل النثر الطويلة، ذات الإيقاع البارع، والرصين والمتناغم».٩٠
ها هو الآن مثال لنثر «ديناميكي»، وهو نمط أقل تكرارًا لدى الرمزيين، رغم تأثير رامبو، وأستعيره من «أناشيد المطر والشمس» ﻟ «هوج روبيل»، الذي كان أول من ترجم «نيتشه» في «الارميتاج»، وتحمس لويتمان، وألقى بالصواعق — عام ١٨٩٣م — ضد الرمزية، وضد غاباتها الأسطورية، وأميراتها النائيات، وطريقتها السقيمة في الكتابة،٩١ يتعلق الأمر ﺑ «قصيدة نثر»٩٢ موجزة:
Je n’ai pas à regarder la route: mon baton est là, ma gourde est pleine: je pars.
La boue jaillit et me souille. Qu’importe? Le soleil sèchera la boue; marchons.
Il y aura de la boue: il y aura aussi de la lumre. Il pleuvra, il neigera, il fera des orages: c’est la vie. Marchons.
لم أنظر إلى الطريق: ها هي عصاي، وإنائي ممتلئ: أرحل.
ينبثق الطين ويلطخني، ما الذي يهم؟ ستجفف الشمس الطين، فلنمضِ.
سيكون هناك طين: سيكون هناك أيضًا ضوء، ستمطر، سيهطل الجليد، ستكون هناك صواعق: إنها الحياة، فلنمضِ.
ونكتشف — على الفور — أن الإيقاع هنا يضيق، بدلًا من أن يتعاظم تدريجيًّا، مثلما يحدث في النثر المسمى «الغزير»: فالنبرات تأخذ في التقارب في كل فقرة،٩٣ بالتأكيد، يمكننا وضع نبرات عديدة إلى هذا الحد أو ذاك أثناء قراءتنا، لكن علامة الترقيم هنا تقودنا، وبشكل خاص في الفقرة الثالثة، ولا يقل إثارة للدهشة أن نرى كلًّا من هذه الفقرات تنتهي بمقطع حيوي: «je pars = أرحل»، «marchons = فلنمضِ»، «marchons = فلنمضِ»، وأخيرًا، سنلاحظ عدد الكلمات القصيرة، القوية، التي تبرزها علامات الترقيم الكثيرة: «je pars = أرحل»، «me souille = يلوثني»، (الجمل شديدة الاقتضاب، بلا صفات ولا أدوات ربط)، وبشكل خاص سيادة النهايات «المذكرة» للكلمات («bâton = عصا»، «je pars = أرحل» … إلخ): ويؤدي غياب حرف E الصامت في نهاية الكلمة — بداهةً — إلى غياب القطع المتعدي: وعلى عكس ما كان يحدث في نص «ميريل»، فلا يوجد أي قطع متعدٍّ في هذا النص.
هذا الشكل من النثر الديناميكي، الذي نشأ مع «رامبو»، والذي ستمنحه ترجمات «نيتشه» — فيما بعد — انطلاقة جديدة، لهو شيء جديد تمامًا لم يتحقق البدء في إدراك إمكانياته الشعرية إلا قرابة نهاية القرن. فها هو نثر لا يريد أن يكون موزونًا، ولا خطابيًّا، ولا «غزيرًا»، ولا «سيَّالًا»، ويهدف إلى توليد مؤثرات إيقاعية وشعرية بوسائل يمكن للقرون السابقة أن تعتبرها مناقضة لكل إيقاع ولكل شعر، وإذا لم تكن العبارة قليلة الوضوح، فقد نستطيع الحديث هنا عن إيقاع منثور: سنجده في كل نثر أكثر «إدهاشًا» من كونه «غنائيًّا»، أكثر نزوعًا نحو دينامية اللامنتظم والأخرق، مما نحو التماثلات والتوازنات المميزة ﻟ «الأسلوب الجميل»، هاربًا من الأوزان الكبرى، والأبيات القصيرة المتناغمة، متشككًا في الصوت المخادع. نثر، رغم هذا، مختلف تمامًا، وهو مما ينبغي أن نقوله على الفور، عن النثر المباشر، بمهارة، بلا زخرفة، بدلًا من أن يكون مكثفًا — «نثر» نقي في النهاية — خاص بالقرن الثامن عشر و«حكايات» فولتير على سبيل المثال: فالأمر لا يتعلق هنا بالتأثير على الذهن قدر التأثير على الحواس والخيال، لوضع القارئ في حالة «نغمة» شعرية معينة، فيصبح الإيقاع وسيلة للإيحاء والخلق. على سبيل المثال، عندما يوازن «رامبو» ثلاثة اقتراحات بثلاثة مقاطع أحادية اللفظة، تصبح مولدة لمساحات شاسعة الأبعاد: «لقد شددت الحبال من قبة جرس إلى قبة جرس، والزخارف من نافذة إلى نافذة، وسلاسل الذهب من نجمة إلى نجمة، وأرقص»،٩٤ وسنرى الجملة، المنتفخة مثل موجة، بفعل دفقة الجمل الاعتراضية، تتكسر فجأة على جزء قصير، أو — على العكس — تعاود الانطلاق عندما نتوقع نهايتها، علامات تعجب تفرض وقفات ونبرات غير متوقعة، تقطع الخطوط الصغيرة الأجزاء، وخلق جُمل بين قوسين أو انقطاعات مفاجئة، كلمات يؤكد عليها تشتغل بطريقة مخالفة للمألوف («أيا خيري! أيا جمالي!»)،٩٥ ويتم — بعناية شديدة — تجنب النهايات المؤنثة، والتعبيرات الرخيمة التي كانت مرغوبة في النثر الفينلوني (نسبة إلى «فينلون»)، وفي النهاية، ستتطور الفكرة الشعرية بالتجاورات والتماثلات، بالقفزات المتتالية، لا بالتسلسل المنتظم (واعتبارًا من عام ١٨٩٧م، سيتغنى «جيد» ﺑ «استرجاعات» المزرعة، في «قوت الأرض» بهذه الطريقة: «برلينيات»!٩٦ كل هروب ممكن، زلاجات، بلد ثلجي، أشد نحوكم رغباتي»).٩٧
إن رمزيي عام ١٨٨٦م — المندفعين تمامًا في مطاردة نثر سلس، موسيقي، وطيِّع إلى حد أن يتخذ كل تعرجات أحلام اليقظة — لم يستفيدوا أبدًا من «إيقاع النثر» هذا الذي أورثه لهم «رامبو»، لكننا سنرى الشعراء الشبان للجيل التالي، وبشكل خاص رواد «الحداثة» في بداية القرن العشرين، يعودون إلى هذا الاتجاه، ويجعلون منه نظامًا حقيقيًّا: فالهدف خلق شكل في النثر له نفس تنافر وحيوية وقلق الحقيقة نفسها، وفي هذه الفقرة المستمدة من «لوك دورتان» (ولا سيما الجملة الأولى والأخيرة):
يساري يضم الصخر حيث يتكئ ظهري، لا ألمح ظهري ولا يدي، ولا فخذي: لا شيء سوى أطراف ملابسي، ورغم هذا فأعضائي تشعر ببعضها وتترابط بفقرات، وتتدلى من الجمجمة كل هذه المواد، هذه العظَمات البشعات، كل هذه التناسخات التي تلفني، جبالٌ نائية، سمْت كل هذه الشذرات من ذاكرة وخيال.٩٨
يدهشنا — في آن — سرعة الأسلوب، وإلغاء كل «الحمولة» الخطابية للجملة،٩٩ بفعل الأهمية الممنوحة للكلمات وإلغاء الصفات، الذي يؤدي إلى تقارب النبرات، بفعل تنظيم الجملة في كتل متناقصة («جبال نائية، سمت»)، وأخيرًا بفعل المكان الدال («وتتدلى من الجمجمة …») وبفعل الاستمرار القصدي للكلمات («يضم الصخر»): لم يعد نثر كهذا يؤثر بالتناغم ولا بالترخيم الصوتي، بل — بالأحرى — ﺑ «أثر الصدمة»، لكن هذا الشعر، بخشونته القصدية، وتصادماته، وتنافر أصواته، وترخيماته الجوفية، خالق لقيم جديدة، بنفس الطريقة — ونفس المعنى — الذي خلقت به موسيقى موسيقار من قبيل «بيللا بارتوك» أو «هونيجير».
نرى — من هذه الأمثلة القليلة — إلى أي حد يمكن أن تتقابل أنماط النثر الموقع: بالإضافة إلى أننا لا نتوفر هنا إلى على عينة للإمكانيات الإيقاعية للنثر، لكن لا ينبغي أن ننسى أن الأمر لا يتعلق هنا إلا بتنظيم من الدرجة الأولى للمواد اللفظية: فباستخدام شكل «النثر الموقع»، نستطيع أن نبني — بنفس القدر — حكاية، ودراسة، ورواية، ولا شيء أكثر خطأً من الخلط — مثلما فعل الرمزيون — بين «النثر الموقع» و«قصيدة النثر»: وذلك لأن قصيدة النثر هي تنظيم من الدرجة الثانية للنثر، و«شكل ثانوي» — إذا شئنا١٠٠ — يشكل كلًّا، ويكتمل في ذاته عالمًا مغلقًا، أي قصيدة.

(ب) من النثر الموقَّع إلى قصيدة النثر

فلنعد إلى جملة «ميريل» التي ذكرتها فيما سبق: للوهلة الأولى، لا شيء يسمح لنا بتقرير ما إذا كنت مقتطفًا من قصيدة نثر، أم من «حكاية»، أم من «رواية» نثر شعري، وهي أنواع حاول الرمزيون كثيرًا أن يجربوا فيها أنفسهم،١٠١ ولكن فلنتأمل الآن مجمل النص: سنلاحظ أن نص «الأميرة التي تنتظر» يتكون من مجموعتين من أربعة مقاطع، وتنتظم كل مجموعة بقوة حول مؤثرات الاسترجاع: ها هو — على سبيل المثال — المقطع الأول والأخير من المجموعة الأولى:

في ثوب أخضر مشجَّر بفضة باهتة، تحيط الأميرة — تاركةً الخصلات الصهباء لشعرها الثقيل تنساب خارج شبكة اللؤلؤ — بذراعيها الأكثر بياضًا من أصفى زهور الليلك بكل هذا الربيع، قاعدة المزولة حيث يتمدد في خفاء ظل الساعات.

… وبينما السحب الحاضنة للظلمات تتلبد رويدًا رويدًا على غسق الشمس وفجر القمر، تنحني الأميرة، وهي تتأود في ثوبها الأخضر المشجَّر بفضة باهتة، تلثم المزولة التي لم تعد تستطيع أن ترى أرقامها النحاسية؛ إذ بجوار القمر، رن بوقٌ تحت بيارق ظافرة.١٠٢
هاتان المجموعتان — بالإضافة إلى ذلك — مرتبطتان ببعضهما بقوة:
  • بفعل محور الاستدعاء البصري والصوتي الذي يختم الجزء الأول، ويفتتح — باستعادته — الجزء الثاني: «رن بوق تحت بيارق ظافرة»، وهي جملة ستختم بدورها — بعدما تحولت — الجزء الثاني: «صمت نافخي الأبواق تحت البيارق»؛

  • بفعل الاستعادة التماثلية، في الجزء الثاني، للموضوعات والتعبيرات الواردة في الجزء الأول: هكذا تستدعي الفقرة الثانية من كل جزء اللازمة القديمة»، حيث يرجع اسم متوجًا بكلمات لغة الحب الرقيقة».

لدينا هنا — كما نرى — نمط في البناء الدائري واضح وراسخ بشكل خاص، كان «آلويزيوس برتران» أول من قدم أمثلة عليه، ويمكن أن نذكر — بصدده — أن بعض تعريفات الإيقاع تندرج ضمنها فكرة العودة الدائرية وتنظيم الكل،١٠٣ ويكفي أن توسيع فكرة العودة المنتظمة إلى القصيدة بمجملها، مع الأخذ في الاعتبار لا فحسب العلاقات التي تملكها — فيما بينها — العناصر الإيقاعية للجملة أو الفقرة، بل أيضًا العلاقات التي تملكها الفقرات فيما بينها (المقاطع أو الأدوار الشعرية) للقصيدة، بالإضافة إلى الكلمات والموضوعات (أفكار، ومشاعر، وصور) التي تشكلها، تساهم — من خلال مؤثرات التماثل والتكرار — في جعل القصيدة عالمًا حقيقيًّا، «عالم علاقات».١٠٤
وليست قصيدة «روبيل» — التي ذكرتها — بأقل خصوصية، ﺑ «نهاياتها» الثلاث ذات المقطعين، التي لا تمثل فحسب «لازمة إيقاعية»، بل أيضًا «لازمة أفكار»، فنفس فكرة «الانطلاق» يتم التأكيد عليها ثم يعاد تأكيدها في كل من المقاطع الشعرية الثلاثة (مع التضاد «طين – ضوء» الذي يُستعاد مرة أخرى، ويأتي متدفقًا لينتهي مع الكلمة – المفتاح، التي تمنح كل معناها للوحة: «إنها الحياة».١٠٥
لكن — سيقال — أي قانون «دائري» يمكن اكتشافه في قصيدة من هذا القبيل لرامبو أو لماكس جاكوب، أو لريفيردي، الذين يبدون — أساسًا — فوضويين؟ لا قانون، وهذا حقيقي في أغلب الأحيان، وهي خاصية لقصيدة النثر تكمن في تقديم قصائد منظمة إيقاعيًّا للغاية و«مبنية» تمامًا، إلى جانب قصائد أخرى شديدة الحرية، لا تخضع لقوانين تنظيم شكلي مفروض من الخارج، بأكثر من خضوعها لضرورات منطق داخلي: وهي ازدواجية سيوضحها الجزء الثاني من هذا الفصل، لكن البديهي أن كل قصيدة نثر حقيقية، سواء كانت «فنية» أو «فوضوية»، ينبغي أن تمنحنا الإحساس بعالم مغلق، ومكتمل عضويًّا، ولنكتفِ — مؤقتًا — بمثال واحد، ولنختره من «رامبو»، الذي لا يريد بعض النقاد إلا أن يروا فيه عماءً وفوضى، وللوهلة الأولى، قد تبدو قصيدة «ديموقراطية»١٠٦ انفجارًا ساخرًا عنيفًا، ومنظومة من الأحكام الضارية، وعلامات التعجب المدعية التي تتسارع بحدة بلا نظام ولا معيار، لكن هذه الضراوة ليست تفجرًا ولا لعثمة: ﻓ «أغنية الرحيل» هذه ﻟ «الديموقراطية» الاستعمارية تملك — على النقيض — تنظيمًا صارمًا، وإيقاعًا واضحًا للغاية، فموضوعا المسيرة العسكرية («علم»، و«طبل» و«مجندون») والمذبحة («سنذبح التمردات المنطقية»، «فلسفة ضارية»، «الانشقاق للعالم الذي يمضي») يسمِّي أحدهما الآخر، ويتجاوبان ويتحدان في نفس الجنون العسكري، ويرجع مظهر القصيدة، السريع والقلق بشكل خارق — من ناحية — إلى إلغاء الأفعال («في البلاد المتبَّلة والمبللة! — في خدمة أكثر الاستثمارات الصناعية أو العسكرية وحشية»، «وداعًا هنا، لا يهم إلى أين»، «إلى الأمام، هيا!»)، ويرجع — من ناحية أخرى — إلى الإيقاع الصارم للجمل، حيث تتضاعف النبرات (Aux pays poivrés et détrempés = في البلاد المتبَّلة والمبللة)، حيث التماثلات تبرز بعضها بعضًا («الجهلة في العلوم، الماكرون في الرفاهية»)، ومع عنفوان التعبيرات («قذر»، «البلاد المتبَّلة والمبللة»، «استثمارات وحشية»، «الانشقاق»)، يتجاوب عنفوان التقطيع الشعري: ولأنه لا وجود لأي حشو، ولا أية رابطة، تتعدد النبرات، ويأخذ الإيقاع في الاحتدام في الفقرة الأخيرة، وتنتهي القصيدة ﺑ marcato حقيقي: « ignorants pour la science, roués pour le confort; la crevaison pour le monde qui va. C’est la vrai marche. En avant; route! = الجهلة في العلوم، الماكرون في الرفاهية، الانشقاق في العالم الذي يمضي، إنها المسيرة الحقيقية، إلى الأمام، هيا!» ولأنها — بالتحديد — قصيرة وموجزة للغاية، تملك هذه القصيدة قوة أكبر بكثير من أكثر الانتقادات اللاذعة فصاحة ضد «النزعة الاستعمارية» الصناعية والعسكرية، فهل ينبغي أن نذكِّر — فضلًا عن ذلك — بأنني قد أكدت على وجود تكوين تركيبي لدى «رامبو» يختلف كليةً عن المسعى الخطي والتعاقبي للنثر، حتى وهو «موقَّع»؟ ولا يقل عن ذلك إثارة للدهشة ملاحظة أن شعراء متحررين بما يكفي من الضغوط الشكلية — مثل «جاكوب» و«ريفيردي» — لم يكفوا عن التذكير بأن «القصيدة موضوع مبني»،١٠٧ وأن على الشاعر أن يخلق «مجموعًا من العلاقات»:١٠٨ وسنستطيع دائمًا أن نجد — في قصيدة نثر أصيلة — وحدة داخلية، إن لم تكن شكلية، ونكتشف فيها قوانين تنظيم داخلي تجعل منها كلًّا مكتملًا وبلورة شعرية — أي قصيدة.١٠٩
وسيبحث الجزء الثاني من هذا الفصل المبادئ الأساسية والكيفيات الكبرى لقصيدة النثر، ورغم هذا، فلنلفت الانتباه — من الآن — إلى أهمية مفهوم قصيدة النثر هذا، للتمييز بين قصيدة النثر والنثر «الموقَّع» أو «الشعري»، عالم مكتمل، منظم، تترابط فيه كل الأجزاء، ويكتفي بذاته، فقصيدة النثر تحمل في ذاتها معناها وغايتها؛ ولأنها — بالضبط — مكتوبة بنفس هذا النثر الموقَّع الذي يمكن أن نطبق عليه — على سبيل المثال، وبنفس الدرجة — قوانين الرواية، أو البحث النقدي،١١٠ فعليها أن تلغي — وبشكل أكثر صرامة مما في الشعر — كل النوايا التربوية، والأخلاقية، والسردية: وهو السبب في أننا لا نستطيع أن نمنح اسم قصيدة إلى «تأمل» شعري، لكنه ذو غاية أخلاقية وفلسفية، ﻟ «سينانكور» أو «لوفيفر–دومييه»،١١١ ولا أيضًا إلى قصيدة «صولجان باخوس» لبودلير، التي يلتف شريط صورها الزخرفي حول مديح «فرانز ليست»،١١٢ ولن يمكننا — بدرجة أقل أيضًا — إطلاق اسم قصيدة على صفحة نثر مصاغة للاندماج في مجموع أوسع، رواية أو بحثًا (وعلى النقيض، فعندما تملك صفحةً من هذا الممجموع قيمة في ذاتها، نميل إلى لوم الكاتب على ذلك، مثلما فعل «سانت–بوف» من قبل مع «شاتوبريان»)،١١٣ «إن صفحة نثر ليست قصيدة نثر، حتى لو توفرت على جوهرتين أو ثلاث»، مثلما يذكرنا «جاكوب»،١١٤ ولا شك أن التمييز عمليًّا (سبق أن قلت ذلك في بداية هذا العمل)١١٥ سيصبح — أحيانًا — دقيقًا للغاية: فبين قصائد النثر التي يستخدم فيها السرد باعتباره وسيلة، تدخل المكونات عالم القصيدة (مثلما في «السنتور» لموريس دي جيران، على سبيل المثال)، والنثريات السردية أو الوصفية (التي أحيانًا ما تزعم أنها قصائد، مثل «موت بطولي» لبودلير)، ليس من السهل دائمًا رسم الحدود بينها، والمهم — مؤقتًا — هو الاعتراف بوجودها، وبأن قصيدة النثر نوع متميز: ليست هجينًا في منتصف الطريق بين النثر والشعر، لكنها نوع من الشعر الحر، الذي يستخدم النثر الموقع لغايات شعرية بحصر المعنى، ويفرض عليه — لهذا السبب — بنية وتنظيمًا للمجموع، يبقى علينا أن نكتشف قوانينهما: قوانين ليست شكلية فحسب، بل أيضًا عميقة، عضوية، مثلما في كل نوع فني حقيقي.

(٢) جمالية قصيدة النثر

لا يمكننا — بالتأكيد — أن نُعرف قصيدة النثر من الخارج، وبطريقة شكلية، مثلما هو الحال — من ناحية أخرى — مع الرواية،١١٦ فهي لا تخضع لقواعد مسبقة مثل الأنواع الثابتة كالنشيد الغنائي أو السونات، على سبيل المثال، بل تخضع لقوانين معينة برزت تدريجيًّا من المحاولات العديدة، وتشكل الشروط الحيوية لوجودها: وكما يمكننا — انطلاقًا من خلية أولى — أن نرى تطور حالة عضوية بكاملها، سنرى كيف أن الكل المُعقد للقوانين التي تقود إلى تنظيم جزء هذا النوع الأصلي موجود من قبل كبذرة، بالقوة، في مجرد تسميتها: قصيدة نثر، وحدة غريبة بلا شك، وتنطوي على جمع للأضداد (أليس «النثري» — في اللغة الدارجة — هو النقيض ﻟ «الشعري»؟): والواقع أن قصيدة النثر — لا في شكلها فحسب، بل في جوهرها — مؤسسة على وحدة الأضداد: نثر وشعر، حرية وصرامة، فوضوية هدامة، وفن منتظم … ومن هنا يكمن تناقضها الداخلي، ومفارقتها العميقة والخطرة والخصبة، ومن هنا، يكمن توترها الدائم وحيويتها.١١٧

لننطلق — إذن — من العناصر الأبسط لنحدد المبدأ المزدوج لقصيدة النثر، نثر وشعر في آن، وسنكشف — فيما بعد — كيف يتجاوب هذا المبدأ المزدوج مع نزوع مزدوج، مع إرادة التحرر من القوانين الشكلية، وخلق شكل، وكيف يؤدي — في النهاية — إلى صيغة مزدوجة، حسب سيادة النزعة الفردية الفوضوية أو الإرادة الفنية، وعند محاولتنا التقاط هذه الثنائية الأساسية في كامل اتساعها، سنصل إلى أن نرى في قصيدة النثر لا مطاردة فحسب لشكل فني جديد، بل مظهرًا للتمرد الإنساني، فيما تملكه مما هو إبداعي.

(٢-١) المبدأ المزدوج لقصيدة النثر

نشأت قصيدة النثر — حسبما أوضحت في بداية هذا العمل — من إرادة التجاوز، من التمرد ضد الأعراف المعتبرة «شعرية»، والعروض، وأعراف اللغة، لقد أرادوا — من الآن فصاعدًا — أن يفصلوا بين الشعر والنظم، وبحثوا في النثر عن عناصر شعر جديد، والواقع أن هذا النثر، الذي سعوا بخجل إلى أن يلتزموا المحافظة فيه على بعض «ترفيهات» النظم (تأرجحات، وأوزان زوجية، وأسلوب «نبيل») لم يلبث أن بدأ ينحو — أكثر فأكثر، منقادًا بنوع من الثقل الطبيعي — نحو النثر الخالص، متخلصًا من كل زخرف اصطناعي، بل سرعان ما أصبح فظًّا عن قصدٍ أكثر من النثر المستخدم — إلى ذلك الحين — في مختلف الأنواع الأدبية: «أسلوب نثر» و«إيقاع نثر» على وشك أن يولدا، وستستخلص قصيدة النثر منهما مؤثرات شعرية جديدة تمامًا.

لنبدأ — إذن — بإجمال العناصر التي يمنحها النثر — المستخدم باعتباره نثرًا — إلى قصيدة النثر، قبل أن ندرس بأية طريقة يتم استخدام وتشكيل هذه العناصر كي تصبح قصيدة.

ينفر النثر — بطبيعته، وخلافًا للنظم — من القوالب الجاهزة، والإيقاعات المفروضة من الخارج: وستذهب قصيدة النثر إلى حد الهرب ليس فقط من «النظم في النثر»، بل من الأبنية الخطابية، والأنساق المنطقية الكبرى، والأسلوب الدوري، ويتيح النثر — بمرونته — أكبر تنوع في الأشكال، وستتمكن قصيدة النثر، شأنها شأن الشعر الحر، من ادعاء منح الفكرة الشعرية «حق أن تخلق لنفسها شكلها وهي تتطور، مثلما يخلق النهر مجراه»، كي نستعيد تعبير «فيرهارين»،١١٨ يستطيع «النثر الموقَّع» — إذن — أن يتخذ مظاهر متنوعة للغاية، غير أنه كثيرًا ما ينحو إلى تأكيد صفته كنثر بالبحث عن الحيوية والتفرد،١١٩ بمؤثرات اللاتماثل أو القطع، وبالتفكيك التعبيري للجملة،١٢٠ ويتغير تركيب الجملة في نفس لحظة تغير الإيقاع، فنشهد مع «رامبو» ميلاد «أسلوب التدوين»، وجمل بلا أفعال، وذائقة الانقطاع (كثرة وجود الشَّرطة التي تقطع الجملة): وجميعها سمات ستتزايد في شعر النثر الحديث: تمرد اﻟ «كلمة» ضد اﻟ «جملة»، وهو أيضًا أحد مظاهر التمرد الفني ضد القواعد التي سنشهدها.
فمن خلال المفردات وبنية الجملة، يدخل النثر «الواقعية» و«الحداثة» في الأدب: والواقع أن الشكل النثري يتوافق بصورة لا تُقارن — وبشكل أفضل من النظم — مع التعبير عن كل مظاهر الواقع المعاصر: وأشعار «مكسيم دي كان» الكئيبة «الحديثة» تكفي للبرهنة على ذلك:١٢١
تقرأ البيانات التمهيدية القوائم الملصقات التي ترفع عقيرتها بالغناء
ها هو شعر هذا الصباح.
على ما يكتب «أبوللينير»،١٢٢ لكن شعر القرن هذا لا يستطيع العثور على شكله إلا في الشعر الحر أو في قصيدة النثر، فهما وحدهما اللذان يمكنهما استقبال مفردات حديثة وواقعية، وتسمية الأشياء بأسمائها،١٢٣ وأن يفتحا لنا في الشعر قطارات ومحطات (مثلما لدى «أبوللينير» و«فارج»)، وحانات حقيرة (مثلما لدى «كاركو»)، وسفن نقل (مثلما لدى «سندران»، فلنتوغل أبعد من ذلك: يمكن البحث عن استخدام المصطلح المحدد، الواقعي والسوقي، باعتباره وسيلة تأثير شعري خاص، وكان «بودلير» أول من تنبه لذلك، واستغله بكثرة «لافورج» في قصيدته «شكوى مدينة باريس الكبرى»، و«هويسمان» في «تخطيطات باريسية»، وكرد فعل على المفردات «النبيلة» للشعر الكلاسيكي، أصبح الشعري في أيامنا — (على ما يقول «ج. بولان»)١٢٤ — أن نقول «cheval = حصان» وليس «coursier = فرس»، و«eau = ماء» وليس «onde = موجة»، بل الأكثر غرابة أن المكان المشترك والكليشيه قد احتلا موقع العناصر الشعرية، وهو منحًى نلاحظه بشكل خاص في النثر: ويذكر «ج. بولان» — الذي بحث طويلًا هذا «الاستخدام» للمكان المشترك في «زهور تارب» — بداية قصيدة «حقول مغناطيسية»، على سبيل المثال،١٢٥ أو أمثلة لأماكن مشتركة «أعيد تأملها» من قبل «ج. رينار» أو «ل. ب. فارج»،١٢٦ هذا الميل إلى استخدام ما كان يكرهه الشعر — حتى ذلك الحين — باعتباره عناصر شعرية بالتحديد، من قبيل الابتذال، والفجاجة، و«النثرية» (الواضحة تمامًا في كثير من الروايات الأمريكية، كي نذكر مجالًا آخر)، هي بالتأكيد خطر دائم بالنسبة للنثر، أكثر مما بالنسبة للشعر الحر: خطر لا يرتبط بالفجاجة أو القبح (لا نملك في هذا الصدد نفس الكراهية الجمالية للقرون الكلاسيكية) قدر ارتباطه بالاستسهال والسطحية، فلا يمكن لكل هذه العناصر، غير الجمالية في ذاتها، أن تتوفر على قيمة جمالية (وشعرية) إلا وهي منظمة، ومتجاوزة، كي تدخل في عالم النتاج الأدبي.
وينبغي أن نضيف أن قصيدة النثر؛ لأنها — تحديدًا — مكتوبة نثرًا، قد أثرت غنائية بعض الأنماط الجديدة، التي كان يصعب قبولها بسهولة في النظم الكلاسيكي، مثل السخرية، والغرابة، ونبرة بوح معينة (كان «برتران» أول من وسع من عدد «النبرات» الشعرية وتلاه «بودلير»)،١٢٧ ولا سيما شكل خاص من السخرية التي ستحتل مكانةً تتزايد أهميتها في شعر القرن العشرين، فالسخرية — التي تظهر على نحو خاص في النوع السردي — هي، بسبب ذلك، في موقعها الأكثر ملاءمة في النثر، في حين أنها تغامر — في الشعر — بهدم كل أثر ﻟ «التعويذة» الشعرية،١٢٨ فيما تصبح — في النثر — نغمة شعرية ذات نوع خاص، مرتبطة — ولا سيما السخرية المسماة ﺑ «السوداء» — بوضوح فرداني ما، فوضوي وهدام: واللافت للنظر للغاية أن نرى — في كتاب «مختارات من السخرية السوداء» لأندريه بريتون — عددًا من قصائد النثر، منذ «صانع الزجاج الرديء» لبودلير، إلى «نثريات» السيريالية لجيزيل براسينو، فالحدود تقيمها خطوط التماس التي تفصل قصيدة النثر عن «الفكرة» من ناحية، وعن «الحكاية» من ناحية أخرى،١٢٩ وتدخل الفانتازيا — هي أيضًا، وبشكل أكثر من قصدي — بسبب العناصر التي تحتويها من فوضوية، وتمرد ضد القوانين الطبيعية — في قصيدة النثر أكثر من دخولها في قصيدة الشعر، لكن نفس الحدود يجب تعيينها في قصيدة النثر الفانتازية: إذ ينبغي أن تظل قصيدة.١٣٠

والواقع أنه لا ينبغي أن ننسى ذلك: فإزاء هذا النثر الحر للغاية في اختيار الموضوعات، والمفردات، وتركيب الجملة، والنبرة، ستفرض القصيدة متطلباتها وقوانينها العضوية، وهذا الرفض للأعراف ليس رفضًا لكل قانون، وهذه الحرية في الشكل ليست غيابًا للشكل، وقد رأينا أن النثر — في المستوى الأول — ينتظم في نثر مُوقَّع يخضع لقوانين مغايرة لتلك التي تحكم — على سبيل المثال — النثر الخطابي، يتبقى لنا — الآن — أن نتأمل كيف تفرض القصيدة بدورها، كشكل من المستوى الثاني، على النثر الأكثر حرية إلى هذا الحد أو ذاك، الموقع إلى هذا الحد أو ذاك، تنظيمًا للمجموع، وتجعل منه كلًّا، «كائنًا» فنيًّا.

ما هي القصيدة؟ ينبغي أن نعيد للكلمة هنا كل معناها الاشتقاقي كعمل مُصاغ «مُكتمل»: فغالبًا ما يتم الخلط بين قصيدة وشعر، ويتم إطلاق اسم قصيدة على كل عمل يتحقق فيه الشعر، والواقع أن قصيدة النثر، التي لا ينبغي الخلط بينها وبين النثر الموقع، لا ينبغي أيضًا الخلط بينها وبين الشعر، وليس من العبث أن نستعيد هنا مفهوم القصيدة كي نحدده، لنرى ما ينطوي عليه، وما يستبعده.

ولندحض أولًا سوء الفهم الذي يمكن أن ينشأ من التوسع المفرط في استخدام المصطلح: ففي القرن الثامن عشر، كانوا ما يزالون يطلقون اسم قصيدة على كل عمل ذي مساحة معينة، مُصاغ بقوة، وقادر على إبهار الخيال والأذن بالشعر والتناغم في أسلوبه: فمقطوعة لراسين كانت تُسمى قصيدة درامية، ورواية مثل «أميرة كليف» أو «تليمك» كانت تسمى قصيدة نثر،١٣١ بل يستمر هذا المعنى في القرن التاسع عشر، ففي عام ١٨٦٠م، يتحدث «سانت–بوف» عن «كاهنة باخوس» لموريس دي جيران باعتبارها جزءًا من قصيدة نثر موضوعها «باخوس في الهند»،١٣٢ لكن المعنى تطور — رغم هذا — عندما كتب «ر. دي جورمون» أن «الإلياذة والأوديسا روايتان مكتوبتان نظمًا، بقدر ما «الشهداء» و«سالامبو» قصيدتا نثر»،١٣٣ مشيرًا بهذا إلى «قصائد — من — النثر»، بل إلى قصائد مكتوبة نثرًا، بالتعارض مع روايات مكتوبة نظمًا، ففي هذه الفترة، مال مفهوم القصيدة إلى الاتساع، والاختلاط بمفهوم الشعر، وعندما يصرح «ر. دي جورمون» قائلًا: «في الواقع، ما من وجود إلا لنوع واحد، هو القصيدة، وربما نمط واحد، هو النظم؛ إذ إن النثر الجميل ينبغي أن يتوفر على إيقاع، وسيشير الشك إن لم يكن سوى مجرد نثر، وعلى أساس أن «بوفون» لم يكتب سوى قصائد، هو و«بوسوييه» و«شاتوبريان» و«فلوبير»،١٣٤ فإنه يمنح كلمة قصيدة دلالة أكثر عمومية بكثير، وبالتالي معنًى أقل تحديدًا بكثير، وعندما ندفع بهذه الفكرة إلى الحد الأقصى، نستطيع التوصل إلى أن نرى بعضًا من الشعر في كل مكان (عدا في الملصقات والصفحة الرابعة من الجرائد، حسب تعبير «مالارميه»)،١٣٥ ورؤية قصيدة في كل عمل مكتوب بشكل جيد، ولن يدهشنا بعد ذلك أن نرى «باربي دورفيي» يتحدث عن روايته «أماديه» باعتبارها «قصيدة نثر»،١٣٦ أو «أندريه بار» — الأكثر قربًا منا — وهو يعلن بجسارة أن «شاتوبريان قد افتتح قصيدة النثر» مع «أتالا»،١٣٧ بحجة أن «عمله يمتلئ بهذه الجمل ذات المعنى غير المحدَّد، حيث تكفي موسيقى المقاطع اللفظية لإثارة حالة روحية»، ويتحدث «شيريل» عن «روايات أو قصائد نثر» لسينانكور: «ألدومين»، و«أحلام يقظة»، و«أوبيرمان».١٣٨
لا، ليست «أمايديه» و«أتالا» و«أوبيرمان» بقصائد نثر، فغاياتها ومسيرتها مختلفة، ومختلفة هي الأصداء التي توقظها فينا؛ ولأنها روايات — في المقام الأول — فهي تخضع لجمالية الرواية، المختلفة تمامًا عن جمالية القصيدة (وسأعود إلى هذه المسألة فيما بعد)،١٣٩ لكن حتى لو كان المؤلف قد أراد (مثل «أورفيي»، ربما) أن يكتب «قصيدة» أو «رواية – قصيدة»، فكيف يمكن في مؤلفات كهذه — طويلة للغاية بالضرورة — تجنب كل ما يفيد في تمهيد أو شرح الفعل، كل ما يُعلق أو يستخلص؟ فبقدر العناصر التي تنزع عن العمل كثافته الضرورية، بقدر الأزمنة الميتة، و«المناطق عديمة الشكل»١٤٠ غير المقبولة — إذا ما تكلمنا على الصعيد الشعري — في قصيدة بقدر ضرورتها في رواية، وكان «جوبير» قد أعلن في «دفاتره»، عام ١٨٠٦م، أن «قصائد هوميروس ليست بقصائد، بل هي شعر» — ونعلم بأية قوة سيدين «بو» — لنفس الأسباب — «بدعة الطول»:١٤١

لا وجود لقصيدة طويلة، وما نعنيه بقصيدة طويلة هو تناقض تام في المصطلحات.

قائلًا (هذه المرة ليس بصدد الرواية، بل بصدد القصيدة الملحمية):
عمل بهذا الحجم لا يمكن اعتباره شعريًّا إلا بقدر ما تتم التضحية بالشرط الحيوي لكل عمل فني، الوحدة — لا أريد الحديث عن الوحدة في المفهوم، بل الوحدة في الانطباع، وكلية التأثير.١٤٢

ها نحن إذن قد وصلنا — بانقلاب غريب — إلى مفهوم للقصيدة مناقض تمامًا للمفهوم الكلاسيكي: هذه المرة، بدلًا من أن تكون عملًا ذا مساحة معينة، سيكون الإيجاز ضرورة حيوية للقصيدة، وشرطًا لازمًا لوحدة التأثير.

والواقع أن هذا التعريف للقصيدة — باعتبارها «كلًّا» من خصائصه الرئيسية الوحدة والتكثيف — يبدو بمقدورنا أن نطبقه، بشكل خاص، على قصيدة النثر التي — لأنها لا تلجأ إلى القدرة السحرية كي تستثير الهزة الشعرية — ينبغي أن تؤثر بكثافتها وحدها، بسطوعها بدون أية شائبة، وقد أدرك «هويسمان» من قبل هذه السمة، عندما رأى في قصيدة النثر «أوزمازوم الأدب» مكثفة — «في صفحة أو صفحتين» — الطاقات الأساسية لرواية بكاملها،١٤٣ وبدقة أكبر، قال «أ. آتيس» عام ١٨٩٧م:
قصيدة النثر ليست أكثر مما لا يكونه النظم، ليست بالحكاية ولا الأقصوصة، سواء كانت هذه الحكاية لفلوبير، أو هذه الأقصوصة لجوتييه؛ إذ لو بدا غريبًا التمييز بين عملين على أساس طولهما، يظل بديهيًّا أن وضع الحدود هذا أمر جوهري، وأن المهمة خاصة للغاية، وتكمن في أن تسيِّج في صفحة قصيرة انطباعًا مستقلًّا وأحيانًا دراما كاملة.١٤٤
ومنذ عهد قريب، أشار «أ. جالو» — بشكل موفق إلى حد بعيد — إلى هذا الاحتياج إلى الإيجاز والوحدة، عند تعريفه لقصيدة النثر باعتبارها «قطعة نثر موجزة بشكل كافٍ، موحدة ومقتضبة مثل قطعة من الكريستال يتلاعب فيها مائة انعكاس متنوع»، إبداع حر، لا ضرورة أخرى له سوى رغبة المؤلف في بناء شيء مدغم، خارج كل التحديات، لا تنتهي فيه الإيحاءات، على غرار مقطوعة «هاي–كو» يابانية.١٤٥

كلية التأثير، التركيز، المجانية، الكثافة: عدة تعبيرات تؤكد لنا فكرة أن قصيدة النثر إنما هي عالم مغلق، موصد على نفسه، مكتفٍ بذاته، وضرب — في نفس الوقت — من الكتلة المشعة، المشحونة — في حجم ضئيل — بإيحاءات لا تنتهي، والقادرة على هز وجودنا حتى العمق.

هذا العالم — مثل كل عمل فني — هو عالم من «علاقات»، وكثيرًا ما جرت مقارنة الشعر بلحن طباقي contrepoint،١٤٦،١٤٧ يتألف — في آنٍ — من حلقات ميلودية على المستوى الأفقي وعلاقات رأسية (أو تناغمات) بين «الأصوات» المختلفة للقصيدة:١٤٨ إصاتات، وأحاسيس، وإيحاءات، فالعالم الشعري معقد بشكل خاص، على أساس أن الشعر فن تمثيلي، حيث تتأسس العلاقات أو العلاقات الضمنية المتبادلة في كل لحظة لا بين الوقائع المقدمة فحسب، بل بين هذه الوقائع أيضًا والكلمات، التي تعتبر إشارات لها، وتناغمات الإيحاء التي تعمق وتُثري الإحساس بالكلمات؛ لهذا لا نستطيع القول إن الشاعر يقترح على نفسه «وصف» لوحة أو مشهد، أو «التعبير» عن هذا الشعور أو ذاك: إنه يكوِّن بهذه العناصر المستمد من الواقع المادي أو الذهني «موضوعًا» جماليًّا، إنه يرتب عالمًا معقدًا يمكن القول إنه خالقه،١٤٩ ولا يهم كثيرًا أن تكون الوقائع المختارة قديمة أو حديثة، سامية أو يومية:١٥٠ فلا أهمية للعناصر في ذاتها، قدر أهمية مجمل العلاقات المعمارية والبنية الكونية حيث لا تلعب المفاهيم، والصور، والمشاعر المستدعاة مجرد دورها، بل أيضًا أرابيسك الأصوات وإيقاع الجمل، والإيحاءات من مختلف الأنواع، والدلالات الرمزية الكامنة أو المتعددة إلى هذا الحد أو ذاك، التي تمثل أحيانًا جوهر القصيدة، وتجعلنا نستشف عبرها واقعًا آخر أكثر إبهارًا من ذاته، فعندما يقول «رامبو»: «لقد عانقت فجر الصيف»،١٥١ نشعر تمامًا أن هذه الكلمات تحتوي — في آن — على إيحاء بنضارة مضيئة، ونقاء، وإشراق، طارحة — بذلك — «موضوعًا» ستنسجم معه العناصر الأخرى للقصيدة، الزهور والأحجار الكريمة والسيول الفيضية١٥٢ (ولا يهم كثيرًا ما إذا كان الأمر يتعلق بمشهد طبيعي متخيل أو واقع مصور)، وثمة مغزى ثانوي لا ينفصل بوضوح — من جهة أخرى — عن الكلمات الموجودة، تقريبًا، في حالة إرجاء،١٥٣ لكنها يتسامى عليها: فكل شيء ينتظم حول هذا المغزى الثاني، هذا السرد الذي يوصف، والذي تكشفه لنا القصيدة، ككل ويسرقنا، وفي هذا النص الموجز، المحمل رغم هذا بالأصداء، ما من جانب أو «مشهد» شعري بلا أهمية (سواء تعلق الأمر بالصور، أو الإيقاعات، أو الأبنية الصوتية أو الفكرية)، ما من تفصيلة أو كلمة بلا فائدة: كل شيء «يؤدي دوره» جماليًّا، والكل يساهم في الانطباع العام، والكل يتماسك بلا فكاك في هذا العالم الشعري الواحد وشديد التعقيد في آن.
وبديهي أن اللحن الطباقي لقصيدة النثر وجيز بشكلٍ خاص؛ لأن الأمر يتعلق بعمل موجز، حيث الكثافة ووحدة التأثير أكثر ضرورة وأكثر سهولة في تحقيقهما في آن، ورغم هذا، يبدو أننا لم نستنفد بعد مفهوم «القصيدة» في حديثنا عن مجموع من العلاقات، عن عالم منظم بقوة، والواقع أنه يمكننا الإشارة إلى أنه في الرواية أيضًا يمكن للعلاقات أن تنشأ بين عناصر الموضوع (شخصيات، وأحداث، وأفكار أو رموز)، وأن «تعمل» كل هذه العناصر على الصعيد الجمالي، وتلعب دورها في تنظيم عالمي خاص، ولا شك أن العناصر الصوتية الخالصة لن تلعب إطلاقًا أي دور في الرواية، لكن ينبغي الإشارة إلى أن هذه العلاقات أقل وضوحًا بكثير في قصيدة النثر مما في قصيدة النظم (فلدى بعض الكتاب، مثل «بودلير» على سبيل المثال، لا يهدف إيقاع الجمل وإصاتات الكلمات — في أغلب الأحيان — إلا إلى الاقتران الوثيق بحركات الكائن الداخلي)، وما يهم — بالتحديد — هو تعريف قصيدة النثر باعتبارها «قصيدة» في العلاقة بأنواع النثر الأخرى، وبشكل خاص في العلاقة بالرواية، والواقع أنه ستتاح لنا فرصة التحقق من أنه كثيرًا ما تم الخلط بين الأشكال القصيرة للرواية (الحكاية، القصة، والأقصوصة) وقصيدة النثر،١٥٤ وهو خلط يمكن أن يكون له تفسيران: أولًا؛ لأنه إذا ما كانت الرواية صيرورة في جوهرها (أو أن هدفها المعلن — إذا شئنا — هو حكي حكاية)،١٥٥  فإن قصيدة النثر — من جانبها — ليست بالضرورة، ولا هي دائمًا وصفية: فهي — على النقيض — كثيرًا ما تستخدم عناصر سردية، ومن ناحية أخرى، ومثلما في الواقع، «لا تظهر الرواية وقصيدة النثر أبدًا في الحالة الخالصة تمامًا»،١٥٦ فثمة روايات شعرية (لا أعني فحسب مجرد تقديم أسلوب شعري، بل بنية مركبة متعلقة بالموضوع، بنية قصيدة،١٥٧ مثل رواية «تونيو كروجر» لتوماس مان، على سبيل المثال)، وبالعكس، فثمة قصائد، بل قصائد منظومة، تلحق بالرواية: ﻓ «جوسلين» رواية من النظم، وإلى حدٍّ ما جميع القصائد الملحمية،١٥٨ ولا يقل عن ذلك ضرورة أن نحدد فيمَ يختلف عالم القصيدة (على الأقل، في جوهره) عن عالم الرواية، ما الذي يجعل قصيدة النثر، رغم أنها مكتوبة نثرًا، نوعًا شعريًّا، ذا نمط وجودي متميز.
ولا شك أنه يمكن تصنيف القصيدة، والرواية، والفنون الأدبية بشكل عام، ضمن الفنون الزمنية (الخاضعة، باعتبارها كذلك، لقانون عدم الانعكاس) بالتعارض مع فنون الفراغ، مثل العمارة، والتصوير الزيتي، والنحت، ومفهوم الزمن — من ناحية أخرى — معقد، لحقيقة أن الأمر يتعلق، في آن، ﺑ «زمن حقيقي» (الزمن الذي تستغرقه القراءة) وﺑ «زمن ممثل» (ما دام الأمر يتعلق هنا بفنون «تمثيلية»): وإذا ما كان زمن القصيدة الحقيقي أقصر من زمن الرواية، فإن طول المدة المقدمة متنوع للغاية في الأعمال الشعرية كما في الأعمال الروائية،١٥٩ لكن ها هو ما ينبغي التأكيد عليه: ففي حين أن الرواية تنتظم في مدة كضرورة تكوينية لها، وتظهر في شكل تسلسلي في الزمن، بحيث يمكننا في كل رواية حقيقية أن نلتقط اطرادًا ما، ونميز مراحل معينة، فإن القصيدة — من جانبها — تقدم نفسها ككتلة، كتركيب لا يقبل الانقسام: «في قصيدة جميلة — على ما يكتب «ج. ريفيير» — لا يوجد أبدًا اطراد: فالنهاية هي دائمًا في مستوى البداية، نتواصل على الفور معها، وكل شيء على مستوى واحد، وكل شيء يُلتقط على نفس المستوى، وتشكل الأبيات دائرة، وكل منها يدور نحو الآخر، وترقب بعضها بعضًا، وتأسرنا في دائرتها، ذلك أنها تعمل على تضليلنا في المكان، وهي تسعى إلى أن توحي لنا بنسيان الزمن وبعده، فالانفعال الشعري نوعٌ من التحويم بواسطته يتكون فينا، في قلب الهرب من الأشياء، غدير الأبدية …»١٦٠ ونصل هنا إلى ضرورة جوهرية، وأساسية للقصيدة: فهي لا تستطيع الوجود كقصيدة إلا إذا أعادت إلى «الحاضر الأبدي» للفن الأوقات الأكثر طولًا، وأن تجمد صيرورة متحركة في أشكال غير زمنية، لتلحق بذلك متطلبات الشكل الموسيقي.١٦١
والواقع أن الشعر الموزون (الذي يفكر فيه «ريفيير») يقدم هنا مصدر الأشكال الإيقاعية المنتظمة، من تساوي الأبيات، والعودة المتأرجحة للقوافي: فالقارئ — الذي يستسلم لتعويذته — «مؤسس ضمن حالة متناغمة، ويشعر بحركاته وأفكاره التي تبناها النظام الأبدي، إنه منفصل عن العارض واليومي»، على ما يكتب «كلوديل»،١٦٢ فقصيدة النثر مدعوة إلى الاعتماد على مصادر أخرى كي تحررنا من «النغمة المطردة»: ولكن، رغم اختلاف الأساليب المستخدمة، فهي تكشف عن نفس الجهد، ونفس الاندفاعة الإيكارية في محاولة هزيمة وطأة الزمن.
فنلاحظ أولًا النزوع إلى الإيجاز، شبه الغريزي، لدى كل شاعر نثر: عندئذٍ، تصبح القصيدة ومضة خاطفة لا تسلسلًا في الزمن، وتأثيرها على القارئ مباشر ولا اطرادي، ندرك — بذلك — لماذا اتفق كل النقاد على تعريف قصيدة النثر باعتبارها مقطوعة من النثر «موجزة، موحدة، مقتضبة مثل قطعة الكريستال»:١٦٣ فالكثافة هنا هي النتيجة الطبيعة للإيجاز، وبالفعل، كلما ازداد التركيب الشعري قوة، تولد لدينا الانطباع بأن فراغات من الزمن أو من الاستمرار الفكري تظل مدغمة تحت أنظارنا،١٦٤ وهو ما سيعرضه النثر الاستلالي رويدًا رويدًا وبالتدريج.

ومع ذلك، تظل الإشكالية مطروحة، حتى بالنسبة لقصيدة موجزة للغاية: كيف يمكن التوفيق بين الجريان الحتمي للزمن الحقيقي والحاضر الأبدي للفن، بين المتعاقب والمتزامن، ثمة وسيلتان، وهاتان الوسيلتان المتعارضتان مرتبطتان بالاتجاهين المتباعدين اللذين يوجهان قصيدة النثر سواء نحو التنظيم الفني، أو نحو الفوضوية التحررية، وتتمثل الوسيلة الأولى في السيطرة — عبر أنساق مشابهة لأنساق النظم — على الزمن، وامتلاكه، وفرض شكل وبنية عليه عبر الإيقاع، وتتمثل الوسيلة الثانية في التحرر من الزمن، في نفيه، في الخروج من التصنيفات الزمنية، وبذلك، نصل إلى صيغتين (سندرسهما فيما بعد): في الحالة الأولى، القصيدة «الشكلية» أو الدائرية، المؤسسة على التقسيم إلى مقاطع، والتكرار، والتنظيم الإيقاعي، وفي الحالة الثانية، «القصيدة–الإشراقة»، المنقطعة عن كافة أشكال الاستمرارية: الزمن، الفراغ، الاستدلال المنطقي، وستوجد — في الحالتين — قصيدة، أي بلورة، وخلق لعالم مستقل، مغلق على ذاته، متألق ببريق كوكبي في سماء الفن اللازمنية.

وتقودنا الصفحات السابقة إلى استخلاصات من نوعين: نرى — أولًا — أن مفهوم القصيدة أساس لقصيدة النثر: إنه يسمح بتحديدها باعتبارها شكلًا من المستوى الثاني، عالمًا من العلاقات، و«كتلة» لا زمنية، وتمييزها — بالتالي، وفي آن — عن الأنواع الأخرى للنثر الأدبي والنثر الشعري، وسنلاحظ — من ناحية ثانية — أن الثنائية، أو — إذا شئنا — تناقض قصيدة النثر، متحققة في كل مستويات تنظيمها: وهي تتجلى منذ المبدأ، ما دامت قصيدة النثر تستخدم النثر، ذلك العنصر الفوضوي والخام، وتشكله في قصيدة بأن تفرض عليه تنظيمًا فنيًّا يجعل منه كلًّا واحدًا وشديد التعقيد في آن، وهو تناقض يتبدى في بنية الجملة الموقَّعة، التي تتوجه نحو نمطين كبيرين، الجملة السلسة والموسيقية، والجملة المتقطعة والديناميكية، ونجدها الآن على صعيد تنظيم القصيدة، عندما نرى حدوث صدع على مستوى مفهوم الزمن، يفصل القصائد التي تسكِّن / تجسِّد التدفق الزمني في أشكال صارمة، والقصائد التي تتحرر من الاستمرارية ﺑ «تمرد» ضد التصنيفات، لا الزمنية فحسب، بل أيضًا المنطقية.

ولا بد الآن أن نتساءل: إلى أي تعارض عميق، وإلى أي تنوع في المواقف الثقافية يتجاوب هذا التناقض: إنه التعارض، لا بين «مدرستين» شعريتين، وإنما بين عائلتين ذهنيتين، ويتضح في كل مراحل عملية الخلق، ويجعل من قصيدة النثر واقعًا معقدًا، لا يمكن اختزاله في شكل واحد من التنظيم الشعري، وفي مسعًى إبداعي واحد دائمًا، فالشاعر — في عمله على هذه المادة الأولية، أي جملة النثر — إنما يشكلها حسب صورته، ويطبعها بعلامته الخاصة به، سواء بحبسها في أشكال ضيقة، أو بإطلاق «حشد الكلمات»،١٦٥ إنه يستهدف تحقيق كمال سكوني في حالة من النظام والتوازن — أو بتشويش فوضوي للعالم، حيث يمكن له — من قلبه — أن يكشف عن كون آخر، ويعيد خلق العالم، ثمة هنا، بشكل مبسط، عمليتان إبداعيتان مختلفتان للغاية، موقفان متعارضان، لا جماليًّا فحسب، بل أيضًا ميتافيزيقيًّا، والواقع أن التأرجح الميتافيزيقي بين هذين «القطبين»: روح النظام روح التمرد، يفسر تأرجح قصيدة النثر بين قطبين: التنظيم الفني، والفوضوية الهدامة.

(٢-٢) قطبا قصيدة النثر

التنظيم الفني، والفوضوية الهدامة

ولا شك أن قصيدة النثر تنطوي في آنٍ (وهو ما سبق أن قلته في بداية هذا الفصل) على قوة فوضوية، تدفع إلى نفي الأشكال الموجودة، وقوة منظمة، تنحو إلى بناء «كل» شعري، ويؤكد مصطلح قصيدة النثر نفسه هذه الثنائية: فمن يكتب نثرًا يتمرد ضد الأعراف العروضية والأسلوبية، ومن يكتب قصيدةً يهدف إلى خلق شكل منظم، مغلق على نفسه، ومنفلت من الزمن، فثمة تمرد في نقطة انطلاق قصائد نثر «آلويزيوس برتران»، مثلما ثمة شكل فني في نقطة وصول اﻟ «إشراقات».

لكن مع التغاضي عن ذلك، فلا يقل عن هذا حقيقة أن موقف «برتران» وموقف «رامبو» يختلفان بعمق: فبرتران (ومعه جميع الشعراء «الشكليين»)،١٦٦ يهدف إلى «خلق نوع نثري جديد»،١٦٧ وإلى العثور على قوانين شكل فني جديد، ليست أهدافه — بالضرورة — مغايرة لأهداف الشعر المنظوم، و«رامبو» (ومعه شعراء المغامرة الروحية) يهدف إلى «إيجاد لغة» تسمح له بنقل رؤاه، و«اختراعاته المجهولة»،١٦٨ لا يتعلق الأمر — هنا — بمجرد موقفين جماليين، بل بطريقتين في رد الفعل إزاء نظام الأشياء كما هي موجودة: يتعلق الأمر بمواقف اجتماعية وميتافيزيقية في آن.
وكثيرًا ما تم التأكيد على مدى توافق الشعر المنظوم، الشعر «الموزون»، مع حالة توازن جسدي وأخلاقي واجتماعي، وتوافق بين الإنسان وعالمه،١٦٩ وفي جميع الأوقات، راقت للإنسان الاجتماعي الأغاني الموزونة، والتعاويذ، والتوازنات التي تستجيب لغريزة استسهال أساسية،١٧٠ إنه الانغماس في الإيقاعات الجسدية والكونية، والميل إلى النظام، «إن بحر الشعر المنتظم (الذي يمتلك الوقت لذاته) يشير إلى هم الاجتماعية، مثلما يكتب «ﻫ. توماس»،١٧١ إنه يستدعي فكرة الإنشاد، ومفعم بالاعتبارات، ويقدم — على الأقل — عنصر اتفاق، وبقدر ما يتخلى الشاعر عنه، بقدر ما يتوجه نحو مجالات أكثر شخصية وفوضوية»، ويمكننا الذهاب إلى حد القول إن الشاعر الذي يكتب شعرًا (منتظمًا) يشعر بالتوافق تمامًا، لا مع المجتمع فحسب، بل مع الكون كله، في حين أن شاعر النثر غير الشكلاني يتمرد ضد هذا الكون: «كخالق، سيفعل ما هو مخالف لفعل الرب»، كما يقول «هوجو»، الذي يضيف أن كل شيء في الطبيعة «إيقاع ووزن، ونكاد نستطيع القول إن الله صنع العالم نظمًا»،١٧٢ لكن شاعر النثر الذي يبحث، مثلما سيفعل شاعر النظم، عن جريان الزمن في أشكال إيقاعية، وعلى أن يفرض عليه بنية منتظمة، عقلانية، بواسطة المقاطع المنتظمة، والتكرارات، والأبنية الدائرية، لا يقترح على نفسه أهدافًا مغايرة لأهداف شاعر النظم، رغم أنه يحل محل التماثلات العروضية والصوتية (المقطعية والقافية) تماثلات فراغات مختلفة: فكلاهما يعتنقان الإيقاعات الكونية،١٧٣ ويندمجان في نظام متناغم، ويدمجان نشيدهما في نشيد الكواكب.

وعلى النقيض يكره الشاعر المتمرد — على حال الأشياء، وعلى القوانين الاجتماعية، وعلى الوضع الإنساني — هذا «التسلسل» وهذا «السحر» المخدِّر: إنه يرمي بنفسه بعنف نحو أكثر أشكال النثر فوضوية، وأقلها «وزنًا»، عندئذٍ، يتخلى الشعر عن أن يصبح وسيلة اتصال بين الناس، وفعلًا اجتماعيًّا، و«نعم» للنظام الكوني، ليصبح «آلة جهنمية» يمتطيها الفرد ضد مجمل الكون، وعند تضاربها مع قوانين تركيب الجملة والمنطق، فإنها تتضارب عبرها ضد القوانين التي تحكم العالم المعروف، مراكبة عالمًا آخر، أكثر سطوعًا وأكثر نقاءً، «قدسًا» سماوية تصبح وسيلة للغزو والخلق في آن.

وثمة مثال مدهش لهذا التفاوت بين شعراء الفتنة الإيقاعية، والنظام الأبدي، وشعراء التمرد الفوضوي، يكمن في هذا الوجه المزدوج الذي يقدمه لنا حاليًّا شعر حديث للغاية، ويستمد إلهامه من مصادر قديمة تمامًا في آن، هو الشعر الزنجي والمالاجاشي الجديد، نرى هنا الاعتراف (وقد أكد «ج. ب. سارتر» على ذلك)،١٧٤ بموقفين متعارضين، «منهجين» شعريين، و— بالتالي — شكلين متناقضين: من ناحية، الشعراء الذين يسعون — عن وعي — إلى الاستسلام لسحر الإيقاعات البدائية، وانسياب أفكارهم في الأشكال التقليدية للشعر الزنجي»،١٧٥ ويجدون في إيقاعات طبلة «الطنطن» (أو في الأسلوب التقليدي للتصرحيات الملكية١٧٦ أو hainteny) عناصر شكل شعري سحري: «عندئذٍ، يصبح الفعل الشعري رقصة للروح — مثلما يكتب «سارتر» — ويدور الشاعر مثل درويش حتى الإغماء، وقد أحل في نفسه زمن أجداده، ويشعر به وهو ينساب في اهتزازات فريدة، وهو يأمل في العثور على نفسه في هذا الانسياب الإيقاعي، وسأقول إنه يحاول أن يجعل نفسه مملوكًا لزنوجة شعبه، ويأمل أن تأتي أصداء طبلة «الطنطن» لتوقظ الغرائز الغابرة التي تنام فيه»،١٧٧ ومن الناحية الأخرى، فإن شعراء التمرد — الذين يريدون «الغوص تحت القشرة السطحية للواقع، وللمعنى العام، وللعقل المفكر، كي يلمسوا أعماق الروح …»١٧٨ — هؤلاء «سيرفضون الأشكال المنتظمة، والعلاقات النحوية المألوفة، وسيجعلون الكلمات ترقص مثل الأشلاء، وسيلقون بها كيفما اتفق، محطمةً على الشاطئ»،١٧٩ وثمة شاعران زنجيان كبيران يمثلان هذه القوى المتعارضة»: «سنجور» و«سيزير»، ﻓ «لدى سنجور، من ناحية، الامتثال العميق لكل قوى الطبيعة والحياة الإنسانية، ومن ناحية أخرى، التمرد والشقاق الوطيد مع المصير»، مثلما يؤكد «إيميه باتري» في الملاحظة الخاصة بسنجور، مشيرًا أيضًا إلى أن «لدى سنجور، الذي يحب ترجيع أصداء نبرات «طنطن» غامضة، تنتصر العذوبة الأمومية لليل، بطبيعة الحال، بينما يحب سيزير أن يتمجد في ظل الاحتدامات الوحشية لشمس محاربة، وتبدو إحدى هذه القوى أقرب لحساسية «نوفاليس»، فيما تبدو الأخرى أقرب لرامبو …»١٨٠ والواقع أن أناشيد «سنجور» — المكتوبة غالبًا للآلات، «للناي والبالافون»١٨١،  ١٨٢ و«الخالا»)١٨٣،  ١٨٤ — تنبني، بشكل طبيعي، في إيقاعات منتظمة، مستخدمة التماثلات والتكرارات (انظر — على سبيل المثال — البنية التماثلية ﻟ «نشيد الربيع»،١٨٥ ومظهرها ذا التوازيات شبه التوراتية)، بينما «سيزير» — الذي يرجع إلى «رامبو» و«لوتريامون»، عبر السيريالية — يتحرر بعنف من طغيان «المعنى» و«الجملة» (وهي طريقة في التحرر من عقلانية البيض): فالكلمات تنبثق من هذا «البركان الانفعالي» الذي هو القصيدة،١٨٦ منفجرة في صور متوهجة، تقودنا خارج الزمن والمكان: «تتخطى الكلمات نفسها، نحو سماء وأرض لا يسمح السامي والحقير فيها بأن يصرف انتباهنا، وذلك أيضًا مجبول من الجغرافيا القديمة …»١٨٧ وتداعيات الصور ليست تلقائية ولا سلبية، إذا صح القول، مثلما لدى السيرياليين، بل هي ديناميكية، وتنظمها — بحدة — قوة التمرد والمطالبة (انظر تحليل «سارتر» لجملة: «البحار القذرة لجزر تتكسر على أصابع ورود قاذفة اللهب وجسدي سليم كمصعوق»،)١٨٨ ليس هذا فنًّا فحسب، بل أيضًا ميتافيزيقا ثورية، يخلخلان — في كل نثريات «سيزير» هذه — العالم الواقعي، ويضرمان النار في كون من لهب ودم، حيث الكلمات «ليست كلمات إنسانية».١٨٩
هذا الشكل الثاني من الشعر — الشعر الذي يستهدف إعادة اختراع اللغة وتحطيم أطر عالمنا — يستدعي ملحوظة هامة: أنه ينطوي على غموض جوهري (سبق لرامبو أن قدم لنا مثالًا مدهشًا له)، إنه إيجابي وسلبي في آن، غامض وسحري في آن، «اكتشاف» للمجهول و«اختراع» للمجهول في آن،١٩٠ فالشاعر الرائي يجد نفسه مأخوذًا بين الضرورة الصوفية — التي تتمثل في جعل الشعر وسيلة معرفة واكتشاف، وفي الوصول بمساعدته إلى عالم يقع خارج نفسه١٩١ — والضرورة الشعرية بالمعنى الحرفي، أو — إذا شئنا — الضرورة السحرية، التي تحمل الشاعر، حسب تعبير «ريفيير»، على «أن يستأنف فجأة سفر التكوين»،١٩٢ إنه طموح خلاق يعطينا «رامبو» مثالًا مبهرًا له عندما يقول:
لقد خلقت كل الأعياد، كل الانتصارات، كل الدرامات، وحاولت اختراع أزهار جديدة، وكواكب جديدة، وشهوات جديدة، ولغات جديدة، آمنت بامتلاك قدرات خارقة.١٩٣
ولا شك أن هذا الطموح الإبداعي، الذي يدفع الشاعر عاجلًا وآجلًا؛ لأنه شاعر،١٩٤ إلى الرغبة في «توجيه حلمه الأبدي لا الخضوع له»،١٩٥ والذي يلهمه أحيانًا — مثلما في حالة «رامبو» — زهوًا شيطانيًّا، يقوده أيضًا — بطريقة شبه قدرية — إلى الشعور بالوحدة، والعجز، والإخفاق: فالشاعر، بعد أن حلم ﺑ «أن النجوم ستسترشد به»،١٩٦ يدرك أنه عاجز عن تغيير العالم، عن «تغيير الحياة»:١٩٧

إذا ما كان «بودلير» و«لوتريامون» و«رامبو» يبدون مفعمين بالندم؛ فذلك لأن وحدتهم بلا حدود، إنهم يعترفون بعدم امتلاكهم لقدرة طلقة ومباشرة على العالم والناس.

مثلما يكتب «إيلوار»،١٩٨ الذي أوضح «م. كاروج» أنه ينطوي على تأرجح من نفس النوع بين النشوة الخالقة واليأس،١٩٩ ورغم هذا، فالإخلاف ليس إلا نسبيًّا؛ إذ إن الشاعر هو الصانع حقًّا لعالم جديد، عندما يتخذ العناصر الخام، التي لا تزال خاملة، والتي يأتي له بها اللاوعي أو «تشوش كل الحواس»،٢٠٠ عندما يلمها ويفرض عليها نظامًا ليس اعتباطيًّا، بل مرتبطًا بالبنية الداخلية لهذا العالم من الكلمات الذي هو مؤلِّفه وانعكاسه في آن، ولدى الشعراء «الفوضويين»، مثلما لدى الشعراء «الشكليين»، ثمة إرادة «التنظيم في قصيدة»،٢٠١ التي ينفصل الشاعر بفعلها عن الصوفي، ويتخذ سلوكًا إيجابيًّا ومبدعًا، فالفوضى ليست هنا — ولنقل ذلك مرة أخرى٢٠٢ — سوى تاكيد لفردانية ساخطة، والمرحلة الأولى لإعادة تنظيم الكون، ويمكننا أن نذهب إلى حد القول إن الفوضوية هي «النظام الذي نريد إقامته» بالتعارض مع «نظام» الأشياء كما هو موجود،٢٠٣ ومن هنا، ينشأ شكل أدبي لا اجتماعي،٢٠٤ بلا شك، لكنه ليس بلا شكل، وليس غير عضوي.

ها نحن نعود — إذن — إلى فكرة «الشكل» الشعري، الغاية الأخيرة لكل جهد مبدع، سواء أتمت ممارسته بتوافق مع القوانين الكبرى للتعبير، والمجتمع، والكون، أو — على النقيض — في ظل روح تمرد ضد هذه القوانين، ففي قلب مفهوم قصيدة النثر نفسها سيتجذر الاتجاهان المتناقضان اللذان سيوجهان ويشكلان المادة اللفظية، ويولدان صيغتين فنيتين متعارضتين: فمن «القصيدة الشكلية» إلى «قصيدة الإشراقة»، سنرى مؤلفات الشعراء النثرية تتأرجح حسب الأفراد والعصور.

(٢-٣) صيغتا قصيدة النثر

القصيدة الشكلية والإشراقة

هناك — من ناحيةٍ — شعراء النظام، المثابرون على خلق كون منظم، حيث تؤكد العودة المنتظمة للوقائع والأشكال على الشعور بالنظام الأعلى الذي يحكم العالم، وهناك — من ناحيةٍ أخرى — شعراء التمرد والغزو المشدودون إلى الفعل المشوِّش والخلاق في آن، فكيف «ستتبلور» هذه الطموحات المتضاربة بشكل شعري؟ بشكل خاص، كيف سيجيب هؤلاء وأولئك على هذه الضرورة الخاصة بأن يعيدوا إلى «الحاضر الأبدي» للقصيدة الانسياب الزمني للكتابة الأفقية؟ الآن سنرى تمايز صيغتي قصائد النثر اللتين ألمحت إليهما: القصيدة الشكلية، التي تفرض على الزمن بنية وأشكالًا إيقاعية منتظمة، والقصيدة–الإشراقة، التي تتجاوز حدود المكان والزمان.

فإذا ما ألغينا الأساليب الخاصة بنظم الشعر (تساوي الوقت، والتماثلات التي ترجع إلى الوقفة والقافية)، فسرعان ما سنلاحظ أن الأساليب التي تتمتع بها قصيدة النثر — كي تفرض على الانسياب الزمني بنيةً وشكلًا — تنحصر في اثنين: التقسيم إلى مقاطع، والتكرار، الذي يشمل اللازمات، واسترجاع الكلمات أو الموضوعات، والتماثلات من كل الأنواع، والواقع أن شعراء النثر قد استخدموا كل هذه الأساليب منذ وقت مبكر للغاية، بالإضافة إلى أنهم استعاروها من الأشكال الموسيقية — التي تستهدف البحث عن «إخضاع الزمن إلى اللازمني»، وإلى أن «تؤسس — في حركية الواقع — أبدية الشكل».٢٠٥
والمقاطع النثرية (التي تناظر «مقاطع» الأغاني، وفقرات الشعر) تُجزِّئ الزمن إلى أجزاء منتظمة في أغلب الأحيان،٢٠٦ مفصولة ﺑ «فراغات» أو فترات صمت، إنها فترات الصمت التي تخلق إيقاعًا وتشير إلى «الهيكل الذهني» للقصيدة،٢٠٧ وهي تسمح أيضًا بامتداد إيحاءات كل مقطع، وبنشر موجاته فينا، وعندما — تفصل — بين هذه المقاطع وبعضها، فإنها تسمح بعزل «اللحظات» المختلفة للقصيدة، وباختيار لحظات دالة في الاستمرارية دون انقطاع عن الواقع، وقد اعتمد الشعراء اعتمادًا كليًّا على التنظيم الإيقاعي الذي يعود إلى المقاطع إلى حد أنهم اعتبروها أداة تجزيء للزمن إلى أجزاء متساوية المدة مماثلة للأبيات، فشرعوا — منذ هذه اللحظة (وبشكل خاص في الترجمات المزعومة) — في كتابة أناشيد غنائية بالغة الطول، ورابسودية، حيث يظل التقسيم إلى مقاطع العنصر الوحيد للانتظام الإيقاعي.٢٠٨
لكن هذا التقسيم إلى مقاطع — في قصائد النثر — كثيرًا ما تصحبه بنية دائرية للقصيدة، وتنظيم إيقاعي مبني على العودة، والتكرار،٢٠٩ وأشكال التكرار متنوعة للغاية: عودة إحدى اللازمات على مسافات منتظمة (لازمة متشابهة دائمًا عندما يُراد التأكيد على الشعور بالثبات، والوقوف — عن قصد — في مستوى الأبدية الثابتة،٢١٠ أو اللازمة المتنوعة عندما يُراد ضم المتشابه والمتخالف، التكرار والتنوع)،٢١١ واسترجاع جملة البداية في موقع النهاية، مما يمكن الفكرة الشعرية من الالتفاف حول نفسها وإغلاق القصيدة، لتؤكد — بذلك — على انطباع «الدورة» و«الدائرة المغلقة»،٢١٢ واسترجاع للكلمات أو التعبيرات، ولا سيما في بداية أو نهاية المقاطع،٢١٣ واستعادة الأصوات، أي السجع أو المحارفات، المتكررة بشكل خاص والبارعة في فترة الرمزيين،٢١٤ والتماثل ليس سوى شكل للتكرار، ما دام يتمثل في استعادة بنيات متماثلة: وقد أشرنا إلى بضعة أمثلة لافتة للنظر لدى «برتران»،٢١٥ ويمكننا أن نذكر أيضًا البنية «الثنائية» لقصيدة «محاسن القمر» لبودلير، والبنية «الثلاثية» في «حبيبة دانزيس» في اﻟ «جوزلا» لميريميه٢١٦ (والتوازي، المتكرر إلى حدٍّ بعيد، لدى الشعراء الذين يستلهمون التوراة،٢١٧ ليس سوى شكل للتماثل)، وتقدم قصيدة من قبيل «الأمل» ﻟ «ج. تيلييه»٢١٨ شكلًا مركبًا وبارعًا على نحو خاص في التماثل، المتسق مع تكرار العبارات وبناء كل جزء في «دائرة مغلقة»: في الزمان الجميل للفاجنرية، ستستخدم قصيدة النثر «الموسيقية» وستسيء استخدام بنيات كهذه: فما هي «اللازمة»، إن لم تكن التكرار المتنوع إلى هذا الحد أو ذاك؟
يتعلق الأمر — هنا، بشكل رئيسي، كما نرى — بالتكرارات الشكلية التي تفرض بنية إيقاعية على الزمن الحقيقي للعمل، لا على الزمن المقدَّم représenté: فالرواية هي صاحبة التأثير على الزمن المقدم، وكشف «العودة الأبدية» النيتشوية في نفس الأحداث، لتخلق بذلك «زمنًا خارج الزمن»، مثلما فعل «توماس مان» في أغلب رواياته،٢١٩ ومع ذلك، فمن البديهي أن استعادة أو تماثل الكلمات يقود إلى استعادة الأفكار أو الإيحاءات، فالاستعادة — بلا كلل، على سبيل المثال — لكلمة «شَعْر» في قصيدة «بودلير» النثرية،٢٢٠ تنجح في خلق شعور بالاستحواذ، بنوع من الافتنان، ﺑ «دائرة سحرية» يختلط بداخلها كل مفهوم الزمن الملغى، الماضي والحاضر، المرأة المعانقة والأراضي البعيدة في حقيقة واحدة، غامضة ولا تقبل التجزئة، وقد يحدث — فضلًا عن ذلك — أن يعيد الشاعر، مرة بعد أخرى، في قصيدته، أحداثًا متماثلة أو متشابهة، لينظِّم — هذه المرة — الزمن المقدَّم: فعل «هويسمان» ذلك في «لازمة موسيقية»،٢٢١ ويحقق «فييه دي ليل–آدام» به مؤثرًا مدهشًا في «صوت الشعب» (حيث نرى نفس الشعب، خمس مرات، وهو يهتف ﻟ «أبطال» مختلفين أمام شحاذ يكرر كل مرة: «فلتأخذكم الشفقة بأعمى مسكين، من فضلكم!»).٢٢٢
وأيًّا ما كانت الأساليب، يظل المثل الأعلى لهؤلاء الشعراء في «العودة الأبدية» — دائمًا، في جميع الحالات — هو السيطرة على الزمن بإجباره على الانتظام الإيقاعي، وبالدخول في زمن «موسيقي» و«عقلاني»، خارج الانسياب المتواصل للصيرورة، إن الكمال الذي يبحثون عنه ذو جوهر سكوني:٢٢٣ إنهم يريدون أن يعيدونا «إلى مستوى واحد مع الأبدية»،٢٢٤ عبر أساليب مغايرة لأساليب نظم الشعر، وإن تكن مماثلة في أهدافها.
لكن ثمة وسائل أخرى للوصول إلى اللازمنية، ولإخراج القارئ من الشعور بالتعاقب المحتوم: فبدلًا من البحث عن السيطرة على الزمن بجعله ينساب في أشكال دائرية، يمكن المجاهدة من أجل التحرر منه، ونفيه، بالتواجد — بفقزة واحدة — خار التصنيفات الزمنية، الماضي والحاضر والمستقبل: «قفزة جنونية ولا نهائية»٢٢٥ يظل اسم «رامبو» مرتبطًا بها، وتقودنا إلى مفهوم القصيدة–الإشراقة، وسيتم هنا — في آن — تقليص «الزمن الحقيقي» إلى الحد الأدنى، حيث إن القصيدة ستقدم في شكل «كل» موجز للغاية، يهدف إلى أن يولد لدى القارئ الانطباع بالصدمة، والهزة الشعرية المباشرة والمكثفة للغاية، حسبما أراد «إ. بو»،٢٢٦ و«الزمن المقدَّم» الذي لن يتجلى في التسلسل في خطوط مستقيمة أو في دائرة مغلقة، بل في نقطة مضيئة، ذات بريق ساطع وفوري.
هذه المرة، نغادر — بوضوح — مجال الموسيقى، التي لا يمكن أن تتطور إلا في الزمن، وباستخدام مستويات الزمن (الجدير بالملاحظة بالفعل أن شعراء «الإشراقة» هم — إلى حدٍّ كبير — شعراء الصورة، بأكثر من كونهم شعراء موسيقى)، ونلاحظ — في نفس الوقت — أن الشاعر لن يهتم كثيرًا بتنظيم عمله بطريقة شكلية خالصة، قدر اهتمامه بالتأثير في الزمن المقدم، فيما يمكن أن نسميه «الشكل ذا المستوى الثاني»،٢٢٧ لكن، كيف نلغي الزمن، مثلما سيقال لنا؟ نرى الشعراء يبذلون جهدهم من أجل ذلك بطريقتين: تتمثل الأولى في إلغاء المستويات الزمنية بمعنى الكلمة، فيمكن للشاعر أن يصف «رؤى» لا زمنية، مثلما في قصيدة «صوفية» لرامبو،٢٢٨ أو كما في قصيدة «بربري»، التي تقع «بعد الأيام والمواسم والكائنات والبلاد بكثير»،٢٢٩ لتلحق — على هذا النحو — بهذه الوحدة غير المسماة حيث تجلس على العرش أمهات «فاوست الثاني»، وحيث «لا وجود للمكان ولا للزمان أيضًا، بدرجة أقل»،٢٣٠ أو — أيضًا — تقليص الديمومة، والإمساك بالقرون متعانقة بنظرة واحدة مثلما فعل «هوجو» أمام «حائط القرون»،٢٣١ وتوحيد العناصر المستمدة من الحضارات البعيدة في الزمان كما في المكان (مثلما فعل «نرفال» في «مآثر»)٢٣٢ ومن هنا، يكمن — لدى رامبو — «اصطدام» الفترات التاريخية (أمسية تاريخية)،٢٣٣ والنقلة العنيفة من الماضي إلى الحاضر، ومن الواقعي إلى المحتمل، و«السرعة العنيفة» للحركة،٢٣٤ ويكمن — لدى «لوتريامون» — التباس التسلسل التاريخي للوقائع، والقفزات عبر الزمن،٢٣٥ ومرونة الديمومة المتقلصة أحيانًا والممطوطة أحيانًا،٢٣٦ ويكمن — لدى الاثنين، ولدى الكثيرين من الشعراء الحديثين — التحولات التي تضع تحت أعيننا تغيرات متسارعة على الطريقة السينمائية، حالات الظهور والاختفاء الفورية،٢٣٧ ودوامة كل العناصر المحمولة في حركة تقلب كل المفاهيم الإنسانية عن الثقل، والديمومة، والانغراس في الزمن والمكان: «تحويل الهاويات واصطدام الثلوج بالكواكب»،٢٣٨ والواقع أن إلغاء المكان ليس سوى وسيلة لإلغاء الزمن، ما دامت المسافات تقاس بالأيام والشهور تمامًا مثلما تقاس بالأمتار، وما دام يمكن — بالعكس — إدراك الزمن ﮐ «مكان ذهني»:٢٣٩ «عمق المكان مجاز على عمق الزمن»، كما قال «بودلير»؛٢٤٠ ولأن الشاعر يقلص الديمومة، فهو يقلص المسافة، وهو يجول ببصره «من مضيق النيلة إلى بحار أوسيان»،٢٤١ وعلى غرار الرسامين الانطباعيين، يقارب بين الأشياء التي يفصل بينها المنظور العادي، ويرى قنوات تتدلى خلف البيوت الخشبية،٢٤٢ وأذرع «ترسي جسرًا» من جانب الشارع إلى الجانب الآخر٢٤٣ ويتخذ — مثلما يقول «إيلوار» — «عادة الصور الأكثر غرابة»،٢٤٤ ومن كل الحقائق الجغرافية، يعيد تكوين حقيقة شعرية، تقع في جميع الأرجاء وفي لا مكان: «مجالها لازورد وخضرة متكبرة، تجري على شواطئ مسماة، عبر موجات بلا أوردة، بأسماء يونانية، وسلافية، وسلتية بشكل قسري».٢٤٥
مجال اعتباطي، خيالي بشكل خالص أحيانًا، بلا سيطرة عليه من العقل: «عقل السيد إيجيتور، المتجه إلى القمر!»٢٤٦ إذ إن الشاعر يستطيع (وهي الوسيلة الثانية للتحرر التي يتمتع بها) ألا يكتفي بإلغاء المستويات الزمنية، بل يلغي أيضًا الأنواع المنطقية: فالنتيجة دائمًا تتم على هذا النحو؛ لأن مفاهيمنا المنطقية مرتبطة بمفاهيم الزمن والمكان، ولا تستطيع هدم واحد منها دون انهيار البقية، فأن يقفز كاتب بعنف من فكرة إلى أخرى، هذا الافتقار إلى الانتقالة الذي يثير ضيقنا، أليس مرتبطًا بفكرة الزمن الضروري لإعداد النقلة، زمن يجد نفسه ملغًى فجأة؟ وإذا كان «منطق الحلم» يثير حيرتنا، فذلك — بالتحديد — لأن الزمن فيه متسارع، أو ملغًى، أو — على النقيض — ممطوط بإفراط، فوجودنا لا حقيقي مرتبط بالزمن بشكل لا فكاك منه (فهو البعد الرابع لعالمنا)، إلى حد أن هذا المفهوم واقع تحتي لكل استدلالاتنا، ولكل رؤيتنا للعالم، فإذا ما ألغيناه فجأة، فسنرى كل المظاهر المنطقية تهتز، ويكبر بقدر ما يوازي قلب الواقع شرخ قاتل. وإذا ما ألغينا، بالعكس، المبادئ الكبرى للهوية،٢٤٧ والسببية،٢٤٨ فسنرى الزمن يتلاشى في قلب كارثة كونية، حيث يمكن للشاعر — واقفًا وحده «في سماء العاصفة وأعلام النشوة»٢٤٩ — أن يظن نفسه متحررًا من المكان والديمومة حرًّا لا يموت مثل إله:٢٥٠ «تبدأ الحرية حيث يولد المدهش»، مثلما يكتب «أراجون» في المرحلة الأكثر طموحًا من السيريالية،٢٥١ كيف نندهش — إذن — من أن يضع عدة شعراء حديثين أنفسهم، عمدًا (من «جاكوب» و«بريتون» إلى «إيلوار» و«ميشو»)، تحت شارة اللامنطقي، في فترة يكون الواقع اليومي أكثر فداحة، يتعلق الأمر ﺑ «اقتلاع جذور» القارئ، وتحريره من وطأة الزمن القاهرة،٢٥٢ ومن طوق العادات المنطقية في آن، ونزعه من عبوديات هذا العالم ليمتلك الحدس بعالم آخر غريب، وباهر، حيث سيسيطر الإنسان، المتمتع بقدرات جديدة، على المادة الطيعة، بدلًا من الخضوع لقوانينها.٢٥٣
ويمكننا أن نضيف أننا — اعتبارًا من السيريالية بشكل خاص — سنرى التأكيد على اتجاه في تقديم القصيدة لا كإشراقة مفاجئة، وحلم «حاد وخاطف»،٢٥٤ بل كنص، نص يقع — إذا صح القول — خارج الزمن: مستخدمًا أساليب السرد التقنية (زمن الماضي، وتتابع الأحداث، والوقائع المنقولة بموضوعية)، لكن مع تشويه هذه الأساليب لتحقيق غاية غريبة تمامًا عن السرد الذي تستخدمه الأقصوصة أو الرواية، مع استخدام شعرية مقصودة، أي لا زمنية؛٢٥٥ ولهذا، يضع الشاعر نفسه في اللامعقول، ويقدم لنا نصوصًا بلا بداية ولا نهاية، وأفعالًا تترابط خارج كل منطق، ولا يبررها أي شيء ولا تؤدي إلى شيء، في عالم هو عالمنا، ويبدو لنا — رغم هذا — غريبًا بشكل فريد، ولا تؤدي نثرية الأحداث نفسها، والموضوعية الظاهرية للراوي (أفكر في «بيالو» و«ميشو» و«ر. دي أوبالديا» ضمن آخرين) إلا إلى مضاعفة انطباع الغرابة، وهذا الخيالي، الذي يخص الحلم نفسه، عندما يضعنا — هكذا، عن عمد — في زمن خارج الزمن، حيث لا شيء يتم ولا ينتهي إلى نتيجة، إلا إذا كانت النتيجة ساخرة، وفيه تتلاشى المستويات المنطقية، هو أيضًا شكل للجهد الفوضوي و«مقتلع لجذور» الشعر الحديث.
والقصيدة الفوضوية، التي لا تخضع — من ناحية — لعادات التفكير المنطقي، لا تخضع بالمثل لعادات اللغة: ﻓ «اكتشافات المجهول تتطلب أشكالًا جديدة»،٢٥٦ ولن يدمر إعصار التمرد تقاليد الأسلوب «الشعري» فحسب، بل كل ما يشهد على تنظيم فني، وبحث عن الانتظام، والتماثلات، واللازمات، والتوازنات الإيقاعية. وسيبعثر نفس العصف التسلسلات، وترابطات الأفكار، وكل تماسك في الوصف، وكل تتابع في السرد: فالشعراء الحديثون، في أعقاب «رامبو»، يسكنون ما هو متقطع كي ينفوا — بشكل أفضل — العالم الحقيقي: «وبينما كل متصل شعري يقبل المقارنة مباشرة بالعالم اليومي، فإن كل رؤية منقطعة تبدو غريبة وحرة بدرجة عالية، إلى حد أنه لم تعد هناك إمكانية للمواجهة، وأن تبدو الحرية الشعرية هذه المرة لا كشيء يُحلَم به، بل كشيء مملوك»، حسبما يكتب «كاروج» عن «رامبو» و«إيلوار»،٢٥٧ فكيف لا نجد هنا — من ناحية أخرى — هذا الموقف الهدام تجاه الزمن (الملازم للفكر المنطقي) الذي يقود سريان الجمل، وترابطها، والتنظيم التدريجي للخطاب؟
وسنربط هذه الرغبة في إلغاء الزمن — بشكل خاص — بكل المنحى الشعري الحديث في منح «الكلمة» أهمية رئيسية، وبشكل خاص «الاسم» الذي لا يمثل سوى العلامة والاستحضار للشيء في جوهره الزمني؛ ولأنه يندرج في سياق جملة، يفقد الاسم هذه القيمة جزئيًّا كي لا يصبح سوى عنصر من كلٍّ يتخذ شكله تدريجيًّا، عبر تقدم الجمل: ولكن ما إن نعزله — وبالعثور على سيادته وبريقه الخاص به — حتى يصبح نواةً إشعاعية، يرسل — بحرية — بكل الإيحاءات الحسية أو الفكرية التي كان تقدم الجمل المستمر يلقي بها في الظل، وكان «رامبو» أول من شعر واستخدم هذه «الحيوية المتفجرة للكلمة»، التي تمثل — مثلما يقول «ج. جراك» — «الإسهام الإيجابي للقرن الأخير في الشعر الفرنسي»،٢٥٨ وقد أوضحت كيف أدى استخدام الروابط ضعيفة القيمة، وأسلوب «التدوين»، والرصد الخالص والبسيط، إلى فصل الكلمة وعزلها عن النسيج الفعلي،٢٥٩ فجمل من قبيل «أيها الفرسان ويا طواحين الهواء، والجزر والرحى»،٢٦٠ «الموسيقى، تحويل الهاويات، واصطدام الثلوج بالكواكب»،٢٦١ لا تساوي كثيرًا من «المعنى» العام للجملة بقدر قيمتها عبر سلسلة الإشراقات التي تشعلها بالتعاقب في خيالنا، ثمة هنا اتجاه سيتم التأكيد عليه حتى الفترة الحالية: ستصبح الكلمة، التي تتمتع بوجود مستقل أكثر فأكثر، فردية فوضوية، ترفض الخضوع لقوانين النحو، والذوبان في المد اللفظي، فهي لم تعد تندرج في تنظيم الجملة كي يمر المعنى عبرها مثلما يمر التيار بامتداد السلك الكهربائي، إنها تلتمع ببريقها الخاص، منفردة، ونجمية.

وربما نشير إلى أن التقنية المعاصرة للشعر الحر تسمح بهذا العزل للكلمة بشكل أفضل مما قد يفعله النشر، وذلك حقيقي إلى حدٍّ ما، مثلما يمكن رؤيته في هذه القصيدة القصيرة للغاية لريفيردي، حيث تعمل الكلمات — بلا شك — في بنية الكلمة، ولكن بشكل مخالف تمامًا داخل جملة متصلة:

ظهيرة
يلتمِع الجليد
والشمس في اليد
امرأة تنظر
عيناها
وحزنها
الحائط المواجه خشن
التجاعيد التي تصنعها الريح في ستائر السرير
ما يرتعد
يمكن النظر في الغرفة
والصورة تتلاشى
تمر سحابة
المطر٢٦٢
ولا شك أن النثر (حيث الوحدة ليست البيت، بل الجملة) يحافظ — بالضرورة — على طابع أكثر ارتباطًا وميلودية mélodique، لكن ينبغي أن نلاحظ — رغم هذا — أن الشَّرطة، والفراغات، والكلمات المشدد عليها٢٦٣ ليست سوى وسائل لنزع الكلمة من السياق، وطباعة — إذا صح القول — قيمتها الخاصة على قيمتها النسبية في الجملة، فيمكن لتفكيك الجمل، والإبدالات، وعلامات التعجب، واسترجاعات الكلمات أن تملك نفس التأثير، مثلما في جملة «إيلوار» هذه: «خفيف، تتحرك، وخفيف، الرمل والبحر يتحركان»،٢٦٤ أو في هذه الجملة الأكثر جرأة لميشو: «كان هذا على باب ألم طويل، خريف!، خريف، تعب! أخذت أنتظر، إلى جوار «التقيؤ»، أخذت أنتظر، أخذت أنتظر بعيدًا مقصورتي المرتبة، متألمًا مني، منزلقًا، أغوص، رمل! رمل!»٢٦٥
هل سنشهد — إذن — «تفكيكًا» حقيقيًّا للجملة، مبعثرة في غبار من عناصر معزولة وفوضوية؟ في هذه الحالة، لن تتحقق أية إمكانية ﻟ «قصيدة»، لكن الفوضوية ليست هنا — في واقع الأمر، وكما هو الحال دائمًا — سوى المظهر الآخر، الخلفية لإعادة تنظيم العالم شعريًّا:٢٦٦ لسنا أمام الفوضى، بل أمام نظام غريب، فثمة علاقات تتأسس في الواقع بين الكلمات التي يجاورها الشاعر،٢٦٧ وتحدث تبادلات، وتوافقات متنافرة أو مسجوعة، تستثار الكلمات بشكل تبادلي، «مندفعة كلها، قبل الانطفاء، إلى مبادلة من نار»، كي نستعيد تعبير «مالارميه»،٢٦٨ وعلى مستويي التنظيم الشعري (التنظيم في جمل أو مقاطع، والتنظيم في قصيدة)، نرى هذه الكلمات — بإشعاعها من الإيحاءات الصوتية والبصرية والشعورية — «وهي تندرج في علاقات مثل النجوم في السماء».٢٦٩
إننا نرى — في المقام الأول — تشكل «كوكبة من الصور»، وعناقيد كلمات تساهم كل منها سواء في تدعيم نفس الانطباع، وخلق «مناخ» خاص (في جملة «ميشو» التي ذكرتها — على سبيل المثال — نشعر تمامًا أن كلمات «ألم، خريف، تعب»، رغم تجاورها ببساطة، إنما هي واجهات لنفس «الفكرة» الشعرية، وأن الخريف مرتبط بالألم وبالتعب في آن، من خلال استعارة ضمنية)،٢٧٠ أو في أن تكشف — من خلال تنافر الإيحاءات المتعارضة — ومضات غير متوقعة: «نار الجمر والزَّبَد»، في قصيدة «بربري» لرامبو.
وهذه الكوكبات بدورها — على مستوى ثانٍ — تنتظم وتندرج في علاقات، طبقًا لقوانين متعلقة بالنظام الكوني الخاص بكل قصيدة، فكل عمل فني — أيًّا ما كان تحرره من الفكر العقلاني — يملك منطقه الداخلي: «يمكن للمنطق أن يتحالف مع أكثر حالات الجنون غرابة، وتولِّد هذه المزاوجة مؤلفات عبقرية، مثلما يكتب «ريفيردي»،٢٧١ يتم احترام العقل السليم، يتحقق الإعجاب بمفاهيم مجنونة تنتظم في أجوائها وعلى مستواها بشكل منطقي»، ومنطق القصيدة هذا، الذي سيمنحها بنيتها٢٧٢ ووجودها العضوي، يجمع ويوجه عناصر المؤلف خلال مدة تأليفه، ويفرض عليها توجهًا خاصًّا، ويمكن تأويله — على الصعيد الشكلي الخاص — بتوازنات وتماثلات تبرز هيكل العمل (مثلما في قصيدة «بربري» لرامبو «متتالية من الأحمر والأبيض»، على ما يقول «روشون»،٢٧٣ حيث تتجاوب وتتقاطع الموضوعات المتعارضة، البربرية، والعذوبة، واللهيب، والجليد، لتجد نفسها مجتمعة ثانية في «الخاتمة»)، لكننا نشعر — في أكثر الأحيان، في العمق — في قصيدة «عبثية» أو «غير متماسكة»، حسب المعايير الكلاسيكية، بتأسيس روابط وعلاقات بارعة بين الكلمات والصور تنتظم من خلالها الفكرة الشعورية، بحيث أن العمل المتحقق يتبدى مثل كل مكتمل، تركيب يجمع في «إشراقة لحظية»٢٧٤ كافة أنواع العناصر التي لا يلتقطها الاستدلال المنطقي إلا منعزلة، ومن فكرة التركيب والتوحيد هذه، سننتقل إلى فكرة الرمز،٢٧٥ كي نلاحظ أن قصائد النثر تتوفر دائمًا على سمة رمزية: بشرط أن نأخذ كلمة رمز لا بالمعنى الضيق الخاص بالتأويل التشخيصي لفكرة (فكرة يمكن أن نجدها ونحيلها إلى مخطط عقلاني دون تشويه القصيدة) — ولكن بالمعنى الأوسع كتعبير تشخيصي بلا شك عن تجربة حميمة — لكنه لا يختزل في كلمات اللغة العقلانية: نمط في التعبير لا يمكن تأويله شأن التجربة نفسها،٢٧٦ ولا يمكن ولا يُستحب أن نؤوِّل تأويلًا مباشرًا هذه القصيدة لبول إيلوار، التي يصفها «م. كاروج» بأنها «لا تستنفد»:٢٧٧
في البدء انتابتني رغبة كبيرة في الغرابة والعظمة، كنت أشعر بالبرد، وكان وجودي الحي والفاسد كله يأمل في صرامة وجلال الموتى، أغواني بعد ذلك سر خفي لا تلعب فيه الأشكال أي دور؛ إذ أثارت فضولي سماء بلا لون، حيث العصافير والسحب منفية، أصبحت عبدًا للمَلَكة الخالصة للرؤية، عبدًا لعينيَّ غير الواقعيتين والعذاروين، الجاهلتين بالعالم وبنفسيهما، قدرة هادئة، ألغيت المرئي وغير المرئي، وضعت في مرآة بلا قصدير، أبدي، لم أكن أعمى.٢٧٨
ونشعر — رغم هذا — أن قصيدة كهذه تمتلئ بالمعنى وتكتمل في ذاتها، بل إن النقص الظاهري ﻟ «الخلاصة» يبرره أن الأمر لا يتعلق بنص، بفعل نقوده إلى نهايته، بل بتجربة داخلية وشبه صوفية يريد الشاعر — من خلال الكلمات — استدعاء وإعادة خلق غمرها «في الفراغ الصافي المضيء الذي أصبح جوهرها وجوهر الكون»،٢٧٩ والواقع أن الجملة الأخيرة: «أبدي، لم أكن أعمى»، تستعيد وتقارب الموضوعين المتعارضين من خلال: «وكان وجودي الحي والفاسد كله يأمل في صرامة وجلال الموتى»، ومن خلال: «أصبحتُ عبدًا للمَلَكة الخالصة للرؤية»، فالقصيدة تملك منطقها الخاص بها، وهي تنتظم لا عبر وسائل شكلية، بل من خلال حقيقة داخلية تلتصق بها، ونستطيع الاعتقاد بأن احتمال التحام أكثر حميمية إنما يقوم على استخدام النثر (أو الشعر الحر)، كأشكال أكثر مرونة، حيث لا يُفرض أي أرابيسك موجود مسبقًا على الفكرة الشعرية.
وسواء أقال الشاعر «أنا» أم لا (عندما يروي لنا «ميشو» بالتفصيل مغامرات «قلم ما»، فإنه لا يحدثنا في الحقيقة إلا عن نفسه)، فسيصبح نثره شعريًّا بقدر ما سيصبح كشفًا لتجربة ذاتية، والواقع أن العمل الشعري يمتلك حقيقتين: حقيقة خاصة، مستقلة، وحقيقة متعلقة بشخصية كاتبه، فمع البلورة الشعرية في نفس الوقت، وكل منظم، فهو انبعاث، «قرين» الوجود العميق للكاتب؛ ولهذا، نعثر دائمًا — من قصيدة إلى أخرى — على «نوع من النسق النغمي الأساسي، علامة صارخة أو صماء»، ونفس «المناخ الحيوي»،٢٨٠ وما يقوله «بروست» عن لوحات «فيرمير» المختلفة: «إنها مقاطع من عالم واحد»،٢٨١ يمكن قوله عن مؤلفات كل شاعر أصيل، سواء كان اسمه «بودلير» أو «رامبو» أو «إيلوار» أو «ريفيردي»، فنحن نجد في قصيدة «بربري» — على سبيل المثال — هذه الوحدة للماء والنار، للعذوبة والوحشية، التي تميز «المناخ» الرامبوي، وفي قصيدة «إيلوار» التي ذكرتها للتو، تبدو المرآة (هذه المرآة التي يخترقها الشاعر بحثًا عن جوهر الأشياء) كإحدى الكلمات الجوهرية التي تتيح الدخول إلى قلب العالم الذهني للشاعر،٢٨٢ ولا يهم كثيرًا — عندئذٍ — أن تكون القصيدة شعرًا أو نثرًا، شرط أن نعثر على «النسق النغمي الأساسي» الذي يمنحها أصالتها، ويجعل منها عالمًا صغيرًا له مكانه في قلب كون أكبر، إلى أي حدٍّ تسمى الكلمات بطريقة لا واعية وتلقائية لتعيد — بذلك — خلق العالم طبقًا للمنظور الخاص بكل شاعر، وإلى حد — على النقيض — أن يختار الشاعر ويضبط، بطريقة واعية، العناصر التي ستعيد تكوين واقع جديد؟ إنه سؤال صعب ومثير للجدل، أجاب عليه المنظرون والشعراء حسب أمزجتهم وبطرق مختلفة للغاية، ويبدو أن لا أحد من الشعراء — في جميع الحالات — يمكنه الاكتفاء بأن يكون تقنيًّا خالصًا، منسقًا للكلمات طبقًا لحسابات دقيقة بهدف إحداث تأثير محدد (مثلما أراد «بو» أن نعتقد عندما كان يفكك «غُراﺑ»ﻪ الشهير)، وبالعكس، فلا أحد من الشعر، مهما كان «ملهَمًا»، يستطيع الكتابة بطريقة آلية خالصة، دون أن يستيقظ فيه، حتى دون علم منه، الوعي الفني الواضح الذي ينظم ويختار.
ها نحن قد عدنا — إذن، مرة أخرى — إلى فكرة للتنظيم الفني، وبمواجهة صيغتي قصيدة النثر: القصيدة الشكلية أو الدائرية (التي احتفظت لها — في موضع آخر — باسم القصيدة «الفنية») والقصيدة–الإشراقة (أو القصيدة «الفوضوية»)، لا نقابل الشكل أمام اللاشكل، الفن أمام نفي الفن، وإنما نلتقي بنمطين مختلفين من الإبداع الشعري، يتطابق كل من هذين النمطين، مثلما رأينا، مع موقف جمالي وميتافيزيقي مختلف: الأول، الذي يمنح النثر تنظيمًا إيقاعيًّا ودائريًّا صارمًا، يتكشف عن اهتمام أكبر بالتقنية الشكلية، وموقف أكثر وعيًا وقصدية، وجمالية مؤسسة على النظام والمعيار في آن، و— بالتالي — على الشعور بالنظام والتوافق الكونيين، وعلى الرغبة في المساهمة فيها، والثاني، الذي يرفض المستويات الزمنية والمنطقية، الذي يضع مقابل الترابطات النحوية والإيقاعية جمالية المنقطع والإشراقة، يصدر عن رفض للكون مثلما هو عن مطالبة فردانية. من هنا تكمن الفوضى، ومن هنا يكمن الجهد لاكتشاف عالم آخر، أو لخلقه بفعل السحر الشعري، وبديهي أن هذين النظامين الجماليين الكبيرين، اللذين تؤدي دراسة الأعمال إلى اتضاح معالمهما إلى حدٍّ بعيد، ليسا بهذه الصرامة في الواقع، حيث نجد أنفسنا في مواجهة عدة حالات خاصة، بدرجات، وتطورات، وأشكال تهرب من كل تصنيف،٢٨٣ ولا ننسى — من ناحية أخرى — أن في أساس كل محاولة في قصيدة النثر ثمة رغبة في إيجاد شكل جديد وفردي وفوضوي في آن، في العلاقة بالأشكال الثابتة، وفني في تنظيمه للنثر في قصيدة، ورغم هذا، أعتقد أنه يمكننا — على أية حال — التأكيد على وجود استقطاب مرهف للغاية: فالشعراء، سواء انجذبوا نحو قطب النظام، أو نحو قطب الفوضوية،٢٨٤ يصلون إلى الشكل الدائري، أو شكل الإشراقة، ويجتمعون في عائلتين روحيتين.

(أ) من قطب إلى آخر: تأرجح وتطور

لقد اعتبرت جمالية قصيدة النثر موضوعًا قارًّا دائمًا على امتداد هذا الفصل، واجتهدت لتوضيح ما انطوى عليه مصطلحا نثر وقصيدة، وتسليط الضوء على القطبين الجاذبين — نظام وفوضى — اللذين تتأجرح الأعمال بينهما حسب الاتجاهات العميقة، وحسب الموقف الجمالي والميتافيزيقي لكل لكاتب، وذلك، دون أخذ الفترة في الاعتبار، ولكن ألا ينبغي أيضًا أن نتأمل قصيدة النثر في تطورها التاريخي، وأن نتحدث هذه المرة لا عن تأرجحات وإنما عن تطور؟ بمعنًى آخر، ألا يوجد في تاريخ قصيدة النثر، منذ أصولها حتى وقتنا الراهن — بجانب تناوب منتظم إلى هذا الحد أو ذاك بين القصائد «الدائرية» والقصائد «الفوضوية»٢٨٥ — نوع من حركة المد الواسعة الصاعدة، التي تزحف وتتقدم موجة إثر موجة؟ والواقع أنه كان سيثير الدهشة حقًّا ألا يتطور نوع «قصيدة النثر» مع الأنواع الأدبية الأخرى، وفي نفس الاتجاه، كلما تطورت المفاهيم الاجتماعية والثقافية والفنية، وكلما تسارع تطور الحضارة الحديثة: ومثل المظاهر الأخرى للشعر، ترتبط جمالية قصيدة النثر وتقنيتها — على نحو وثيق — بسياق الأحداث التي تغير عالمنا، حتى عندما تعكس موقف تمرد ضد هذا الكون، فما أريد الإشارة إليه — الآن — هو معنى هذا التطور، إلى أن يمكن إعادة تناول الموضوع بشكل أوسع في نهاية هذا العمل، عندما سيتبدى التطور التاريخي لقصيدة النثر في كامل مداه.
ولأنها نوع نشأ من الثورة الرومانتيكية، ونتج من نفس الرغبة في التحرر التي تقود — عندئذٍ — إلى «تفكيك» الشعر الكلاسيكي، تحمل قصيدة النثر — في طياتها، منذ النشأة — مبدأً فوضويًّا وفردانيًّا ستؤدي الظروف إلى تطويره أكثر فأكثر — وكنوع من رد الفعل، في قلب حضارة آلية وعالم يطارد دائمًا وعلى الدوام كل خصوصية، يبدو الشعراء ميالين إلى الحديث دائمًا بلغة أكثر فردانية،٢٨٦ فمنذ قرن، نشهد بدرجة أقل — في المجال الشعري — تأرجحات بين النظام والفوضى،٢٨٧ من مدٍّ متصاعد للنزعة الفردية الفوضوية، التي تتميز — في آن — ﺑ «انفصال متزايد عن الواقع»،٢٨٨ وبالطابع «غير الاجتماعي» للقصائد: فالفرد يخوض صراعًا مع عالم يرفض قوانينه، ولا يقبل أي قيد شكلي أو منطقي، وهو لم يعد يعترف بواجب التعبير عن الآخرين، ويتمسك فحسب بالسعي إلى بناء عالم غريب، واكتشاف — أو خلق — واقع أكثر أصالة، بالنسبة له، من الواقع الموضوعي، فقصيدة النثر — في شكلها الأكثر فوضوية — لا تفعل إذن سوى ترجمة هذا التمرد، وهذا الجهد الإبداعي الذي يصاحب خلق لغة جديدة، إنها منذ «رامبو»، أداة صراع ضد أعراف اللغة والتنميق الكريه في الأدب، وأداة لغزو ميتافيزيقي في نفس الوقت.
وبعد اجتراءات «رامبو»، الذي ينطلق بقفزة راديكالية نحو اللامعقول، ويجاهد لمنح اللغة قدرات سحرية، وبعد الفوضى الهدامة للوتريامون الذي يستخدم أساليب أدبية للسخرية من الأدب، يمكن للمرحلة الرمزية أن تبدو مثل فترة توقف، إن لم تكن كحركة انكسار تمر فيها قصيدة النثر بفترة براعة شكلية،٢٨٩ والواقع أن الاتجاه الفرداني (الذي أكدته كوارث عام ١٨٧٠م) قد استمر — طوال كل هذه الفترة — في الدفع، على نحو خفي تقريبًا، بمحاولات الشعر التحرري vers-libristes والبيانات المتعلقة بحرية الشكل، وسنرى ازدهار الفردية المضادة للنزعة الامتثالية، بعد فترة ركود تفتتح القرن العشرين، في القصائد «الحداثية» لدورتان، والقصائد «التكعيبية» لجاكوب وريفيردي: إنها نفس الفترة التي تذبل وتنطفئ فيها القصيدة الكلاسيكية وقصيدة النثر «الشكلية» و«الفنية»، ولنفس الأسباب، وستفاقم حرب عام ١٩١٤م من الصراع بين التدفق الفوضوي؟ وسنرى مع «دادا»٢٩٠ وبعده، ومع السيريالية، التأرجح نحو الفوضوية وقد بلغ أقصى مداه، محطمًا كل أشكال الفكر العقلاني وكل أطر اللغة معًا: ويمكننا التساؤل عما إذا كانت العودة إلى الحالة القديمة للأشياء (أي — فيما يخصنا نحن — قصيدة النثر الفنية والدائرية) تبدو ممكنة من الآن فصاعدًا، ويمكننا أيضًا افتراض وجود تأرجح، منذ السيريالية، في العودة نحو اتجاه النظام و«القصيدة»، لكن الصياغات الجديدة (التي هي — من ناحية أخرى — فردية) بعيدة للغاية عن الصيغة القديمة «ذات المقاطع»، وربما أبعد أيضًا عما كان «أبوللينير» يسميه «التلاعب القديم بالأبيات».٢٩١
ومع ذلك فثمة مفهوم تم استخلاصه بوضوح من التجربة السيريالية: أن قصيدة النثر — سواء كانت «فنية» أم «فوضوية» — لم يكن بمقدورها أن توجد إلا بشرط أن تكون قصيدة، أي شكلًا، كلًّا عضويًّا مُغلقًا على ذاته، ولن يمكننا — بتطبيق معايير خارجية مُسبقة — أن نحكم على فشل أو نجاح قصيدة أو صيغة لقصيدة، ما يهم هنا، هو الإخلاص لمنطق داخلي، وترتيب العناصر المورفولوجية التي تشكل عالم المؤلف: الكلمات، والجمل، والصور، و«أخيرًا على كل شيء أن يخدم إشراقة الفكر المولدة»،٢٩٢ إذ يمكننا أن نطبق على الشعر ما قاله «بودلير» في حديثه عن «القانون الأعلى للانسجام العام»، الذي يقود تنظيم عناصر لوحة جيدة، أو مثلما قال «ماكس جاكوب» عن قصيدة النثر هذه المرة (عن قصيدته، لكننا يمكن أن نعمم ملاحظته): «لا نهتم فيها إلا بالقصيدة نفسها، أي بتوافق الكلمات، والصور واستدعاءاتها المتبادلة والدائمة»،٢٩٣ توافق أسهل في تحقيقه — بالتأكيد — في شعر النظام والتوازن المعماري مما في شعر التمرد والغزو، لكن النجاحات الأصعب هي أيضًا الأكثر إبهارًا. وإذا ما كانت قصيدة النثر «الفنية» تفضي إلى بحاحات مؤكدة: فإنها تخاطر بالوقوع في أخدود البراعة الشكلية والافتعال (رأينا ذلك مع البارناسيين، وسنراه مع «ب. لويس»)، فإن قصيدة النثر «الفوضوية» — بالمقابل — لا تسمح بأي حلٍّ متساهل: إنها كل شيء أو لا شيء، نجاحٌ ساطع أو ألعاب نارية خائبة،٢٩٤ ولهذا تحدد كلمة «جاكوب» تمامًا هنا (وهو ما سيؤكده القسم الثالث من هذا العمل) الموقف الخطر والرائع لما يجازف به: «كي تكون شاعرًا حديثًا، عليك أن تكون شاعرًا كبيرًا للغاية».٢٩٥
١  انظر مدخل الجزء الأول.
٢  غالبًا ما يكون نثر الرمزيين إيقاعيًّا  rythmique، أعني موقعًا rythmée عن قصد، لتحقيق مؤثرات شعرية معينة (ومختلفة بالتالي عن المؤثرات الخطابية التي يهدف إليها — على سبيل المثال — نثر «بوسويه» الموقع).
٣  يكتسب النثر الموقع — عندما يصبح قصيدة نثر — ما يسميه الفلاسفة بالوجود «الترددي réique»: انظر التحليل البارز ﻟ «الوجود الترددي أو الغائي للعمل الفني»، في مؤلف «سوريو» La Correspondance des Arts, Flammarion, 1947, ch. XIV, pp. 58–66.
٤  قارن ﺑ «هيريديا» فيما يتعلق بالشعر الحر: «ما نراه اليوم هو نثر موقع، تقطعه بضعة أبيات، ويظهر بمساعدة جيل طباعية تمنحه مظهر الشعر ذي الأوزان الملصقة فيه بشكل اعتباطي» (Réponse à l’Enquête de Jules Huret, Charpentier, 1913, p. 307).
٥  Les premier poètes du vers libre, Messein, 1936, p. 120.
٦  قارن بما سبق في مدخل القسم الأول.
٧  لا يمكن الشك في أن الإيقاع — في أساسه — هو نفسه في النثر والشعر، أي إنه مؤسس على نبرة المدة accent de durée، وبديهي أيضًا أنه يأخذ في الكثافة (بعبارةٍ أخرى، تتقارب النبرات) من النثر إلى الشعر، ولا يتعلق الموضوع بإثارة الشك في نتائج علم الصوتيات التجريبي، فيما يتعلق بالنتائج التي توصل إليها القس «روسيلو» وتلاميذه، أحيل إلى أعمال «ج. لوت» حول البحر السكندري، وإلى مقال «أ. سبير» في Mercure de France, 1er Août 1912: La technique du vers français، بالإضافة إلى الكتاب الجديد لنفس المؤلف Plaisir poétique et plaisir musculaire, Corti 1941، لكن إلى النتائج التي استخلصها منه الرمزيون.
٨  Le Symbolisme, Jouve, 1911, p. 394.
٩  Du rythme en français, Welter, 1912, p. 32 et suivantes، والمستويات المتعاقبة هي النثر الموقع (سواء كان نثر «ج. رينار» أو «شاتوبريان»)، والآية ﮐ «شكل عروضي للنثر الموقع»، والمقطع الغنائي الإيقاعي المؤلف من الشعر الحر، والعروض الحر المشتمل على عددٍ ثابت من النبرات الإيقاعية، والإيقاع المقطعي الأثير لدى «غيون» و«فيليه–جريفان»، وأخيرًا الفقرة العروضية التي تقترب (لدى «ميريل» و«فان–ليربرغ») من الشعر الكلاسيكي، وأحيانًا ما تلحق به.
١٠  أي، مثلما أذكِّر، نثر موقَّع أو إيقاعي.
١١  Les premiers poètes du vers-libres, à la suite de Mallarmé par un des siens, Messein, 1936, p. 127، ونعلم أن «دوجاردان» يعرف «الجزء الإيقاعي» باعتباره كلمة أو مجموعة كلمات تشكل كلًّا بالنسبة للمعنى، وتضع النبرة على المقطع اللفظي الأخير (eod, loc., pp. 111-112): وهو ما يسميه «ج. لوت» ﺑ «الجزء الوزني» (L’alexandirn d’après la phonétique expérimentale, Crès, 1912, p. 70)، ففي البحر السكندري — على سبيل المثال — تتكون القصيدة ثلاثية البحور من ثلاثة «أجزاء موزونة»، والرباعية البحور من أربعة.
١٢  أي — دائمًا — بمعنى نثر موقع أو إيقاعي.
١٣  La littérature de tout à l’heure, Perrin, 1889, p. 382.
١٤  Id., p. 240.
١٥  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثاني.
١٦  هكذا يقدمها «دوجاردان» عند إعادة نشر «إلى مجد أنطونيا» عام ١٨٩٧م (المنشورة في «لافوج» عام ١٨٨٦م)، و«عذراء الصحراء المحتدمة» و«رد الداعية على الراعي» (المنشورة في «روفي بلانش»، عام ١٨٩٢م)، وعلينا ألا نخلط بين هذه الثلاثية وثلاثية «أنطونيا» الدرامية التي أعيد تقديمها عام ١٨٩٣م، والتي تحدث عنها «مالارميه» في Planches et Feuillets (Œuvres, Pléiade, p. 324 et sq.).
١٧  Littérature de tout à l’heure, Perrin, 1889, p. 382.
١٨  Le Conte de l’Or et du Silence (Mercure de France, 1898).
١٩  La Dame à la Faulx (Mercure de France, 1899, Préface, p. 13).
٢٠  Les Dates les Œuvres, Crès, 1923, p. 259، في هذه المسرحية التي تدور «عام ١٩٥٠م»، «تتحدث الشخصيات — طبقًا لتكوينها الروحي — بلغةٍ إيقاعية، وشخصيات أخرى بنثرٍ غنائي، وآخرون بلغةٍ بذيئة عن قصد» (Préface).
٢١  La Passante, Roman d’une Ame, Bibliothèque artestique et littératire, 1892.
٢٢  وبعض من قصائد النثر هذه تتمتع باستقلالية تمكنها من الانفصال عن السياق: وقد ذكر «موريس» — في Littérature de tout à l’heure, 1889 (نقلًا عن النسخة الأولى المنشورة وقتئذٍ والأكثر إيجازًا) — قصيدة «مدينة الحلم»، وتتكون من ستة مقاطع تفصل بينها لازمة، ويمكنننا أن نذكر قصائد أخرى، وبشكلٍ خاص التي تستدعي بشكلٍ استعاري لا يفتقر للجمال، قرب نهاية الجزء الثاني (الذي يحمل عنوان «العصر الأرضي»)، تاريخ وموت الإنسانية.
٢٣  إنها حالة «البراهين» التي تسبق كلًّا من الأجزاء الستة، أو العصور.
٢٤  هنا مجال التذكير بأن «هوجو» قد قال — في حديثه عن الدراما الشيكسبيرية، حيث يتعاقب النثر والشعر: «لهذه الطريقة مزاياها، غير أنه يمكن أن يحدث تنافر في الانتقالات من شكلٍ إلى آخر، وعندما يكون النسيج منسجمًا، يكون أكثر متانة» (Préface de Cromwell).
٢٥  حسب تعبير «موريس» في La littérature de tout à l’heure, p. 356، ولا بد من القول إن الفاجنريين قد طبقوا على الأدب — بشكلٍ عشوائي للغاية — أفكار «فاجنر» عن وحدة الفنون: كان يمكن لفاجنر أن يوحد بدقةٍ بين الشعر والموسيقى في الدراما الموسيقية، حيث يتم التعليق على الكلام ويستكمل دائمًا بالموسيقى، لكن في العمل الأدبي الخالص، يمكن للنثر (العنصر المفهومي) وللشعر (العنصر الانفعالي) أن يتعاقبا، لكن دون فاعلية متزامنة: ولنرجع إلى المتتاليات الإنشادية للأوبرا، التي كان «فاجنر» يأخذ عليها — بالتحديد — أنها نوعٌ هجين، مختلط.
٢٦  انظر Nourritures Terrestres (N.R.F., 1940)، وقارن بما سيلي الفصل الخامس من القسم الأول.
٢٧  يمكننا — بشكلٍ قطعي — اعتبار الآية الشكل الأدبي الوحيد الوسيط بين النثر والنظم (حول الآية، انظر ما سيلي، الفصل الخامس من القسم الثاني)، فعندما يتسع الشعر الحر للرمزيين إلى حد أن تتطابق وحدة البيت مع وحدة «الجملة»، فإنه غالبًا ما يتخذ شكل الآية: مثلما في هذه الأبيات لمايترلينك:
اذهبوا بعد ذلك إلى من سيموتون.
إنهم يصلون مثل عذراوات قمن بنزهةٍ طويلة في الشمس، في يوم صوم،
إنهم شاحبون مثل مرضى يسمعون المطر بهمي بهدوء على حدائق المستشفى،
لهم هيئة الناجين من الموت الذين يفطرون في ساحة المعركة.
(Cloche à Plongeur, dans Serres Chaudes, 1889)، ولنلاحظ توازي البناء (تأثير بعيد للآية التوراتية).
٢٨  Crise de vers (Œuvres, Pléiade, p. 368).
٢٩  Positions et Propositions (N.R.F., 1928, p. 64)، وقارن بما سيلي، الفصل الخامس من القسم الثاني.
٣٠  تحقق «ج. لوت» — عند استماعه إلى «مقبرة إيلو» — من عجز أغلبية المستمعين عن أن يحسبوا بدقةٍ عدد الأبيات (L’alexandrin d’après la phonétique expérimentale, La Phalange, 1913, t. II, p. 668).
٣١  إجابة على Enquête sur le vers libre de Marinetti, Poesia, Milan, 1909, p. 71.
٣٢  يتحدث «مورييه» — في هذا الصدد — عن «مقطع لفظي أحادي محصور»، «يعكس شهقة مباغتة في منسوب الماء» (Le rythme du vers libre Symboliste, Presses Académiques, Genève, 1943, t. II: Henri Régnier, p. 202)، لم أكن أعرف بملاحظات «مورييه» عن إيقاع قصيدة «الزهرية» عندما سجلت ملاحظاتي: فهي تتفق معها بالضبط، لا يتعلق الأمر إذن بانطباعاتٍ ذاتية.
٣٣  يقارن «مورييه» (المرجع السابق) هذا البيت بأبيات «مدينة المياه»:

أنصت

الأوراق، ورقة ورقة، والموجات، قطرة قطرة،

تتساقط …

٣٤  Crise de Vers (Œuvres, Pléiade, p. 362).
٣٥  سبق ذكره، ص٢٠٣.
٣٦  ويقول «مالارميه» «صمت دال إلى حد أنه لا يقل جمالًا في تأليفه عن الشعر» (Sur Poe, Œuvres, p. 872).
٣٧  Enquête sur le vers libre, par Marinetti, Milan, 1909, p. 36.
٣٨  المرجع السابق، ص٩٩.
٣٩  المرجع السابق، ص٣٤.
٤٠  Les techniques modernes du vers français, P.U.F., 1923, p. 33، كان «غيون» قد أجاب مسبقًا: «ما هي إذن الحرية في الفن، إن لم تكن اختيار نظام؟» (Enquête de Marinetti, p. 69).
٤١  Morier, Le rythme du vers libre Symboliste, Presses Académiques, Genève, 1943, t. I, p. 19.
٤٢  المرجع السابق، الجزء الثاني، ص٢٢١.
٤٣  هذا الجزء الثماني المقاطع لم يعد محسوسًا — من ناحيةٍ أخرى — باعتباره هكذا في النص المكتوب نثرًا، حيث نقرأ: «مديرا الرأس إلى اليمين، إلى اليسار …»
٤٤  هذه الملاحظة صائبة للغاية، لكن من التعسف تمامًا أن نستخلص منها — مثلما يفعل «هيتيه» — ما مفاده أن الرمزيين «لم يطبقوا أبدًا بوعي وعن قصد مبدأ النبر» (Les techniques modernes du vers français, P.U.F., 1923, pp. 35 et 36)، فماذا عن «كان» و«فيرهارين» و«فيليه–جريفان»؟
٤٥  Notes sur la technique poétique, Champion, 1925, (1er édition, 1910).
٤٦  التي تستعيرهم — فضلًا عن ذلك — في جانبٍ كبير منهم من النظم والأغنية (نعلم أهمية الأنشودة الغنائية في تاريخ قصيدة النثر)، وعن طريق الترجمات: هكذا نعود إلى المبادئ الدائرية للشعر والموسيقى.
٤٧  انظر فيما سبق، الفصل الثاني من القسم الثاني.
٤٨  Prosodie française, V, I.
٤٩  تعريف «بيوس سرفيان–كوكيلسكو»: «متتالية من أعدادٍ كاملة، حيث نكتشف قوانين بسيطة» (Les rythmes comme introduction physique à l’esthétique, Boivin, 1930, p. 20)، لا يقوم إلا بتكرار هذه الفكرة عن «النظام» و«النسب»، في شكلٍ أكثر علمية، ويمكن تطبيقه على كل الفنون.
٥٠  التي نجدها في الفكرة الكلوديلية (نسبة إلى «كلوديل») عن الوتد jambe الأساسي (Positions et Propositions, N.R.F., 1928, p. 13)، وفي صورة الانعطافة التي يستخدمها «بيوس سيرفيان» (op. cit., p. 19).
٥١  إن إيقاع النثر الموقع والشعر الحر هو — كما رأينا — إيقاعات صوتية، خلقها عدد وموضع النبرات، ويركب الشعر الكلاسيكي على هذا الإيقاع الصوتي «إيقاعًا حسابيًّا» ثنائيًّا (على سبيل المثال في المتواليات المكونة من اثني عشر مقطعًا في البحر السكندري).
٥٢  قارن بما سبق، الفصل الثالث من القسم الثاني.
٥٣  Positions et Propositions (N.R.F., 1928, p. 73).
٥٤  لنذكر — بشكلٍ خاص — تحليلات «مورييه» اللامعة (Le rythme du vers-libre Symboliste, Presses Académiques, Genève, 1943)، الذي درس الإيقاع لدى «فيرهارين» و«ﻫ. دي رينيه» و«فييه–جريفان»، Presses Académiques, Genève, 1943، وكتاب «ل. ب. توماس» الحديث Le Vers Moderne, ses moyens d’expressions, son esthétique, Cahiers du journal des Poètes, Bruxelles, 1951.
٥٥  أترك إلى اللغويين المستقبليين الاهتمام بتجويد دراسة الإيقاع في النثر الموقع، وسأكتفي هنا بالملاحظات الرئيسية، فدراستي لا تتناول النثر الموقع قدر تناولها قصيدة النثر، التي سأبحث — فيما بعد — تنظيم هيكلها الإيقاعي أو إيقاع بنيتها.
٥٦  Traité pratique de prononciation française, Delagrave, (9 édition, 1938), Le rythme de la phrase: l’eurythmie, pp. 163–173.
٥٧  يطبق «م. جرامون» منهجه في دراسة افتتاحية هذه المرثية (مرجع سابق، ص١٦٤–١٦٨).
٥٨  M. Cressot, Le style et ses techniques, P.U.F., 1947, p. 222.
٥٩  عن حرف E الصامت، انظر فيما سيلي الفصل الثالث من القسم الثاني.
٦٠  ثمة — على سبيل المثال — تماثل حسابي لافت للنظر في دائرة كلام «بوسييه» التي ذكرتها:
Celui qui régne dans les cleux (4 + 4)
من يحكم في السماوات (٤  +  ٤)
et de qui relévant tous les empires (5 + 5)
ومنه تنهض كل الإمبراطوريات (٥  +  ٥)
وأثر قطع لا يقل براعة: الخاتمة المفاجئة، بعد ثلاث مجموعات من خمسة أجزاء، على المقطع اللفظي العشري «إلى الملوك».
٦١  Cressot, Le style et ses techniques, P.U.F., 1947, p. 225.
٦٢  قارن ﺑ Morier, Le rythme du vers libre Symboliste, Presses Académiques, Genève, 1943, t. I, livre I, chap. 3: L’E muet et sa place dans le rythme، ودراسته كلها تدور حول الترخيم الجوفي لدى «فيرهارين»، وقد سبق لمارتين أن أوضح أن حرف E الصامت، بعد حرف صائت، يلحق — أحيانًا — بالمجموعة التالية، وينفصل عنها — أحيانًا أخرى — بوقفةٍ منطقية (Les symétries du français littéraire, P.U.F., 1924, pp. 218-219)، لكن «مورييه» أوضح كامل القبسة التعبيرية للحالة الثانية، أو الترخيم الجوفي، انظر ما سيلي، الفصل الثالث من القسم الثاني.
٦٣  انظر Pius Servien, Les rythmes comme introduction physique à l’esthétique, Boivin, 1930, et Lyrisme et structure sonores, nouvelles méthodes d’analyse des rythmes appliquées à l’Atala de Chateaubriand, Boivin, 1930.
٦٤  انظر Pius Servien, Les rhtymes comme introduction physique à l’esthétique, pp. 89-90.
٦٥  يميل حرف E الصامت إلى الاختفاء — عمليًّا — في الإلقاء العادي، فيما عدا بعد حرفين صامتين (boucles lourdes = أقراط ثقيلة)، وحتى داخل كلمة، لا نسمعه إطلاقًا في «plaisanterie = مزحة» و«J’aimerais = أحب»، على سبيل المثال، انظر — في هذا الصدد — Spire, Plaisir poétique et plaisir musculaire, Corti, 1949, p. 254.
٦٦  Note sur la technique, Champion, 1925, (1er éd., 1910), p. 49.
٦٧  Morier, Le rythme du vers libre Symboliste, Presses Académiques, Genève, 1943, t. II Viélé-Griffin، وعلى سبيل المثال، فالبيت «Un oiseau monte, lá-ba; voyez = عصفور يصعد، هناك، انظروا» يتكون ظاهريًّا، من تسعة مقاطع لفظية، وفعليًّا من ثمانية.
٦٨  بول فور، ذكره «مارتينو» في Parnasse et Symbolisme, pp. 170-171، انظر ما سيلي، الفصل الرابع من القسم الثاني.
٦٩  Enfance V, Œuvres de Rimbaud, Pléiade, p. 170، ولنلاحظ — على النقيض، في السطر السابق — التأكيد على: «Je suis maître du silence = أنا سيد الصمت»: (إدغام مستحيل).
٧٠  Royauté, Œuvres, p. 175.
٧١  يتعلق الأمر ﺑ R. Limbosch, Vers et Versets (1923)، انظر L.-P. Thomas, Le vers moderne, ses moyens d’expression, son harmonie, Cahier du journal des Poètes, Bruxelles, 1951, p. 215: سنجد في كتاب «توماس» عرضًا للصعوبات الرئيسية التي يثيرها حرف E الصامت، ص٢١٤–٢٢٥.
٧٢  انظر — فيما سبق — الفصل الثاني من القسم الأول من ترجمة هذا الكتاب.
٧٣  Le rythme du vers-libre Symboliste, Presses Académiques, Genève, 1943, p. 63، والفصل الثالث كله من هذا الجزء الأول: «حرف E الصامت، وموقعه في الإيقاع» ينبغي الاطلاع عليه فيما يتعلق بالمفاهيم الأساسية للقطع المتعدي والترخيم الجوفي، وهو ضروري لدراسة النثر الموقع وأيضًا الشعر الحر.
٧٤  في «جاسبار الليلي» و«الرحيل إلى محفل السبت»، وقد علقت على هذا المثال فيما سبق، الفصل الثالث من القسم الثاني.
٧٥  لقد شغل «روتيه» — في فترةٍ ما — مكانة واضحة في الرمزية، لكن نجمه شحب فجأة عندما خطر له، ذات يوم، أن يهين «مالارميه» بحدةٍ غير متوقعة.
٧٦  La Plume, 1er Octobre 1891, p. 331.
٧٧  Thulé des Brumes, dans les Œuvres complètes en prose de Retté, Bibliothèque artistique et littéraire, 1898, p. 22، وقد نشرت ثلاثة مقتطفات من Thulé des Brumes في Wallonie، أغسطس ١٨٩٠م.
٧٨  Le style et ses techniques, P.U.F., 1947, p. 171.
٧٩  أشير بعلامة إلى الترخيم الصوتي، أي في المكان الذي يلحق فيه حرف E الساكن لا بالمجموعة التالية، ولكن بالمجموعة السابقة.
٨٠  التي تكتسي برداءٍ من رياضٍ مزهرة من ذهب، من أشجار صنوبر متأوهة (١٦).
ولنلاحظ أن هذه المقاطع الاثنين والثلاثين تضم — في مجملها — ٨ نبرات (٤  +  ٤)، في حين أن الجزء الرئيسي ليس بأطول منها حسابيًّا (٣٧ مقطعًا يضم ١٢ نبرة: ولأن الحدة الإيقاعية أكبر، تتقارب النبرات).
٨١  سبونديه: تفعيلة ذات مقطعين طويلين.
٨٢  يشير «بيوس سرفيان» — في «أتالا» — إلى الأثر الناتج من النبرة المزدوجة الطويلة: «et l’éclair trace un rapide losange de feu = ورسم البرق معينًا خاطفًا من نار»، حيث يجعلنا الإيقاع «نرى» البرق حقًّا (Lyrisme et structures sonores), Boivin, 1930, p. 105، وقد أوضح «إ. سوريو» — من جانبه — قيمة البيت اﻟ «سبوندي»، المتكرر كثيرًا لدى «مالارميه» و«فاليري»: نبرتان طويلتان من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى الوقفة.
Calme bloc ici-bas/chu d’un desastre obscur …
Dormeuse, amas doré/d’ombres/et d’abandons …

كتلة هادئة هنا – بالأسفل/وقوع كارثة غامضة …

نائمة، كومة ذهبية/من ظلال/وهجران …

(La Correspondance des Arts, pp. 168-169, Flammarion, 1947)، وسأذكر — بدوري — جملة «رامبو» البليغة للغاية: «Départ dans l’affection et le bruit neufs = رحيل في الحنان والصخب الجديدين» (Départ, Œuvres, p. 175).
٨٣  قصيدة منشورة في الديوان المنشور بعد الوفاة Prose et vers, Messein, 1925, pp. 58-59.
٨٤  Ermitage, 1er Novembre 1893.
٨٥  حول «ميريل» ونظرياته وقصائده النثرية، انظر ما سيلي، الفصل الرابع من القسم الثاني، هل يمكن — دون إساءة استخدام المصطلحات — الحديث عن «إيقاع النبرات»؟ فقط مثلما هو الحال هنا: les bou/cles rou/sses de sa lour/de chevelure – اﻟﺧ/صلات اﻟﺣﻣ/ﺮاء لشعرها اﻟﺜﻘﻴ/ﻞ)، ترتبط النبرات بالإيقاع الصوتي، وفي الحالة العكسية، يستحسن الحديث عن «توافقات»: ثمة تناغم لا إيقاع.
٨٦  Les techniques modernes du vers français, P.U.F., 1923، لقد أشار «دوهاميل» و«فيلدراك» إلى هذه التركيبات التبادلية باسم «توازنات صوتية» (Notes sur la technique poétique, Champion, 1925, 1er éd., 1910, p. 38).
٨٧  Le rythme du vers libre Symboliste, Presses Académiques, Genèves, 1943, p. 63.
٨٨  ينبغي بالإضافة إلى ذلك، ملاحظة تكرار حرف E الصامت هنا، الذي لا يتبع فحسب، بل يلي — مرتين — النبرة الصوتية boucles rousses … chevelure، يتماوج المنحنى الصوتي ليس فقط بين المقاطع اللفظية القصيرة والمقاطع الطويلة، بل أيضًا بين النبرات المفتوحة ﺑ (e) والنبرات المغلقة ﺑ (ou, u).
٨٩  لاحظت، فيما يتعلق بقصيدة «دوروتيه الجميلة» لبولدير، حركة «موجة» مشابهة تعود إلى القطع المتعدي (قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الأول).
٩٠  مثلما يقول «فردينان هيرول» في عدد يناير من «ميركور دي فرانس»، وقد نشرت «حكايات إلى النفس ﻟ «ﻫ. دي رينييه» عام ١٨٩٣م في «ميركور دي فرانس» انظر ما سيلي، الفصل الرابع من القسم الثاني.
٩١  La poésie française, Ermitage, Septembre 1893، ويمكن أن نضيف أن «روبيل» كان يمقت «فلوبير» (قارن بما سيلي، الفصل الرابع من القسم الثاني).
٩٢  Les chants de la pluie et du soleil, Charles, 1894, poéme LXVI.
٩٣  يعطينا منهج «بيوس سيرفيان» «العدد التمثيلي» التالي:

٣٦، ٥، ٤، ٢.

٤٣، ٢، ٣٢٢، ٢.

٧: ٦٤، ٣٤٦: ٣، ٢.

(عدد المقاطع اللفظية في كل جزءٍ إيقاعي)، ونجد في كل فقرةٍ على التوالي ٥، ٧، ٨ نبرات، موزعة بالطريقة التالية على المجموعات المنطقية:

٢ ١

١ ٣ ١

٢ ٣ ١ ١

ويوضح هذا التمثيل الرقمي المظهر المبتور والسريع للنص، وأيضًا قصر المجموعة الختامية في كل فقرة (مقطعين، ونبرة واحدة).
٩٤  Rimbaud, Phrases (Œuvres, p. 178).
٩٥  Rimbaud, Matinée d’ivresse (Œuvres, p. 176)، كل المؤثرات الإيقاعية المذكورة هنا سبق رصدها من قبل، في الفصل الخاص برامبو: قارن بما سبق، الفصل الرابع من القسم الأول.
٩٦  اﻟ «برلينية»: عربة مقفلة ذات أربعة مقاعد، كانت تصنع في برلين.
٩٧  Les Nourritures Terrestres, Livre V, chap. 3: La ferme.
٩٨  Le vaste monde, dans L’Etape Nécessaire (1er édition, 1905), Flammarion, 1938, p. 51، حول «دورتان»، انظر ما سيلي، الفصل الأول من القسم الثالث.
٩٩  «النقل بفعل تيار ذلاقة اللسان»: العبارة لمالارميه (Bibliographie des Divagations, Œuvres, Pléiade, p. 1570)، قارن بما سبق، الفصل الرابع من القسم الأول.
١٠٠  يمكن تأمل الشكل الأولي، في ذاته، فقط في علاقة الإيقاع والنغم، بشكلٍ مستقل عن معنى الكلمات، رغم أنه يشكل تركيبًا مع المعنى، ومركبًا، والشكل الثانوي، على النقيض، يدخل لعبة الأفكار والموضوعات، انظر Souriau, La Correspondance des arts, Flammarion, 1947, pp. 123–127.
١٠١  انظر — فيما يلي — الفصل الرابع من القسم الثاني.
١٠٢  Merril, Prose et vers, Messein, 1925, pp. 58-59 (poème de 1887).
١٠٣  مثل تعريف «إ. سوريو»: الإيقاع «هو الشكل الممنوح للتقدم بفعل تكرار عناصر تنظيم دائري، في مسافاتٍ متساوية، يحكمه تخطيط بأبسط قدر ممكن، ويعيد إنتاج مؤثراته بلا نهاية وباستمرار» (La Correspondance des Arts, Flammarion, 1947, p. 156)، وفيما يتعلق بالموسيقى بشكلٍ خاص، سيمكننا الحديث — مثل «كومباريو» — عن «تنظيمٍ إيقاعي» بصدد الأشكال الدائرية المركبة مثل اﻟ «روندو» واﻟ «سوناتا» (La Musique, ses lois, son évolution, Flammarion, 1911, pp. 86-87)، أو أن ندخل إلى التعريف الذي أوحت به إلى «ج. برليه» أفكار التكرار والتنوع لموضوعٍ لازمني: فالإيقاع هو «صورة متحركة للأبدي» (Le temps Musical, P.U.F., 1950, p. 359).
١٠٤  هذه العبارة (التي أستعيرها من «إ. سوريو»، مرجع سابق) يمكن — فضلًا عن ذلك — تطبيقها على كل عملٍ فني، وحول هذه الأفكار، انظر الفصل الثالث من القسم الثاني.
١٠٥  نستطيع أن نرى — وبشكلٍ غريب — «جوابًا» لهذه القصيدة في قصيدة «رحيل» لرامبو (Œuvres, Pléiade, p. 175)، حيث الثبات الإيقاعي (وفي نفس الوقت، «ثبات الفكرة») يرد في بداية كل فقرة (شوهد بما يكفي … تم الحصول عليه بما يكفي … تمت معرفته بما يكفي …) وحيث تنبثق الكلمة المفتاح «الحنان» في الختام لتمنح معنى المقطوعة كلها «رحيل في الحنان والصخب الجديدين!» إنها واحدة من القصائد النادرة «المبنية» لرامبو، أعني في هيكلٍ واضح.
١٠٦  Œuvres de Rimbaud, éd. De la Pléiade, p. 196.
١٠٧  Le Cornet à Dés, Stock, 1923, p. 16.
١٠٨  Le Livre de mon bord, Mercure de France, 1948, p. 112، حول «ماكس جاكوب» و«ريفيردي»، انظر الفصل الرابع من القسم الثالث.
١٠٩  انظر ما يلي، الفصل الثالث من القسم الثاني.
١١٠  الذي سمح لنفسه — في أغلب الأحيان؛ لأن شكله يميزه بوضوحٍ عن النثر — أن يشير إلى غايات أخلاقية أو تربوية، غير أن «أرسطو» كان يدافع عن مبدأ «مجانية» الشعر (Poétique, chap. I et 8; éd. Belles Lettres, 1932, pp. 30 et 42).
١١١  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثاني.
١١٢  والأمور تسير على النقيض تمامًا في قصيدة «الفنارات» على سبيل المثال، حيث الملاحظات المطروحة حول «روبتر» و«فينش» و«رميرانت» … ليست سوى عناصر تلعب دورها في أرابيسك القصيدة، وتغذي — كي نستعيد تعبير «رامبو» — «نبضها الإبداعي».
١١٣  قارن بما سبق في مدخل القسم الأول.
١١٤  Le Cornet à Dés, stock, 1923, p. 18.
١١٥  انظر Introduction.
١١٦  في دراسته حول «الرواية والشعر»، يميز «ﻫ. بونيه» بين «الأنواع الشكلية التي يستطيع المرء أن يضاعفها ويخلقها كيفما يشاء»، وبين «الأنواع الحقيقية المتضمنة في طبيعة الأشياء: ويندرج النوع الروائي بين هذه الأنواع الأخيرة» (Roman et Poésie, Essai sur l’Esthétique des genres, Nizet, 1951, pp. 128-129)، وستصبح قصيدة النثر، في هذه الحالة، نوعًا شكليًّا (يتسم باستخدام النثر) ونوعًا حقيقيًّا، مرتبطًا بالنوع الشعري.
١١٧  ثمة شيء هنا مماثل للتوتر الذي تفرضه هذه «الحقائق العمودية»، التي يتحدث عنها «كلوديل» بصدد المسيحية (lettre, à J. Rivière, 28 Avril 1909, Correspondance de J. Rivière et de P. Claudel, Plon, 1926).
١١٨  إجابة على استقصاء «مارينيتي» حول «الشعر الحر»، Poésia, Milan, 1909, p. 36.
١١٩  نحصل على «إيقاعٍ حيوي» — مثلما يقول «مورييه» — ﺑ «كسر البحر الثنائي، وتحطيم التماثل» (Le rythme du vers libre Symboliste, Genève, 1943, p. 41)، ويعارض «ل. ب. توماس» «قانون التوازن الثابت وقانون انعدام التوازن الحيوي»، ويضيف أن «المفرد، أي غير المستقر، يسود في النثر» (Le vers moderne, ses moyens d’expression, son esthétique, Bruxelles, 1951, p. 44).
١٢٠  حول هذا «الإيقاع المنثور»، انظر — فيما يلي — الفصل الرابع من القسم الثالث.
١٢١  M. du Camp, Les Chants Modernes, Calmann-Lévy, 1855.
١٢٢  Zone, dans Alcools, N.R.F., 1913، حول الشعر «الحداثي»، قارن بما سيلي، الفصل الثالث من القسم الثاني.
١٢٣  يتحدث «فارج» — على سبيل المثال — عن «أقواس كهربائية» (Poémes, Gallimard, 1944, p. 69)، «بونج» عن «أنابيب» و«مطارق–مدقات» (Le morceau de viande, dans Parti Pris des choses, N.R.F., 1942): نحن بعيدون عن توريات «م. دي شان».
١٢٤  Dans les Fleurs de Tarbes, Gallimard, 1941, p. 29.
١٢٥  Les Champs Magnétiques, par Breton et Saupault, Au Sans Parell, 1920، إن استخدام المكان المشترك يتشابه مع استخدام «ورق اللصق» في التصوير الزيتي السريالي … حول استخدام الأماكن المشتركة والأمثال، انظر — فيما سيلي — الفصل الثاني من القسم الثالث.
١٢٦  على غرار نموذج: «الوقت الجميل الضائع لا يعثر عليه أبدًا» (Renard, Journal)، أو «النهر ذو القلب المكتئب تحت الجسر» (Fargue, Labyrinthes, N.R.F., Novembre 1936).
١٢٧  نتذكر أن «بودلير» كان يحسد مؤلفي القصص، الذين يملكون «تحت تصرفهم نغمات متعددة، وظلال اللغة، والنبرة الاستدلالية، والتهكمية، والساخرة، التي يرفضها الشعر، والتي تشبه التنافر مع فكرة الجمال الخالص»، قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الأول، ودراسة «نبرات» بودلير المختلفة ص١٥٥ وما يليها.
١٢٨  إنها حادثةٌ مزعجة وقعت — على سبيل المثال — عدة مرات لهوجو.
١٢٩  فحكم «فورنوريه» على سبيل المثال (في Sans Titre وEncore un an de sans titre) ليست بقصائد، ولا أيضًا أقصوصة «لافيسيار» الهزلية «ضيف من الليل»، التي ذكرها «شابلان» في Anthologie du poèmes en prose, p. 271، ص٢٧١.
١٣٠  إن «ماسة العشب» لفورنوريه — التي جمعها «شابلان» في مختارات من قصيدة النثر — هي قصة فانتازية، وليست بقصيدة، عن الفانتازي، قارن بما سيلي، الفصل الخامس من القسم الثاني.
١٣١  انظر الفصل «بو»، مرجع سابق، ص٢٢ من الجزء الأول، بالإضافة إلى «بوالو» في حديثه عن «قصائد النثر هذه التي نسميها روايات» (مرجع سابق).
١٣٢  لمحة عن سيرة «موريس دي جيران»، في صدر طبعة Trébutien (Didier, 2° éd., 1861, p. XXXV).
١٣٣  Promenades Littéraires, Mercure de France, 1904, t. I, p. 281.
١٣٤  La Culture des Idées, Mercure de France, 1916, p. 12؛ انظر أيضًا ما سيلي، الفصل الرابع من القسم الثاني.
١٣٥  رد على استقصاء «ج. هوريه» حول التطور الأدبي (Œuvres, p. 867).
١٣٦  خطاب إلى «تريبوتيان»، ٥ ديسمبر ١٨٥٤م.
١٣٧  في رسالته حول Le Symbolisme, Jouve, 1911, pp. 33-34.
١٣٨  La prose poétique française, L’Artisan du Livre, 1940, p. 181.
١٣٩  انظر ما سيلي، الفصل الثالث من القسم الثاني.
١٤٠  في تحليله ﻟ «أتالا»، ينتهي «بيوس سيرفيان» إلى التمييز فيها بين «مناطق غنائية» و«مناطق عديمة الشكل»، وهذه المناطق الأخيرة هي التي تصبح فيها «الحركة الصوتية» محكومة — من الخارج — بضرورة السرد بشكلٍ خاص (انظر Lyrisme et structures sonores, Boivin, 1930).
١٤١  Le principe poétique (traduction Lalou, Charlot, 1946), p. 13، ونعلم أن «بودلير» قد ترجم أو استعاد ما هو جوهري في هذه البيانات الثلاثة.
١٤٢  Le principe poétique ، فقرة ترجمها «بودلير» Nouvelles Histoires extraordinaires.
١٤٣  A Rebours, 1884, éd. Fasquelle, 1903, p. 265، وانظر ما سبق، الفصل الثاني من القسم الثاني.
١٤٤  A Rebours, 1884, éd. Fasquelle, 1903, p. 265، وانظر ما سبق، الفصل الأول من القسم الثاني.
١٤٥  Le centenaire du poème en prose (Le Temps, 25 Avril 1942).
١٤٦  انظر (Lalo, Préface à la 2° édition des Eléments d’une esthétique musical scientifique, Vrin, 1939, p. VIII)، وبشكل خاص (Krafft, La forme et l’idée en poésie, Vrin, 1944)، وقد كتب «ميشو» مؤخرًا: «إن قراءة نص سيكون إذن حلًّا لشفرة التوزيع الأوركسترالي للموضوعات التي يتكون منها، وإدراكًا — في كل لحظةٍ تحت كل كلمةٍ تقريبًا — للحالة الماثلة لمختلف الموضوعات، والتناغم الموقع أو المتنافر الذي يشلكانه معًا، ومتابعة طباقهما اللحني من أول النص إلى آخره (Introduction à une science de la littéraire, Istanbule, 1950, p. 178).
١٤٧  contrepointالطباق: لحن يضاف إلى آخر، على سبيل المصاحبة، وهو — أيضًا — فن مزج الألحان.
١٤٨  لا يميز «كرافت» (مرجع سابق) أقل من أحد عشر «صوتًا» في الطباق الشعري!
١٤٩  ليس للتأليف الشعري أية علاقة — وهذا أمرٌ بديهي — بالتأليف «النثري»، فأفكار الشعراء، حسب تعبير «جوبير» الجميل، لا تترابط، بل تدخل في علاقات مثل الكواكب في «السماء» (Carnets, 1805, Gallimard, 1938, t. II, p. 480)، وسأعود إلى الحديث في هذا الموضوع فيما بعد.
١٥٠  لا معنى — على المستوى الجمالي — لأن نصِف موضوعًا ما بأنه «شعري» أو لا، «إننا نستطيع أن نعالج بشكلٍ شعري أكثر الشواغل عادية»، مثلما يقول «نوفاليس» في Fragments (cité par Trahard, Le Mystère poétique, Boivin, 1940, p. 27).
١٥١  Aube, Œuvres, Pléiade, p. 186.
١٥٢  لا شك أن الأرابيسك الشكلي للأصوات والإيقاعات على علاقةٍ وثيقة — في «الطباق» — بالعناصر والمشاعر المستدعاة، وسنلاحظ — على سبيل المثال — البحث عن إصاتات «واضحة» باستخدام é أو I: «J’ai marché, réveillant les haleines vives et tièdes, et les pierreries regardérent, et les ailes se levèrent sans bruit = سرت، موقظًا الأنفاس الحية والفاترة، ونظرت الأحجار الكريمة، وارتفعت الأجنحة بلا ضجيج»، وسنلاحظ أيضًا الإصاتات الموحية مثل wasserfall (المفضلة عن chute d’eau = مسقط المياه، أو cascade = شلال)، والأثر المختلف تمامًا الذي يسمح باستخدام الصفة في المذكر: «Je ris au wasserfall blond = اضحك إلى الشلال الأشقر»: فالمقطعان اللفظيان النشطان والسريعان يتجاوبان.
١٥٣  إذا ما كان الحال مختلفًا، فسنحصل هنا على مجاز، لا على رمز.
١٥٤  قارن بما سيلي، الفصل الرابع من القسم الثاني.
١٥٥  «لقد صرح إ. م. فورستر» — بوضوحٍ تام — أن السمة الجوهرية للرواية، المقبولة من جانب أقل القراء تشددًا وأكثر القراء رهافة، هي التي تحكي قصة، وبالنسبة لسارتر، فالرواية هي صيرورة في جوهرها، ويذكر «جان هيتيه» أيضًا كلمة «حكاية»، مثلما يقول «ﻫ. بونيه» في دراسته حول Roman et Poésie, Nizet, 1951, p. 82 (مشيرًا إلى Aspects of the Novel)، بالنسبة لفورستر، وإلى مقال Mauriac et la liberté, N.R.F. du 1er Février 1939 بالنسبة لسارتر، وبالنسبة لهيتيه إلى L’Esthétique du Roman, Introduction à Les Roman de l’Individu, Les Arts et le Livre, 1928.
١٥٦  ﻫ. بونيه، مرجع سابق، ص٩٧.
١٥٧  ويذهب «ميشو» — في كتابه Introduction à une science de la Littérature, Pulhan Matbaasi, Istanbul, 1950، إلى حد أن «كل رواية (حتى) مع قلة تعقيدها، يمكن تشبيهها في أغلب الأحيان بالقوجة الموسيقية» (ص١٦٥)، ويضرب مثالًا على ذلك برواية «آل بودنبروك» لتوماس مان و«المزيفون» لجيد.
١٥٨  حول «الملحمة» التي يتم اعتبارها نوعًا وسطًا بين الرواية والشعر، انظر H. Bonnet, op. cit., pp. 104–108.
١٥٩  يمكن للرواية أن تشمل حكاية جيل أو عدة أجيال (آل بودنيروك)، أو أن تحكي لنا «أربعًا وعشرين ساعة من حياة امرأة» (عنوان رواية لستيفان زفايج)، ويمكن للزمن الذي تقدمه القصيدة، الأكثر إيجازًا بشكلٍ عام — رغم هذا — أن يمتد بمدى حياة كاملة (قارن بين «حيوات» لرامبو، و«السنتور» لدي جيران).
١٦٠  إن دراسة «ريفيير» حول «رواية المغامرات»، المنشورة في Nouvelle Revue Française de Mai, Juin, Juillet 1913، قد ذكرها وحللها «بونيه» باستفاضةٍ في كتابه «الرواية والشعر» (وبشكلٍ خاص ص٨٦، ص٢٢٤–٢٢٨).
١٦١  حول هذا «الحاضر الأبدي» للموسيقى، انظر التحليلات الرائعة ﻟ «ج. برليه» ي Le Temps Musical, P.U.F., 1950، وبشكلٍ خاص الفصل الثامن من الجزء الثاني: موسيقات العصر العقلاني والراهن الأبدي، ص٦٦١–٦٩١.
١٦٢  Réflexions et Propositions sur le vers français, dans Positions et Propositions (N.R.F., 1928, t. I, p. 17)، ولا بد من الإضافة أن «كلوديل»، إذا ما كان يمتدح «فيرجيل» على «النجاح الكامل لهذا الوجد الشعري»، فإنه يؤكد — على الفور — على أحد مخاطر هذا البحر المنتظم، وهو الرتابة: «ليس من السهل دائمًا إنتاج النوم المغناطيسي فيما الحصول على النعاس يسير»، كما يقول …
١٦٣  انظر— فيما سبق — الفصل الثالث من القسم الثاني.
١٦٤  في النثر، نتابع مراحل استدلال أو سرد، لكن الإدراك الشعري حدس متزامن (انظر Hans Larsson, La Logique de la poésie, Leroux, 1919).
١٦٥  التعبير لبريتون، من «البيان الثاني للسيريالية» (Manifestes du Surréalisme, éd. du Sagittaire, 1947, p. 132).
١٦٦  قارن ﺑ «سواريس»: شكلنا هو قانوننا … الشكل الانحطاطي أدى دوره، فهل نستطيع المساعدة في خلق شكل جديد؟» (خطاب إلى «كلوديل»، ٢٠ مايو ١٩٠٨م، Correspondance, Suarés-Claudel, N.R.F., 1951, pp. 127, et 128).
١٦٧  خطاب إلى «ديفيد دانجيه»، عام ١٨٣٧م، انظر فيما سبق الفصل الثاني من القسم الثاني.
١٦٨  «اختراعات المجهول تستدعي أشكالًا جديدة» (خطاب إلى «ديميني، ٥ مايو ١٨٧١م، Œuvres, p. 256).
١٦٩  إن القارئ الذي يتهدده البحر المنتظم «يشعر بحركاته وأفكاره وقد تبناها النظام الأبدي»، مثلما يقول «كلوديل» (انظر فيما سبق الفصل الثالث من القسم الثاني).
١٧٠  ذات نظام منشط للذاكرة بشكل خاص، حول تماثلات الأسلوب الشفاهي، انظر دراسات P. Jousse, Le style oral rythmique et mnémotechnique chez les verbo-moteurs, Beauchesne, 1925.
١٧١  Le porte-à-faux, éd. de Minuit, 1948, p. 111.
١٧٢  Victor Hugo, Tas de Pierres, Œuvres complètes, Albin Michel, t. IX, p. 469.
١٧٣  يتوافق تأرجح التوازي — على سبيل المثال، مثلما يقول «ب. جوس» — مع قانون عميق للسلوك الإنساني، هو «قانون التذبذب الكوني» (P. Jousse, Le style oral rythmique et mnémotechnique chez les verbomoteurs, Beauchesne, 1925, p. 99).
١٧٤  في Orphée Noir, Introduction à L’Anthologie de la nouvelle poésie nègre et malgache, P.U.F., 1948 (reproduit dans Situations 3, N.R.F., 1949)، كنت قد كتبت ما هو أساسي في هذا الفصل عندما وجدت — في هذا البعد المزدوج والمبهر للغاية، للشعر الزنجي — هذا التمثيل الذي تتزايد قيمته كلما كان الأمر هنا يتعلق فحسب بمجرد شعر حر وآيات ونثريات: فالشعر الزنجي لا يستخدم «تعويذات» الشعر الموزون، إنه يحل محلها التماثلات، والتوازيات، والتكرارات … المستخدمة دائمًا في الأسلوب الشفاهي.
١٧٥  Orphée Noir, Anthologie, p. XXIV.
١٧٦  إن آيات «رابيمانجارا» (Anthologie, pp. 193–205) — المستوحاة من أسلوب «البيانات» الاحتفالية، والمنظمة باتساقٍ وتناغم — تذكرنا بآيات — «سان – جون بيرس»، الشاعر ذي العالم النبيل والمتسق (انظر فيما سيلي الفصل الأول من القسم الثالث).
١٧٧  Orphée Noir, Introduciton à L’Anthologie de la nouvelle poésie nègre et malgache, p. XXIV.
١٧٨  السابق، صXXIV.
١٧٩  المرجع السابق.
١٨٠  Orphée Noir, Introduction à L’Anthologie de la nouvelle poésie nègre et malgache, P.U.F., 1948, p. 147، والإشارة إلى «رامبو» تنهي الكلام حول «موقع شعر سيزير».
١٨١  البالافون  balafong والخالا  khalam: آلتان موسيقيتان أفريقيتان.
١٨٢  المرجع السابق، ص١٦٤.
١٨٣  البالافون  balafong والخالا  khalam: آلتان موسيقيتان أفريقيتان.
١٨٤  المرجع السابق، ص١٦٥.
١٨٥  المرجع السابق، ص١٦٠، و«سنجور» — على أية حال — يكتب في شكل آيات، بينما يستخدم «سزير» شكلًا حرًّا للغاية، متنقلًا — خلال نفس القصيدة — من النثر إلى الشعر الحر والآية.
١٨٦  Senghor, Notice sur Césaire, Anthologie de la nouvelle poésie nègre et malgache, p. 55.
١٨٧  Césaire, cité par Sartre, Orphée Noir, Introduction à L’Anthologie …, p. XXV.
١٨٨  المرجع السابق، صXXVII-XXVIII.
١٨٩  Et les chiens se taisaient, Anthologie, p. 73، وينبغي أن نضيف — رغم هذا — مع «سنجور» أن سيزير «السيريالي، لكن الزنجي، لا يهمل «النشيد – المذهل» — كلعبة من الإصاتات والإيقاعات اللفظية — من أجل «الصورة المذهلة» الوحيدة (Notice, Anthologie, p. 55)، لكن الإيقاع — لدى «سيزير» — هو إيقاع قلق ومتقطع، ومتعجل، مختلف تمامًا عن إيقاعات «سنجور» العريضة: إنه مبهرٌ للغاية في اﻟ «تام – تام» المسماة «صوت سابق لغرق سفينة» (Anthologie, pp. 79-80).
١٩٠  انظر الفصل الخاص برامبو، فيما سبق، الفصل الثاني من القسم الأول.
١٩١  واقعٌ يحاول كثيرًا الوصول إلى بأن يلتقي في أعمق أعماق نفسه، ﺑ «بعض المناطق الداخلية المتصلة بواقعٍ كوني أكثر عمقًا من ذلك الذي نصل إليه في الحالة النثرية اليقظة» (A. Béguin, Le Rêve chez les Romantiques allemands et dans la poésie française moderne, Cahiers du Sud, Marseille, 1937, p. 203) حول هذا المفهوم عن الشعر – المعرفة، يرجع إلى العمل كله.
١٩٢  Reconnaissance à Dada, Nouvelle Revue Française, Août 1920, p. 227.
١٩٣  Adieu, dans Une Saison en Enfer (Œuvres, p. 229).
١٩٤  إن «ا. بيجين» في أطروحته Le Rêve chez les Romantiques allemands et dans la poésie française moderne, Cahiers du Sud, Marseille, 1937, pp. 437-438، و«رولان دي رونيفيل» في L’Expérience poétique (La Baconnière, 1938)، قد أوضحا تمامًا، وبنفس الكلمات تقريبًا، الاختلاف الجوهري الذي يفصل بين الشعر والصوفية، «فبينما يتوجه الشاعر نحو الكلام، ينحو الصوفي إلى الصمت» (L’Expérience poétique, p. 117).
١٩٥  G. de Nerval, dans L’Artiste, 2 Juin 1844.
١٩٦  Eluard, Capitale de la Douleur (N.R.F., 1926, p. 118).
١٩٧  Rimbaud, Délires I, Une Saison en Enfer (Œuvres, p. 116).
١٩٨  Donner à voir, p. 163, cité par Carrouges, Eluard et Claudel, éd. du Seuil, p. 75.
١٩٩  سبق ذكره، ص٦٦–٧٥.
٢٠٠  رامبو، خطاب إلى «دوميني»، ١٥ مايو ١٨٧١م (Œuvres, p. 254).
٢٠١  رغبة يجبر حتى «أندريه بريتون» نفسه على الاعتراف بها، في خطابه إلى «رولان دي رونفيل» Nouvelle Revue Française, Juillet 1932, p. 152.
٢٠٢  انظر ما سبق، حول «رامبو»، الفصل الثاني من القسم الأول.
٢٠٣  هذا — على الأقل — المعنى الذي تتخذه كلمة «فوضوية» ي بعض العهود المضطربة، مثلما أوضح تمامًا «مارسيل آرلان» في مقال Sur un nouveau mal du siècle، الذي نشر في Nouvelle Revue Française en Février 1924, p. 149.
٢٠٤  فالشاعر — كحدٍّ أقصى — يدعي أنه لا ينشد إلا لنفسه، وينفر من كل تواصل مع الناس الآخرين، «لدي وحدي مفتاح هذا الاستعراض الوحشي»، مثلما يقول «رامبو» (Œuvres, p. 172).
٢٠٥  G. Brelet, Le Temps Musical, P.U.F., 1950, p. 364.
٢٠٦  مثلما — على سبيل المثال — لدى «آلويزيوس برتران» و«بيير لووي» (أغنيات بيليتيس) و«… سيجالان» (مسلات).
٢٠٧  إن «الهيكل الذهني للقصيدة — كما يقول «مالارميه»، «يقوم على الفراغ الذي يعزل … الشعرية ويتخلل فراغ الصفحة» (Sur Poe, Œuvres, Pléiade, p. 872).
٢٠٨  مثلما هو الحال — على سبيل المثال — بالنسبة ﻟ «الأناشيد الغنائية» النثرية لنودييه التي تحاكي السلسلة، وبعض الأناشيد الغنائية ﻟ «جوزلا» لميريميه (انظر ما سبق، مدخل القسم الأول).
٢٠٩  ترتبط فكرة الإيقاع — من ناحيةٍ أخرى — بفكرة التكرار والتنوع في آن: انظر ما سبق، الفصل الثالث من القسم الثاني.
٢١٠  أمثلة لهذا اللحن: في «أغنية» أتالا الهارب (انظر ما سبق، مدخل القسم الأول)، في لازمة «المنفي الوحيد في كل مكان» بالقصيدة السادسة عشرة من «أحاديث مؤمن»، وفي «البغالون» من «جاسبار الليلي»، وفي «نشيد الموت» من «جوزلا»، وفي التعويذة الجنائزية: «تومي آتكتر، آه، يا تومي آتكتر» (حيث نعثر مرة أخرى على القيمة التعويذية العتيقة للصيغة، أو — ببساطة — للاسم الذي يتكرر إلى ما لا نهاية): ويمكننا أن نطيل إلى ما لا نهاية من قائمة الأمثلة.
٢١١  سيقدم لنا «حديث رقم ٤٩» للامنيه مثالًا جيدًا للتكرار المتنوع: «الحرية هي ثروة الشعوب … الحرية هي راحة الشعوب … الحرية هي مجد الشعوب»، أو في «من طرف السيف» لسيجالان، في «مسلات»، حيث تختتم اللازمة المتنوعة كل مقطعٍ شعري.
٢١٢  حول هذا النمط في التأليف (المنتشر للغاية في النثر والشعر الذي يسميه «تكوين الروندو»)، كشف «ل. جيشار» عن أمثلةٍ متوعة له لدى «جول رونار» (Jules Renard, Nizet, 1936, pp. 329-330)، لكننا نجده مستخدمًا من قبل في أغنية «أتالا» العطفية، و«أناشيد» لامنيه، ويستخدمه «هويسمان» بشكلٍ منتظم تقريبًا في «علبة التوابل» (انظر ما سبق، الفصل الأول من القسم الثاني).
٢١٣  إنها «نهاندوف، أيتها الجميلة لهاندوف!»، التي تختتم كل مقاطع «أغنية مقدونية» لبارني، أو كلمة «خصلة شعر» التي تفتتح كل مقاطع قصيدة «نصف كرة في خصلة شعر» لبودلير، هنا أيضًا، يمكن استعادة العبارة ذاتها أو تنويعهاتها: ﻓ «كان» — على سبيل المثال — و«ش. كرو» في «مسلية» (انظر ما سبق، الفصل الأول من القسم الثاني)، قد استخدما ببراعةٍ التكرار المتنوع والمؤثرات المسموح بها.
٢١٤  انظر قصيدة «ميريل» النثرية التي سبق ذكرها، الفصل الثالث من القسم الثاني، وقصائد «كان».
٢١٥  انظر ما سبق، مدخل القسم الأول.
٢١٦  خمسة مقاطع، يتكون كل منها من ثلاثة أجزاء: «أعطاني أوسيب خاتمًا ذهبيًّا مرصعًا، أعطاني فلاديمير قلنسوة حمراء مزينة بالأوسمة، لكنني، يا دانزيش، أحبك أكثر منهم جميعًا» (éd. du Divan, 1928, pp. 57-58)، انظر ما سبق، الفصل الرابع من القسم الثاني.
٢١٧  «لامنيه» — على سبيل المثال — أو «سيلفان مارشال» في «مزامير» (انظر ما سبق، مدخل القسم الأول)، ولنلاحظ — مرة أخرى — إلى أي حدٍّ تتواتر هذه التكرارات أو التماثلات في كل الأشكال الشفاهية، المتكلمة أو المغناة (وبالتالي، في كل الترجمات المزعومة، واﻟ «مزامير» و«الأناشيد الغنائية» و«الأغاني»).
٢١٨  انظر ما سيلي، الفصل الرابع من القسم الثاني.
٢١٩  بالنسبة للروائي — حسبما يكتب «ج. بيانكي» عن «توماس مان» — «فإن أخذ مقطع من الزمن، ليس دقيقًا إلى حد التقتير، واكتشاف ثوابت فيه، وإحداثيات، وتقديمه منظمًا طبقًا لقواعد صارمة في الطباق اللحني، مبنيًّا مثل سيمفونية، لهو «إنقاذ» لهذا المقطع من الزمن، وطرح له من الزمن القابل للحساب، ونقل له اللازمني … إن زمن الروائي مثل زمن الموسيقي، يبدو خارج الزمن، خاضعًا لقوانين أخرى، أكثر تعقيدًا وبساطة في آن، أكثر ثراءً بالتوافقات والرموز» (Le Temps dans l’œuvre de Th. Mann, dans Formes de l’Art, Forme de l’Esprit, N° spécial du Journal de Psychologie, P.U.F., 1951)، ويمكن القول — فضلًا عن ذلك— إن فن الروائي ينتمي، منذ هذه اللحظة، إلى الشاعر، حيث يكمن الاختلاف — بالتحديد — في أن الروائي يمارس فاعليته دائمًا على «الزمن الممثل».
٢٢٠  Une Hémisphère dans une Chevelure (انظر — فيما سبق — الفصل الأول من القسم الأول).
٢٢١  في «لازمة موسيقية» من «علبة الملبس بالتوابل»، تتكرر القصيدة مثلما تتكرر الحياة نفسها: لقد تزوجت المرأة مرتين، وفي كل مرة «أوسعها زوجها المرحوم ضربًا، وجعلها تنجب ثلاثة أطفال، ومات مشبعًا تمامًا بالأبسنت» (Huysmans, Œuvres complètes, t. I, Crès, 1928, pp. 11-12).
٢٢٢  حول Vox Populi، انظر ما سبق، الفصل الأول من القسم الثاني.
٢٢٣  أوضح «ﻫ. بونيه» تمامًا — في دراسته حول (Roman et Poésie (Nizet, 1951)) — هذا الطابع «السكوني» للشعر، لكنه يجده — بالأحرى — في الموقف «التأملي» للشاعر، أكثر من وجوده في بنية القصيدة، قارن — رغم هذا — بالملاحظة المقتبضة، ص٨٦، عن استخدام «التكرارات واللازمات».
٢٢٤  العبارة ﻟ «ج. بلان» من كتابه Introduction aux Petits poèmes en prose de Baudelaire, Fontaine, Février 1946, p. 283.
٢٢٥  Rimbaud, Solde (Œuvres, p. 201).
٢٢٦  يمكننا أن نلاحظ — بالفعل — أن قصائد هذا النمط أقصر بشكل عام من القصائد ذات النمط «الدائري»، ﻓ «الإشراقة» لا تحتمل الإطالة.
٢٢٧  حول هذا الشكل ذي المستوى الثاني («الشكل الأساسي» بمعنى ما)، أحيل — مرة أخرى — إلى E. Souriau, La Correspondance des arts, Flammarion, 1946, chap. XXVI, La morphologie de l’œuvre littéraire.
٢٢٨  Œuvres, p. 185.
٢٢٩  Barbare, Œuvres, p. 190.
٢٣٠  ترجمة «نرفال»، وذكرها «بوليه» في Etudes sur le Temps humain, 1er série, Plon, 1950, p. 291، وسنجد في هاتين السلسلتين الفريدتين من «الدراسات» (تحمل السلسلة الثانية — Plon, 1952 — عنوانًا فرعيًّا: La distance intérieure) عدة أمثلة توضح الجهد الذي بذله بعض كبار المفكرين للتواجد خارج الزمن أو الإبداع خارج الزمن.
٢٣١  في بداية «أسطورة القرون» (قارن ببوليه، سبق ذكره، السلسلة الثانية، ص٢٠٢)، لكن الرؤية أكثر إيجازًا إلى حدٍّ بعيد في «الإشراقة»، والتركيب أكثر انحصارًا، ﻓ «حائط القرون» يتم النظر إليه من عين طائر.
٢٣٢  تركيب من الرؤى المستمدة إلى حدٍّ ما من سفر الرؤيا أكثر مما من النظريات الشمالية في نشأة الكون أو الوقائع الأخيرة من حياة «نرفال» (انظر ما سبق، الفصل الأول من القسم الأول)، وقارن برؤى «فارج» الكونية في Epaisseurs وفي Vulturne (انظر ما سيلي، الفصل الثالث من القسم الثالث)، وعلى صعيدٍ مختلف قليلًا، فإن «الاستعادة الموحية»، الأثيرة لدى «ت. جوتييه» (قارن ببوليه، المرجع السابق، السلسلة الأولى، ص٢٩٥ وما يليها)، التي يمكن للشاعر من خلالها أن ينتقل إلى الماضي، أو أن يعيد إلى الحاضر أشباحًا من الماضي، هي وسيلة شعرية أساسًا في نفي الزمن: قارن ﺑ «شارع رافينيون» لجاكوب: «نحن لا نستحم مرتين في نفس النهر»، مثلما قال الفيلسوف هيراقليطيس، ورغم هذا، فهي دائمًا نفس الشخصيات التي تعاود الظهور! … ها هو أجاممنون ها هي السيدة هانسكا! وعوليس لبان») (Cornet à Dés, Stock, 1923, p. 57).
٢٣٣  Œuvres, p. 192، انظر ما سبق، الفصل الثاني من القسم الأول.
٢٣٤  وردت العبارة في Génie, Œuvres de Rimbaud, p. 198.
٢٣٥  انظر ما سبق، الفصل الثالث من القسم الأول.
٢٣٦  انظر ما سبق، الفصل الثالث من القسم الأول. يلعب «لوتريامون» ببراعةٍ على المفتاح المزدوج ﻟ «زمن حقيقي – زمن تمثيلي»، فهو يصف أحيانًا — في شكلٍ مقتضب للغاية — فترات بالغة الطول (النشيد الرابع: «إنني قذر، والقمل يعضني … لم أحرك أعضائي منذ أربعة قرون»)، وأحيانًا ما يمط بإفراطٍ ملحوظة بسيطة من قبيل: «كانت ركيزتان تبدوان في الوادي» (ست صفحات! في بداية النشيد الرابع)، وسنرى — فيما بعد — الطريقة التي يؤسس بها بعض العشراء الحديثين، عن طريق «سرد الحلم»، زمنًا لا ينتهي، زمنًا خارج الزمن (قارن بما سيلي، الفصل الثالث من القسم الثالث).
٢٣٧  «لا نقبض شيئًا، مثلما يقول «ف. دي ميموندر» على سبيل المثال في بداية «سمارا» (Fourcade, 1931)، «الوقت الذي تلتفت فيه تجد من تركتها في النافذة، وهي تمشط شعرها الجميل في الملح واللازورد، قد اختفت من النافذة ذاتها، والبيت …» وتمتلئ القصائد السيريالية بمؤثراتٍ مشابهة.
٢٣٨  Barbare, Œuvres, p. 190.
٢٣٩  يمكن لطبيعتنا الإنسانية، مثلما يقول «بلزاك»، «من خلال ظاهرة الرؤيا أو الانتقال، أن تلغي المكان في نمطيه، الخاصين ﺑ «الزمن» و«المسافة»، فأحدهما هو المكان الفكري، والآخر هو المكان الفيزيقي» (ذكره Poulet, Études sur le Temps humain, 2° série, Plon, 1950, p. 135)، وأحيانًا ما تساعد سرعة أنماط «الانتقال» الفعلية، وبطريقة غير متوقعة، على تحقيق هذا الإلغاء للمكان: مثلما في هذه القصيدة «الانطباعية» ﻟ «ب. جاماتي» التي تحمل عنوان «في الأتوبيس»: «صاحب البار، يطيح خلف مشربه بزجاجة «بيكولو» ويلتقطها في الهواء ليفرغ محتواها في أوعية الصيدلي الزجاجية، وتاجرة الخردوات، وهي تفتح الباب، تنفخ في غاز الحلاق، فيما سكين بائع الفكاهة المرفوعة تقطع فطيرة منزلية مثل جبن هولندي» (Poèmes, Denoël, 1938, p. 62).
٢٤٠  Les Paradis artificiels, IV: L’Homme-Dieu, Œuvres, Pléiade, t. I, p. 306.
٢٤١  Rimbaud, Métropolitain (Œuvres, p. 189).
٢٤٢  Rimbaud, Villes, Œuvres, p. 181.
٢٤٣  Reverdy, Toujours seul, Poèmes en Prose (1915).
٢٤٤  Nuits Partagées, La Vie immédiate (Choix de Poèmes, N.R.F., 1946, p. 129).
٢٤٥  Rimbaud, Enfance (Œuvres, p. 168).
٢٤٦  Cros, Effarement, Le Coffret de Santal, 1922 (4° éd.), p. 262، انظر ما سبق، الفصل الأول من القسم الثاني.
٢٤٧  «أنا آخر»، مثلما يقول «رامبو» (Œuvres, p. 254)، فيما يحدثنا «لوتريامون» عن «مصباح – ملاك»، و«ش. كرو» عن «سفينة – بيانو».
٢٤٨  إن «ميشو» ملك في بلاد النتائج بلا أسباب والأسباب بلا نتائج: قارن ﺑ Vers la sérénité، المكتوب عام ١٩٣٤م: «من لا يقبل هذا العالم لم يبنِ فيه منزلًا، ويشعر بالحر بلا حرارة، لو كان يقطع بتولات فكأنه لم يقطع شيئًا، لكن البتولات كانت هنا، على الأرض وهو يحصل على النقود المناسبة، أو لا يتلقى سوى ضربات» (L’Espace du dedans, N.R.F., 1944, p. 154).
٢٤٩  Génie, Œuvres de Rimbaud, p. 198.
٢٥٠  «لي القدرة على الوجود بلا مصير»، مثلما يكتب «إيلوار» (Le Livre couvert I et II, cité par M. Carrouges, Eluard et Claudel, éd. du Seuil, 1945, p. 46).
٢٥١  Une Vague de Rêves, Commerce, n° 2, Automne 1924, p. 108، لنذكر هنا بهذه الجملة الأساسية لبريتون في «البيان الثاني للسيريالية»: كل شيء يحملنا على الاعتقاد بوجود نقطة معينة في الروح، حيث الحياة والموت، الواقعي والخيالي، الماضي والمستقبل، ما يمكن التواصل معه وما لا يمكن معه التواصل، الرفيع والوضيع، يفكون عن التجلي بشكلٍ متناقض، والواقع أنه عبثًا ستتم محاولة البحث في النشاط السيريالي عن باعثٍ آخر سوى الأمل في تحديد هذه المسألة» (انظر ما سيلي، الفصل الثاني من القسم الثالث).
ولنلاحظ — رغم هذا، ومنذ الآن — أن السيرياليين يريدون اكتشاف هذا المجال اللازمني والأسمى، لا خلقه.
٢٥٢  يكتب «بودلير»: عبء الزمن المرعب الذي يحطم كاهلك ويحنيك نحو الأرض …» (Enivrez-vous, Œuvres, t. I, p. 468)، ويقول «رامبو»: «غير نصيبنا، وانخل الآفات، إلى البدء بالزمن» (A une Raison, Œuvres, p. 176).
٢٥٣  يقول «كاروج» عن «إيلوار» (Eluard et Claudel, éd. du Seuil, 1945, p. 55): «يسكن الإنسان — بسحر الشعر — عالمًا رائعًا حرًّا من كل حدود، ومن كل قانون، عالمًا صافيًا ومضيئًا»، قارن بمحاولات «ميشو» للتأثير على المادة، كي يخلق لنفسه عالمًا خاصًّا به بشكلٍ حتمي، يسميه ملكي (انظر ما سيلي، الفصل الثالث من القسم الثالث).
٢٥٤  Rimbaud, Veillées II, (Œuvres, p. 184).
٢٥٥  انظر القسم الثالث، سرد خيالي وسرد الحلم، الفصل الثالث من القسم الثالث.
٢٥٦  رامبو، خطاب إلى دوميني، بتاريخ ١٥ مايو ١٨٧١م (Œuvres, p. 257).
٢٥٧  وحول «جمالية غير المنقطع» لدى «رامبو»، قارن Eluard et Claudel, éd. du Seuil, 1945. بما سبق، الفصل الثاني من القسم الأول.
٢٥٨  J. Gracq, André Breton, Corti, 1948, p. 194، ومؤخرًا، أكد «ر. بارت» — في دراسته Le degré zéro de l’écriture, éd. du Seuil, 1953, ch. 4: Y a-t-il une écriture poétique? pp. 61–76 — على هذا الطابع الفوضوي اللاجتماعي للشعر الحديث، الذي يستعيض عن «غاية العلاقات» ﺑ «انفجار الكلمات».
٢٥٩  انظر — فيما سبق — الفصل الخاص برامبو، الفصل الثاني من القسم الأول.
٢٦٠  Enfance II, Œuvres, p. 190.
٢٦١  Barbare, Œuvres, p. 190.
٢٦٢  Lumière (Sources du Vent, dans Main-d’Œuvres), Mercure de France, 1949, p. 225.
٢٦٣  أساليب سبق أن استخدمها «برتران»، ثم «رامبو»، ومنحها تأثير «بو» شهرة متزايدة، وفي معرض حديثه عن الكلمات المائلة طباعيًّا، يقول «ج. جراك» إن الكلمة تتأثر ﺑ «معامل جبري معد لمضاعفة قوته بطريقة سحرية» (André Breton, Corti, 1948, p. 185).
٢٦٤  Baigneuse du clair au sombre, Capitale de la Douleur (N.R.F., 1926, p. 99).
٢٦٥  Michaux, Entre Centre et Absence (Lointain Intérier), L’Espace du Dedan (N.R.F., 1944, p. 221).
٢٦٦  إنها خصوصية الخيال الشعري، فضلًا عن ذلك، أن يفكك العالم لإعادة تشكيله بعد ذلك: «إنه يفكك كل الإبداع، مع المواد المكدسة والمتاحة حسب القواعد التي لا نستطيع أن نجد أصلها إلا في أعماق الروح، ويخلق عالمًا جديدًا، وينتج الإحساس بالجديد» (Baudelaire, Salon de 1859 III: La reine des facultés, Œuvres, t. II, p. 226).
٢٦٧  وبفضل الاستعارة بشكلٍ خاص، التي تقارب بين عنصرين (أحيانًا إلى حد انصهارهما معًا، مثلما هو الحال في قصيدة «ريفيردي»، حيث «يلتمع» تغيير التعبيرات، ويجعل من الثلج والشمس «في اليد» واقعًا وحيدًا ومضيئًا).
٢٦٨  Le Mystère dans les Lettres (Œuvres, Pléiade, p. 386).
٢٦٩  هذه العبارة لجوبير عن «الأفكار» الشعرية، التي ذكرتها فيما سبق (الفصل الثالث من القسم الثاني)، تصلح أيضًا للكلمات، التي يقول عنها «جوبير» — في نفس الفقرة — إنها في عيون الشعراء «تملك هيئة وألوانًا، فالتناغم يستدعي تناغمًا آخر».
٢٧٠  وها هي — بالمثل — «كوكبة» تعبيرات لدى «إيلوار» (مجمعة بشكلٍ زوجي)، تساهم جميعًا في أن تستدعي أمام عيوننا الصورة اللامعة لعالمٍ بللوري، مضيء، وجني: «إقامة عذبة، جداول من الخضرة، عناقيد من التلال، سماوات بلا ظل، زهريات من الشعر، مرايات المشروبات، مرايا الضفاف، أصداء الشمس، بللور العصافير …» (Donner à voir, N.R.F., 1939, p. 34).
٢٧١  Le Livre de mon bord (Mercure de France, 1938, p. 27).
٢٧٢  و«ريفيردي» أيضًا هو الذي يقول: «إن منطق العمل الفني هو بنيته، وما دام هذا الكل يتوازن ويتماسك، فهو منطقي» Self-Defence, 1919 (dans Pierre Reverdy, Poètes d’Aujour-d’hui, Seghers, 1952, p. 120).
٢٧٣  Ruchon, Rimbaud, Champion, 1929, p. 127، ومن المفيد ملاحظة أن البنية الشكلية في قصيدة «ميشو»، التي ذكرت منها — فيما سبق — جملة «مفككة» بشكل خاص، في نوع من التعويض، شديدة الوضوح مع استعادات متماثلة في بداية كل فقرة.
٢٧٤  إنه «هانز أندرسون» الذي يعرف الحدس الشعري ﮐ «إشراقة»، «هاربة وعابرة» (L’intuition, dans La logique de la poésie, Leroux, 1919, p. 24).
٢٧٥  الرمز symbole (الذي يعني — اشتقاقيًّا — مقاربة، التقاء، اندماج) هو «تركيب» قبل كل شيء، وفقًا لما يقوله «ميشو»، فهو يعبر عن «المستويات المختلفة من الواقع في آن، أو يعبر — بشكلٍ أدق — عن حقائق صالحة على مستويات مختلفة في نفس الوقت» (Message poétique du Symbolisme, Nizet, 1947, t. II, p. 415).
٢٧٦  حول «عدم اختزال» الرمز هذا، انظر الفصل الرائع ﻟ «باروزي» في كتابه J. Baruzi, Saint Jean de la Croix et l’expérience mystique, Alcan, 1924, pp. 331–337، وهو يؤكد حقيقة أن الرمز «مرهون مباشرة بالتجربة» (ص٣٣٤)، وأن الرمز «الذي ليس أبدًا بترجمة، لا يمكن أبدًا ترجمته» (ص٣٣٢)، ومن هنا، يتمايز عن المجاز.
٢٧٧  Eluard et Claudel, éd. Du Seuil, 1945, p. 69، إن مؤلف «كاروج» مكرس — بالتحديد — ﻟ «الرمزية» لدى كل من هذين الشاعرين.
٢٧٨  Les Dessous d’une vie ou la Pyramide humaine (1926), dans Choix de poèmes (N.R.F., 1946, p. 77).
٢٧٩  Carrouges, Eluard et Claudel, éd. du Seuil, 1945, p. 65.
٢٨٠  Claudel, Positions et Propositions (N.R.F., 1928, t. I, p. 44)، وهو نفس المعنى الذي قاله «بيجي» عن العبقريات الفنية الكبرى التي «ربما لم تفعل أبدًا سوى إعادة رائعته «عرائس النيل» (Clio, Gallimard, 1932, p. 44).
٢٨١  La Prisonnière, N.R.F., 1923, p. 238.
٢٨٢  رصد «كاروج» سلسلة كاملة من الإشارات إلى اﻟ «مرآة بلا قصدير» في مؤلفات «إيلوار»:
الظل يمنعني من المسير
على تاجي الكوني
في المرآة الكبيرة المسكونة
(L’amour, la poésie, p. 101)
أو: «هذه المرآة الباطلة حيث الهواء يدور عبري» (Capitale de la Douleur, p. 144)، أو:
وأهبط في مرآتي
مثل ميت في مقبرته المفتوحة
(Le livre ouvert, p. 16)
كي لا نذكر إلا أكثر الأمثلة وضوحًا (انظر Eluard et Claudel, éd. du Seuil, 1945, pp. 65-66).
٢٨٣  إذا ما أردنا أن نرى في «آلويزيوس برتران» النموذج — النمط للشاعر «الشكلي» (ورغم هذا، تمثل رومانتيكية «برتران» مظهرًا للتمرد، واللجوء إلى السحر والشيطانية)، وفي «رامبو» النموذج — النمط للشاعر «الفوضوي» (شرط ألا ننسى أن هذه الفوضوية خالقة لشكل فني جديد)، فأين سنصنف «مالارميه»؟ شاعرٌ المطلق، لا المجهول، إذ يستخدم أبنية شكلية مدروسة جيدًا، وشديدة الصرامة، ومعارضة جذريًّا — رغم هذا — للمخططات المعتادة للنثر «الفني» والدائري، ويحتل «مالارميه» مكانةً منفردة بين «شعراء النظام»، إلى حد أنه اتهم لفترةٍ طويلة بالفوضى والتنافر.
٢٨٤  بعد أن ميز «ج. بلان» بمهارة بين شعر النظام، المرتبط بالتكرار «الذي يرد تعاستنا على مستوى واحد مع الأبدي»، وشعر فوضوي، يرفض كل الأحكام المألوفة للنظم، نرى إلى أي حدٍّ يخطئ حين يضيف أن النمط الأول في التعريف «ينكر مسبقًا كل إمكانية ﻟ «قصيدة النثر» (Introduction aux Petits Poèmes en Prose de Baudelaire, Fontaine, Février 1946, pp. 283-284): وذلك تجاهل لأساليب التكرار والتنظيم الإيقاعي التي يقدمها النثر، وأن نرفض عن عمدٍ منح لقب «شاعر نثر» إلى «آلويزيوس برتران»، لهو تعسف رغم كل شيء.
٢٨٥  حركة متأرجحة يمكننا تمثيلها — إذا شئنا — بنوع من التعرجات، حيث تمثل قمم الفوضى أسماء من بينها «لوتريامون» و«رامبو» و«جاري» و«جاكوب» والسيرياليون … بينما في الاتجاه المضاد (اتجاه النظام)، سيمر المنحنى ببرتران والبارناسيين و«لووي» و«سيجالان» و«سان–جون بيرس».
٢٨٦  اندهشت عند عثوري على ملحوظة مماثلة، تتعلق بالموسيقى المعاصرة، في مقال حديث لمارك بيتشيرل: «في عالمٍ ينحو، أكثر فأكثر، إلى التنميط اجتماعيًّا، تعيش الموسيقى أزمة النزعة الفردانية كاملة» (La Musique contemporaine est-elle condamnée?, Journal Musical Français, 18 Décembre 1952).
٢٨٧  «تتأرجح الأجيال بين خطرين: النظام الفوضى»، مثلما قال «م. آرلان» عام ١٩٢٤م (Sur un nouveau mal du siècle, Nouvelle Revue Française, 1er Février 1924, p. 149)، وأضاف: «وإذا ما كانت عبقرية الشعب بأسره تتأكد في فترة الاتزان، فإن عبقرية الأفراد تتجلى بأفضل شكل في عصور الاضطرابات، والانحطاط أو الإحياء».
٢٨٨  يحيل «ريفيير» — الذي يستخدم هذه العبارة، «ضعف الغريزة الموضوعية» — إلى الرومانتيكية، ويكشفه، في السابق، في روايات «فلوبير» (Reconnaissance à Dada, Nouvelle Revue Française, Août 1920, p. 225)، وفي دراسته الحديثة حول «فلسفة السيريالية Philosophie du Surréalisme»، يبحث «ف. ألكييه» مشروع «نزع التحقق» الذي سعى إليه السيرياليون (Flammarion, 1955, pp. 95–115).
٢٨٩  سنرى — فيما بعد — أمثلة لقصائد «فنية» و«دائرية» كتبها رمزيون تحت التأثير الفاجنري (الفصل الرابع من القسم الثاني).
٢٩٠  تتجاوب «دادا» — مثلما يقول «م. ريمون» — مع «الأزمة الأخلاقية الحادة للعشرينيات ولتيار الفردية والفوضوية، وإلى رفض الخدمة العسكرية الذي أثار الاضطراب في كثير من الأحكام التقليدية والمعتقدات القديمة» (De Baudelaire au Surréalisme, Corréa, 1933, p. 309).
٢٩١  «سامحوني لأنني لم أعد أعرف التلاعب القديم بالأبيات» (Alcools, N.R.F., 1920, p. 142).
٢٩٢  Salon de 1859 III: La reine des facultés (Œuvres, t. II, Pléiade, p. 231).
٢٩٣  Art Poétique, Emile Paul, 1922, p. 67.
٢٩٤  أكثر الإخفاقات فظاعة هي — بلا شك — التي تنشأ من «استغلال» التمرد الذي أصبح بدوره امتثالية وابتذالًا تافهًا: وهو ما يكشفه «ج. بولان» بقسوةٍ إلى حدٍّ ما في «قصائد معارضة» ﻟ «بيشيت»، «شاعر – ملعون – ﻟ – ناس – اﻟ – عالم –»، «راضٍ تمامًا لأنه يائس» (De la paille et du grain, Cahiers de la Pléiade, printemps 1948, p. 160)، وكثيرًا ما غرس هذا التمرد الإفراط والتنافر في ذاتهما، دون أي جهد في التركيب أو البنية: كم من السيرياليين — المزعومين، الأقل موهبة بكثير من «بيشيت» — كتبوا، هم أيضًا، «قصائد معارضة» منذورة لنسيان مؤكد قدر ما هو مشروع!
٢٩٥  Art Poétique, p. 61.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥